رواية غوثهم الفصل المائة والخامس والخمسون 155 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة والخامس والخمسون
رواية غوثهم البارت المائة والخامس والخمسون
رواية غوثهم الحلقة المائة والخامسة والخمسون
“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل السبعون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
أنا عند محراب العنايةِ طامعٌ ..
في الرحمةِ العليا من الرحمنِ ..
أنا لائذٌ بحماك.. أنا لائذٌ بحماك يا غوثاهُ
يا رباهُ .. يا معواني ..
أنا شاكرٌ و الشكرُ ملءُ سريرتي ..
يا خالقي و الحمدُ ملءُ كِياني .
_”نصر الدين طوبار”
__________________________________
ومن إلاكِ يجعل أيامي تمر؟
وبمن غيركِ يحلو كل مُـرٍ؟
فأنا وبرغم إني تائهٌ في أيامي،
لكني لم أجد غيرك يوصلني في العُمر،
فأنتِ بلادي لهويتي، ومرساي لسفينتي،
وبرغم ذلك كله في أغلب الأحيان
لا أجد سببًا غيركِ لغُربتي…
فأنا وأنا أمام العالم بأسرهِ أخبرتُ الجميع أنكِ بلادي،
وأي بلادٍ تلك التي تُغرب أبنائها وأنا الحبيب الذي لم يرد يومًا أي بعادٍ..الحُب فيكِ لم يكن ذنبًا كي يكون شرًا أتقيه،
وإنما هو سحرٌ وقع عليَّ ولم أعلم كيف أصبح يعتريه؟
أنا وبعودتي إليكِ كل مرةٍ؛ أكون كما الأسير المُحرر لكنه لم يدرك يومًا أن الوطن قد يُنفيه، وأمام العالم يختار عنه الغُرباء ولمرةٍ حتى لم يصطفيه، أي بلادٍ تلك التي تروح فداها الروح، ونصرخ بالحُريةِ لأجلها دونما نخشى البوح، وهي في نهاية الأمر تختار كل طيرٍ في سمائها، واختياري كان حرامًا كأنه حُرِمَ على بلابل الدوحِ..
<“كانت مياه السقايا فاسدة، فلا ألومن أيامي”>
منذ البداية وقبل السقايا كانت المياه فاسدة..
وبِركة العُمر راكدة، ويوم أن سارت؛ كل خطأٍ اختارت، فلا يلومن المرء إلا نفسه عند النهاية، ولا يطمع بتغيير البداية، فما النهايات إلا عِبرة للخواتيم التي وقع عليهم اختيار طرفها والبقية أتت معه بكل سهولةٍ وقبل أن يُعيد الكَرة..
الأمر معها بدأ بلعبةٍ فقط كي تُضفي الأنس لحياتها، ولم تدرك عاقبة ذلك وما تخبئه له الأمور، فهي ظنت أن بتلك اللعبة حياتها ستتحول من حسنٍ لأحسنٍ، لكنها لم تلمح تلك النيران الموقدة في النهاية وظنتها أضواء الاحتفال بوصولها سالمةً، لحظة واحدة فقط ما بين الخيال والحقيقة، كان القلب فيها يُحلق عاليًا فوق السماء السبع، قبل أن يهوىٰ إلى سبعين قاعٍ..
وقفت “أمـاني” كما البضائع المعروضة أمام الآخر يتآكلها بعينيه وبنظراتٍ فجة، بينما المُلقب بزوجها فكان يرفع رأسه بزهوٍ غريبٍ أمام الآخر كأنه يتباهى بها، وهي للأسف كانت ترتجف وهي تقف في محلها عاجزةً حتى عن الحِراك، شُلت بموضعها وترقرق الدمع في المُقلِ والروح تصرخ مستغيثة، حتى جاورها زوجها وقال متباهيًا:
_بص يا شيخنا؟ زي القمر أهيه وغلاوتك ما أتكشفت على حد غريب قبلك، أقعد بس استريح وأنا هجهزلك ليلة تحلف بيها طول العمر يا طويل العمر، أقعد أقعد بس.
أنهى حديثه ثم دفعها أمامه بحدةٍ فبدأت تستفيق لواقعها وحينما ولج بها الغُرفة التفتت له تصرخ بشراهةٍ وهي تهدر بانفعالٍ:
_أنتَ بتعمل إيه يا حيوان أنتَ؟ بتكشف عرضك وحرمة بيتك على حد غريب؟ أنتَ عارف كدا وصفك وشغلك دا إيه؟ أنتَ كدا كلب وحيوان وزبالة و**** كمان، بتتاجر بيا؟ دا أنا هوديك في ستين داهية وهفضحك…
قبل أن تكمل الصراخ وجدته يقبض فوق خصلاتها ثم تحدث من بين أسنانه المُطبقة بقوله مغلولًا من طريقتها معه:
_ما تظبطي يا روح أمك؟ أنتَ هتعملي فيها الخضرة الشريفة؟ دا أنا عارفك من لعبة تعارف يا حيلة أمك، فاكرة إنك حلوة أوي علشان أسافرلك مخصوص وأصرف عليكِ وأجيبك هنا وأدفع دم قلبي وأخليكِ سفيرة النوايا الحسنة؟ إحنا جايين هنا شغل مش أكتر، وعلشان نتبسط ونبسط الناس معانا، دول بيدفعوا بالأخضر والأزرق وبكل لون تحتاجيه، ومتقلقيش محدش هيقربلك، زي اللعبة كدا بس الفرق إن دا عرض 3d مش أكتر وأنتِ مش هتخسري أي حاجة.
توسعت عيناها بهلعٍ وارتجف جسدها من تحوله الغريب، فهي الآن أمام الرجل المخبوء في دواخل الآخر الذي جعلها تُتقن أن حنوه لا يُقارن بآخرٍ غيره، جعلها تهواه وتعمي عينيها وهي تسير في الطريق خلفه، سلمت له كل المفاتيح كي يوصلها للنهاية التي ترغبها، ولم تُدرك يومًا أنه على الحرام قد يُرغمها، فرت الكلمات منها وكأنها بجاهلةٍ في أبجديات الحروف فوجدته يُضيف بهدوءٍ عن السابق:
_كل اللي عليكِ تلبسي وتفردي وشك وتطلعي تقعدي جنبه وتدلعي عليه شوية مش أكتر، وأنا هفضل قاعد معاكم بضحك وبهزر زي ما كنتِ بتعملي في اللعبة كدا وتلاغي دا وتهزري مع دا، وهحطله حباية تخليه يهلوس، نبيعله الوهم وقبل ما يفوق نخليه يعيش الحلم، وليكِ التِلت وأنا ليا التلتين لزوم المصاريف اللي بدفعها وتظبيط ليالي الملاح، قولتي إيـه يا حلوة؟.
_قولت إنك زبالة ووسخ ومش راجل أصلًا..
هكذا ردت هي ورده هو عليها أتى بصفعةٍ استقرت فوق وجنتها بظهر كفه حتى صرخت هي بقهرٍ وأطلق عَبراتها حُرة من أسر جفونها، فازدادت قبضته فوق خصلاتها وهو يقوم بهز رأسهِ ثم قال من بين أسنانه التي تلاحمت في محاولةٍ منه لكظم غيظه:
_أنتِ ليه يا بت مصممة تتعبيني، ما قولتلك محدش هييجي جنبك أصلًا، مجرد وهم هيعيش فيه ويصدقه ويدفع الفلوس ويخلع هو، وأنتِ تاخديلك قرشين، أومال هنصرف ونتدلع منين وندفع حق اللبس والمنجهة دي اللي أنتِ عايشة فيها؟ أعملي حسابك لو مش بالرضا هيكون بالغصب، بس لو بالغصب يبقى كله بقى يا حيلة أمك، ووريني مين ساعتها هيلحقك بقى، ها تختاري إيـه؟.
يضع أمامها الخيارات ولم يعِ أن أبغض العروض لدى الأفراد هي تلك التي تكون بالإجبار، فأي خيارٍ من بينهما تختار وكلاهما نهايته كانت نيرانًا موصدة؟ وقع عقلها في دوامةٍ من الفكر ولم تجد منها مخرجًا أكيدًا، وفي قانون البشر تلخص الحال في مباديء تُيسر العُسر رغم صعوبة تقبله، فيقال في أحدهما “نصف العمىٰ ولا العمى بأكمله” وفي آخرٍ يُقال “إن أتاكَ شران، اختر أهونهما”..
هي ستختار الأهون عليها حتى تنعم بهروبٍ وتلوذ بفرارٍ من بين براثن الذئاب، هي من بدأت الأمر بلعبةٍ أغرقتها في بحورٍ من المُحرمات ولم تنتبه أنها بذلك ترتكب المعاصي، فأولًا اختارت جلسة مختلطة مُحرمة، ثم محادثات بها تلميحات مبطنة بكلامٍ لا يصح، ثم خلوةٍ الكترونية بما يسمى بالغرف التعارفية، ثم جني المال المُحرم نظير المُقامرات التي كانت تُراهن عليها، ثم بيع نفسها على طبقٍ من ذهبٍ كأنها لا تُقارن بغنائم أخرىٰ…
تركها الذي من المفترض أن يكون زوجًا لها بعدما حذرها ونبهها بقوله مُشيرًا إلى خراب زينتها وتدهور هيئتها:
_ياريت بقى تعدلي خلقتك دي علشان الراجل نفسه متتسدش، وأنا هخرج أراضيه وأقوله إنك بتجهزيله، متخافيش أنا مستحيل أخلي حد يقرب منك، هو أنا لامؤاخذة يعني؟.
يتهكم ويُمازح بالكلمات وفي شرعية ما يفعل كان الحكم زائفًا، فأي شرعٍ هذا الذي يمنح للرجل حق الاتجار بزوجته؟ وأي رجلٍ هذا الذي لا تغلي دماءه حينما يطالع أحدهم زوجته ولو بطرفة عينٍ؟ وأي… أي أمٍ هذه التي تبيع أبنها وتقع في الهوىٰ فينتهي بها المطاف وهي تُباع مثلما فعلت وباعت؟ باعت قطعة منها نظير حياةٍ كانت تأملها، والآن وبطريقةٍ أبشع تُباع بثمنٍ بخسٍ، والمُقابل فرحة وهمية، أهذه هي وظيفتها التي تغربت لأجلها في النهاية؟ بائعة الوهم نظير المال؟…
عادت صورة ابنها أمام عينيها تتراقص كأنها لتوها تذكرت أمره، ضحكته البريئة التي كانت تُهدى لها، ونظرته الحانية حينما كانت تبتسم له ولو صُدفةً، وتشبثه بها في كل مرةٍ كانت ترحل فيها من البيت فيركض خلفها ويُنادي وهي تتجاهل النداء، اليوم قلبها من يفعلها، يصرخ ويُنادي ويتمنى أن ينشق الصدر فيخرج منها ويُبريء نفسه من جُرمها.. لكن هل آثامٍ مثل هذه يُطهَرُ منها المرء ويُنقى من الدنسِ؟ أم يزداد غرسه أكثر بوحل الخطايا؟..
__________________________________
<“ولو بين كل نجوم السماء، سأصطفيكِ أنتِ بانطفائك”>
حتى في لحظات الانطفاء وفقدان الطاقة لتكملة المسير
نحتاج لمن يُختارنا من بين كل اللامعين، رُبما لا نكترث بمن هم كانوا معنا في أوج لمعتنا وإنما حتمًا من يختارنا في ظلامنا ويترك لمعة غيرنا هو من يستحق قلوبنا، حتى في تلك اللحظات التي نعلن فيها رغبتنا بالوحدة، نحتاج لمن يفعل المستحيل كي يؤنس وحدتنا…
الاحتفال الرقيق، يناسب القلب المُحب..
ففي نادي الشباب بحارة العطار، وبالأخص بداخل قاعة الزفاف المكشوفة المُزينة استقر مقر الاحتفال بزفاف “بيشوي” و “مهرائيل” وتكملة الاحتفال، فما بين اعتراضه على زفافٍ مملٍ، وبين رغبتها في زفافٍ كغيرها من الفتيات تدخل “أيـهم” وعرض اقتراحه بشأن احتفالٍ بسيطٍ في هذه القاعة وكان الاختيار حسنًا لهما..
وقف “بيشوي” في صف الرجال بجوار “عبدالقادر” وكأن هيبته تُحتم عليه أن يبدو بوقاره هكذا، وقف يرحب بالزائرين وعيناه لم تترك زوجته وحدها، بل ظل يراقبها مع الفتيات وهي تضحك وتلتقط معهن الصور وتتمايل بين الحين والآخر على صوت الموسيقى فيزجرها هو بعينيه فتعود مُسالمة كما المُهرة الخاضعة..
أما “جـابر” فوقف مجبورًا وسطهم وهو يشعر أن العالم تحالف ضده كي يضعه بتلك الصورة التي لا يلتزم بها تواجده، وقف مسالمًا، أو ربما نادمًا، أو قد يكون حائرًا، لكنه يرغب في تلك اللحظة في احتضان ابنته لا أكثر من ذلك، يرغب في ضمها إليه كي يودعها أو رُبما كي يخبرها أنه اللقاء الأخير، يعلم بغضها له، ويعلم العوائق العالقة بينهما، لكن هل كل ذلك يمنعه من احتضانها؟ تلاقت عيناه بعينيها فوجدها تستقر عليه بنظراتها ومع طيل النظرات بينهما اقترتب هي منه ووقفت أمامه..
طالت النظرات منها له ولها منه حتى في نهاية المطاف ارتمت هي عليه تعانقه، هي حقًا تحتاج لهذا الفعل كثيرًا، كانت تتمنى يومًا تُلقي بنفسها بين ذراعيه، وأمام مُباغتة فعلها وجد نفسه هو من يتشبث بها وقد بكت هي بين ذراعيه ولأول مرةٍ لا يكون هو سبب الدمعِ، وإنما هو الذي قام بمسح عبراتها وقال بنبرةٍ هادئة:
_شكلك حلو أوي بفستان الفرح.
ابتسمت له وهي توميء موافقةً فوجدته يتنهد بعمقٍ ثم ضمها من جديد يبارك لها، وقد تركهما “بيشوي” سويًا دون أن يتدخل بينهما، لكن من فعلتها كانت “مارينا” التي اقتربت منهما وضمت والدها الذي ابتسم مرغمًا، فاقترب منهم “يوساب” وقال بنبرةٍ ضاحكة:
_ينفع تيجوا كلنا بقى نتصور مع بعض؟.
وبالفعل وقف “جابر” وزوجته بالمنتصف وعلى طرفيهما وقفت “مهرائيل” مع زوجها، وعلى الطرف الآخر وقفت “مارينا” مع زوجها والتقطت لهم الصورة العائلية، صورة لأول مرةٍ تجمع تلك الأطراف مع بعضها، صورة ضمت الشرق مع الغرب وكأن هناك تحالف نشأ بينهما..
وإلى هُنا قد انتهت الليلة بتوصيل العروسين لبيت الزوجية، تحركت السيارات تباعًا خلف بعضها وبعد توديعٍ وبكاءٍ من أم العروس وشقيقته، وبين سعادة والدة العريس وفرحتها انتهى الأمر بإعلان الزواج للمنطقةِ بأكملها، وقد ودعت “آيـات” صديقتها بعناقٍ طال بينهما؛ فمن غيرها أعلم بمعاناة أبطال تلك الحكاية؟.
وقف “بيشوي” يودع أصدقائه وعائلته وأخته وأولادها، وآخر من عانقه كان “أيـهم” الذي أخبره بمزاحٍ خبيثٍ:
_هكلمك كمان شوية، ياريت ترد عليا، أفرض فيه مصيبة؟.
ابتعد عنه الآخر وشمله بنظرةٍ محذرة ثم أضاف بتهديدٍ صريحٍ بجرأةٍ معهودة منه ولم تنفك عن أصل طباعه:
_لو جدع تعرف توصلي، أسبوع مش عاوز ألمح بني أدم فيكم، ولو تعرف تتاوي “جـابر” وتقصف راس “مارينا” يبقى كتر خيرك، أقف في ضهر أخوك يا جدع بقى.
ضمه “أيـهم” من جديد ضاحكًا ثم ودعه وتركه يتحرك زوجته التي وقفت تنتظره حتى مد كفه لكفها وصعد بها نحو الأعلى، ثم وقف يفتح الباب وهي بجواره، باب العالم الآخر الذي سيشهد على جمعهما سويًا، ولجت معه على استحياءٍ بينما هو فتنهد براحةٍ كأنه وصل أخيرًا للغاية المنشودة، والنجمة المرغوبة، التفت يقف أمامها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_أخيرًا يا بنت “جـابر”؟ دا أنا روحي طلعت علشان أوصلك، عارفة اللحظة دي كلفتني قد إيه من العمر؟ كتير أوي، كل مرحلة في حياتي كنت بعدي بيها مكانش فيها غيرك أنتِ، لا ست قبلك ولا ست بعدك، أنتِ وبس.
أنهى حديثه ثم ضمها له ومن فرحته بالنصر دار بها بقوةٍ حتى صدح صوت ضحكاتها عاليًا بسعادةٍ تشق السكون الطاغي بينهما، كانت هي مثله أيضًا تشعر بما يشعر هو به، تشعر أن النصر بات حليفًا لهما وأنه ربحها أخيرًا، طالعها بعينيه يسرد لها حديثه المخبوء بنظراته التي أفصحت عما في قلبه:
_فاليوم وليس غدًا..
وفي هذا العام وليس الذي يليه،
تحديدًا بهذا المساء وليس غيره،
وبطريقٍ قصدناه بكل عمدٍ؛ كُتِبَ
لأجلنا اللقاء، والقلب بجوار القلب
أمسىٰ راغبًا بالبقاء..
__________________________________
<“لما أُلاقي منكِ الخيبات وأنا الآمل فيكِ كل خيرٍ”>
بدا الأمر وكأن كل كلمات المواساة فشلت في الربت فوق قلبه، فماذا يُقال أمام الخيبات التي تتراقص بمقصدٍ عند العيون كأنها ندًا أمام النسيان؟ فتلك المشاعر البشعة التي حاولنا أن نُطويها بنهاية الذاكرة، تحديدًا في أقصاها، لن ترتكن هناك؛ وإنما ستظل تتردد بين الثانية وتابعتها..
لقاها صُدفةً من بين الزحام بعد نهاية الزفاف، ذهب إلى الصيدلية كي يقوم باستلام العقاقير الطبية من عامل التوصيل بواحدةٍ من الشركات الخاصة بتوريد الدواء، ولأن الطبيب تعذر عليه المجيء فعلها “مُـحي” الذي وقف على أعتاب المكان فرآها عند مقدمة الشارع، تحرك نحوها بغير هدى ولو حسابٍ ثم وقف يسألها بحدةٍ يقطع عليها سبيل التحرك:
_مبروك يا عروسة، مبسوطة أنتِ صح؟.
رفعت “جـنة” عينيها نحوه وما إن تلاقت النظرات معًا كادت أن تركض بعيدًا عنه، وقفت أمامه بشتاتٍ وهي تبحث عن جوابٍ؛ فلم تجد، بينما هو فسألها بنبرةٍ جامدة:
_أنا ماكنتش كداب معاكِ ولا خبيت حاجة عنك، أنا جيتلك دوغري وقولتلك اللي فيها بكل صراحة، عرفتك عن حياتي ومصايبي كلها ومخبيتش عنك أي حاجة، قولتلك أنا قبلك كنت إيه وحياتي حصل فيها إيه، بس أنتِ مَقدرتيش كل دا، سيبت كل حاجة عندي وجيت هنا علشانك، وعلشان أبعد عن أي حاجة حرام تخليني معرفش أوصلك، وأنتِ كنتِ قابلة وفرحانة، عينك قالت إنك راضية ومبسوطة كمان، بس اللي حصل منك دا اسميه إيـه؟.
ترقرق الدمع في عينيها وقبل أن تهرع العبرات أوقفتها بحدةٍ وهي تمسحها ثم قالت بنبرةٍ جامدة:
_أنا ولا مبسوطة ولا نيلة، لو سمحت سيبني في حالي بقى وخليك في حالك، أنتَ من ساعة ما ظهرت وأنا حياتي كلها تايهة ومتلغبطة، خليك بعيد عني بعد إذنك، صدقني أنا برجع لورا بسببك، الله يرضى عنك أبعد عني…
توسلته ببكاءٍ وقد تعجب هو من طريقتها، فماذا فعل كي تنهار بتلك الطريقة أمامه؟ قبل أن يسأل ويستفسر أتى والدها من خلفها وأطلق زعقته الهادرة باسمها حتى أجفل جسدها وهي تلتفت له فاقترب هو المسافة المتبقية ثم هدر بجمودٍ غلفته القسوة:
_على فوق يلَّا، حسابي معاكِ لما أطلع.
تحركت نحو الأعلى خُفافًا بينما هو تابعها بعينيه الحزينتين حتى قطع والدها النظر في أثرها بوقوفه أمامه ثم قال بنبرةٍ جامدة يخبره بكل شيءٍ:
_شوف يابني أنا راجل واعي مش عيل صغير، وعارف كويس أوي النظرة رايحة فين وجاية منين، وفاهم نظراتك دي كويس أوي، بس خليها لواحدة تانية مش لبنتي، علشان لو أنتَ آخر راجل في الدنيا كلها أنا مش هقبلك لبنتي، وسبق وقولت لأخوك، خليك بعيد عنها أحسنلك، ولو فاكر إنك لما تيجي تشتغل هنا وتكون قصادها هتأثر عليها فأنا بقولك أنتَ غلطان، روح شوف حد شبهك، مش بنتي.
وتلك الصعفة توالي سابقتها، لم تكن مجرد كلمات وإنما هي حجارة تُقذف عليه فتتمركز بالقلب وتُدميه، وقف أمامه بتيهٍ وترك عينيه تقوم بسرد قهره، فولاه والدها الدُبر ثم ولج البناية وأغلق الباب المعدني حتى أجفل جسده وأطبق جفونه فوق بعضها، الآن تيقن أن والدها كان يعلم، أو ربما علمه كان حديثًا عن طريق شقيقه الذي وقف في الخلف مقهورًا على شقيقه…
اقترب “تَـيام” منه ووقف في مواجهته وحينما لمح عيني شقيقه الصارختين اقترب يمسح فوقهما ثم قال بأسفٍ وندمٍ:
_والله العظيم طلبتهالك منه علشان متكونش لحد غيرك، ماكنتش أعرف إنه هيرفض كدا، أنا حاولت أساعدك علشان مقبلتش ليك الكسرة دي وأنا مجربها قبلك، أنا حاسس بيك، المصيبة إني سبقتك وجربت.
وشد العضد بالأخِ وليس بغيرهِ..
وكأن النصف الآخر من النصف الأول بالطبع إذا أصاب أحدهما شيءٌ؛ يصاب به الآخر، وكأن الأخ بُوصلة الأخ الآخر، فارتمى عليه “مُـحي” بصمتٍ وكأنه يواسيه فيما مضى، والآخر يواسيه فيما حضر، وبين حُلمٍ فات وحُلمٍ تحقق كانت القلوب تصرخ منادية بما يليق بها..
في الأعلى بشقة “جـنة” ولجت غُرفتها بخوفٍ من أبيها وظلت فوق الفراش تقوم بقضم أطراف أناملها كعادةٍ ملازمة لها عند التوتر وقد ولج لها هو ووقف أمامها يطل عليها ثم قال بنبرةٍ جامدة:
_أنتِ فيه إيه بينك وبينه يا “جـنة”؟.
ازدرت لُعابها وهي تنفي ذلك برأسها وتبعد التهم عنها فوجدته يقترب منها ثم قام برفعها من مرفقها كي تواجهه ثم قال بغلظةٍ قلما عاملها بها؛ لطالما كانت مُدللته الوحيدة:
_أخوه طلبك ليه يوم ما قولتله إنك جايلك عريس، وهو سايب الدنيا كلها وجاي يقف في الصيدلية اللي تحت بيتك؟ ودلوقتي جيت لقيتك بتتكلمي معاه، وإمبارح وشك كان مقلوب وأنتِ قاعدة مع العريس، كل دا ملهوش عندي مبرر غير إنك خونتي ثقتي فيكِ وليكِ علاقة بالواد دا.
وهُنا التُهمة جُرمًا لذا صرخت ببكاءٍ وهي تدافع عن نفسها وتنفي تلك التُهمة التي ألصقها بها كأنه يخبرها عن خيانة أمانته:
_لأ والله يا بابا محصلش، أنا معملتش حاجة تغضب ربنا ولا ليا علاقة بيه، ولو فيه حاجة حتى أنا مستحيل أقول أو أعمل كدا وأخون ثقتك فيا، صدقني والله يا بابا أنا ماخنتش ثقتك فيا، أنا لسه عند وعدي معاك.
كانت تتوسله بعينيها ونظراتها فوجدته يتنهد بقوةٍ ثم أرخى قبضته عليها وقال بنبرةٍ أهدأ عن السابق:
_يبقى خلاص، تثبتي ليا إن كلامك صح وتوافقي على “مُهند” والخطوبة تكون زي ما هو طلب، طالما مفيش حاجة بينك وبينه، يا بنتي دا مش شبهنا أصلًا.
وبكل قهرٍ رفعت عينيها له، وكأن الخُضرة في عينيها احترقت فحاوطها الجمر المُشتعل، أخبرته بنظراتها أنه يقوم باختراق روحها، فحاولت معه باللين وهي تقول:
_بس أنا مش مرتاحة، قلبي مقبوض منه.
عادت عيناه تزداد قتامة عليها ثم قال بنفس الجمود القاسي:
_صلي استخارة وأطلبي من ربنا يكرمك ويريح قلبك، الولد ميترفضش ولا يتعايب، شاب ملتزم ومحترم وعارف ربنا كويس مبيرفعش عينه في حد ولا عمر عينه اترفعت في واحدة ست، أنتِ بس اللي عامية عيونك عن الحق، وماشية ورا الباطل، ومفيش أب هيقبل لبنته براجل زي دا.
قام بوضع السدود بينهما وأخبرها أن اختراقها ليس بالأمرِ اليسير عليها، يخبرها عن الرفض القاطع في تلك القصة التي لن يقبلها هو، ولن يرضخ أن تكون ابنته طرفًا بها، أغلق في وجهها الأبواب وأصدر حكمه وظنه عدلًا، لكنه لم يُدرك لو لوهلةٍ أنه يقسو على ضعيفةٍ مثلها، وآخر ما فعله تركها بمفردها في الغرفة فازداد بكاؤها أكثر بنشيجٍ متقطعٍ..
ظلت تفتش بداخلها عن أي ملمحٍ للآخر فلم تجد إلا ذاك الطبيب وفقط، حاولت أن تُجبر القلب أن ينصاع للعقل فوجدت القلب يوليها ظهره ثم يتهمها بالخيانة، لا تعلم متى وكيف أحبته، لكن الكارثة إن الحُب بينهما كُتِبَ عليه أن يكون مخبوءًا كما الأندلس المَنفية، وفي تلك اللحظات، ومن وسط البكاء على الخيبات صدح صوت قلبها يأنِ لنفسه بغير سكات:
_لو كان الأمر بيدي لكنت
اخترت صفك في الحرب،
لكن تلك المرة وبكل آسفٍ
أنا في وجهك الحرب بذاتها،
وأنتَ مجرد غريبٍ وطأ بأقدامه الدرب.
__________________________________
<“مجرد عواصف ومرت، والزهور في حينا استقرت”>
كانت مجرد أيامٍ ومرت..
والزهور من بعد اهتياج الخريف أخيرًا استقرت، فلا الحُزن طال ولا الربيع رحل، وإنما الأيام تدور وتعود كما السير بطريق السفر، فاليوم ربيع الأيام يُصافح ربيع العُمر وكأن الحرب بيننا وبين الأيام استقرت.
في مساء اليوم التالي..
بدأ “يـوسف” يستقر أكثر نفسيًا، حالته بدأت تهدأ من نوبة الاكتئاب بفضل شيئين؛ أولهما الدواء الذي كتبه له “جـواد” وثانيهما تنظيمه للبعثرة التي في نفسه، فهو لو كان يكره شيئًا أكثر من ملامح أعدائه، بالطبع هي تلك البعثرة التي تسكنه، لطالما كان شديد النظام وجل اهتمامه يضعه في ترتيب كل شيءٍ ويُعيده لمحله، فلن يقبل أن يكون مُبعثرًا بداخل نفسه، وقد جلس فوق المكتب في غرفته الخاصة وأمامه الحاسوب الخاص به ومعه دفتره وقلمه…
في تلك الأحيان كان القلم خير رفيقٍ له..
لم يخذله كما تفعل معه نفسه، حتى أن دفتره هذا كتم أسراره بداخله ولم يُفشيها لغيره، كان حاضرًا وشاهدًا على خيباته وآلامه وهزائمه قبل نصره، عليه الآن أن يلجأ لجلسة رضاءٍ بين نفسه فعاد للخلف يمسح وجهه بكلا كفيه ثم هتف بحيرةٍ يُخرج كم الشتات الذي فيه:
_طب والحل؟ راسي هتسكت إمتى؟.
يوجه الحديث لذاته وهو حقًا يكره صوت نفسه، دماغه هي عِلته وأين المفر من علةٍ تسكن المرء؟ أين المفر من داءٍ ليس له دواءً، فهل يُعقل أن يكون المرء هو علة نفسه؟ عاد ينكب فوق ما يفعل وقد طُرِق الباب عليه؛ فجاوب هو بنبرةٍ عالية:
_مين؟.
_يعني هو في غيري عايش معاك، افتح.
كان هذا رد “عـهد” عليه حتى قال هو بضجرٍ:
_ما تدخلي يا “عـهد” الباب مفتوح.
_يا ربي عليك، والله شايلة حاجات مش هعرف أفتح، قوم بقى بطل كسل، دي إيه جوازة الهم دي، قوم يا سيدي.
ترك موضعه ثم تحرك يفتح لها الباب فوجدها تحمل له الشاي ولها أيضًا، ومعه قامت بصنع الشطائر أيضًا، وما إن لمحته ابتسمت وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_أنا قولت ناكل مع بعض، ينفع أدخل؟.
أفسح لها المجال وولجت هي بخطواتٍ هادئة وتفحصت الغرفة الصغيرة التي بالكاد تكفي لمكتبه ولأريكة كبيرة، ثم مقعدين خشبيين، وبعض الأدوات القديمة التي وضعها لتزيين الغُرفة، مع إضاءة زينة ذهبية اللون، وأوراق شجر خضراء اللون، وقد ولجت وجلست على المقعد المجاور له ووضعت الطعام فوق المكتب ثم تفحصت ما يفعله وقالت ما إن جاورها تستفسر منه:
_هي الأوضة دي عاملها علشان تهرب مني فيها؟.
ضحك بملامحه على استفسارها ثم رد بنبرةٍ ضاحكة:
_لأ، الأوضة دي عاملها علشان لما ربنا يكرم بالعيال اللي أنتِ نفسك فيهم وألاقيكِ مشغولة معاهم، آجي هنا أشتغل وأهرب منكم، بعدين علشان ورقي وحاجتي متضيعش مني.
أومأت له موافقةً ثم ناولته قدح الشاي وشطيرةً معه، فالتقطهم منها وابتسم لها بوجهٍ بشوشٍ لتعود هي وتسأله بنبرةٍ أهدأ بعدما التقطت حاسوبه:
_هو أنتَ كدا بتعمل إيـه؟.
أطلق زفرة قوية ثم ابتلع الطعام وعاد يجاوبها بقوله:
_عامل قعدة عرب ليا وللرجالة جوايا يمكن يتصالحوا ويبطلوا خناق شوية، بس شكلها كدا قلشت مني، كل ما أحاول معاهم ألاقيهم رافضين، بس أهو بحاول.
ضيقت جفونها بحيرةٍ؛ فلمح هو ذلك وأضاف مُفسرًا:
_يعني بكل بساطة، أنا عاوز أخلي “يـوسف” الشاطر في شغله وبيحبه هو هو اللي بيحب “عـهد” وبيعشقها ويكون هو نفسه اللي اتربى على أيد “غالية” و “مصطفى” وهو نفسه أخو “قـمر” و صاحب “أيـوب” وهو برضه اللي أتربى يكون راجل في بيت الحج “نَـعيم” إزاي بقى؟ العلم عند الله وحده.
أومأت له موافقةً بتفهمٍ وكأنها بدأت تُدرك مقصده وقد سألته باهتمامٍ كأنها تُشاركه أمره:
_طب والسبب في دا؟ يعني مثلًا أنا عارفة إن مشاكلي دي بسبب اللي عيشته وشوفته، يعني وفاة بابا، طردنا في الشارع، طمع الناس فينا، مطاردة “سـعد” ليا، عيلة بابا وأنانيتهم معانا، حياة كانت كلها كوارث ومصايب وتهديدات ليا، فطبيعي خوفي يوصلني لكدا، السبب بقى للي عندك إيه؟.
قرر أن يجاوبها ويُفصح لها فنطق بثباتٍ:
_الفكرة إن حياتي مرت بكذا مرحلة كلهم أصعب، يعني مرة في بيت مثالي في حضن أب وأم، وفجأة في بيت كله كره وحقد وذل، وفجأة أروح أحداث وأقضي فيها شهر، بعدها أروح السمان وهناك حياتي تتغير، بعدها سجن، بعدها السويس وأعيش هناك فترة الجامعة بعدها مصحة نفسية، بعدها بعد عن القاهرة، بعدها ألاقي أهلي فجأة، فطبيعي إني ماكنش شخص واحد، بس الشهادة لله، الرجالة جوايا كلهم متفقين عليكِ أنتِ.
ابتسمت هي له بغلبٍ على أمرها بسمة متباينة المشاعر، فما بين حزنها عليه وبين مزحه؛ ابتسمت في وجه الألم كأنها تُعانده، وقد اندفعت هي تمسك الورق ثم رفرفت بأهدابها كأنها تستدل بفكرةٍ ثم قامت بسحب هاتفه وسألته بلهفةٍ:
_افتح التليفون إزاي؟.
بعجبٍ أجابها ولم يستدل على سبب فعلها:
_الأرقام الفردية من واحد لِـ تسعة.
ضمت حاجبيها في لقاءٍ ضيقٍ بينهما ثم قالت بعجبٍ:
_بس كل الناس بتحب الأرقام الزوجية.
_وأنا بحب الحاجة اللي محدش بيحبها.
هكذا جاوبها بثباتٍ دونما تتبدل ملامحه وقد سألته هي بلهفةٍ كأنها صممت على إزعاجه أو فقده لصبره:
_يعني أنتَ بتحبني علشان محدش بيحبني؟.
ضحك لها ثم أومأ موافقًا وقد لكمته في صدره وهي تضحك عليه وحينها ارتد هو للخلف فوجدها تعود وتفتح هاتفه ثم قامت بالنقر فوق الشاشة حتى صدح صوت الخط عاليًا في مخابرةٍ هاتفية أنتهت بجواب “قـمر” عليها تُحييها؛ فقالت هي بصوتٍ ضاحك:
_”يـوسف” كان عاوز يكلمك يتطمن عليكِ بس محرج تكوني نايمة، قولتله هكلمك أنا أتطمن عليكِ وأقولك تبعتي صورك الفلاحي علشان نشوفها، أمسكي معاكِ أهو.
طالعها بحيرةٍ مما تفعل، والأكثر ذهولًا لديه هو كذبها المتمكن وقبل أن يسألها وجد الهاتف يقبع بين كفيه وهي تحثه برأسها وعينيها فتنهد طويلًا ثم سألها بثباتٍ:
_أيوة يا “قـمر” عاملة إيه يا حبيبي.
_بخير الحمدلله، في زحام من نعم ربنا، أنتَ إيه أخبارك؟ طمني فيه حاجة حصلت؟ أنتَ كويس طيب؟.
بدا القلق واضحًا في صوتها وقد ابتسم هو حتى ظهر ذلك في صوته وهو يقول بنبرةٍ هادئة ساورتها الراحة:
_الحمدلله برضه بخير، بس قولت أشوفك كدا عاملة إيه علشان مكلمتكيش النهاردة خالص، بس “عـهد” قالتلي إنك صاحية، ابعتي الصور اللي قولتي عليها، عاوز أشوفها.
وافقت هي ثم أرسلت له صورها بجوار الفُرن وصورها بأثر العجين اللاصق فوق جبينها ثم صورتها مع “أيـوب” وهو يعاونها وكلاهما يضحك بسعادةٍ جعلت قلبه يرقص فرحًا لأجلها وقد تدخلت “عـهد” تسألها بمزاحٍ بعدما بدلت نبرتها للهجةٍ أخرىٰ تُشبه تحدث القُرىٰ:
_أنتِ بِـت مين يا عَـسل؟.
ضحك “يـوسف” رغمًا عنه من طريقتها وكذلك فعلت “قـمر” ثم جاوبتها ضاحكةً بصوتٍ به الكثير من البهجة:
_أنا أخت الواد الحليوة اللي جنبك دا.
_بس يا ماما، أنا بس اللي أعاكسه مش أنتِ.
هكذا ردت عليها ثم تركتها تمازحها وقد جلس “يـوسف” يتابعهما بصمتٍ وملامحه المبتسمة تُشيء بسعادته البالغة، حتى أغلقت معه “قـمر” بعدما دعت لهما سويًا، بينما هو فركز بعينيه على ملامح زوجته فوجدها تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_كدا رضينا “يـوسف” أخو “قـمر” هنكرر الباقي مع الباقيين كمان لحد ما نخليهم كلهم يتصالحوا الليلة دي، يا أنا يا دماغك يا “يـوسف”.
ابتسم لها وتركها تفعل ما يحلو لها، ترك نفسه ورأسه وقلبه ورحه أيضًا بين راحتيها وهو يعلم أنها اليد الأمينة له، علاقته بها أغرب ما يعهد في حياته، علاقة غريبة لكنها مُذهلة، والمذهلة هنا تعود عليها هي، فمن غيرها يفعل ما يعيشه هو؟ هي تتولى زمام الأمر لديه وتقود حربه بريادةٍ لم تُسبق له، لذا أكمل المهاتفات مع عائلته ثم مع بيت “نَـعيم” وختامًا أنهى المعاهدة بينه وبين نفسه بالدعاء لوالده الراحل وهي جواره تفعل المثل لوالدها، وما إن انتهى حرك رأسه نحوها فوجدها تبتسم له وهي تقول برقةٍ ناقضت مرحها:
_مش سهل على أي إنسان إنه يصالح نفسه ويخلي الحرب جواه تنتهي، بس سهل عليه يعمل هُدنة مع نفسه ويدي نفه أجازة من الحرب دي لو هتضره، صدقني إحنا بأبسط الحلول أهو مخليينك مرتاح على الأقل نسبيًا، لو حاسس إنك هترتاح تاني لو شاركتني أنا هكون مبسوطة أوي بمشاركتك دي.
ابتسم هو لها بحنوٍ ثم اقترب منها يطبع قُبلة فوق جبينها ثم أضاف بنبرةٍ هادئة يجاوبها بصدقٍ قام بأسرها وأخبره به قلبه قبل أن يخبرها هي:
_راحتي في الدنيا مش مع حد غيرك أنتِ، حتى نفسي.
ابتسمت هي له ثم وضعت رأسها فوق صدره فوجدته يضمها له أكثر سامحًا لنفسه بهدنة مع نفسه من حربٍ عاتية عليه رغم أنه السبب فيها، وقد ران الصمت بينهما حتى مد كفه هو ثم التقط دفتره الذي رسم فيه عينها اليُمنىٰ وما إن رأتها هي ابتسمت له بدهشةٍ فوجدته يكتب أسفل رسمة عينيها:
_”أنا أُحِبك وأكره العالم بكل من فيه إن كان يُحبك”
رأت ما دونه لها فضحكت رغمًا عن أنفها فوجدته يتنهد ثم قال بصفاءٍ احتل عينيه ونظراته وكذلك نبرته أيضًا:
_كدا بقى نكون رضينا “يـوسف” حبيب “عـهد”.
وتلك هي أصدق عبارة ألقاها عليها، وهي لأجل الحق لمحتها في عينيه، هو الآن في نسخته الأفضل على الإطلاق، يضحك ويبتسم ويُشارك ويبادلها المشاعر بحديثٍ معسولٍ قلما يُعبر به شفاهيًا، وهي معه تقف أمام العالم درعـًا له، فلو كان هو يُقيم الحروب لأجلها، فهي تقودها لصالحه هو، وقد ابتسمت حينما تذكرت حديث طبيبتها النفسية أنها تجاوزت الجزء الأصعب في مرضها النفسي، وفقط الأمر المتبقي لم يكن به الكثير…
__________________________________
<“الليلُ وسماه ونجومه يبحثون عن القمر”>
لو كان القمر حاضرًا بكل الليالي
لما سمعنا أن هناك من يشتاق له، فالليل ينقضي والنجوم تخفت والسماء لمعتها تبهت، ولازال البحث مستمرًا عن قمرنا، والقمر كأنه غاب عنا وعن سماءٍ كانت هي مسكنه..
الليل عِلة العاشقين..
وبالأخص هؤلاء الذين تُركوا عند مفترق الطرق وحدهم بلا يد عونٍ تأخذ بهم نحو الأمانِ، فيأتِ الليل على ساهرٍ يفكر في قمره الراحل وكل أمله فقط في حُبٍ من قلبٍ أحبه هو، وقد جلس “عُـدي” في الشُرفة وكفيه يستقرا فوق رأسه وعيناه ثابتة على السماء يبحث عن القمر فيها، لكن الغمام كانت أقوى من ضوءٍ مخبوءٍ خلفها..
اشتاق لها ولعودتها ولتواجدها معه، اشتاق لعينيها الزرقاوتين بأملٍ يجعله حيًا، اشتاق لحياةٍ فكر بها كثيرًا ولازال رهن الإنتظار، يبدو أن قلبه الغبي لم ينل حظه الكافي في الحُب، ففي المرتين لم يُترك له إلا الوجع، وكأن كل الأسباب ترفض حُبه، ففي الأولى كانت ضائقة مالية، وفي الثانية… ضائقة عاطفية، كيف يقنع نفسه أن القلب الذي أحبه هو سبق ونال حبه آخرٌ غيره وكان حاضرًا رغم الغيابِ؟.
تذكر أمر رسالتها التي كتبتها له منذ أربعة أيامٍ:
_”ممكن نرجع تاني لفترة التعارف؟ بلاش كتب كتاب دلوقتي، أنا مش هقدر أظلمك معايا وأخليك فترة كويسة بتجاوز بيها فترة وحشة، أنا عاوزاك تكون الكل مش جزء”
أرسلت واختفت، كانت تلك هي الرسالة التي أخبرته خلالها أنها لازالت مُشتتة وهو لأجل وصالٍ يرغبه أجبر نفسه على التحمل، وقد ولج له “فـضل” وجلس في مواجهته وهو يسأله بهدوءٍ دون أن يكون مُتطفلًا:
_أنا جاي أقعد معاك علشان لقيتك سهران، بقولك إيه تيجي ننزل نتمشى أنا وأنتَ مع بعض؟ أصلك وحشتني أوي.
ابتسم لوالده ثم أومأ موافقًا وأغلق سحاب سترته الشتوية ثم رفع القُبعة يقوم بتغطية رأسه وتحركا سويًا نحو الأسفل، قام “عُـدي” بوضع كفيه في جيبي سترته وقد لف والده ذراعه في مرفق ابنه ثم سأله باهتمامٍ جللٍ:
_مالك يا عم العاشق وشك انطفى ليه؟.
تنهد وفقط، كأن الجواب اختصاره في تنهيدة قالت ما عجزت الأبجدية عن وصفه، قال بها ما لم يسع للكلمات أن تقول، وقد صبَّ “فـضل” كل تركيزه مع ابنه ثم قال بحكمة أبٍ يُبصر بقلبه قلب ابنه؛ وليس بعينيه فقط:
_شوف، الحُب دا عاوز قلب ميت، المحبة النص كوم دي متنفعش معاه، يا تكون قد اختياراتك، يا تفضها سيرة وتسيب الحرب، أنا مش غايب عنك، عيني شايفاك وقبلها قلبي، مالك يا “عُـدي”؟.
استمر المسير بينهما في صمتٍ وقد قرر ابنه أن يُفصح له فسحب الهواء عنوةً ثم قال بنبرةٍ متأرجحة بين قوةٍ واهية وبين ضعفٍ أكيد:
_عادي، هي أول مرة أحس بخيبة أمل؟.
والخيبة إن أصابت القلب، أصابت الهدف..
وهو خيبته كانت فيمن أحب ولمن يُحب، هو بينها وبين نفسه وقف بالمنتصف، فلا هو بقادرٍ على تفضيل نفسه عليها، ولا هو بقادرٍ على التأقلم مع وضعه في الخانة الاحتياطية، حتى القسوة عليها لم يملكها، هو من اختار وأحب، وهي لم يقع عليها أي ذنبٍ، وقد أضاف والده بثباتٍ ردًا عليه:
_مش أول مرة تخيب منك، بس دي أول مرة تحتار كدا وأحسك ضايع، ليه موقفتش مكانك وأديت ضهرك ومشيت؟.
هُنا توقف “عُـدي” عن المسير ثم التفت يخبره بتعبٍ اتضح في عينيه وفي نبرته وهو يوضح له حقيقة قلبه المُتعب:
_أنا ماديتش ضهري ومشيت، بس مفيش حد هيكون مجبور عليه يفضل واقف قدام صورة هو عارف إنه ملهوش مكان فيها، أنا مامشيتش، أنا بس حسيت إني دا مش مكاني، حسيت إني مفروض على صحابه، وإني بعمل فوق طاقتي، قولت أبعد حبة، يمكن المحبة تزيد.
لاحظ والده تعبه البائن على هيئته ككلٍ فتنهد بعمقٍ ثم قال:
_على حسب كلامك أنتَ وأختك عنها فهي بنت أصول، وعلشان هي باقية على العِشرة دي أنتَ عاوزها، علشان عارف إنها مميزة وأصيلة، دا الناس بتنسى بعض وهي عايشة، ما بالك بدي بقى فاكرة واحد وهو ميت؟ بس لو هي لسه بتحبه مش هتحبك أنتَ كمان، حط نفسك مكانه وفكر كأنك “حـمزة”.
وهنا أتت الزعقة المنفعلة من قلبٍ مكلومٍ:
_بـس أنا مش “حَــمزة”..
سكت هُنيهة ثم أضاف مُكملًا بنفس الطريقة وحركة صدره كانت دليلًا كافيًا على غضبه المستعر:
_أنا “عُـدي” وبس ومش هقدر أكون حد تاني غيره، أنا أهو زي ما أنا، مش هقدر أكون شخص تاني أنا مش عارفه، ولا هقدر أعمل حاجة فوق طاقتي، حاولت ومديت أيدي وعندي استعداد أفضل ماددها بس أنا صعب عليا أشوف نفسي مجرد حد وخلاص، أنا نفسي مرة حد يحاول عشاني، بس يحاول علشان أنا “عُـدي” مش علشان أنا حل مُسلَم بيه، بس أنا محدش بيختارني، أنا بفرض نفسي ولو متعرفش الفرق بينهم صعب…
ضمه “فـضل” له يمسح فوق ظهره ثم تنهد بقوةٍ وهو يعلم أن قلب ابنه وما به لم يقتصر فقط على الكلمات، وإنما هو أكبر من ذلك بكثيرٍ، لذا كان عونًا له حسيًا وأضاف معنويًا بعدما ابتعد عنه:
_وأنا المرة دي هختارك وآخد صفك وأقولك أعمل اللي يريحك يا “عُـدي” أعمل اللي يخلي يومك يخلص وراسك محطوطة فوق المخدة وأنتَ مرتاح، متعملش حاجة لحد مقلل منك وعاوزك تفصيل على مزاجه، أعمل الحاجة اللي تخليك متأكد إنك في مكانك الصح، وأنا بختارك كل مرة وعاوزك زي ما أنتَ، دا أنا يوم ما الدنيا ضاقت عليا ووقعت، ملقيتش غيرك أنتَ، عيل ابن ٩ سنين نزل شغل وبقى بيصرف على البيت معايا، ساعد في تعليم أخواته وأكل بيتين، ووقف معايا وخلاني متطمن إن الحياة دي مش هتميل عليا، دا أنا ربنا كرمني بيك دنيا وآخرة.
لمعت العبرات في عيني ابنه ثم ضمه هو تلك المرة آملًا في حلٍ يراف بقلبه المسكين، يأمل في حلٍ يجعله كبيرًا في عيني نفسه قبل الآخرين، يأمل أن يكون بطلًا ويُحقق أحلامه، وبالأخص تلك الأحلام التي أجبره الطغيان على رأبها، ومن ثم أنساق ووضع نفسه أسفل وطأة الحياة الروتينية؛ وكفى، لكن رُبما الأحلام تظهر، والشمس تعود، رُبما، ورُبما الأمل فينا لا يموت..
إن الكارثة الكُبرى أن تدرك مشاعرك المخبوءة..
والكارثة الأكبر أن تقف بمواجهتها، فمن يُخيل له أن حياة بأكملها في ليلةٍ تنكشف؛ أن هناك أخرٌ لها كامل الأحقية بها، من يظن أن حياةً عاش المرء فيها تكون كاذبة..
منذ أن أنكشفت الحقيقة وهي حبيسة غرفتها فقط، قلبها أخبرها بقوةٍ وصراحةٍ أنه وبكل طواعيةٍ منه وقع في فخ عشقٍ لم تُرتب هي له خطواتها، وتلك هي المعضلة الكُبرى، أن الحُب الجديد ما إن ولج قلبها بدأ قلبها يتناسى ماضيه، ولأجل ماضٍ كان ذات يومٍ هي الحياة، وقعت “رهـف” في الحيرة مُجددًا وعقلها يُكرر أسفه عليها كونه لم يُنصفها تلك المرة، وإنما تقهقر أمام قلبٍ صرخ مُطالبًا:
_”دعيني له وأنظري،
فالحياة قاسية بدونه،
وأخشى الفكر بها في خاطري
دعيني وأتركي له أمر الحياة،
وستجدين عنده من خوفك النجاة”.
__________________________________
<“أنتَ على نواياك تُرزق، فأجعل رزقك بالخير”>
نحن على نوايانا نُرزق..
وقد قدر الخالق الرزق وبسطه لكل الخلائق، فلا تجزع من طيلة صبرك، وإنما ارض وانتظر البشائر من الخالق، فمن نحن ولمن نحن إلا لرب العالمين الرحيم والباسط..
_”أنا إن ضعُفتُ فأنتَ مصدرُ قوتي
أنا إن نسيت.. فأنتَ لا تنساني
أنا ليس لي إلاكَ ربٌ يُرتجى ..
يا واصلَ إلاحسانِ بالإحسانِ ..
اغفر لنا .. و امنُن علينا بالرضا…
صدح صوت الابتهال ليلًا في بيت “عبدالقادر” يشق سكون الليل، وقد تجهز “أيـوب” للذهاب للمسجد بعد أداء صلاة قيام الليل وقد أوقظ زوجته ثم لثم جبينها وقال بنبرةٍ هادئة:
_قومي صلي وأرجعي نامي تاني.
أومأت له بنعاسٍ ثم تحركت بخطى وئيدة تحت وطأة النوم والكسل وقد راقبها هو حتى وقفت على سجادة الصلاة ثم ابتسم ونزل وهو يدعو لها، كان يُردد الدعاء ثم مر على والده فوجده يُقيم الليل حينها قام بصنع الأعشاب الخاصة به وقام بوضع الغطاء فوقها، ثم تركها فوق الطاولة بالغرفة وخرج من البيت باسم الوجه، راضيًا، ملامحه تنطق بسعادةٍ مخبوءةٍ في قلبه البريء..
وصل المسجد وولجه كي يبدأ الروتين المعتاد له وبدأ في وضع المقاعد البلاستيكية لكبار السن ثم بدأ في تشغيل الإذاعة بالمحطة الإذاعية كي يرتفع صوت القرآن بصوت القاريء “محمد رفعت” وهو يجلس مستأنسًا في وحشة الليل بكلمات القرآن الكريم حتى سقط عليه ظل أحدهم فرفع رأسه وابتسم وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_أنتَ بقى كنت مستنيك من زمان، أقعد.
جلس الزائر أمامه وهو يقول بنبرةٍ مترددة كأنه يخجل من مجيئه لهُنا بغير سابق حسابٍ أو موعدٍ:
_أنا آسف علشان جيت فجأة كدا بس أنا بصراحة محتاج أتكلم معاك، خصوصًا الفترة الأخيرة دي، أنا جيت علشان أقولك إني بقيت بصلي الحمدلله، ويمكن بقيت بحس الصلاة أكتر من الأول، بس أنا حاسس إني مكسوف أصلي، مكسوف آجي هنا وأقف وسط الناس وأنا حاسس إني أقل واحد فيهم، مجرد شخص فاشل ضيع من حياته كتير، بعدين هو عادي أصلي وأنا مكسوف من ربنا؟ أنا غلطت كتير أوي، غلطت لدرجة تخليني حتى كل ما أفتكر أغلاطي أندم، ببقى عاوز أجري من المسجد كأني عامل عَملة سودا، لما سألت “عُـدي” قالي أجيلك أنتَ..
ابتسم له “أيـوب” ثم ربت فوق رُكبته وقال بنبرةٍ هادئة:
_أولًا يا “نـادر” إحنا بشر مش ملايكة، محدش فينا هنا معصوم من الخطأ، إنما إحنا هنا للعبادة، والعبادة للبشر واجب عليهم، ربنا خلقك ليه؟ هل خُلقنا فقط نكون في الأرض زينة ليها؟ تعالى طيب نمشيها واحدة واحدة، إحنا هنا ليه؟ ربنا سبحانه وتعالى قال في سورة الذاريات:
_”وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ”
يعني كإنسان دورك تعبد ربنا، اتخلقنا للعبادة ودا السبب الأساسي، فالحياة بتلهي الإنسان وبتشتته عن سبب وجوده الأساسي فيها وعن سبب خلقه، الصلاة والصوم وباقي أركان الإسلام، فلازم يكونوا أكبر هم الإنسان إنه يلتزم بالعبادة، بمعنى أدق هما أولويات الإنسان يعني في الحياة، وإن لو سبقها أولويات تانية، هيضيع، حتى لو عمل كل الانجازات اللي في الدنيا، فنرجع تاني نفكر، هل أنتَ شخص ملتزم بالعبادة وحاططها أولوية ولا لسه حاطط الدنيا رقم واحد؟.
أطلق “نـادر” زفرة قوية ثم جاوبه بتيهٍ:
_أنا تايه، تايه وضايع وكل السكك اللي مشيتها خدتني من نفسي، أو يمكن خدت مني واحد كنت عارفه وسابتلي الغريب عني دا، أنا يمكن جيت هنا علشان خايف، خايف الطريق يخلص بيا وأنا لسه تايه موصلتش.
وبربتة صغيرة فوق ركبته مسح عليه “أيـوب” ثم قال يطمئنه بقوله الهاديء الحكيم:
_طالما جيت هنا تبقى وصلت، أقف هنا وأكشف عُري روحك وعيوبك ومميزاتك، ربنا سبحانه وتعالى مبيردش عبد قصد بابه، وبعدين مين فينا ضامن إنه معصوم من الخطأ؟ طب أقولك قصة غريبة بس بحبها أوي؟ كان بابا علطول يحكيهالنا بهزار أنا و “أيـهم” أخويا، كان فيه زمان اتنين أخوات، عكس بعض تمامًا، كان فيهم واحد إمام مسجد والتاني كان والعياذ بالله حرامي وبيشرب وبيعمل كل حاجة حرام، وعاشوا عمرهم كله كدا، واحد الناس واخدينه قدوة، والتاني الناس حتى بتخاف وتقرف تنطق اسمه، كانوا الاتنين عايشين في بيت واحد، وكل واحد فيهم في دور..
_والعمر مشي بيهم كدا حتى بعد ما أهلهم ماتوا، واحد إمام مسجد وقدوة، والتاني مكمل وعِبرة، ففي مرة الشيخ دا قعد مع نفسه فخور بيها، بدأ يتكبر قدام نفسه، واحد عاش حياته كلها شيخ ومؤدب وعمل حاجات كتير حلوة إيه المانع من حاجة حرام يعملها يفك بيها عن نفسه؟ والتاني قعد يأنب نفسه ويلومها، العمر ضاع منه حرام في حرام ومفيش عمل صالح ولا توبة، ولا في حاجة تشفعله؟ طب والعمل؟ فالأول اللي هو شيخ خد قراره وقال “أنا هنزل أقعد مع أخويا أقضي ليلة حلوة معاه وأهو أجرب أفك عن نفسي شوية” والتاني قال “لأ كدا مش هينفع، أنا هطلع لأخويا أخليه يساعدني أتوب وأرجع لربنا علشان كفاية كدا أنا عاوز أتوب” وفعلًا دا نزل ودا طلع..
سكت هُنيهة بعدما وجد تركيز “نـادر” ينصب عليه فأضاف:
_الشيخ وهو نازل يعمل معصية فقد أنفاسه ومات على السلم، والحرامي وهو طالع يتوب فقد أنفاسه ومات على السلم، والاتنين ماتوا واللي ظاهر للناس إن دا شيخ، ودا حرامي، بس هل حد فكر إن دا ممكن يكون طالع يتوب ودا نازل يعصي ربنا؟ مستحيل، ربك وحده هو العالم بالنوايا، علشان كدا مينفعش العبد يتغر بطاعاته ومينفعش ييأس من توبته، الاتنين اللي ماتوا دول واحد فيهم رايح لربنا ناوي يتوب، والتاني رايح لربنا ناوي يعمل معصية، فمين إحنا بقى علشان نحكم إننا أمرنا خلاص نفذ؟ لأ، إحنا لحد آخر نفس فينا لسه مش عارفين إحنا مين، ولسه محدش فينا عارف هيموت إزاي ولا إمتى ولا فين، بس اللي علينا العبادة والتوكل والتسليم لله سبحانه وتعالى.
حديثه مسح فوق قلب الآخر رغم يأسه، استطاع أن يُطمئنه، وأجاد أن يُنير عتمته، هو يعلم أن تلك هي الجلسة الأولية ولن تُصبح الأخيرة، لذا ابتسم له “نـادر” ثم شكره بامتنانٍ وفي تلك اللحظة وصل “يـوسف” الذي ما إن وجدهما سويًا تبدلت ملامحه المُنبسطة لأخرى متعجبة، ثم ولج وألقى التحية عليهما وجاور “أيـوب” بصمتٍ فتحرك “نـادر” كي يتوضأ وحينها سأل هو صديقه بحيرةٍ وغيرةٍ ظهرت رغمًا عنه:
_هو أنتَ بقيت مخصص بيت ربنا للمقابلات؟ مرة “مُـنذر” ومرة “نـادر” وكمان كام يوم الله أعلم مين هييجي تاني، شكلك غدار وبياع خد بالك.
ابتسم له “أيـوب” وقال بنبرة صوتٍ هادئة:
_مش بياع، بس مينفعش حد يقصدني وأقفل بابي في وشه، بعدين أنتَ مزعل نفسك ليه؟ أنتَ صاحبي وأخويا كمان، كنت معاك على الموت قبل الحياة، ولسه عند كلمتي، هفديك بروحي لو الأمر احتاجها كمان يا “يـوسف”.
ابتسم له”يـوسف” ثم وضع رأسه فوق ساق “أيـوب” بصمتٍ ففهم الآخر مُراده، حينها مسد فوق رأسه ثم بدأ يقرأ ما تيسر من القرآن الكريم والآخر ينام قرير العين، مُطمئن القلب، ترك روحه تهفو للحظة الصفاء تلك وقلبه يأمن بجوار “أيـوب” وكأنه أخٌ يُشد عضده بأخيه..
__________________________________
<“الحياة قاسية يا صديقي تحديدًا مع الطيبين”>
الحياة هي الصورة المُعاكسة لكل مرءٍ..
فمن كان طيبًا سيجد الحياة معه قاسية، ومن كان رخوًا ستكون هي صلبة، ومن كان حالمًا سيجدها كابوسًا له، ومن كان آملًا ستكون هي ألمًا له، والأقسى من قسوة الحياة هي قسوة المرء على ذاته..
بعد مرور يومين في صباحٍ زاهٍ أتت الشمس تعلن عن يومٍ جديدٍ كانت الحياة هنا بمنوالها الجديد تتحرك، حيث “إيهاب” النائم فوق المقعد بوضعٍ غير مُريحٍ يستند برأسه فوق كفه، وقد تحرك “إسماعيل” بالصغيرة حوله يدوره بها في بهو البيت كي تنام وتَكُف عن البكاء، لكن يبدو أن مراده لن يتحقق، فهي ظلت ساهرة حتى نامت أمها بالأعلى، ونام والدها فوق المقعد وعمها يدور بها حتى يأس وقال بقلة حيلة:
_أنتِ دماغك دي بتعمليها فين، بقالك يومين بليلة صاحية، هو سراج مسى عليكِ بحتة ولا إيه؟ شكلك صاحبة كيف.
طالعها وهو يتحدث فوجدها ترفرف بأهدابها الرقيقة ثم ضمت عقلة اصبعه بكفيها فابتسم هو لها ثم ضمها له أكثر وأكمل دورته بها حتى بدأت ترتخي أناملها فوق اصبعه وتطلق همهمات مُرتاحة قبل أن تُسدل أهدابها وتخفي أقمارها اللامعة خلفها، ابتسم “إسماعيل” بعدما نجح في مُهمته فوجد هاتفه يصدح فالتطقه وجاوب المكالمة ليجد زوجته تسأله بمرحٍ:
_ضُرتي نامت خلاص؟.
_ضُرتك مطلعة عين أبوها وأمها وعمها وجدها وأي عابر سبيل معدي كمان، والله “إيهاب” صعب عليا وهو عمال يدور بيها خدتها أنا لحد ما نامت أهيه ولسه قاعد حالًا ويا رب متعيطش تاني.
ضحكت هي وفي ناظريها تخيلته أمامها يحمل الصغيرة فظلت تدعمه وتشجعه وتخبره عن فخرها بيه وقد ضحك هو الآخر ثم مازحها بمرحٍ:
_عقبال ما أشيل عيالنا كدا وأنيمهم هما كمان.
وهكذا استمر الحديث بينهما منذ باكورة الصباح وهي تخبره عن تفاصيل يومها وهو معها يخبرها بالمثل، حتى بدأت الصغيرة تتململ في نومها وتسكلك نهج البكاء فأغلق هو في وجه “ضُـحى” ثم هب منتفضًا بالصغيرة بين ذراعيه يُعيد دورته بها قبل أن تفيق من جديد ولم يكترث بالأخرى التي كانت تشتعل في موضعها بسبب تطفل تلك الصغيرة على حياة زوجها وسرقته منها..
خرج “مُـنذر” كي يذهب إلى عمله وما إن مر على رفيقه اقترب منه يُلثم الصغيرة ويضم كفها ثم يُعيد الكَرة ويُلثم كفها المضموم وكأنها أملٌ في حياةٍ قادمة لهم جميعًا، ابتسم له “إسماعيل” وسأله عن العمل، فأخبره الآخر بثباتٍ:
_هروح المستشفى الأول بعدها ورايا مشوار مهم ممكن أخلصه بدري وآجي هنا أو أروح المستشفى تاني، بس لو جيت هاخدها منك خد بالك، أنا سايبهالك أهو وماشي.
ضحك له “إسماعيل” ثم لثمها أمامه كي يغيظه وحينها رحل الآخر بصمتٍ ثم ولج المشفى بخطواتٍ هادئة وقصد مكتب خطيبته، أو التي من المفترض أن تكون هكذا، وقد ولج هو لها فوجدها تنكب فوق العمل نظرًا لانشغال شقيقها ببعض الأعمال القانونية الخاصة بالمشفى، فقال هو بهدوءٍ ألبسه وشاح اللباقة:
_ممكن أطلب منك طلب بعد إذنك؟.
ضمت حاجبيها والتفتت له برأسها وهي تقول باستنكارٍ:
_دا إيه الأدب دا كله؟ خير يا سيدي.
تغافل قصدًا عن سخريتها ثم قال بثباتٍ قبل أن يتهور عليها:
_عاوز منك ختم للورقة دي، وبما إنك متطفلة درجة أولى، فأنا هريحك وأقولك إن دي مجرد ورقة هروح بيها دار أيتام بصفتي دكتور نفسي محتاج أعمل كشف للبنات في الدار ومتابعة الحالة النفسية، والورقة دي هتبق زي إشراف من الوزارة كدا، ها هتختمي؟.
ساورتها الريبة بشأن ما يتحدث عنه لكنها أبدًا لن تنسى عمله القديم والمستنقع الذي سبق وعاش فيه، لذا سألته هي باهتمامٍ كله دهاءٍ:
_لأ قولي الصراحة علشان مش بحب الكدب، المشوار دا ليه علاقة بشغلك القديم صح؟ أو يمكن ليه علاقة بالناس دي؟.
زفر هو بقوةٍ ثم أومأ موافقًا وقبل أن تُكرر الأسئلة وجدته يجاوب فضولها المكتوم:
_كل الحكاية إن فيه نوع من الإتجار بالبشر وخصوصًا البنات منتشر جدًا الفترة دي، يعني بيستغلوا بنات جهلة في لعب غبية لشغل دعارة إلكترونية، وفيه جزء منهم بيستغلوه في شغل الترويج للشذوذ، وحاليًا دور الأيتام اللي فيها بنات بقى فيها نوعين، النوع الأول متاجرة بعرض البنات، والنوع التاني فيها بيخلوهم يصوروا فيديوهات مش كويسة وتتباع لمواقع عيب، يا إما تصوير البنات واستخدامهم وبيعهم لرجال الأعمال الساديين المرضى بالبنات الصغيرة، ها فهمتي بقى العالم بشاعته واصلة لفين؟.
اشمئزت ملامحها وتقززت من مجرد التفكير حتى أكفهر وجهها وألتقطت منه الورقة وما أن وقع اسمها على اسم مدير الدار توسعت عيناها وسقط منها القلم حتى انتبه هو لها فوجدها تقول باستنكارٍ نتج عن ذهولها:
_”هـاني ناصر محمود أبو الحمد”؟!!
سألها بعينيه عن استنكارها وقد حرك رأسه مستفسرًا فوجدها تقول بملامح ضائعة وخوفٍ سكن ملامحها:
_دا ابن عمي.
ارتخت أعصابه المشدودة ورفرف بأهدابه غير مُدركٍ مقصدها ثم قال بتهكمٍ:
_طب قولي كلام غير دا.
وبطريقته تلك لا تعلم هل هو يقصد ذلك أم أن الأمر بمحض الصُدفِ لكنها حقًا تود أن تنشق الأرض وتبتلعها في جوفها كي تتخلص مما هي عليه الآن، فلتوها أصبحت ترى نفسها بكل عين قُبحٍ
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)