روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والخمسون 150 بقلم شمس محمد

موقع كتابك في سطور

رواية غوثهم الفصل المائة والخمسون 150 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والخمسون

رواية غوثهم البارت المائة والخمسون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والخمسون

“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الخامس وستون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
سبحانك يا من غمرت الخلائق بفيض الإنعام
و عَمرت المسكونةَ بموارد الخير العام ..
وأرسلت الغمام ريًا و رزقًا إلى سكان الصحارِ
والآكام، تباركت معبودًا، و تساميت مقصودًا
يا سامع الصوت، يا مدرك الفوت،
يا كاسيَ العظام لحمًا بعد الموت ..
يا سامع الصوت .. يا مدرك الفوت
يا كاسيَ العظام لحمًا بعد الموت ..
من بعد هذا يقول من يُحيى العظام ..
من بعد هذا يقول من يُحيي العظام ..
يا ذا الجلال والإكرام .. سبحانك
سبحانك، أنت الحي الذي لا يغيبُ و لا ينام.
_”نصر الدين طوبار”
__________________________________
حينما يسألني العالم من أنا؛ لم أجد في قاموسي جوابًا..
سأفقد كل النواطق وكل هويةٍ تُخبر العالم من أكون أنا..
فأنا وسط الجموع ليس بأنا،
وكيف لي أن أخبر العالم عن هويةٍ لم أملكها يومًا أنا؟..
فأنا أملك الصفة؛ لكنني لم أعمل بها بمثقال ذرة عملٍ،
أملك الجناحين كما الطير، لكنني لم أُحلِق يومًا بهما،
أسير وسط الجموع وحدي وفي قلبي أحمل أُنس العالم بأكمله، أحفظ بداخلي النور ورغم ذلك أعيش في جُبِ الظلام، فحقًا من أنا؟ أأنا ذاك الطير الحُر المكسور جناحيه؟ أم أنا ذاك الطفل الصغير الذي تكالب العالم عليه؟ من أنا ولما وُجِدتُ بينكم هنا؟ لطالما العالم لم يقبل حُـرًا مثلي بين المُكبلين الصامتين؟ فمن أنا ولما بَقيتُ معكم فوق الأرض هُنا؟ وأنا الذي سعى بكل ما يملكه لكي يُحلق فوق السماء بحريةٍ لم أدركها يومًا أنا…
حقًا تودون معرفة من أنا؟ أنا الصوت المكتوم في قلوبكم، وأنا الحبر الجاف في أقلامكم، وأنا الورقة التي حملت فوق سطورها جُرم الحاضر وخبايا تاريخكم، أنا الطير، لكنني لم أصل يومًا لسمائكم، أو نِجمٌ أنا لكن ضوئي لم يكن مرغوبًا وسطكم.
<“ولأن الحُرية أهم مطالب الحياة، صرخنا لأجلها”>
لأن الطيور الحُرة تُزعج الصائد الخبيث لعلو ارتفاعها في سماءٍ حُرة؛ فهذا لا يُعني إلا أن الحُرية دومًا مكروهة في قلب كل مُجرمٍ يسعى لكي يُكمم أفواه الأحرار، نعم الطير لا يمل والحُر لا يخضع، لكن وقع الظلم على النفسِ يُقهر، لكن مهما طال الوقت ومهما غابت الشمس؛ من جديد ستشرق ومعها يصل الطير لشعاع نورها..
الحُلم هو الغاية الكُبرى التي تعمل كما الترسِ في آلةٍ كُبرى تسمى القلب وتولد به طاقة العزم لكي يُكمل الطريق نحو ما أراد منذ البداية، ولأن الحلم لا يموت، كذلك الأمل أيضًا، كلاهما حيًا ما دام هناك ذاك القلب النابض، وهو قلبه لازال ينبض..
“بـاسم” شابٌ حُـرٌ مُلقى فوق الأرض أصيب بكسرٍ في ذراعه، وآخر في قدمه كأن العجز مصيره المحتوم، فمه أصبح مُكممًا بواسطة قطعة قماشية مُلوثة ومُدنسة وضِعت بفمه لكي تمتد أيادي القهر لداخل الروحِ ثم تم عقدها للخلف كي لا تسقط عن فمه، تلقى عدة ضربات فوق ظهره وعجز حتى عن الصراخ، نازع ورفع رأسه عن الأرض لكي لا يكون خاضعًا لتلك المهانة لكن كف أحدهم أطبق رأسه فوق الأرض ثم ضغط عليها بنعاله وقال بلهجةٍ صلدة آمرة:
_دي علشان تبطل ترفَّع راسك وتبص على أسيادك.
أنهى جملته ثم رفع قدمه ونزل بها فوق وجهه وبفعلته تلك لم يعلم أنه ضغط فوق قلبه الحُر فهشمه لقطع صغيرة متناثرة بداخل الجسد، ظل فوق الأرض يتلقى الضربات بقهرٍ وصمتٍ وذاكرته تُعيد له فيلم اعتقاله السياسي وكيف تلقى العذاب هناك بكل كمدٍ وقهرٍ..
تركوه !!.. لا يعلم.
هو حقًا لا يعلم هل تركوه هُم أم أن ارتخاء جسده هذا ناتج عن فراق الروح لجسدٍ بالٍ غير نافعٍ، شعر بنفسه يغوص في عُمقٍ ظالمٍ وآخر ما لمحه بعينٍ مكسورة تُجاهد للرؤية؛ كانت رؤية ضخام الهيئة يرحلون بالعصا الغليظ نحو سيارتين سوداوتين وكأنهم أمروا بإغلاق الشارع فقط لأجله هو، ومض بعينيه وخبأت لمعتها من جديد وهو مُلقى فوق الأرض يعجز حتى عن الصراخ والاستعانة بغوثٍ..
الأمل لديه خفتَ، ورُبما آشعة الشمس اختفت
ورُبما ضل المسعى ولم يعد القلب يسعى..
وقد تكون الروح أصبحت مُحطمة، والطُرقات حوله مُظلمة،
ورُبما أصبح كما طيرٍ كُلما طار وارتفع؛ سقط ووقع
وأمام كل ذلك لم تتحدث فيه إلا الأعين المقهورة، لذا كل ما نتج عنه كانت دمعة هاربة من بين حصار الأهداب لتخبره أنها حُرة ولم تكن مثله، هو الطير المُقيد بجناحين مكسورين بداخل قاع الأرض، ولم يطل للسماء بعد،
هُنا لسانه عجز عن الصراخ، وقلبه تألم من النبض.
__________________________________
<“قبل أن أقاتل العالم بخوفٍ؛ قتلت نفسي بضراوةٍ”>
قبل أن تحكم على العالم وتُصرح بحكمك..
حاكم نفسك أولًا، وقبل أن تُقاتل العالم الموحش، قاتل نفسك أنتَ، رُبما العالم لم يرأف ببشرٍ ضِعاف مثلنا، لكن على أقل ما في باطن الأمر علينا أن نُشدد من أزر أنفسنا؛ حتى ولو بالقتال..
كان اللقاء على غير المتوقع، من جديد تقف على مرأى من عينيه وتطالعه النظرة بأخرىٰ كأنها لم تخشاه بعد؟ تقف وكأنها أتت لتُقيم حربًا في ساحة عشقٍ وأول فردٍ واجهته في ساحة العِراك كان قلبها، هكذا يبدو عليها من تراجع نظراتها لأخرى ملهوفة بشغفٍ في رؤية ملامحه، حاولت أن تغض بصرها عنه، لكن كيف تغض بصيرة القلب التي لم ترَ سواه هو؟.
خطى نحوها بتريثٍ وهدوءٍ وهو يشملها بعينيه حتى وقف أمامها وقلبه بداخله أضحى كما الخيل الجامح في ميدان معركةٍ قتالية؛ أو رُبما هو يعدو لأجل الوصول إليها هي دامت النظرات بينهما بصمتٍ قاتلٍ قرر هو أن يقطعه بسؤاله الذي خرج مبحوحًا وكأن لرؤياها الأثر البالغ عليه:
_إزيك يا “فُـلة”؟.
أحقًا يطمئن عليها من بعد غيابٍ تعمده كلاهما للآخر؟ هذا أول ما جال بخاطرها قبل أن تُغصب شفتيها على بسمةٍ آلية تخلو من الروح وتجاوبه بثباتٍ واهٍ _بعثره هو بظهوره_ لتخبره عن نقيض حالها:
_أنا بخير، أنتَ كويس؟.
تلك الأسئلة المملة من بعد القطيعة هي أكثر ما يبغضه هو بين أقرب الأقربين للقلب، للحظةٍ كاد أن يصرخ لكي يتوقفا عن السؤالِ الفاتر المُكرر، لكنه تراجع من جديد ثم أشار لها للجهة الأخرى وقال بهدوءٍ يُلقي أمامها بالخيارات المُتاحة:
_تحبي نروح عند الخيول في الهدوء، ولا ندخل جوة أحسن؟ بس البيت زحمة ممكن متكونيش على راحتك.
شيءٌ ما أخبرها أن المكان المتواجد هو به هو ذاته الذي يسلب راحتها لكنها أختارت أهون الشرين وقررت أن تبقى معه في الهدوء بدلًا من الجمع المحتشد بالداخل، أو.. أو ربما هي رغبة قلبٍ خبيثٍ يقود عقلًا مُضطربًا ضل الجهات التي يتوجب عليه أن ينتهجها لكي يتحرك..
وقف بجوار الخيل الأسود الكبير”أدهـم” ووقفت هي بجواره تراقب الحظيرة الممتلئة بالخيول العربية الأصيلة وتعجبت من المكان الذي بث الطمأنينة في قلبها، لو فقط كانت الظروف أفضل لكانت أطلقت العنان لروح المتمردة بداخلها، لذا تنهدت بعمقٍ ثم سألته بمقدمةٍ تتنافى مع ما تود قوله:
_شكلك بتحب الخيل دا أوي.
التفت لها بعينيه أولًا ثم أكمل فعله برأسه يواجهها وأومأ موافقًا يؤكد صدق حديثها ثم أضاف مُفسرًا بإردافٍ أكبر:
_بحبه علشان شبه صاحبه، الوحيد فيهم هنا اللي قدر يشوفني ويسمحلي أقرب منه، كأن روحهم مربوطة ببعض، أول واحد عرفني هنا كان عمي وحس بيا إني منه، و”أدهـم” برضه حس بيا وأول مرة لمسته فيها حط راسه على أيدي وسِكت، علشان كدا بحبه أوي.
لوهلةٍ أشفقت عليه وكادت أن تصرح بالبكاءِ لكنها أوقفت كل ذلك وعدلت عن طريق البكاء بغيره أكثر عمليةٍ عن ذاك الذي يمتليء بالعاطفة، فأتى سؤاله له مُباغتًا كأنها تصارع لكي تتفوه به:
_هو أنتَ اللي نزلت الحاجات اللي نزلت عن “حـمزة” الله يرحمه صح؟ دي مش صدفة إنك تسألني عنه وسيرته تيجي بينا وبعدها بأيام الناس كلها تعرف كل حاجة عنه كدا، ودا هيودينا لسؤال تاني مش هقدر أخبيه عنك.
نظرات العين لا تُكذب وهذا ما يصدقه هو..
هو يُصدق العين أكثر من اللسانِ، ونظراتها تصارع لأجل شيئين أولهما كان اتهامًا تتمناه كاذبًا، وثانيهما كان أملًا فيه ألا يكون هو من فعل هذا الشيء، ورغم ذلك كان جوابه مراوغًا كي لا يُصارحها بالقول:
_وأنتِ فكراني ماشي أقتل أي حد وخلاص؟.
توسعت عيناها من سؤاله الغريب وهي تفكر أهي لتلك الدرجة أصبحت مقروءةً أمامه لكي يفهم ما يدور بخلدها؟ بينما هو فتنهد بقوةٍ ثم أفصح عن كل شيءٍ فهمه وجاوب عليه قبل أن تسأل هي عنه:
_أنا اللي نزلت الحاجة اللي نزلت وأنا اللي بفتح الموضوع تاني، واسم أخوكِ مش هيتقال متقلقيش، إنما سؤالك التاني فدا معنديش جواب ليه غير إني ماكنتش بقتل غير اللي يستاهلوا القتل، وبالمناسبة “حـمزة” كان بيجمعني بيه شغل لفترة كبيرة بس مكانش بشكل مباشر، كان فيه وسيط بينا علشان ياخد المعلومات اللي تخليه يقدر يكتب ويدور ويفضحهم، مش أنا اللي قتلته متقلقيش، موصلتش للمرحلة دي.
بحديثه أجاد المسح فوق قلبها وبث الراحة لداخل روحها المُشتتة بين طريقين كلاهما كان قاسيًا في ظُلمته، وقد وجد الراحة جلية في عينيها وتعجب لما تراه بتلك الصورة كأنه لم يُخيب أمالها؟ أهي لازالت تأمل به خيرًا كي تبتسم له بتلك الطريقة؟ لما لا ترحل أو رُبما تختفي عن حياته؟ بينما هي فعادت تراقب ملامحه فباغتته بسؤالٍ آخر لم يتوقعه منها:
_لما سافرت معاهم كنت خايف؟.
هي تسأله وتعلم الجواب مُسبقًا، لقد رأت بعينيها المقاطع واللقطات المُسربة عن الهجرة الغير شرعية وعن تهريب البشر كما البضائع المُهربة من الموانيء الطبيعية بهدف ربحٍ غير مستحقٍ، بينما هو قرر أن يُكمل معها الطريق الذي تقوده إليه فقال بثباتٍ كاذبٍ:
_كنت ميت، في الأول كنت فرحان أوي علشان كنت فاكر إني هركب طيارة ودا كان حلم حياتي، ماكنتش أعرف إني ميت كدا وهيكون دا آخر مصيري وأنا بنط من مركب لمركب وبنط في عبارة الموج كان بيقلبها على الجانبين وكل واحد ونصيبه، كنت مستغرب من حال الدنيا الغريبة دي، عيل عنده يدوب ١٠ سنين بدل ما يكون نايم على سريره في الدفا، لقى نفسه في عبارة وجسمه بيترعش من كتر البرد، عيل واقف يعيط علشان حاول ياخد منهم أكل ملحقش وكان خلص، ولما كنت تحت الشجرة بحضنها علشان البرد مموتني، أنا مشيت من هنا عيل فيه الروح، ووصلت جثة رمت روحها في البحر، أنا مش عايش، ولو عايش فدي حلاوة روح في الدنيا مش أكتر…
عقب حديثه بتنهيدة مطولة كانت لها الغلبة على كل كلماته المروية بمياه القهر والحزن، بينما رفرفت هي بأهدابها كي لا تبكِ أمامه وتُفصح عن عبراتها لكن العين الخائنة تفعل ما يحلو لها، فهرع الدمع من عينيها لأجله هو، كانت تتمنى لوهلةٍ أن يكون هو من قتل “حـمزة” كي تجدها الحيلة الأقوىٰ وتعرضها على قلبها الذي لازال يتمسك به، لكن يبدو أن كل الحِيل فقدت أثرها في التحقيق…
التفت لها بكامل جسده يراها بعينيه وهي أمامه تنتحب بصمتٍ فسألها بتعجبٍ من حالتها الغريبة تلك:
_وبعدين؟ سبب عياطك إيه وياريت ميكونش أنا علشان أنا مبكرهش قد الشفقة عليا، العياط مش هيحل حاجة، بالعكس هيفكرنا بقلة حيلتنا وبس، وفري دموعك للي يستاهلها أحسن.
كفكفت عبراتها المُنسابة ثم رفعت رأسها له لتتواصل المُقل ببعضها وتلمح بعينيها نظراته المصوبة نحوها، وحينها أخبرته ما أملاه عليها قلبها فكان الحديث صادقًا منها له:
_للأسف دموعي دي مبتنزلش غير على الغاليين اللي يستاهلوها يا دكتور “مُـنذر” بس الموضوع مش بايدينا نتحكم فيه، أصل دي قلوب مش آلة هندوس عليها نحرك المشاعر فيها.
هكذا أختتمت حديثها ثم أولته ظهرها وكأنها تركت له الأقواس مفتوحةً بغير نهايةٍ أكيدة تكون قاب القوسين، تركت له النهاية يختارها هو كما يود وكأنها بحديثها الأخير تخبره أن القلب لازال يتمسك به حتى وهو يفلت كفه عنها ويسلك درب الهرب والفرار، وقبل أن تطأ بقدمها لخارج مُحيطهما سويًا نطقت بتهكمٍ حاولت أن تكتمه في سريرتها لكنها فشلت:
_حضرتك عندك علم إن فاضل على كتب كتابنا ١٥ يوم وأقل كمان؟ شوف بقى هنقول للناس إيه علشان محدش يجيب سيرة الموضوع بحاجة وحشة، لو مش واخد بالك أنا بنت وكله هيجيب في سيرتي لما يتقال إن العريس سابني قبل كتب الكتاب.
كما يحلو لها تفعل حتى ولو كان التمرد، لذا أشارت بكلماتها لحقيقةٍ تجاهلها هو كي لا تشغل حيزًا من العقل لديه، وتركته في مهب الريح بمفرده يفكر فيما يتوجب عليه فعله معها خاصةً أن الأمر أولًا وأخيرًا يعود لسمعتها وسيرتها هي كفتاةٍ تسعى عائلتها لتدميرها هي وشقيقها، وهنا يعود العقل متقهقرًا أمام القلب ويسأله عن رغبته فيأتيه الجواب من قلبه ردًا على عقله:
_جاحدٌ أنتَ وراغبٌ بالفراق،
وعاشقٌ أنا لكني مُشتاق..
أنتَ ترغب في البُعد والتعالِ،
وأنا بالله لا أود من عينيها إلا الوصال
كُن أنتَ كما تكون، لكني دعني أُهيم
بها حُبًا، وأقول سبحانه من جعل حياة المرء
في نظرةٍ من تلك العيون.
وما بين عقلٍ يتساءل وقلبٍ يجاوب، لازال القرار مُتأرجحًا بين جهتين متناقضتين والسقوط كان هو النهاية الحتمية لكليهما، لكن بعض القرارات نأخذها بفرض عينٍ، وفينا كانت مُختارة بكل طواعيةٍ.
__________________________________
<“أنا والليل رفيقان يشبه كلانا الآخر”>
بداخل كل روايةٍ تُروى سوف نجد قصة مخبوءة بين سطورٍ لم نلتقطها منذ وهلتنا الأولية، وإنما كان يحتاج الأمر للتعمق في الكتابِ وصفحاته كي نجد أن البطل المغمور هو الذي أشار للجيش نحو المعركة ثم قادهم وتقدمهم وأول من راح ضحيةً لتلك الحرب كان هو، ذاك البطل الذي قدم التضحية أولًا؛ هو ذاته من تقدم بجسده ثانيًا، والتالي كان صعود الروح لبارئها وسقوط الجسد فوق الأرض..
الليل يحاوطه ويجاوره، يقف بتيهٍ وحزنٍ وذكريات الغائب عالقة فيه كما الطفل الصغير الذي يتمسك بذيل عباءة أمـه وهي تركض بعيدًا وهو يشد خطاه ويتبعها هي أينما حلت خطاها، هرب من الداخل ووقف بجوار “لـيل” الذي بان عليه الحزن جليًا في عينيه الحزينتين كمثيلتين صاحبه الواقف بجوارهِ..
الألفة بينهما كانت غريبة وكأن صديقه يطلع على فؤاده ويشاهد ما فيه من ألمٍ فيقرر أن يشاركه حزنه أيضًا، وقد تنهد بقوةٍ ثم مسح فوق رأس الخيل ثم سأله بتعبٍ بلغ عليه أشده:
_أجيب حقه منين ومن مين في الدنيا دي؟ طب أنا وعارف أعدائي كويس أوي ومفتح ليهم، لكن دا حقه في رقبة مين؟ يا أخي كأن كل حاجة واقفة ضدي علشان أرجع تاني للبداية، أنا مش هعرف أرتاح من غير ما حقه يرجع على الأقل زي ماهو من سنين رجعلي حقي وخلاني إنسان حُـر من تاني، ولو “سـامي” و “عـاصم” ليهم يد فيها، يبقى المرة دي بموتهم بجد.
اتقد الغضب فيه كما النيران المُضرمة فوق مرجلٍ مُشتعلٍ وصرخت عيناه بثورةٍ هتافية في ميدانٍ مغلق يحجبه أفراد الأمن، وسرعان ما تذكر كل شيءٍ فنكس رأسه للأسفل وفعل المثل “لـيل” لكن صوتٌ من خلفهما أتى مصبوغًا بالقوةِ أشار نحو واحدةٍ من الجدران وقال بعزة الشامخ في أرضه: ‏
_”ومَن لم يمُتْ بالسَّيفِ، ماتَ بغيرِهِ،
ومَوتُ الفتىٰ بالسَّيفِ أعلىٰ وأفخرُ”
أرفع راسك علشان أنا معودتكش تحنيها، أنتَ أتربيت على القوة والعِزة وعمري ما ربيتك توطي راسك لتحت، هو صحيح مات، بس مات موتة تشرف، مات والنهاردة كل أب وأم بيدعوا إن عيالهم يكونوا زيه، مات آه بس قبل ما يموت أدى الدور والأمانة اللي كانوا في رقبته، ملهاش لازمة تنزل راسك يا “يـوسف” ارفعها وأدعيله.
كان ذلك قول “نَـعيم” الذي أتى لكي يُشدد أزره، بينما هو فالتفت له بعينين نظرتهما عكست حاله المتألم ورد عليه بوجعٍ لم يستطع أن يحتويه أكثر:
_وأخرتها طيب؟ حق اللي مات في رقبة مين؟ وحلمه اللي ضاع وحياته اللي راحت هدر، مش دا الشاب اللي صرخ وعلا صوته وفضل يشاور ويقول للناس على اللي بيحصل؟ مش دا اللي ضيع شبابه وحياته وعمره كله علشان كلمة حق خاف يقابل ربنا من غير ما يقولها؟ حقه رجع فين؟ بعد ٣ سنين وأكتر قصته بتتحكي لسه دلوقتي والناس تمصمص شفايفها وتتصعب عليه ويومين ويسكتوا؟ إيه اللي هيتغير هنا؟ ولا حاجة هتحصل، الناس هتنساه، والحكاية هتتقفل، واللي عمل كدا محدش هيقدر يلومه، قولي أجيب الحق منين؟.
ابتسم الآخر بسخريةٍ يملؤها القهر، فلو كان يعلم المرء مكمن حقه من المؤكد كان حارب الأرض من الشمال للجنوب لكي يحصل عليه، لكن الحقوق أصبحت مخبوءة بكل أسفٍ أسفل ركامٍ من الضلال، بينما “يـوسف” فمسح فوق وجهه بكلا كفيه بتعبٍ ثم سأله من جديد بخيبة أملٍ:
_أنتَ مش قولتلي قبل كدا إن لازم تعرف عدوك علشان عينك تبقى في وسط راسك؟ وقولتلي إن اللي بيغفل عن عدوه، عدوه بيستنى أقرب فرصة ويضربه فوق راسه على غفلة؟ طب هو مين عدوه وأنا أجيبله حقه منه.
النظرة ضائعة، والنبرة مُشتتة، والكلمات تائهة، وجميعهم يدلون أن المتحدث فقد كل شيءٍ كان يملكه من الحيل، لكنه لم يتوقع أن يكون الرد من أقسى مما تتخيل بتلك الطريقة حيثُ صرح الآخر بقولٍ قاتلٍ:
_لو هو الوحيد اللي كان حُـر يبقى عدوه ١٠٠ مليون خاضع وجبان، ولو هو الوحيد اللي كان بيصرخ ويتكلم يبقى عدوه ١٠٠ مليون أخرس وساكت، العدو بجد اللي يتسبب في ضياع الحقوق.
تلك هي الحقيقة الأصعب في المواجهة، وتلك هي الحقيقة القاسمة لظهرٍ كاد أن يستقيم لكنه أصيب بكسرٍ جعله يسقط مترنحًا وكما قيل لا طال السماء ولا اندثر في الأرض، أولاه “نَـعيم” ظهره بقهرٍ على ماضٍ وترك خلفه شابًا مقهورًا على الحاضر ولا نعلم أين مصير المستقبل من بين كليهما..
