رواية غوثهم الفصل المائة والرابع والخمسون 154 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة والرابع والخمسون
رواية غوثهم البارت المائة والرابع والخمسون
رواية غوثهم الحلقة المائة والرابعة والخمسون
“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل التاسع وستون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
أنا لا أُضامُ و في رحابك عصمتي ..
أنا لا أخافُ و في حِماك أماني ..
أنا إن خشيتُ الذنب هون محنتي
علمي بأنك مِؤلُ الغفرانِ ..
أنا عند محراب العنايةِ طامعٌ
في الرحمةِ العليا من الرحمنِ .
أنا إن ضعُفت فأنتَ مصدرُ قوتي ..
أنا إن نسيت .. أنا إن نسيت ..
أنا إن نسيتُ .. فأنتَ أنتَ أنتَ لا تنساني.
_”نصر الدين طوبار”
__________________________________
من بين كل العوالم اخترتكَ أنتَ عالمي..
لكنكَ كما السائر البُلدان أردت أن تُنفيني،
كطيرٍ حُـر أردتكَ سماءً لي
لكنكَ خلف الغِمام أردتَ أن تُخفيني،
قُل بربكَ لما أنا اصطفيك من بين الآنام،
وأنتَ حتى بطرفةٍ عينٍ من بين الورىٰ لم تصطفيني؟
أكان هوايَّ فيكَ ذنبًا، أم أن الذنب عليَّ كي أرغبكَ وأنتَ جافيني؟ أعيبٌ على قلبي أنه أراد أن يطمئن فاختارك؟
أم عيبٌ على عيني التي تلمح في الطريق نارك؟
أنا الذي أرادك من بين الجميع واصطفيتك كي ابقى جوارك
وجدتُكَ أنتَ من تُغربني عن الموطن، وتطردني من دارك،
أتيتُ إليكَ أشكو صعوبة موطني، فوجدتكَ كما بلادي أردت أن تؤذيني، ويوم أن قررت آخذك موطنًا وجدتك خارج حدود أرضك تُنفيني، أنا الذي أحبك والحُب في سريرته كان مكتومًا، لكنها عيني الفاضحةٍ كشفت سري؛ والشوق مني رغم جفاك بات معلومًا، أنتَ كما بلادي أردتَ لي الأسر
وأنا من كان يسعى كي يُحرركِ من الغدر..
<“اليوم ألمح حُلمي مع غيري؛ ومجبورٌ أن أبتسم”>
من قال أن النصر كان حليفًا ودودًا لنا؟
ففي أغلب الأحيان كُنا نحنُ من نتودد للنصر كي يُحالفنا، كنا نقطع الطُرقات بشق الأنفس وكِدنا أن نلفظ الأنفاس الأخيرة حتى قبل أن نصل، ومن قال أن كل المسارات التي اخترناها كانت صحيحة؟ ففي الأغلب تلك المسارات التي اخترناها كي نصل لما نُريد كانت هي ذاتها؛ السبب في ضياع الأشياء منا..
الصوت كان دليلًا على حديثٍ تمناه خبالًا..
تمنى أن يكذب الطبيب عليه أو تكون تلك مجرد مزحة سخيفة ألقاها عليه بعد أن لاحظ تتبعها لها سرًا وجَهرًا، وقف محله جامد الحَراك لم يحرك ساكنًا، وناقضه في داخله قلبه الذي قرع كما طبول الحرب الدامية وترك الزمام للخيول بداخل رأسه تقود الحرب..
في الأعلى لم يختلف حالها عنه، بل كانت صدمتها أكبر، فرحتها كُسِرَت ما إن وجدت أحلامها تهبط من فوق السماء تُلامس الأرض بثقلٍ، كأنها طيرٌ أُصيب بعيارٍ نارٍ في منتصف قلبه فتردى قتيلًا، كان صوت الزغاريد يصدح من والدة الشاب التي ظلت تضحك بسعادةٍ ما إن رأت “جـنة” أمامها وكُلما زجرها ابنها تجاهلته؛ حتى أضافت بصوتٍ ضاحك:
_يا واد بتبصلي ليه، العروسة زي القمر الله يحفظها.
وكلمة العروس هُنا بغير محلها، فهي بالطبع لم تكن عروسه هو، جلست بصمتٍ وسكونٍ وأخفت عينيها عنهم تحبس الدمع فيهما وتتجرع مرارة الخذلان، لقد تمنته هو ورسمت الكثير من الأحلام، ومن ثم تحولت الأحلام لخيباتٍ من مجرد فتاةٍ ساذجة، تلك الحقيقة عادت تصدمها فرفعت عينيها تطوف في الجلسةِ بنظرها فوجدت والدها يبتسم بسعادةٍ، أمها تزبد بالحديث مع والدة الشاب، والده يبتسم لها، والعريس نفسه… لا غُبار عليه.
شابٌ ملتزمٌ دينيًا، تعرفه معرفة سطحية عن طريق المسجد الذي يصلي به مع والدها، تتلمذ على يد “أيـوب” ويبدو أن النصيب أتى به إلى هُنا كي تكون هي عروسه، كيف ترفضه وترده خاوي الوفاض ويبدو من البداية أن القبول كان أكيدًا؟ كيف ترفض شابًا مثله وهي التي تمنت مثيله ذات يومٍ؟ كيف تخبره أن القلب الآن يُطالب بحقهِ في آخرٍ غيره بل ويتمناه هو لا غيره؟ كيف تخبر نفسها أن الأحلام تحولت في طرفة عينٍ من هذا لذاك؟.
كان يجلس نظراته جامدة يغض بصره عنها أمام الجميع، يلمح خوفها ووجها المُكفهر، رأى توترها واستنتج سببه أن خجلها الفطري هو الذي يضعها في تلك الهيئة، بدت الجلسة كأنها تسامرية في ليلةٍ صيفية بين عائلين أمتدت بينهما أواصل الود، وكل الدلائل توحي أن الرفض ليس سبيلًا..
دقائق مرت عليها لا تعي فيها ما يدور حولها وفقط وجدت أمه تقترب منها تُلثم جبينها بحركةٍ مُباغتة، امرأة شديدة التلقائية، عفوية لدرجة الضحك في أغلب الأحايين، ضحوكة الوجه، ويبدو أن هذا هو فتاها المُدلل، أنفضت الغرفة عليهما في جلسةٍ هادئة تسمى بالرؤية الشرعية..
حمحم يُجلي حنجرته ثم بدأ هو الحديث مُعرفًا عن نفسه ثم قال بنبرةٍ هادئةٍ رغم جمود المشاعر منه:
_أنا اسمي “مهند” خريج كلية شريعة وقانون دا مبدأيًا يعني، وجيت عن طريق والدي لأنه على صلة بوالدك، ومن غير مجاملات رشحك ليا، وأنا الحقيقة جيت وآمل خير.
بداية القصيدة لديها لم تنل رضائها..
فهل من أتاها صُدفةً عن طريق ترشيحٍ يُقارن لديها بمن أختارها من بين الزحام واصطفاها من وسط النساء؟ أي حربٍ هذه التي شنها القلب ضد العقل كي يضع كل المُبررات لطرفٍ غائبٍ؟ وأي أملٍ ذاك وضعته في نفسها وعاشت عليه ليلة بأكملها وهي تتخيل الكثير والكثير معه؟ أمعن الآخر نظره بها فتذكر أخرى رفضته، ملامحها كانت تشبهها إلى حدٍ ما وإن كانت تلك هي الأجمل، رفضته الأخرى لشدة التزامه، فاختار له والده خيرًا منها، حسنًا بالعقل وبحسبة الفكر هذه أنسب له، تُلائم شخصه، فتاة جميلة، ملتزمة، ستكون مُطيعة له إن شكلها هو كما قطعة الصلصال بين يديه..
أما هي فعلمت أن رفضها له سيضعها في خانة اليك كأنها بين المطرقةِ والسندان، سيضيق عليها الخناق أكثر وتتعدد الأسئلة عن سبب الرفض، وبعين العقل هذا يُناسبها، يُلائم من كانت تأمل فيه زوجًا، أحلامها القديمة كانت تطمع في شابٍ مُلتزمٍ يُعينها على دينها قبل دُنياها، كانت تأمل في رجلٍ يمسك بيدها ويقوم مسارها إن اعتوج، لكن مما يبدو أن الذي يجالسها لا يكترث بكل ذلك، وإنما هو فقط أتى للزواج بغير مشاعر؛ خرجت من شرودها على صوته إذ يقول بعمليةٍ طاغية فوق كل المشاعر:
_الحقيقة يا آنسة “جـنة” أنا جربت قبل كدا أختار بنت أنا عاوزها بس هي رفضتني علشان أنا ملتزم وليا بعض التحكمات، وشافت إني مش مناسب ليها، ولما والدي رشحك ليا وشوفتك مرة مع والدك، أنا شوفت فيكِ المواصفات اللي أتمنيتها، مش هنكر وأقولك أي كلام يؤخذ عليا بس أنا مرتاحلك وأتمنى يكون الشعور متبادل بينا.
وفي الحقيقة هي لا تبادله أي شيءٍ، هي فقط تاهت من نفسها بداخل نفسها وولت جلسته الدُبر فلا تطمح لأي شيءٍ معه هو، يبدو أنه يراها بديلًا لا أكثر لأخرى رفضته وقد تكون في نظر البعض هي الأفضل منها، كانت تلتزم الصمت الشديد الذي أثار ريبته حتى سألها بثباتٍ:
_وأنتِ مش هتقولي حاجة؟.
رفعت عينيها الخضراوتين نحوه لتأسره كما سبق وفعلتها وأسرت غيره بفتنتها تلك، طالت النظرات بينهما وكانت هي الأسرع حينما نظرت في جهةٍ مُغايرة غير جهته ثم قالت بصوتٍ واهن وخافت:
_قولت لا إله إلا الله، لو ربنا رايد لينا نصيب مع بعض فأكيد هنكون لبعض، ربنا مأردش وأنا مش نصيبك يبقى ربنا يكرمك ببنت الحلال اللي تصونك وتكون عوض ليك.
وفقط، هذا جل ما استطاعت أن تتفوه به، لم تستطع أن تُزايد فوق الحديث بكلماتٍ أُخرىٰ، هي حقًا شعرت بالحيرة في أمرها، وأول ما فكرت به كانت صلاة الاستخارة كي تستخير ربها وتوليه أمرها كي يُبعد عنها حيرتها، تمت الجلسة بينهما ببعض الكلمات التعريفية وانتهت بوعد استخارة المولىٰ عز وجل، وفي عُرف العائلات المصرية تم توثيق المقابلة بحلوى غربية، وصوت زغاريد أعلن عن فرحٍ أتى للدار..
في الأسفل وقف بتيهٍ وانشداهٍ في آنٍ واحدٍ، فلم يعِ إلا لنافذة بيتها فقط، ولا يستطع أن يُدرك ما يحدث، ماذا يعني هذا الصوت إلا أن هناك من سبقه وأتى لبيتها كي تصبح باسمه؟ ليلة واحدة فقط كان الفارق بين حلمه وبين تحقيقه كي يدخل آخرٌ بينهما ويُعيق وصوله، والأدهى هل هي وافقت على غيره من الأساس؟ وقف مستمعًا لصوت قلبه الذي صرخ بقهرٍ:
_لقد كان حُلمًا لم ننله،
حُلمٌ جميلٌ سعينا له بكل طاقتنا
فلم يكن هو لنا، لكننا كرسنا نفسنا له،
فآهٍ من حُلمٍ رغبناه وهو لم يرغبنا
وآهٍ من وطنٍ ضحينا لأجله وهو
الذي غَّربنا.
__________________________________
<“أنا عِلةُ نفسي وأين المفر مني وأنا العليل؟”>
لم يكن يومًا للآخرين شأنًا في ألمي
بل أنا من كنتُ سببًا لذلك، فلم أجد سببًا لعلة نفسي؛ إلا نفسي، ونفسي عليَّ أشد فتكًا من الغُرباء وكل عدوٍ، فرأسي كانت أكبر الأعداء لي، حتى في تلك اللحظات التي توسلتها أن تَكُف عن ضجيجها، لكنها دومًا وأبدًا كانت سبب الفوضى بداخلي…
كان اللقاء محتومًا ولا مَفر منه..
فالحياة أصبحت لا تُحتمل وكأن نفسه أعلنت عليه حربًا لم يكن هو يومًا خصمًا بها، وإنما فوجيء بكل ما يُدار بداخله ولو ترك نفسه هكذا من المؤكد أذاه سيصل للجميع، وأولهم تلك المسكينة التي أصبحت تحتار فيه ولمح خوفها منه، ورغم ما تحمله نفسه من ضغوطٍ لا تُحتَمل؛ نظراتها له لن ينساها، لذا أنهى العمل الأول ثم توجه نحو “جـواد”..
بداخل العيادة النفسية استقر جالسًا..
جلس بحيرةٍ وتيهٍ والآخر أمامه يراقبه بتركيزٍ فوجده يتنهد بثقلٍ ثم أخبره عن كل شيءٍ شعر به منذ أن بدأت سيرة “حـمزة” تتكرر في الأفواه مرورًا بانتحار “شـهد” ومواجهته مع “عاصم” و “سامي” وصولًا لارتمائه بين ذراعيها يتوسلها أن تنتشله من الضياع الذي سكنه؛ وأضاف بتيهٍ:
_كانوا أغرب كام يوم عيشتهم من فترة طويلة أوي، سكوت غريب جوايا ومش لاقي أي صوت، تصرفاتي غبية وعدوانية بشكل غريب، حسيت إني مش طبيعي وتايه من نفسي وغريب عني، حاولت كذا مرة مع “عـهد” ودي أول مرة تحصل، حسيت نفسي عرة أوي، ما تشوفلي حل يا “جـواد” أنا بضيع كدا.
تنهد الآخر بثقلٍ ثم قام بشد جسده بوضعٍ مُستقيمٍ في جلسته ثم أضاف ردًا عليه بثباتٍ وتفسيرٍ أعمق:
_دي نوبة اكتئاب شديدة بكل أسف، وللأسف الأكبر ممكن تتكرر تاني، أعراضها بتتقسم كالآتي، الأصوات اللي جواك بتسكت خالص، تيجي تكلم نفسك متلاقيش رد عليك، ردود أفعال طايشة وغريبة، سواقة متهورة، للأسف رغبات وشهوات عالية، تدخين بشكل مفرط، ممكن الأمر يوصل للخمرة كمان، تقلبات مزاجية كتيرة، ممكن كمان تلاقي نفسك سرحان بالساعات ومن غير سبب محدد، كل دا أنتَ معذور فيه ومحدش فينا يقدر يلومك، بس الحل إنك تحاول تتحكم فيها، مش هي اللي تتحكم فيك، النوبة دي بتيجي لسبب بسيط جدًا…
استحوذ بكلماته على جلَّ تركيز “يـوسف” فأضاف الآخر:
_لأن الأحداث المؤخرة بقت أكبر من قدرة الاستيعاب عندك إنها تستقبل كل الأفعال دي مرة واحدة، ببساطة شديدة فرحك وفكرة إنك بتستقر دي لوحدها أصلًا بدأت تاخد الحيز الأكبر عندك، مع موضوع “عـهد” وتعبها النفسي اللي أنتَ ضاغط على نفسك بيه ومش هنكدب إن دي حاجة فوق طاقتك ومع ذلك أنتَ لسه بتسعى إنك تكون مطمنها دايمًا، فالحل حاليًا يكون علاج تدريبي، بمعنى إننا واحدة واحدة نبدأ نبرمج دماغك على الأفعال تلقائيًا، لأن أي فعل أنتَ مش حابه أو مش راضي عنه هييجي حله عندك بالعنف، زي ما كسرت دراع “سامي” كدا، وزي ما خدت رد فعل عنيف ساعة موت “شـهد” ودي النقطة اللي قلبت حياتك مؤخرًا..
وتلك النقطة الأخيرة كانت أكبر استحواذًا على ذهنه؛ حيث انتبه له أكثر يُمعن نظراته في عيني الآخر الذي جابهه بقوةٍ أكبر حين أضاف:
_موت “شـهد” في الوقت دا بالطريقة دي كان ليه أثر كبير أوي عليك، لأن هي لغبطت حسابات كتير أوي جواك، وعلشان أكون بنصفك أكتر؛ موتها مضايق حد منك جواك، يعني فيه نسخة من وسط النسخ عندك محيرها موت “شـهد” بالطريقة دي، لأن هي بطبعها قوية وجبروت، ولأن فيك جزء بيخاف يكون دا نهاية مصيره، فيه “يـوسف” قديم جواك لسه واقف عند وحدته وخوفه إن حياته تنتهي لوحده أو يأذي نفسه فيوصل لمرحلة الانتحار، مع موضوع “حـمزة” وذنبه اللي أنتَ معلقه في رقبتك كل دا خلى تفكك يحصل جواك، كأن خصومة حصلت بين وبين الكام “يـوسف” اللي اتولدوا جواك، لأن كل واحد شاف مشكلته مستقلة عن التاني، وفي النهاية هما كلهم شخص واحد.
_طب والحل؟.
خرجت منه استنكارية مستفسرة عن مصيرٍ يجهله، فوجد الآخر يتقدم للأمام بجذعه ضاممًا كلا كفيه معًا ثم رسم الديباجة العملية في الحديث بقوله:
_الحل بسيط، نخلي “يـوسف” واحد يصالح الباقيين على بعض، هنلجأ لحل تقليدي وطفولي شوية بس دا الأنسب، هنجيب ورقة وقلم وتكتب في كل صفحة اسم “يـوسف” من اللي جواك وتعبر عن مشاعره وعن احتياجه، عن رغباته، حتى عن أحلامه وطموحاته ولو من ضمنهم قربك من “عـهد” كل دا تكتبه وتخليه كأنه شيء ملموس قدام عينيك، دا في العموم الحل الأنسب للكل، وأنتَ أولهم، هتبدأ تدريجيًا تفهم سبب زعلك وسبب فرحك، تبدأ تستوعب أنهي مشاعر اللي بتقودك مؤخرًا، بس خليك فاكر إن إحنا أولًا وأخيرًا بنحافظ على “يـوسف” ابن “مصطفى” وصاحب “أيـوب” وأخو “قـمر” و حبيب “عـهد” لأن دا الأفضل والأصل بينهم كلهم، دا لو تاه بيقدر يرجع تاني، مش كدا؟.
يبدو أن الطبيب يتمتع بحنكةٍ طبية قوية كي يؤثر عليه بكلماته وهو يقوم بذكر قرابته بكل الصفات وكأنه يذكره من يتوجب أن يكون عليه من بين ساكنيه، أخبره ما يتوجب عليه فعله من الليلة قبل الغد، ورحل الآخر ينتوي الامتثال لمطلبه، سيفعل أي شيءٍ يُبريء نفسه في عينيه، سيقوم بمحو تلك الصورة البغيضة التي أصبح يرى نفسه عليها مؤخرًا.
أوقف السيارة أسفل بنايته أخيرًا يجلس في انتظارها حتى خرجت له من البناية ضاحكة الوجه وهي تُقبل عليه كأنها تُقبل على الحياة، زينتها الهادئة ووجهها الصبوح، وضحكتها البشوشة؛ كلها أشياء تخبره بجملةٍ واحدة مفداها بهمسٍ من القلب “لو كنت ميتًا، فحياتك هُنا” وهي الحياة بأكمله لا شك في ذلك..
جلست بجواره تبتسم بحماسٍ فوجدته يقترب منها ثم لثم وجنتها بعمقٍ وما إن ابتعد عنها وهي تضحك بشقاوةٍ وجدته يغمز لها ثم همس بعبثٍ أعرب عن شقاوة طبعه المرح:
_دي عربون محبة بس.
ضحكت هي بصوتٍ عالٍ ثم بدأت هي تسعى من نفسها لفض الحدود بينهما فوضعت رأسها فوق كتفه وهي تبتسم بهدوء ثم بدأت تسرد عليه تفاصيل يومها الذي أصبح روتينيًا بشكلٍ ممل، حيث الجلوس وحدها، تنظيف البيت وترتيبه، طهي الطعام لأجل عودته، شراء بعض الأشياء إن لزم الأمر، محادثة والدتها وشقيقتها، ثم محادثة “قـمر” و “ضـحى” ثم جلوسها في انتظاره كي تذهب معه لبيت “نَـعيم” وما إن انتهت اندفعت بعيدًا عنه تخبره بحنقٍ زائفٍ:
_أنا جعانة وكنت فكراك هتيجي تاكل معايا، أنتَ غدار.
ضيق جفونه عليها ثم التفت يسحب الحقيبة التي استقرت فوق الأريكة خلفه ووضعها فوق ساقيها ثم قال بسخريةٍ ردًا على اتهامها له بالغدر:
_طب سمي الله وكُلي يلا، أصل أنا علشان راجل ناقص أدب ودمي مليان غدر حلفت ما أحط لقمة في بُوقي من غيرك، بس نقول إيه بقى؟ أصله كدا الإنسان، في راسه العقل ويفضل أن يكون برأس حمارٍ.
توسعت عيناها تزامنًا مع رفعة حاجبيها باستنكارٍ وقررت أن تقوم بإصلاح الأمر سريعًا فعادت تضع رأسها فوق كتفه وهي تمازحه ضاحكةً بغناءٍ لم يدم كثيرًا:
_بخاف عليك وبخاف تنساني
والشوق إليك علطول صحاني..
قبل أن تُكمل قام هو ببتر الغناء وهو يسألها مستنكرًا:
_كدا والشوق صحاكِ؟ أومال لو رافعة شريط كان بقى إيه الوضع؟ دا أنتَ فاقدة للوعي معايا، اسكتي اسكتي.
ابتعدت عنه ترمقه بشررٍ فوجدته يضحك مُرغمًا من نظرتها ثم قال بنبرةٍ هادئةٍ يملؤها الحنو كأنه يجذبها نحوه جذبًا:
_خلاص بقى بهزر معاكِ، طلعي الأكل أنا هموت من الجوع، ولسه هنروح نجيب هدية تليق ببنت “إيـهاب الموجي” واللي هتنقيه أنتِ هنجيبه، هو أنا ليا غيرك يعني يا حبيب عيوني؟.
ضحكت رغمًا عنها ثم امتثلت لمطلبه وبدأت تتناول الطعام معه بعدما ناولته “الشاورما” الخاصة به وقبل أن يأكل هو مازحها سائلًا باستفسارٍ كتم خلاله ضحكته:
_قوليلي بقى الشوق صحاكِ إزاي؟.
وما تلى ذلك كانت ضحكة منها ثم التقاء رأسها بكتفه ترتكن عليه وتقتبس الأمان منه وتأخذ من حنوهِ مقرًا لها، تطمع معه في حياةٍ آمنة ومستقرة، لكن يبدو أن الماضي طالما يده لازالت ممتدة في حياتهما لن تحصل على حاضرٍ ترغبه هي، قبل أن تغرق في فكرها خرجت على صوته وهو يحدثها فانتبهت وردت وضحكت وتجاهلت وقاحته وما يرمي إليه بكلماته بشأن أبنائه، وفي سريرتها هي تتمناها قبله هو..
__________________________________
<“نحن والفرح حد السواء؛ إن حضرنا حضر هو”>
في زمانٍ ما وبلحظةٍ ما سنرتبط بالفرحِ..
فنحن والفرح على حد السواء إن حضرنا نحن يحضر هو ويجيء على قدومنا، لحظةٌ ما سنقوم فيها بتوديع الأحزان ونستمسك بفرحنا، والفرح حينها سيدخل بيننا..
صالة واسعة في بهو بيتٍ كبيرٍ أقرب للطابع العربي بلمحات أثرية عتيقة تسرد حكايا التاريخ والحضارة بشتى أنواعها، صالة بيتٍ حوائطها حملت قصص التاريخ بعبق كلماته، والجالسون يسردون حكايا الحاضر الجديد، مجموعة من الشباب باختلاف الدواخل النفسية، وباختلاف الظروف التي شكلت أيامهم حتى أصبحوا على ما هُم عليه..
جلس “نَـعيم” والفتاة على أحد ذراعيه يُداعبها ضاحكًا ثم لثم جبينها للمرة التي فشل الجميع في حصرها وعددها، لا يتركها ولا تتركه “چـودي” وإنما يُجالس حاضره ومستقبله معًا، وهو الذي يُشكل صورة الماضي بقوته، والجميع يطالعونه مُبتسمين..
في الداخل بغرفة “سـمارة” التي خُصِصَت لها كانت تتوسط الفراش والفتيات يلتفن حولها في جلسةٍ دائرية وهي التي تبتسم وتستأنس بهن وكأنها وسط عائلتها، وقد وقف “إيـهاب” في الخارج يُحمحم بخشونةٍ ثم ولج لها وفي يده الدواء الخاص بها ثم اقترب يضع حَبة الدواء بين شفتيها واحدة تلو الأخرى ثم لثم جبينها ثم مسح فوق قمة رأسها والأخريات تتابع الموقف بنظرات حالمة وضاحكة ومراوغة لتلك التي ضحكت بخجلٍ ثم قالت بنبرةٍ ضاحكة:
_هو صحيح بحالات بس حنية الدنيا كلها فيه.
تدخلت “ضُـحى” تهتف بضجرٍ ممتزج بضحكاتٍ يائسة:
_يا حبيبتي كلهم أقسم بالله دماغهم تعبانة، دول بحالات كلهم بس فيهم حنية تخليكِ تستغربي هما إزاي كدا، وكله كوم وحوكشة اللي معايا دا كوم تاني خالص، متخانقين وبقالنا يومين بينا مصانع الحداد ومش طايقني، وكل شوية سيرة الحمام والشقة تعمل بينا مشكلة ولقيته إمبارح بيكلمني يقولي أنتِ ماكلتيش كويس، كُلي قبل ما تنامي.
ضحكت الفتيات عليها وقد شاركت معهن “عـهد” بقولها تمازحهن هي الأخرىٰ وقالت بيأسٍ:
_جماعة أنتوا بتتعاملوا إزاي مع التقلبات المزاجية؟ دا أنا بعاني وأصرخ بس كلمة حق لما بقعد أفكر كتير بفضل أقول من غيره كنت هعيش إزاي ولا كان زماني فين دلوقتي؟ وبرجع أقول على قلبي زي العسل مهما يعمل.
وهُنا كانت “فُـلة” تلتزم الصمت وتنتهجه سبيلًا، بالله بماذا تنطق وتشارك وتخبر الجميع؟ ماذا تخبرهم هي؟ هل تسرد عليهن أن خطيبها لم يحاورها إلا خمس مرات فقط ليس إلا؟ فضلت الصمت وهي تتذكر سكونه وصمته وتنهدت بثقلٍ وهي تبتسم ما إن تذكرته، وقد أتت “آيـات” لهن وفي يدها تمسك الطعام الخاص بـ “سمارة” ثم جلست بقربها وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_يلا يا أم “دهـب” كُلي علشان تاخدي بنوتك، باباها واخدها منك رهينة برة لحد ما تاكلي وقال لو ماكلتش الفرخة كلها هياخد البت ويهرب زي البطل الوغد، وهو قالي أقولك كدا.
ضحكت “سمارة” مرغمة أمامهن ثم بدأت تتناول الطعام بصمتٍ تام وقد وقف “إسماعيل” على أعتاب الغُرفة يهاتف زوجته التي ما إن لمحته بعينيها يقف بالخارج؛ فانسلتت هي من بين الفتيات ثم خرجت ترمقه بضجرٍ فوجدته هو يبتسم لها ثم مال عليها يهتف بهمسٍ دافيءٍ:
_اللي أنتِ عاوزاه هيحصل، الحمام الأسود في دهبي هييجي علشان خاطر عيونك الحلوين يا مطرقعة، بس أنا مش مسئول عن أي كوارث تانية ممكن تحصل، معرفش حوكشة سكته إيه في الحمام الأسود دا.
ضحكت هي بصوتٍ وقد لمحت في عينيه الرضا التام لأجلها كأنه يخبرها بنظراته أن ما توده هي سيفعله إن كان مقابل ذلك هو فقط ضحكة حنونة منها، وضمة بين جفونها، وقد تنهدت هي بقوةٍ ثم ضمته تتعلق برقبته بكلا ذراعيها وهي تقول بصدقٍ تأمله هي بكل جوارحها:
_وأنا علشانك هعمل كل اللي تطلبه مني، أهم حاجة نكون مبسوطين مع بعض في بيتنا ونكون راضيين عن حياتنا سوا، بعدين والله الحمام دا شكله تحفة وهيليق مع البورسلين اللي أنتَ مركبه، إلا لو هيكلفك دي فيها كلام تاني بقى يا “إسماعيل”.
ضمها هو وعدل من وضعها حتى استقرت برأسها فوق صدره فتنهد هو مُطولًا ثم أضاف وهو يمسح فوق ذراعها:
_ولو هيكلفني كل اللي معايا، مش مهم طالما هيفرحك، بس كفاية تأخير وحياة أهلك بقى عاوز أتجوزك يا “ضحى” نفسي أستقر زي باقي الناس، سمعت كدا خير اللهم اجعله خير المتجوزين عمرهم بيطول لو اتحضنوا كل شوية.
دفعته بعيدًا عنها بحنقٍ فوجدته هو يضحك رغمًا عنه ثم ضمها له ولثم جبينها بحنوٍ وهي تضحك بين ذراعيه وفي قرارة نفسها تزبد بحديثٍ حفظته جيدًا أن هذا هو الأفضل من بين رجال العالم بأكمله، هو وفقط.
وقف “سـراج” بجوار زوجته في الخارج وهي تلتزم الصمت وقد راقبها بحزنٍ وضيقٍ في آنٍ واحدٍ بسبب حالتها تلك، لم تكن طبيعية كما اعتادها، وإنما هي صامتة وشاردة وحزينة، ملامحها مُتهجمة، تبدو كأنها تائهة وسط الجميع ولم تنتبه للحديث إلا حينما يُكرر عليها من قبله أو من قِبل الآخرين؛ اقترب أكثر، وفي قرارة نفسه أولًا أن يدعمها قبل أن ينفعل، لذا بحركةٍ مُباغتة شعرت بنفسها تُخطف بين ذراعيه وعيناها تُلاقي عينيه فهتف بصوتٍ أجش وهو يُتابع عُمق عينيها:
_وحشتني ضحكتك، هتغيب كتير؟.
حركت رأسها نفيًا وقالت بصوتٍ متهدجٍ:
_هتصدقني لو قولتلك مش عارفة؟ أنا حتى مش عارفة أنا فرحانة ولا زعلانة بس أنا مش مرتاحة، دي كانت صاحبة عمري يا “سـراج” وماكنتش أعرف حد غيرها، هي حتى معملتش بحق العِشرة ما بينا وآذتني كتير أوي، هتصدقني لو قولتلك إنها حتى رغم كل دا صعبانة عليا؟ موتتها صعبة أوي، دي رايحة لربنا كافرة من غير ما تكفر عن ذنب واحد بس، أذت الناس وأذت نفسها في الآخر، وأنا صعبان عليا العمر اللي كان بينا أوي، ياريتني ما صحبتها ولا اعتبرتها في يوم أختي.
تنهد هو بثقلٍ ثم ضم رأسها لصدره وأطلق زفيرًا قويًا تبعه بقوله الذي بدا من نبرته أنه يُشاركها الحزن:
_وأنا بقولك أهو متزعليش نفسك علشانها، ماتت وراحت لحال سبيلها واللي كان باقي منها شوية ذكريات راحوا لحالهم، هي مسابتش حد مطالهوش آذاها، يمكن أكتركم “نـادر” اللي هي دمرت أحلامه وحياته بس صدقيني هي كلها ملهاش لازمة عندك لا في حياتك ولا في ذكرياتك، أنسيها وخليكِ معايا أنا؛ محتاجك جنبي.
ابتسمت له بوهنٍ ثم أومأت موافقةً فتنهد والتفت للخيل يُداعبه بكفها أسفل كفه حتى ابتسمت هي بصدقٍ وظلت بجوار الخيل الذي ارتاح على كفها من مجرد لمسةٍ حنونة ساورها الحزن فيها وهو يشاركها الحزن أيضًا.
في الخارج عاد “مُـحي” للبيت بنيرانٍ مُضرمة في قلبه وكأنه خيلٌ احترقت أمامه الأشجار فأصبح جامحًا بغير هدىٰ أو تعقل بل ظل يركض ويركض وكأن الميدان أنقلب فوق رأسه، كل شيءٍ صار بطرفةٍ عينٍ ووجد والدها يدخل الصيدلية وفي يده قطع الحلوى المغلفة وقال ببسمةٍ فرحة:
_في عريس جه اتقدم لبنتي يا دكتور، ولو حصل نصيب إن شاء الله الخطوبة هتكون كمان كام يوم بس على الضيق كدا، عقبالك يابني ربنا يكرمك ببنت الحلال ونباركلك أنتَ كمان.
رمى كلماته واكتفى بذلك ثم اختفى من المكان كأنه أتى كي يحرق قلبه بنيرانٍ لا تنطفيء، وضع في يده الحلوى ورحل كأنه يُكيده وليس فقط مجرد إخبارية سعيدة من أبٍ يسعد لابنته، وإنما الأمر كان مُغايرًا لذلك كله وكأنه يُعاند وليس إلا، رحل وترك خلفه قلبًا يشعر بالألم وكأن الصدر أنشق وغُرِسَت به خناجر طاعنة بغير شفقةٍ أو رحمةٍ، ولم يجد سبيلًا إلا الفرار من الحارة ويفر نحو بيته، ولج كما الإعصار المُدمر وأول من لمحه كان “تَـيام” الذي هرول خلفه بعدما انسحب من خلف البقية فوجده يدخل غرفته ثم صفق الباب خلفه بقوةٍ تبعها دخول شقيقه يسأله بقلقٍ:
_أنتَ جاي عامل كدا ليه؟ حد زعلك؟.
حينها أغمض جفونه وأطبقها فوق بعضها كي يطويهما فوق العَبرات ثم التفت يخبره بصوتٍ هادرٍ:
_”جـنة” جالها عريس وشكلها داخلة على خطوبة، حصل إمتى وأنا لسه واخد موافقة أبوك النهاردة وقالي خد معاد من أبوها وهاجي معاك عشان نتقدم؟ دا أنا ملحقتش أفرح إني نجحت وبدأت أفوق لحياتي علشان هي لما تدخلها تلاقي حياة نضيفة، ليه يا “تَـيام” دا أنا حطيت أملي كله فيها هي.
بدأ الحديث بقوةٍ واختتمه بقهرٍ، كانت نبرته منكسرة تزامنًا مع نظراته التي سردت ألمًا يعتمل به صدره، وقف أمامه شقيقه آسفًا على حاله ثم ربت فوق كتفه يؤازره بقوله:
_لسه متخطبتش ولسه محصلش حاجة علشان تضايق كدا، بعدين دي مجرد رؤية شرعية مش أكتر يا “مُـحي” ما أنا عارف من إمبارح ومش راضي أقولك علشان متزعلش، أنتَ عرفت إزاي؟.
سأله بحزنٍ لأجله وخيبة أملٍ كونه أخفى عليه هذا السر، فوجده يبتسم بقهرٍ ثم أخرج الحلوى المُغلفة من جيبه وقال بصوتٍ ميتٍ خلى من الحياة والروح يشير إلى الحلوى:
_من دي، أبوها نزل يديهالي وقالي إن بنته جالها عريس ولو حصل نصيب خطوبتها كمان أيام، تحس يا أخي إنه جاي ليا أنا علشان بس يقهرني مش أكتر، أفهم منها إيه دي؟.
والسؤال هُنا يتزاوى بين المعنيين سواء باطنيًا أو علنيًا، حتى تنهد شقيقه بثقلٍ ثم ربت فوق كتفه ما إن تأكد أن والدها يرفض شقيقه ويُصر على رأيه بشأن الخاطب الذي تقدم لها اليوم:
_تفهم إنها مش نصيبك يا “مُـحي”.
هكذا !! بكل تلك السهولة يتخلى المرء عن حُلمه وحياته في حياةٍ حفظها بين الجفن والرمش كي لا يغفل عنها ثم يتقبل فكرة أنها لم تكن يومًا له؟ هل الأحلام في المعتاد تضيع بتلك السهولة رغم أن المرء يُحارب لأجلها؟ وهل هي لم تجد فيه ما يجعلها تُصر عليه وتصطبر وإنما من مجرد فرصة وحيدة أتتها؛ تقبلتها ورضت بها؟ لمَّ على المرء أن يتحمل غُربة الأوطان، بل والأدهى لما من تُغربه هي الأوطان؟.
__________________________________
<“لكل القواعد استثناءٍ
إلا أنتِ استثناء كتبت لأجله قواعد”>
لكل قاعدةٍ استثناءٍ وهذا هو المعتاد..
لكن بعض البشر هم الاستثناء الذي ما إن نراه نكتب لأجله القواعد الخاصة به، قواعد لا تُقارن بما سبقها وإنما هي خصيصًا لمن يستحقونها، ولأن الشموس الغاربة يتبعها قمرٌ منيرٌ، فإن القمر اليوم يتوسط بيتنا..
المساء حل بعتمةٍ براقة وخاطفة زينها القمر المُكتمل في شهرٍ عربي بليلة المنتصف منه، وقد سقط الضوء على الحديقة وتسلل نحو الداخل في البيت وتلك الفتاة بمفردها تستأنس بمسلسلٍ من قديم الأزلِ وهي في المطبخ تقوم بتحضير السلطة، وقد تعجبت من وجود التلفاز هنا فضحكت بخفةٍ وهي تقول:
_هو “أيـوب” اللي أنا كنت فكراه على قد حاله بيتهم فيه تلفزيون في المطبخ؟ والله ما حد غلبان غيري أنا ودماغي تعبانة.
هكذا حدثت “قـمر” نفسها وهي تضحك على نفسها ولم تدرك أن ذاك المسكين قد حضر بالفعل ولأجل خوفه من فزعها وحُرمة هذا الفعل دينيًا، حمحم يلفت نظرها فوجدها تلتفت له وهي تسأله بتعجبٍ من حضوره:
_”أيـوب”؟ أنتَ هنا من إمتى؟.
وقف بجوارها يتكيء على حافة الرُخامة وهو يضيف بسخريةٍ وقد مال للأمام بجذعه:
_من ساعة “أيـوب” اللي كنتِ فكراه على قد حاله.
توسعت عيناها وأومأت موافقةً وهي تقول بجديةٍ لا تتناسب مع فحوى كلماتها التي أساسها كان هزليًا:
_يعني مش من بعيد يعني، بعدين أنا بقول الحق على فكرة، أول مرة شوفتك خالص كنت فكراك يعيني شاب غلبان وبتشتغل عند الحج، وهو بيحبك زي ابنه، بس أنتَ بتحب بنته وهي عندها ابن عم صايع بيحبها، فيلبسك في قضية أو يزق عليك بت رقاصة فتحبها وتخليها تتوب، دي حياة كنت رسمهالك في خيالي، دمرتهالي.
رفع حاجبيه مستنكرًا ثم اقترب منها ضاحكًا وقال بهمسٍ مراوغٍ قلما يظهر منه خصيصًا خارج حدود مسكنهم:
_طب ما تيجي نعتبر كلامك صح، ونقول إنهم ذقوا عليا واحدة وأنا بصراحة نفسي أخليكِ تتوبي، توبة نصوحة إن شاء الله، وأوعدك هكون شيخ مُراعي خالص.
دفعت كفه الذي حاوط وجهها ومازحته ضاحكةً وهي تُضيق جفونها عليه فوجدته يقترب هو ثم لثم وجنتها بهدوءٍ وحنوٍ لم يقطعهما إلا دخول والده ومناداته عليهما فابتعدت هي سريعًا عنه بخطواتٍ واسعة جعلته يضحك وهو يقول بسخريةٍ:
_كدا هيفهمني غلط خالص، الله يسامحك.
كتمت ضحكتها وعادت لما تفعله فيما جاوب هو النداء لوالده فولج لهما مُبتسمًا وضحوك الوجه والملامح وما إن رآهما سويًا؛ ابتسم لهما ثم قال مُتمنيًا بأملٍ:
_اللهم بارك، ربنا يبارك فيكم ويحفظكم ويفرحني بولادكم يا رب، بقولكم إيـه يلا علشان ناكل مع بعض، نفسي اتفتحت بصراحة وعاوز آكل معاكم، يلا شهلي يا حبيبة بابا، أكلك ريحته جايباني من أول الحارة.
ابتسمت هي له ثم بدأت في تحضير الطعام وقد عاونها “أيـوب” في غرف الأطباق ووضعها فوق الطاولة ثم التفوا حولها هم الثلاث وقد ضحك “عبدالقادر” ثم قال بتحذيرٍ:
_خدوا بالكم، أنا بحضرلكم حفلة شوي فوق السطح مع بعض كلنا بإذن الله و”آيـات” هتيجي كمان وهجيب الواد “يـوسف” بس يومين كدا لحد ما فرح “بـيشوي” يعدي.
أومأ له ابنه وهو يدعو له بدوام العافية والصحة، بينما “قـمر” فابتسمت له ولمعت العبرات في عينيها وهي تتذكر والدها الراحل وتشعر كأنها تُجالس نسخة أخرى منه، لذا مسدت فوق قلبها بحركةٍ خفيفة ثم عادت تشاركهم الحديث والطعام والمزاح والسُخرية وهي تشعر بدفءٍ يتسلل لقلبها بينهما وقد انتبهت لصوت حماها يأمر ابنه بنبرةٍ ضاحكة:
_بطل أنانية وأكلها هي، زود ليها فراخ خليها تاكل كويس.
ضحك له الآخر ثم أمسك الطعام بيده ومد كفه لها وقد ابتسمت هي بخجلٍ ولوهلةٍ كادت أن تمتنع عن تناول الطعام لكنه أوقفها بقوله الخبيث كي يواري نواياه خلف كلماته:
_اسمعي كلام بابا “عبدالقادر” بقى علشان ميزعلش منك.
أومأت بخجلٍ ثم تناولت الطعام بصمتٍ من بين أنامله وهي تضحك لهما وقد وجدت حماها يدفع بصحنٍ نحوها يأمرها بتناوله وهي بينهما مُدللة البيت كأنها الفتاة الوحيدة المولودة بين الصبية الصغار، ولم تدرك أنها لهم كما القمر الذي أضاء ليلًا مُعتمًا وآنس وحدتهما في هذا البيت.
__________________________________
<“كانت صدفة مررنا بها من هُنا فأصبحت حياة كاملة”>
صُدفةً مررنا من طريقٍ ولم نعلم أنه طريق النجاةِ..
فكنا نحسبه مجرد مهربٍ نرتكن فيه من قسوة طُرقاتٍ أصعب، فكنا حينها نُشبه الراكض فَـرًا من طريقٍ مُظلمٍ فولج لآخرٍ ظنه النهاية، لكن يبدو أننا غفلنا أن لكل نهايةٍ بداية جديدة، بداية تسرد الحكايا من جديد لكن تلك المرة تزداد نكهة النصر…
أنتهى عقد قران ابنة العم بسلامٍ وعادت العائلة بأكملها للبيت من جديد مع بعضهم، وقد شعرت “نِـهال” بالفرح كون زوجها أتى كي يُشاركها كما الجميع تلك المُناسبة، كانت ترفع رأسها بين الجميع بضحكةٍ بشوشة، وقفت كما الضلع الثالث بمثلثٍ أكتملت أضلاعه، والأهم في ذلك أنه كان اكتمالًا حقيقيًا وليس زائفًا كما كانت تدعي في السابق..
صعدت مع النساء للأعلىٰ وتركته هو بالأسفل مع الرجال في عائلتها، يضحك تارة ويصمت تارة ويعود لابنه بتركيزه وأكثر ما نال تركيزه هو تعلق ابنه الشديد بـ “مهدي” وابنته حتى أنه لم يتركه عند الصلاة وأداء الفرض، فانسحب من جلسته وأقترب منهما يقول بنبرةٍ أقرب للسخرية لكنها بشوشة:
_أنا نفسي أعرف سر العلاقة دي بينكم.
التفت له “مهدي” الذي يحمل ابنته ثم قال بنبرةٍ ضاحكة:
_واحد وحماه مع بعضهم، حضرتك هنا بتتدخل ليه؟.
رفع “أيـهم” كلا حاجبيه بسخريةٍ ثم اقترب يحمل الصغيرة التي ضحكت له وأسرته بوجنتيها المنفوختين بشكلٍ يجعلها مشتهاة في عين الناظرين حتى يُخيل لهم أكلها، كان جبينها مُزينًا بغرةٍ استقرت فوق جبهتها وحينها لثمها “أيـهم” ثم أخرج من جيبه ورقة مالية ودسها بجيب فستانها وقبل أن يعترض والدها أوقفه بنبرةٍ ضاحكة:
_واحدة وحماها، حضرتك بتتدخل ليه؟.
_قشطة، كله من المهر اللي عليكم.
هكذا رد عليه بزهوٍ وضحكٍ وقد ضحك “إيـاد” وهو يعلم أن هذا المزاح بينهما لن تصدق منه كلمة واحدة عند الكِبر، لكن الأمر في المزاح كان مفروغًا منه وكأنه فرض عينٍ عليهم، وقفوا معًا يضحكون ويتمازحون، وقد وقفت “نـوال” بالأعلى تشاهدهم من الشُرفة ثم أشارت لشقيقتها التي كانت تبدل ثيابها ثم اقتربت منها وهي تقول بلهفةٍ:
_في حاجة؟ بتشاوري ليه؟.
أشارت لها من جديد نحو الأسفل فنظرت الأخرى لتجد زوجها برفقة الآخر وهم يضحكون رفقة الفتاة الصغيرة التي كانت تُكركر ضاحكةً على حركات “أيـهم” معها وهو يرفعها ثم يُلثمها ثم يدور بها ثم يُلقيها لأبيها وهي راضية وضاحكة، تأثرت “نِـهال” فورما لمحته ثم تنهدت بقوةٍ وقالت بأسىٰ في حُلمٍ طال تحقيقه:
_للأسف “أيـهم” أب ممتاز أوي وحنين أوي مع الأطفال، نفسي أشوفه وهو أب لطفل صغير من تاني هيتعامل معاه إزاي، ويا سلام لو الطفل دا يكون مني أنا، والله مش عاوزة غير بس الحلم الصغير دا، الأمل وحش أوي لو طال وقته ومتحققش، وأصعب حاجة إن الإنسان يعشم نفسه باللي مش ليه، ياريتنا كنا نعرف إذا كانت الأحلام دي تليق معانا ولا لأ.
ربتت الأخرى فوق ظهرها وهي تقول بنبرةٍ حانية:
_هيتحقق، والله هيتحقق وهتكوني أحسن أم في الدنيا كلها، مش يمكن ربنا رايد ليكِ التأخير دا كله علشان قبل كدا مكانش هينفع؟ تخيلي وضعك الأول لو كنتِ جيبتي عيل وعيشتك معاهم كانت كدا؟ ولا كان حصل معاهم مشاكل كبيرة وأضطريتي إنك تمشي ومعاكِ عيل على كتفك، إنما دلوقتي ربنا بيعوضك، الأول حياتك تستقر بعدها “إيـاد” يتعود عليكِ، بعدها ربنا يكرمكم بحتة عيل صغير، وتحققي حلمك، رغم إن الله أكبر يعني جوزك متفهم وربنا يكرمه بكل خير، وكفاية إنه رجع وشك تاني ينور لينا وضحكتك تنور وشك.
ابتسمت هي لها بحبٍ وقد ترقرق الدمعُ في عينيها وقبل أن ترد عليها وجدت شقيقتها الكُبرى تقول بتهكمٍ لاذع أقرب للتقليل من شأن تلك الزيجة:
_والله يا “نِـهال” أنتِ غبية وساذجة أوي وداخل عليكِ شغل الهبل دا كله؟ يا حبيبتي هو بيستغلك بس علشان أنتِ مجرد دادة عند ابنه مش أكتر، مفيش حب ولا الكلام دا، والرجالة بالذات في الجوازة التانية بيكونوا طماعين وأنانيين علشان بيكونوا خلاص خدوا خبرة، وهو تلاقيه فرحان إنك بترعي ابنه وقايمة بدورك كويس، غير كدا تلاقيه سوسة أصلًا.
التفتت لها بحدة وهدرت في وجهها بصوتٍ عالٍ:
_أنتِ بتقولي إيه؟ أوعي تجيبي سيرته بالكلام دا تاني، حرام عليكِ تشيلي ذنب ظلمه كدا وافتراكِ عليه بكلام زي دا، دا بدل ما تفرحيلي إني ربنا كرمني وعوضني بحياة كان نفسي فيها؟ شايفة بس إني مجرد خدامة مش أكتر؟ العيل اللي ربنا رضاني بيه وقبلته عوض من الدنيا كلها، أنتِ حسباه مجرد واحد بخدمه؟.
كانت مذهولة بالحديث الذي رمتها به أختها دون أن تكترث بما تحمله من وجعٍ في مشاعرها، وقد ردت عليها الأخرى بغير اكتراثٍ لما تُعانيه:
_والله كلنا هنا شايفين كدا، عيل بتأكليه وتحميه وتذاكريله وتهتمي بيه وبدأتي تنسي حياتك وحطاها كلها في حتة عيل بس ومش بس كدا دا جاي هنا زيه زي الباقي كأنه من عيال العيلة؟ زيك زي الهبلة اللي جنبك دي، خدها البيت عنده وقالك بحبها وفي الآخر بتخدم أمه وأخواته، وفي الآخر كله باسم الحب، جتكم خيبة.
شعرت “نِـهال” بالنيران تتقد بداخلها بسبب كلمات شقيقتها فردت عليها بصوتٍ عالٍ هي الأخرىٰ تردع تكملة الحديث منها:
_وأنتِ علشان أنانية وطماعة فاكرة الحياة كلها فلوس وبس يا “نِـهاد” وخلاص كدا، متعرفيش يعني إيه مشاعر ولا ناس بتحس، فاكرة لما جيت أتطلق أول مرة؟ كان كلامك إني غبية وغلطانة وقليلة الأدب علشان هما حقهم يفرحوا بعيال ابنهم، ولا مرة خلتيني أحس إنك أخت كبيرة حنينة علينا، زي ما برضه أهم حاجة عندك عيالك هنا ياخدوا حقوقهم، وجوزك كلنا نحترمه ونسمع كلامه، وأنتِ هنا تعيشي دور الكبيرة علينا، وإحنا نولع بقى، ملناش أي لازمة هنا، ربنا يهديكِ يا ستي، بس والله العظيم أنا “إيـاد” عندي أغلى وأعز من عيالي حتى لو خلفت، وأعز من عيالك اللي أنتِ بتمنعيهم عني علشان بتخافي أحسدهم.
وتلك هي الحقائق المخبوءة، أو رُبما تبدو مخبوءة، فهي تعلم ما تضمره شقيقتها في سريرتها لها، وتعلم أن الأمر لن يُشكل لديها فارقًا في الأمر، لذا قررت أن تنسحب فبدلت ثيابها سريعًا وكل ما تتذكره هو حديث “أيـهم” حينما أخبرها عن نظرة الجميع لعلاقتها بابنه، وما إن أنتهت أمسكت هاتفها تخاطبه بصوتٍ مختنقٍ:
_”أيـهم” أنا جهزت خلاص، يلا علشان نروح.
تعجب هو من النبرة ومن الطريقة لكنه استشف الألم في صوتها فتنهد بثقلٍ ووافقها ثم أخبر ابنه أن يتجهز كي يرحل معه من البيت، وبعد دقائق بداخل السيارة جلست هي وشقيقتها “نـوال” التي آثرت الرحيل معها ومعهم رحل زوجها أيضًا، لتنتهي أيام أنسهم وسمرهم بسعادةٍ لم تكتمل.
__________________________________
<“اليوم أعانق النجوم في السماء العالية”>
كل البشرِ يطمحون بالوصول لنجوم السماء..
ورغم ذلك لا يحاول أحدهم أن يفعلها، فقط هُم قلة قليلة من يحاولون ويحاربون للوصول لما يريدون، واليوم هناك قَلبٌ يشهد لمعة نجوم السماء بعدما فعل ما بوسعه كي يصل..
في اليوم الموالي بعد الغروب..
بدأت أبواق السيارات تعلو وترتفع بالحارة وفي المقدمة يجلس “بـيشوي” فوق مقدمة سيارته بمللٍ وهو ينتظر نزولها من شقة والدها، جلس قرابة النصف ساعة وبجواره جلس كلًا من “أبـانوب” ابن شقيقته و “إيـاد” ابن رفيقه فزفر هو بحنقٍ ثم قال باحتجاجٍ صريحٍ:
_يا جدعان زهقت، أومال هتجوز إمتى؟.
امتد كف “أيـهم” من الخلف بشبه صفعةٍ فوق رقبته ثم هتف من بين أسنانه بحنقٍ:
_ما تصبر بقى يا زفت، هانت.
زفر “بيشوي” بحنقٍ وماثله “يـوساب” الذي وقف في أوج حماسه كي يلمح حبيبته، وقفا سويًا في الانتظار حتى أتت البشارة بحضور “آيـات” ومعها “قـمر” ومن خلفهما ظهرت “مهرائيل” تُضاهي نجوم السماء بلمعتها، كانت ترتدي فستانًا ناصع البياض، محكم الإغلاق فوق جسدها، استقرت غُرتها الشقراء فوق جبينها الأبيض، هي حقًا كانت نجمة بعيدة عنه والآن هو يرتقِ كي يصل لتلك النجمة..
خضراوتاها كانا سبيلًا للحياة، وقف يتابعها بعينيه وهي تقترب منه حتى وقفت في منتصف مدخل البيت تُطالعه بعينين مُبتسمتين ووجنتين حمراوتين بخجلٍ كاد أن يردها قتيلة أمام جرأة عينيه وهو يُتابعها بنظراته المُشتاقة، وقد اقترب منها يُلثم جبينها متخطيًا بذلك كل الحدود المعقولة والغير معقولة ثم أضاف بنبرةٍ ضاحكة:
_صبرت ونولت يا ابن “تـريز”.
ضحكت على جملته ثم تركت له كفها يُشبك بكفه وتحركت معه نحو السيارة وأمها من خلفها تطلق الزغاريد وشقيقته “ڤـيولا” معها أيضًا وزوجها يحمل ابنته وهو يضحك عليها، وقد أتت “مـارينا” بفستانها الأبيض الكريمي المنساب فوق جسدها بإحكامٍ وحررت خصلاتها من كل قيدٍ والتفتت تبحث عن خطيبٍ يفصلها عن تتمة زواجها منه فقط دقائق..
وبعد مرور دقائق في حفلٍ بسيطٍ شهدته الحارة بأكملها، حيث الألعاب النارية التي قاموا الشباب بإشعالها، وأبواق السيارات المُرتفعة باحتفالٍ صاخبٍ حيث مقر الكنيسة التي ستتم بها مراسم الزواج، وقد تحرك كلًا من “يـوسف” و “أيـوب” بجوار بعضهما سيرًا على الأقدام حيث الكنيسة وقد سبقم البقية للداخل فيما ظل “أيـوب” يُتابع المباركات وجاوره “يـوسف” بصمتٍ حتى التفت له يسأله بنبرةٍ ضاحكة:
_هتفضل ملازمني كدا؟ أدخل لو عاوز.
طاف “يـوسف” بعينيه في المكان ثم عاد واستقر عليه بنظراته وأضاف بصدقٍ حاول أن يواريه خلف كلماته:
_خليني معاك، مش عاوز أسيبك لوحدك.
ضحك له “أيـوب” ثم قال بنبرةٍ هادئة بعدما تحكم في ضحكته:
_طب حيث كدا تعالى معايا نوصل العشا لشقة العريس علشان والدته ملحقتش، وبعدها نشوف هنروح فين.
وفي الداخل بدأت المراسم لتكملة الإكليل المُتمم للزيجة وقد تم أولًا إكليل كلًا من “بيشوي” و “مهرائيل” التي وقعت باسمها فوق العقد لتتم الزيجة أخيرًا، وحينها ضمها “بيشوي” بقوةٍ لمرته الأولى بحياته، عناقه لها الآن يختلف عن عناقه لها بعينيه، لقد أصبحت حقًا ملموسًا له بين يديه وهو يحاول تذكر متى وقع في حُبها، اليوم كأن النجوم في السماء تُرحب به ينل واحدةً من بينهم، أو كأنما حصل على مفتاحٍ يوصله لسردابٍ لا يجد في نهايته إلا الطريق المؤدي لها، كانت تعكص خصلاتها بدائرةٍ دوامية وفوقها استقر تاجٌ من الزهزر الألماسية الزائفة، وعيناها تنطق فتنةً جعلته يعود ويركز بصره عليها ثم قال بصوتٍ ضاحك:
_بقيتي ليا؟.
_بقيت ليك ومعاك وعلشانك.
هكذا أكدتها له من بين خجلها، لتجده يضمها من جديد وتلك المرة لن يتراجع أو يتنازل عن حقه بها، تلك المرة هي له ومعه ولأجله وهُنا سيغلق كتاب حكايته عند النهاية السعيدة التي لاذ فيها البطل بالحياةِ المرغوبة، سيغلق كتابه عند ضحكة البطل السعيد، وعند التقاء حبيبين وقفت بينهما الصعاب، وخلف كل ذلك وقف “جـابر” يرمقهما بنيرانِ أبٍ يشعر بالقهر أن هناك من أتى يستولى على حقه..
دقائق مرت وتلاها فيها إتمام إكليل “يـوساب” و “مـارينا” ليتم إعلانهم زوجين إلا من إتمام المراسم الأخيرة، وحينها هي من كانت تنتظره كي ترتمي عليه، أرادت أن تأمن في حضرته وصحبته وما إن اقترب منها، ضحكت بخجلٍ حينما وجدته يقول بضحكةٍ واسعة:
_الشهادة لله صغيرة بس نينچا.
أنهى جملته ثم ضمها بين ذراعيه أمام الجميع ثم هتف بنبرة هامسة في أذنها خفيةً عن البقية:
_من النهاردة أنا وأنتِ واحد، اللي تحلمي بيه هيكون عندك، زي ما أنا حلمت بيكِ وأنتِ حققتيلي حلمي كدا.
ولا عزاء لوالدٍ أدرك أن خسارته باتت فادحة، فهو الآن أمام خسارةٍ لم يُسبق له أن يشعر بها، هو الآن يقف عاريًا وسط الخلائق وكأن فتاتاه هما من كانتا يستران عراء روحه، وقف بعينين متحجرتين وفرحته تُكابد كي تظهر، وبين هذا وذاك خرج خلف آخر الحاضرين لكن زوجته أتت تجاوره وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_افرح لبناتك يا “جـابر” دول مع ولاد أصول.
أومأ لها بصمتٍ ثم تحرك معها، لكن مافي القلب ظل كما هو، رُبما يتغير، ورُبما يتبدل، لكن ما بين الحقيقة والخِبال عقل يعجز عن الفكر.
__________________________________
<“كُلٌ يُسقى مما سقى، والعِبرة بالخواتيم”>
العِبرة دومًا بالخواتيم والنهايات..
وكلٌ يسقى بما سبق وسقى، كُلٌ يعود عليه ما سبق وقدم من فعلٍ، فمهما ضحك كثيرًا فرحًا بما لقاه غيره من بشرٍ، من المؤكد أنه سيبكِ في النهاية حُزنًا على حاله قبل الآخرين، سيثير الشفقة نحو نفسه قبل أن يُثيرها لدى الآخرين، سيقف أمام المرآةِ عاجزًا عن معرفة نفسه حتى..
قضت يومين كاملين في الترفِ والرخاء، ومن ثم أنتقلت أمسًا إلى هُنا، حيث واحدةٍ من دول الخليج العربي، بدت كما القروي الساذج الذي أبهرته أضواء المدينة، فانبهرت بالمكان وبما وصلت إليه من أحلامٍ حققتها أخيرًا، فهي الآن مع زوجٍ يعطيها كامل حريتها بلا قيودٍ أو شروطٍ، سافرت وعاشت حياتها كما تمنت، تخلت عن كل من كان يُعرقل سير خطواتها، حتى لو كان جزءًا منها، باعت النفيس حقًا، لكنها الآن مع الأغلى والأعلى سعرًا..
وتلك هي “أمـاني” التي وقفت في الشرفة تتابع الأبراج العالية من حولها وقد تعجبت من تغير البلد فجأةً، فبدلًا من الذهاب لشبه الجزيرة العربية، أنتهى بها المطاف في إمارةٍ من الإمارات العربية، كانت تبتسم بحالميةٍ حينما تذكرت اليومين السابقين مع زوجها، وكيف دللها لحدٍ مبالغٍ فيه جعلها تهوى صريعة في عشقه وتعطيه كل مفاتيحها.
صدح صوت هاتفها الجديد وقد استغرق الأمر منها ثوانٍ كي تلتقط الصوت وتنتقل كي تجاوب فوجدته يقول بنبرةٍ يملؤها الشجن وهو خارج البيت:
_عاوزك تجهزي نفسك وتلبسي حلو علشان نسهر مع بعض سهراية حلوة زيك كدا، عاوزك تحضري نفسك وأنا نصاية وهكون عندك، بس بسرعة يا حبيبتي علشان ماجيش أنام منك.
ضحكت هي بصوتٍ عالٍ وضحكتها أبدًا لم تكن بريئة، وإنما هي تعلم فنون الإغواء جيدًا ولم تفشل بها إلا مع ذاك الذي سبق وتزوجته وأخبرها ذات يومٍ أنها لم تعد تؤثر فيه بشيءٍ كي يعود لحبها، بالله لو رأى كيف يعاملها هذا لكان ندم أشد الندم على التفريط بها؛ هكذا فكرت هي حينما تحركت كي تقوم بتحضير نفسها لمجيء زوجها، وفي سريرتها كانت تشكر اللُعبة التي أوقعتها في طريقه كي تختبر تلك الحياة التي سمعت عنها الكثير ولم تدركها حقًا..
أقل من نصف ساعة وصل بهدها الشقة وهو ينادي عليها وهي طلت أمامها بثيابها الكاشفة وخصلاتها البنية المصبوغة حديثًا، وزينتها كامرأةٍ تُجيد الظهور جيدًا كانت تصرخ للتعبير عنها، فوجدته يبتسم لها ثم فتح الباب وأشار لأحدهم بقوله خاضعًا وخانعًا:
_أتفضل يا شيخنا، أتفضل يا أمير، نورت البيت.
توسعت عيناها من غباء فعله وقبل أن تبحث عن شيءٍ تقوم به بستر جسدها وجدت زوجها يقترب منها ثم أشار عليها كما البضائع المعروضة في محلٍ مكشوفٍ للعابرين:
_إيه رأيك فيها بقى؟ حاجة كدا الله ينور مفيش منها، والسعر حنين ومش هنختلف، شوف أنتَ مزاجك وعنينا ليك باللي تؤمر بيه.
وهُنا كُتِبَت النهاية لا محالة، فمن سبق وباع النفيس وظن نفسه يستبدله بكل ما هو غالٍ، الآن يُباع هو ويُذل كما الماشية في سوقٍ وياليتها حتى ارتقت لتلك المكانة، وإنما هي مثل نساء الرِق بأسواق العبيد، فأي لعبةٍ تلك التي أوصلتها إلى هُنا، إلا لو كانت لعبة الموت…
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)