روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والخامس والثلاثون 135 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة والخامس والثلاثون 135 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والخامس والثلاثون

رواية غوثهم البارت المائة والخامس والثلاثون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والخامسة والثلاثون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الخمسون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
يا ربّ، وكُلُّ نَفَسٍ
يُقرِّبُني إليك، وكل صباحٍ
أستفتِحُ فيه بذكرك؛
امنحني القُوَّةَ أن لا تتعثَّرَ خُطايَ
في مسيري إليك..
يا ربّ، وأنتَ الكبيرُ في
عليائِكَ وأنا الهَباءةُ في كونِكَ؛
فَكُنْ أنتَ الصَّاحب في سَفرِ الحياة.
– د. سلمان العودة، فك الله أسره.
__________________________________
سيشاء لنا المولىٰ أن نكون سويًا..
تمامًا كما بدونا في الأحلام، سنحلق سويًا كما الطيور أحرارًا، وسنطوف فوق حقول الزهور مدرارًا، سنكون معًا بغير وداعٍ وطريقي نفسه هو طريقك دون ضياعٍ، ستكتب لنا دُنيا جديدة رُبما ليس الآن، لقد وقتها من المؤكد سنقول بفرحةٍ أن وقت الفرحةِ قد حان، فأنا لا أود من هذا العالم إلا أنتِ، ولا أود أن أرى منك غيابًا بل أود أن أغيب معكِ، أتعلمين أن الطيور تطير من أرضها طالبة من الخالق أن يبسط الرزق لها مهما بلغ بُعد أرضها؟ ومعكِ الآن طيرٌ خرج من عُشه يصول ويجول في البُلدان بحثًا عن رزقٍ كتبه له الخالق، فَرُزِقَ في أول الطريق برفيقٍ يؤنسه في الطير، فجاب معه المدينة شرقًا وغربًا ولم يجد ألفته إلا معه وليس مع الغير، يُقال دومًا على لسان الحُكماء أن لكل عاشقٍ موطنٌ له مهما تغرب وطاف يعود إليه من جديد، وأنا بعيني رأيتُ طيرًا وصل لأطراف المدينة بحثًا عن رزقه فوجد هُناك خِلًا له، ومن ثم عاد به لموطنه واتخذ من مقر الخليل موطنًا، فيا طيرٌ وجدتُه في رحلتي وكان خير الخليل للفؤاد، ابقَ معي هُنا في موطني فأنا لم أرَ بحياتي طيرًا هجر موطنه وأراد البعاد، بل دومًا الطير إذا هجر من جديد نراه لموطنه عاد.
<“تحرر الطير من محبسه، وصاح يُنادي بالحُرية”>
لو لم يتحرر الطير من محبسه ويُدرك قيمة الحرية؛ بالطبع ما كان يومًا أدرك قيمة الحُرية ونادى مُطالبًا بها، وكأن من حُرِم من الشيء لم يدرك أي معرفةٍ عنه، لذا قد ترى طيرًا من بعد مناله لحريته رقص بالسماء ليخبر غيره أن الحُرية أصبحت له وأن الشمس تشرق بأرضه، هذا الطير الذي تربى ليكون عبدًا عند صقورٍ جارحة، قاد بنفسه جيشًا كان حبيسًا في البارحة.
ازداد بكاء “فُـلة” وهي تستمع لكلمات عمها المُهينة لها ولشرفها ولسُمعتها أمامه بينما هو فاندفع بغير تعقلٍ يقبض على رسغها ثم أوقفها خلفه ونطق بتحدٍ للآخر حينما قال:
_وأنا راجلها وقدامك أهو، هي خطيبتي أنا وقريب هتبقى مراتي كمان، يعني لما تيجي تتكلم بعد كدا تكلمني أنا وتوجه كلامك ليا أنا، ولو عليها فهي أشرف من الشرف اللي أنتَ متعرفش حاجة عنه، وكلمة كمان في حقها هدفنك هنا.
وقف “جـواد” على مقدمة الدرج يستمع لقول “مُـنذر” فأيقن أن بعض القرارات تأتي بسرعة البرق لتكون غير منسية، ففي بعض المواقف تخرج كلمات لا تنُسى في أيامٍ تُخلد بالذهن هي الأخرى، لتصبح كلماتٍ غير منسية في أيامٍ لن تُنسَ مهما امتلكنا الإرادة لذلك، تلك الكلمات التي فور أن تنفلت من حصار اللسان تُصبح إلزامًا كما العهد لا يقدر صاحبها على نقضها.
نزل الدرجات الفاصلة بينه وبينهم ووقف في مواجهة عمه يرشقه بنظراتٍ نارية لو كانت تبلغ الأثر لكانت قتلت الآخر وخر صريعًا أمامه، وما إن لمحه عمه ارتسم الاستهزاء على ملامحه وهو يسأله بتهكمٍ:
_أهو الدكتور المحترم شرف أهو، أنا كنت جاي أكلمك بالعقل بس واضح إن عيارك فالت يا “جـواد” وراسك زي راس أبوك، إيه المنظر دا يا أستاذ؟ وعامل علينا دكتور القيم والمباديء اللي مفيش منه؟.
كلماته كانت أكثر حِدةً من سيفٍ بتارٍ وُضِعَ عند عُنقه وظل يقوم ببتر النحر وهو يتألم بصمتٍ دون أن يُفصح عن ألمه، وقد تواصلت عيناه بعيني شقيقته التي بكت له بأسفٍ وهي تعتذر بصمتٍ، وأمام إيلام نظراته لها نكست رأسها للأسفل بهربٍ منه فتنهد “جـواد” ووجه حديثه إلى الآخر بنبرةٍ مُتصلدة آمرة:
_أتفضل يا دكتور خُد خطيبتك وأدخل جوة.
تعجب “مُـنذر” من طريقته ومن جُملته لكنه خرج من قوقعة صمته وأشار لها أن تسبقه حتى أدركت هي ما حولها وتحركت تسبقه نحو الداخل لكن نظراتها لم تُبرح موضع وقوف شقيقها الذي رماها بنظرةٍ جامدة ثم التفت لعمه وأشار له أن يسبقه هو الآخر وهتف بنفس الجمود:
_اتفضل يا عمي قدامي، علشان نتكلم.
دقائق مرت عليهما عقبها جلوس الاثنين في المكتب الخاص بمالك المشفى الذي برع في التحكم بأعصابه ورسم قناع الهدوء ببراعةٍ يُحسد عليها، بينما عمه فما إن لمح المكان وأدرك أنه استأنف نشاطه بل بشكلٍ أكبر من السابق تملك منه الغضب والغل الدفينين، ونطق بتهكمٍ ساخر:
_أنا أهو بتكلم بالهدوء، بس ينفع اللي حصل منكم دا؟ ابن عمك ييجي يطالب بحقه تضربوه وتطردوه كمان؟ جرى إيه يا “جـواد”؟ أنتوا فاكرين إنكم مالكمش كبير هنا؟ خلاص هتسوقوا فيها أنتَ وأختك؟ كلت المستشفى كلها في كرشك وعمال تاكل دماغنا بالقيم بتاعتك دي، بس على مين؟.
زفر “جـواد” بحنقٍ ثم رسم قناع الهدوء بحرافيةٍ أكبر وهو يقول ردًا على عمه بتهذبٍ وترفعٍ مُقدرًا مكانة الآخر:
_القيم بتاعتي دي اللي خلتني أحارب قبل ما أخوك التاني يضيعنا ويودينا كلنا في ستين داهية ويتقال علينا عيلة العصابات، أنتَ مش فارق معاك حاجة غير الفلوس وبس، إنما أرواح الناس ودمهم وحياتهم آخر اهتمامتكم، إنما أنا صحة المرضى عندي رقم واحد، أما الفلوس اللي مزعلاكم أوي فأنا دفعت قدها ١٠ مرات وزيادة عليهم ورث أمي وفلوس شغلها كله، فأنتوا جايين عاوزين تشاركوني في ورث أمي كمان؟ دا في شرع مين؟.