قرر أن يلتحد في بيته ويهرب من ضجيج العالم بالخارج فلاذ بالفرار نحو شقته سريعًا لكي يجلس يكون برفقة زوجته، هرب وكأن أفضل السُبل هي الهروب من شيءٍ يقف مرصادًا لعقلٍ متألم من الحياة التي تصفع بكل قوتها، ولج الشقة الهادئة وشعر بعبق الأمان ما إن وجد محطة إذاعة القرآن الكريم بالبيت، ووجد زوجته فوق سجادة الصلاة تقيم فرض العشاء..
ولج وجلس في انتظارها فوق الأريكة وعيناه ترصدها لكن ذهنه كان غائبًا عنه، ذاك الشعور هو يعرفه خير المعرفة، والأحرى من ذلك هو ذاك الخواء الذي يسكنه كُليًا، حتى رأسه تتوقف عن الحديث والنقاش، وفي تلك اللحظة تعجب من حاله وتبدلت ملامحه وتحدث لنفسه بغير صوتٍ مسموعٍ:
_أنتوا فين يعني مش سامع ليكم صوت؟!.
سأل ولم يأتيه الرد وتلك هي الهوة الساحقة التي سوف تبتلعه في جوفها ولم يجد منها مفرًا، تلك هي الكارثة الأكبر في حياته والتي شارفت على القدوم وتلك المرة لن يجد منها مفرًا.. وأين المفر من العِلة وعِلته تسكن بداخله؟.
أنهت هي فرضها وتحركت تُجالسه وهي تسأله باهتمامٍ:
_أنتَ أحسن دلوقتي؟ اتأخرت برة وقلقتني عليك.
انتشلته بصوتها من حاله فزفر بقوةٍ ثم قال بتيهٍ لا يعلم للعودةِ منه عنوانًا أو طريقًا:
_أنا كويس، أو يمكن كويس، مش عارف.
أخبرها وتنهد ثم لمح بعينيه الشُرفةِ فولجها وتركها محلها تتعجب من حالته منذ الأمسِ، تتعجب من شتاته وتيهه وكأنه يصب ما فيه بداخلها هي، لذا تركت موضعها ثم اقتربت منه تشد الحجاب فوق رأسها ووقفت تمسح فوق ظهره وهي تسأله بثباتٍ كانت القوة مصدرًا له:
_طب ولو أنتَ مش عارف مين هيعرف؟ قولي مالك وعرفني يمكن أكون زيك وأقدر أساعدك، عارفة إن صعب أنتَ تقول مالك، بس عرفني فيك إيه طيب.
أغمض عينيه بقوةٍ ثم علق بكلمةٍ واحدة جعلته كفها يتوقف خلف ظهرها كأنه يطعنها هي بتلك الكلمة:
_أنا زهقت.
_مني؟.
سألته باندفاعٍ بعد مرور ثانيةٍ خوفًا أن يكون مَلَّ صحبتها والبقاء بجوارها دون إتمامٍ لتلك الزيجة، بينما هو فحرك رأسه نفيًا وعدل جوابه بشتاتٍ أكبر:
_مش منك ومش من حد، أنا زهقت من نفسي ومن دماغي اللي تعبتني أكتر من اللي حواليا كلهم، النهاردة بالذات سكتت وهي مينفعش تسكت ولا حتى تعمل زي الباقي، لو هي سكتت مين هيجيب حقه؟.
عقدت ملامحها بعدما زادها شتاتًا بحديثه وأصاب ثباتها بزعزعةٍ في جذوره وأمام حالته التي تعلم هي أن أسبابها كانت نفسية أكيدة؛ لم تتوانَ عن دعمه أو تفكر في تركه بل أمسكت يده وسحبت له مقعدًا وجلست في مواجهته تسأله باهتمامٍ تستغل حالة رضوخه لها:
_قولي هما مين اللي ساكتين؟ ودماغك عملت فيك إيه؟ واحدة واحدة أنا معاك وسامعاك أهو، مين مزهقك طيب لو مش أنا ومين اللي مزعلينك؟.
يبدو أنه لم يُنصت لها من الأساس وهذا ما أكدته عيناه وقد مدت هي كفيها نحو وجهه تكوبه بكلا راحتيها وحينها أخبرها بتيهٍ عن كل شيءٍ، أخبرها عن قصة “حـمزة” وعن وفاته وعن حياته وعن كل شيءٍ تعتل به نفسه، أخبرها عن عجزه في استرداده لحق رفيقه وحينها واسته ببكاءٍ وشفقةٍ عليه ورثاءً للراحلِ وهي تمسح فوق كفه بقولها:
_أدعي ربنا يرحمه ويجعله من الشهدا، مات وهو بيجاهد علشان أرضه وحقه وربنا جعله سبب علشان أنتَ تخرج من أزمتك، صدقني أنتَ مشيل نفسك فوق طاقتها، ودا مش هيحل حاجة غير إنه يزود في همك وتعبك وخلاص، حقه عند ربنا هو المنتقم من كل ظالم، بس مفيش حاجة تتعمل أكتر من إن سيرته تيجي بكل خير ما حصل، دا فيه شباب كتبوا اسمه على الحيطان في الشارع، أنا فتحت دقايق بس لقيت الناس كلها بتحكي قصته وكلهم بيذكروه بالخير، تفتكر في إيه ممكن يتعمل في حياة الإنسان يوصله للدعاء دا أكتر من كدا، وسيرته ترجع تزعجهم من تاني رغم إنهم افتكروا خلصوا منه؟ لو راح “حـمزة” فيه مليون غيره مستعدين يرجعوا حقه بس عاوزين الفرصة.
أغمض عينيه هربًا من المواجهة بينما هي كفكفت عبراتها ثم أشارت له أن يتبعها، ورغم تيهه وشروده إلا أنه أمتثل لمطلبها فوجدها تدخل مطبخها وما إن أقترب منها كشفت عن الطناجر المُغطاة ورفعت رأسها بزهوٍ وهي تقول:
_رأيك يا قمور.
اقترب بملامح معقودة سرعان ما انبسطت على الفور حينما لمح الطعام المصنوع بينما هي ضحكت بسعادةٍ ثم وقفت بجوارهِ تضع كفها فوق كتفه وهي تُضيف بحماسٍ وفرحةٍ لعلهما ينتقلا له:
_قولت أنتَ محتاج مكافأة حلوة علشان أنتَ مش عملت كتير علشاني الفترة اللي فاتت، قومت عملتلك ملوخية وورق عنب وضحيت وفتحت الزتون اللي ماما عملاه عشاني، قولت مش خسارة في حبيب عيوني أهم حاجة ياكل ويكون مبسوط، مبسوط؟.
بنفس الحماس السالف سألته عن مشاعره بينما هو ابتسم لأجل محاولتها لأجله ثم لثم جبينها بلثمة امتنانٍ ثم قال بصدقٍ وقد أسر عينيها بعينيه فعليًا:
_مبسوط علشان أنتِ نصيبي.
تبدل في غضون ثوانٍ وبقدر طرفة عينٍ، حتى عاد وجهه باسمًا كما كانت تلك هي عادته، بينما هي فشعرت حقًا بالفرح لكونه ساهمت في تبديل مزاجه خاصةً وهو يتشبث بها أمسًا ويتمسك بها بين ذراعيه كأنه يخشى من فرارها، وما إن كاد أن يتحرك ويترك المطبخ وجدته يعود لها ثم لثم وجنتها برقةٍ وما إن تواصلت المُقل معًا قال هو بصدقٍ:
_أنتِ أحلى من “بنيولوبي” كمان.
تلك الوفية التي سبق وأخبرها عن وجه الشبه بينهما، اليوم يثني عليها ويزيدها حسنًا عن الأخرى، وهي تُنصت له بل وراقبته وهو ينسحب من المطبخ بهدوءٍ عجيبْ جعلها تشفق عليه أولًا، ويزداد حبها له بداخل قلبها ثانيًا.
__________________________________
<“لقد أتانا يومٌ نجلس به ونراقب الشروق سويًا”>
كُنتُ دومًا أتساءل متي سيحين اللقاء؟.
كنت أسأل حالي كل يومٍ كيف سنجتمع سويًا مع بعضنا أنا والقمر ونجلس برفقة ليلنا ونُسامر السهر؟ كنتُ أتساءل متى ستحلو لنا الأيام من بعد مُـرٍ طال ربيع العمر وامتزج بحلو الأيام، ويبدو أن اليوم قد أتىٰ وجلسنا نُصادق الليل ونراقب القمر..
فوق سطح البيت القديم الخاص بأحبابٍ رحلوا جلس كانت “قـمر” تجلس فوق الأرض الرُخامية فوق بساطٍ ناعمٍ ورأس “أيـوب” مُلقى على ساقيها وهي تمرر أناملها فوق خصلاته روحةً وجيئةً بصمتٍ وقد لاحظت بداية شروق الشمس فتنهدت وسحبت نفسًا عميقًا لتجده يقطع الصمت بقوله مُقرًا أكثر من كونه مُستفسرًا:
_القعدة معايا مملة صح؟.
أخفضت رأسها نحوه بحاجبين معقودين فوجدته يتنهد ثم اعتدل جالسًا بوضعٍ معاكسٍ لجلوسها وقد أصبح في مواجهتها وأضاف مُردفًا:
_بحس إن القُعاد معايا فيه ملل علشان أنا زي ما أنتِ شايفة كدا هادي بس أنا مش مهتم بأي مواضيع دنيوية خالص، أنا شخص رتمي هادي وطبعي هادي أوي برضه، مش حابب تتحولى لشخص ممل زيي، ممكن تتكلمي أنتِ عادي.
حركت كتفيها برقةٍ غير مقصودة ثم قالت بنبرةٍ هادئة تخبره عن ما في باطن الأمر من مضمونٍ:
_ماهو أنا خلصت خلاص كل الحكايات، وإحنا النهاردة لفينا مع بعض البلد كلها وكنا مبسوطين سوا، فخلينا في الهدوء دا شوية أنا بحبه، وبكرة لما نرجع القاهرة من تاني أكيد هنلاقي ١٠٠ حاجة نتكلم فيها، بس أنا عاوزاك أنتَ اللي تتكلم، عاوزة أسألك عن حاجة، ينفع؟.
أومأ لها موافقًا فوجدها تُبلل شفتيها الجافتين ثم سألته بتوترٍ خشيةً من وقع سؤالها عليه:
_هو أنا ليه لما بلمس ضهرك حتى لو صدفة بتترعش وتتخض؟ حتى لو واقف سرحان وبحاول ألفت انتباهك بتتخض برضه، هو أنتَ فيه حاجة كانت السبب في كدا؟.
أغمض عينيه سريعًا وجاهد كي يرسم بسمة عذبة فوق وجهه لكن رغمًا عنه خرجت متألمة وظهرت أكثر عندما سألها بقهرٍ لم يفلح في إخفاء أثره:
_هو أنتِ يوم ما هتسألي هتفتحي في الجروح؟.
تبدلت ملامحها لأخرى حزينة بينما هو ألقى برأسه فوق ساقيها ثم تنهد بقوةٍ وقالت بصوتٍ مبحوحٍ كان الألم واضحًا به:
_أول مرة في المعتقل لما خدوني، كانت الأصعب في كل حاجة، في الإحساس وفي الوحدة وفي الضلمة وفي الخوف، وفي القهر، وفي مشاعري كمان، يمكن نسيت المرتين التانيين بس الأولى عمري ما عرفت أنساها، كل يوم كان بيدخل واحد يشرح في ضهري ويمشي عليه بسن إزازة مكسورة، مكانتش بتسيب أثر في الجسم، بس أثرها في النفس عمره ما يتنسي، كنت في شتا وعريان وبترعش، وهو كل يوم يدخل يسب في شرفي وشرف أمي وعيلتي كلها، ويمسك الإزازة ويشرح بيها جسمي أكتر، وبعدها يحط بنزين على ايده ويمشيها فوق الجروح، وأنا مبقدرش أصرخ حتى، كنت بسكت وخلاص علشان السكوت أنسب حل، بس لحد دلوقتي جسمي بيترعش كل ما حد يلمس ضهري، بس لما بابا وأخواتي لقوني قعدت شهور مبحضنش حد فيهم، حاولت علشانهم أتقبل…
أنهى الحديث بتعبٍ؛ فوجد دمع عينيها يسيل ويواسيه، اعتدل يواجهها بنصف جلسةٍ حينها ورفع كفه يزيل عن عينيها الدمع وقال بنبرةٍ هادئة صبغها بالأملِ:
_الحمدلله على كل حال، أنا خرجت ومعاكِ أهو وبصي إحنا فين؟ في بيت “رقـية” مع بعض أنا وأنتِ وربنا يكرمنا ونيجي مع بعض بعيالنا كمان، بلاش العياط دا علشان خسارة لمعة عيونك الحلوين يروحوا في البُكا.
أومأت له موافقةً لكن الحزن لأجله لم ينفك عن ملامحها فتنهد وسحب نفسًا عميقًا يُعبيء به صدره ورئتيه ثم قال يطلب منها بثباتٍ كي يُزيل عنها حزنها:
_ممكن دلوقتي أنام على رجلك وطبطبي على ضهري يمكن بوجودك أنسى شوية من اللي كان حاصل فيه، يلا بس بالراحة بالله عليكِ، متنسيش إني لسه متعافتش منه.
وبالفعل التفت لها بجسده ووضع رأسه فوق ساقها وحينها ظلت تمسح فوق ظهره بحنوٍ كأنها تعتذر منه عن شيءٍ لم تقترفه يداها، وارت الدمع والحزن خلف الأهداب وظلت تُمرر كفها ولم يخفَ عنها ارتجافة جسده أسفل لمستها فوق ظهره، لكنها كانت تُمرر أناملها بهدوءٍ أكبر حتى استكان وأغمض عينيه مستسلمًا لتلك اللحظة وحينما تأكدت من نومه، أخفضت جسدها وأصبحت في مواجهته وحينها دست نفسها بين ذراعيه ورفعت كفها تمسح فوق ظهره من جديد وهتفت ببكاءٍ:
_حقك على قلبي من الدنيا كلها.
وصلته جملتها من بين نومها فضمها له أكثر ثم طبع لثمة فوق جبينها وشد الغطاء عليهما ودثرها جيدًا بين ذراعيه وهو يأمل أن ينتهي الليل ويعقبه النهار سريعًا، لطالما كان دومًا يظن ويتأكد أن الليل دومًا له نهارٌ والنهار لن يغيب بعد مرور الليل.
انتصف النهار عليهما ومرت ساعات كثيرة وقد خرجا من البيت سويًا وتوجها نحو بيت أقارب أمه حيث إصرار خالة أمه على حضوره لبيتها وتنازل الغداء برفقة زوجته معها قبل الرحيل إلى القاهرة من جديد، وأمام إلحاحها وتذكيره بمحبتها لأمه لم يقدر على رفض مطلبها فذهب إليهم برفقة زوجته، وعلى ذكر زوجته فهي ارتدت تلك العباءة السوداء التي أتى بها “يـوسف” لأجلها على نمط الطراز العربي الفلسطيني وارتدت حجابًا باللون الأحمر يناسب لون بشرتها وحينها كان رد زوجها على هيئتها حاضرًا بقوله:
_سبحانه ربي الخالق الوهاب،
والحمدلله على رزقه ليا بيكِ أنتِ.
وأنهى غزله وقتها بلثمةٍ فوق وجنتها ثم قادها لبيت جدته كما أخبرها، ومع حفاوة الترحيب وسعادة أهل البيت وجدت نفسها تحب الجميع وتكون صداقات وعلاقات معهم بوجهٍ بشوشٍ ضاحكٍ جعل البقية يرتاحون لها، وبعد مرور ساعة تقريبًا أتت جدته له وسط رجال عائلتها وأخبرته بنبرةٍ ضاحكة:
_تعالى شوف القـمر بتاعك بيعمل إيه جوة.
كانت جملتها كفيلة لدب الخوف في ملامحه التي تبدلت وهو حقًا لا يعلم ماذا تفعل بالداخل، لكنه تحرك بعدما استأذن من الرجال وولج لنصف الدار الداخلي يُحمحم بقوةٍ غاضضًا بصره ليجدها تجلس أمام الفُرن المعدني الكبير وفي يديها آداة خشبية تقوم بهزها وتحريكها بشكل نصف دائرٍ ثم تدفع بها داخل الفرن الغازي…
توسعت عيناه حينما وجدها ترتدي عباءة تشبه تلك التي ترتديها النسوة في تلك القرية كما قامت بعقد عمامة مزركشة بالزهور فوق رأسها، ورغمًا عنه تذكر أمه التي كانت تحضر لهذا البيت وتفعل الشيء ذاته، وما بين ماضيه وحاضره وجد نفسه يقترب منه بخطواتٍ هادئة ثم جلس على عاقبيه وسألها بوجهٍ مبتسمٍ:
_أنتِ بتعملي إيه هنا؟ مين علمك تخبزي.
راقصت حاجبيها له بشقاوةٍ ثم صبغت حديثها بالزهو والخيلاء في النفس وهي تقول:
_أنا متعددة المواهب أصلًا، بس تيتة “لـواحظ” كانت علمتنا قبل كدا أنا و “ضُـحى” لما روحنا قضينا أجازة معاهم هناك، علشان كدا بعرف، وبساعد تيتة “فـايزة” والخالة “قـدرية”.
رفع حاجبيه بتعجبٍ ورغمًا عنه ضحك بملء شدقيه فوجدها تغمز له بثقةٍ ثم قامت بحمل حِفنة من العجين بأحد كفيها ووضعته فوق المطرحة الخشبية الممسوحة بالدقيق الأبيض ثم قامت بفرد العجين ووضعته بداخل الفرن أمام عينيه الضاحكتين وقد تحدثت جدته بنبرةٍ ضاحكة أعربت عن سعادتها لأجله:
_اللهم بارك يا” أيـوب” حتة عروسة زي العسل، ربنا يبارك فيها يا ابني ويسعدكم ويبعد عنكم العين يا رب، دي “رقـية” لو عايشة كان زمانها طايرة في السما من فرحتها بيها وبكرم أخلاقها، عن إذنكم هروح أجيب حاجة تشربوها.
أومأ لها مبتسمًا بعدما شكرها، ثم جاور زوجته وسألها بنبرةٍ هادئة وهو يمازحها:
_محتاجة مساعدة يا خالة “قـمر”؟.
ضحكت له بملء شدقيها ثم علمته ودربته كيف يفعل مثلما تفعل هي بخفةٍ وهو يتابعها بتركيزٍ بالغٍ كأنه صبي في صغر عمره يتعلم من أمه كيفية صنع الخبيز بل ويدفعه فضوله للعمل بعد العلم بما رأى، شاركها لحظة الجنون تلك بجنونٍ أكبر حينما مد يديه يساعدها فيما تفعل وكأنه ذاك الصغير وعاد للجلوس برفقة “رقـية” الحبيبة التي يبدو أن تلك تحمل في قلبها الكثير منها.
__________________________________
<“لأجل رؤية شعاع النور، نحارب في الظلام”>
لأجل رؤية شعاع النور نحارب في الظلام..
بل ونحارب أيضًا الظلام ذاته، نُحارب ونسعى ونصرخ ونرفع أصواتنا لكي يعلم العالم أن الصمت لم يلق بنا، والخضوع لم يكتب لأجلنا، نحن الأحرار من كل قيدٍ، لا يُجبرنا على الرجوع قيدٌ..
حينما وصله الخبر وهو في بيت عمه بعد عدة محاولات فشل خلالها في الوصول إلى رفيقه، لجأ إلى الطريقة الثانية وهي مهاتفة بيته، وحينها علم بما حدث فخرج من البيت سريعًا بتوترٍ لاحظه “إسماعيل” و “إيـهاب” إبان خروجهما من البيت فأوقفه الثاني وسأله بعجبٍ في أمره وتيهه:
_رايح فين كدا؟ ومالك وشك جايب ألوان ومخضوض؟.
_فيه مشوار ضروري لازم أروحه يا “إيـهاب” معلش بس هاجيلك تاني وهقولك دلوقتي أنا مستعجل ولازم أمشي، سلام.
هكذا جاوب وهو يتابع هرولته لكن “إيـهاب” أشار لشقيقه فوافق الآخر وفهم عليه لذا تابع خطواته نحو الخارج وأوقف “مُـنذر” الذي يبدو أنه فقد القدرة على الحركة وأخذ رد الفعل السليم، فقاد “إسماعيل” هو الدفة وذهب معه بسيارته بدلًا من القيادة خوفًا عليه من التهور وفقد زمام الأمور من يديه، وما ترتب على ذلك كان رضوخ الآخر له واستغلاله للوقت بشكلٍ أكبر ليكون كافيًا..
ولجا سويًا بيت “بـاسم” الراقد فوق فراشه بكدماتٍ ظهرت فوق وجهه وملامحه، وأطرافه المُكبلة بجبيرةٍ طبية كأنه طيرٌ فقد جناحيه، يجلس بصمتٍ وقهرٍ وعجزٍ وعيناه مُثبتة فوق النافذة يراقب حركة الطيور الحُرة التي تُحلق في السماء وهو يعجز عن هذا الفعل، هو المكسور جناحيه يجلس هُنا وأمسىٰ عاجزًا حتى ارتشاف المياه بنفسه..
طَـلَّ عليه “مُـنذر” ووقف أمامه فرفع عينيه له وتلاقت النظرات ببعضها وحينها تنهد الآخر بثقلٍ ثم تفوه بعجزٍ وأسفٍ وندمٍ:
_أنا آسف ليك وحقك عليا أنا، والله ما كنت أعرف إن الوضع ممكن يوصل لكدا، حصل إيه يا “بـاسم” علشان يوصلوك للحالة دي؟.
تنهد هو بقلة حيلة كأنه أمسىٰ مجبورًا على التنفس ثم تحدث بتهكمٍ لاذعٍ يخبره عن الشيء المعتاد:
_ولا أي حاجة حصلت غير المعتاد مش أكتر، مجرد صوت صرخ وأتكلم فأول حاجة عملوها هي إنهم يخلصوا على الصوت دا، بس مش بالموت، لأ بالقهر، يقهروه ويخلوه عاجز ومرمي في الأرض زي ورقة ملهاش أي لازمة، إيه الجديد يعني؟ طب ما “حـمزة” راح قبلي، بس تصدق بالله؟ أنا أول مرة في حياتي أفرح إن “حـمزة” مات وساب الدنيا دي، اللي زيه مكانش ينفع هنا وسطنا، اللي زيه خسارة في الناس دي، صدقني هي خلاص جابت ضُلافها علينا، يا ترضى باللي عندك هنا وتاخده وأنتَ ساكت، يا ترمي نفسك فوق عبارة تغرق بيك قبل ما توصل حتى، أنا تعبت، تعبت وصوتي راح خلاص.
كان “إسماعيل” واقفًا على أعتاب الغرفة يرمقه بأسىٰ وهو يوزع نظراته بين الاثنين فوجد رفيقه يقترب من الراقد ويُلثم جبينه ثم قال بثباتٍ يقويه ويشدد عزيمته به:
_صدقني أنتَ عملت اللي عليك وزيادة خلاص، حق “حـمزة” رجع إمبارح لما واحد منهم اتقبض عليه بعد ٣ سنين والتحقيق اتفتح معاه، دا اللي كنا عاوزينه مش أكتر، كنا عاوزين الناس تعرف عنه، وأنتَ برضه تستاهل كل الناس تعرف عنك، لازم يعرفوا أنتَ مين، مش لازم تحصل “حـمزة” علشان يعرفوك.
ضحك الآخر بسخريةٍ كان أساسها القهر والكمد وحرك رأسه نحو الواقف يراقبهما بعينيه ثم قال بسخريةٍ:
_تعالى شوف صاحبك ولا قريبك علشان شكله خرف خلاص، شكل قعدته برة نسته الحياة هنا قانونها إيه.
أنهى الحديث ثم التفت لصاحبه يخبره بنفس ذات السخرية:
_ياترى هتقول للناس إيه بقى؟ دا الصحفي اللي كان محترم قبل ما يلبس قضية أداب ويتهموه بالعُهر؟ ولا هتقولهم دا الصحفي اللي اعتقلوه سياسيًا وشوهوا سمعته وأمه ماتت من قهرها عليه وحصلت أبوه اللي رباه يكون حُـر؟ هتقولهم أنهي حكاية؟ ولا هتقولهم عن شغلي من تحت لتحت علشان أكشف عمايلهم ولولا الشمال اللي أعرفهم مكانش زماني وقفت تاني؟ هتشيل اسمي إزاي من قايمة محطوط فيها إن بجر الشباب للفواحش والشذوذ؟ ها يا أبو حق أنتَ؟.
وقف كلاهما أمامه بانشداهٍ وفاهٍ فارغٍ وكأنهم بذلك أطلقوا سراح الكلمات فهربت بعيدًا ولم يملك أيًا منهما القدرة على الرد حتى ولجت تلك المرأة صاحبة الوجه البشوش وفي يديها الحامل بأكواب العصير ثم رحبت بهما وهي تقول بسعادةٍ لأجل زيارتهما له:
_والله البيت نور بيكم، والحمدلله إنكم جيتوا تزوروه بدل قعدته لوحده في الحالة دي، والله لولا واحد جارنا شافه في الشارع والناس ملمومة حواليه الله أعلم كان حصل إيه.
بصوتها انتشلتهم من تلك الحالة الصعبة، فتنهدوا معًا، بينما قال هو يعرفها للجميع بوجهٍ أجبره هو على التبسم:
_أقدملكم يا جماعة، “كِـنز” خالتي وماليش غيرها في الدنيا دي كلها، آخر حد باقيلي وأنا آخرة صبرها زي ما بتقول هي.
مازح المرأة صاحبة السبع وأربعين عامًا بحديثه حتى ضحكت هي له ثم وضعت العصير وأعادت ترحيبها بهما ثم رحلت من الغرفة بعدما شملت ابن شقيقتها بنظرة حنونة، بينما “إسماعيل” وبالرغم من إدراكه لقشور الحالة المحيطة إلا إنه شعر بالقهر لأجل الاثنين معًا، هو هنا يجلس ولا يعلم أي شيءٍ حدث، لكن بداخله كان كله يقينًا بما أوصلهما لتلك الحالة، فالطير أدرى بحال غيره من الطيور حينما يصيبها العجز.
__________________________________
<“لولا الخطأ لما كنا تداركنا الصحيح في الأمر”>
كل شيءٍ قد يبدو خاطئًا منذ أول وهلة إطلاعٍ..
لكن بعد المزيد من المُطالعة نُدرك صحيح الأمر ونجد الحقيقة المخبوءة لصغائر الأمور، كل شيءٍ كان يتوجب علينا أن نعطيه حقه في التفكير من المؤكد يقودنا لحقيقةٍ أخرىٰ.
فكر بالأمر وقام بدراسته لمدة ليلةٍ كاملة هجره بها النوم كما هجرت زوجته الفراش وقضت ليلها بجوار ابنه، حاول حينعا أن يتوصل لحلٍ يرضي جميع الأطراف لكن ثمة شيءٍ بداخله يُطالبه أن يقدم رضاها هي على نفسه وما يرغب به، حاول واستدعى كل تفكيره وتركيزه وولى الدفة لعقله مرة ولقلبه عدة مرات، فعل الأمر وفكر فيها هي قبل الجميع، وما إن تاه عن الدرب، لجأ لوالده يأخذ برأيه ويستشيره، فكان جواب الآخر عليه حكيمًا بقوله:
_يابني هي ست وليها مشاعر غيرك كراجل، هي يفرق معاها المشوار دا وإنها تكون هناك مع ابنك اللي بقى ابنها هي كمان، هي هناك وسطهم تعتبر غريبة وأنتَ وابنك كل حاجة ليها، خليه يروح معاها، وخليها تبات هناك، وخلي ابنك يتعامل معاهم، لو حصل حاجة ساعتها هي مش هتسكت، دي بتاكلك أنتَ لو زعلته، يبقى هتسكت لحد يفكر يزعله حتى لو من عيلتها؟.
وقتها وجد الجميع يفكرون بنفس الفكرة ذاتها، وحينما تعمق بالفكر وجد نفسه حائرًا بشكلٍ أكبر مما سبق، لذا ترك العمل في يد “نـادر” ثم رحل قاصدًا بيته وبالأخص شقته، وما إن ولجها وجدها تترك موضعه لكي تهرب من مجالسته كأنه عدوٌ يدخل أرضها وليس بزوجٍ لها..
تركها تعبر عن غضبها منه كما تود ثم ولج الغرفة خلفها يطلب منها بلهجةٍ صلدة كأنه يأمرها وفقط:
_برة علشان هغير هدومي.
زفرت “نِـهال” بقوةٍ ثم وقفت وتحركت نحو الباب فأوقفها بسؤالهِ ساخرًا بتهكمٍ يمازحها:
_ولما إحنا شاطرين كدا مبنسمعش كل الكلام ليه، قولتلك متخرجيش من الأوضة وبرضه مشيتي وروحتي الأوضة التانية، لازم أمد ايدي يعني علشان تتظبطي؟.
التفتت هي ترمقه بعتابٍ من عينيها ثم قالت بحزنٍ استشفه من نبرتها التي أعربت عن الحزن الكامن بداخلها:
_أهو دا اللي ناقص، تمد إيدك كمان عليا، بس صدقني كلامك بيوجع أكتر يا “أيـهم” ولو على كلامك فأنا مش “أمـينة” وأنتَ مش سي “السيد” علشان تؤمر عليا وأنا أطيع وبس، عن إذنك.
كادت أن تتركه وتختفي لكنه لحق بها ثم أغلق الغرفة كي لا تخرج منها وهتف بثباتٍ وملامح لم تكن بطيبةٍ بقدر ما رأت بها من خبثٍ جليًا في عينيه:
_مفيش خروج من هنا غير لما نتصالح.
حاولت أن تتخلص من قبضته لكنه لم يتركها بل قربها أكثر له ثم سحب نفسًا عميقًا وقال بنبرةٍ رخيمة لم تكن بكاذبةٍ وهذا ما أكدته عيناه تلك المرة أيضًا:
_أنا آسف، مكانش قصدي أزعلك مني أو أخليكِ تفهميني غلط بس والله أنا زي ما خايف عليه خايف عليكِ أنتِ كمان، مش عاوز أكون وحش ولا جاحد في عينيكِ بس والله أنا عاوز أحافظ عليكم ومش عاوز حد يتدخل بينكم، الناس برة مش فاهمة العلاقة بينكم عاملة إزاي، هيفضلوا شايفين بس إنك مرات أبوه بدل أمه اللي سابته، وشايفين إن أنتِ بتعطفي عليه وخلاص، لكن هنا محدش في البيت دا بيفكر كدا، كلنا عارفين إنه ابنك أنتِ، متزعليش مني.
ربت فوق كتفها بحنوٍ فوجدها تبكِ أمامه وتنتحب بصوتٍ جعله يضمها له من جديد ثم مسح فوق رأسها وقال بقلة حيلة حقيقية لكونه يفتقر للمواساةِ بالكلمات:
_يا ست بس بقى عياط، مبعرفش أواسي بالكلام، أنا بعرف أحضن بس تفضلي في حضني كدا طيب وتسكتي؟ ولا أرزعك قلم يسكتك خالص؟ اختاري يلا.
رفعت رأسها له وحاولت أن تتنفس بشكلٍ طبيعي وما إن فعلت قالت بنبرةٍ صوتٍ مختنقة:
_أنا بعيط علشان محدش فاهمني حتى أنتَ زيهم كلهم، أنا مش بحب بيتنا ومش بحب أكون هناك فيه لوحدي، بحس بالغربة وسطهم كلهم، دايمًا حاسة إني ناقصني حاجة ومش عندي، كنت بحس إني مينفعش أكون ست بيت شاطرة زيهم ولا ينفع أكون مسئولة عن بيت، وبحس إني أكيد أم فاشلة علشان كدا مينفعش أكون أم، ودايمًا بحس إن نظراتهم بتقولي إني خربت بيتي وإني مش وش نعمة، “إيـاد” بس اللي بيخليني أنسى كل التفكير دا، طول ماهو معايا أنا بحس إني أم بجد، بشوفه قدامي وبفضل أقول إني أكيد عملت حاجة حلوة علشان ربنا يرزقني بيه، عاوزة الناس كلها تعرف إني أمه وهو ابني، شوفت بقى إن الموضوع أكبر من وجهة نظرك؟.
هو حقًا لم يعلم أنها تحمل كل ذلك الألم بين جنبات صدرها، لم يُخيل له أن تكون الصورة بتلك القسوة، لذا شعر بالأسف عليها والندم على حديثه، لكنه بدلًا عن ذلك لثم جبينها، ثم هتف بأسفٍ أتى محملًا بكل الصدق الآسر الذي جعلها تُنصت له:
_وأنا مفهمتش إن دا كان قصدك أنتِ، أنا كل اللي شوفته بس الموقف اللي توقعته وتخيلته واللي حصل ١٠٠ مرة مع غيره وكانت النتيجة وجع كبير لحد دلوقتي محدش فيهم قادر ينساه، بس حقك على راسي من فوق، أبويا مربانيش شكله كدا.
أومأت له موافقةً وهي تمسح عينيها وتُكفكف عبراتها المُنسابة فتنهد هو بقوةٍ ثم أناب عنها ومسح عينيها من أثر الدمع العالق بهما وأجلسها فوق الأريكة ثم جلس على عاقبيه في مواجهتها وقال بحنوٍ:
_حقك تزعلي وعلى فكرة زعلك دا فرحني أكتر، مش علشان أنتِ زعلانة أكيد بس علشان تمسكك بابنك اللي أنا مستغربه، كنت فاكر السبب أنانية منك إنك عاوزة تثبتي إنك عندك عيلة عادي ومبسوطة، بس أنا ماخدتش بالي إنك محتاجة لوجوده للدرجة دي، علشان كدا أنا بقولك آسف والله، وياستي خديه وروحوا وقت ما تحبوا وباتوا هناك كمان، بس لو مفيش رجالة هتبات هناك، غير كدا أنسي.
ضيقت جفونها وهي تُطالعه بأعصابٍ تالفة ولأجل إثارته لغيظها كورت قبضتيها ثم دفعته في صدره وحينها ارتد للخلف وكاد أن يسقط لكنه سحبها معه حتى سقطت فوقه وشهقت بفزعٍ وقبل أن تبتعد عنه وجدته يدغدغ خصرها بأنامله حتى ضحكت هي بصوتٍ عالٍ وتوسلته أن يكف عما يفعل لكنه حرك رأسه نفيًا ثم قال بعبثٍ تخشاه هي منه:
_أنسي بقولك، هاخد حقي تالت ومتلت منك.
أنهى جملته وأعاد كرة الفعل من جديد لترتفع ضحكاتها أكثر وهي تخبره عن مسامحتها له وأنها صفت له في النهاية وهو ما يُريد منها إلا نظرة واحدة تخبره بها عن رضاها عنه ثم ضحكات عالية مثل هذه تملأ روحه سعادةً.
__________________________________
<رغم أن البداية غير عادلة إلا أن النهاية غير مستحقة>
بعض الأمور وإن تمت بصورةٍ خاطئة ببدايةٍ غير عادلة إلا أن نهايتها قد تكون غير مستحقة لأحد الأطراف المتضافرة بداخل الإطارِ ككلٍ، والبعض الآخر قد لا يُجني إلا النهاية التي يستحقها ولا يستحق غيرها…
صُبحٌ أتى محملًا بالكثير معه وأولهم كانت رؤية “مادلين” في العمل من جديد تقف بشموخٍ ورفعة رأسٍ وكأنها لم تتضرر بشيءٍ قط، وقفت كعادتها تأمر الجميع وتتابع العمل وتتحرك بحريةٍ وقد تركها “عـاصم” تفعل ما تود وترغب، حتى أعترض “سـامي” طريقها حينها وقفت أمامه وأمام الجميع ترفع صوتها وبجوارها وقف “عُـدي” يدعمها بصمتٍ وهي تقول بلهجةٍ آمرة:
_الشغل زي ماهو ماشي ياريت يكمل بنفس النظام، أنا هنا ومعايا الأستاذ “عُـدي” وقصادنا في الإدارة هيكون أستاذ “عـاصم” وبس، الفترة دي إحنا الـ ٣ موجودين هنا ونقدر ندير الشغل بنفس الجهد والطاقة، ومش هقبل أي تقصير أو استهتار من أي حد مهما كان هو مين، وعلى ما الآنسة “رهـف” ترجع تاني كل حاجة حاليًا معايا، اتفضلوا على شغلكم.
أنفض المكان من حولها في طرفة عينٍ عدا “عـاصم” الذي وقف أمامها يطالعها بعجبٍ ودهشةٍ كأنه يراها لمرته الأولى، وقف بتيهٍ وهو يتمنى أن يكون ما يراه نصب عينيه من محض الجنون لا أكثر من ذلك، لكن يبدو أنها لمحت عينيه وقرأت نظراته لذا اقتربت منه تقف أمامه وهي تقول بشموخٍ يشبه شموخ الخيول العزيزة بأرضها:
_أنا قدامهم هفضل أحترمك لأني مش قليلة الأصل زيك يا “عـاصم” بس لو سمحت وبكل أدب ياريت تطلقني علشان كل واحد فينا يشوف حاله، اللي بينا مستحيل يرجع تاني، ولو عليا فأنا هفضل مع “يـوسف” وهدير شغله وأكبره، علشان مفيش مرة أنا أحتاجته فيها ولقيته بيديني ضهره، عن إذنك.
أنهت الحديث وبنفس الرأس المرفوع ولجت مكتبها دون أن تعيره أي اهتمامٍ، تركته يقف في الخلف بتيهٍ والصدمة تعتلي ملامح وجهه وقد عاد بأدراجه للمكتب الخاص به ثم ارتمى فوق أقرب المقاعد لديه وضم رأسه بين راحتيه وكأن خيبة الأملِ تُلاحقه والهموم تسقط فوق رأسه، الخسائر تزداد وتدنو من دربه وهو كمن فقد كل الحيل.
في مكانٍ آخرٍ…
كانت تقوم بتحضير كل شيءٍ حولها لكي ترحل، كتبت الخطاب وتركت عليه اسمه، قامت بتحضير كل شيءٍ لكي تُغادر المكان، كل المناطق حولها أصبحت تملأ روحها بالتيه، كل المواطن حكمت عليها بالغُربة، ولأجل تلك الغُربة التي تسكنها قررت أن ترحل وتلك المرة الرحيل سيكون بلا عودة…
خطت “شـهد” خطابها ووضعت فوقه اسم “نـادر” وآخر ما تركته مع الخطاب كانت دمعة هاربة سقطت فوق الخطاب، رفعت صورته ولثمتها ثم تركتها بجوار الخطاب وبجوارهما تركت خاتم خطبتها الذي كان سببًا في كل شيءٍ منذ خطوة البداية لحياتها معه، وها هي تكتب النهاية الحتمية، نهاية لا تعلم هي إن كانت تستحقها أم لا، لكنها ستكتب على كل حالٍ ولا مفر…
دقائق مرت عليها ختمتها برسالة رحيلٍ للجميع ثم قامت بفتح الباب على مصراعيه أولًا ووقفت تفكر في الأمر، هل تفعل هذا الشيء أم تتراجع؟ لكن مع بيان الخطوط المطروحة عليها لم تجد حلًا غير العزم لتنفيذ القرار، وهاهي تفعلها وأمسى القرار في طور التنفيذ وخرج من حيز التفكير.. مرت دقائق أكثر على رحيلها تبعتها دخول “نورهان” وطرقها فوق الباب فوجدته يُفتح بسهولةٍ فزفرت هي بقوةٍ ثم قالت بضجرٍ:
_بقولك إيه أنا نازلة، الأكل هييجي كمان شوية كلي أنتِ بس أنا هاكل برة، ماشي يا “شـهد”؟.
سألتها ولم تجد جوابًا فدفعت الباب حتى آخره ثم ولجت بتعجبٍ تتفحص الغرفة بعينيها وحينما التقطت عيناها جسد الأخرى مُلقى أرضًا صرخت بملء صوتها صرخة مدوية اهتزت على أثرها جدران البيت، وكان المشهد كما التالي، حيث “نـورهان” تقف وهي تصرخ باسم الأخرى الغارقة في الدماء فوق الأرض بالغرفةِ وكان هذا هو الرحيل المسمى “رحيلٌ بلا عودة”.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى