روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والرابع والعشرون 124 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة والرابع والعشرون 124 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والرابع والعشرون

رواية غوثهم البارت المائة والرابع والعشرون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والرابعة والعشرون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل التاسع والثلاثون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
على كل دربٍ يطل الفناء
ويأتي على الرطب واليابس
وفي لحظةٍ تستحيل حطامًا
حدائق من سندسٍ مائس
وتصبح ذكرى أحاديث قوم
وتوضع بين يدي دارسٍ
ولَـيست سوى كلمات الإله
تُكفكف من وضعنا البائسِ.
_”عماد الدين خليل”
“ابتهالات في زمن الغُربة”
__________________________________
الشوق ينصب في قلبي صبًا ولم أدرك يومًا أن ذاك القلب يُكن لكِ حُبًا، أهذا القلب الذي لم يختبر في السابق الحُب هل يُعقل أنه لأجل عينين يشعر ويدُق؟ لكن دعيني أخبرك أن ظهوركِ كان حسرةً على ما فاتني، فمنذ أن وجدُتكِ أشعر بالحزن كمدًا على أيامي بدونك وكأنني غريبٌ أفنى أيامه بخارج الدار، أو كأنني لم أفقه شيئًا عن الجنة وتركت نفسي أتقلب في النار..
أشعر كأنني أنا من أفنيتُ أيامي..
وأنا من ضيع نفسه عن الدار،
فبين يديك عُدتُ صغيرًا وكأنني أنعم بصفاء الصِغار، وفقط صفاء رؤيتك وحده يزيل عن عالمي كل الغُبار، فآهٍ لو كنتِ معي منذ بداية أيامي لكنتُ بِكِ اجتازت حواجز النار، وتجولت فرحًا في أرجاء العالم وعليكِ من كُل المُتطلعين الطامعين أغار، اليوم وأنا أمام عينيكِ علمت أن ما فاتني لم يكن لي، وما كان لي أمسىٰ بجواري، فياليتك دومًا معي بالدار ولقلبي بالجوار، ونصب عيني كما يكون الجار للجار..
<“لا نعلم وهو لا يعلم، والعالم وحده هو من يعلم”>
من أعتاد أن يكون مُطيعًا لابد له من يومٍ يتمرد فيه على نفسه قبل الآخرين، سيفعل كل الأفاعيل حتى يثبت نفسه للعالم أولًا ثم من يهمه من الآخرين، رُبما تراه الناس عاصيًا لكنه لم يفعل أي شيءٍ طواعيةً منه، وإنما هناك رغبة مُلحة تحركه، وفي النهاية نأمل أن يعود المتمرد لرشده…
كان الخبرُ مُقلقًا منذ وصوله إلى سمعه، حيث الرهبة التي ساورت عنقه تُضيق عليه الخِناق وتُقلقه على شقيقه أكثر، تحديدًا كجسدٍ واحدٍ تألم جزءٌ منه فصرخت لأجله بقية الأجزاء، وهذا هو الشقيق الأكبر يجلس فوق مرجلٍ لأجل الشقيق الأصغر، وكان “سـراج” معه يحاول طمئنته رغم قلقه هو الآخر بينما “إيـهاب” فاهتدى إلى عقله سبيلٌ يجره نحوه فقرر أن ينساق خلفه وأخرج هاتفه يطلب رقم “مُـنذر” الذي جاوبه بثباتٍ، قابله الآخر بإندفاعٍ:
_بقولك يا “مُـنذر” هو أنتَ طلبت من “إسماعيل” حاجة؟ يعني قولتله يروح مكان أو يشوفلك حاجة؟.
تعجب الآخر من السؤال وأتى جوابه تائهًا:
_لأ يا “إيـهاب” أنا مشوفتوش غير إمبارح لما كان في أوضته وضعه كان غريب ومتعصب قولت يمكن مضغوط، فسيبته وخرجت حتى متكلمناش ومرضيش يقولي ماله.
تنهد “إيـهاب” بقوةٍ وازداد تخبطه فبادر الآخر بسؤاله لعل أحدهما يصبح راشدًا للآخر:
_طب هو حصل إيه؟ و “إسماعيل” فين؟.
_البيه راح ملجأ البنات اللي أول النزلة لوحده، معرفش هناك بيعمل إيه وراح لوحده ليه وأديني قاعد مستني علشان لو أتحركت هموته في أيدي، أنا على أخري منه.
هكذا كان جوابه الصارخ بإنفعالٍ فيما تاه عقل “مُـنذر” عنه وشرد في الجزء الأول من الكلامِ وقد هتف بلهفةٍ ما إن توصل عقله لنقطةٍ تُعد ذي أهميةٍ كُبرى:
_بس كدا مش أخوك اللي بيتحرك يا “إيـهاب” أخوك في حد بيحركه وأظن أنتَ فاهم مين، أقفل كدا وأنا هتصرف.
أغلق معه وقد توسعت عينا “إيـهاب” بهلعٍ وقد أخرج رقم الشيخ الذي تولى رعاية “إسماعيل” في علاجه وتحصينه وقد جاوبه الآخر بتيهٍ ليأتيه القول بلهفةٍ أشبه بالهجوم:
_السلام عليكم يا شيخ “عـزت” معاك “إيـهاب الموجي” أخو “إسماعيل” عارفنا؟.
_آه يا بني طبعًا، عارفكم وعارف الحج كمان، خير؟.
كان الجواب له أكثر من مُطمئنٍ حتى هتف “إيـهاب” يستجديه بقوله الخائف الذي أعرب عن إضطرابه:
_طب دلوقتي اللي على “إسماعيل” ممشيش وأنتَ قولت حله التحصين والقرآن والصلاة طول ماهو بعيد عن التسخير وإن حد يسخره للجن، دلوقتي هو بيتصرف غلط، بقاله يومين مش بينام وعصبي ومش طايق نفسه، إمبارح باخده في حضني لقيته بيزقني ودي عمرها ما حصلت، ومهديش غير لما قرأت قرآن في ودنه، دا معناه إيه؟.
تفهم الشيخ حالته فهتف يُطمئنه بقوله الرزين:
_معناه إنه مش محصن نفسه وعلشان كدا ظهروا عليه، حالة أخوك حالة صعبة شوية بس برضه سهلة، طالما محصن نفسه وقرأ الأذكار وقرأ سورة البقرة وسورة الجن خلاص أتطمن إنه هيكون بخير، وأهم حاجة الصلاة وتبعدوه عن أي ضغط نفسي وتخلوه هادي علطول، بس متنساش إن أخوك الحجاب بينه وبينهم من كتر التسخير أترفع وبقوا في خدمته، يعني أخوك زي وسيط بينهم وبين عالمنا دا، ودا طبعًا بسبب الدجال اللي خلاه يتسخر علشان يستعين بقوتهم ويعرف مكان الآثار، لو محتاجني هجيلك يابني.
زفر “إيـهاب” بقوةٍ ثم شكره وأخبره أنه سيتواصل معه ثم وضع هاتفه وأمسك رأسه بكلا كفيهِ وهو يشعر بالغضب العارم تجاه والده، يريده أمامه حتى يقتله مرة ثانية وثالثة ورابعة لكي يتذلل أسفل قدميه ويشعر بالمهانة، لكن عزاؤه الوحيد أنه قتله بيديه رغم أنها كانت صُدفةً لكنها أفضل من مائة عامٍ مُقررين لتخطيطها..
في دار الأيتام بالطبع ولجها بصفته المتبرع الذي يريد إضفاء بهجة للدار والتبرع بمبلغٍ مالي له قدره الكبير مما ييسر عليه مُقابلة مدير المكان الذي ولج له يبتسم باستفزازٍ، أما “إسماعيل” فكان يجلس متيبس الجسد، متخشب الأطراف، نظراته داكنة على عكس صفائها المُعتاد، وجهه يعتليه الغموض خاصةً مع ظهور “شـوقي” الذي هتف بلهفةٍ غلفها بالترحيب:
_قالولي إن حضرتك جيت تتبرع، أؤمر.
طاف “إسماعيل” في وجهه البغيض وود لو يقتلع رأسه وينزع عنه ملامحه الباردة ببرودٍ ثلجي وهتف يُجاريه:
_معلوم، أنا جاي علشان عامل صدقة على روح أهلي، وقولت أفضل مكان أتبرع فيه هنا، فبسأل عن طريقة التبرع وإيه أكتر الحاجات اللي دار محتاجاها علشان أقدر أوفرها.
ازداد الآخر لهفةً وسال لُعابه كما الكلب الذي لمح حقيبة لحمٍ تُرضي جوع شهيته الواسعة وأخرج ورقة يدون بها الأرقام التي يُقبل بها التبرع وبعض الأشياء التي قد يتبرع بها مثل أجهزة الكترونية أو كهربية وما على شاكلة ذلك، وقد وافقه “إسماعيل” الذي ألتقط منه الورقة وهتف بثباتٍ:
_تمام، يومين بالظبط وهجيلك تاني علشان ناوي أفرح البنات هنا وهعملهم زيارة ومعايا هدايا ليهم، اسم حضرتك إيه بس يكون كامل؟.