توسعت عينا عمه وتبادلت النظرات بينهما بنيرانٍ مُتبادلة حيث التحدي السافر الذي نُشِبَ بينهما ليقود كلاهما حربًا سلاحها كان النظرات، وفي الغرفة المتواجدة بنهاية الرواق كان “مُـنذر” يقف بجوارها يحاول أن يُهديء من رَّوعها وهي استمرت في البُكاء وجلد نفسها بقهرٍ قتله هو قبلها، فتحرك يقف بجوارها ثم مد يده لها بكوبٍ من المياه وقد أشار لها بعينيه حتى التقطته منه تتجرعه كاملًا بكفٍ مُرتجفٍ، فتنهد هو بعمقٍ ثم جثىٰ على عاقبيه أمامها ثم تحدث بهدوءٍ لمرته الأولى معها:
_عياطك مش هيحل حاجة من اللي حصل، الموضوع هيتحل وأنا اللي هتصرف، كلمتي اللي خرجت مني أنا قدها وملزوم بيها قدام الكل حتى نفسي، ومش هقبل حد يجيب سيرتك بكلمة واحدة حتى ولا سيرة أخوكِ، لازم تكوني قوية وتقدري تقفي وتواجهي مشكلتك، أظن أنتِ عارفة إن الهروب مش حل، المواجهة مهما كانت عواقبها هي الحل المثالي.
رفعت عينيها الباكيتين نحوه كما الطفلة الصغيرة التي تتجهز نفسيًا لتلقي العقاب جَراء فعلها الأهوج المُشاغب، فوجدت لأول مرةٍ منه نظرة حنونة يحتويها بها ثم ابتسم لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_عاوز أطلب منك طلب يمكن صعب عليكِ بس حاولي معلش للأسف يعني إنك تسمعي الكلام ومتعانديش معايا، اعتبريني بطلب منك طلب للمرة الأولىٰ.
عاد التمرد من جديد لها وهي تُضيق جفونها أثناء نظرها له بينما هو فأيقن أن التمرد هو أقوى أسلحتها لذلك سادت النظرات بينهما وبعد دقائق سبقها هو نحو غرفة “جـواد” وهي خلفه تتبعه بصمتٍ تام على عكس الحرب المُدارة بداخلها، فهي حتى الآن تُحارب لأجل الوقوف أمام أخيها، وقد التفت لها “مُـنذر” قبل أن يفتح باب المكتب وأعاد التحذير بقوله:
_تاني، أنا اللي هتكلم جوة، أنتِ خطيبتي ومتفقين نتجوز قُريب لما أنا استقر هنا شوية، ولو حد سألك أنتِ موافقة عليا وإحنا متفقين على كل حاجة، تمام؟ ومهما عصبك جوة سيبيني أنا أتكلم لو سمحتي.
أومأت له بخضوعٍ تام جعله يتعجب من ذلك لكنه تولى قيادة الحرب كما الفرس الذي يجود على فارسه في ساحة القتال، بينما هي فلا تعلم من أين لها بتلك الثقة التي وضعتها به، لقد تركت له ذمام الأمر بأكمله لكي يفعل ما يحلو له وهي التي تتمرد حتى على نفسها، ولج هو وهي تتبعه حتى انقطع سيل الحديث المنفعل من عمها فور رؤيته لهما، بينما “مُـنذر” فرفع رأسه بشموخٍ وقال:
_أهلًا بحضرتك يا فندم، معلش بس كل حاجة جت بسرعة وكنت عارف إن فيه مشاكل عائلية بينكم، وبدون دخول في تفاصيل أكيد مش هتطفل على حياة الناس وأعرف سبب المشاكل دي، عمومًا أنا لسه هجيب عمي ونتقدم رسمي، أكيد حضرتك هتيجي.
أنهى حديثه ثم واصل نظراته مع “جـواد” الذي تفهم ذلك وأومأ بجفنيه له كأنه يخبره أنه معه بنفس الخط ويدعمه، ورغم أن هذا هو المتوقع من شخصٍ حكيمٍ مثله إلا أن السعادة غمرت قلب “مُـنذر” جراء تلك الثقة الموضوعة به، وقد أخرجه من شروده صوت “نصار” عم الآخر الذي هتف بتحدٍ لهم:
_طبعًا هاجي وأحضر كمان، المشاكل دي مش هتغير حاجة في إني عمهم وكبيرهم من بعد أبوهم غصب عنهم هما الاتنين، وإذا كانوا شايفين نفسهم كبار فمش عليا أنا، أنا أقطع رقبة اللي يغلط وهما فاهمين، واللي يمشي عوج أكسرله رجله، وزي ما قولت أنا مكان أخويا.
إن سكتت لمدة خمسة عشر دقيقة كاملين فلن تصمت للدقيقة السادسة عشر، من أين له بتلك الجرأة لكي يقارن نفسه بوالدها العظيم؟ حتى وإن كانت أخطأت فليس له هذا الشرف أن يوضع بتلك المُقارنة؛ لذلك تقدمت للأمام وقد تناست كسرها منذ قليل ورمتت روحها وهتفت تحذره بقولها:
_محدش زي بابا عندي ولا حد هينول شرف إنه يكون زي بابا ولا حد يقدر ياخد مكانه، فرق السما والأرض بين أب كان راجل بجد وبين أشباه رجال بيقارنوا نفسهم بيه، ولو حد مسموحله ياخد مكان بابا يبقى “جـواد” أخويا بس.
لو قام بقتلها الآن بالطبع لن يُلام، فهي لم تتمالك نفسها في لحظات الغضب، وإنما تندفع خلف نزعتها المتمردة وتُساق لأرض المعارك بأقل جُهدٍ قد يُذكر، أما عمها فتحرك يقف في مواجهتها ليرى نظرات شقيقه في عينيها، نفس العنفوان والقوة ذاتهما، وقد قرر أن يثير استفزازها بقوله:
_أنا من الأول قولت إنك محتاجة تتربي محدش صدقني، من يومك بت عيارك فالت، ولو كنت هجوزك ابني فدا علشان أنتِ عيارك فالت وراسك عاوزة قطمها.
كادت أن تتدخل وترد عليه لكن “مُـنذر” حال دون ذلك ووقف أمامها يُحصنها خلفه ثم نطق بقسوةٍ لم تُنذر بأي خيرٍ:
_قولتلك كلامك عنها بالأدب بعد كدا، وياريت لما تيجي تتكلم توجه الكلام ليا، ولو عليها فهي متربية أحسن تربية، ولتاني مرة وآخر مرة بحذرك من التمادي إنك تغلط فيها وتجيب سيرتها، ووصل الكلام دا كمان لابن أخوك التاني وقوله، دكتور “مُـنذر” بيقولك لو فكرت تقرب من خطيبته تاني المرة الجاية هياخد روحك كلها، تمام؟ ولا نقول كلام غير دا؟.
تعجبت هي من موقفه وأدركت أن حديثه ليس فقط من نظير الخدمة أو حتى لكي يُنهي الموقف وإنما حديثه كان صادقًا بشكلٍ لا يُعقل، هي حتى لم تُصدق أن هذا هو نفسه من طلب منها أن تبتعد عنه وترحل عن طُرقاته، وأثناء انسحاب عمها تلاقت النظرات معًا بينها وبين “مُـنذر” وقد قرأت في عينيه حديثًا لم تُكذبه حينما قال:
_أردنا أن نبتعد عن موطنَّا وتغربنا لا ندري إلى أين؟
فكان المقصد قلب إحداهن تُضلل علينا بالجفنِ والعين.
__________________________________
<“لولا نقاء القلوب في التغاضي، لما أكملنا معكم”>
يُقال أن القلوب دومًا على نقائها تلتقي، ونحن نُحافظ على نقاء قلوبنا لكي نلتقي بمن يحمل في قلبه نقاءً ثم نتساءل أين المُلتقىٰ، فالقلب يعشق من كان على نقاءٍ مثله ويود منه فقط اللُقا، فالقلب المُظلم بجوار القلب النقي يغدو نيرًا ومُشرقًا.
وقف “عُـدي” على الطريق العام في أول منطقة حارة “العطار” ينتظر قدوم “رهـف” التي ظهرت سيارتها من على بُعدٍ من مكان وقوفه فابتهج وجهه ثم أشار لها حتر اقتربت منه وأوقفت السيارة بجواره، مال عليها يُحدثها من النافذة بمزاحٍ وهو يقول:
_آخر حاجة توقعتها إني أخطب واحدة معاها عربية وأقف أنا استناها كدا، هتستني يا بنت الحلال لحد ما أجيب عربية أنا كمان ولا عندك اعتراض؟.
ضحكت له ببراءةٍ ثم قلبت عينيها كأنها تدعي التفكير ثم قالت بنبرةٍ ضاحكة أجادت إخفاء المزاح منها وهي تقول:
_ما هي مش بالعربيات يا حضرة المترجم، ياما ناس كتير معاها عربيات بس قليلة الذوق، أهم حاجة جوهر الإنسان مش مظهره يا “عُـدي” وأنتَ معدنك أصيل أوي.
ابتسم لها بعينيهِ ثم أومأ موافقًا لها وأشار لها كي تتبعه بعدما صفت السيارة في مرآب السيارات بالمنطقة بينما هي أخذت عُلبة الحلوى الفاخرة من السيارة وسارت بجواره وهي تُراقب الحارة بساكنيها والبسمة تتراقص فوق شفتيها، وجدت المكان نظيفًا مكترثًا بالزرع الأخضر، والحوائط مُعظمها رُخامية، وهناك العديد من القواني الفُخارية موضوعة ومُرتصة بجوار بعضها، وهناك العديد من الأذكار والآيات القُرآنية والأحاديث الشريفة مكتوبة فوق الحوائط الرُخامية، كل شيءٍ وجدته مُميزًا بهذا المكان.
راقبها “عُـدي” ببسمةٍ هادئة وهو يدرس رد فعلها تجاه المنطقة، وقد شعر بالأريحية تساوره حينما أدرك أنها لم تتضايق من المكان بل على عكس المتوقع يبدو أنها سعدت بذلك، وقد داهمها بسؤالٍ غير متوقعٍ حينما قال:
_قوليلي يا “رهـف” هو أنتِ تقبلي إنك تسكني هنا؟.
تجمدت لوهلةٍ ما إن أدركت أنه يسأل عن مسكن الزوجية وقد تحكمت في الأمر هي بسرعةٍ كُبرىٰ وبادلته ترقبه ببسمةٍ مُطمئنة وهي تجاوبه:
_ماله هنا؟ المكان ما شاء الله حلو جدًا وباين إنه نضيف وناسه طيبين، مقبلش ليه يعني؟ بس هو أنتَ ناوي تسكن هنا يعني؟ عندك شقة في الحارة؟.
تنهد بقوةٍ ثم قال بنبرةٍ هادئة يخبرها بما أصبحت عليه الأوضاع مؤخرًا:
_العمارة اللي “يـوسف” خد شقة فيها جاب شقة تانية ليا هناك على الطريق العمومي من برة، وقالي أنا حر فيها، حتى لو عاوز أبيعها وأجيب شقة تانية في مكان أنتِ تختاريه وحباه، بس أنا بصراحة مش هقدر أكسفه، خصوصًا إن الشقة حلوة أوي وفي مكان حلو كمان، بس لو مش عاوزة هنا أو مش شبهـ…
قبل أن يكمل بترت هي حديثه حينما جاوبته بلهفةٍ:
_المهم إنك تكون معايا في أي مكان هروحه.
نطقتها بغير وعيٍ منها حتى توسعت عيناه أمامها ذاهلًا بعدما أتى جوابها بتلك التلقائية، وقد عدلت هي حديثها بقولها ملهوفةً:
_أقصد يعني مش مهم المكان، بس المهم مين في المكان، وطالما المكان أنتَ فيه فمش هتفرق يا “عُـدي” بعدين ما الزمالك دي ساكن فيها “سـامي” و “عـاصم” وأظن شايف جشعهم وطمعهم وصل الدنيا لفين، متقلقش أنا بنت أصول مش هبص لحاجات فارغة زي دي.
دومًا ما تُجيد إبهاره بما تفعل وتتحدث لتثبت له أن نقاء قلبها هو أحق الناس به، فهناك بعض البشر يكونون درسًا لنا والبعض الآخر درسًا لهم، وهي أتت لتكون كلا الدرسين معًا، تارةً لقلبه الذي يحبها ويحب كل شيءٍ يخصها وتارةً لقلبه السابق الذي تعرض للرفض على يد من سبق واختارها، ولو كان يعلم أن الخالق يُخبيء له تلك الجوهرة الفيروزية لكان أصاب فؤاده بالعمى عن الناس بأكملهم حتى يوم أن يُبصر يراها هي.
وصل بها فوق سطح البناية حيث جلوس الجميع مع بعضهم ومعهم “يوسف” أيضًا الذي عاد من لقائه مع “سـامي” برضا توغل لقلبه وانتشر في أوردته ما إن رأى الآخر ذليلًا فوق المقعد عجز حتى عن معاونة نفسه لنفسه، وقد جلست بجواره “عـهد” وهي تراقب لين ملامحه وصفاء عينيه بعدما كانت جامدة وقاسية، وقد تعجبت مما تراه هي، ففي الصباح قبل أن تخبره بذهابها للعيادة كان صلدًا ونظراته حادة، أما الآن فهو يجلس شاردًا بعينين صافيتين تمامًا..
ولج عليهم “عُـدي” وهي بجواره تمسك في يدها عُلبة الحلوى ثم تقدمت من الجميع ترحب وتصافح وتمازح بعد أن اعتادت عليهم، حتى عانقتها “أسماء” بقوةٍ وهي تقول بمرحٍ وحماسٍ معًا:
_مرات ابني الغالي، ياختي على السكر.
خجلت “رهـف” كثيرًا وتضرج وجهها بحمرة الخجل ما إن انتشرت الضحكات عليهما، وقد جلست بجوار “ضُـحى” و “مـي” التي كانت تحذر “أسماء” بعينيها حتى لا تخجلها أكثر، فمالت “غالية” عليها تحدثها بنبرةٍ ضاحكة:
_عارفة لو فضلتي تبرقي من هنا للصبح، والله ما هتعبرك حتى، خليها بس علشان البنت تتعود علينا، شكلها متاخدة مننا، حظها بقى إن “أسماء” حماتها، ودي تحرك العفريت مش الإنس بس.
هتفت “مَـي” بنبرةٍ خافتة هي الأخرى وهي ترد على حديث “غَـالية” لكن حديثها خرج ضاحكًا وهي تطالع نظرات “يـوسف” تجاه زوجة خاله:
_أنا خايفة عليها من “يـوسف” اللي هياكلها بعينيه، أومال لو مش محذرها قُدامنا كانت عملت إيه؟ ابنك هياكلها ياستي.
ضحكت “غالية” وهي تُطالع نظرات ابنها وابن شقيقها وقبل أن تتحدث أتى صوت “رهـف” وهي تسأل بتعجبٍ عن سبب غياب “قـمر” لمرتها الأولى:
_أومال فين “قـمر”؟ أنا كنت عاوزة أشوفها وأتطمن عليها علشان لما شوفتها في المستشفى كانت تعبانة خالص، هي أحسن دلوقتي؟ والأستاذ “أيـوب” اتحسن ولا لسه؟.
جاوبها “يـوسف” بسخريةٍ مرحة:
_عندها شيفت تمريض في بيت العطار وبتيجي تكرر الشيفت هنا عندي بليل، بتتعب يعيني علشان كدا ربنا هيراضيها قريب، أصلها شايفة شُغلها كويس ربنا يحرسها.
حدج “عـهد” بطرفه أثناء حديثه حتى لكزته بمرفقها في جانبه لكنه لم يكترث بل تبادل أطراف الحديث مع الآخرين ثم عاد بظهره يستقر بجوارها وهو يقول بمراوغةٍ شقية كما حاله في أغلب اللحظات معها:
_”قـمر” دي شطورة أوي، تخيلي كدا قاعدة هناك مخلية بالها من جوزها ومش سايباه خالص، وأنا والله حالتي صعبة وعاوز حد يخلي باله مني، خصوصًا بليل بقى، حالتي بتبقى صعبة ربنا ما يوريكِ اللي بشوفه.
كادت أن تضحك أمامه لكنها أطبقت شفتيها فوق بعضهما تمنع خروج ضحكاتها فهمس هو في أذنها بنبرةٍ حنونة استشفت الصدق فيها حينما قال:
_مش عاوز بس غير طَّلة عيونك.
التفتت تُقابل عينيه بعينيها ليظهر الوهج اللامع فيهما نظير الصفاء منه وقد قررت أن ترأف به فرفعت نفسها له تُخبره بنبرةٍ أقرب للهمسِ كأنه تُراضي رفيقًا لها:
_أنتَ لسه ليك عندي مُكافأة مخدتهاش، هحوشلك عليها زيادة حبة حاجات كمان واعتبرها مكافأة لقوة صبرك وتحملك معانا، أنا في العموم مش هبخل عليك بحاجة تخليك فرحان.
ابتسم بعينيه لها ما إن تلاقت النظرات من جديد، هذا المُحارب المنتصر بكل ظفرٍ في أي معركةٍ لم تدركه هزيمةٌ من قبل بقدر ما أتته من عينيها هي، أيعقل أن براءة العينين تكون سلاحًا في بعض الأوقات؟ منذ متى والعيون تقتل وتنتصر وتربح على فارسٍ أجاد الحرب في أي ميدانٍ؟ أراد أن يغوص ويغرق في عينيها لكن صوت هاتفه كان اليد التي انتشلته من الغرق حينما صدح عاليًا..
أخرج الهاتف وطالع رقم المُتصل وما إن رآه تنهد بقوةٍ ثم خرج من السطح ونزل في المصعد للأسفل ثم عاد مُجددًا لهم لكن تلك المرة كان “نـادر” خلفه حتى تثبتت الأعين عليه، كانت النظرات بأكملها مُتباينة وقد تعجبت “رهـف” من تواجده معهم فنطقت اسمه باستنكارٍ غلفته الدهشة:
_”نـادر”!! غريبة إنك هنا.
مط شفتيه آسفًا بينما “يـوسف” فطالع وجه أمه يراقب رد فعلها فوجدها تزفر بقوةٍ حتى مالت عليها “أسماء” تهتف بنبرةٍ خافتة لكي تلفت نظرها لما لم تكن تراه هي أو رُبما غفلت عنه:
_بقولك إيه؟ الواد وقف معانا في المستشفى مسابناش ولا حتى اتأخر علينا بحاجة، فأهدي كدا ومتنسيش إن الأضمن يكون في صف ابنك أحسن ما يكون عدو ليه، أنتِ مربية “نـادر” وعارفة الواد كان مكسور إزاي بسبب عمايل أبوه فيه.
وقعت في صراعٍ حاد عليها ما بين مشاعر أمٍ تعب ابنها بسبب الآخرين وأحدهم يقف أمامها، وبين إنسانة لا تفتقر لمشاعر العطف والشفقة، لذلك تحركت نحو ابنها وهي تُشير للآخر بقولها:
_نورت يا “نـادر” وشكرًا على وقفتك معانا في المستشفى.
ابتسم لها بسعادةٍ ثم التفت لـ “يـوسف” الذي ابتسم هو الآخر ثم أشار له أن يجلس بينهم وقال بصوتٍ رخيمٍ:
_تعالى أقعد يلَّا علشان رجلك، تعالى.
تحرك يجلس بجوار “عُـدي” الذي رحب به هو الآخر وقد جلس “نـادر” بينهم يتعجب كيف مر الزمن وفعل بهم ما فعل؟ كيف تحولت أكثر الأماكن اطمئنانًا للقلب لأماكن يجلس بها المرء غريبًا؟ تلك الأماكن التي كان يأتي إليها ويخبرها بهزيمته، أصبحت هي نفسها من تهزمه بعدما غَّربته عنها ووصفته أنه عنها أمسىٰ غريبًا، راقب ملامح صديق طفولته بشوقٍ بالغٍ وهو يتذكر أيام طفولته معه، لقد كان “عُـدي” أكثر توافقًا وفهمًا معه عن “يـوسف” الذي كان يتميز ببعض الصفات التي لم تتفق معهما..
قام “عُـدي” برفقة شقيقته بإحضار العصائر وواجب التقديم ومُضايفة الآخرين فيما قامت “عـهد” بوضع الفطائر التي قامت بصنعها أمام الجميع، وقد جاور “عُـدي” رفيقه القديم يسأله باهتمامٍ:
_رجلك عاملة إيه دلوقتي؟ بقيت أحسن؟.
تلقى العديد والعديد من الإهتمام ولم يعد قادرًا على مجابهة تلك المشاعر التي تنساق خلف البقية، لقد شعر أن قلبه يتضخم بمشاعره تجاههم جميعًا وبالأخص رفيق طفولته فتنهد وهو يوميء له موافقًا، وقد ابتسم له الآخر ثم ربت فوق فخذه وقال بنبرةٍ هادئة:
_ربنا يردلك عافيتك وصحتك من تاني.
لاحظت “رهـف” أن هناك مشاعر قديمة كما الشوق للرفقة يظهر فوق ملامح وجهيهما فسألتهما بتعجبٍ صريحٍ:
_هو أنتوا كنتوا صحاب!!.
نظر لها الاثنان معًا ثم نظر كلاهما للآخر وقبل أن يجاوبها “نـادر” وجد الكلمات تقف بخزيٍ على طرف لسانه، فيما قال “عُـدي” بثباتٍ يجاوبها ويُراضي فضولها:
_وإحنا صغيرين كان “نـادر” بييجي كتير مع عمو “مصطفى” عندنا وتقريبًا كانت اهتمامتنا واحدة أنا وهو وكنا في نفس السنة في المدرسة وكنا بنذاكر مع بعض، و “يـوسف” كان سابقنا في المدرسة بسنة، فإحنا من صغرنا صحاب يعني وعارفين بعض.
تعمد أن ينفي كلمة الماضي من الحدييث لعل ذلك يُعيد ما دمره الخريف ربيع العمر، لقد تعمد أن يرسل رسالة بعيدة للآخر يُخبره أنه لازال رفيقًا له وينتظر قدومه له من جديد، تلك المشاعر التي غلفتها طبقة من الصدأ من المؤكد أن إزالة تلك الطبقات ستعيد لها لمعتها من جديد، ابتسم له “نـادر” ثم ربت فوق كتفه، ولأول مرةٍ يُدرك جُرم والده في حقه، لقد جنىٰ والده عليه وحرمه حتى من أبسط حقوق الأطفال في امتلاك أصدقاءٍ، بل أنه ساهم في ضياع رفيقه المُفضل منه، في تلك اللحظة أراد أن يبكي حقًا كلما تذكر جلوسه في الغُرفة بمفرده يتحدث مع نفسه بعدما ابتعد عنه الجميع.
__________________________________
<“العين بالوجهِ فُتِنَت والقلب بالقلب ازدهر”>
العين تُنظر والقلب يرىٰ..
فإن عميت العين القلب يُبصر ويرىٰ،
إنها القلوب التي تملك البصيرة وخير قلبٍ
ذاك الذي يترك بصيرته ترىٰ، فلو لم يُبصر
القلب لما كان اصطفىٰ خليله من كل الورىٰ
إن عيني في غيابكم قد يُصيبها العمىٰ،
أما قلبي فيصبح بصيرًا يوم أن مُحياكم يرىٰ.
لو أن أهل الشمال والجنوب توحدوا معًا لكي يخبرونه أن نتيجة صبره قد تكون بهذا القدر من الجمال من المؤكد أنه كان سينعتهم بالهزل والمزاحِ، لطالما لم يرغب في أي شيءٍ في دُنياه سواها هي فقط بعدما كان يتضرع لخالقه طالبًا منه الزُهد في الدنيا والجنة في الآخرة، لتأتي هي أمامه ويصبح لها نصيبًا من الدعاء، لقد أصبح يذكرها في خلوته مع الله ﷻ قبل نفسه، يدعو الخالق لقلبها قبل أن يدعو لقلبه، والآن يجلس فوق المقعد يُقيم فرض العِشاء وفي سجوده يذكرها لسانه داعيًا لها بخير الدنيا والآخرة.
أنهى “أيـوب” صلاته وجلس يذكر على عُقل أصابعه بتضرعٍ وخشوعٍ وقلبه قد امتلأ بالرضا والحمد والثناء على فضل الخالق في الابتلاء له، لقد كُتِبَت له النجاة من جديد، وتذكر أن البلاء للمسلم هبة من الخالق، وكما عود نفسه على قول “كُلما بلوت، كُلما اقتربت” وهو الآن يطمع في القرب أكثر وأكثر، وقد طُرق الباب بعد مرور دقائق وولجت له “قـمر” بوجهها البشوش حتى ظن هو أن تلك البسمة تخصه وحده من بين الجميع، وقد ابتسم لها هو الآخر فوجدها تسحب سجادة الصلاة ثم تضعها بعيدًا ثم سحبت مقعدًا وجلست أمامه وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_ربنا يتقبل منك ويتمم شفاك على خير يا رب.
أومأ لها موافقًا بوجهٍ مُبتسمٍ وهو يردد خلفها بنبرةٍ خافتة فوجدها تُضيف بحيرةٍ وكأنها أرادت أن تستفسر منه هو:
_ممكن اسألك سؤال؟ هو ليه حصلك كدا مع إنك عمرك ما زعلت حد ولا عملت حاجة وحشة مع حد، حتى لما بتتعصب وتخرج عن شعورك بيكون الحق معاك في مواقف كلها تستاهل إنك متسكتش عن الحق، وليه الظالم عايش عادي ومرتاح كأنه مبيعملش حاجة؟ والله مش قصدي يكون كلامي جحود أو بغلط في حكمة ربنا بس عاوزة أفهم ليه يعني؟ هل مثلًا علشان أنتَ طيب فدا جزاء طيبتك؟ ولا ليك أجر؟ ولا إيه بس؟.
تفهم هو طريقة فكرها التي رُبما تكون يأست من الأوضاع حولها، تحديدًا كما يُجيد الشيطان الدخول من طُرقاتٍ خبيثة للبشرِ فيؤثر على عقولهم ويُزعزع قوة إيمانهم، لذا تنهد هو ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_ربنا سبحان وتعالى يبتلي العبد إذا أحبه، وهل يُبتلى المرء إلا فيما يُحب؟ بمعني إن الإبتلاء مش القصد منه والعياذ بالله إن ربك مش حابب عبده، حاشاه، العبد المحبوب مُبتلىٰ، أما الظالمين اللي نسيوا دينهم واتغروا في الدنيا، فدول ربك بيفتحها عليهم من وسع، بياخدوا كل حاجة كانوا عاوزينها، ومش بس كدا دول كمان مش بيتعاقبوا عليها، دول بيفرحوا بيها.
جعدت وجهها وعقدت جبينها بغير إدراكٍ حتى إن فاهها اِفتر بذهولٍ عن بعضه تتعجب مما قال، بينما هو استرسل مُفسرًا لها مقصده بذكره لآية كريمة من سورة “الإنعام”:
_{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ}
تفتكري إيه النتيجة؟ عقاب؟ عذاب؟ انتقام؟ أو حرمان حتى؟ لأ بالعكس، التكملة أهيه وهتشوفي حكمة ربنا سبحانه ﷻ حيث قال:
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ}
يعني عكس المتوقع تمامًا، أبواب الرزق كلها بتفتح طب ليه وإزاي، والأهم لما يتفتح ليهم أبواب الرزق طب وبعدين هيفضل ليهم رزق كتير كدا وهما ناسيين ما ذُكروا به من الخالق؟ الجواب بقى في الآية الجاية حيث يقول الخالق:
{حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ}
بمعنى الاستدراج، أي يزداد تعلقهم بالشيء ويفرحوا ويحسبوه دايم، وربك ياخده منهم، وهو دا العقاب، علشان كدا لازم مننساش وإحنا بنحب الحاجة ونديها وقتنا وجُهدنا، فيه أولويات تانية أحق، أهمهم الطاعات والعبادات، أما الابتلاء فهو رحمةٌ من الخالق للعباد، فأنا عبد، يعني أنا لله كُلي ويفعل بي ما يشاء، ولا يسعني إلا الرضا بما كتبه الخالق، ليه بقى؟ علشان مكونش زي اللي نسيوا ما ذكروا به…
توقف يُتابع انبساط ملامحها فأراد أن يزيد قوة الثقة برحمة الخالق على العباد حينما يشاء ويفعل ما يُريد بهم:
_افتكري دايمًا إن الإسلام دين عظيم، لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وقام بوضع الحدود لها، أما الصبر فهي عبادة للخالق وياليت القلوب صابرة، كل ما تيأسي افتكري إن
النار لم تحرق “إبراهيم” والسكين لم تذبح “إسماعيل”. والبحر لم يغرق” موسى” والحوت لم يأكل “يونس”
ففقط كل ما علينا أن نثق بالله ونردد قوله تعالى:
{قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وإحنا إيه يا “قـمر”؟.
دمعت عيناها أمامه وهي تقول بصوتٍ مُحشرجٍ أقرب للبكاء:
_الحمدلله إحنا مؤمنين، وموحدين بالله، على الله يتوكل المؤمنون، وربنا يرزقنا الصبر على البلاء.
ابتسم لها بفخرٍ ثم فرق ذراعه الحُر عن جسده وهو يطلب منها بصوتٍ رخيمٍ ودافيءٍ كلمةواحدة فقط “تعالي” لكي تقترب منه، وقد اقتربت هي بهدوء مُراعاةً لحالته الصحية فوجدته يُربت على كتفها ورأسها ثم لثم رأسها وقال بنبرةٍ هادئة:
_ربنا يباركلي فيكِ ويقدرني وأكون زوج صالح يعينك على دينك قبل دُنيتك، ربنا يكتبلنا الجنة مع بعض ويجعلني زوج صالح ليكِ ويجعلك زوجة صالحة ليا، صليتي العشا؟.
_آه الحمدلله، ينفع تقرألي قرآن بصوتك؟.
كان ذلك هو جوابها عليه ثم طلبت منه مطلبها، فقرر أن يُمازحها لذا رفع حاجبه لها يسألها بجمودٍ زائفٍ:
_على فكرة أنا اللي تعبان، أنتِ حافظة مش فاهمة؟.
ابتعدت عنه بعينين دامعتين وهي تطلب منه بنبرةٍ أقرب للتوسل وكأن قلبها يرجوه أن يمن عليه:
_وأنا اللي محتاجة أتطمن، ممكن؟.
أشار لها أن تقترب فأومأت موافقةً ووضعت رأسها فوق كتفه فتنهد هو بعمقٍ ثم مسح على رأسها من الأعلى وهي بين ذارعه الحر وجسده وبدأ يتلو عليها القرآن الكريم بصوته العذب، يبدو أنه أراد طمأنة نفسه أيضًا ولا يعلم كيف وُضِعَت بها تلك القوة لكي تُشدد أزره وتقف في صفه أمام العالم؛ لكن الخالق شاء وقدر له ذلك، وهو أسعد الخلائق بمشيئة ربه، فسبحان الوهاب يوم أن شاء له أن يُرزق، رزقه بحبها ووضع حبه في قلبها، وهو وحده مطروف العين بها.
__________________________________
<“لا تُراهن على صبر أسدٍ يتربص لفريسته”>
بعض الصفات فينا تتغير ويقوم الزمن بمحوها لتظهر أخرى مكانها لم نتمناها يومًا في شخصنا، تلك الصفات التي طرأت على حياتنا لتخبرنا أننا فقدنا أجمل ما كُنا نملكه ذات يومٍ في أنفسنا، يد التغيير ما إن تطرأ على حياة الفرد تخفي أي أثرٍ لأجمل ما كان فيه ذات يومٍ.
في بعض الأحيان لولا وجود الرفقاء معنا بالطبع كُنا ضللنا الطُرقات وتوهنا في المنتصف، حيث اللاعودة ولا تكملة، فقط التيه هو ما يسيطر علينا، وفي منزل “عبدالقادر” في الحديقة بالأخص كان “بـيشوي” يجلس برفقة “أيـهم” ومعهما جلس “يـوساب” وهم يسعون معًا لحل تلك المعضلة التي تسبب فيها “جـابر” وترتب على أثرها تدمير أسرته وتحطيم أفرادها، لقد كان كما الحملة الإنجليزية في شن الحروب على أسطولٍ بحري ترتب على أثرها تدمير الأسطول بالسُفن بالأفراد..
وقد تحدث “أيـهم” بنبرةٍ هادئة لم تنفك عنها قوة طباعه:
_لو هنتكلم بالأصول فمينفعش إنهم يفضلوا عندك كتير يا “بيشوي” حتى لو أنتَ مش في البيت بس مينفعش كدا علشان راجلهم موجود لسه، والناس متعرفش أنتَ بتبات فين، عشان الشُبهات دي هنروح نحل الموقف كله مع أبوهم، ليك عليا أضمنلك إنه ميقربش من واحدة فيكم، ونحدد فرحكم وخطوبة “يـوساب” لحد ما هي تتخرج ويتجوزها وهو حُر في مراته بعد كدا، تمام نروح نتفق ولا هنرجع تاني في كلامنا هناك؟.
زفر “بيشوي” بقوةٍ فعلم رفيقه أن الحديث لم ينل إعجابه، بينما “يـوساب” فكان كل مُراده أن يجد حلًا لخطيبته لكي تخرج من قوقعة حزنها تلك، لم يرد أن تنطفيء روحها بتلك الطريقة، نعم هو يعلم أن المصباح المنكسر لا يُضيء، وهو يسعى للحفاظ عليها من أي كسرٍ..
في الداخل كانت “آيـات” تجلس مع الاثنتين وبجوارهما “نِـهال” التي تعشق صداقتهن معًا، بينما استطردت “مهرائيل” حديثها بصوتٍ باكٍ وهي تشكو من أفعال والدها:
_بقى صعب أوي أكتر من الأول، كل ما أقول ربنا هداه خلاص وهدي علينا يرجع أفظع من الأول كأنه عدو لينا كُلنا، عارفة؟ عمري ما كنت أتخيل إني أعوز أتجوز بس علشان أخرج من البيت، علطول كان نفسي أتجوز علشان يكون عندي بيت حلو وكله هدوء وسلام نفسي، بس أنا هقدر أعمل بيت زي دا وأنا عمري ما جربت البيت دا شكله بيكون عامل إزاي؟.
أشفقت عليها رفيقتها وضمتها لعناقها تمسح على وجنتها وهي تُطمئنها بحديثها الرقيق الذي لم يفشل في تحقيق أثره:
_يمكن دي تكون الحكمة نفسها من ربنا، وهي إنك تجربي البيت القاسي دا علشان لما يكون عندك بيتك تقدري تنجحي فيه وفي دورك إنك تربي ولادك صح، يمكن أنتِ وأختك كان عندكم قدرة تحمل، بس ولادكم ممكن لأ، علشان كدا زي ما قولتي بكرة تتجوزي وتقدري تربي ولادك صح وتملي بيتك فرح وحب وتفاهم، والله يابنتي لما تتجوزي هتعرفي إن البيوت دي أحلى حاجة خصوصًا مع اللي قلبك يرتاحله.
ابتسمت لها “مارينا” بينما “مهرائيل” فابتعدت عنها وقررت أن تُضفي المرح على الجلسة فسألتها بمزاحٍ:
_بت، هو الواد أبو عيون قطط دا بيحضنك؟.
ضحكت “نِـهال” عليها وضحكت الأخرى بينما “آيـات” فدافعت عنه وعن نفسها بقولها الذي لم يثبت على رده:
_لأ طبعًا…. أنا اللي بحضنه.
علا صوت الضحكات عليها وعلى براءة ملامحها وهي تتحدث بمرحٍ ومزاحٍ جعل رفيقتها تتصنع ضربها وهي في الحقيقة تحاول أن تهرب من حزنها مع رفيقتها التي كانت ولازالت ملجأ الأمان لها في لحظاتها العصيبة قبل المرِنة.
في خارج الحارة كان “إيـاد” يتجول بدراجته الهوائية مع “أبـانوب” رفيقه الأحب على قلبه الذي أتى ليقضي يومين بمنزل جدته، كانت سعادة الصغيرين لا توصف مع بعضهما بعد شوقٍ دام لكثيرٍ من الأيام بينهما، ولج الاثنان عن أحد الأزقة الضيقة في الحارة ولم ينتبه “إيـاد” أنه ولج من هذا الطريق العكسي حيث بيت التي من المفترض أن تكون أمه.
وجد صوت الزغاريد يصدح عاليًا وتعجب من ذلك كثيرًا فأوقف الدراجة يتابع بعينيه ما يحدث فوجد والدته تقف أمام مدخل البناية وهي ترتدي فستانًا يليق بزفاف إحداهن وقد توقع أنها خطبة “شكري” خاله؛ لكنه انتبه لذاك الذي وقف يمسك كف أمه وقد خرجت واحدةٌ من أقاربها من شُرفتها تطلق صيحات المُباركة وأضافت بنبرةٍ عالية تُشهر أمر الخِطبة:
_ألف مبروك يا “أمـاني” ربنا يعوضك يا حبيبتي ويجعله راجل الدنيا والآخرة، ألف مبروك يا حبيبتي وربنا يسعدك في حياتك ويكرمك معاه، ألف مبروك يا عريس.
وقف بتعجبٍ مما يرى أمامه وكأنه يرى كابوسًا، تلك التي لم تكترث يومًا به تُخطب لرجلٍ آخرٍ وكأنها رمت الماضي من كتاب أيامها؟ هل يُحق لها بعدما لطخت أيامه بالحبر ودمرت كتابه أن تأتِ بكتابٍ جديدٍ لها؟ تيبس جسده وأبت عضلاته التحرك رغم أن قلبه الصغير توسله بالرحيل، نبهه عقله أن تلك الذكرى لم تختلف عن مساويء ذكرياتها له، القلب أراد والجسد عارض ووقف يتابع فرحتها بجوار خطيبها والتفاف الجيران حولها، وقد شعر بكف أحدهم يوضع فوق كتفه فالتفت له بعينين حمراوتين..
كان “أبـانوب” رفيقه هو صاحب اللمسة التي أسارت القشعريرة في جسده وقد ناظره ونزلت العبرات من عينيه فضمه له رفيقه ومسح على ظهره وهو يقول بحزنٍ لأجل رفيقه:
_متزعلش نفسك، أنتَ عندك باباك أحسن منها ومامتك دلوقتي ميس “نِـهال” اللي بتحبك، مش أنتَ قولتلي إنك نسيت الست دي؟ متزعلش وسيبك منها، يلا نروح أحسن؟.
سأله باهتمامٍ حتى مسح “إيـاد” وجهه ثم وافق على أمر الرحيل بعدما أيقن أن حتى العبرات لا تصح إن نزلت على تلك المرأة التي يتمنى من كل قلبه أن تزول من أيامه وذاكرته وماضيه، يتمنى أن يمتلك قلبه القوة لكي يتخلص من أي شعورٍ تجاهها، أراد أن يفقد ذاك الجزء الذي يحمل ملامحها في ذاكرته، لكن يبدو أن عمره لازال صغيرًا والأيام أمامه بعد..
قاد دراجته لبيت جده وخلفه سار رفيقه وقد شعر أن نيران قلبه تحتاج لذراعيها هي تحديدًا لكي يقوما بإطفاء نيرانه وقد ولج المطبخ بعد أن بحث عنها وعلم أنها به، كانت هي تعاون “وداد” في تحضير بعض الأشياء فوجدته يطلب منها بصوتٍ أقرب للبكاء:
_ماما أنا عاوزك تحضنيني دلوقتي، ينفع؟.
تيبس جسدها من هذا الطلب الغريب الذي لم تتوقعه هي منه وقد التفتت له لتلمح عينيه الباكيتين في السابق فنزلت بجسدها له وأولًا ضمته بعينيها ثم فرقت ذراعيها له فوجدته يرتمي عليها وتشبث بها حتى كاد أن يلتصق بها، بينما هي فضمته ومسحت فوق خصلاته وقد مدت كفيها تمسح فوق قلبه بقولها:
_حضن ماما مفتوح ليك في أي وقت بس أنتَ شاور.
خمدت نيرانه في مكانه الصحيح، وارتاح قلبه من عبءٍ كان يجثم فوق صدره، فقط صوتها في أذنه وعناقها له وضمتها القوية له كل ذلك كان بمثابة السلاح لكي يقوَ على مُجابهة الذكريات المريرة مع إمرأةً انجبته ثم أولته ظهرها وتركته باكيًا لتأتي أخرى غيرها تحفظه في كنفها.
__________________________________
<“تراهُ ساهٍ في أرضٍ مُغايرة لكل ما يتوقعه”>
تلك الطُرقات الغير متوقعة نسير فيها كما الساهِ لا نعلم ماذا نفعل بها، أرضٌ تحمل كل ما يُغاير واقعنا وفكرنا ونحن نسير على غِرار سير الآخرين، نسير جراء كلماتٍ منطوقة مننا في الطُرق الأكثر متاعب لنا، ورغم ذلك نسير خلف طاقة الفضول الذي يدفعنا فقط لاكتشاف الطريق وما به.
عاد لبيت عمه بتخبطٍ وهو لا يعلم ماذا يفعل وماذا يخبره بعد أن ورط نفسه بتلك الطريقة في خُطبةٍ لم يكن على استعدادٍ لعواقبها وعواقب ما تفوه به، لا يتوقع حتى رد فعل عـمه إن بالرفض أو القبول أو اللامبالاةِ، كل شيءٍ حوله يضعه في حلقاتٍ دائرية مُفرغة لا توجد نهاية لها، وهو يشعر بالتيه فقط..
اتخذ قراره وولج المكتب لعمه فوجد “إيـهاب” يجلس برفقته فتنهد بقوةٍ وكأنه بذلك يحاول أن يُنظم أنفاسه الثائرة بعدما رحب عمه به وبتواجده معهما، وقبل أن يتحدث ولجت “سمارة” لهم وهي تقول بصوتٍ هاديءٍ:
_يلا يا حج العشا جِهز خلاص، و”إسماعيل” و”تَـيام” برة قاعدين مستنيينكم علشان تاكلوا معاهم، يلا يا “مُـنذر”.
كاد أن يعترض لكن عمه منعه وتحرك أمامه يسبقه للخارج فزفر هو حانقًا على نفسه قبل الآخرين، وقد أرتصوا حول الطاولةِ وجلس هو في مواجهة كلًا من”تَـيام” و “إسماعيل” ليلحظ انبساط ملامحهما، تُرى أي شيءٍ أوصلهما لما هم عليه حتى أن الضحكة باتت تعرف الطريق لهم من بعد الحزن؟ هل يعقل أن رفيق الحياة لكل منهما هو السبب في ذلك؟.
تحدث عمه يوجه كلماته للآخرين بمزاحٍ:
_فاكرني مش عارف اللي فيها، لما كل واحد فيكم خلص كلام مع اللي تخصه جيتوا علشان ناكل، عمومًا أنا فاهم بس بمزاجي بعدي وخلاص، اللي مربي طير أدرىٰ بعشه فين.
ضحك الاثنان له ونظرا لبعضهما، فبالفعل هما ظلا يتحدثان بالهاتف كلًا منهما مع زوجته وقد أندمجا سويًا في تلك المكالمة وهو في الداخل يعلم عنهما كل شيءٍ، لذا ضحكا بإحراجٍ منه وقد حرك هو رأسه نحو “إيـهاب” الجالس بجوار زوجته وهتف يمازحه:
_أنتَ بقى بتقول وش لوش علطول وهما كلمتين وبس.
كعادة “إيـهاب” لم يُبدي أي رد فعلٍ على عكس زوجته التي قالت بسخريةٍ تهكمية وهي ترمقه بسخطٍ:
_ياريت والله يا حج حتى فيه كلمتين وبس، قصدك حرفين وبس ولو سمتعهم يبقى بيرفض حاجة وهي كلمة لأ وبس.
رفع حاجبيه حينما وجد السخرية تتبعه وضحكات البقية وقد التفت لها فوجدها تبتسم باستفزازٍ له فمال على أذنها يهتف بهمسٍ أقرب للحُنق مما تفعل تلك المُشاكسة:
_والله؟ خلاص نقضيها كلام وفُكك من الأفعال ووريني مين هيعزمك تاني ولا يفضل يحضن فيكِ طول الليل ويطبطب ويهادي، تصدقي إني “دهـب” فعلًا معرفتش تربي؟.
لوحت له برأسها بغير اكتراثٍ وقد انتبه “نَـعيم” لابن أخيه الصامت كعادته فسأله بحنوٍ واهتمامٍ بلغا أثرهما عليه:
_مالك يا “مُـنذر”؟ أنتَ سرحان ليه كدا؟.
كانوا البقية بدأوا في تناول الطعام وشرع في ذلك “نَـعيم” أيضًا فقرر هو أن يباشره في الحديث سريعًا بقوله مُندفعًا:
_أنا عاوزك تيجي معايا علشان نخطب دكتورة “فُـلة” أخت دكتور “جـواد” أنا يعتبر اتقدمت ليها النهاردة وهما مستنيين مكالمة منك، أنا آسف بجد لو بورطك في حاجة بس والله الظروف كلها كانت ضدي ومش بايدي، ودا كان أنسب حل حفاظًا على الكل.
رمى حديثه بغير هدىٰ أو تعقل وإنما كان الحديث سريعًا خلف بعضه مُباشرةً مما جعل الأعين تتبع موضع جلوسه وبالأخص “إيـهاب” الذي كانت نظراته ثاقبة وهو يراقب ملامح الآخر، بينما “سمارة” فتحدثت بتلقائيةٍ تهنئه بقولها:
_والله؟ ألف مبروك يا أخويا ربنا يسعدك ويتمم بخير، طب دا أنا قولت للحج نشوفلك واحدة كدا بنت حلال تتجوزها وأهو تاخد بحسك وونسك، بس عليك نور إنك خدت الخطوة.
طالعها بتيهٍ وأراد أن يخبرها أن الأمر أكثر تعقيدًا من تلك البساطة التي تتحدث بها بينما عمه قطع سيل أفكاره حينما قال برزانةٍ وهدوءٍ وفرحةٍ به:
_مفيش توريط ولا أي حاجة، أنتَ هنا ابني ومسئول مني زيك زيهم كلهم وأكيد طبعًا فرحتك تهمني ومسئولية عليا، علشان كدا مش عاوزك تحس إنك تقيل عليا كدا، ولو على مصاريف الجواز كلها عليا أنا، ولو على شقتك فهي موجودة فوق شقة “إسماعيل” تتوضب وتجهز وتقعد فيها وتبقى في بيتك معزز مكرم هنا، تفتكر أنا ممكن أرفض فرحتك؟.
حرك رأسه نفيًا بالسلب له فأشار له عمه أن يقترب منه، حينها ترك مقعده وذهب إليه فضمه “نَـعيم” له وعانقه بحنوٍ يحتويه ثم ربت على ظهره وقال بحكمة أبٍ:
_ألف مبروك وربنا يتمم فرحتك بخير، روح يلا كمل أكلك علشان تديني الرقم وأكلم “جـواد” ومتقلقش أنا عارفه أصلًا من زمان وعارف إنه راجل محترم، وأكـيد أخته محترمة زيه، ونعم النسب يا “مُـنذر”.
أومأ له بقلة حيلة وجلس من جديد في موضعه بعدما ابتعد عن عناق عمه وقد قرر أن يتحدث معه في الأمر وألا يٕخفي عليه شيئًا، قرر أن يخبره عن الوضع الذي دفعه لذلك وهو أنه يخشى عليها وعلى صورتها من الجميع، هناك ثقة طفقت تعلن عن نفسها في قلبه بسبب عمه، لذا قرر أن يُصارحه لكي يكون على نورٍ في طريقٍ مُظلمٍ
بعد مرور بعض الوقت ولج مع عمه للمكتب وجلس برفقته وبدأ يخبره بكل شيءٍ عن خطبته والظروف المؤدية لذلك، فتنهد” نَـعيم” وراقب ملامحه وسأله بقوةٍ لأول مرة يعهدها منه “مُـنذر” فكانت على عكس لينه الدائم:
_هو سؤال بس وتصارحني بيه، أنتَ فيه حاجة ناحيتها منك؟ أو فيه حاجة بينك وبينها يعني من الأول وعلشان كدا أضطريت إنك تقول كدا وتحسن الموقف قدام الكل؟.
لا يعلم إن كانت صيغة السؤال تحمل شكًا به أم أن عمه فقط يستفسر منه؟ شرد لوهلةٍ لكنه اندفع سريعًا يُبرئها من قبل تبرأة نفسه:
_لأ طبعًا، هي أنضف من كدا بكتير، ولو فيه حاجة بيني وبينها يبقى في إطار الزمالة مش أكتر من كدا، أنا لما قولت كدا كان رد فعل على فعل عمها وهو بيغلط فيها، جايز مساعدتي ليها غلط أو ضد مباديء عامة بس محدش فينا تجاوز أي حدود.
وقف عمه أمامه ومسح خصلاته كأنه طفلٌ في العاشرة من عمره ثم قال بنبرةٍ هادئة ينصحه من خلالها:
_فكرة إنك تكلم واحدة غريبة عنك ويحصل بينكم ملامسات وخروج ودخول وقعاد دي غلط، أنتَ بتقول متخطتش أي حدود وأكيد هي كمان، بس ربنا حاطط حدود مينفعش نتخطاها ونعديها عادي كأن حاجة محصلتش، حتى لو هي بقت خطيبتك برضه غلط إنك تتخطى حدودك معاها، طول ماهي مش مراتك مينفعش تعمل أي حاجة تخلى المسافات بينكم تتشال، وأنا مش هقبل إنك تغلط غلطات زي دي، فاهم؟.
رغم حزم كلماته إلا أن نبرته كانت أكثر لينًا بحيث يستطع الآخر فهمها وتقبلها دون أن يشعر أنه يؤمر فقط، لذا أومأ له موافقًا كأنه طالبٌ يستمع لتعليمات عمه، وقبل أن ينسحب من أمامه أوقفه عمه بما جمده مكانه ويَبس عضلاته:
_أنتَ عاوز الخطوبة دي علشان حل الموقف بس ولا؟.
ترك سؤاله مفتوحًا حتى يستعبه الآخر وقد التفت له “مُـنذر” وأخبره بصدقٍ واحتياجٍ لها نطقته عيناه:
_أنا محتاج ليها أكتر من أي سبب تاني.
جملته كانت كافية لكي تخبر عمه بكل شيءٍ، وقد فُتِح الباب عليهما وركضت منه “چـودي” بلهفةٍ وهي تُهلل بكلمة “جـدو” وقد انفرجت أسارير “مُـنذر” فور رؤيته لها وتلقفها بين ذراعيه بقوةٍ كأنه يحتاج لها، أما هي فضحكت ثم مازحته بقولها:
_شوفت متأخرتش كتير إزاي وجيت أشوفك؟.
ابتسم لها ومسح على ظهرها وخصلاتها الذهبية، وقد ولج لهم “سـراج” الذي رحب به كلاهما فقال هو مُفسرًا سبب مجيئه:
_أنا جيت علشان كنت بخلص ورق مهم لـ “عـزيز” ولازم أمضيه وهي صممت تيجي تسلم عليكم وتشوف صحابها كلهم، وبالأخص “مُـنذر” فقولت أجيبها معايا تشوفكم.
_أحسن حاجة عملتها والله.
تلك الجملة تفوه بها “مُـنذر” ردًا على كلمات “سـراج” قبل أن يستأذنهما ويخرج بها ويجلس معها لبعض الوقت لكي يُجدد طاقته ويُعيد شغفه للحياة، وهي بدورها تشاركه كل شيءٍ في يومها وتسرد عليه كل التفاصيل.
أما “سـراج” فكعادته فرحته لم تكتمل بسبب العمل وظروفه التي طرأت عليه مما عرضه للكثير من المسائلات القانونية وغيرها من الشئون الإدارية والمالية ولجان المُصنفات وهو يدور بين كل مكانٍ والآخر شاعرًا أن كل الطُرقات تُغلق عليه لكي يسلك طريقًا واحدًا لا غيره، جلس مع “نَـعيم” يخبره بما يحدث له والآخر يستمع له ويحتويه ويرشده ويعاونه.
__________________________________
<“منذ البداية كانت البداية خاطئة، لكني أكملت”>
في بعض الأوقات نُجازف ونختار أكثر المسارات خطورةً ونخوضها غير عابئين بما يخبئه هذا المسار، وعند النهاية نحن فقط من نكون ملومين من الجميع، لذا قبل أي شيءٍ تذكر أنك المُلام أولًا وأخيرًا…
عارض نفسه وأتىٰ إلى هنا لكي يهرب من سطوتها عليه، صورتها لم تُبرح خياله، وكلماتها لم تنفك عن عقله، وأسره فيها لم يجد من يُحرر منه، وفي نهاية الأمر هي مجرد فتاةٍ محتشمة لن تقبل بشخصٍ مثله، كلما تذكر تلك النقطة وأدرك الفوارق بينهما أراد أن يصرخ عاليًا لكي يخرج جزءًا من نيرانه المُضرمة بداخله، والآن هو يقف في مكانٍ ما خاص بالسهرا الليلية على شاطيء البحر في مدينة
“العين السخنة” وسط رفقائه القُدامى و “إيمي” تقف مع لا تتركه بمفرده، وكلما أنصرف عقله عنه وفكر في “جـنة” يجد هذه تقف أمامه وتحدثه..
بدأت الموسيقى تزداد صخبًا وبدأوا الشباب يرقصون مع بعضهم وحينها سحبته “إيمي” من ذراعه ودخلت وسط البقية وهي تمسك يده وكأنها تجبره أن ينخرط معهم، حتى بدأ يفعل ذلك تدريجيًا، وقبل أن يطير عقله منه لمحها ترمقه بسخطٍ كأنها تخبره أن من هم مثله لا فائدةَ منهم، بل سيظل كما هو، توسعت عيناه أكثر فلم يجدها أمامه وإنما عقله هو من رسم تلك الخيالات له..
ابتعد عن الزحام واقترب من سيارته يلهث بعنفٍ وهو يشعر بثقل الأجواء على روحه، لم يعجبه أي شيءٍ هنا كما كان يفعل في السابق، حتى هؤلاء الفتيات لم يعد يشتهي القرب منهن كما كان يفعل في السابق، بل وجد نفسه ينفر بعيدًا عنهن وكأنه لم يعد يرى غيرها هي وسط الجميع حتى لو لم تكن هنا، استند بكلا كفيه فوق مقدمة سيارته وقد أخفض رأسه للأسفل لكي يُخرج صورته من عقله، لكن كف “إيمي” وضع على مرفقه فابتعد سريعًا عنها ظنًا منه أن “جـنة” هي التي أتت لأجله، وما إن لمح هذه زفر بقوةٍ فوجدها تسأله باهتمامٍ:
_سيبت المكان ليه؟ فيه حاجة مضايقاك؟.
ثبت عينيه عليها ولم يعلم بما يجاوبها، بينما هي فقررت أن تصارحه للمرةِ التي تفشل في حصرها حينما قررت أن تخبره:
_أنا قررت أخلي الحفلة دي مميزة وأقولك إنك كل يوم أهميتك بتزيد عندي يا “مُـحي” ومش بتقل مهما حصل، أنا كل يوم بحبك أكتر من اللي قبله وبتأكد إنك أهم حد في حياتي كلها، نفسي نحقق كل أحلامنا مع بعض أنا وأنتَ.
كفىٰ، حتى تلك النقطة وكفىٰ كل شيءٍ على طاقته، فقلبه تسكنه أخرى وعقله لم يعد يلمح غيرها من وسط الجميع وكأنهما أعلنا الحصار عليه، فنطق هو بنبرةٍ عالية يخبرها بكل صراحةٍ:
_وأنا قولتلك إني بحبك بس والله زي أختي مش هينفع حاجة تانية يا “إيـمي” مش هقدر أديكِ حاجة مش بتاعتي أصلًا، من صغرنا مع بعض وعمري ما وعدتك بحاجة علشان بشوفك أختي دايمًا وصاحبتي ومقضي طفولتي كلها معاكِ أنتِ، بس مش هقدر والله أحبك الحب اللي أنتِ عاوزاه دا، مش بايدي.
أيضًا لنفس المرة تفشل في حصر خيبة الأمل منه، لقد عانت بسبب حُبٍ من طرفٍ واحدٍ والطرف الآخر لما يُبادلها هذه المشاعر، حبٌ كما النيران تحرقها هي وحدها وكأنها تسير في الجحيم وحدها، بكت أمامه وهي تقول بنبرةٍ باكية:
_حتى لو حبيت غيري مفيش واحدة هتحبك قدي، علشان أنا عارفة كل حاجة عنك كويس وراضية بيك، بس أي واحدة غيري هتحبها هترفضك ومش هتقبل بيك، زي ما أنتَ بترفضني دلوقتي، حاولت معاك كتير وأنتَ مش عاوز، اللي زيك مبيعرفش يحب أصلًا، أنتَ أناني وعمرك ما هتحب حد.
تعمدت أن تتسبب في جرحه ويبدو أنها أجادت ما تفعله حيث رفع صوته يهدر في وجهها بصراخٍ حاد:
_لأ بــحب، بحب واحدة أنضف من إن هي حتى تبصلي ومش هقبل غير إنها تكون ليا وبس، واحدة علشان أوصلها لازم أموت “مُـحي” القديم وأخفيه من حياتي كلها، يمكن مش هتفهمي كلامي بس أنا مش قادر أشوف غيرها هي، صورتها وصوتها مش بيسيبوا عقلي ولا قادر حتى أتعامل مع حد غيرها، أنا حبيتها من غير ما أحس أنا بعمل إيه، حتى ماخدتش بالي إني شخص كله سواد داخل حياة واحدة كلها نور وبس، وعلشان أوصلها هعمل أي حاجة، حتى لو هحارب نفسي قبل الدنيا علشانها، عرفتي إني مش أناني!!.
كان يتحدث بألمٍ لكون طريقه صعبًا للغاية حتى يصل لها، يشعر أن العوائق بينهما لن تُزال إلا بإزالته لشخصه وماهو عليه، وقد ابتسمت هي له بسخريةٍ ثم قالت بتهكمٍ مرير:
_أبقى قابلني لو حتى بصتلك.
ألقت جملتها ثم أولته ظهرها وهي تبكي بسببه بينما هو فقدر مشاعرها المجروحة بسببه وقرر أن يترك لها مساحتها الخاصة وجلس فوق مقدمة سيارته يلتقط أنفاسه وهو يفكر في تلك التي جعلته يعترف للآخرين قبل نفسه أنه أحبها، لقد أتت حياته تحتله وهو يُرحب بذاك الاحتلال كأول جنةٍ تستوطن جحيم حياته، جلس وهام في السماء وصورتها أمامه، ابتسامتها الرقيقة تداعب أوتار فؤاده فيدوي بصخبٍ أجمل الألحان، صوتها يتوغل في قلبه، حنقها منه حينما يستفزها، بكاؤها يوم أن تعرضت للسرقة، كل شيءٍ يخصها هي بات محفورًا في قلبه.
فجأة وجد نفسه يُجر من فوق سيارته وهناك مجموعة من الشباب وصل عددهم إلى عشرةٍ بالتقريب أو ربما أزيد وبدأوا في ضربه وتلقينه درسًا قاسيًا، أبرحوه ضربًا بغلٍ وغضبٍ وهو حتى يعجز عن معاونة نفسه، هو ليس بضعيفٍ وإنما الكثرة تتغلب على الشجاعة، وهم تغلبوا عليه حتى نزفت الدماء من وجهه وأنفه وما إن سقط أرضًا أتى أحدهم وقام بضربه بقدمه في بطنه حتى ازداد نزيف دمائه وما إن تأكدوا من قطع أنفاسه تركوه أرضًا كما العصفور الذي حلق في الأفق عاليًا ثم أصابته رصاصة في قلبه وقتلته حتى سقط على رقبته وتهشمت كما تهشم القلب.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى