رواية غوثهم الفصل المائة والخامس والأربعون 145 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة والخامس والأربعون
رواية غوثهم البارت المائة والخامس والأربعون
رواية غوثهم الحلقة المائة والخامسة والأربعون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الستون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
“هل مِنْ سائل؟”
وكيف كفَّت الأكُفُّ عنكَ وسيلُ الجُودِ سَائِل؟
وكيف سَها عن خطابِكَ مَنْ لم تقطعْهُ الرسائِل؟
وكيف بِيعَ ما يَبقى بما يَفنى وإنما هي أيامٌ قلائل؟
يا رُوحَ القلوبِ: أين طُلَّابُكَ؟ يا نورَ السماواتِ والأرضِ
أين أحبَابُكَ؟ يا رَبَّ الأربابِ أين عُبَّادُكَ؟
يا مُسبِّبَ الأسبابِ أين قُصَّادُك؟
_”ابن الجوزي”
__________________________________
بالأمس كنا غريبين، واليوم أكثر من مُقربين..
نبدو وكأن القلوب آلفت بعضها وكأن الروح أُضيئت بقربها..
سكنت الأُلفة قلوبنا، ووجدنا الطريق من بعد تيهنا، ورأينا العالم ببصرٍ كنا فقدناه والآن قد عاد؛ رُبما تُغربنا الطُرقات، ورُبما تزداد بيننا المسافات لكن القلوب وما بها كما هي لن يؤثر بها بعدٌ ولاتنس وعد الكلمات، فإني أراكِ بعين قلبي نورًا، وأعلم أن كل الحُب بغير حُبك لم يكن لي مكتوبًا، فما الحُب إلا أنتِ وفقط وما غير ذلك لم يكن مرغوبًا، اليوم دعيني أعتذرُ منكِ لكوني أتيت متأخرًا لكِ حتى جمعتني الطُرقات بكِ.. لكني عل كلٍ أتيت ونحو سُبلكِ استهديت، أتيت لكي أمسح عن عينيكِ دمعها، وأكون جيشًا لكِ وسط المدينةِ الظالم أهلها، دعيني أكون سببًا لضوء قلبكِ، وأكون هُدى للسير في دربكِ، لا تنظري لي بعينك، بل أتركِ هذا الفعل لقلبك، فكما قال “عمر بن الخطاب” رضي الله عنه وأرضاه
“أنها القلوب يا علي إذا صفت رأت” فدعي قلبكِ يصفو ويراني، وستعلمين أن البصيرة ترى وإن كانت العين لا تلمح..
<“وأين المفر من ذكرىٰ سكنت عقلًا ضعيفًا”>
ما بين الذكرى والذكرى الإنسان لم يجد مفرًا منهما، فهذه ذكرى تميد بالقلب، وتلك ذكرى تُدمر العقل؛ والمرء بينهما كمن وضع بين المطرقةٍ والسندان، فكل الذين تركوا لنا الذكريات رحلوا وبقيت أثارهم عالقةً فينا حتى يصعب علينا المفر منَّا، فأين المفر مني والذكرى بداخلي تؤرقني؟.
في لمح البصر وبأقل من طرفة عينٍ حد التقدير حدث كل شيءٍ، علا صوت صرخاتها إثر كابوسها المروع، تكالبت عليها وحوش الماضي في هيئة ذكرىٰ لم تنسَ، عقلها الواعي تراجع عن العمل وتقهقر أمام سلطة العقل الباطن؛ فأذعن له وسمح بتوليه الدور الأعظم في قيادتها وبرمجة فعلها ومن قبله رد فعلها، كل شيءٍ صار بغير وعيٍ، والكارثة الكُبرى في الوعي ذاته..
نزفت الدماء من ذراع “يـوسف” بعدما قامت هي بشق جلده بجرحٍ غائرٍ أتى بُغتةً حينما حاول أن يقترب منها وقد وقف مشدوهًا في كابوسٍ رأه مُضاهيًا لكابوسها المروع، الفارق بينهما أنه يعي لما حوله بينما هي أسفل قدمه تتوسله أن يفك عنها حصارها من الذكرىٰ قبل الحاضر، كلاهما يتألم وكلاهما يتوجع لكن القلوب تنادي لأهلها وعند النطق تتلعثم، نزل بجسده يجلس على ركبتيه أمامها ثم ضم وجهها بكلا كفيه ونطق بصوتٍ أقل ما يتم الوصف به أن المتحدث كان مكسورًا في روحه ومتصدعًا في قلبه:
_أنا “يـوسف”.. والله العظيم أنا “يـوسف”.
كان يستجديها وصوته كان فيصلًا بين الوعي واللاوعي، انتشلها من غياهب الذكرى المريرة ليعود العقل لعمله، فتمركزت بعينيها في عينيه والعَبرات تنزف كما ذراعه وكأن الألم بينهما كان مشطورًا، انتحبت باكيةً بعد ادراكها لما فعلت به حينما التقطت بعينيها الدماء فوق ذراعه وترجمت سريعًا ما قامت به وظلت تُردد بقهرٍ وندمٍ:
_أنا آسفة، آسفة والله، أنا آسفـ…
لم تملك إرادة التكملة بل توقفت باكيةً بصوتٍ متقطع فقد الأحرف بل وأبجديات الكلمات بأكملها، بينما هو فكان رده فقط بضمة حانية بين الذراعين؛ وسرعان ما كانت تلك الضمة تُحاصرها ليفرض أمانه عليها، تركها تبكي وتنوح وتنتحب وتُبلل ثيابه بدموعها، تركها تفعل كل شيءٍ معه، رأى نفسه فيها، ولمح حاجته لها في عينيها هي، وكأنها الصورة الأخرىٰ من روحه، تنهد بارتجافٍ ثم استند على ظهر الفراش فوق الأرض الرُخامية وهي قابعة بين الذراعين باكية العينين..
رُبما تمر ذكريات تسكن فينا، لكن من المؤكد أن ليلتها لا تُنسىٰ ولو مر الزمان عرضًا وطولًا، تلك الليلة ستظل محفورة في عقلها وسيكون أثرها أكبر من حدوثها بمرورها، ليلة أقام فيها الماضي حربًا بينه وبين الحاضر وكانت هي ساحة القتال بذاتها، الأرض الخضراء احترق زرعها وتجرف سطحها كأنها لم تعد صالحة للزّراعة من جديد، ساد الصمت بينهما إلا من شهقاتها المُتقطعة بين الحين والآخر فوق صدره، فتجده يمسح فوق رأسها بحنوٍ بالغٍ وقد قطع هو ذلك بسؤاله الخافت:
_أحسن دلوقتي؟.
شعر بها توميء برأسها على صدره فحاوط عضدها ثم مال بفمه يُلثم جبينها بصمتٍ، بينما هي فتعجبت كيف تأمن لهذا الحد بقربه؟ كيف سلحها بالأمان وهي التي منذ قليل كادت أن تُزهق روحه !! توسعت عيناها وابتعدت عنه تتفحص ذراعه وحينها شهقت بفزعٍ وهي ترى الجرح الذي ظهر غائرًا فبكت أمامه من جديد وتلك المرة آسفةً لما فعلت به، رآها باكيةً وقد صدق قول “العباس بن الأحنف” عن البكاء بقوله:
“نزف البكاء دموع عَينك..
فاستعر عينًا لغيرك دمعها مدرارًا
من ذا يعيرك عينه تبكِ بها
أرأيت عينًا للبكاءِ تعارَ؟”
أراد أن يبكِ هو بدلًا عن عينيها السوداوتين بحزنٍ تفاقم وسكن بين الأهداب، أراد أن يمسح على قلبها كما لم يجد في صباه من يفعل ذلك، أراد أن يقف كما الجيش على أعتاب مدينته لكي يُحصنها، واصل عينيه بعينيها ثم أمسك كفها بين راحتيه وقال بصوتٍ دافيءٍ:
_ملهاش لازمة الدموع دلوقتي، عينيكِ تعبوا من البُكا.
ازداد الدمع تدفقًا وهتفت بصوتٍ بالكاد التقطه من بين شفتيها وكأنها تُنبس بخوفٍ عما يجول بِخُلدها:
_بعيط علشان قُربي بيأذيك يا “يـوسف” خليك بعيد أحسن.
هو توقع هذا الشيء منها، العام الذي قضاه بصحبتها جعله على درايةٍ كافية بكل ردود الأفعال التي قد تصدر عنها، لذا مسح عينيها ببنان أنامله ثم قال بصوتٍ هاديءٍ عجَّ بالصدق:
_لو قُربك بيأذيني؛ بُعدك هيأذيني أكتر يا “عـهد”.
لحظتهما تلك تنافت مع كل شيءٍ سبق عليهما، لأول مرةٍ يتحكم في نفسه ويسيطر على ضجيجه حتى تكون النهاية هكذا، اعتاد أن يكون هو فارس المعركة فوق حصانه، بينما هي بحثت بعينيها في عينيه عن اللوم، العتاب، عن الكره، رُبما النفور، رُبما تلمح كبرياء رجولته يُطيح بها وبآمالها، لكن كل ما وجدته كانت القوة والصدق وفقط، تعلم هي أنه يتحمل أكثر من قدرته لذا تلك المرة احتضنته هي ودست نفسها بين ذراعيه بصمتٍ وقد احتواها واحتوى الموقف ثم أغمض عينيه لثوانٍ بقربها…
مرت دقائق أخرى على نفس وضعهما وقد شعر بانتظام أنفاسها وقد ارتخت قبتضها فوق سترته وكأن النوم أخيرًا قرر أن يسلك دربه نحوها؛ حتى ثقل جسدها عليه فقرر أن يسلك درب الصبر لدقائق أخرىٰ ثم ما إن مرت حملها فوق ذراعيه ثم وضعها فوق الفراش ودثرها جيدًا يُدفيء جسدها من الصقيع الذي ملأ الأجواء وقبل أن يبتعد مال عليها يُلثم جبينها بعمقٍ، كأنه يُشفق على حالها الذي فتت قلبه ألمًا وحزنًا عليها..
تركها وولج المرحاض بتيهٍ وشتاتٍ بدأ كلاهما في مساورته، وقع في تُخمةٍ من التفكير حتى تصدع رأسه من كثرة التفكير، وما بين تفكيره فيها سابقًا ورؤيته لها حاليًا هناك نذرٌ لم يكن بخيرٍ أبدًا، بل كان رُعبًا له حينما صدح صوتٌ بداخله يخبره بكل قسوةٍ دون مراعاةٍ لما يُعانيه:
_عجبك كدا صح؟ فضلت تتنيل على عينك وتصمم على الجواز وفاكر إنك جامد وتقدر تحل كل حاجة، بس المرة دي اتغابيت وهي كانت هتروح منك في شربة مياه، تصدق أنا بقيت بكره غبائك؟.
أغمض عينيه هربًا من قسوة الصوت عليه وكأنه يُضرب بجلداتٍ حادة فوق جسده، كما أتى صوتٌ يُنصفه بداخله وينازع الآخر في فكرهِ بقوله الحاد:
_وهو كان يعرف منين إن الحالة صعبة كدا، ولا هو أنتَ ما بتصدق تخليه زبالة وأناني وخلاص؟ فيها إيه لما يفكر إنه يستقر في بيت مع مراته بدل شغل التنطيط دا؟ هو كان قَـد وعده ومقربش والتزم بكلمته، يبقى بتلومه ليه بقى؟.
تدخل في تلك اللحظة أكثر الأصوات بُغضًا وأكثرهم عنفًا يقترح بقوله الخبيث لكي يدفعه نحو الشر دفعًا:
_لو منك أثبتلها إني غير أي حد، أخليها تصدق أنا مين وغيري مين، مش يمكن هي أصلًا بتخاف منك أنتَ ومش حباك ولا عاوزاك؟ يمكن تكون عاوزاك صاحب وخلاص.
_متسمعش كلامه دا متخلف وهيضيعك، دا عامل زي الشيطان يخليك تعمل الحاجة بعدها يخليك تحاسب لوحدك، “يـوسف” أنتَ راجل عاقل، ومتأكد إنها بتحبك ومأمنتش لحد غيرك في الدنيا دي، صح.
كان يتوسل نفسه أن تكف وتهدأ من كل هذا ثم عنف الأصوات بسبابٍ لاذعٍ مُنهيًا الحوار بينهم بدفعة مياه ألقاها نحو وجهه وهو يلعن نفسه وحظه العسر واضطرابه الغبي الذي لن يتوقف عن أكل رأسه، بدأت الأصوات تعلو رأسه بالإيلام مرةً وبالإنصاف مرة أخرى وهو بين هذا وذاك يُعايش الجحيم ويحفظه بداخله، ثواني فقط مرت عليه حد بدأت الأصوات تتلاحم في معركةٍ دامية بداخل رأسه وهو يقف أمام المرآة في المرحاض ولم يُغثه إلا صوت هاتفه في جيبه فأخرجه بلهفةٍ ليجده رقم “أيـوب”.
عقد حاجبيه بعجبٍ للأمر كونه يرى رقمه في تلك اللحظة وسرعان ما ساوره القلق بشأن الشقيقة ففتح المكالمة بأنفاسٍ مُضطربة خوفًا من الحديث القادم ليأتيه الرد من الآخر بهدوءٍ ورصانةٍ:
_أنا نازل المسجد علشان الفجر قرب، تعالى.
في بعض الأحيان الحل الأمثل أن يهرب المرء من نفسه للملجأ الصحيح، وهذا لن يجد ملجئًا غير بيت الرحمن لكي يهرب من ضجيج نفسه بصحبةٍ صالحة وبيئةٍ إسلامية هادئة، وجد أن هذا هو الحل الأمثل في لحظته تلك، عليه أن يرتكن على حائطٍ آمنٍ دون أن يميل به ويُسقطه أرضًا..
__________________________________
<“لولا الصبر على المَصاب لكان العقل بالجنون يُصاب”>
جُرعة من الصبر هي الدواء لنفسٍ عاطبة، وجُرعة من التهذيب هي العلاج لنفسٍ عاصية، فما بين العصيان وما بين الطاعة تتأرجح النفس بحاجةٍ إلى التعقل والهدوء لكي تعود لمكن هدوئها، فلا تجزع من نفسك قبل أن تسلك معها المسلك الأخير في التهذيب..
_الليل أقبل والوجود سكونُ
وفي الليل راحت تستريح جفونُ..
كانت تلك هي كلمات الابتهال الصادح من إذاعة القرآن الكريم بالمسجد لتضاف هالة روحانية في الأجواء، حيث ليلةٍ شتوية صقيعة، وبرودة غلفت الأجواء حولهم، نسائم هواء لطيفة تُداعب الأوجه، صمتٌ وسكونٌ أحاطا بالمكانِ حولهم، كل شيءٍ ساكنًا إلا النفوس المتألمة.
وقف “يـوسف” على أعتاب المسجد قبل أن يدخله، وقد لمح “أيـوب” يجلس بهدوءٍ مستندًا على العامود الرُخامي وهو يتنفس بهدوءٍ، اقترب منه “يـوسف” وجلس أمامه بصمتٍ تام وتواصلت حينها الأعين بحديثٍ لم تجرأ الكلمات على صياغته، وحينها تأكد “أيـوب” أن رفيقه لم يخذله ولم يفعل أي شيءٍ يُجرده من مروءته معها، لكنه لمح الشتات والتيه بنظراته فقام بفرد ساقيه وأشار للآخر الذي أرتمى عليه بصمتٍ ثم أغمض جفونه باستسلامٍ تام، بينما “أيـوب” فتولى دور الأب معه حيث مسح فوق رأسه وقال بنبرةٍ هادئة:
_الصبر دوا النفس، بتصبر وتنول وتاخد أجر الصبر، يمكن مُرادك لسه مجاش آوانه بس أكيد ربنا سبحانه وتعالى حكمته في تصريف الأمور أقوى مننا كبشر إننا نفهم اللي بيحصل لينا، توكل على ربك ومتنساش إنك مأجور على كل شيء، احمد ربنا وأطلب منه القوة إنك تقدر تصبر، جايز أنا مش حاسس بيك كفاية، بس متأكد إنك متضايق أو يمكن تايه، وطالما تايه تعالى هنا، أي حد بيتوه ييجي بيت ربنا، هيلاقي دواه هنا.
تنهد “يـوسف” مُعبرًا عن ثُقل روحه ونطق بصوتٍ مكتومٍ:
_اقرألي قُرآن يا “أيـوب”.
طلبه كان خير دليلٍ على تيه روحه وكأنما أراد أن يسترشد بأحدهم ويتعلق بطوق النجاة الذي ينتشله من الغرق في طوفانٍ لم يجد منه مهربًا إلا نفسه، وتلك النفس بالتحديد لم يجد منها مفرًا وكأن تلك النفس هي الأكثر قتلًا له من الغُرباء ومن كل شيءٍ حوله..
بعد مرور خمسٍ وأربعين دقيقة..
أنتهى فرض الفجر وبدأ المسجد يفرغ من المُصليين تلاوًا خلف بعضهم وقد ابتسم لهما “عبدالقادر” كونهما حضرا إلى المسجد وبالأخص “يـوسف” الذي حضر حتى قبل الآخرين، أمام المسجد أمسك الجد كف حفيده ثم سبق البقية فيما وقف “أيـهم” أمامهما يسألهما بشقاوةٍ:
_صباح العسل، بارك الله فيكم يا حبايبي، دا منظر ناس فرحهم كان امبارح؟ طب الناس تقول إيه طيب؟ بنضحك عليهم يعني؟.
ابتسم الاثنان له وقد نطق “أيـوب” بثباتٍ:
_يعني علشان فرحي كان امبارح مصليش فرض ربنا عليا؟ بعدين أنتَ عاوز إيه ما الفرح خلصان الساعة ١١ بليل وإحنا داخلين على ستة الصبح.
ضحك لهما “أيـهم” ثم تصنع صفع شقيقه الذي عاد للخلف ضاحكًا بينما سبقهما “أيـهم” وتركهما معًا وحينها أوصاه “أيـوب” وظل يُكرر عليه أن يلتزم بالهدوء والصبر ثم تركه وغادر نحو بيته، ولج البيت ووجد والده يترأس الطاولة وصوت القرآن يصدح بصوت “المنشاوي” ليضيف رونقًا للصباحِ شافيًا للنفوس المُتعبة، وقد أتت “نِـهال” تحمل أقداح الشاي الدافئة مع الفطائر التي تُعدها بنفسها لهم وتملأ رائحتها البيت فتعيده إلى ذكرياتٍ دافئة..
ألقى عليهم التحية كاملةً واقترب يُلثم جبين والده قبل أن يتحرك نحو الأعلى حيث سكنه ومسكنه لكن صوت شقيقه حال دون ذلك حيث أوقفه بقوله الذي لم يكن بريئًا:
_أنتَ رايح فين ما تقعد معانا وأفطر ولا مش ماليين عينك؟.
تلون وجه “أيـوب” من حديث شقيقه لكنه التفت يواجهه ببسمةٍ رصينة وهادئة أتت بالقول الهاديء معها:
_لأ ماليين عيني وفوق راسي طبعًا، بس أنا الحمدلله شبعان ومحتاج أطلع أرتاح شوية قبل صلاة الضهر، عن إذنكم.
قبل أن يفر من أمامهم، أوقفه شقيقه من جديد بنفس الأسلوب:
_طب ما تريح هنا، ما طول عمرنا بنريح هنا.
تلك المرة كاد أن يفقد صبره لكنه انتهج الصبر سبيلًا وقال من بين تلاحم أسنانه غيظًا:
_يا صبر “أيـوب” !! هطلع أرتاح فوق علشان بنت الناس اللي أنا سايبها لوحدها دي مينفعش تلاقيني مريح في حتة تانية غير شقتي، أظن كلك مفهومية يا أبو “إيـاد”.
ضحك “أيـهم” ورد عليه ببراءةٍ مفتعلة:
_طب ما تجيب بنت الناس وتيجوا تفطروا معانا، دا حتى الفرح خلص ١١ بليل والساعة دلوقتي ٦ الصبح.
يتواقح، ويتخابث برمي الكلمات لكي يخرجه عن هدوئه لكن ليس بـ “أيـوب” أن يتزلق فوق جليد الخديعة، لذا اقترب من شقيقه وهمس له في أذنه بنبرةٍ خافتة:
_طب حط نفسك مكانها، ترضى تصحى تلاقيني نايم برة؟.
تبادلت النظرات بينهما فضحك “أيـهم” ثم أعطاه إشارة التحرك وأضاف قبل رحيله من أمامه يقطع عليه السبيل:
_ماشي، بس أعمل حسابك غدانا مع بعض النهاردة.
لوح له “أيـوب” بكفه أمامهم ثم تسلق الدرج تحت نظرات “عبدالقادر” الضاحكة على غيرة “أيـهم”، فلو لم يفهمه الجميع والده يفهم أن غيرته على أخوته كما هي منذ الصِغر، كان متملكًا لهما ولم يدع أي غريبٍ يقترب منهما، والآن يراهما بعيدًا عن كنفه، لاحظته “نِـهال” أيضًا فكتمت ضحكتها ثم رفعت نفسها لتصل لأذنه وتخبره بنبرةٍ خافتة إبان انشغال الجد مع حفيده:
_الغيرة هتاكل من وشك حتة والله، دلوقتي بس فهمت ليه مش بتخليني أروح التجمعات بتاعة عيلتنا، بتغير أنتَ أوي.
_جدًا، ومبحبش اللي أحبهم يحبوا حد غيري، نعمل استثناء لأخواتي ويبقالي أنتِ بقى.
رد عليها بذلك حتى طافت بعينيها بخجلٍ في المكان ثم همست بخجلٍ له خفاءً:
_هو أنا يعني حبيت ولا بحب حد غيرك؟ الله.
تبادلت النظرات الضاحكة بينهما وقد ذكرته باعترافه لها أمسًا حينما أخبرها أنها الوحيدة من كل نساء العالم التي شعر أنها خُلقت لأجله، كانت لأول مرة تراه يتحدث بتلك العاطفة في حين أنه يفتقر لكل الكلمات المعسولة، هو يقتنع أن الأفعال والأمان أهم من الكلمات المُكررة حد الملل، وهي بدأت تقتنع أن قربه هو الحُب بذاته.
في الأعلى حيث المكان الجديد الذي شهد على انتصار حُبٍ حاضرٍ أمام أحزان الماضي، توجه “أيـوب” إلى شقته مباشرةً فوجدها هادئة، كل شيءٍ بها كما تركه قبل النزول و توجه نحو الغرفة مُباشرةً ظنًا منه أنها نائمة، لكنه وجدها تجلس فوق سجادة الصلاة ترتدي ملابس بيضاء جعلته يُسرق من نفسه أمامها وهي تضم كفيها بتضرعٍ للخالق..
ابتسم بهدوءٍ ثم اقترب منها بتروٍ وحاوط جزعها ثم لثم جبينها بعمقٍ حتى ابتسمت “قـمر” له بخجلٍ طفيفٍ تلاشى حينما وجدته يتحرك ثم ألقى برأسه فوق حِجرها مستسلمًا لتلك اللحظة التي منى نفسه بها منذ ما يقرب الأربعةِ أعوامٍ معها هي، ثلاث سنوات يحبها خلسةً وسنة مرت على عقد قرانهما وهاهي معه وقد أصبحت زوجةً له، أما هي فسحبت نفسًا عميقًا ثم مالت عليه برأسها تُلثم جبينه ثم بدأت تُداعب خصلاته بهدوءٍ حتى رأت البسمة تُزين شفتيه بعدما أغمض عينيه.
الحال يتنافى من شخصٍ لآخر، فلقد جال “يـوسف” في الشوارع بحثًا عن مكانٍ يداوي جرح يده متجاهلًا جراح القلب بكل عمدٍ لحين اشعارٍ آخر، لقد تمنى أن يملك قوة “أيـوب” في الصبر والتحمل لكن يبدو أن النسبية حتمية وتختلف من فردٍ لغيره، وصل أخيرًا لعيادة وجد بها قسمًا للاستقبال وقد ولج للطبيب بقسم الجراحة يكشف جرح يده، داواه الآخر له رغم مرور الكثير من الوقت على فتح الجرح.
أعطى إشارة للطبيب أن يفعل الأفضل له مهما كان وبعد أن انتهى عاد لبيته سيرًا على الأقدام بعدما أتخذ من الطريق رفيقًا له، بينما في شقته كانت هي في انتظار عودته، الساعة تخطت السابعة صباحًا وهي منذ الخامسة والنصف تنتظر مرور طيفه، خشت أن يكون هرب منها، وخشت أن يكون ابتعد وقرر أن يرحل بعيدًا عنها بعدما فعلته بالأمس معه أثناء غياب وعيها، جلست فوق الأريكة تضم رُكبتيها لجسدها وتركت العنان لعبراتها تنساب فوق وجنتيها..
تلك المرة أيضًا هزمها الخوف وتلك المرة تخطى الأذى مُحيطها هي لينتقل للآخرين، تلك المرة تركت نفسها فريسةً في براثن الذكرىٰ لكي ينتهي الأمر بها خاسرةً لكل شيءٍ ومن وسط تلك الخسارة كان هو نفسه، فُتِح الباب وطل طيفه منه فانتفضت هي تواجهه بعينيها الباكيتين وسألته بصوتٍ متهدجٍ:
_أنتَ كنت فين؟ أنا مستنياك من بدري خوفت تكون مشيت.
عقد حاجبيه وجعد جبينه ثم قال بهدوءٍ تام:
_همشي أروح فين يعني؟ أنا نزلت أصلي الفجر وقعدت في المسجد شوية مع “أيـوب” وجيت علطول علشان عارف إنك نايمة يا “عـهد” وأكيد مش همشي وأسيبك لوحدك.
أومأت له موافقةً برأسها ثم أطلقت تنهيدة مُرتجفة عقبتها باقترابها منه ببعض المنتجات الطبية ثم قالت بخزيٍ وانكسارٍ اتضحا في صوتها:
_طب ممكن تيجي علشان أشوف دراعك؟.
ابتسم لها ثم اقترب منها هو أكثر وكشف عن ذراعه لها ثم طمئنها بقوله الهاديء ولم تنفك البمسة عن ملامحه:
_متقلقيش، روحت عيادة قريبة من هنا وكله تمام، بعدين عادي يعني مش مستاهلة قلقك دا كله، أنا تمام ودراعي بخير أوي وزي الفل، طمنيني عليكِ أنتِ، دا المهم.
كيف تخبره أنها أمامه تود أم تنشق الأرض وتبتلعها من فرط إحراجها من اهتمامه وحنوه معها؟ كيف تخبره أنها تود الاعتذار منه حتى تنتهي أيام عمرها ولن تقدر على إعطائه حقه؟ وقفت صامتة أمامه وهو يسأل بعينيه عن سبب صمتها فوجدها إذ فجأةً ترتمي عليه وهي تُعانقه بقوةٍ..
تلك المرة بادرت برمي نفسها في مُحيطه وهي تعلم أنه سيتلقفها بين ذراعيه وهذا ما فعله هو، ضمها وتشبث بها بقوةٍ فوجدها هي تلك المرة تقطع له عهدًا:
_أوعدك إني هحاول علشانك، هنسى كل حاجة حصلت علشان استاهل أكون معاك زي ما أنتَ حاولت علشاني، هعمل كل حاجة تخرج اللي فات مني، هقطع كل الصفحات دي من حياتي كمان، بس ماتسبنيش.
الكلمة الأخيرة حينما تفوهت بها كانت أقرب للتوسل حتى كادت أن تبكِ لكنه مسح فوق ظهرها بمراعاةٍ لكل الحدود والمشاعر بينهما، ترك لها كل الفرص حتى تثق به وتتيقن أن حاضرها معه يختلف تمامًا عن ماضيها بدونه، ولذا قرر أن يبدأ من جديد معها، وبناءً على ذلك طلب منها بمزاحٍ:
_بقولك إيه؟ ما تيجي ننام دلوقتي قبل ما ييجوا هما وساعتها لو صدعت هطردهم ويفهموني غلط، أنسي بقى كل حاجة وأرمي الكشكول دا، ووعد هجيبلك كشكول جديد وبسلك كمان.
ضحكت له ثم توجهت معه نحو الغرفة وبعد مرور دقائق توسد الفراش بجسده وهو يشعر أن كل خلية به تصرخ وتطالب بالراحة، بينما هي جاورته ثم اقتربت منه بهدوءٍ واستقرت بين ذراعيه وهي تقوم بلفهما حول جسدها بحمايةٍ جعلته يبتسم من بين نومه، وكل ما يجول بخاطره أن ما سبق ولم يحدث اليوم، من المؤكد سيدركه غدًا، وغدًا ليس بقريبٍ، وقد يكون ليس ببعيدٍ..
_________________________________
<“هاربًا من نفسي للخارج، عالقًا بيني وبين الماضي”>
حبال الماضي قد تكون قوية؛ لكن سكين الحاضر قد يكون بتارًا لكي يقوم ببترها من الجذور وتنقطع كُليًا، هنا حيث ماضٍ أليمٍ يعيش في قلب المرء ويستوطنه باحتلالٍ ومن ثم يأتيه الحاضر طاردًا له لكي يُعمر أرضٍ خاربة إذ رآها المستقبل بالطبع لن يجد لنفسه بها موطنًا..
بدأ الوقت يمر حتى انتصف النهار بضوءٍ أرجواني في أيامٍ شتوية كانت آشعة الشمس بها تتسلل لتحاول أن تستقر على الأوجه والجبهات لتكون عونًا للمارين رغم ضعف حرارتها، تحرك “نـادر” من شقته نحو الأسفل حيث البداية الجديدة التي تنتظره، لن يرضخ لثقل الأيام، سينصت لحديث الرفيق “عُـدي” الذي أخبره باقتراحٍ:
_إيه رأيك مثلًا لو تشتغل مع الحج “عبدالقادر” هنا؟ على الأقل مثلًا حسابات أو إدارة أي حاجة وأظن أنتَ بنفسك شوفت معاملتهم، بدل قعدتك لوحدك دي، طالما مش حابب نزول الشركة ولا حابب إنك ترجع تمسكها من تاني.
حينها كان الجواب قاطعًا منه بقوله:
_لأ يا “عُـدي” مش هقدر أكون هناك تاني معاهم، مش هقدر أقف قدام أبويا وخالي بعد كل اللي حصل بينا، خليني بعيد أحسن، علشان على الأقل أضمن إني أكون بعيد عنهم وأخليني في صف “يـوسف” علشان أنا مش عاوز أخسره تاني، أنا دفعت تمن كبير أوي علشان أقدر أبص لنفسي في المراية، بس مش هقدر أخسر أخويا.
نزل والحديث يُدار في رأسه وقد قرر بعدها أن يأخذ أولىٰ خطواته نحو وأد الماضي، لقد سخر من نفسه وهو يتذكر عمله السابق، فكيف لقبطانٍ مثله يعمل رُبانًا للسُفن أن يلجأ للبحث عن عملٍ أقل بكثيرٍ من كفاءة تعليمه ومؤهله؟ وقع بين براثن الحيرة لكنه نحى فكره بعيدًا ثم ذهب نحو وكالة “العطار” ثم ولج بهدوءٍ وقال للابن الكبير الذي أخبره عن ترحيبهم له:
_أنا جاهز زي ما قولتلك، ليا مكان وسطكم؟.
التفت له “أيـهم” مبتسمًا ثم أشار للوسط وأضاف بمرحٍ:
_المكان مكانك يا سيادة القبطان، اتفضل.
بداية جديدة سينتهجها لحين عودة الأمور لوضعها الطبيعي في عمله وصحته، نعم لقد امتثل للشفاء لكن في بعض الأحيان تتورم قدمه وتتعرج حركتها فيتوجب عليه أن يلجأ للراحة، استمع لشرح ابن خاله الذي أعطاه كافة التفاصيل الكافية والوافية واختار هو مُتابعة العمل بالمصنع وإدارته من على بُعدٍ، سيكون هو الوسيط بين المصنع وبين الوكالة وبالطبع تلك مساهمة كانوا في أوج حاجتهم لها.
استلم العمل اليوم منذ ساعتين، وجد نفسه يندمج بسهولةٍ ولم يخفَ عليه أن يُشارك “عُـدي” هذا الخبر فوجد الآخر يهتف بصياحٍ يبارك له:
_أيوة كدا فرحتني، بقولك إيه هستناك على القهوة بليل علشان الماتش وبالمناسبة هعزمك على حسابي بمناسبة الشغل الجديد، مبروك يا “نـادر” والله فرحتني أوي.
ابتسم “نـادر” بصفاءٍ ثم شكره وأمتن له ولمشاركاته معه، عهد الصداقة القديم يعود بينهما وما ساعد في ذلك ودعم تلك العودة هو أن المكان لازال خاليًا ولم يستقبل إلا أصحابه الأصليين، علاقة أتت في وقتها لتُساعد في ترميم كسورٍ كانت بعمق الروح في مركزها.
خرج “نـادر” يقف على أعتاب الوكالة وهو يراقب الغيوم التي رغم دكانة لونها إلا أن نفسه تميل لها، لقد أخرج نفسه من عُمق اليَّم لكي ينجو سالمًا قبل أن يبتلعه الطوفان، سحب نفسًا عميقًا مُعبقًا برائحة الشتاء حتى جذبه صوت صياحها من الخلف، لقد ميز صوتها عن بقية الأصوات حوله، التفت، ارتكن على حائط رخامي بجواره فوجدها تُصيح لشابٍ يجاورها بصوتٍ عالٍ:
_حرام عليك يا “حمدي” إحنا مش حمل بهدلة وجري وراك كل شوية كدا، يا أخي تتحرق الكورة اللي هتخلينا نخسرك في مرة دي، أمك وأبوك مش حمل عمايلك دي أنتَ مش صغير، مين يصدق إن دي عمايل عيل عنده ١٨ سنة، يا أخي ارحمني بقى.
بالطبع فهم أن هذا هو شقيقها، شاب في عمر المُراهقة وهذا يبدو عليه من لِحيته التي شقت الطريق للنمو، ومن ثياب الكرة التي يرتديها تأثرًا بأحد الأندية العالمية وقد توقف عن السير وصاح وهو يفرد ذراعيه أمامه مُعبرًا عن احتجاجه:
_يا ستي هو حد كان جه جنبك؟ أنتِ اللي كل شوية تيجي تطبي فوق راسي وتعملي فيها ولية أمري، بعدين مش قولتلك متجيش الملعب تاني؟ مبتسمعيش الكلام ليه بقى؟ ولا هو أنا بس اللي المفروض أسمع الكلام وأنفذ الأوامر وخلاص؟.
احتقن وجهها بسبب وقاحته معها ولوهلةٍ كادت أن تصرخ أمامه لكنها عدلت عن ذلك وتنفست بحدةٍ وهي تقول بصوتٍ تحول للضعف والإنكسار:
_حط نفسك مكاني، نازلة أشوف أكل عيشي ألاقي أمك بتكلمني تصرخلي وتقولي إن الجيران قالولها الحيلة بيتخانق في الملعب، مش صعبانة عليك وهي كل يوم حاطة ايدها على قلبها كدا؟ مش حاسس بيها هي وأبوك اللي ضهره أتقطم وأنتَ حتى لا بتساعد ولا هاين عليك تقدر؟ أنا تعبت منك، تعبت وأنا المفروض عندي راجل يسندني بس الراجل دا بيديني ضهره.
وقف “نـادر” يستمع لهما بغير قصدٍ وهو في حيرةٍ من أمره هل يتدخل بينهما أم يبتعد ويترك مسائل العائلة بعيدًا عنه، لكن رؤيتها بهذا الضعف أنذره أن التدخل قد يكون أسلم الحل لكي لا تتأزم الأوضاع خصيصًا إن كان شقيقها يتأهب للشجار، اقترب منهما بهدوءٍ ثم قال برتابةٍ:
_مساء الخير، في إيه بس يا “حنين”؟.
جذبها صوته لترمقه بتيهٍ وخجلٍ ثم ارشقت شقيقها بنظراتٍ حادة لما وضعها به لكنها ردت تحيته بصوتٍ خافتٍ ثم قالت بصوتٍ مضطربٍ إثر خجلها:
_مفيش حاجة يا سيادة القبطان، دا أخويا الصغير”حمدي” وكان فيه مشكلة بس بنخلصها قبل ما أرجع على الشغل تاني.
التفت لها شقيقها يخبرها بحدةٍ كونها تتسلط عليه:
_مفيش مشكلة أنتِ اللي بتعملي حوارات ومشاكل من غير سبب وبتكبري الموضوع وخلاص، ما كلنا بنلعب وبنشد مع بعض بس محدش فيهم حد بيحرجه وأخته تروح تاخده من الملعب، أنتِ اللي بتصغريني كل مرة.
وزعت عينيها بينه وبين “نـادر” الذي تضايق من طريقته معها وشعر أنه يود توبيخه لكنها سحبت نفسًا عميقًا تبعته بقولها:
_رَّوح، رُوح البيت وقول لأمك إنك راجل كفاية وكبير وقد المسئولية بس أبقى خبي وشك المتعور دا عنها، ولا داري رجلك المفتوحة دي يمكن هي تصدقك وتتأكد إنك فعلًا كبرت، ولو عليا فغصب عني قلبي مُهزأ علشان مبعرفش أقول لأ، حتى لو بلاقي ظلم زي كلامك دا.
لوح لها الشقيق بذراعه ورحل بغير اكتراثٍ لها بينما هي رغمًا عنها تألمت من معاملته، هذا الأخ الذي يحبها فقط يوم أن يحتاج لأمرٍ منها، يحبها يوم أن يمد يده لها فتناوله المال المطلوب ومن ثم يعود للجفاء مُجددًا بعد الحصول على مُراده، لقد اعتادت على قسوته لكنها لم تعد تحتمل حتى واستها العبرات وظهرت تُعانق وجنتيها..
انتبه لها “نـادر” فقال بلهفةٍ وهو يتبعها في السير بعد أن ترك الوكالة في عُهدة معاونه:
_استني بس، أنتِ هتمشي معيطة كدا؟.
أومأت له ومدت في خُطاها نحو الأمام فيما ظل هو يتعبها خشيةً من أن تسقط أو يصدمها شيءٌ وسار تابعًا لها حتى وجدها ترتكن بجلوس فوق رُخام انتظار الحافلات لكي تذهب للمشفى وقد جاورها هو دون أن يقترب منها ثم قال بصوتٍ هاديءٍ:
_وبعدين؟ تفتكري العياط حل لحاجة؟ كنا عيطنا من هنا لآخر العمر يمكن نرتاح يا “حنين” شوية من اللي نفوسنا شايلاه، أنا مقدر موقفك وحقك تعيطي بس تعيطي وأنتِ لوحدك أحسن، علشان للأسف العالم مش مهتم إن فيه ناس بتعيط ومش قادرة تكمل.
سحبت نفسًا عميقًا توقف به البكاء ثم قالت بصوتٍ مختنقٍ:
_عارف المشكلة فين؟ إن يكون مطلوب منك تراضي كل الأطراف وتشيل هم مراضيتهم بس محدش مهتم كونك مش لاقي اللي يراضيك، المطلوب منك تقف وتداوي الكل بس محدش واخد باله إنك مجروح وجروحك لسه متقفلتش ومع أقل خبطة بتنزف من جديد، حتى لو العالم مكمل بس أنا نفسي أقف آخد نفسي أو على الأقل ألاقي حاجة تنصفني.
أشفق عليها كثيرًا بينما لمحت هي اقتراب الحافلة الزرقاء فهبت منتفضة لكي تلحق لنفسها مكانًا بها بعدما مسحت دموعها واستأنفت قوتها وقد راقبها هو فوجدها تندفع وسط البقية حتى وصلت لموضع وقوف الحافلة وقبل أن تصعد الدرج أوقفها بقوله الذي كان داعمًا لها:
_الأحسن بدل ما تستني حاجة تنصفك، انصفي أنتِ نفسك قدام الدنيا، خسرنا حاجات كتيرة جايز، بس المكسب أكبر لو بين كل دا لقينا نفسنا ومضاعتش مننا.
بدأت الحافلة تشد الرحال لكي تتحرك فلوح لها مُبتسمًا ثم أولاها ظهره ورحل بينما هي تمسكت في كلماته بشدةٍ ثم توجهت لداخل الحافلة لتبدأ معركتها اليومية في عجلات الحياة التي لم تتوقف عن الاستدارة، ولا هي تتأنى لكي تلتقط أنفاسها.
__________________________________
<“بعض الأمور نهجها القوة وبعضها المكر”>
رحلة، تلك هي الخُلاصة في مشوارٍ يطول بنا لم نفهم منه شيئًا سوىٰ في نهايته أن الثمار المُجناة تكمن في الرحلة ذاتها وليست نهايته، وإبان الرحلة قد تضيع بنا الطُرقات وهنا بالتحديد محض الاستفادة بعينها.
لقد تحايل عليه واستغله لكي يصل لمراده، استغل كون شقيقه طيب القلب لم يرغب في إحزانه وضغط على هذا الزر لكي يخضع له “تَـيام” مُذعنًا وباسطًا كفيه له لكي يفعل ما يود هو ويقترب من الغاية، ورغم ذلك سكت الشقيق أمامه ولم ينطق بشيءٍ، والحدث كان..
وصل “تَـيام” لحارة العطار برفقة شقيقه وقد ذهب لعمله يتابعه مع “بـيشوي” ثم ذهب لأمه يطمئن عليها فوجدها تحتاج لدواء الضغط الخاص بها وحينها تحرك نحو الصيدلية المتواجدة بالحارة وسار معه “مُـحي” يُكاتفه ويؤازره في محنته خاصةً أنه يعلم أهمية الأم لديه، وقف معه في الصيدلية بينما شقيقه فكان يقف بكامل تركيزه حتى وجد والد “جـنة” يخرج من البناية المُقابلة بخطى هادئة فتوسعت عيناه حينها..
خرج شقيقه يجاوره فوجده يتبعه بعينيه وحينها التفت له “تَـيام” يقطع عليه تتبعه له فوجده يسأله بعدما أشار برأسه نحو الراحل:
_هو دا والد “جـنة” صح؟.
أومأ له الآخر موافقًا بينما “مُـحي” فتوسعت بسمته ثم التفت يُطالع الصيدلية من خلفه ثم وهو يبستم بملامح لم تنذر بأي خيرٍ وما إن لمح شقيقه نظرته هتف يحذره بقوله:
_لأ، لأ خالص على فكرة
_أيوة، أيوة جدًا كمان.
كان ذلك هو رده عليه حتى كاد أن يصرخ شقيقه لكنه ولج الصيدلية يتحدث بطريقةٍ برع في جعلها رسمية لحدٍ بالغٍ إبان حديثه مع الطبيب:
_مساء الخير يا دكتور، معاك “مُـحي الحُصري” خريج كلية صيدلة السنة دي وأخو “تَـيام” الصغير وأظن أنتَ عارف الظروف اللي حصلت يعني وخليتنا نفترق، بس أنا عاوز أتدرب عند حضرتك هنا.
في الخلف كاد “تَـيام” أن يجلس أرضًا بحسرةٍ على كل شيءٍ سيدمره أخوه في وجهته وقد رحب الطبيب بذلك كثيرًا بل ووجده كنزه الثمين، والأغرب أنه طلب منه البدء من تلك الساعة مراعاةٍ لخاطر “تَـيام” وقد التفت هو لشقيقه يخبره بوقاحةٍ:
_طب يا “تـيمو” روح أنتَ علشان بابا ميقلقش علينا وقوله إني في الشغل هنا، دعواتك بقى ربنا يفتحها في وشي.
تلاحمت أسنان “تَـيام” غيظًا ثم نطق بهمسٍ لم يصل لغير شقيقه:
_ورب الكعبة أنا اللي هفتحلك وشك كله.
حديثه ما زاد الآخر إلا تبسمًا فهتفت بوقاحةٍ:
_وماله هبقى أداويه لنفسي، روح يلَّا هتتأخر.
رحل “تَـيام” وترك خلفه مُصيبة لن يُرد أثرها لغيره هو، رحل وعاد لبيت والده بعد أن اطمئن على أمه وأعطاها الدواء، عاد للبيت فوجد والده برفقة الشباب وقد لحقه “مُـنذر” الذي أنهى العمل وعاد للبيت هو الآخر، لحظهما “نَـعيم” فسأل بحيرةٍ عن ابنه الثاني:
_أومال فين “مُـحي” ؟ مش كان معاك يا “تَـيام”؟.
أومأ له موافقًا ثم تفوه بقلة حيلة يواري خلفها الأمر:
_في الشغل، البيه بيشتغل في صيدلية في حارة “العطار”.
حينها كان يرتشف “إسماعيل” العصير فقام ببصق ما في فمه أمامهم جميعًا حتى التفتوا له ضاحكين بينما قال “مُـنذر” بسخرية ممازحة يفسر الأمر من جهته:
_أكيد تلاقوه خايف أحسن يدي حُقن.
انتشرت الضحكات على مزحته وسُخريته بينما أردف لهم “تَـيام” الأمر بأكمله، حتى ضحك “مُـنذر” هو الآخر وشاركهم فيما يقولون بينما “إسماعيل” فهب واقفًا أمام “تَـيام” يسأله بحيرةٍ:
_أنتَ إزاي تعمل كدا؟ دا لو هيشتغل لازم حد يراقبه علشان محدش يضمنه أصلًا، ويا ترى الصيدلية دي بيدخلها ستات؟.
أومأ موافقًا بقلة حيلة فلطم “إسماعيل” رأسه بكفيه بينما “إيـهاب” فقال بثباتٍ:
_والله أنا هعتبره اختبار ليه، يا ينجح ويثبت كفاءة يا ميزعلش من “عمهم” في الآخر مع إني واثق إن ورا الشغل دا مصيبة سودا هو ناويها، ربنا يسترها علينا.
بعد مرور دقائق كل شابٍ عاد لغرفته بعد العودة من العمل وليالٍ شتوية قارصة تعرضوا لها بالخارج، وقد كان “إسماعيل” في غرفته جالسًا بهدوءٍ تام وحالة من الشجن وهو يدخن سيجاره حتى قدم له “مُـنذر” وطرق بابه، دخل وجالسه في الشُرفة التي طلت على قمة الهرم الأكبر وكأن الماضي يُعانق الحاضر في لوحةٍ واحدة تبتهج لها الأعين..
جلس الاثنان برفقة بعضهما وقد تولى “مُـنذر” دفة الحديث بقوله الذي تأرجح بين الثبات والاضطراب بعدما زفر بأنفاسه المُعبأة بدخان غليونه:
_أنا سمعت كلامك زي ما قولتلي وجربت أساير الموج معاها، الغريب إني بغرق ومبسوط أوي وأنا بغرق كدا، حابب إني بتوه فيها هي وبس، عارف؟ أنا معرفش أي حاجة في الدنيا دي عن الجنس الآخر دا، بس هي غريبة، قوية، بريئة، فيها جرأة مش عند حد، وفي نفس الوقت هي أضعف من كل حد، مبقيتش حابب أخسرها، ومش عاوز أخسرها، بس في نفس الوقت مش حابب إن كل حاجة متغطية كدا علشان يوم ما هتتكشف كل حاجة هتضيع مني.
مال عليه “إسماعيل” لكي يوازي وضع جلسته والفاصل بينهما كانت طاولة مُستديرة حملت منفضة السجائر ثم قال بثباتٍ:
_جرب كدا تغمض عينك عن الدنيا كلها وتسيب حالك للموج وساعتها أنتَ هتلاقي راحة كبيرة أوي، سيبها تمشي زي ما هي ماشية كدا وكل ما تلاقي نفسك بترتاح أكتر، كل ما حاول تصلح الدنيا أكتر، صدقني الوقوف مش في صالحنا خالص، غمض عينك كدا وقولي أنتَ نفسك في إيه؟ اعتبرني عاوزك تحلم.
يبدو أنه يتولى دور الطبيب النفسي فرفع “مُـنذر” حاجبه وسأله بصرامةٍ مفتعلة لم تكن حقيقية بل كانت مصطنعة:
_هو مين فينا اللي دكتور نفسي يالا أنت؟.
حرك الآخر كتفيه بزهوٍ في النفس حتى امتثل لمطلبه رفيقه ثم أغمض عينيه وسحب نفسًا عميقًا هادئًا، قرر أن يترك نفسه للحلم وإن كان يجهل كيف للمرء أن يحلم، أراد أن يراها في عينيه فأتى جوابه بصوتٍ رخيمٍ يشرح رؤيته:
_شايفها ماسكة في ايدي، كل ما آجي أسيبها ألاقيها بتمسك فيا أكتر كأنها مش عاوزة تسيبني، وأنا وهي بنجري في جنينة واسعة أوي كلها فُل وزرع كأننا في حتة من الجنة، عاملة زي الشمس اللي بتطلع بعد المطر والغيوم والضلمة وتدفي الناس، بحسها زي النهار اللي بييجي بعد الحرب ما تخلص كأن الليل كله خلص في الحرب وتاني يوم ييجي بشمسه وهدوئه.
ابتسم له “إسماعيل” ثم سحب نفسًا عميقًا وقال على غِرار قول الآخر وقد رآى الضُحى من وسط ظلامه، فكان حديثه هادئًا بقول:
_أنا كمان شبهك على فكرة، كنت بشوفها بعيدة عني كأني مش من حقي حتى أرفع عيني فيها، بكلمة منها بتطلعني سابع سما، وبنظرة خوف منها بلاقيني ضايع وتايه، بحسها زي النور اللي بيطلع من وسط كهف ضلمة كدا علشان يقولي إن فيه أمل، نفسي أوي تكمل زي ما أنا عاوز، نفسي أنام مرتاح وأنا متأكد إن هي أكيد معايا وإن مفيش حاجة هتفرقنا ولا تخليني أخاف وأنا باخدها من بيتها، نفسي الناس كلها تكون زي ما “ضُـحى” بقتلي كدا وملت عليا يومي.
فتح كلاهما عينيه بعدما بسطا أذرعتها نحو السماء، هما رفيقان متلازمان، أحدهما كان ماضيًا حيث الحضارة، والثاني حديثًا حيث عمر الشباب، ولولا الماضي وجذوره لما كان الحاضر ثابتًا، لحظة صمت مرت عليهما تبعها صوت المذياع القديم بصوتٍ الشيخ إمام بكلماته المرمرية في السمع:
_أنا كل مُنايا أدوق اللوم، ويقولوا عليا
الناس حبيت، أنا كل مُنايا أدوق اللوم،
ويقولوا عليا الناس حبيت…
وإن كان أمل العشاق القرب،
فأنا أملي في حُبك هو الحب
إن كان العُشاق القرب،
فأنا أملي في حُبك هو الحُب.
ابتسما سويًا ثم بدأ كلاهما يُدندن مع الآخر ومع الصوت الذي اخترق الجلسة في لحظة نادرة لكليهما معًا، لحظة أتت البسمة فيها تزور جلستهما، لحظة كان الحُب سببًا فيها، شابان بريئان كل أملهما في الحياة أبسط من فرد جناحي الطير ولم يتوقع أحدهما أن هذه الأجنحة قد تُبتر ذات يومٍ..
__________________________________
<“لحظة واحدة يُسمح فيها المرء أن يعانق الأحلام”>
أحيانًا نتساءل لما لم يكن العالم معنا أسهل مما هو عليه؟ لما لا تحاوطنا البساطة كما تمنينا نحن؟ لما لم يتوجب على كل الأشياء أن تأتِ إلينا بصعوبةٍ حتى تلك البسيطة التي من المفترض أن نحصل عليها بفرقعة الاصبع؟.
زحام شديد، عربات معدنية تتسابق في المكان الواسع، أصوات عالية ومُرتفعة في كل مكانٍ، الجميع من حولهم يتعاملون مع الأمر بخضرمةٍ هائلة، وهي لأول مرة تختبر تلك المشاعر التائهة، من المفترض أن تكون أُمًا خلال أيامٍ وهاهي تُعِد الأشياء لاستقبال مولودها الأول، كانت تسير بجانب “إيـهاب” الذي لم يفهم أي شيءٍ حوله، بينما “آيـات” فقد سبق وأخبرتها بالأشياء الهامة والمُلزم احضارها.
“إيـهاب” كان يقود العربة بصمتٍ وهو يراها بين الحين والآخر تمتليء بالأشياء الصغيرة ذات الألوان المُبهجة للعين، كلما وضعت قطعة تخيل بها شكل صغيره وكُلما وضعت آداةً سأل عن أهمية استخدامها لكي يكون على درايةٍ كافية، كل شيءٍ حوله جعل نفسه تمتليء بالرضا كُلما وضعت بالعربة شيئًا جديدًا، وقد توقفت أمام ثياب “السبوع” وملأت عينيها بها وقد التفتت له تخبره بصوتٍ أعرب عن تباين المشاعر:
_بص الهدوم دي شكلها حلو إزاي؟ شبه الملايكة.
تبسم هو لها ثم اقترب يجاورها وشاركها تلك اللحظة حينما سحب نفسًا عميقًا ثم نطق بنبرةٍ هادئة:
_هما الملايكة بعينهم يا “سمارة” عارفة؟ أنا كل يوم بيعدي بتمناه ياخد معاه كام يوم كمان علشان أملي عيني بيه أو بيها أيًا كان، كفاية إنه حتة مني ومنك، هيبقى عندهم أحسن أم في الدنيا كلها لدرجة إني هحسدهم على وقتهم معاكِ.
هرعت العبرات من عينيها أمامه وهي تراه يُثني عليها وقد لاحظ هو أن مشاعر أصبحت تتلاعب بها بشكلٍ ملحوظٍ حتى كلما أتى لها بسيرة الأمومة يجدها تبكي هكذا، وقد رفع كفه يمسح عنها دموعها ثم ابتسم لها بحنوٍ وهو يقول بمزاحٍ:
_يا بختهم بيك يا عمنا.
ارتمت تضع رأسها فوق صدره لكي تكتم عبراتها ولم تعِ أنها بذلك تفضحه أمام الجميع فضمها هو بذراعه وحاول أن يتوارى بها عن الأعين التي تتطلع إليهما وسرعان ما أدركت ما فعلته فابتعدت عنه تُتمتم بحنقٍ:
_على فكرة أنتَ وغد وما بتصدق.
مال على أذنها يهتف بنبرةٍ خفيضة:
_وغد آه، بس بحبك خدي بالك.
اعتراف بعد انقطاعٍ دام لكثيرٍ من الأيام جعل وجهها يتورد أمامه فيما شبك هو كفه بكفها ثم انتقى طقمًا لمولوده ووضعه في العربة وأكملا التسوق سويًا وكل أمله أن يمر الوقت لحين تلك اللحظة التي يحمل فيها صغيره على ذراعيه ويحفظه في كنفه ليبدد معه أيام الماضي.
__________________________________
<“نحو طريق الصلاح ذهبنا متهشمين”>
قبل أن نصل للطريق الصحيح كُنا نذهب كما القارورة الزُجاحية التي تهشمت بعض الأجزاء فيها لكي نبحث عن من يُرمم فينا الأجزاء المكسورة، كنا نحاول أن نستجمع قوتنا لكي نتمالك حتى نهاية الطريق، في بعض الخطوات كُنا نتعثر وفي بعضها كُنا نُكمل، والهدف الأكبر هو الوصول نحو الطريق الصحيح.
لم تنسَ هذا الموقف أبدًا، لقد رآتها اليوم لمرتها الثانية في النادي تبتاع الجُرعة المُخدرة ومن ثم تلك المرة تناولتها بداخل المرحاض مخبوءة عن أعين الجميع، راقبتها “نـور” التي داهمها نفس الشعور من جديد بالغثيان والبرودة والتقزز ثم ركضت نحو “چـودي” كأنها تحتمي بها وليس العكس..
كانت تجلس فوق طرف الفراش ولم تنتبه لقدوم “سـراج” الذي جلس خلفها ثم لثم وجنتها بعمقٍ وكرر الفعل مع الوجنة الأخرى وقبل أن يتمادى ابتعدت عنه تسأله بتعجبٍ:
_أنتَ دخلت إمتى؟.
ضيق جفونه واعتدل فوق الفراش وهو يجاوبها بتهكمٍ:
_وأنتِ سرحانة الله أعلم في إيه، بس غريبة إنك تسرحي لدرجة متحسيش بجوزك وهو داخل، أنتِ فيكِ إيه بالظبط؟.
رفعت كتفيها بحركةٍ عادية ثم جاوبته بتلقائيةٍ مفتعلة:
_عادي يعني هيكون مالي، أنا كويسة بس يمكن علشان مش نايمة كويس أو حاجة، المهم “چـودي” نامت خلاص؟.
أومأ له ثم أنزلق بجسده يتوسد الفراش وقال بنبرةٍ يغلب عليها النعاس حيث وقعت تحت أثر الخمول:
_نامت، بس بعدما كلمت “مُـنذر” و “إسماعيل” و أتصلت بـ “مُـحي” وقالها إنه بقى دكتور وبيشتغل ووعدها يجيبلها حاجة حلوة بالمناسبة دي، حنينة أوي وهي بتطمن على الكام شحط دول.
ضحكت على سخريته ثم اقتربت منه ترفع الغطاء ثم دثرت جسدها وهي تتوسد صدره بينما هو فتابعها وهي ترفع عينيها للسقف الأبيض، راقب سكونها وانشغالها بعيدًا عنه حتى تنفست بصوتٍ مُرتجفٍ جعله يدرك أن الأمر لم يكن على ما يُرام، تشبث بها أكثر ثم سألها باهتمامٍ:
_فيكِ إيه يا “نـور”؟.
هي تعلم نفسها جيدًا، ضعيفة أمامه للدرجة التي تجعلها تفشل في إخفاء أي أمرٍ عنه، تعلم أنها لن تجرؤ أن تهرب بعيدًا عن مرمى عينيه فقررت أن تتفوه بمبادرةٍ منها:
_عارف “نـورهان” بنت عم “شـهد”؟.
قلب عينيه بمللٍ ثم قال بغير اكتراثٍ ناعتًا لهما بالشتائم:
_هبابة بنت عم زفت الطين، مالهم أطرانة وزفت.
قامت هي بنفخ وجنتيها ثم أخبرته عن الذي رأته بعينيها، كانت تخبره بحزنٍ وشفقةٍ، ثم تحول صوتها للأسى والاستنكار والبؤس الشُداد وقد سألها هو بحيرةٍ في باطنها التهكم والسُخرية:
_طب والمفروض نعمل إيه يعني؟.
_نساعدها طبعًا.
رفعت جزعها للأمام وهي تجاوبه باندفاعٍ وقد قال هو بسخريةٍ أكبر في حين يده عملت على إعادتها لمكانها:
_نساعدها إزاي بقى إن شاء الله؟ أروح أعرفها على ديلر معرفة وأخليه يكرمها في الصنف بعد كدا؟ ولا أروح أخدها من ايدها وأضربها عليها علشان متعملش كدا تاني؟.
ساورها الضيق من استهتاره بالأمر وسخريته عليها فانتفضت وهي تقول بصوتٍ مُحتدٍ:
_أنتَ ليه بتتريق؟ على فكرة أنا مش بهزر والله خالص، هي فعلًا محتاجة مساعدة، هي غير”شـهد” خالص يا “سـراج” علشان “شـهد” اتعودت تاخد وبس، أنانية لأبعد الحدود وواخدة إن كل طلباتها تكون مُجابة وبس، اتربت في بيت مع أسرة محرموهاش من حاجة، إنما “نـورهان” عكسها، مامتها انفصلت عن باباها واتجوزت وعاشت حياتها، وباباها راح اتجوز هو كمان ومش سائل فيها وبيرميلها قرشين كل شهر وفاكر إنه كدا قايم بدوره معاها، علشان خاطري خليني أقرب منها وأحاول معاها.
بحديثها جعلت النيران تتقد في جسده ورأسه فخرج من الفراش بعدما دفع الغطاء بعيدًا عنه ثم اقترب منها يتحدث بتهكمٍ لاذعٍ بعدما سحبها من مرفقها:
_بصي يا “نـور” علشان أنتِ مش فاهمة أي حاجة للأسف، ومش فاهم اللي أنتِ فيه دا سذاجة ولا عبط وخلاص، خليكِ بعيد عنهم، وعلى الله تقربي من حد في العيلة دي، مش بعيد بعد كدا ألاقيكِ معاها بتسحبي سطرين، مفيش قرب من حد، مفـهوم؟.
تحول حديثه للحِدةِ ثم صرخ وتحول في طرفة عينٍ أمامها حتى شعرت به يؤلم رُسغها فعملت على سحب نفسها من قبضته ثم خلصت نفسها من يده ورمقته بعتابٍ من عينيها الباكيتين ثم ارتمت فوق الفراش تختبيء منه باكيةً، بينما هو وقف يتبعها بصمتٍ لاعنًا غبائه ونفسه ثم ولج الشرفة يدخن تبغ غليونه بها بشراهةٍ لكي يقضي على غضبه قبل أن يُقضى عليه.
__________________________________
<“قرار وحيد يكون وليد لحظة الحق، يتبعه طوفانٌ”>
في لحظةٍ ما يتولد بها شعورٌ خفي بالحقد يتبعه بعدها الغضب الأعمى ثم تدمير كل شيءٍ تطله الأيدي، مجرد شعورٍ وليد اللحظة قد يُدمر كل شيءٍ ويُغير كل شيءٍ..
هي لم تكن يومًا بذاك الشخص الهين الذي يقبل الخسارة ويبتلع مرارتها ويصمت، هي دومًا تحب الربح حتى ولو كان على حساب الآخرين، وببعض الحيل والتحايل والمكر؛ ستصل، هي تُجيد التلون وتُجيد اللعب فوق أي طاولةٍ مهما كانت اللعبة التي تخوضها هي، والآن هي في خضم اللعبة وعليها أن تتريث قبل الضرب..
اسمها ليس له أدنى علاقة بوصفها، هي دومًا كما أثر العلقم في حياة كل من مرت عليهم، والآن تشبه الأفعى وهي تبخ سمها بعدما استغلها “سـامي” وأخبرها أن تفعل هذا الشيء، طلب منها أن تخبر “عـاصم” بما تعلمه هي وقد رتب لجلسةٍ ودية في حديقة البيت وثلاثتهم يلتفون حول الطاولة وقد ضمت هي كفيها معًا..
رسمت الدور ببراعةِ ممثلٍ يُجيد الفن بكل أنواعه ورسمت الأسف فوق ملامحها وهي تقول باصطناعٍ:
_أنا للأسف يا عمو كنت عاوزة أقولك على كل حاجة مهمة، بخصوص “مادلين” وقبل أي حاجة لو حابب تعرف سبب الخساير دي كُلها اللي بقت بتلاحقك فهقولك إن مرات حضرتك هي السبب علشان وبكل أسف هي متفقة مع “يـوسف” وعلى تواصل ببعضهم هما الاتنين…
وما تلى ذلك من كلماتٍ كان حديثًا منقمًا للغاية وهي تنتقيه بعنايةٍ لكي تكشف له غريمتها، لقد عملت في دأبٍ على الوصول لتلك اللحظة لكي ترد لها صفعاتها الجديدة أو القديمة على حد سواءٍ، استمع لها بنيرانٍ اتقدت فيه، وتوسعت عيناه حد الجحوظ وقد تركهما وتحرك من موضعه نحو الأعلى ومنه إلى غرفته مُباشرةً حيث مقر تواجدها..
وجدها تخرج من المرحاض بعدما بدلت ثيابها ثم بدأت في تمشيط خصلاتها لكنه أتى من خلفها ثم سحبها من تلك الخصلات وهو يسألها بنبرةٍ هادرة وقاسية وقبضته تشتد فوق خصلاتها:
_إيه اللي بينك وبين “يـوسف” يا “مادلين”؟.
توسعت عيناها بذعرٍ وصمتت أمامه وكأن لسانها فقد أبجديات الكلمات وماهية النطق بالحروف فيما وجد هو في صمتها الغدر، ولمح في عينيها الخيانة التي لا تُغتفر، وبناءً على ذلك قام بصفعها فوق وجهها وقد باغتها بهذا الفعل حتى صرخت هي ببكاءٍ بينما هو عمل على ثأره منها، والغاية أن خيانتها لا تُغتفر.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)
🌹