أخبره الآخر عن الاسم كاملًا بترفعٍ وتهذبٍ لم يليقا به وبشخصهِ الوضيع وقد أومأ له “إسـماعيل” وشمل الغرفة بعينيهِ كأنه يستبين أي شيءٍ بها وما إن ألتقط مراده توجه إليه وسحبه ثم وقف أمام “شـوقي” يمد يده بحليٍ زائفٍ وهو يقول بتلقائيةٍ لم تشُبها شائبةٌ:
_الحلق دا واقع تحت الشُوفنيرة، أتفضل.
ألتقطه الآخر منه بسرعةٍ ما إن أدرك أنه يخص “عـزة” وقت أن قام بدفعها أرضًا قبل أن تُلقى حتفها هُنا وهتف بتلجلجٍ بعدما تندى جبينه:
_طب كويس إنك لقيته، دا، دا بتاع البنت اللي بتروق المكتب هنا، حرام هتلاقيها زعلانة علشان ضيعته، بس شكرًا إنك لقيته، إحنا عامةً هنا مُحافظين على البنات جدًا لأنهم أمانة ولازم نحميهم.
أبتسم له “إسماعيل” ما إن أدرك توتره وتلجلج كلماته وقد أرتسم التكهن فوق ملامحه وهو يهتف بمراوغةٍ:
_مالك متوتر كدا ليه؟ هو أنا قولت إنك قاتل قتيل؟.
توسعت عينا الآخر بهلعٍ إثر تهكم الآخر وغموضه وقد اشتد جسد “إسماعيل” ورماه بنظرةٍ غامضة ألهبت خوف الآخر الذي نظر في أثره بلوعةٍ، بينما الآخر فقرر أن يتجول في المكان فلمح بعينيه حالة الحزن المُخيمة على الأوجه، وحالة النفور التي تستقر في الأعين وكأنهم أهل بلدةٍ خضعوا لبطش حاكمٍ ظالمٍ وينتظرون ثورة توقد نيران غضبهم وتنشر فوضاهم، عيناه كانت أقرب لعينين صقرٍ حاد البصر كأنه اليمامة الزرقاء صائدة الماهرين وقت الجاهلية وبكل آسفٍ هو حتى لم يعي لنفسه بل قاده إلى هنا من يملك سيطرته عليه…
قرر أن يخرج من المكان أخيرًا بعدما ضاق صدره هُنا وما إن خرج لكي يولج سيارته وجد شقيقه أمامه وحينها لم يتعجب ولم يبالِ به كثيرًا بل قرر أن يفتح سيارته ويولجها لكن شقيقه أقترب منه يقبض على رسغه مُتشدقًا بنزقٍ:
_لا يا شيخ؟ هوا قدامك أنا صح؟.
زفر بقوةٍ وقد يأس من تحكمات شقيقه وقد سحب كفه منه يرد عليه بنبرةٍ جامدة وحادة ووقع كلماتها كان قاسيًا على عكس كل ما يملكه من صفاتٍ بريئة وقلبٍ نقي:
_ما خلاص ياعم، عرفت إنك خايف عليا ومُضحي وقلبك واقع فيا، فُكك مني بقى، طلعني من دماغك علشان أنا زهقت منك ومن تحكمك دا، أبعد عني أحسنلك بقى..
هل ألمه؟ في الحقيقة هو قام بغرز السكين الحاد في منتصف قلبه دون أن يشعر به أو حتى يكترث بألمه وقد قرر الآخر أن يعزف عن ألمه بعيدًا وقام بتكبيل جسده كما فعل أمسًا وفرض السيطرة عليه ثم بادر أن يستعيذ بالخالق من شرور الإنس والجن، ثم رفع صوته يقرأ سورة الناس ومن بعدها آية الكُرسي وقد أرتخى جسد شقيقه بين ذراعيه وأرتجفت أطرافه وجفون عينيه ثم سقط على يد “إيـهاب” الذي سقط قلبه معه وقد أقترب منه “ميكي” والمسئول عن مراقبة “إسماعيل” وقاما بمعاونته في إدخال شقيقه بالسيارة وقد رحل به وهو يقودها بكفٍ والآخر يمسك به كف شقيقه المسكين.
__________________________________
<“نود لكم ما لم نُعطيه لنفسنا”>
إن الروح إذا أحبت أصبحت لغيرها المُتعطشة سُقيًا، فالروح بالروح تُقيم وتَسكن وإذا أحبت أحيت غيرها من بعد موتٍ ورممتها من بعد هدمٍ، نحن المتعطشون لحبكم، نود من كرمكم لروحنا سُقيًا..
أنهى أعماله سريعًا قبل أن يتوجه إلى العمل الثالث في منطقة السمان وقد أنهت زوجته عملها منذ بداية اليوم حتى نهاية النهار نظرًا لتغير المواعيد لدى الطبيبة وما إن أخبرته بذلك قرر أن يستغل تلك المناسبة وطالبها بمقابلته حتى تقابلا في منتصف الطريق بينهما…
أوزعته بسمةً هادئة وهي تُعدل وضع الحقيبة خلف ظهرها وقد أبتسم هو لها ثم تخطى المسافة الفاصلة بينهما ووقف مباشرةً في وجهها وهو يهتف بثباتٍ _متجاهلًا عن عمدٍ أثر لقاء عينيها_ بقوله:
_هاخد من وقتك نص ساعة علشان ورايا مشوار تاني مهم بس مش أهم منك أنتِ، ممكن تتكرمي وتيجي معايا؟.
بطريقته تلك بالطبع ستوافق لذا أومأت “عـهد” موافقةً ثم سارت بجواره حتى قادها لأول الحارة عند الطريق العام من الخارج ثم ولج بها بناية فاخرة حديثة البناء والتصميم البهي، حتى مدخلها كان من الرُخام الأسود المزود بلمعاتٍ ذهبية وبها أشجار زرع بلاستيكية أضفت للمكانِ روحًا حتى الإضاءات به تخطف الأنفاس، تاهت في سحر البناية بينما قادها هو لطابقٍ بها ثم فتح باب الشقة وأشار لها بالدخول قائلًا:
_بسم الله وأدخلي يلا.
وزعت نظراتها بينها وبينه فحثها هو برأسه حتى ولجت الشقة وقد تعمد هو أن يترك الباب مفتوحًا على مصراعيهِ حتى لا يُثير الخوف في نفسها وقد أمتنت له كثيرًا بهذا الفعل ومنذ أن ولجت الصالة تلبسها شعور الإنتماء، حيث هناك راحة توغلت لفؤادها، وطمأنينة سكنت في عينيها وسحبت نفسًا عميقًا وهي تبتسم ثم ولجت الشرفة الكبيرة والواسعة وكانت حوائطها رُخامية أيضًا باللون الأسود فولج خلفها ينطق بأملٍ طفق يعلن عن نفسه:
_البداية مبشرة أوي، عجبتك؟.
ألتفتت له بعينين مُبتسمتين وهي تقول بصوتٍ غلفه الحماس وملأته البهجة:
_جميلة أوي، ذوقها حلو ومكانها أحلى كمان، قريبة أوي من بيتنا ومن الشغل، أنا لسه مكملتش بس البداية مُبشرة فعلًا، عرفتها إزاي دي؟ ومين قالك عليها؟.
أبتسم بالتلقاء من نفسه نظرًا لفرحتها البادية حتى وإن حاولت هي التحكم في إظهارها وقد أقترب منها يضم كتفيها أسفل كفيه الدافئين وهو يجاوبها بقوله:
_كنت بدور في الحارة هنا وبالصدفة “أيـهم” عرف لما شافني بسأل وقالي إن العمارة دي كلها بتاعتهم وكل الشقق شغله هو والديكورات كلها تصميمه وقالي كل الشقق اتباعت وفاضل اتنين دي واللي في الدور الآخير فأخترت دي في الدور السادس حلوة وبلكونتها كبيرة، التانية بلكونتها أضيق من دي، وأنا غاوي قعدة بلكونات بصراحة.
ضحكت له حينما استشفت مراوغته ثم ألتفتت برأسها فلمحت المطبخ المُجهز بأحدث الأنظمة وقد توجهت نحوه بخطى واسعة وتبعها هو فيما ولجت المطبخ الكبير الواسع تفرد ذراعيها وهي تقول بحماسٍ تفاقم عن السابق:
_المطبخ تحفة، كبير أوي وزي ما كان نفسي.
تخطاها هو في الحركة ووصل لنهاية المطبخ ثم قام بفتح النافذة وأشار لها أن تقترب منه وقد ألتصقت به فوضع كفه على كتفها وهو يقول بنبرةٍ رخيمة وكفه الآخر يشير للفراغ:
_المطبخ بيبص على الناصية التانية يعني الشمس هتدخله في كل وقت عادي وبالنهار هتحبي الوقفة فيه، وممكن تحطي زرع عند الشباك كمان وبكدا نكون لحقنا حاجة من أحلامك، إيه رأيك؟ عجبتك؟.
سألها بأملٍ أن تُرضيه بجوابها وقد شردت هي في ملامحه الصافية فيما أغلق النافذة هو ونفض الغبار العالق بكفيه وقد سألها بعينيه عن سبب صمتها فوجدها تهتف بلهفةٍ أقرب للتأثر:
_عارف لما تضيق عليك لدرجة تخنقك وتحس إنها مسألة وقت بس وتخرج آخر أنفاسك؟ أنتَ بتبقى في عرض البحر مش لاقي حد تثق فيه وتمدله إيدك، وكل الناس شايفاك بتغرق وعاملين نفسهم مش شايفين وفاكرينك سباح شاطر، أنا كنت كدا قبلك، كنت مسلمة للغرق ومش عاوزة حاجة غير إني أطلع آخر نفس فيا وأموت، بس لما جيت أنتَ تشد أيدي من الغرق دا والله العظيم بقيت بتمنى عمري يطول علشانك، علشان أكون معاك أنتَ وبس.
أبتسم لها بعينيه وضمها بهدوء ثم مسح فوق رأسها وهو يقول بنبرةٍ رخيمة ودافئة:
_أنا مش عاوز غير إنك تكملي معايا، عاوزك تطمني ليا وتتأكدي إني والله العظيم لاحبيت قبلك ولا هينفع أحب حد تاني بعدك، ماليش حد تاني غيرك وبس، مش هينفع أضيعك مني علشان أي سبب، هبقى بجد مستاهلكيش، وأنا بحارب علشان أثبتلك إني استاهلك.
أبتسمت هي بسعادةٍ ثم عادت للخلف تُملي عينيها به وتتشرب ملامحه بعينيها ثم ضحكت بخفةٍ جعلته يتعجب ويعقد ما بين حاجبيه ليأتيه جوابها على سؤالٍ غير منطوقٍ:
_بقارن بينك وبين اللي قبلك، حاجة كدا زي البنت اللي كانت محبوسة عند الوَحش، وجه الأمير يلحقها، وحبها وحارب الوَحش علشانها، تصدق أنتَ شبهه فعلًا؟.
رفع رأسه بزهوٍ فهتفت هي بنبرةٍ هادئة:
_بس الفرق إن الوَحش عينه كانت عسلي.
تلاشت بسمته حتى ضحكت هي عليه ثم أقتربت منه تعانقه وهي تخبره أنها فقط تشاجره وحينها استمسك بها بين ذراعيه ثم نطق بنبرةٍ رخيمة وهو لا يُصدق أنها أوصلته لتلك المرحلة:
_طب يلا نشوف بقية الشقة ولا هنقضيها مطابخ وبلكونات، الأوض حلوة برضه تعالي.
أنهى حديثه ثم سحبها من كفها وهي تضحك خلفه بسعادةٍ ثم بدأت مرحلة التخطيط لكل إنشٍ هنا، كل مكانٍ سيزود ببصمتها واختيارها وذوقها الرفيع، وهو معها يُنصت بكل آذانٍ صاغية لها يشاركها أحلامها الوردية قبل أن تتقابل بالأرض أسفلها وتفرش البُساط لهما، كانت بهيئتها تلك وهي تشير نحو الغُرف وتُشاركه أحلامها سُقيًا لروحه المُتعطشة ولازال يأمل في الإرتواء من نهر حُبها..
__________________________________
<“ألم يكن الفرح زائرنا؟ لما الحزن أذًا؟”>
البيوت إذا زارها الفرح ترمم بها الجرح، ليست جروح الدار فقط وحسب، بل جروح ساكنيها أيضًا، فيتحول المكان من مُظلمٍ وكئيبٍ إلى آخرٍ تُحلق الفراشات فوقه كما تنتشر الأزهار برحيقها في فصل الربيع..
“اليوم ذهبت الأشياء وغدًا ستذهب الفتاة”!!
هكذا وقف”أيـهم” يردد لنفسه بعد رحيل أجهزة شقيقته وكل أثاثها، وقد شعر مع فراغ الجزء الممتليء بالفراغ يسكنه هو، تلك الزهرة التي أغلقوا عليها خوفًا من أن تطولها الأيدي، اليوم رفعوا عنها الزجاج الخافي لكي تظهر وهي فقط أيام وسيتم تسليمها باليد طواعيةً منهم لغيرهم..
زفر باختناقٍ وأولى الغرفة الفارغة ظهره فوجدها هي تبتسم له برقةٍ، لما أزدادت تلك الزهرة جمالًا خلال تلك الأيام؟ كانت بشرتها البيضاء لامعة بشكلٍ ملحوظٍ، وجنتاها حمراوتان بصورةٍ جعلتها أكثر جمالًا، عيناها العسليتان بخيوطٍ بُنية تُشكل دفئًا، خصلاتها الطويلة والكثيفة التي تقوم هي بجمع مقدمتها عند جهةٍ واحدة، كل شيءٍ بها لطيفٌ مثل براءة عينيها..
لاحظت هي تمعنه فيها فوقفت بجواره تهز جسده حتى زفر هو بقوةٍ وهتف بصوتٍ مُختنقٍ:
_مستغرب إزاي كبرتي كدا وأحلويتي أوي لدرجة إني هسلمك لجوزك بعد أيام بس، البيت دا كان ثابت والبركة ملياه علشان أنتِ فيه وبتدعيلنا وممشية حياتنا كلنا، البيت دا هيضلم من بعدك.
أغرورقت عيناها في الحال ومطت شفتيها يائسةً فيما ضمها هو سريعًا لعناقه الكبير يخفيها بحجمها الصغير بينه وهو يُزيد من قوة ضمته لها وقد شعرت هي بخوفها من تركهم وترك بيتها فهتفت بصوتٍ مختنقٍ:
_والله العظيم مش عاوزة أمشي وأسيبكم، ولا عمري فكرت أسيب الحارة حتى، فاكر لما كنت بقولك إني لما أتجوز هقضي اليوم كله معاكم هنا وأمشي على النوم؟ حقك عليا بس الظروف طلعت أكبر مننا، وأنا معرفش إني هكون بعيد عنك كدا، علشان خاطري متزعلش وتحسسني بالذنب، مش عاوزة آخر حاجة ليا معاك هنا تزعلك مني.
أبتسم بغلبٍ بعد حديثها الطيب ولثم قمة رأسها ثم نطق بصوتٍ مُحشرجٍ نتيجة مشاعره المتأججة:
_مش عاوزك تعيطي ولا تزعلي، أنا عاوزك تفرحي وتفرحي جوزك معاكِ، تستاهلي إنك تعيشي معاه الأيام الحلوة اللي مستنياكم، صحيح هتسيبينا هنا في غيابك زي الجزم من غيرك، بس كفاية إنك فرحانة، أوعي تفكري زعلي دا حاجة وحشة، بالعكس أنا مش مستغرب البنت اللي بقيت ليها أم وأخ وصاحب وأتربت في حضني وأعتبرتها حتة من أمي هتسيبني، مكانش ينفع نروح نطلب أيده إحنا ونجيبه هنا؟.
سأله بسخريةٍ وهو يشير إلى زوجها حتى فلتت منها ضحكة خافتة وقبل أن تنطق ولج لهما “أيـوب” وأخرجها من عناق شقيقه وقد وجدها تبكي فسأله بمعاتبةٍ يلقي بها اللوم عليه:
_بقى دا كلام؟ مخلي العروسة تعيط كدا؟ بعدين متكبرش الموضوع كدا كل البنات الحلوين زيها كدا بيتجوزوا ويروحوا بيت تاني يملوه فرح وهنا، وهما محظوظين أوي علشان هي تكون عندهم، أفرح بفرحة أختك وفرحها معاك.
أبتسمت لشقيقها اللطيف بعينين دامعتين فيما تشدق الآخر بنزقٍ أعرب عن سخريته وضيقه من الفكرة ككلٍ:
_لأ يا راجل؟ طب فكر أنتَ كدا شوية وبصلها وأفتكر إنك مش هتشوفها بعد كدا غير بإذن ومش هتقدر تروح هناك غير بطلب وهتيجي تكلمها هتفكر ألف مرة علشان تراعي ظروف بيتها الجديد، بعدما كانت في حضننا طول اليوم، فكر فيها كدا؟.
أيقظ الجرح الكامن في قلب “أيـوب” مما جعل ملامحه تتبدل وهو ينظر في وجه شقيقته وقد أهتز قلبه بألمٍ تمنى أن ينساه وأن يكون كاذبًا، هذه التي دومًا أحتوته في الحزن قبل الفرح وضمته في الغضب قبل اللين، تلك التي ترافقه دعواتها، وتثبت له أن تعليمها كان خير ما فعل في حياته، وما إن تذكر وحدته عن الجميع بهذا البيت عداها هي التي تشبهه كثيرًا زفر يعبر عن الاختناق ثم هتف بصوتٍ خافتٍ:
_مش عاوز أفكر فيها علشان لو فكرت هزعل وأنا واعدها إني مزعلش، لو هنتكلم بجد أنا حاسس إن “رُقـية” ماشية وهتسيبني للمرة التانية، طول عمري شايفها حتى منها ونسخة تانية في الطيبة والشكل، بس متخيلتش إن “رُقـية” تبعد عني للمرة التانية، أو بمعنى أصح متوقعتش إن “آيـات” تكون معانا وييجي يوم وتسيبنا عادي، بس برضه الحياة كدا، أنا هفرح ليها وهي فرحانة مع اللي بتحبه.
بكت من جديد بينهما ونكست رأسها للأسفل فتلك المرة ضمها “أيـوب” يمسح فوق خصلاتها ويبعدها عن جبينها ووجهها حتى نامت فوق كتفه وهي تنتحب بأنفاسٍ مُتقطعة فأضاف هو بصوتٍ رخيمٍ:
_أنا آسف والله علشان خليتك تعيطي، بس أنا والله العظيم مش زعلان قد فرحتي ليكِ، أنا مش مصدق إنك كبرتي وهتمشي خلاص وتسيبينا، بس معلش إحنا مش هنحنطك جنبنا، حقك تبني حياتك وتحبي وتأسسي حياتك الجديدة، أنا هبقى فرحان بيكِ أكتر.
أومأت موافقةً له وقد أتى “عبدالقادر” من خلفهما ثم وقف بينهم وقد كفكفت هي عبراتها المُنسابة وأبتسمت لوالدها الذي أقترب يُلثم جبينها ومسد فوق ظهرها ثم خاطبها بنبرةٍ خافتة رخيمة:
_زعلوكِ البهايم دول أنا عارف، حقك على راسي من فوق بس هما سابوا نفسهم للحظة شاعرية، معذورين مشافوش حاجات حلوة زي دي قبل كدا ومكتوب تفارقهم، بس متزعليش نفسك يا خير الدنيا كلها، ربنا يسعدك يا روح قلب بابا ويباركلك في بيتك وجوزك ويهادي سركم ويرزقكم بالذرية الصالحة وأشيل ولادك على أيدي.
أرتمت عليه وهي تبكي بصوتٍ وقد ضمها هو بقوةٍ ولولا الإيلام لكان رفض تلك الزيجة وأمر بحبسها في البيت دون أن تتطلع الأعين عليها، لكنه رفض أن يكون عائقًا بينها وبين سعادتها وهو يُدرك أن سعادتها بجوار “تَـيام” وفقط الذي يأمل فقط بمجوارتها لكي تُصلح في حياته ما أفسده الآخرون، وهي بمجرد أن تتفوه فقط تُصلح خراب العالم وتداوي كل الجراح.
__________________________________
<“قلبي يتألم لأجل قلبك، والحزن يظهر عليك لأجلك”>
هذا القلب أكرم ما يملكه من صفاتٍ هي مشاعره النبيلة تجاه الآخرين، هذه المشاعر التي تقود صاحبها إلى جُرف الهاوية وتجعله ينزع كل ما يتلبسه من مشاعر قوية يخفي خلفها ضعفه وينزع عنه رداء التصلد والتجبر، فبداخل كلٍ منَّا يسكن شخصٌ لطيفٌ أجبرته الأيام على التخفي..
أنقلب البيت رأسًا على عقبٍ بعد دخول “إيـهاب” حاملًا شقيقه فوق ذراعيه ثم وضعه بغرفته داخل فراشه والآخر في عالمٍ آخر مثل عصفورٍ مكسور الجناحين، وقد هرول “نَـعيم” إليه وجلس بقرب الفراش يمسد على خصلاته وهو يسأل بلوعةٍ:
_إيـه اللي صابك بس؟ ما الحمدلله كنا كويسين وبدأت تريح قلبي عليك شوية، غاوي تتعبني عليك أنتَ كدا وتخليني أتوه من نفسي فيك، ربنا يريح قلبك يابني ويقومك بالسلامة.
أنهى حديثه ثم مسد فوق كفه بينما “إيـهاب” فظل الحديث يصول ويجول في سمعه وهيئة شقيقه تحديدًا لم يتخطاها، يتذكر هيئته الجامدة وعينيه الحادتين، وغلظة نبرته، بالطبع ذاك لم يكن شقيقه، شقيقه أطيب من أن يفعلها بتلك القسوة، لذا أمعن عينيه مُركزًا بنظراته في وجه النائم وقد غلبته مشاعره نحوه فمال بجسده عليه يُلثم جبينه تزامنًا مع فرار دمعة من حصار أهدابه الكثيفة كمدًا وحُزنًا على شقيقه..
ولج أيضًا كلًا من “تَـيام” و “مُـحي” وبالطبع الأول لم يعي شيئًا مما حوله لذا طاف المكان بعينيه وقد لاحظ نظرات والده الحزينة وتمسكه بكف “إسـماعيل” ولأول مرة يرى هذا الرجل صاحب الهيبة الفارضة والملامح الحادة بتلك النظرات الضعيفة المُنكسرة، وقد ألتفت بعينيه يسأل شقيقه الذي هتف بصوتٍ خافتٍ:
_متستغربش، أبوك روحه في “إسماعيل” من صغره وهو بيعتبره أبنه ويمكن أكتر، والتاني بيعتبره دنيته كلها، أبوك ميقدرش يخفي زعله علشانه، وبصراحة كنا أتطمنا من فترة إنه بقى كويس، معرفش حصل إيه وصله لكدا.
عقد “تَـيام” جبينه وزوىٰ ما بين حاجبيه وثبت عينيه على النائم فهتف “مُـحي” بأسى يخبره عن علة الآخر:
_للآسف مكشوف عنه الحجاب وملبوس، ومع أي حاجة بتحصل صعبة بيتعرض ليها علطول حاله بيتشقلب ويتبدل لو هو مش محصن نفسه علشان كدا الوضع بيكون صعب زي ما أنتَ شايف، بس يا رب يصحى كويس.
هوى فؤاد “تَـيام” أرضًا وسقط من موضعه لكن ليس خوفًا بل حزنًا لأجل رفيقٍ بدأ يأخذ مكانة في قلبه، لذا تذكر حديث “أيـوب” عن التحصين والرقية الشرعية فجلس فوق الفراش بجانبه ثم مسد جبينه يقرأ ما تيسر من آيات القرآن ثم قام بفتح التلفاز على إذاعة القرآن الكريم وظل بجواره يقرأ من هاتفه الرقية وكأنه يقوم بتحصينه والآخر يتململ في نومته بجسدٍ متخشبٍ حتى ضمه “إيـهاب” بقوةٍ فيما استمر “تَـيام” في تكرار الآيات حتى أنتفض جسد “إسماعيل” فجأةً وأهتزت يداه ثم أرتخى جسده من بعدها..
وصل “مُـنذر” في تلك اللحظة وهرول لرفيقه فوجد الغرفة مُتكدسة فوق بعضها وحينها وقف على مقربةٍ منهم يضم ذراعيه بآسفٍ وهو يمط شفتيه بيأسٍ..
__________________________________
<“بداخل كلٍ منَّا قصة أضطر لأجلها أن يبتر قلبه”>
“مين في الحياة دي متولدش بريء..
مبنختلفش عن الملايكة في شيء”
عبارة عامية كتبها شاعرٌ يصف بها البشر في أوائل العُمر منذ أو ولِد المرء بقلبٍ ناصع البياض لم يدنسه خبث البشر، ثم ما يعقب ذلك إلقاء اللوم على الدنيا، وكأننا نسينا أو تناسينا أن الدنيا ليس لها من الأمر شيئًا وإنما هي فقط نفوس البشر من تقود الآخرين لتلك المسارات..
جلس “نـادر” في شرفة الشقة بعدما عزف العالم الخارجي وعكف نفسه بعيدًا عن الكل وهو يشعر بالألم في عمق روحه بسبب ما وصل إليه وآلت به الأوضاع إلى هنا، فأكثر ما يؤلمه حقًا أن والده لم يحبه وإنما سعى لتدميره، وخاله الذي أوهمه بالحب لم يحبه وإنما كان يستخدمه كبديلٍ حتى يقهر “يـوسف” وهو بينهم، أما الحبيبة فهي أول من صفعه فوق وجهه بعدما اختارها هي لكي يأمن على نفسه معها..
_”تهبي يا رياح الحياة دايما
بما لا أشتهيه، واللي السنين مقدماه
غير اللي قولت نفسي فيه،
يلاقي قلبي فين دواه واللي آذاه
أقرب ما ليه، دا جرحي بيعلم”..
صدح الصوت من هاتفه بعدما قابله المقطع صُدفةً في الهاتف عبر مواقع التواصل الاجتماعي وقد توقف لبرهةٍ يتابع الكلمات كأنها تصفه هو، هو من تعمدوا آذاه وساهموا في كسره..
_”وصعب تسكن الآلام وأخرج
من اللي فات سليم، وصعب لما أروح أنام
مفضلش أراجع القديم، طلع مكلف العلام
وخدت درس في الصميم، ولسه بتعلم،
ركز يا قلبي في اللي جاي، وألف شكر للي باع
مصانش حتى بوق شاي، وسلام يا تلتومية وداع
واللي لقانا ميساعوش فخانة الوداع تساع
مشاعرنا مش لعبة”..
أحقًا ليست لُعبة؟ لقد جعلوا منه دُمية تتراقص في الأيدي دون شفقةٍ أو رحمة، اليوم علم أن ما فاته هو السبب في ضياعه منه، هو من تساهل معهم وأذعن وأعلن الرضوخ خوفًا منهم بعدما أجادوا سياسة فرق تَسُد ليفارق أخيه ويتركه لهم فريسةً دون أن يتصدر لحمايته، وبالطبع من تخاذل مع غيره، لا يُحق له أن يطالب بالدفاع عن نفسه
أتت “حنين” تقطع خلوته وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_المدام “فـاتن” خدت علاجها الحمدلله وكدا حضرتك خدت علاجك فيه دوا الصبح متنساهوش علشان الأعصاب، وأنا بكرة آخر النهار هجيلك علشان تنزل جلسة العلاج الطبيعي في العيادة بتاعة المسجد، محتاجين حاجة تاني؟.
أنتبه لها وحرك عينيه نحوها يُطالعها بحيرةٍ، من قوة تفانيها لأجله وهو الغريب عنها، لقد بذلت قصارى جهدها لأجل معاونته هو وأمه ولم تقبل أن تأخذ المقابل البالغ وإنما ترضى بكل ماهو قليل، وقد لاحظت هي شروده فيها مما أصابها بالتوتر وقد جذب انتباهها صوت الكلمات من هاتفه:
_فرحت من الساعات ساعات
ودوقت من الحاجات حاجات
وعيشت من السنين، ونابني من اللي فات
فُتات، ومن الحبيب جواب حزين وأسئلة
بلا إجابات، حيرة ورا حيرة
حتى السعادة يوم ويوم، حتى المحبة
خُد وهات وكله كوم وكومي كوم
زمان بيرمي إيفيهات وزي عادتي
أصوم أصوم وأسد جوعي ذكريات
وأفضها سيرة…”
ترقرق الدمع في عينيها وقد جلست على المقعد بعدما تذكرت حياتها السابقة فسألته بنبرةٍ مختنقة:
_كنت بتحبها أوي كدا؟.
ألقت سؤالها عليه حتى ركز بعينيه معها وأغلق الهاتف ثم طالع السماء أمامه وقال بحسرةٍ نشبت لأجلها نيران الحُب:
_محبيتش غيرها حد، ولا حطيت أمل في حياتي زي ما حطيت كل أملي فيها هي، معرفش أنا حبيتها علشان هي تتحب، ولا هي شاطرة بتعرف ترسم الحب، بس اللي أعرفه إن جرحي منها عمره ما هيتداوى ولا هلاقي علاج ليه، علة ملهاش دوا، دخلت حياتي تأدبني على اللي فات كله واللي جاي كمان علشان تقولي أنتَ اللي زيك ميستاهلش حياة حلوة، اللي زيك يتضرب ويتأمروا عليه ويمشي زي ماهو عاوزين وبس، مينفعش أكون إنسان زي غيري، علمت صح عليا.
سحبت نفسًا عميقًا توقف به بكائها فيما أنتبه هو لها وأبتسم بوجعٍ وهو يقول بسخريةٍ مؤلمة:
_غلابة إحنا علشان مستنيين الحب من اللي مش شايفينا أصلًا، وغلابة برضه وإحنا مجرد بديل وبس ومش نافع نكون الأساس في حياة حد، أنا عمري ما أتحبيت، طول عمري بديل بيسد بيه الخانة الفاضية وبس، هي مكان حبيبها اللي فشلت توصله، وخالي مكان ابنه اللي مخلفهوش وأهي فرصة يوجع بيها “يـوسف” وأبويا شافني لعبة يغيظ بيها “يـوسف” علشان يقهره، وأمي كان عليها تختار بين ضعفها وسكوتها علشان تضمن سلامتنا، وبين كلامها وإنها تخسر واحد فينا، كلنا مليانين كسور محدش رممها يا “حنين”.
استفاقت جروحها من خدرها ولمعت العبرات في عينيها فتنهد هو بعمقٍ ثم قال بصوتٍ مبحوحٍ ومُحشرجٍ:
_شكرًا إنك سمعتيني، لو عاوزة تتكلمي أنا هسمعك.
كفكفت العبرات اللامعة في مُقلتيها ثم تطلعت إليه فوجدته يتنهد بقوةٍ وحينها بادر هو بسؤالها الغير متوقعٍ منه:
_أتطلقتي ليه مع إنك صغيرة أوي لسه؟.
توسعت عيناها وهي تطالعه بهلعٍ فحرك رأسه يسألها أو رُبما يحثها على الكلام فتنفست هي بعمقٍ ثم هتفت بتيهٍ أعرب عن جم وجعها الساكن في جنبات صدرها:
_أنا عمري ما قولت لحد وعمري ما فتحت الموضوع دا من ساعة ما حصل، يمكن علشان كان صعب عليا كبنت، كنت في تمريض وربنا كرمني بشغل في المستشفى اللي كنت بتدرب فيها، وبعدها كنت باجي الجامع مع بابا بشتغل مع دكتور الجراحة، كان عندي ١٩ سنة وأمه شافتني في الجامع لما ابن ابنها الكبير وقع ودماغه أتفتحت، ساعتها عجبتها أوي وبقت تجيب ابنها التاني معاها في الغيار على الجرح، أتاريه كان بيختارني، كان باين طيب وابن حلال، كان عنده ميكروباص شغال عليه فردة مع أخوه، واحد بليل وواحد الصبح وعندهم محل صغير تحت البيت شِرك برضه، أبويا قالي طالما شاريكِ خلاص وعنده شقته وبيحبك أتجوزيه..
أطلقت تنهيدة حارة وهي تشعر بالنيران في جوفها تمتمد بأيديها لداخل القلب وقد استأنفت الحديث تستطرده بوجهٍ سكنه الوجع:
_ساعتها بدأ يظهرلي كتير ويقنعني بيه وأنا بدأت أتشدله، كنت عيلة وإهتمامه بيا بصراحة كان باين، خوفه عليا كمان كان ظاهر أوي وكان بييجي ياخدني من المستشفى وهو معاه زباين، فضلنا كدا ٣ شهور وأتجوزنا لما هو وضب الشقة، دخلت بيتهم وبقيت السِلفة الصغيرة، حبوني كلهم وأتطمنولي علشان كنت شايلة معاهم كتير، بس سلفتي الكبيرة بدأت تغير علشان حبوني وعلشان بشتغل، بدأت تشتكي مني، وتوقع بيني وبينهم وتقولني كلام مقولتوش، خصوصًا لما الإيراد قل وبقى بالنص بين جوزي وجوزها، ساعتها بدأت المشاكل تكتر وأنا وهو نتخانق كتير وأغضب عند أهلي وييجي يرجعني تاني وأسبوع والدنيا تولع أكتر..
_بعدها بقى بعدت عنهم خالص وركزت في شغلي وبيتي كان فات على جوازنا سبع شهور، وفي يوم كنت في المستشفى نبطشية بليل مش الصبح، وكان فيه حادثة على الطريق لعريس وعروسة في زفة ومن زعلي عليهم أغمى عليا والدكتور شالني وعلقلي محاليل ودخلني أوضته، ساعتها مرات أخوها كانت هناك دراعها مكسور وعاوزاني أجيبلها روشتة تصرف بيها العلاج، راحت متصلة بيهم وقالتلهم أنا والدكتور قاعدين نحب في بعض، وسلفتي ما صدقت راحت نازلة للعيلة كلها تصرخ وتقولهم إني فضحت العيلة وسُمعتها وجت مرات أخوها تأكد اللي هي قالته ولما رجعت لقيته هو أول واحد في وشي، كنت لسه هجري عليه أشتكيله لقيته بيضربني بالقلم قدامهم وأبوه فرحان فيا هو وأخوه لحد ما قلع الحزام ونزل تقطيع في جسمي، ضربني بالحديدة لحد ما جسمي جاب دم…
تكررت صورتها أثناء تلاقيها الضربات المُبرحة وجسدها الهزيل وهي بين أيديهم تصرخ طلبًا للغوث، وقد أبعده شقيقه وتوالى عليها بالضربات بقدمه في بطنها وهي تصرخ وتطالب بالعفو على جُرمٍ لم ترتكبه وقد فتحت أمهما الباب وقامت بإخراجها من البيت _أو عفوًا قامت بطردها_ ليلًا بثيابها المُهترئة وجسدها المكشوف، وقد أضافت ببكاءٍ:
_جريت في الشارع مضروبة وهدومي كلها دم ووشي مبهدل وكأني خاطية، حتى محدش فيهم سألني ولا حطوا في دماغهم إني بريئة، الناس بقت بتتفرج عليا وأنا بحاول أجري لحد ما وصلت بيتنا شبه ميتة، ساعتها الدنيا أتلمت وأتفضحت وسيرتي بقت على كل لسان، ماهو كدا كدا أنا ممرضة والناس حاطة في دماغها إن سمعة التمريض زفت، مع إننا والله مش كدا، إحنا بنتعب ونشوف الذل والمرمطة ولو فيه حد وحش مننا فكل مكان فيه الحلو والوحش، ملقيتش حد ياخد صفي ورفضوا يدوني عفشي، وقالولي أحمد ربنا إنهم مسجانونيش وأنا خاطية، ساعتها بقيت بدعي ربنا يردلي حقي وينصرني، وربنا كرمني لما الحج “عبدالقادر” أتدخل هو وأستاذ “أيـوب” كمان.
عقد ملامحه باستنكارٍ بالغٍ فأومأت هي تؤكد ظنه وهتفت بتأكيدٍ:
_هو “أيـوب العطار” وأخوه معاه، راحوا رجعولي حاجتي وردولي حقي وأمروا بتأديبهم قدام الكل وردولي شرفي وخلوهم يبوسوا راسي قدام الناس كلها وصمموا إنه يطلقني وساعتها جوزي أتضرب بالقلم في الشارع قدام أهله والحتة كلها علشان شك فيا ومدافعش عني، وعلشان أخوه ضربني وهو وقف يتفرج، ساعتها خدت نفسي وكانت أول مرة أحس إن فيه حد بينصفني في الدنيا دي، بس فرحتي كانت أكبر لما شرفي أترد تاني قدام الكل، ومرات أخوها قالت إن دا محصلش، ساعتها مشيت وقولت ربنا كرمني ونجدني منهم، ورجعت من تاني لحياتي ووقفت على رجلي وقولت صفحة وأتقطعت من كتاب حياتي.
أشفق عليها كثيرًا بعينيهِ وكأنه يعتذر منها عن شيءٍ لم تقترفه يداه، وقد لاحظت هي أنها استرسلت عن الحد اللازم فتوترت واستأذنته بالرحيل حتى تُغلق على نفسها قبل أن تغرق في بحر الجراح وتملأ الدماء جسدها وقلبها، أما هو فتفاقم الحزن في قلبه لأجلها ولأجل ما عانته على أيديهم وحقًا الحقائق ليست كما تبدو..
__________________________________
<“أعلن لكِ كامل آسفي وأعتذاري، قلبي عليل بالغباء”>
العقل الرشيد دومًا علته القلب الغير واعٍ، فكلاهما إذا أقام الحرب وأعلن الخصومة لابُد أن يتسم أحدهما بالغباء، وعادةً ما ذاك الغبي العطوف صاحب التَقلُبات هو من يتسم بتلك الصفة ويعلن غبائه أمام عقلٍ قوي وذكي..
في صبيحة اليوم الموالي توجه “مُـنذر” إلى المشفى صباحًا وقد قصد أن يعبر من الباب الخلفي حتى لا تلتقطه بعينيها وقد قصد أيضًا أن يتخفى حتى لا تنقلب أساسيات حياته رأسًا على عقبٍ فيكفيه ما وصل إليه حتى الآن معها، وقد ولج مكتبه مباشرةً وجلس فوق المقعد فوصلته مكالمة هاتفية كان ينتظرها على أحر من الجمر؛ فجاوب ملهوفًا ليصله الرد من معاونه بقول:
_أنا متأخرتش عليك أهو، عرفت إن البنات اللي “شـفيق” خرجهم من الدار باع نصهم لرجال أعمال في مصر ودول شغلهم هيكون دعارة وعُهر، والنص التاني برة مصر ودول في استئجار أرحام وخدمة وعبودية، وفيه كام بنت كدا فيهم صحة وعافية هيروحوا لمزاج رجال الأعمال المختلين، في المُراهنات واللعب علشان مزاجهم، وفيهم ناس غاوية علاقات مع البنات القاصرات، وفيه دكتور تبعهم دا اللي بيضرب ليهم التقارير الطبية، يعني يضرب تقرير لواحدة إنها عندها ورم في الرحم، ويضرب تقرير لواحدة تانية إن المرارة انفجرت وماتت، واحدة تانية تهتك في الرحم، وكل تقرير مختلف عن غيره، ودا بيخليهم طبعًا جاهزين في أي وقت علشان لو فيه حكومة أو ظُباط وصلهم خبر، غير كدا المسؤلين الكبار كلهم عارفين ومزاجهم راضي كمان لأن نصهم أصلًا بيرضي مزاجه بكدا، ومدير الدار دي تقريبًا أعتدى على خمس بنات بنفس الطريقة ومنهم اللي مستحملوش وماتوا في إيديه وأضطر يشوف صرفة فيهم، هديك ملف فيه كل حاجة بس خلي بالك من نفسك.
أغلق الهاتف بريبةٍ وضيق جفنيه كصقرٍ جارحٍ حاد النظرات ثم قام بفتح بريده الإلكتروني يقرأ ملف “شوقي” وأول ما جذب أنظاره اسم “شـوقي” خاصةً أنه تحدث مع “إسماعيل” صباحًا والآخر أخبره بكل شيءٍ حدث بينه وبين الثاني بعدما أسعفته ذاكرته في ذلك، وقد طُرِقَ مكتبه وأذن هو للطارق بجمودٍ حتى ولجت هي ببسمتها المُشرقة فيما أحتدت نظراته وكأنها عدوٌ يقتحم أرضه وحينها هتفت ببشاشةٍ:
_صباح الخير كنت عاوزة آخد رأيك في حاجة.
ثبت عينيه الجامدتين وكذلك حَجر بؤبؤيه وهو يراها تزداد توغلًا ثم جلست فوق المقعد وقبل أن تنطق أنتفض كرجلٍ يرفض دخول العدو أرضه يوقفها بقوله:
_أنا مسمحتلكيش تدخلي دا أولًا ولا سمحتلك تقعدي وتتكلمي وإنك تاخدي رأيي في حاجة، لو سمحتي حافظي على الحدود اللي بينا وبس، أنا هنا دكتور أمراض نفسية وبس، وأنتِ نفس الكلام، أكتر من كدا لأ، فيه بينا حدود ورسميات والأفضل محدش يتخطاها يا دكتورة، أنا مش قابل وجودك في حياتي.
إهانة لا تُقبل في حق متمردة مثلها، هذا يقف في أرضها ويتوالى في التقليل منها ووسمها بالفرض عليه؟ هل يُعقل أن تنجذب لحجرٌ مثله لا يَشعر بها كما صنعت هي هالة إهتمامٍ كان هو محورها ومحط الأنظار بها؟ كادت أن تقترب وتصفعه فوق وجهه ثم تقتلع رأسه من موضعها لكنها تراجعت ورمقته بقهرٍ وهي تقول بنبرةٍ باكية خانتها فيها العبرات:
_معاك حق، أنا آسفة إني تطفلت عليك، أوعدك مش هتتكرر تاني ولا هتشوفني هنا أو في أي مكان تاني، عن إذنك يا دكتور.
ربحت المشاعر أمام العقلانية، وتمرد العقل لخسارته الفادحة أمام القلب الساذج وقد بكت أمامه بضعفٍ وأولته ظهرها وهي تعلن فشلها كطبيبةٍ نفسية للمرةِ الأولى في العجز عن تفسير غيرها، لكن يبدو أنها غفلت أو رُبما تناست عمدًا أنه أيضًا طبيبٌ نفسي لذا مهارتهما هي التي تقودهما وليست المشاعر، وقد شعرت بالجرح في كرامتها كونها تُرفض وتُهان بتلك الطريقة..
أما هو فبلحظة تهور أراد أن يركض خلفها ويخفيها بين ذراعيه، أراد أن يعتذر منها ويضمها حتى يداوي الجرح الذي تسبب فيه لها، لكن هناك آفة كُبرى توقف صاحب العقل الرشيد وهي النظر فيما هو قادم، فطريقه الشائك الواعر لن يقبل فتاة مُستقيمة مثلها، رُبما بأي شكلٍ من الأشكال ستحدث الكارثة ويتم كشف أمره أو رُبما تصفيته وإنهاء حياته، ومن المؤكد لن يقبل أن تصبح هي الأخرى نظير المؤامرات والمُغامرات لعالمٍ أهوج فقد أسمى معاني الإنسانية، فلن تُعرقل هي حركتهم..
أرتمى فوق مقعده بجسدٍ مُرتخٍ وظل لسانه يردد الأسف لها ممنيًا نفسه أن يصل لقلبها أسفه وما إن تفاقم الذنب بداخله دفع الأقلام من فوق المكتب بغضبٍ عارمٍ وفوضى أصابت رأسه وهو يعلم أن مسألة عض أصابعه من الندم مسألة حتمية من بعد فعله الأهوج..
في الخارج ولجت مكتبها وهي تبكي وترتجف بجسدها المتشنج ثم جلست القرفصاء خلف الباب تضم جسدها بذراعيها وهي تنعت نفسها بالغباء، هي من الأساس استسلمت لحبها وتركته يتحكم بها دون الآخذ بعين الإعتبار أنها تفرض نفسها عليه، وقد أنتحبت باكيةً بشدة وكررت ببكاءٍ:
_غبية، أنا غبية، غبية وحبيت غبي زيي.
أعترفت بها لنفسها أنها أحبته وكأنها تُدلي بذنبٍ أقترفته، أما هو فوقف خارج مكتبها من الجهة الأخرى يطالعها من النافذة المفتوحة وقد تألم وهو يراها بهذا الإنهيار دون أن يعلم بماذا تتفوه، لكنه أدرك أنها تلوم نفسها، وقد أولاها ظهره لكي يتقوقع في مكتبه هربًا من نفسه قبل الجميع، ذنبٌ أقترفته حقه الأيام، وهو وقع إثمهم جميعًا..
__________________________________
<“ما دُمنا نحاول فنحن نستحق أن نصل”>
المحاولة، المُثابرة، الجد، الإجتهاد، ماهي إلا صفات تتواجد في القلب تقوي من عزيمة صاحبها، مما لا يحتمل الشك في جُـبه هو أن المُثابر يصل لأكثر بكثيرٍ مما حلم وأراد، وما دُمنا نحاول فالوصول هو النتيجة الحتمية..
كان “أيـوب” يحاول إضفاء طمأنينة للبيت خاصةً بعدما تمت استعدادات زواج شقيقته التي أصرت على زفافٍ إسلامي بدون موسيقى أو إختلاط أو حتى ملابس وتبرج، ووفقًا لرغبتها وافق الجميع على ذلك حتى زوجها نفسه، لطالما تولى والده ليلة الزفاف الكُبرى في ساحته فآثر ما يُريحها ويُرضي رغباتها حتى أطمأنت هي كثيرًا لهذا القرار..
وقد وصل في المقابل أثاث شقة “أيـوب” الذي وقف ينتظر زوجته ووالدتها حتى حضرت كلتاهما أمامه تزامنًا مع وصول السيارات فهتفت “غـالية” تعتذر منه بقولها:
_معلش بقى أخواتها وخالها في الشغل بس بليل هييجوا علشان يكونوا معاك، ربنا يسعدكم يا حبيبي ويكمل فرحتكم على خير ويهنيكم ببعض، الحاجة حلوة أوي.
أبتسم لها بطيبةٍ وبشاشة وجهٍ ثم أشار لهما بالدخول وقد وقفت “نـهال” في استقبالهما ترحب بهما بحماسٍ شديد، وقد سحب “أيـوب” زوجته بعيدًا عن الأنظار حتى ولج بها الحديقة ووقفت هي بخجلٍ فيما أسندها هو على الشجرة الخلفية ثم هتف بشقاوةٍ مرحة بعدما استعاد جزءًا من مرحه:
_هانت، بعد الأيام خلاص علشان البيت ينور بيكِ.
أطرب أذنيها بحديثه وقد أخفضت عينيها خجلًا منه بعدما تضرج وجهها بحمرة الخجل فرفع هو رأسها وهتف بثباتٍ يستمسك بقوته أمامها:
_متنزليش عينك في الأرض قدامي، خليهم مرفوعين دايمًا وبصيلي وطمنيني إنك معايا ومكملة السكة لآخرها، أنا دلوقتي محتاجك أكتر من أي وقت تاني، عاوزك معايا وفي بيتي واليوم يخلص وأنتِ جنبي، أنا بحاول أهو وهفضل أحاول علشانك أنتِ، بس مش عاوز منك غير إنك تكوني مبسوطة وبس، مبسوطة؟.
طافت بعينيها في الحديقة كأنها تفكر في الجواب ثم عادت تستقر بعينيها في عينيه وهي تقول بلهفةٍ تُطمئنه بها:
_هكون مبسوطة بجد وأنا معاك هنا.
ضحك لها باتساعٍ ثم ضمها بين ذراعيه يمسح فوق رأسها وهو يتنهد بعمقٍ وقد رفعت هي ذراعيها تتمسك به وأول من طرأ بذهنها كان والدها الحبيب، ذاك الغائب عن العين ولازال ساكنًا في القلب، وقد شعرت بالأمان بين ذراعي “أيـوب” حتى سحبت نفسًا عميقًا تُهديء به من روع أنفاسها المُضطربة بحضرته، بينما هو فهي الحُلم البعيد الذي راوده في ليلةٍ صيفية يمسح فوق فؤاده المعذب، ليكون رضاها به وحبها له هما أول الأشياء التي أعتبرها الخير من بعد سنوات العُجاف، وكأنها حصاد العمر..
__________________________________
<“كُلٌ منَّا مريضٌ نفسي بدرجةٍ تتفاوت مع غيره”>
هناك رغبة مُلحة عليه تُناديه لكي يتحرك من موضعه ويتوجه إلى المكان المطلوب، طوال اليوم وهو يجلس في العمل الأول لكنه يشعر أن هناك من يُناديه لذا أنهى العمل وقرر أن يتوجه إلى المكان الذي طلبه…
بعد ساعة أو أقل بقليلٍ تحرك “يـوسف” من سيارته وولج مقابر عائلة “الراوي”؛ تلك المقابر التي ابتاعها “عـاصم” بعد وفاة شقيقه ليضمن مكانًا للعائلة بالطبع بعيدًا عن “غـالية” وعائلتها، وقد ولج من الجهة اليمنى يقف أمام قبره ولم يقو على حبس عبراته أكثر بل ترك العنان لها وسحب نفسًا عميقًا ثم جلس على الأرض بجواره وهو يهتف بنبرةٍ مُحشرجة:
_أنا جيت علشان حسيت إنك عاوز تشوفني، وأنا والله عاوز أشوفك أوي، أنتَ وحشتني على فكرة رغم إنك مش بتيجي تشوفني في الحلم، بس أنا أجدع منك، كل يوم بدعيلك وبقرأ ليك قرآن وبخرج اللي فيه النصيب، مش كنت تيجي تقولي إنهم عايشين، سيبتني كتير من غيرهم، بس مش مهم، هما موجودين خلاص، “غـالية” لسه حلوة زي ماهي، بالعكس أحلوت أكتر ولسه شديدة زي ماهي، أما بقى “قـمر” فأنا كنت صح لما سميتها كدا، اسم على مسمى، مكانش ينفعها غير الاسم دا، علشان بيوصفها صح، طيبة أوي وجدعة وجميلة، وعملتها وحبت ابن “العطار” وطلع هو كمان بيحبها أوي، يمكن أكتر مني..
تنهد بقوةٍ ومسح وجهه ثم هتف بصوتٍ أقرب للبكاء:
_آه صحيح، طيب أوي عم “عبدالقادر” دا ميتخيرش عنك، بضعف قدامه وقدام نظراته اللي بتخليني أحس إني أنتَ، أقولك سر كمان؟ أنا حبيت “أيـوب” أوي وبقى صاحبي كمان ومستحملني كتر خيره، وواخد بأيدي في الدنيا دي، تخيل بصياعتي دي كلها، أصاحب إمام مسجد؟ مسخرة صح؟.
مازحه بالحديث وضحك ورغمًا عنه ثم ترك العنان لمشاعره المكبوتة وهتف ببكاءٍ لم يقدر على إحجامه وإحتواء أثره:
_أنا حبيته علشان بيفكرني بيك، “قـمر” كان معاها حق لما قالت إنها بتشوفك فيه، أنا كمان بشوفك فيه، وهو طيب أوي وجميل زيك، واقف في وش الكل علشاني، أنا كمان أتغيرت شوية، حبيت، والمرة دي بجد، حبيت بنت حلوة أوي، مذهلة وكأن الدنيا دي مجابتش بنات غيرها في عيني، رسمتها في خيالي ولقيتها بالظبط، مش قصدي على الشكل، هي حلوة أوي من برة، بس من جوة هي ملهاش وصف، سيبتني كدا من غير إنذار ولا كلام، طب كنت أحضني مرة كمان وأنا نايم وكنت هحس بيك، والله العظيم كنت هحس بيك وكنت هقوم أحضنك، بس برضه الحمدلله إن ليا عمر تاني هعيشه معاك، يا رب أشوفك في الجنة، مع إني صعب أوصلها بس وعد علشانك وعلشان “عـهد” هحاول، آه صحيح دا اسمها، حلو أوي زيها وعلى فكرة هي بتحبك أوي، حكيتلها عنك كتير وقالت إنها بتحبك، وقالتلي إنها شايفاني زيك، تخيل؟ هو أنا برضه حلو زيك كدا؟.
مازحه بكلمته الأخيرة ثم أعتدل واقفًا يطالع اللحد بعينين باكيتين وكم تمنى أن يكون والده حاضرًا لتلك اللحظة، أراد أن يُكمل معه الرحلة وأن يسانده في كل شيءٍ بدلًا من تخلي العائلة عنه، وإهتمام الغُرباء به، لكنها مشيئة الخالق وحكمته تسير على كل الخلائق..
في الجهة الأخرى كان يقف “نـادر” أمام قبر خاله الذي فصل بينه وبين “يـوسف” وقد نطق أخيرًا بعد نوبة البكاء التي أنخرط بها:
_عارف إنك خلاص مش عاوزني ولا بقيت تحبني، والله أنا كمان كرهت نفسي أوي، مقدرتش أمسك في حاجة من تربيتك ليا، أنا ضيعتك من جوايا، دوست عليه معاهم بس والله كان غصب عني، كان لازم ألحق نفسي وأحميها منهم، مكانش قدامي غير إني استسلم ليهم، بس والله العظيم أنا بحبك أوي، محدش حبني غيرك أنتَ، كلهم استغلوني وخلوني أكرهه حتى هي، هي مرحمتنيش، هي داست عليا زيهم، علشان خاطري سامحني، سامحني أنا تعبت، وبقيت كاره النفس اللي بيخرج مني يأكدلي إني لسه عايش، أنا عملت كتير أوي وحش، وظلمته ودوست معاهم عليه وهو لسه برضه بيساعدني علشان هو حافظ عليك جواه بس أنا فشلت، فشلت أخليك جوايا، علشان خاطري سامحني يا خالو..
توسله باكيًا بعدما وضع رأسه فوق القبر وقد شعر بظل أحدهم يسقط عليه فرفع رأسه سريعًا ليجد “يـوسف” يطالعه بنظراتٍ ثاقبة رغم أثر العبرات العالق بأهدابه وقبل أن يستند على عكازه ترنح جسده وكاد أن يسقط لكنه أمسكه ودعم ثقل جسده فتشبث به “نـادر” وانهار باكيًا بين ذراعيه بصوتٍ عالٍ جعل “يـوسف” يُربت عليه وعلى ظهره وهو يبكي معه هو الآخر وكأنه توفى في تلك اللحظة حتى ينهارا سويًا بهذا الشكل بعدما فقدا أكثر الناس رحمةً عليهما.
__________________________________
<“كان اللقاء صُدفةً وليس كغيره من الصُدف”>
قيل مرة في السابق أن الصُدف هي هدايا مُقدمة للبشر الذين يأسوا من الحصول على الشيء المُراد وقد كانت بعض الصدف أجمل بكثيرٍ من لقاءٍ مُرتبٍ نسعى إليه بكامل طاقتنا..
خرج “مُـحي” من بيته يتحدث في الهاتف مع زميلٍ له بالجامعة وهو يخبره بموعد الإمتحان الآخر وقد أخبره بكل التفاصيل اللازمة وهو يقوم بتسجيلها وتدوينها وقبل أن يرد عليه وجدها هي!! هي هنا في عُقر داره؟ لقد تاه أمامها وشعر بمشاعر غريبة متذكرًا قُبلتها له بحلمه فرمش ببلاهةٍ مُستنكرًا ثم خطى نحوها يتأكد من هويتها فوجدها هي حقًا!! من المؤكد هي كما لقبها “جِـنية” تتمركز له، وما إن وقف أمامها سألها بتعجبٍ:
_أنتِ هنا بجد؟.
رفعت عينيها نحوه وما إن رآته أصابتها تُخمة في مشاعرها حيث استنكرت تواجده هنا لكن سرعان ما تذكرت صلته بهذا البيت فغضت بصرها عنه وجاوبت بتلعثمٍ:
_أنا، أنا هنا مع البنات علشان نفرش شقة “آيـات”.
أومأ موافقًا لها بوجهٍ مبتسمٍ ثم خاطبها بثباتٍ:
_عقبال شقتك يا رب يفرشوهالك هما كمان، ناوية قريب؟.
حركت رأسها نفيًا ثم أولته ظهرها تهرب من سطوته عليها بينما هو فأدرك جيدًا تأثيره عليها وأدرك أنها تُجاهد حتى لا تجمعها به أية مواضيع فهتف من خلفها بمراوغةٍ:
_عمومًا نورتي البيت يا “جـنة” وإن شاء الله مش هتبقى أخر مرة تيجي فيها هنا، فكري في كلامي كويس، بكرة علشان الأيام هتشرحلك قريب قصدي إيه، نورتي البيت مرة تانية، البيت بيتك طبعًا.
أصابها الخجل في مقتلٍ وظلت ثابتة بموضعها حتى شعرت به يرحل من خلفها فالتفتت تنظر في أثره وقد تيقن هو من فعلتها فباغتها حينما ألتفت لها يأسر زيتونتيها برماديتيه وقد تلاقت المُقل ببعضها للمرةِ الثانية بينهما، لتكون برائتها أمام جُرأته، ونقائها نظير ذنوبه، لوحة حملت الغروب بخيلٍ يقف على مقربةٍ منهما ثم هما كما اللونين الأبيض والأسود معًا، وقد أنتبهت لنداء “مهرائيل” فتحركت من موضعها وتركته يُطالع أثرها مشدوهًا ثم مرر كفه فوق وجنته من جديد.
بعد مرور عدة ساعات كان “إسماعيل” في غرفته منزويًا عن الجميع بعدما استفاق وأدرك ما فعله ولازالت حلقة الوصل بينه وبين الدار تلك مُبهمة، يبدو وكأنه يدور بداخل حلقاتٍ مُفرغة لا بداية لها ولا نهاية، جلس منزويًا والقرآن بجانبه صداه عاليًا في الغرفة وقد هدأ قليلًا عن الأمس..
طُرِقَ باب غرفته وقد تحرك هو بجسدٍ مُنهك يفتح الباب وهو يشعر بالدوار يصيبه لكنه تحامل على نفسه وفتح الباب فوجدها أمامه تُطالعه بلوعةٍ وقد غلف البكاء عينيها بغلافٍ رقيق هدد بالنزول خوفًا عليه وكمدًا وحزنًا لأجله ودون أي مقدمات أختطفها بين ذراعيها يُشدد ضمته لها حتى أرتفعت هي عن الأرض وبكت بين ذراعيه فنطق هو بصوتٍ مُحشرجٍ:
_أنا محتاجك يا “ضُـحى” محتاجلك أوي.
مسدت فوق خصلاته وهتفت ببكاءٍ:
_وأنا هنا علشانك أنتَ، مش هنا وبس، في الدنيا كلها.
مسحت فوق قلبه بحديثها وقد أنزلها هو يُطالع الدفء في عينيها نظير التعب والإجهاد منه وإرهاق ملامحه فرفعت كفها تُمسد بأناملها فوق عينيه ثم ربتت فوق كفه وأشارت له أن يخرج معها فتبعها نحو الخارج ليجد شقيقها جالسًا برفقة شقيقه الذي أنتفض ما إن رآه أمامه من جديد وقد أبتسم لهم هو بوهنٍ ثم رحب بـ “عُـدي” الذي أتى لأجل الإطمئنان على زوج شقيقته، وقد جاورته هي فوجدته يقبض على كفها، لا تعلم هل كان خوفًا منه أو تشكيكًا في حقيقة تواجدها لكنه أبتسمت له بلطفٍ ثم أقتربت منه تهمس له:
_تعالى وديني عند الخيول، وحشوني.
حرك عينيه نحوها فأومأت له موافقةً تحثه على الحراك وقد تنهد هو مطولًا ثم هتف مشيرًا إلى شقيقها بقوله:
_أخوكِ لسه جاي يقعد معايا، شوية وهقومك حاضر.
أومأت له موافقةً وهي تبتسم له ثم ظلت تتبعه بعينيها وهو يجلس بقربها بملامح مُنطفأة وعينين افتقدتا لمعتهما لكنها عزمت الأمر في خُلدها أن تسترد وهجه وتُعيد له ضحكته وقد شرد فيهما “إيـهاب” الذي علم أن الدواء في بعض الأحيان يكمن في الداء نفسه.
__________________________________
<“أشعل النيران في أجساد الأبرياء ليُدفيء نفسه”>
الظلم يملأ المكان كما توغل لبعض القلوب، الأصوات هادئة كما ضمائر البعض، صوت نباح الكلاب يصدح من قريبٍ وبعيدٍ، الطريق فارغ من المارة، أعمدة الإنارة بعضها يعمل والبعض لا، وهناك سيارة واحدة فقط تتوسط الشارع أمام دار رعاية الفتيات..
خرج “شفيق” من الدار وهو يتحدث في الهاتف بإنفعالٍ بعدما أخبروه بضرورة تركه لكافة المسئوليات الواقعة على عاتقه وقد صدح صوته بإرتفاعٍ:
_ماهو أنا مش هشيل ليلة مش بتاعتي في الآخر، كلنا كنا مع بعض، قولتوا فيه مصالح واقفة محتاجين تخلصوها، وعاوزين كام بنت حلوين مش ذنبي إنكم أختارتوا دول، قولتلكم البنات دي ضعيفة مش حمل كل دا، وفي الآخر علشان عيلة ولا اتنين ماتوا في إيديكم هتلبسوهالي أنا وتتهموني إني مش شايف شغلي؟ عمومًا أنا ناوي أسافر كام يوم أهدي نفسي شوية، سلام.
أغلق الهاتف ثم أخفض رأسه فوق السيارة يضربها عدة مرات ثم رفعها وأخرج هاتفه يطلب رقم واحدةٍ من النساء التي يرتكب معها المُحرمات وقد أنتظر جوابها عليه ليتفق معها على موعدهما سويًا وقبل أن يتحرك صوب سيارته يولجها، أتاه المصير المحتم، حيث طلقة نارية أستوطنت رأسه تمامًا لتأتي بالخلاص وتُنهي حياته، وقد سقط فوق مقدمة سيارته ودمائه القذرة تنزف فوق سطح السيارة..
وفي تلك اللحظة ترنح جسده للأرض وسقط غارقًا في دمائه وسط القمامة حول سيارته وقد أقتربت الكلاب منه وكأن رائحة العفن تنتشر من جسده وتفوح من دمائه حتى تصبح نهايته بهذا الشكل الشنيع، وقد وقف الفاعل أعلى سطح بناية تبعد عدة أمتارٍ عن الدار ثم أبتسم بشرٍ وهتف جملته المعتادة بإنتشاءٍ واضحٍ، وقد وصل لذروة الإنتشاء:
_طب قول كلام غير دا.
جملة غامضة أعتاد صاحبها أن يُلقيها قبل أو بعد رد الفعل العنيف، لكن تلك المرة يقولها بعدما ثأر وأنتقم وأراد التكفير عن ذنوبه، لذا لم يشعر بالندم لو لوهلةٍ عابرة وإنما رأى أن الأرض التي يحكمها قانون الغاب يتوجب على سكانها اللجوء لعقلية الأسود، فإذا كان العدل منبوذًا في الأرض، فلابد من نبذ كارهي تحقيقه أيضًا، وتذكر أن المساواة في الظلم عدلٌ..
____________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى