رواية غوثهم الفصل المائة والرابع عشر 114 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة والرابع عشر
رواية غوثهم البارت المائة والرابع عشر
رواية غوثهم الحلقة المائة والرابعة عشر
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل التاسع وعشرون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
الله كان ولا شيءٌ سواه..
الله كان ولا شيءٌ سواه
بلا بدءٍ.. ولا مُنتهىٰ.. بلا بدءٍ ولا مُنتهىٰ..
ربٌ عبدناه…إن ضاق أمرٌ دعوناه..
إن ضاق أمرٌ دعوناه
وإن نزلت بنا الشدائد عن قُربٍ سألناه
يا سالكين إليه الدرب لا تقِفوا
طابَ الوصول لمحرومـٍ تمنّاهُ
يا ربّ يا خير مأمولٍ
وأكرم مسئول ..
وأعظم مقصودٍ قصدناهُ..
_”نصر الدين طوبار”
__________________________________
لأول مرةٍ أرى في حياتي أن هناك أسمٌ يقارن وصفًا..
فكلما نطقتها بطرفي توهجت العين بطرفها وكأنها تقسم أن الحروف تحمل نفسه وصفها، فأنا من أتيتُ إليكِ عاصيًا على شفا حُفرةٍ من أبواب النار، ألقيت بنفسي في الهاوية وتركتها للدمار وكأنني أُضحي بنفسي ورميتها بالإعصار، ولم أفكر يومًا بالتوبةِ ولم أرىٰ إلا خريفًا هَلكَ الأشجار، أنا من ظننتُ نفسي العاصي الوحيد في الأرض ولم تُكتَب لي سوىٰ النار، فرأيتُ نصب عيني “جَـنةً” حوتني بين مُقلتيها وكأنها الربيع من بعد الدمار..
فربيع عمري آتٍ لا محالة إن تاب عاصيٌ مثلي وليس في ذلك استحالة، فلقد كررها أبي على سمعي أن المرء وُلِدَ كريمًا، وإن لم يُكرم نفسه فمع كل البرايا سيكون لئيمًا، فتلك المرة قررت أن أكرم ذاتي ونفسي وأصبح بها رحيمًا، وأتوب عن طريقٍ امتلأ بالفِتنِ وأنعم بفتنةٍ واحدة، فتنة اسمها خُلق بوصفها وغَوت بالحُسن عاصيًا، فلم يعد سوى من بعد نظرةٍ عن كل مسالك الهوى والفِتن تائبًا..
<“مرة واحدة فقط أترك للعقل فرصة، لا تكن همجيًا”>
في بعض الأحيان لم تكن كلماتٍ..
بل هي طعنات، طعنات تمزق بلا شفقةٍ ولا رحمةٍ وتصيب الهدف بداخل صميم الروح المجروحة لتدمي جراحها أكثر، ومن يعلم فرُبما لو وضِع كلٌ منا بمكان الآخر لصرخ من كثرة الآلام والوجع، فمن تظنه أنتَ تحمل وقاوم، قد يكون هو المقتول الوحيد هُنا…
_أنتَ علطول مش بتصدقني ولما بكلمك بلاقيك محتاج دليل بس أنا المرة دي جيبتلك الدليل واسمعه بنفسك أهو..
رافق رسالة “سـامي” تلك تسجيلٌ صوتي جعل “نـادر” يقوم بفتحهِ حائرًا ورُبما خائفًا ليجد ما خشى أن يجده حيث كانت الرسالة الصوتية راجعة لـ “يـوسف” وهو يقول بإنفعالٍ:
_عاوز إيه يا “سـامي”؟ زعلان أوي على حفيدك؟ آه يا سيدي سقطتها وآه زقيتها حِل عن دماغي بقى وشوفلك حد تاني ترازي فيه غيري.
توسعت عينا “نـادر” بصدمة جلية فوق ملامحه وكأن هناك يدٌ أمتدت لقلبه تعتصره وهو يستمع للآخر يُدين نفسه بتلك التُهمة وحينها شعر كأن الأرض تميد به، فبالطبع “يـوسف” لن يفعلها ويتسبب في إيذاء طفله؟ لكن هل يُعقل أن يكون إنتقامه أعماه لذلك الحد حتى ينتقم من طفلٍ صغيرٍ لازال برحم أمـه؟ بالطبع لن يفعلها ويُخرج إنتقامه من صغيرٍ، وقد توقدت النيران أكثر وأصبح مثل غليون التبغ المُشتعل وكأن أحطاب الأرض بأكملها مُقادة فوق رأسه..
لاحظته أمه التي كانت تجاوره وقد وصلها الحديث فهتفت بنبرةٍ متأرجحة بين الألم والقوةِ وكأنها تُعطيه ما تعجز دومًا عنه هي:
_مش هينفع، صدقني محصلش ولا عمره يحصل منه حتى، متخليش أبوك يأثر عليك ويخليكم تاكلوا في بعض عيني عينك كدا، أكيد أبوك استغل اللي حصل دا ولعب بطريقته، بالله عليك تسمعني ومتعملش زي كل مرة وتصدق إنه ممكن يأذيك بالطريقة دي…
تهدج صوتها وهي ترجوه ألا يُصدق تلك المرة ما قيل له عن ابن خاله وقد تنهد هو بقوةٍ ورفع كفه يمسح فوق وجهه بعنفٍ ثم هتف بنبرةٍ جامدة رغمًا عنه:
_مش هعمل حاجة بس هواجه، أعرف على الأقل قال كدا ليه، بعدين ليه محسساني إنه هروح أهبش في رقبته كدا؟ أنا عاجز لو مش واخدة بالك، حتى لو كنا مقاربين لبعض في القوة، فهو حاليًا يقدر يغلبني عادي جدًا، مبقاش فيا خبطة واحدة ولا زقة حتى، بس أوعدك مش هعمل حاجة تضر حد.
استشفت الألم في عينيه ونظراته رغم محاولته لإخفاء كل ذلك بينما هو فنكس رأسه للأسفل وهو يشعر بالألم ينخر في نحرهِ حيث أضحىٰ لا يُحتمل، وكأنه كُلما تذكر أمر ابنه شعر بالغصة في حلقهِ والألم في روحه، وحينها لأول مرةٍ منذ ما يقرب العشرين عامًا تخونه عبراته وتظهر في العلن..
ضمته حينها “فـاتن” تمسح فوق ظهره روحةً وجيئة وهي تواسيه وقد هتفت بصوتٍ جعلته ثابتًا قدر المُستطاع:
_متزعلش نفسك يا حبيبي، ربنا يعوض عليك ويكرمك ويرزقك بالذرية الصالحة، أصبر وأحتسب دا أجر كبير عند ربنا، ربنا يعوض قلبك، يمكن دا درس ليك تتعلم منه، والله لو الظروف تسمح كنت خليت “أيـوب” يتكلم معاك، دا كلامه بيريح القلب وعلطول عنده حكمة لكل الأمور، بس الظروف مش سامحة ولا هيبقى ليا عين أكلمه حتى.
تنهد “نـادر” بأنفاسٍ مُتقطعة ثم أغمض عينيه وهرب من واقعه داخل فجوة زمنية أخرىٰ مقترنة بماضٍ أليمٍ كان يدفع له كل ثمنٍ يملكه حتى ينساه ولازالت الذِكرى عالقة في حواف العقل..
(منذ عدة أعوامٍ)
بعد وفاة “مصطفى” كان “نـادر” يبكي في غرفته على فراق أحبائه، تلك الأسرة التي منحته كل عطفٍ ورفقٍ وشعر وسطهم بآدميته وهو يتلقى المُعاملة الحَسنة منهم على عكس والده الذي يعامله كما لو كان حيوانًا يقدم الولاء فقط دون أن يحق له التمرد، وقد خرج من غرفته على صوت صراخٍ بالخارج حيث كان “يـوسف” الذي أنتقل للجلوس معهم يصرخ باكيًا وهو يُنادي على والده ولم يُسكته إلا هجوم “سـامي” عليه يسحبه من تلابيبه ثم هتف بنبرةٍ هادرة:
_لو سمعت ليك نفس أنا هخليك تروح لأبوك بدل ما توجع دماغنا، وشغل الجنان والهبل بتاعك دا أنا مش ناقصه، تقعد هنا بأدبك وبلقمتك زي الكلب، ولو قربت من “نـادر” أو فكرت تطلع أوضته أنا هقطعك بالحزام، عمك وعمتك راحوا مشوار وزمانهم جايين لو فتحت بوقك بحاجة ليهم أنا هرميك في الشارع تبقى شحات هناك، سـامع؟.
دفعه فوق المقعد ليسقط عليه ولم يراع ذاك الصغير صاحب الأعوام القليلة الذي فقد أسرته بالكامل وأضحىٰ شريدًا في أرجاء المدينة القاسية، وقد وقف “نـادر” يراقب والده من فوق الدرج بعينين مُتحجرتين لم يمسهما الحِراك وقد لاحظ تحرك والده نحوه فركض نحو غرفته خوفًا من بطشه وجلس يتنفس بأنفاسٍ لاهثة فوق الفراش وحينها فُتِح الباب وأقترب منه والده بخطواتٍ عنيفة ثم سحبه من فوق الفراش يضغط فوق ذراعه هادرًا بعنفٍ أعمىٰ:
_اسمع !! لو شوفتك مع “يـوسف” ولا قربت منه أنا هقطع جسمك بالحزام، مالكش دعوة بيه خالص، هو قاعد هنا علشان مفيش مكان يقعد فيه خلاص، وعاوز ياخد كل حاجتك ولعبك ولبسك، دي حاجتك أنتَ ومحدش يحقله ياخدها منك، فـاهم !!.
أومأ حينها موافقًا بخوفٍ دون أن ينتبه أن والده يستخدم عقله الصغير كسلاحٍ لصالحهِ ولم يعي أنه يزرع الكره بداخله والأنانية تجاه الآخر، وقد استمر الوضع على ذاك المنوال حيث يزرع في نفس كليهما الكُره تجاه الآخر حتى بات النفور والبغض هما وسيلة التعامل فيما بينهما..
(عودة إلى تلك اللحظة)
كان تفكيره دومًا يُشبه سياسة اليهود الطواغيت، حيث يسير بمبدأ “فـرق تَـسُد” وما إن فرق بين الأخوة واستطاع أن يتوغل بينهما زارعًا كل أفكاره المشئومة والكريهة ومن ثم سَهُل عليه أن ينفرد بكلٍ منهما وهو يُحقق أهدافه، لكن مهما مكر المرء ومهما زاد مكره فلم يقف أمام إرادة الخالق في شيءٍ وهو الذي إذا أراد شيئًا قال له كُن فيكون..
__________________________________
<“كان أمل كل المُحبين البقاء، وأنا آمل منك اللقاء”>
في تلك اللحظات التي يدق بها الفرح بابك استمسك بها ولا تتركها تذهب هباءً، أجعلها ذكرى ساكنة وليست مُفارقة فمن يعلم هل ستعود بنفس القوة، أم ستفارقك من جديد؟..
في حارة “العـطار”..
بحلول منتصف الليل كانت الأجواء ممتلئة بالفرح بعد رحيل الشابين معًا والإتفاق على كل شيءٍ بخصوص زيجة “ضُـحى” و “إسماعيل” وحينها حضر “يـوسف” بينهم سعيدًا لأجل فرحة رفيقه وأخته، وحينها ظل على تلك الحالة وهو يتذكر الهُدنة التي أقامتها “عـهد” بينهما طوال اليوم وهي تحدثه وتشاركه فرحته وهي في عملها حتى عادت إلى البيت..
صعدت فوق السطح بعد تناولها الطعام وتبديل ثيابها ثم قررت أن تقوم بترتيب المكان وحينها قامت بتشغيل هاتفها وقامت بتوصيله في السماعة الكبيرة ليرتفع الصوت أكثر ويكسر صمت الليل وسكونه ظنًا منه أنه خلد لنومه، وقد تحركت تمسك أدوات التنظيف لتزيل الغُبار العالق فوق الأرائك والمقاعد والصوت خلفها منذ عدة سنواتٍ قديمة تُذكرها بوالدها الذي كان عاشقًا لكلمات الشيخ إمام وكانت هي تُدندنها معه فوق سطح بيتهم القديم:
_أنا أتوب عن حُبك أنا؟
أنا ليا في بُعدك هنا؟
أنا أتوب عن حُبك أنا؟
أنا ليا في بُعدك هنا؟
دا أنا بترجاك الله يجازيك،
يا شاغلني معاك وشاغلني عليك..
أنا بترجاك الله يجازيك،
يا شاغلني معاك وشاغلني عليك..
ابتسمت ما إن لاح طَيفه أمام عينيها وكأن الحديث أتى كرسالةٍ متوارية أرادت أن تخبره بها بينما استأنفت عملها من جديد وهي تبتسم وتتذكر والدها وحبيبها والكلمات خلفها:
_وإن غيبت سنة أنا برضه أنا..
إن غيبت سنة أنا برضه أنا
لا أقدر أنساك ولا ليا غِنا..
لا أقدر أنساك ولا ليا غِنا
ولا أتوب عن حُبك أنا..
عند هذه الكلمات وصلها وقع خطواته المميزة فوق الأرض ثم أقترب منها يضمها من الخلف وهو يعقد كلا ذراعيه فوق خصرها ثم رمىٰ رأسه فوق كتفها بحركةٍ إنسيابية ثم هتف بنبرةٍ ناعمة برغم قوة عمقها:
_والله لو العُمر كله هغيبه عنك مش هيردني غير شوفتك وشوفة وشك الهَني، الحُب دا نعمة وذنب كبير على اللي يجحدها، خصوصًا لو كانت النعمة دي رحمة للقلوب.
أبتسمت بنعومةٍ وصوته يتوغل لداخل أذنها بذاك العُمق وقد استدارت بين كفيه القابضين فوق خصرها وهي تبتسم بعينيها له وتحتويه بين جفونها وحينها توسعت بسمتها أكثر عند وصول بقية الكلمات لهما فلم تشعر بنفسها إلا وهي تسأله بلهفةٍ:
_تغني معايا؟.
ضيق جفونه بتعجبٍ وهو يقرأ تعابيرها المنبسطة فوجدها تبدأ وهي تحثه برأسها أن يُكمل معها فابتسم لها وبادر وهما ينطقان سويًا بنبرةٍ هادئة مُتناغمة:
_دا أنا عمري ما أخاف من هجرك يوم
ولا قلبي بيفرح ولا وياك
دا أنا عمري ما أخاف من هجرك يوم
ولا قلبي بيفرح ولا وياك..
وإن كان أمل العشاق القُرب
أنا أملي في حُبك هو الحُب..
إن كان أمل العُشاق القُرب
أنا أملي في حُبك هو الحُب.
_وإن غيبت سنة أنا برضه
إن غيبت سنة أنا برضه أنا
لا أقدر أنساك.. ولا ليا غِنا
لا أقدر أنساك.. ولا ليا غِنا
ولا أتــوب عن حُبك أنا.
أنهيا الغناء سويًا حتى ضحكت هي بسعادةٍ كُبرى حينما ذكرها بوالدها وأحيا تلك الذكرى بمشاركته الهادئة معها ففعلت كما كانت تفعل وأرتمت تحتضنه وكأنها تراه بصورة الأب في تلك اللحظة وحينها ضمها بعدما تلقفها بين ذراعيه وهتف بنفس النعومة المراوغة:
_حبيب عيوني.
دوىٰ صوت نبضات قلبها سريعًا ما إن أدركت الموقف ككلٍ حتى أبتعد هو عنها يمسح فوق وجنتها ثم هتف بنبرةٍ رخيمة وصادقة مثل صدق عينيه:
_وحشتيني أوي ووحشتني الراحة دي في عيونك، والله لو أقدر أوقف الزمن هنا وكل حاجة قدامك أنا مش هبخل عليكِ، بس أنتِ أكرم من إني أتكرم عليكِ بأي حاجة.
أراحت رأسها فوق صدره وهي تقتبس جزءًا من الأمان المفقود بغيابه عنها وسكتت كُليًا بينما قلبها صرح لقلبه بكل شيءٍ وحينها هتف يُمازحها بقوله:
_حاسس إن فيه حد طالع ويا حظها لو أمـك.
كان يتوعد بشرٍ خفيٍ لها لكن “عـهد” هتفت بصوتٍ مكتومٍ حينما أشرأبت برأسها تُناظر الزائر:
_دي أمـك أنتَ.
استشف الإهانة في حديثها فابتعد عنها يهتف بتهكمٍ:
_ما تّظبطي إحنا هنقَبح ولا إيه.
حركت رأسها نفيًا بخجلٍ وهي تقول بإحراجٍ من أمه:
_والله العظيم دي مامتك بجد، لف كدا شوفها.
توسعت عيناه وهتف مستنكرًا بنبرةٍ عالية:
_”غَـالية”!!.
أنهى كلمته تزامنًا مع إلتفاته لها فوجد زوجته تنسلت من بين ذراعيه و ثم سحبت هاتفها وجاورت حماتها وهي ترمقه بخجلٍ بينما أمـه فأبتسمت له وهي تقول بتكهنٍ زائفٍ:
_أنا لقيتك سحبت نفسك قولت آجي أونسك، معرفش إنك متونس بزيادة يا حبيب عيوني، طب قولي وفطمني بدل ما آجي أقطع اللحظات السعيدة دي.
رفع كفه يُمسد لِحيته وهتف بنبرةٍ ضاحكة:
_كُلك نظر والله.
رفعت حاجبيها له تسخر منه بملامحها ثم قبضت على كف “عـهد” وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة حينما رآت نظرات ابنها نحوها وكأنه يُطالبها أن تتركها دون أن يُصرح بها:
_تعالي يا حبيبتي البنات تحت مع بعض فرحانين وسهرانين علشان خاطر “ضُـحى” تعالي معانا ومامتك جاية هي و “وعـد” خليه يتونس بضوء القمر.
كتمت “عـهد” ضحكتها وسارت بجوار أمه بينما الأخرى مالت عليها تهتف بتهكمٍ مُشيرة إلى سابق قول الأخرى:
_أنا أشد وأنتِ أرخي ها!! جتك خيبة في خيبتك.
ضحكت “عـهد” بغلبٍ على أمرها وهي تقول بيأسٍ:
_ما أنا بحبه طيب أعمل إيـه؟.
نزلت الاثنتان بجوار بعضهما وهو في الخلف يحاول التماسك أو إخراج إنفعاله بعد إفساد أسعد اللحظات وقد قرر أن يقوم بما كانت تفعله هي ويقوم بتنظيف السطح وقد قام بخلع قميصه وألقاه بعيدًا ثم بدأ في التحرك على غِرار حركتها السابقة..
__________________________________
<“الخطأ خطئي في حق نفسي،
لم يكن هناك ذنبًا للآخرين”>
بعض الكلمات تبقى حيرةً لأمر صاحبها..
فكتمانها بداخله يؤلمه وإخراجها يقتله، فيصاب حينها بالشتات في أمره هل كان يتوجب عليه أن يَصمُت عن التفوه بها، أم إن ضميره الحي نال راحته فور إخراجها..
تخطى الوقت منتصف الليل بكثيرٍ وأنزوىٰ حينها “عُـدي” بعيدًا عن الجميع في غُرفته يُقتل بالدقيقة الواحدة مئات المرات فور تذكره ما حدث منذ ليلتين وثلاثة أيامٍ حينما صرح عن مشاعره ولقىٰ الرفض من عينيها، أو رُبما كان صراعًا لم يُخفىٰ عليه، لكن ما يعلمه أنه فشل في صد مناوشات هجومها، لم يكن يومًا جديرًا بالبسالةِ والإقدام لكي يخترق حصونها، تبدو كما سبق ووصفها أنها “عـكا” المنيعة التي تسببت في إحباط كُل الفاتحين..
زفر بقوةٍ حتى طُرق باب غرفته وولجت منه “قـمر” بعد حصولها على الإذن منه وقد جلست بقربه وهي تقول بحزنٍ لأجله في محاولةٍ منها لكي تواسيه:
_أنا سيبتهم برة وقولت آجي أشوفك، “ضُـحى” قالتلي على اللي حصل والله أنا مش جاية أفكرك وأزعلك بس جاية أتطمن عليك، ليه مزعل نفسك كدا يا “عُـدي”؟.
كانت تريد منه أن يتحدث ويتفوه بما يعتل به صدره وقد تنهد هو بثقلٍ يُخرج أنفاسه المحبوسة ثم أضاف أخيرًا بعدما قرر أن يُخبرها بما حدث:
_زعلان علشان نفسي أكيد، أنا حبيتها من غير ما أحس ولا حتى حسبتلها حساب، يمكن مكانش ينفع من الأول أو كل الظروف معاها ضدي بس محدش ليه سُلطة على قلبه، المصيبة الأكبر إني بشوفها في عينيها، بحسها بتقولها دايمًا حتى لو لسانها منطقهاش، بس عينها بتقولها كل مرة بتشوفني جاي عليها ومقرب منها كأنها عيلة تايهة وسط الناس ولقت اللي تستنجد بيه، بس ليه تسكت كدا وتبصلي بخوف كأني عدوها؟.
أشفقت عليه كثيرًا وعلى الصراع البادي بين عقله وقلبه وحينها مسدت فوق كتفه وهي تقول بنبرةٍ هادئة نتجت عن رجاحة عقلٍ:
_جايز علشان ظروفها وموضوع خطيبها المتوفي دا؟ عامةً إحنا مالناش نحكم على حد طالما معشناش تجربته ولا بقينا مكانه ولا حتى شوفنا الموقف اللي هو مر بيه، يبقى نلتمس العُذر للناس، وأنا عارفة إنك عاقل وطيب مش من النوع القاسي، يعني هتديها فرصة تانية ومين يعرف؟ مش يمكن أتخضت من الموقف وكلامك؟.
سألته وهي تبعث في نفسه أملًا جعل السخرية ترتسم فوق ملامحه وهو يقول بنبرةٍ يائسة:
_وعلشان كدا مبتجيش الشغل كأني جلاد وهي ضحية بتهرب مني؟ أنا قولتلها مش هفرض نفسي عليها بس هي تقريبًا مفهمتنيش كويس، على العموم عادي يعني هي أول مرة.
لاحظت خيبة الأمل في صوتهِ وحينها ضمته سريعًا تمسح فوق رأسهِ وهي تواسيه بطيبتها المُعتادة بينما هو ألتزم الصمت لفترةٍ طويلة ثم أفصح موجزًا بوجعٍ:
_كان نفسي المرة دي بس تكمل زي ما أتمنيت.
في منطقة “الزمالك” بنفس التوقيت..
كانت تجلس “رهـف” بغرفتها تهرب من الجميع بالخارج وهي تشعر بثقل الحِمل فوق كتفيها، ولأول مرة تُجزم أن حرب المرء مع نفسه أشد فتكًا وقتالًا من حروبه مع الآخرين، فهل يتحمل الإنسان أن يُصبح ميدانًا للمعركةِ وكلا الطرفين يكون هو؟ بل وبالأحرىٰ لن يجد جيشًا ولا مُنصفًا غيره هو..
ظل إعترافه يتردد في سمعها وكأنه لم يبرح عقلها قبل أن يتوغل لأرض قلبها فيحتل أصغر الأزقةِ فيه، لم تتوقع أن يفعلها بتلك الطريقة وينساق لصوت القلب صاحب السُلطة ولم تتخيل أن يرتجف قلبها تلك الرجفة القوية إثـر إعترافه وكأنها تختبر تلك المشاعر لمرتها الأولىٰ، الأمر معه دومًا ذات طبيعة خاصة ونكهةٍ مُخالفة لكل المشاعر التي تذوقتها قبل مجيئه لحياتها، وقد فُتِح الباب وظهر منه خالها الذي ظل يطرق الباب وما إن سأم ردها فتح الباب وولج لها.
كانت تجلس على الفراش وهي تبكي وحينها أنتفضت وهي تحاول لملمة شتات نفسها ومسح العبرات التي لطخت وجنتيها فأوقفها هو بإشارةٍ من يده وهتف بنبرةٍ قوية يتحدى بها ضعفها:
_هتخبي إيه يعني؟ أتنيلى على عينك.
رفعت عينيها نحوه بإرتباكٍ ملحوظٍ من خلال إهتزاز حدقتيها وحركة بؤبؤيها وحينها جلس بقربها وهو يتنهد بثقلٍ ثم رفع كفه يمسح عينيها وأهدابها الكثيفة وهو يقول بمعاتبةٍ:
_أنا زعلان منك على فكرة، وزعلان عليكِ وعلى اللي بتعمليه في نفسك دا، الحي أبقى من الميت وخلاص مش هنعرف نعمل حاجة تانية غير دي، هو دلوقتي في مكان أحسن من هنا، وربنا يرحمه ويوعده بالجنة بس هو كان ابن حلال وطيب أوي وأخلاقه كل الناس بتحلف بيها، بس وبعدين؟ أنتِ بقى بتعملي إيه في نفسك؟ بتموتيها بالبطيء وأنتِ مش حاسة، بتهربي من مين وليه أصلًا؟ وإيه اللي حصل يخليكِ تقفلي على نفسك كدا.
قررت أن تخبره بكل شيءٍ لذا استجمعت جزءًا من شجاعتها الهاربة وبدأت في سرد ما حدث وهي تخبره بكل صدقٍ دون أن تُخفي عنه أي شيءٍ حتى أخبرته عن تصدع روحها وشتات أمرها وهي تُفكر بـ “عُـدي” وحينها بكت من جديد وهي تشعر بالغرابة من نفسها فأضافت بألمٍ تجلى في نبرتها:
_أنا كنت عاوزاه يمشي ويبطل يتعامل معايا يمكن أبطل أحس باللي بحسه ناحيته، ماكنتش أعرف إنه ممكن يتهور ويخرج عن سكوته كدا، صدقني والله أنا مش وحشة ولا أنانية بس إحساسي بالذنب ناحية “حـمزة” مش سايبني في حالي، كل مرة بحاول أتخطاه بحس إنه بيعاتبني على الذكريات اللي كانت ما بينا، وفي نفس الوقت مش هقدر أظلم “عُـدي” ببواقي مشاعر عندي وأخليه يفضل يحاول في علاقة مُجهدة زي دي، عارف المصيبة فين؟.
سألته باكيةً لينتبه لها ويسألها بصمتٍ من خلال نظراته فوجدها تُضيف بلوعةٍ حارقة كأنها تُلهب النيران في قلبها:
_إني اللي بحسه مع “عُـدي” محتسهوش حتى مع “حمزة” وكأنه حاجة جديدة خالص عليا، أول مرة أحس بالأمان معاه هو لما كنا مسافرين وكان بيفضل يهتم بيا ويتأكد أنا فين ويتطمن عليا كل شوية، أول مرة أحس بكدا كان معاه هو، وأول مرة أحس إني بحب بجد حسيت كدا ناحيته هو، علشان كدا حاسة بالذنب ناحية “حـمزة” كأني محبتهوش ولا كأني في يوم حسيت ناحيته بأي حاجة.
تفهم “كـامل” أحاسيسها كاملةً ومشاعرها المُضطربة لذا أمسك كفها يدعمها كُليًا حينما هتف بنبرةٍ حنونة عليها ومُربتة فوق قلبها:
_أنا بس عاوز أقولك حاجة مهمة ويمكن تفهميني صح أو يمكن تفهميني غلط بس مش مهم، أنتِ مع “حـمزة” من صغركم ويمكن متعودين على بعض بحكم الجيرة والعِشرة والصحوبية اللي بينكم، وكنتوا صغيرين أوي وكبرتوا مع بعض فممكن تكون مشاعر أخوية، أو مشاعر صداقة بس مش حب، الحب بقى هو مشاعرك ناحية “عُـدي” علشان فكرة إنك خايفة تجرحيه دي لوحدها حب وحب بزيادة كمان، الحياة مبتديش الفرص مرتين، مرة واحدة بس يا الفرصة تبقى من نصيبك، يا تروح لغيرك وساعتها الندم مش هينفعك، متعمليش زيي وتضيعي الفرصة من إيدك وتعيشي لوحدك، أظن أنتِ فاهمة اللي فيها.
من جديد تُصاب بالتشتت وتشعر بالتُخمة تُصيب رأسها ومنه عرفت السبيل لقلبها، بينما خالها فضمها له ماسحًا فوق رأسها حتى هدأت تمامًا وألقت بثقل رأسها فوق كتفه وهي تتنفس ومن جديد ينقبض قلبها ما إن تذكرت موقفها معه فلم يعد لسانها يُكرر إلا اسمه وكأن القلب يتحدث بلسان حالها قائلًا:
_وبأي أصفادٍ كبلتنا أنا وأنتَ
حتى أضحت في نُحرنا أغلالًا..
لقد هربنا طوال عُمرنا من الحُب،
ولم نعلم أن الفؤاد مستوطنٌ
وأتى فؤادٌ وأقام فوقه إحتلالًا..
فبأي ذنبٍ نظلم القلب البريء
إن كان إثم الحُب يزداد جمالًا؟.
استمعت لصوت قلبها وهو يؤنبها ويأني بوجعٍ لرفيقه وكأنه يُقسم لها خفيةً أن القلب هوى وأحب وأن القلعة الحصينة أعلنت عن فك الحِصار من حول أسوارها العالية ليسهل على الفاتح الوصول لمنتصفها مُصيبًا هدفه بكل نجاحٍ.
__________________________________
<“هي خطوة واحدة فقط قُم بأخذها ولا تُبالي”>
يدفع المرء دومًا حساب ما يتلقاه نظير الحصول..
فلا تَحسب أن هناك من أمتلك الأشياء جُزافًا، بل كان الحساب دومًا يسبق التلقي والمنال، لذا عند وصوله لما يتمنىٰ قد تنطق عيناه بكل فرحٍ وسرورٍ وفي الخفاء تم تقديم الحساب أضعافًا..
في اليوم التالي بفرحةٍ سكنت البيت وملأت حوائطه المُزينة كان العمل في بيت “جـابر” على قدمٍ وساقٍ، حيث قامت “مهرائيل” برفقة “آيـات” في معاونة “مارينا” لكي تتجهز استقبالًا لـ “يـوساب” الذي أتى موعده الرسمي أخيرًا..
كانت تجلس فوق المقعد وشقيقتها تُتمم على مظهرها وتضع اللمسات الأخيرة فوق وجهها ثم رتبت حركة غُرتها فوق جبينها حتى ولجت لهن “سـلوى” أمهما تهتف بلهفةٍ:
_يلا يا بنات دول تحت البيت خلاص، شهلوا.
توسعت عينا “مـارينا” بخوفٍ بينما شقيقتها ثبتتها فوق المقعد وهي تحاول معها أن تتحلى بالعقل بدلًا عن طيش طباعها وقد فعلت المثل “آيـات” التي نصحتها وظلت تُهدئها بقولها:
_أهدي وخدي نفسك وعلى فكرة دي مقابلة عادية جدًا بعدين كل حاجة متفقين عليها أصلًا، بعدين مش كنتي هتموتي وتاخدوا خطوة جد؟ أهي الخطوة جت أهيه.
في الخارج حضر “يـوساب” برفقة والديه ومعهما “بـيشوي” و “تَـيام” أقرب الرفقاء لديه، حضر كعادته بهدوء وأدب يليقان بعمليته ومهنته وكذلك والديه يظهر عليهما الرُقي وفي الخلف “تـريز” والدة “بـيشوي” تستند على ذراع “كرستينا” ابنة شقيقتها…
تم الترحاب بالجميع والمُصافحات بينهم ثم الجلوس بشكل ودي ذات رسمة دبلوماسية وقد بدأ “بـيشوي” الحديث موجهًا كلماته لـ “جـابر” قائلًا بأدبٍ قِلما عامله به:
_طبعًا حضرتك عارف إحنا هنا ليه، وأنا مديك الخلفية كاملة بس بشكل رسمي عمي “رأفت” هو اللي هيتكلم ويطلب.
كاد “تَـيام” أن يضحك على طريقة رفيقه وهو يتحدث بأدبٍ مُجبرًا على ذلك لكنه لاحظها وهي تقف في الخلف من خلال المرآة التي أظهرت إنعكاسها أمامه فألتفت إليها ليجدها تبتسم له وحينها نسى كل من حوله وظل معها هي مُتناسيًا الجميع إلاها هي وحدها..
بينما “رآفت” فتحدث بتهذيبٍ وأدبٍ يطلب يد الفتاة لابنه قائلًا:
_أنا بطلب منك يا أستاذ “جـابر” أيد الآنسة “مـارينا” لابني الدكتور “يـوساب” وطبعًا دا شرف لينا إن حضرتك توافق والعيلة تنور بيها، قولت إيه بقى؟.
كان يشبه ابنه كثيرًا في كل شيءٍ حتى المهنة ذاتها فيعمل كدكتورٍ جامعي في كُلية العلوم وابنه يسير على نهجه ونفس خطاه، بالطبع الغبي هو من يرفض ذلك النسب المُشرف الذي سيكسبه شرفًا وغرورًا وسط الناس، لذا رمى “بـيشوي” بنظرةٍ ثاقبة قابلها الآخر بالتحدي فتجاهلها “جـابر” وهتف مُرحبًا:
_دا شرف ليا طبعًا يا دكتور “رأفـت” وشرف ليا أكتر إن الدكتور “يـوساب” يطلب أيد بنتي، الناس كلها بتحلف بأخلاقه وأدبه وعمره ما غلط ولا حتى رفع صوته في وش الأكبر منه، يعني ونعم التربية والأخلاق.
لاحظ “بـيشوي” أن الحديث يخصه هو وحينها مرر لسانه يمسح فمه بحركةٍ لم تُنذر بأي خيرٍ ثم هتف أخيرًا بتحدٍ سافرٍ نشأ بين المُقل وكأنهما غريمان يقفان لبعضهما ندًا بندٍ:
_ماهو علشان طول عمره راجل جامعي ومحترم وتعامله كله مع دكاترة وناس أكاديميين في جامعات، فطبيعي يعاملهم كدا، إنما بقى واحد ابن سوق بيتعامل وسط حرامية ونور ياكلوا مال اليتيم أكيد لازم يفتحلهم قبل ما ياكلوه، أظن أنتَ ابن سوق وعارف اللي فيها.
كان الحديث أشبه بالتحدي الذي نشأ بينهما ولم يوقفه إلا صوت “يـوساب” حينما هتف بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:
_زي ما هو قال لحضرتك يا عمي إني راجل جامعي وطبيعة شغلي بتفرض عليا طريقة محددة لأني في النهاية قدوة لكتير غيري من الشباب، والبيئة ليها حكمها على التصرفات، بس دا كله مش مهم، المهم العلاقات الودية يكون فيها تسامح ومحبة.
رمقه بإعجابٍ ثم نادى لابنته التي أقتربت تضع الحامل المعدني بالعصائر ثم وقفت جلست إلى حيث أشارت أمها بجوار والدته التي أبتسمت لها بإعجابٍ ورحبت بها ليزداد خجل الأخرى كثيرًا وقد سألها والدها بثباتٍ صبغه بالودية:
_ها يا “مارينا” موافقة ولا لأ؟.
ألم يبادر غيره بسؤالها؟ لقد توترت أكثر بحديث والدها خاصةً وهو يُطالعها بنظراتٍ ثاقبة وحينها فركت كفيها معًا بخجلٍ فطري تمكن منها وكأنها فريسة يسهل صيدها وحينها أدارت عينيها نحو “يـوساب” الذي أومأ لها موافقًا فوجدها تُغمض عينيها ثم هتفت بلهفةٍ تتحدى خجلها:
_مش موافقة.
توسعت الأعين وأتضحت الهمهمات الهامسة بين الجميع بينما “يـوساب” فأحتقن وجهه غضبًا وهتف بنبرةٍ عالية دون أن يُحجم إنفعاله:
_ولما أنتِ مش موافقة بتشربي عصير المانجا ليه؟.
في تلك اللحظة تمنت أن تُفتح الأرض وتسحبها بداخلها بسبب غباء موقفها والنظرات المشتعلة نحوها وقد حركت “مهرائيل” رأسها لكي تحثها على تصليح الموقف فهتفت “مارينا” بلهفةٍ وهي تقول:
_أنا قصدي يعني إني مش هوافق على حد غيره، “يـوساب” شاب محترم وخلوق وأي بنت بتتمناه طبعًا.
صوت تنهيدة قوية صدر من الجميع بينما “تـريز” فربتت فوق ظهرها وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_وهو ياختي بيتمناكِ أنتِ، مبروك يا موكوسة.
ضحكت بخجلٍ وحركت رأسها نحوه فوجدته يضحك رغمًا عنه ثم أنتقل لموضعها حينما أنتقلت شقيقته وجلس فوق المقعد المجاور لها ثم مد يده لها بباقة الزهور وما إن أبتسمت له أقترب منها يهمس بنبرةٍ خافتة:
_الحركة دي تشيلك مادتين مش مادة واحدة.
طافت بعينيها في المكان وقد همست له تعترف صراحةً:
_ماهو أنا بصراحة أتوترت أوي وكلهم باصين عليا، وكنت بدرب لساني عليها معرفش حصل إيه وهبلت كدا، بس أنتَ عارف إني موافقة صح؟ وأكيد عارف إني فرحانة برضه.
أومأ لها مُبتسمًا فوجدها تحرك خُصلاتها للخلف وهي تبتسم بخجلٍ بينما هو فطالعها بحنوٍ ثم حرك رأسه نحو والدها وهو يرى ملامحه التي نطقت بكل جمودٍ حيث القسوة البادية عليه رغم الضحكة الواسعة التي زينت ثغره وحينها أيقن أنه يحتاج لترميمها لكي تصبح أكثر ثقةٍ في نفسها..
بينما “بـيشوي” فقد حرك عينيه نحو “مهرائيل” التي أتت تُرحب بالجميع ثم وضعت أطباق الحلويات أمامهم وأخذت توزع على الجالسين فقام هو بدوره بدلًا عنها ثم همس لها بجمودٍ في أذنها:
_مش حطيتي الحاجة؟ أتفضلي جوة بقى.
رفعت عينيها المُرتبكتين نحوه تسأله بتعجبٍ:
_والسبب؟.
أدار رأسه يستطلع الجالسين وحينها هتف بصوتٍ خافتٍ:
_حلاوتك يا “هيري” يلا أدخلي وداري ضهرك اللي باين دا، إيـه مش حاسة بالطراوة خالص؟.
كتمت ضحكتها ثم أنسحبت من المكان قبل أن يبدأ مناواشاته معها كما المعتاد خصيصًا أن السترة التي ترتديها كشفت عن عنقها من الخلف لذا أعادت هُندام ثيابها ثم ولجت تجلس برفقة “آيـات” التي أمتنعت عن الجلوس بالخارج وأكتفت فقط بالمعاونة لصديقاتها.
__________________________________
<“بخلفك حصنٌ منيعٌ، استند عليه عن الحاجة”>
لا يهم إن الوقت تأخر فقط كل ما عليك أن تفعله أن تتحرك مهما كان توقيتك، عليك أن تُسرع الخُطى نحو ما تُحب أن تفعل، وتذكر أنك ستُحاسب على عدم تحركك وليس وقت تحركك، ومنذ الصباح وذاك المسكين يتحرك ويصول ويجول في دائرةٍ لم توجد لها نهاية، حيث بدأ يومه بالعمل في مقر شركة البترول حتى الساعة الثالثة عصرًا ثم منها توجه إلى شركة “الراوي” خاصةً مع غياب “رهـف” عن العمل فأصبح “عُـدي” يحتاج لمن يعاونه وقد ظل هناك حتى الساعة السادسة مساءً، ثم ذهب إلى منطقة نزلة السمان لكي يتابع مع “إيـهاب” العمل الخاص به هُناك..
وقد استمر في العمل بتعبٍ حتى وصلت الساعة إلى الثامنة ونصف وقد هتف “إيهاب” بتعبٍ وهو يقوم بمط جسده للخلف:
_أنا مش قادر خلاص من صباحية ربنا دماغي بتاكلني ومش قادر، الساعة ٨ ونص وأنا في الشارع من الساعة ٦ الصبح وسايب “سـمارة” والله أعلم هي صاحية ولا نايمة ربنا يستر والست “تـحية” متسيبهاش.
ضحك له “يـوسف” الذي كان يقوم بمراجعة كشف الحساب في يديه ثم هتف بنبرةٍ أظهرت البسمة في صوته:
_ياعم ربنا يعينك، أديك شايف الوضع أهو لو ريحت شوية مش هتلاحق وإحنا ولاد عز مش واخدين على الفقر، روح يلا أتطمن على مراتك ربنا يقومهالك بالسلامة وأنا هتحرك دلـ….
بتر حديثه ما إن وقع بصره صُدفةً فوق الساعة المُعلقة وقد أنتفض فجأةً حينما تذكر موعده مع “جـواد” وسأله بإندفاعٍ:
_أنتَ قولت الساعة كام؟.
ضيق الآخر المسافة بين حاجبيه حائرًا وهو يُخبره بالوقت وحينها قام “يـوسف” بسحب متعلقاته ثم غادر مُسرعًا من المكان بينما “إيـهاب” فضرب كفيه ببعضهما وهو ينعته بالجنون الرسمي، ثم أنكب فوق الأوراق من جديد يتابع للمرةِ الأخيرة الحسابات التي يمسكها هو وبين الحين والآخر تمر صورة زوجته أمام عينيه حتى أغلق الورق وهتف بضجرٍ:
_مابينلهاش شغل يا “عـمهم”.
في الخارج ركب “يـوسف” سيارته وهو يشق الطريق شقًا لكي يصل إلى هناك قبل أن يُنفذ “جـواد” تهديده فهو لازال أضعف من خسارته، لذا كان كل شاغله أن يصل إلى هناك بلمح البصر وكأنه يُصارع الهواء وكل شيءٍ حوله، لذا ظل يتضرع بلسانه بنبرةٍ خفيضة أن يَصل إلى هناك..
في منطقة “وسط البلد”..
جلس “جـواد” في عيادته ينتظره بأملٍ بدأ يقل توهجه حتى كاد أن ينطفأ، لاحظ الساعة التي شارفت على التاسعة مساءً دون أن يظهر الآخر ويُريح كليهما، وقد ظل الأمل عالقًا بعزيمته وكأنه كتلة ثليجية طالتها آشعة النيران المُتمثلة في الإنتظار حتى تبخرت تمامًا عند تخطى الوقت لذا تحرك يُغلق أضواء العيادة وشُرفتها وقد عزم النية على قطع العلاقة مع الآخر كُليًا، وليس له شأنًا بعلاج زوجته، بل سيترك شقيقته تتولى تلك المُهمة..
بعد مرور بعض الوقت القليل استخدم فيها “يـوسف” الطُرقات الجديدة ليصل من الهرم إلى منطقة وسط البلد وهو يشق الطريق بسرعةٍ أكبر كأنه يسابق المجهول توقف أخيرًا أسفل البناية ونزل منها ركضًا إلى الأعلى وقبل أن يُطرق الباب وجده يُفتح من “جـواد” الذي كانت نظراته نارية فهتف يستجديه بقولهِ:
_أقسملك بالله أتسحلت في الشغل من الصبح، روحت ٣ شغلانات ونسيت الميعاد لحد ما الوقت سرقني، بعدين أنا جيت أهو في الآخر، يعني نيتي خير.
تنهد الآخر وطفق الأمل يعود بداخله من جديد ثم أشار له أن يدخل خلفه وحينها زفر “يـوسف” بقوةٍ يلتقط أنفاسه المهدورة ثم استعاد ثباته من جديد حينما وجد الطبيب يُشير نحو غرفة العيادة النفسية وحينها رغم الرجفة التي سارت بجسده تذكره بأيام المَصحة العقلية وكيف تلقى الذُل بها حاول أن يُحارب خوفه وولج أخيرًا الغُرفةِ يُقدم قدمًا ويوخر الأخرىٰ حتى أضحى في منتصفها..
كانت الغرفة واسعة ذات ألوانٍ صافية تجمع بين الأبيض والأزرق الصافي وبها الكثير من الزرع الأخضر والزروع البلاستيكية وإضاءتها مُريحة للأعصاب كُليًا منذ الوهلة الأولىٰ وقد وقف “جـواد” بجواره وهو يقول بثباتٍ:
_كونك واقف هنا دلوقتي بعد ست سنين عناد وطلوع روح مع بعض دا في حد ذاته هعتبره إنجاز ليك، النهاردة أنا نجاحي معاك أكبر من نجاحي في المصحة لأن وقتها المشكلة كانت صغيرة دلوقتي إحنا قدام كارثة، قدام شخص تاني خالص، جاهز يا “يـوسف”؟.
كان يحثه وينذره من التراجع في آنٍ واحدٍ حتى وصلته إيماءة خافتة من الآخر جعلته يتولى زمام الأمور ليصبح اسمًا ووصفًا حيث أضحى جوادًا يقود المعركة، وقد أمتثل “يـوسف” لمطلبه وجلس فوق المقعد ومن ثم بدأت الجلسة وحينها قرر “جـواد” أن يُباشر عمله بقوله:
_عاوزك تحكيلي عن نفسك بقى أنتَ مين؟.
كان يعلم أنه في تلك اللحظة يتحدث لنسخة من وسط الكثيرين وعليه أن يستنتج أيهما وُلِدَ تحت الضغط، لذا حرك “يـوسف” عينيه يطوف في المكان وهتف بصوتٍ مهتزٍ:
_مش عارف.
في الحقيقة ذاك الجواب كان متوقعًا منه، ففي تلك اللحظة هو أضحى تائهًا عن العالم وكأنه وقع أسيرًا في التيه فلم يعد يُدرك من يقوده ومن يحركه، لذا كان جوابه وافيًا وشارحًا لحالته، لذا تنهد “جـواد” بقوةٍ ثم قام بتغيير سؤاله إلى آخرٍ من نفس القبيل:
_طب مشكلتك إيـه؟.
أغمض “يـوسف” عينيه بأسىٰ وصرح أخيرًا بتعبٍ:
_مشكلتي إني مش فاهم أنا مين وبعمل إيه، مشكلتي إن فيه كتير غيري جوايا وموقفي منهم صعب أوي ومش قادر أتعايش معاهم ولا عارف هما مين، أكيد مش مبسوط بنفسي وأنا كل حاجة عندي عنف وضرب وأذى ليا وللي حواليا، أنا مش فاهم مين جوايا بيحركني بس أكيد هو السبب في حاجات كتير حصلت..
توقف عن الحديث وقد شعر بالألم ينخر في عظامه كونه هُنا بتلك الصفة التي تؤلمه بقدر ما تعرض وواجه من آلامٍ نفسية، وقد أضاف من جديد بنفس الوجع:
_أنا كل مرة بفتح عيني بعد اللي بعمله بكره نفسي وأتمنى أموتني، في كل مرة بتبقى مصيبة جاية تدوس عليا بضهرها وأنا بسبب الغباء اللي بيحصلي ساعتها بسكت كل الأصوات والدوشة اللي جوايا كدا، بعمل دوشة حواليا علشان تعلي على صوت الدوشة جوايا، بس ولا مرة نجحت في كدا.
تنهد “جـواد” الذي ترك له فرصة الحديث وهتف بنبرةٍ هادئة يُدلي بإعجابه مما قيل له من الطرف الآخر:
_دا إنجاز مُبهر منك إنك تعترف بكل دا من غير أي جُهد مني وعلشان كدا دي بيأكد إن فيه “يـوسف” جديد بيظهر جواك عنده غضب تجاه التانيين، إحنا بقى عاوزين “يـوسف” دا يقود الباقيين كلهم.
أنتبه له “يـوسف” وسأله بنبرة صوتٍ مَبحوحة:
_هو أنا عندي إيـه يا “جـواد”؟.
كان السؤال مُضطربًا بشكلٍ كبيرٍ جعل “جـواد” ينتبه لذاك الإهتزاز في صوته فهتف بحديثٍ عملي يُطمئنه:
_المفروض إنه إضطراب شخصية حادية دا بناءً على كل الأعراض الظاهرة عليك اللي هندرسها مع بعض واحدة واحدة، بس فيه بوادر تانية لـ ٣ أمراض عندك، خاصةً مع ظهور الأصوات والصراع اللي بيتولد جواك، بس مش عاوزين نسبق الأحداث، عاوزين واحدة واحدة مع بعض نحل كل حاجة، أهم حاجة ثقتك فيا هنا، أنا عاوزك تعتبرني نسخة تانية منك، لأن أي حل هطلبه منك لازم تنفذه وأنتَ واثق فيا، دلوقتي أهو أنتَ لأول مرة تقول إن دي مشكلة ودي نقطة كويسة بس عاوزين نزودها مع بعض أكتر، تمام يا “يـوسف”؟.
أومأ له موافقًا ولأول مرةٍ يراه الآخر بذاك الهدوء والطبع المُسالم المُغاير لكل طباعه الحادة، فبدا كأنه طفلٌ صغيرٌ يجلس في سكونٍ وحينها قرر “جـواد” أن يُنهي الجلسة بقولهِ:
_طب لو قولتلك إننا مش هنعمل حاجة النهاردة وممكن تروح عادي ولا هيكون فيه مشكلة؟.
أنتبه له “يـوسف” وهتف بلهفةٍ أعربت عن تعبه:
_هقولك ياريت بجد علشان تعبان أوي، بس أنا معاك في أي حاجة وعارف إن التأخير من عندي أنا، فممكن نخليها مرة تانية وأوعدك هظبط مواعيدي؟.
رأف الآخر به وأومأ موافقًا له فهو لم يرد إتعابه والضغط عليه بل كل ما يريده هو أن يكسب ثقته لصالحه وحينها أعطاه الموافقة ثم أخرج ورقة ودون بها اسم أحد المواقع العالمية للصحة النفسية وطلب منه بوقارٍ:
_دا موقع عالمي خاص بالصحة والاستشارات النفسية والعقلية، مطلوب منك تاسك بسيط وهو إنك تدور على المرض دا وتقرأ عنه وتاخد لمحة بسيطة عن تفاصيله، مش إمتحان متقلقش، بس دي حاجة هتفيدنا مع بعض.
ألتقط منه “يـوسف” الورقة ووضعها في جيب بنطاله وقبل أن يتحرك عاد له من جديد يهتف بصوتٍ مُتعبٍ:
_بالنسبة لموضوع “عـهد”؟ هتيجي عادي صح؟.
أبتسم له “جـواد” وهتف بنبرةٍ رخيمة:
_يعني أنتَ هنا علشانها مش عاوزها تبقى هي علشان نفسها؟ عمومًا أنا مش شرير أوي كدا علشان أحرمها من العلاج، “فُـلة” بدأت في تظبيط مواعيدها علشان خاطر “عـهد” متقلقش، وربنا يوفقكم.
أبتسم له “يـوسف” ثم تحرك من المكان وهو يبحث عن أقرب مكانٍ يرتشف منه كوبًا من القهوة حتى لا ينم أثناء القيادة خاصةً بعد مواجهة هذا اليوم المؤلم له ولكل خلية بجسده وقد حمد ربه سرًا أن الغد هو يوم الجُمعة وسيخلد للنوم مؤكدًا حتى بداية اليوم التالي..
__________________________________
<“الوقت كالسيف إن لم تقطعه، مزقك إربًا”>
الخير لازال فينا حتى وإن كان هناك من يرغب في غير ذلك،
فكلٌ منا يسكنه كلًا من الخير والشر ويحتاج فقط لمن يشير له وينبئه..
يوم الجمعة صباحًا كعادة الناس أنتشروا في الأرض ذاهبين إلى صلاة الجُمعة حيث ذاك اليوم الدافيء العذب في النفوس وقد وقف “أيـوب” في المسجد بعدما قام بتجهيز كل شيءٍ ثم أعتلى المنبر ووقف أمام الناس يبدأ الخطبة بقوله:
_الحمدلله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، فالحمدلله الذي أذن لنا بيومٍ جديدٍ نعبده ونشكره، يومٌ نحياه ونحن في زحامٍ من نعم الخالق ومنها التي لم نُدركها بعد، فالحمدلله حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه، واليوم سأحدثكم أخواني عن نعمةٍ يغفل عنها الكثير، ألا وهي نعمة الوقت، فمن منا يُدرك أهمية الوقت حق الإدراك؟…
توقف يلتقط أنفاسه ثم تابع مُكملًا بقولهِ:
_الوقت نعمة كبيرة من ربنا سبحانه وتعالى للعباد، وللآسف كتير مننا بيستهتر بالوقت ويضيعه رغم إن فيه أولويات أحق إنه يهتم بيها، بس فكرة إنه بيستهتر بالوقت بيضيع منه الأجر والثواب اللي ممكن يستغل الوقت دا فيهم، يعني ممكن تلاقي اتنين في نفس العمر والظروف وفي نفس الموقف بس واحد فيهم هيطلع المُصحف ويقرأ قرآن وواحد تاني ممكن يسمع أغاني ويضيع الوقت على فيديوهات وصور وحاجات تشيله ذنوب وتضيع منه الوقت، يعني الخسارة من كله، بس الفكرة إن مفيش أولويات أصلًا، أنتَ ماشي بشكل عشوائي مش مُنظم وبالتالي وقتك كله بايظ ومتبهدل وبالتالي أنتَ هتحس إنك مُشتت…
_الحقيقة إن فيه غشاوة على العيون وهي إن الوقت الضايع لينا مش مهم، أو حاجة تانية غريبة زي إنك فاقد الشغف أو مش قادر تقوم، بس الحقيقة إن أنتَ عدو نفسك الحقيقي، يعني أنتَ اللي قادر تضعف نفسك وتهزمها وتغلبها، وأنتَ اللي تقدر تقويها وتشدد عزمها وعلشان كدا مقولة الإمام “عمر بن عبدالعزيز” تقدر توصف حالك حين قال:
“لو أن الناس كلما إستصعبوا أمرًا تركوه،
ماقام للناس دنيا ولا دين” يعني شكرًا مش هتعمل حاجة في حياتك أصلًا، ومتنساش إنك هتتسأل عن الوقت وضيعته في إيه..
توقف يراقب النظرات المصوبة نحوه وحينها بدأ من جديد بثباتٍ أكبر وأعمق من سابقه:
_يتوجب على الإنسان أن يعرف ويبقى متذكرًا أنَّ الله سيسأله يوم القيامة عن عمره فيما أفناه، فقد قال رسول الله ﷺ “لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن عمرِهِ فيما أفناهُ، وعن عِلمِهِ فيمَ فعلَ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفِيمَ أنفقَهُ، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ”
يعني هنقف قدام ربنا نتسأل عن كل حاجة صدرت مننا، وكل حاجة عملناها وضيعنا فيها وقتنا، فلما تقف قدام ربنا هتقوله ضيعت عمرك في إيه؟ وليه أصلًا تضيعه وأنتَ هنا ضيف؟ يا ابن الحلال دي مش بتاعتك أصلًا، والله ولا ليك فيها أي حاجة، أنتَ ماشي وكل حاجة فيها برضه هتمشي، فلما تيجي تضيع وقتك أفتكر إن فيه جنة وإن الآخرة هي دار القرار، أما هنا فأنتَ كادح وضعيف ليس لك من الأمر شيئًا، فلما تيجي تبني يومك وحياتك حُط أولوياتك اللي هتوصلك لدار القرار..
أنهى حديثه ثم أبتسم وهتف مُشيرًا إلى سُنة الحبيب ﷺ موضحًا حياته واستغلاله للوقت قائلًا:
_سنة النبي في حفظ الوقت وتنظيمه حرص الرسول الأمين ﷺ على الوقت حرصًا شديدًا، فلم يُضيّع من وقته دون أن يقوم باغتنامه بما فيه مصلحةٌ لغيره أو لنفسه، وقد وصف “عليّ بن أبي طالب” حال النبيّ حين دخوله البيت، فقد كان يقسّم الوقت ثلاثة أقسام؛ قسم لله، وقسم لأهله، وقسم لنفسه، وقسم نفسه كان يقسمه بينه وبين النّاس، ويحرص الرسول الكريم ﷺ على أن يكون جُلّ وقته في طاعة الله وعبادته، وهو الذي غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وبالرّغم من ذلك فقد كان يقوم اللّيل حتى تتفطّر قدماه، فلمّا سألته “عائشة” -رضيَ الله عنها- عن ذلك أجابها فقال: “أفلا أُحِبُّ أنْ أكُونَ عَبْدًا شَكُورًا” فاللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وأجعلنا من عبادك الصالحين، وأكتب لنا الهُدى والهداية وأنتَ خير الراحمين، وأقيموا الصلاة..
أعلن عن قيام الصلاة حتى وقفوا المُصليين خلفه ليبدأ هو كعادتهِ أن يأم بهم في المسجد وصوته العذب يتلو القرآن جهرًا وهم خلفه يقيمون الصلاة براحةٍ كُبرى فهذا الشاب يُعد مثالًا كل من يعرفه يتمنى أن يُنجب مثله، بينما هو فكان يتمنى أن يغفر الله له ذنوبه وأن يجعلهم خيرًا مما يظنون وألا يكون تدينه ظاهريًا..
أنتهت الصلاة وبدأوا الناس في التحرك خلف بعضهم بينما “يـوسف” وقف مع “أيـوب” في المسجد يتممان على غلقهِ وقد ذكره “يـوسف” بموعده لديهم حين هتف:
_متنساش إنك معزوم عندنا النهاردة، مش هتيجي صح؟.
أنتبه له “أيـوب” الذي كان يُغلق باب المسجد وهتف ساخرًا:
_بعينك، هاجي مخصوص عندًا فيك وآكل من نفس طبقك، أقولك على الكبيرة؟ هقعد جنب “قـمر” و الست “غالية” كمان.
كاد أن يرد الآخر ويسترد حقه لكن هناك صوتٌ أتى من خلفهما جعلهما يلتفتان للخلف فأبتسم حينها “أيـوب” بسخريةٍ وسأل بنفاذ صبرٍ:
_خير يا أستاذ “عبادة”؟.
كان نفسه ذاك الموظف الذي يعمل بوزارة الأوقاف وحينها أبتسم الآخر ببرودٍ وهو يسأله باستفزازٍ:
_حضرتك ليه ملتزمتش بخطبة الجمعة يا شيخ “أيـوب”؟ أظن يعني المفروض إن حضرتك كبير مش محتاج مني كل شوية آجي أحذرك وأنبهك كدا، حضرتك خرجت عن سياق الخطبة تمامًا وقولت كلام من عندك.
تعجب “يـوسف” كثيرًا من الحديث وطالعهما باستنكارٍ بالغٍ حتى وجد “أيـوب” يُضيف بقوةٍ رغم تمسكه بالتهذب:
_وحضرتك أنا خرجت عن سياقها إزاي؟ الخطبة كانت عن الوقت وأنا أتكلمت عن الوقت وعن الطاعات وعن سيدنا محمد ﷺ وإننا نقتدي بيه إيـه الغريب في كلامي بقى؟ كان المفروض أقتدي بمين يعني؟ بعدين الكلام مكانش بيخص أي جهة، أنا بنصح الناس بما أني أمين على العلم والمكانة اللي بفضل ربنا وصلت ليها، فأكيد مش هخون الأمانة دي.
كاد أن يرد عليه الآخر فتدخل “يـوسف” بوقاحته المُعتادة وهتف بنبرةٍ جامدة وهو يرى الآخر يتربص لرفيقه:
_ما خلاص يا باشا خلصنا، الخطبة كانت عن الوقت والراجل أتكلم وقال اللي عنده، ولا أنتَ عاوزها عن الوقت بدل الضايع ولا إيـه مش فاهم؟ حاضر الخطبة الجاية هتبقى عن ري الملاعب.
كتم “أيـوب” ضحكته وهو يرى إنسحاب الرجل من أمامهما وحينها ضحك كلاهما رغمًا عنهما وهما يسيران بجانب بعضهما يائسين على حالٍ أضحىٰ يُضيق على كل حُـرٍ الحصار رغم أن “أيـوب” علم أن هذه لم تكن المرة الأخيرة لكنه يأمل في الخالق أن يرحمه وهذا هو عزاء المُسلمين الصابرين أن الأمر لله وحده.
__________________________________
<“معك يحيا القلب من بعد كل موتٍ”>
مسألة ترميمنا تحتاج في بعض الأحيان لتواجد الآخرين معنا، فقد يصعب علينا نحن بذاتنا أن نقوم بسد الثقوب والفجوات التي تملأ أرواحنا، لذا لولا تواجد أشباه الروح من المؤكد كُنا سنفقد ما تبقى مننا…
اليوم هو يوم الجُمعة وقد قرر “إيـهاب” أن يأخذه أجازة من كل شيءٍ، وأول القرارات التي أتخذها هي أن يرعى تلك المسكينة التي بدأت في المراحل الأصعب وهي تقترب من شهرها الخامس في الحمل، وقد كانت في المرحاض تتحمم بعدما قامت بتنظيف الشقة بالكامل منذ شروق الشمس حتى تعجب هو كيف فعلتها بمفردها رغم أنها طوال الليل تتألم من جسدها؟؟.
خرجت من المرحاض وهي تشعر بالوهن وحينها لاحظها فأقترب يقف أمامها يسألها بإهتمامٍ:
_أنتِ كويسة؟ مالك كدا شكلك ميطمنش؟.
أنتبهت له “سـمارة” التي هتفت بنبرةٍ خافتة وهي تشعر بنتائج العمل تظهر على جسدها الآن:
_تعبانة أوي ومش قادرة، حاسة جسمي كله مكسر.
مط شفتيه يائسًا وهو يتوقع تلك النتيجة وقد أجلسها فوق المقعد أمام المرآة ثم أمسك فرشاة الشعر وهتف بسخريةٍ يُقلد طريقتها السابقة حينما كانت تحقد على الخيول:
_فاكرة لما كنتي بتحسدي المُهرة علشان بسرحلها شعرها؟ أديكِ وقعتي تحت أيدي أهو وهسرحلك يا عمنا، أعملهولك إزاي بقى؟.
ألتفتت له ضاحكةً وهي تخبره بدلالٍ:
_على ذوقك بقى شوف بتحبه إزاي وأعمله.
لاحظ دلالها ومحاولتها للخروج من هوة التعب فمال يهمس في أذنها بقولهِ وهو يُزيد من قدر تدللها عليه:
_بلاش علشان أنا بحبه بأي شكل وبحب صاحبته مهما كان وضعها إيـه، بعدين كفاية المُهرة الأصيلة دي تحت أيدي، والله مافي أحلى من كدا.
ضحكت له بوجهٍ مُشرقٍ جعله يضم رأسها لصدرهٍ ثم مسد فوق رأسها وظهرها بحنانٍ أبوي جعل قلبها ينبض بعنفٍ وهي بقربه يُسلحها بالأمان والحماية وقد أبتعد عنها يسألها بإهتمامٍ وهو يلاحظ بعينيه معالم وجهها المُتعبة:
_تعبانة؟.
حركت رأسها نفيًا وهي تبتسم له بينما عاد هو لسيرته الأولى ثم أمسك خصلاتها المتندية وبدأ في تمشيطها وهو يتحدث معها في عدة أحاديثٍ حتى يقوم بإلهائها عن التعب البادي عليها وقد أندمجت هي معه رويدًا رويدًا معه تتحدث بإهتمامٍ وتنصت بإهتمامٍ أكبر وهي تُجزم أن لولا تواجده معها لكانت لقت حتفها منذ أمدٍ بعيدٍ..
في الأسفل ببهو بيت “نَـعيم”..
جلس”إسماعيل” يمسك حاسوبه وهو يتصفح عدة أشياء تخص حياته الزوجية القادمة، مثل إختيار فستان الزفاف وإختيار ديكورات شقته والعديد والعديد يقوم بحفظهِ لأجل “ضُـحى” وكأن كل أمنياته أضحت تُضاحي “ضُـحى” بينما في الجوار كان “مُـحي” جالسًا يقنعه بما يود حتى زفر الأول وهتف بضجرٍ منه:
_كلت دماغي وورمتها، عاوز إيـه؟.
زفر “مُـحي” بقوةٍ ثم هتف بضيقٍ:
_عاوزك تقنع بابا هو بيحبك أوي، قوله إني هروح العيد ميلاد ساعتين وارجع والله، بس هما عاملينه متأخر هيبدأ الساعة ١٢ بليل ويخلص الصُبح، شكلي هيبقى زفت لو مروحتش.
قلب “إسماعيل” عينيه بمللٍ وزفر بقوةٍ ثم هتف في نهاية الأمر بقلة حيلة كأنه لم يرغب في إحزان الآخر:
_ماشي بس لو مقتنعش خلاص شوفلك حد غيري، أبقى هاتله “تَـيام” وهو يقنعه، هـو بيحبه والتاني بيحبك.
عند هذه الجملة وصل كلًا من “تَـيام” و “مُـنذر” معًا وحينها أنتفض “مُـحي” يرحب بهما ثم مال على شقيقه يهتف بحنقٍ:
_اتأخرت ليه يا عم؟ بعدين هو دا اللي هاجي ومش هتأخر عليك؟ أقسم بالله ما مصبرني عليك غير إنك هتيجي تقعد معايا هنا في نفس البيت وساعتها مش هحلك.
_يابني اتأخرت إيه بس؟ يدوبك صليت الجمعة ووصلت “آيـات” و “جـنة” مشوارهم وقابلت “مُـنذر” وجينا.
هكذا كان رد شقيقه وفي الحقيقة هو لم يلتقط إلا اسمها الذي أطرب سمعه وكأنه نبش بمخالبه في القلب ليهتز بداخله وحينها سأله بتعجبٍ:
_وصلتهم فين؟ النهاردة الجمعة.
هتف الآخر بثباتٍ وهو يتجاوزه ويجاور “إسماعيل”:
_عند مُحفظة القرآن اللي بتديهم دروس في الشريعة والعلوم الإسلامية، عقبالك يا رب، تفرحني كدا.
ضحك “مُـنذر” بخفةٍ جعلت “مُـحى” ينتبه له وهتف بخبثٍ حينما أقترب منه:
_أنا رايح عيد ميلاد بليل في مكان نضيف ما تيجي معايا وتفك شوية عن نفسك بدل ما أنتَ خانقها وخانق أبونا كلنا كدا، ولا أنتَ صغير وخايف تتوه بقى؟.
رفع الآخر حاجبيه مستنكرًا ثم مال عليه يهتف بنفس الطريقة الملتوية التي يتحدث بها الآخر:
_بلاش آجي علشان لو عينك من واحدة متنفضش ليك في وجودي، بعدين أنتَ عاوزني معاك علشان أبوك يقتنع ويوديك، بس أنا هطلع مجدع وآجي معاك يا “مُـحي”.
حينها خطفه “مُـحي” في عناقٍ قويٍ كعلامة إمتنانٍ له ومن قوة العناق أجفل جسد “مُـنذر” بغرابةٍ وقد تعجب كثيرًا من دفء عناق ابن عمه، فهو عكس ما يبدو تمامًا حيث يُظهر عناقه مدى طيبة قلبه والحنان الذي يملئه رغم أنه دومًا يرتدي ثوب اللامبالاة.
__________________________________
<“إن جائك الموت فلا تهرب، فهنا ليس بمهرب”>
مع حركة الأرض وإتمام دورتها تنشأ في تلك اللحظات العديد من الأفعال التي تجعل المرء عاجزًا عن استيعاب ما يحدث بين الليلةِ وضُحاها وبين الفنية والأخرىٰ، لكن كل شيءٍ هنا يسير بإراداة الخالق فمن نحن حتى نتعجب؟.
كان “يـوسف” في بيته يجلس في إنتظار “أيـوب” حتى يتناول الغداء معهم وكذلك تمت عزيمة “عـهد” وأسرتها وكأن “غَـالية” أرادت أن تجمع كل أفراد أسرتها خاصةً أن شقيقها رحل بأفراد أسرته لعائلة زوجته لحضور مناسبة عائلية وسيذهب لهم “عُـدي” إلى هناك..
كانت “عـهد” تساعد “قـمر” وحماتها بداخل المطبخ و “يـوسف” في الخارج برفقة “وعـد” التي كانت تلعب معه بعض ألعاب الذكاء والمهارات وهو يُعلمها وقد صدح صوت جرس الباب وتحرك ليفتحه لرفيقه وما إن فتحه توسعت عيناه حينما هتف مستنكرًا:
_”نـادر”؟
كانت الصدمة قوية عليه بينما الآخر كان يقف مستندًا على عكازه الطبي وحينها أزدرد لُعابه ثم هتف بنبرةٍ صلدة بعض الشيء:
_أنا مش جاي عاوز منك أي حاجة، أنا بس جيت علشان أعرف دا إيه وليه قولت كدا، ليه قولت إنك سقطت “شـهد”؟.
أصابت التُخمة “يـوسف” ورأسهِ أضحت كقنبلةٍ لم يقوىٰ على تحملها أكثر خاصةً وغريمه يفتح الهاتف على الرسالة الصوتية ليظهر صوت “يـوسف” فيها وقد صُدِمَ ما إن أدرك الفخ الذي وقع فيه وحينها قرر أن يتمسك بالعقل لو قليلًا وسأله بنبرةٍ جامدة وآلية:
_وأنتَ بقى مصدق زي كل مرة إني الوحش القاسي اللي سقطت مراتك وحرمك من النعمة دي صح؟ المرة دي بالذات لو مصدق أنا عمري ما هطيق أبص في وشك تاني.
طريقته وثباته زعزعا ثبات “نـادر” الذي هتف بمرارةٍ علقت في حلقهِ وكذلك أمتد أثرها لداخل الشق في روحهِ:
_لو مصدق ماكنتش هاجيلك هنا وأنا عاجز علشان اسألك، ريحني بس وقولي إنك معملتش كدا، متسكتش زي كل مرة وتخليني أصدق غصب عني بسكاتك، زي كرهتني بسبب خوفي.
هدر “نـادر” بإنفعالٍ جليٍ جعل “يـوسف” يرفع رأسه بإعتزازٍ ثم هتف بقوةٍ لم يمسها الجُبن أو الخوف فكان كليهما يقف في مواجهة الآخر، وكلاهما حُـرٌ في هذه الحرب ولن يقبل بالرضوخ، كعادتهما دومًا يقفا في مواجهة بعضهما وتلك المرة أحدهما يملك الصندوق الأسود بكل أسراره، والثاني كما المُغفل وغشت الغمامة فوق عينيه وقد هتف “يـوسف” برأسٍ مرفوعٍ وشموخٍ لم ينفك عن طبعه الحُر:
_يبقى تيجي معايا ولو أنا المرة دي أثبت ليك الحق هتبقى تحت طوعي، واللي عيشت العمر كله بتعمله فيا، أنا هاخده تالت ومتلت منك وهتبقى بدايتي بيك أنتَ…
الوجع الذي كان في عيني الآخر جعله يرفع رأسه هو الآخر وأضاف بصوتٍ حاول جعله ثابتًا بقدر الإمكان رغم إهتزاز أصغر خلية بجسده:
_موافق، ولو حصل يا “يـوسف” أنا بنفسي هقدم ليك فروض الولاء والطاعة بس اتأكد إن الحق معاك أنتَ.
كما يُقال وعد الحُر دينٌ عليه وقد قطع كلاهما وعدًا للآخر ونحن في إنتظار القادم منهما فمن فيهما سيثبت الحق ومن سيخضع للسلطان مُعلنًا فروض الولاء والطاعة؟ وقفت النساء في الخلف يتابعن الموقف دون تدخلٍ إلا “قـمر” التي أندفعت نحو شقيقها تسأله بلهفةٍ:
_حق إيـه؟ إحنا مالنا بيهم تاني؟ ما يسيبوك في حالك.
لاحظها “نـادر” الذي أزدردت لُعابه وتألم من نظرتها له وهي ترمقه ببغضٍ واضحٍ جعل “يـوسف” يخفيها حينما ألتفت لها يُلثم جبينها ثم أضاف براحةٍ:
_متخافيش عليا أنا رايح أجيب حقي أنا، بعدين أنا قولتلك ورايا أخت جامدة مش عاوزك تقلقي وخليكِ هنا، وأنا هروح المشوار دا علشان نفسي مش علشان حد.
أومأت له موافقةً وفي تلك اللحظة وصل “أيـوب” وما إن لاحظ وقوف “نـادر” يستند على عكازه على أعتاب الشقة طالعه بتعجبٍ وأشار برأسه لهم كأنه يستفسر بصمتٍ وحينها أقترب منه “يـوسف” يهمس له:
_عاوزك تخليك هنا مكاني، أنا هروح مشوار مهم وهرجع تاني بس مش ضامن ممكن يعملوا حاجة في حد هنا ولا دي لعبة من حد فيهم، علشان كدا هسيبك وأنا واثق إنك مكاني.
ازداد قلق “أيـوب” وقبل أن يستفسر أنسحب “يـوسف” وهو يشير إلى غريمه بعدما سحب هاتفه ومفاتيحه ولم يعطي للبقية فرصة بل أختفى بداخل المصعد مع “نـادر” بينما “أيـوب” فتنهد بقوةٍ ثم ألتفت لـ “قـمر” يُطمئنها بعينيهِ فوجدها تقترب منه وهي تقول بحزنٍ بالغٍ:
_خايفة عليه أوي وهو معاه لوحده، دول بيكرهوه أوي.
رفع كفه يقربها منه حتى أخفاها في عناقه ثم مسد فوق ظهرها يُطمئنها بقوله وفعله بينما هي غاب عقلها عنها وذهب خلف شقيقها وهي تتمنى أن تمر الليلة عليه بسلامٍ
بعد مرور ساعة وأكثر من القيادة الصامتة التي تواصل فيها “يـوسف” مع شخصٍ ما بعدة مكالماتٍ ولم يوجه أي حديثٍ لمن يجاوره، ولأول مرةٍ يجمعهما شيءٌ منذ أن رحل “مُصطفى الراوي” عن العالم وحل محله الكره بينهما وقد أوقف “يـوسف” سيارته أسفل البناية الموجودة بداخلها تلك العيادة المشؤمة وما إن ترجل من السيارة وجد “سـراج” أمامه يستند على مقدمة سيارته وهو يُنفث هوائها..
أقترب منه يسأله بلهفةٍ نبعت عن تعجبه:
_أنتَ بتعمل هنا إيـه يا “سـراج”؟.
قام” سـراج” برمي سيجاره أرضًا ووزع نظراته بينهما ثم استقر بها على وجه “يـوسف” وهتف ببساطةٍ:
_جيت علشانك، وأنا إيـه اللي يضمنلي إنه مش كمين معمول عليك وممكن حد يغدر بيك هنا؟ يلا علشان نطلع خلونا نخلص من الفيلم الهندي دا.
كان “نـادر” يسير كما المُغيب معهما لم يسأل عن أي شيءٍ بل كان ينتظر عودة الحق كما قال له الآخر وقد أستند على عكازه حتى ولجوا لتلك العيادة الممتلئة بالعديد من النساء والسيدات حتى أن ظهورهم بها كان غريبًا وغير منطقيٍ وبعد مرور دقائق ولجوا للداخل عند الطبيبة التي طالعتهما بتعجبٍ وكادت أن تتحرك فهتف “سـراج” يُطمئنها بقوله:
_زي ما أنتِ والله أنتِ قايمة، إحنا جايين نسأل عن حاجة مُعينة بس وماشيين، فيه واحدة جاتلك هنا عملت إجهاض اسمها “شـهد نزيه” دا جوزها عرفيه حصل إيه بدل ما نبلغ بقى ونعمل محضر ونشمعلك المكان المقرف دا.
هبت منتفضة من موضعها بخوفٍ فرآت الشر يتجلى في نظراته وكذلك وقف “يـوسف” يُحذرها بعينيهِ حتى تراجعت هي مُتقهقرةً ثم فتحت أحد الأدراج وأخرجت منه الأوراق تضعها بكف “نـادر” والتقرير الطبي الخاص بزوجته والإقرار الذي قامت بالتوقيع عليه لتتحمل مسئولية فعلتها وحينها ترنح جسد “نـادر” من الصدمة وأضحت خلية فيه تنزف بوجعٍ وكأن جسده أضحىٰ يشبه البناء الذي يوجد وسطٍ بلدةٍ تتعرض للحروب وهو البيت القائم فيها لينل كل بُرهة قصفًا جديدًا يوقع أساسه كما الرُكام بداخل روحه خاصةً وهو يرى توقيعها المُميز الذي يحفظه عن ظهر قلبٍ..
______________________
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)
رواية روعة