روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والحادي والعشرون 121 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة والحادي والعشرون 121 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والحادي والعشرون

رواية غوثهم البارت المائة والحادي والعشرون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والحادية والعشرون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل السادس والثلاثون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
لكَ الحمد في كل طلعة فجرٍ
وفي الليل إذ يرتجي لمآبٍ
لكَ الحمد في كل رفة غضنٍ
وفي الريح إذ حملت بسحابٍ
لكَ الحمد ما أدلج المبحرون
وما أنسرفت سُفنٌ في عبابٍ
لكَ الحمد في البدء والمنتهي
على هينٍ في السرى أو صعابٍ
“عماد الدين خليل”
“ابتهالات في زمن الغُربة”
__________________________________
كان يُقال دومًا في العرب قديمًا
مما يدل على قوة بلاغتها في الكلام،
إذا نزلت في أرضهم فأرضهم، وإذا نزلت في دارَهم فدارهِم، وإذا نزلت في حيّهم فحيِّهم، وفي الحقيقة أحيانًا أَظُنكِ امرأة عربية من قديم الزمان وكأنكِ أندلسية الفؤاد، فحينما قابلتُكِ صُدفةً بالطريق أصبحت خُطاكِ هدًا لي وأضحت هي الطريق بذاته، وحينما ساقتني الحياة إليكِ وأمسيت في أرضكِ راضيتيني وفي مقر الروح آنستيني، ويوم أن تواصلت المُقل ببعضها بعينيكِ حييتيني، حينها أدركت أن الروح للروحِ تطمئن وأنتِ وحدكِ من بين كل العالم من شعرت بقربها أنها أن الروح للروح تَحن، كُتِبَ الوصال بين أفئدتنا، والإطمئنان أهديناه لبعضنا، والروح للروح ناغمتها وكأن المقر وجدته عند رفيقتها هُنا، لذا كرر الفؤاد دعوته بألا يُحكم بيننا بالغياب، ولا توصد في أوجه حُبنا الأبواب، فاللهم أكتب لنا مكانًا في جنتك سويًا كما كتبت لنا اللقاء في الأرض بغير حساب..
<“حقوق تُرد للعباد وهم أحق الناس بها”>
الحق دومًا يـعود بكل الطُرقات مهما كانت، وأكثر الحقوق التي تعود هي تلك التي يسعْ خلفها مُطالبٌ يُقدم الاستبسال بكل ثنايا روحه، لذا عند عودة الحقوق لأهلها لا تتعجب، بل خُذ العِـبرة من أهلها وتمسك بحقك، فإذا لم تسعْ أنتَ من سيفعلها غيرك ويسترد لك ما سلبه منك الآخرون؟..
تلقى “سـامي” الصفعة الجديدة فوق وجهه صارخًا بغلٍ دفنه في قلبه كما تُدفن الأجساد أسفل الرُكام، وقد ضرب هاتفه بعرض الحائط حتى تهشم ثم ألقى السُباب البذيء يلعن به “يـوسف” وابـنه أيضًا وقد هرول له “عـاصم” من فوق الدرج كأنه يقفزه ثم سأله بدهشةٍ جلية من تحوله المُريع:
_مالك يا “سـامي”؟ حصل إيه لكل دا؟.
صرخ فيه بإنهيارٍ وإنفعالٍ جمٍ مصحوبٍ بنظراتٍ مشتعلة كما الجمر وكأن أحطاب القرى تأججت بيها النيران المُضرمة بداخل صدره:
_ابن ***** خد “نـادر” وخد كل حاجة عنده حتى حسابه في البنك، طلع مرتبلها من بدري وفتح عليا النار مع “نـزيه” اللي مصمم ياخد حق بنته بعد اللي البيه حيلة أمه عمله، قولي أهدا إزاي ولا أجيب عقل منين وأنا كل يوم في فضيحة شكل ومشكلة أكـبر؟ “نـادر” بيحط صوابعي تحت ضرس “يـوسف” والتاني ما صدق رسمله دور الحنية، “يـوسف” عمل اللي عيشت عمري كله خايف منه، وكان الحل إننا نقتله، بس أنتَ مرضيتش.
شمله “عـاصم” بنظرةٍ كريهة ثم أندفع بصوتٍ حاد يهدر في وجه رفيقه كأن النيران توقدت فيه هو الآخر:
_هي كل ما حاجة تحصل تقول كنا نقتله؟ نقتل مين؟ دا كان عيل صغير لسه، آه أنا عندي مشكلة معاه لأنه نفس حماقية أبـوه، بس مش لدرجة أقتل عيل، وأنتَ بنفسك حاولت قبل كدا وفشلت، سيب “نـادر” أنا هرجعه بطريقتي ليك من تاني، وسيبك من “يـوسف” علشان دلوقتي إحنا مش قده، دا واحد معاه “نَـعيم الحُصري” ومعاه “عبدالقادر العطار” يعني الاتنين دول عندهم جيوش تنهش لحم اللي يقرب منهم، متتهورش وتعمل حاجة تخليك تخسر تاني، ابنك أنا هرجعهولك تاني.
تنهد “سـامي” يُهديء من روعه قليلًا ويُطفيء نيران الغليون المتقد بداخله ثم هبط بجسده فوق الأريكة يمسح وجهه بينما “مـادلين” فوقفت فوق الدرج تتابع ما يحدث بعينين لامعتين بوميض التشفي الخالص وهي تلتقط هذا المشهد وأرسلته لـ “يـوسف”، فكُرهها لذاك البغيض تضمره في قلبها منذ أن خطت بقدميها مقر العمل ووجدته يحاول إبعادها عن “عـاصم” لذا كانت تشعر بالنصر الخفي وكأنها هي من استردت الحق لنفسها بنفسها..
كتبت فوق المقعد رسالة تمازحه بها ثم تحذره:
_ريحة شياطه واصلة لعندك أكيد، بالشفا عليه هو يستاهل فعلًا كل خير، فهم “نـاجي” المحامي بس يفضل على نفس كلامه لحد ما الإجراءات تخلص لأنه أكيد هيحاول يتصرف تاني، متنساش دي.
_تمام، متقلقيش أنتِ.
هكذا أرسل لها ثم ولج المِصعد لكي يتوجه إلى شقته ينعم بالنوم ولو قليلًا بعد يومٍ أتعبه وواجه به الكثير والكثير وقد نجح في إخفاء كل شيءٍ يؤلمه، وما إن وصل عند أعتاب شقته وصله صوت الصيحات والغناء فعقد حاجبيه وتوجه نحو الأعلى ليجد أصوات النساء عالية وقد وجد الباب مُغلقًا لكنه ميز صوت غناء زوجته المرمري، وصوت ضحكة “ضُـحى” العالية بصوتٍ رنانٍ جعله يبتسم ساخرًا ثم نزل شقته وهو يسخر من نعيم الجهل الذي يعيش فيه البعض تاركين خلفهم البعض يُعاني في جُب شقاء المعرفة..
في الأسفل توقفت سيارة “أيـهم” وقد سبقه شقيقه نحو البيت برفقة الصغير لكي يُطمئن والده فيما أنتظر “أيـهم” زوجته وشقيقته ومعهما “جـنة” أيضًا وما إن نزلن له أبتسم هو لهن وهتف يمازحهن بقوله:
_فرفشتوا؟.
كتمت “نِـهال” ضحكتها وكذلك فعلت شقيقته فيما استأذنت منهم “جـنة” بالرحيل لكنه أنتبه لها وهتف بثباتٍ:
_استني هوصلك مش هينفع تمشي لوحدك دلوقتي، أركبي يلا معاهم علشان والدك برضه ميزعلش لما ترجعي لوحدك كدا بليل.
أومأت موافقةً ثم جلست بجوار “آيـات” في الخلف فيما أقترب من زوجته يسألها بنبرةٍ ضاحكة رغم محاولته لوأد تلك الضحكة:
_فرفشتي يا “نِـهال”؟.
أومأت برأسها موافقةً فيما مال هو يسألها بنبرةٍ خافتة:
_طب هينوبنا حظ من الفرفشة دي؟ ولا هو أنا ماليش نفس خالص يعني وهفضل في نكد مع الذكريات؟ والله أنا لُقطة حرام تضيعيني منك، استثمري فيا طاقتك أحسن، أنا أولىٰ من الغريب.
أدهشها بحديثه لكنها أشارت على كلتا عينيها وهتفت تُجاريه في الحديث بقولها المرح بعض الشيء:
_عيوني ليك يا “أيـهم” هو أنا أقدر أقولك لأ؟.
أدهشته بما تفوهت به ثم تركته وفتحت باب السيارة تستقر فوق المقعد المجاور له وقـد جلس هو وأدار المُحرك ثم أنتبه لشقيقته في الخلف يهتف بتحذيرٍ خفي:
_خلي بالك بس يا “آيـات” علشان اللي بيرجع في كلامه مناخيره بتكبر أوي، أنا قولت أعرفك بس علشان متنسيش.
عقدت “آيـات” ملامحها وجعدت جبينها باستنكارٍ لما يتفوه به وقد لمحت “نِـهال” مقصده من الحديث من خلال نظراته فيما قاد هو السيارة بعدما ومض بجفنه لزوجته خفيةً دون أن يلتقط غيرها حركته تلك وكأنها تورطت مع هذا المُتحذلق.
__________________________________
<“ليسوا أصحاب الحق، أصحاب الحق لا يتحذلقون”>
في بعض الأوقات يصبح لكَ حقًا دون أن تعرفه أنتَ، حينها تصبح الحقوق واجبًا لكَ وفرضًا على من سلبها أن يردها لكَ، لكن ما يساور العقل حينها من شكوكٍ هي تلك التساؤلات التي تساور العقل؛ هل كل الحقوق أهلها يستحقونها؟…
أنتهت الرحلة في وقتٍ قياسيٍ وقد عاد الإثنان من محافظة الإسكندرية وقد توجها نحو شقة “نـجلاء” بعد منتصف الليل معهما الطعام الخاص بهما وقد أرسل “تَـيام” رسالة لأمـه يخبرها بقدوم صديقه معه وقد تحدث “بـيشوي” بضجرٍ من العمل والتوقيت وكل شيءٍ:
_ياريتني ما قولت لأمي إني هبات هناك أهي مشيت وراحت تبات عند “ڤـيولا” يلا يا عم خلينا ناكل علشان أنام، وأدي آخرة اللي يسمع لتاجر بعد كدا.
كان مُتذمرًا بسبب إضطراب سير العمل وإنتهائه في وقتٍ مُغاير للوقت الأساسي مما أوجب عليهما الرحيل لمحافظة القاهرة ثانيةً وقد خرجت “نـيڤين” من الشُرفة تَضبُط الحجاب فوق رأسها ثم هتفت بتهكمٍ لاذعٍ:
_خير؟ مش قولت إنك هتبات في إسكندرية؟.
أنتبه لها كلاهما وقد هتف “تَـيام” ببرودٍ ردًا عليها:
_وربنا أراد ويسر علينا الشغل وجينا، يبقى نبات ليه هناك بقى؟ بعدين ماما فين؟ هي مبتنامش وأنا مش هنا وأنا كلمتها وقولتلها إني راجع تاني.
سخرت منه بملامحها وشملته بنظرة تقليلٍ ثم نظرت لرفيقه وتحدثت بنفس التهكم اللاذع لكن تلك المرة بإهانةٍ صريحة لهما:
_وهو دا يسمحلك تجيب في البيت اللي أنتَ عاوزه وتقلبها تكية؟ مش المفروض تراعي صحاب البيت وإنك مالكش الحق فيه زي الأول؟ إيـه عذرك دلوقتي؟ الأول وماكنتش تعرف لكن دلوقتي خلاص عرفت إنك مالكش حق هنا، لو عندك دم أمشي خلاص، هي مُحرجة بس أنا مبتحرجش.
كانت تتحدث بكرهٍ صريحٍ له ولم تُبال بما فعله حديثها في قلبه لكنه قـرر أن يُناطحها بنفس طريقتها فرفع صوته يهدر بإنفعالٍ ثأرًا لكرامته المهدورة:
_أنتِ مالكيش إنك تتكلمي أصلًا، غصب عنك وعن الكل هي أمي ومش هسيبها ولو كنت ناوي بعد كلامك دا مش هسيبها وأنتِ مالكيش حق تتدخلي بيني وبينها، هي أمي ولو أنتِ مش مقدرة دا أنا مقدره، وغصب عن عيلتكم كلها مش هسيبها.
رأته يدافع ويتحدث وحينها طالت قلبها نيران الغيظ منه فضحكت تستهزيء به ثم صفقت بكلا كفيها معًا بحركةٍ سوقية وتحدثت بنبرةٍ تهكمية عالية:
_لا يا راجل؟؟ صدقتك يا واد كدا، أنتَ قاعد بس لحد ما تضمن إنها تسلمك كل حاجة وتديك الورث والفلوس والشقة وتبقى كوشت على كله خلاص، عمال تلعب في دماغها وتعلقها بيك علشان تسرسب منها اللي معاها كله، بس على مين يا بابا؟ دا أنتَ قبل ما تاخد جنيه واحد هكون خالعة عينيك، مش برضه بابا طلع راجل مبسوط وغني؟ مروحتلوش ليه؟ ولا هو قالك لم الغَلة وتعالى ويبقى زيادة الخير خيرين؟.
بالطبع هي كغيرها من البشر لا يهمهم إلا الأموال وسوء الظن في الآخرين خوفًا على الأموال والنقود وقد زاغ بصره وظل يُتابعها بعينيه مصدومًا كمن تلقى ضربة فوق رأسه من الخلف وقد وقف “بـيشوي” بصمتٍ يحاول تمالك نفسه قبل أن تمر الدقائق ويصفعها فوق وجهها، وإبان حرب النظرات تلك خرجت “نـجلاء” من الداخل وحينها توجهت الأنظار نحوها وهي تسأل بنبرةٍ جامدة:
_هو إيـه اللي بيحصل؟ فـي إيه.
خشى عليها أن تعلم بما حدث فأقترب منها يهتف بلهفةٍ:
_مفيش يا ماما، هي خالتو بس مستغربة إننا رجعنا وكانت بتهزر معانا وصوتنا علي شوية، أدخلي كملي نوم أنتِ بس، ولا أقولك أقعدي كُلي معانا إحنا جايبين أكل حلو وعامل حسابك.
قلبه لازال بريئًا يتراجع عن تهور القرارات بمجرد نظرةٍ ممن تسبب في حزنه وقد تدخلت “نـيڤين” تهتف بنفس الطريقة التي لا تُحتمل حتى من مجرد النطق:
_لأ يا شيخ؟ تصدق إنك حرباية بتتلون ياض أنتَ؟ أكيد مش هتقولها إنك شتمتني وغلطت فيا وعليت صوتك كمان، طبعًا هتخاف تغضب عليك وتحرمك من اللي أنتَ حاطط عينك عليه، بس دا بعينك قبل ما تطول قشاية واحدة بس، ويا أنا يا أنتَ هنا بقى.
ألتفت لها بعينين مُتقدتين وهتف بنبرةٍ هادرة:
_ما تخرسي في ليلتك دي، قولتلك مش عاوز أسمع صوتك ومتدخليش بيني وبينها، وبتتكلمي بأنهي أصل؟ وأنتِ كل اللي همك الفلوس وخلاص، هاتيلي مرة خوفتي عليها علشان هي أختك ولا علشان بتحبيها، كل كلامك علشان الفلوس واللي عندها وبس، يا ستي خديهم وأنا هديكِ قدهم عشر مرات بس مشوفش وشك تاني في حياتي…
قبل أن يُكمل حديثه أتته صفعة من كف “نـيڤين” فوق وجهه تُصمته بها وقد توسعت عيناه ما إن طال كفها شطر وجهه وأرتجف قلبه يستشعر قوة الإهـانة التي تعرض لها وقد صرخت “نـجلاء” وهي تُعنف شقيقتها وتدفعها بعيدًا عن ابنها وحينها تدخل “بـيشوي” يسحب رفيقه ثم هدر في وجه “نـجلاء” بغضبٍ:
_أنا كل مرة كنت باخد صفه هو علشان بحسه بيتعب نفسه وسطكم، بس بعد اللي حصل دا أبقي قابليني لو شوفتيه تاني، ولولا العيبة ولو كانت أختك دي راجل كنت رديت القلم عشرة فوق وشها، بس أنا هعمل بأصلي، وأنتِ لما تفوقي لنفسك وتقدري قيمته أبقي دوري عليه تاني، ودلوقتي أبوه أولى بـيه منكم، والله يعينكم بقى لما يعرف.
تهديده كان سلاحًا واراه خلف كلماته الغاضبة ثم سحب رفيقه الذي هربت عبرات من بين أهدابه كأنه صغيرٌ تشرد ليلًا أسفل المـطر ولم يجد المأوى الذي يلتحد بـه، كانت مشاعره مُتصدعة كنهرٍ جارفٍ تصدع باطن الأرض أسفله وأدىٰ إلى شقه بطريقةٍ أخرجت الدماء من باطن الروح..
سار مع رفيقه دون أن يعي لنفسه ولا لأي شيءٍ إلا الإهانة التي تلقاها على يد تلك المرأة ثم أتت الذكريات كضيفٍ ثقيل الوجود تذكره بكم الإهانات التي تعرض لها منذ صغره وتواجده في تلك العائلة وهو يعامل بأصله الذي لا يعلمه سواهم وأنه مجرد فتى لقيط تعطف عليه شقيقتهم..
في الأعلى ظلت تبكي وهي تصرخ باسمه من فوق الدرج وتتوسله ألا يرحل عنها وقد ألتفتت لشقيقتها تصرخ في وجهها بإنهيارٍ:
_ليه كدا حرام عليكِ، دا أنا ما صدقت أرتاح لما يعرف الحقيقة وبرضه يفضل معايا، ليه بتحرميني منه يا “نـيڤين” أنا ماليش غيره وهو لسه ميعرفش حاجة عن الدنيا دي غيري، دا واحد ساب أبوه علشاني، منك لله علطول مكرهاه في عيشته.
سحبتها الأخرى لداخل الشقة ثم أغلقت الباب ونطقت بإندفاعٍ بلغ أشده في الصدى والوصول:
_ما كفاية بقى يا “نـجلاء” فوقي لنفسك، سيبتي العيلة وسيبتي كل حاجة علشانه حتى أخواتك نفسهم، خلاص دورك خلص كدا، هو لقى أبـوه وخلاص مش هيفضلك عليه، وفلوس أبـوه مش هتخليه محتاجلك تاني، أكبري بقى وبصي حواليكِ، هو مشي من هنا مش هيرجع تاني هنا، فوقي بقى، وعلى فكرة هو لو عنده دم بجد مش هيرجع تاني هنا، لو رجع يبقى كل همه الشقة والفلوس…
توسعت عينا “نـجلاء” وهي تستشف حقد شقيقتها على ابنها وقد أولتها ظهرها وهي تقول بصوتٍ مختنقٍ:
_الصبح تروحي لجوزك وعيالك يا “نـيڤين” وموضوع ابني مالكيش دعوة بيه، إن شاء الله ياخد روحي كمان معاه بس يبقى كويس، ولو على اللي عندي مبقاش محتاجه خلاص، أنا اللي محتاجاه علشان أنا اللي ماليش غيره، عن إذنك يا أختي يا كبيرة.
تركتها وولجت غُرفتها ثم أغلقت الباب وهي تبكي فوق الفراش مع نفسها وكأنها تُدرك لتوها أنه وبكل آسفٍ ضاع منها وتفرقت طرقاتهما سويًا وتقطعت السُبل التي تألفت فيها القلوب مع بعضها رغم غُربتهما عن بعضهما من الأساس، أنتحبت وتقطعت أنفاسها باكيةً وهي تتمنى أن يعود لها رغـم أنها في كل مرةٍ كانت تُخطيء وتتمادى بسبب حبها لعائلتها.
بعد مرور الكثير من الوقت أوقف “بـيشوي” سيارته أمام بوابة بيت “نَـعيم” وقد تحدث مع “مُـحي” الذي وقف في إنتظارهما وما إن وصلا له أقترب منهما واستنبط حال شقيقه فسأل بحيرةٍ ساورت عقله:
_هو ماله يا “بـيشوي”؟ حصل حاجة؟.
حرك رأسه نفيًا ثم هتف بثباتٍ يُطمئنه:
_متقلقش هو بس تعب شوية بسبب السفر والشغل فقولت أجيبه هنا أحسن علشان والدك ميقلقش عليه، خلي بالك منه وحاول تخليه ياكل علشان هو ماكلش، عن إذنكم.
سلمه رفيقه الذي أمتن له بنظراته ثم بادله الوداع وقد لاحظ شقيقه أنه ليس على ما يُرام وقبل أن يسأله هتف”تَـيام” بصوتٍ مُتعبٍ كحال روحه المصفوعة وكبريائه المكسور:
_أنا نفسي أنام ممكن؟.
أومأ له شقيقه موافقًا ثم أرشده لحيث غرفته وما إن ولجها فتح له الخزينة وأخرج منها ثيابًا بيتية ثم أشار لحيث المرحاض وهتف بهدوءٍ تام وحنوٍ يظهر فقط لأجل شقيقه:
_أدخل غير هدومك وألبس الترينج دا وأنا هنا معاك أهو هانزل أسخنلك الأكل وآجي، تحب أجيبلك علاج أو أقيسلك الضغط؟ يمكن دا اللي تعبك كدا؟.
حرك رأسه نفيًا ثم ولج المرحاض وبعد دقائق خرج منه يجلس فوق الفراش وهو يتذكر صدى الصفعة فوق وجهه وكيف أصابت شموخه وسمو نفسه بتلك الطريقة التي كانت مثل القشة التي انتصفت في ظهر البعير وقد ولج له “مُـحي” من جديد وهتف يمازحه بقوله:
_أنا عمري ما جيبت كوباية مياه لنفسي، تخيل علشانك سخنت الأكل وغرفته كمان، تصدق برضه فكرة أفتح بيها كلام مع الستات بعد كدا يمكن تجيب أسرع شوية.
أبتسم شقيقه مُرغمًا على ذلك وكأن الضحكة تُزاحم ملامحه المُقتضبة بحزنٍ ثم هتف بأسفٍ لكونه لن يستطع تناول الطعام:
_تسلم إيدك بس أنا ماليش نفس والله، معلش بقى تعبتك وصحيتك، بس أنا حاليًا عاوز أنام بس مش عاوز حاجة تانية والله، ينفع أنام بس شوية وبكرة ناكل مع بعض.
نحى “مُـحي” الطعام جانبًا ثم سأله بترددٍ:
_طب ينفع أبات معاك هنا النهاردة؟.
_ياريت.
هكذا جاوبه “تَـيام” بلهفةٍ يُرحب بإقتراح شقيقه الذي أراده هو وقد ركض له “مُـحي” حتى اهتز الفراش وهتف “تَـيام” ساخرًا بضحكةٍ مكتومة:
_بالراحة يا أخي السرير عليه أقساط.
ضحكاتهما علت في الغرفة وقد ضمه له “تَـيام” الذي تناسى حزنه إلى حـدٍ ما ثم طوق شقيقه بكلا ذراعيه والآخر وضع رأسه فوق كتفه ينعم بالسلام مع شقيقه ويسلب من الوقت ما سبق وسُلِبَ منه، الأخوة دومًا حتى لو كان الفارق بينهما بوسع السماء والأرض يصبحون ملجأ الأمان في أكثر لحظات الإحتياج، كعضوٍ واحدٍ إذا اشتكى منه جزءٌ تألمت لأجله بقية الأجزاء.
__________________________________
<“ماذا أفعل إن كنت لا أعلم ما يتوجب أن أفعل؟”>
يُقال أن الضجيج هو الصوت الغير مرغوب فيه، فالأمر يُصبح إجبارًا على المرء وإلزامًا له، لذا في بعض الأوقات لا يُحتمل الضجيج الذي لا يتوقف بداخل الرأس، ولا الأصوات التي تنشب عنها فوضى عارمة كأنها ثورة غير سلمية ينتج عنها الخراب في أرجاء المدينة التي كانت عامرة ثم طالها الخراب…
في صبيحة اليوم الموالي بعد شروق الشمس مباشرةً..
خرج “يـوسف” من المسجد بعد أداء فريضة الفجر ثم توجه إلى “جـواد” مباشرةً بعدما علم أن هذا هو الوقت المناسب لكليهما بسبب الأعمال المنكوبة فوق كاهلهما، وقد وصل إلى هناك بعد ظهور الشمس علنيًا بلمعتها الذهبية الفاقعة وقد ولج العيادة له، الأمـر تلك المرة كان أسهل وأيسر من السابق حيث أعتاد على العيادة سريعًا وولج الغُرفة وجلس في الموضع المخصص له فسأله الآخر بثباتٍ وطريقةٍ أقرب للعملية:
_أظن أنتَ من نفسك فاهم إنك محتاج للمكان دا، فبراحتك خالص أنا بسمعك أهو وعاوزك تتكلم وتقول كل اللي نفسك فيه وأي حاجة تخطر على بالك، وبعدها أنا هسألك.
تنهد “يـوسف” وأغمض عينيه ثم هتف بضياعٍ:
_إمبارح أنا عملت حاجات كتير أوي، بس صحيت من النوم مش راضي عن أي حاجة من دي، استغربت نفسي أوي، أنا كنت واخد قرار إني لا يمكن أساعد “نـادر” وساعدته، وقولت لا يمكن أسمع لـ “فـاتن” وأساعدها بس إمبارح أنا اتصرفت كل التصرفات من غير وعي، مجرد ما أتعصبت عملت اللي عملته كله، والصبح كل حاجة أتكررت قدامي كأنها كُرباج بيجلدني، السؤال هنا إزاي أرضي اللي جوايا كلهم، أنا دلوقتي مش طايق وش “نـادر” وإمبارح كنت بساعده!! أنتَ مُتخيل أنا بيحصل فيا إيـه؟..
كان ضائعًا وتائهًا وسط نفسه، الحرب عاتية عليه وهو لا يملك لها سلاحًا، الطاقة لديه فرغت تمامًا وأضحى مستنزفًا ككلٍ، الكثير والكثير أصابه وعاد له برفقة الذكريات وقد حمحم “جَـواد” بقوةٍ ثم داهمه بسؤالٍ لم يتوقعه:
_قولي يا “يـوسف” أنتَ لسه فاكر أصعب لحظة عدت في حياتك؟ أكتر موقف لسه مخليك بتتكهرب لما تفتكره.
أبتلع “يـوسف” لُعابه وأغمض عينيه يهرب من تلك الذكرى التي تشكلت كلوحة حزينة في عينيهِ ثم هتف بصوتٍ مبحوح:
_اليوم اللي صحيت فيه على صريخ “فـاتن” لما خبر الحادثة جـه، كنت نايم ساعتها علشان عندي إمتحان وصحيت الفجر على البيت كله صريخ وصويت والدنيا مبهدلة، كنت فاكره حلم، أكيد دا حلم يعني، لحد ما دخل “عـاصم” وقف قصادي وقالي أبوك وأمك وأختك ماتوا في الحادثة، وأنتَ مبقاش ليك حد، لحد دلوقتي أنا مش ناسي شكلي وأنا بحرك راسي مش مصدق وبجري وأصرخ يمكن يكون مقلب زي ما بابا كان بيعمل ويهزر معايا، كل يوم كنت بقعد بليل مستنيهم يرجعوا، مستنيهم يحضنوني، مستني حد منهم ييجي ياخدني وأموت بعدها زيهم، وحاولت كتير أموت نفسي بس نفسي كان طويل، أنا مموتش بجسمي، بس روحي ماتت كل يوم وأنا معاهم لوحدي..
_وأكـتر مرة حسيت فيها بكسرة نفس لما تعبت وفضلت أرجع وسخنت منهم و”حـكمت” ساعتها خليتهم أدوني الدوا وسابوني، أفتكرت بابا قبل ما يـموت بأسبوع تقريبًا كنت تعبان برضه زي كدا بس هو فضل حاضني لحد الصبح، وبعدها قُمت جيبت الهدوم من الدولاب علشان أنام فيها كأن حد بيحضني، يمكن مش دول أصعب حاجة، بس إحساسي فيهم مش بنساه ولا هقدر أتخطاه، أنا لحد دلوقتي….
تهدج صوته وظهرت الغصة في منتصف الحلق فابتلعها وهتف مُكملًا بتعبيرٍ عن مخاوفه:
_لحد دلوقتي بخاف لسه، وكنت خايف أجيلك هنا تقولي إني مريض بالوهم وإن مفيش “غَـالية” ولا “قـمر” ولا حتى “عـهد” وإن دول مش موجودين أصلًا غير في خيالي أنا، ولحد دلوقتي لسه بشكك في وجودهم علشان كدا مش بقبل فكرة إني مريض، لأن لو وجودهم دا مرض مش حابب أخف منه.
فهم “جـواد” سببًا من أسباب هروبه مؤخرًا وحجم التشتت الذي أصابه وقد ترك له مساحة كافية ووافية للتعبير وحينها تنهد “يـوسف” وحرك رأسه نحو “جـواد” يسأله بإضطرابٍ جلي:
_هما موجودين صح؟.
أبتسم له “جـواد” وراوغه بقولهِ:
_فلنفترض إنهم وهم، هتعمل إيـه؟.
تبدلت تعابير “يـوسف” ورفع حاجبه يهتف بوقاحةٍ:
_هكسر عضمك علشان أنتَ السبب.
كتم “جـواد” ضحكته ثم أعتدل في جلسته ونقل حديثه لخط الجدية حيث هتف بنبرةٍ عملية ثابتة يزيح بها مخاوفه:
_أولًا هما مش وهم، سواء والدتك أو أختك أو حبيبتك فهما مستحيل يكونوا وهم، هما ناس طبيعية عايشين معاك بيشاركوك يومك وحياتك عادي، دي فكرة مزروعة في عقلك الباطن اللي بقى ليه سُلطة في حياتك تخليه يحركك، فدي فكرة محتاجين نلغيها تمامًا، بإيه بقى؟ إنك تزود مساحة دورهم في حياتك، بحيث يكونوا رادع لمخاوفك ويكونوا وسيلة تمحي تتحكم بيها في إنفعالاتك..
استحوذ بكلماته على انتباه “يـوسف” الذي أنصت له بأذنيه وأمعن له التركيز بعينيه وكانت ملامحه تسأل بكلمةٍ واحدة فقط وهي “بمعنى” وكان الآخر فصيحًا بما يكفي لكي يلتقطها فجاوب مُفسرًا لسابق حديثه:
_يعني مثلًا لو قولنا من بين كل الأسباب اللي بتعاني منها في إضطرابك السبب دا ياخد نسبة ٣٥ ٪ في سبب إنفعالاتك وهي إن الفكرة دي عمالة تدور في راسك وتشغلك، فالحل إنك تستخدم الواقي منها وتهاجمها بدليل قاطع، يعني لو مثلًا في القانون قاعدة بتقول “إن البينة على من أدعي” يعني اللي بيتهم حد بحاجة هو اللي عليه يجيب الدليل، يبقى أنتَ تخلي عقلك يجيب دليل قاطع وينفي بيه الوهم دا، زي إنك تزود وقتك معاهم، تشحن ذكرياتك وسطهم، تديهم وقت كافي تقعد وسطهم وتسمع مشاكلهم وتحلها معاهم، أو حتى مجرد مشاركات عادية عائلية حتى لو مشاكل بينك وبينهم زي أي أسرة طبيعية، دا هيدي للعقل الواعي فرصة إنه يرد على عقلك الباطن، وبكدا نكون قضينا على أهم حاجة بتشتتك، النصيحة التانية بقى، إنك الفترة دي والجاية تحديدًا تفضل وسطهم أكتر، ومتسيبش المكان وتبعد، وهتفهم ليه بعدين..
لم يرد المُزايدة فوق كاهله بل أراد أن يُعالجه بطريقةٍ نسبية وقد سحب دفترًا من جواره وهتف بثباتٍ يتنافى مع مطلبه:
_ممكن تشتمني حاليًا أو تنتقدني؟.
عقد “يـوسف” حاجبيه ثم رفعهما ما إن أدرك المطلب وسأله باستنكارٍ رافقته لمحة سُخرية أقرب للتهكم:
_أنتَ مجنون يا “جـواد” عاوز تتهزأ ليه؟.
سحب الآخر نفسًا عميقًا ثم دون الشتمة وطالبه بالمزيد قائلًا:
_معلش تاني، ولو عاوز تقول أي حاجة تعيب فيا قولها.
أعتدل “يـوسف” فوق المقعد المفرود ليصبح في وضع الجلوس ثم هتف بسخريةٍ يُقلل من الآخر:
_فيه إنك دكتور فاشل، أرتاحت كدا؟.
ضحك الآخر وأومأ له موافقًا ثم دون الكلمة ووضع الدفتر نُصب عيني الآخر الذي رفع كفه يمسح فوق وجهه ثم سأله بنفاذ صبرٍ من تلك الألاعيب السخيفة التي تحتاج عقلًا ساذجًا:
_دا إيـه بقى؟ في تالتة تالت إحنا؟ أشتمك تردلي الشتيمة في ورقة؟ ودي أروح بيها فين؟ عند الأخصائية الإجتماعية؟.
ضحك “جـواد” على رد فعله الحانق ثم أضاف مُفسرًا كطبيبٍ ماهرٍ فيما يفعل:
_أنا بستخدم غضبي منك بطريقة تانية، يعني دلوقتي أنتَ غلطت فيا وقللت مني وأتهمتني بالفشل رغم إنك عارف إني عكس الصفة دي تمامًا، وعلشان كدا قولتها تخرج بيها جزء من غضبك، أنا كان ممكن أنفعل وأرد عليك بغضب برضه، بس أنا خرجت الكلمة بأقرب وسيلة دفاعية، أنتَ بقى بتحب الكتابة فممكن تكتب مخاوفك كلها في ورق يعني أبدأ مثلًا بورقة أكتب فيها إنك خايف أختك تطلع مش موجودة وأكتب مشاعرك ناحيتها، بعدها أيد دا كله بوجودك معاها، تتكلموا وتضحكوا وتهزروا، ولو لاقيت نتيجة كررها مع والدتك ومع كل حد فيه خوف بيواجهك ناحيته..
رمش “يـوسف” مستنكرًا وباغته بسؤالٍ غير متوقعٍ:
_وهو دا ليه علاقة بحالتي أصلًا ولا مجرد طريقة لتحدي الخوف وخلاص، مش قصدي تقليل منك، بس دا ليه علاقة بالإضطرابات اللي عندي أصلًا؟.
كان السؤال شبه مهتزًا وكأن صاحبه يخشى كثرة المحاولات وقد أبتسم له الآخر ما إن استشف قلقه وحرصه على حالته وعلى علاجه الذي كان يهرب منه:
_دا أول نوع علاج هبدأ بيه معاك، اسمه
“علاج مستند إلى تعقل” أو بلغة علم النفس اسمه (MBT) دا علاج مهم جدًا بيساعدك تلاحظ الأمور وتفهمها كويس بمنظور تاني بدل اللي متخزن في عقلك، بيخليك تشوف الأمور والأوضاع من صورة تانية تخالف الصورة الموجودة وبتظهر لعقلك وتهاجم أفكارك، ودا هدفه يولد عندك التعقل قبل التصرف، يعني بدل التصرفات الهوجائية اللي بتكون عنيفة منك، تكون فيه تصرفات تانية أهدا شـوية مُرتبة عن اللي قبل كدا، ودا لأن السبب اللي مخليك تتصرف بعنف اساسه صورة غلط واخدها للأمور، تمام؟.
أومأ “يـوسف” بتفهمٍ له وقد ألتفت “جـواد” يسحب من خلفه ورقة يدون بها العلاج وتفاصيله ونفس المطالب الذي أرادها منه ثم أخبره بما يتوجب عليه فعله وحينها تحرك “يـوسف” من موضعه وأنتصب في وقفته يسحب نفسًا عميقًا فأوقفه الطبيب مستفسرًا:
_قولي أحسن دلوقتي؟ لما أتكلمت أرتاحت شوية؟.
كان يعلم الجواب مُسبقًا حيث لاحظ هدوء كفه من الإرتجافة وصفاء عينيه الغائمتين قبل مجيئه، كما لاحظ الاستقرار الذي أضحى واضحًا أكثر مما سبق على نفسهِ، وكل شيءٍ تبدل عن سابقه لكن “يـوسف” أبتسم له بصفاءٍ ونطق يؤنب رأسه حينما أشار عليها قائلًا:
_منها لله دي هي اللي كانت معطلاني.
أنهى حديثه ثم رحل بعد الإتفاق على الموعد الثاني وخرج يتوجـه نحو عمله بعدما شعر بشعاع الأمل يُضاء في داخله شيئًا فشيءٍ وخاصةً حينما أختص الأمـر بهاجس الخوف الأكبر الخاص بعائلته التي فكرة تواجدهم أضحت وحدها تؤلم روحه ونفسه.
__________________________________
<“لن يسكت عن الحق إلا الجبان”>
بعض الأشخاص يتولد لهم الشر بداخل أنفسهم كارهين غيرهم وما يأتيهم من خيرٍ، ليس لشيءٍ واحدٍ فحسب، وإنما كارهين فكرة التفوق عليهم في نفس الوقت الذي يفتقر هو فيه للجُهد، هؤلاء هم اللذين يفرضون الحروب على غيرهم ومتمسكين بالحروب لأجل نفسهم، ولك أنتَ التخيل من الرابح في حربٍ طرفيها مُقاتلٍ مُجتهدٍ ومرتزقة مُتسكعٍ..
في مقر الجمعية التعاونية الخاضعة لاسم المسجد الموجود بحارة العطار كان “عـبادة” هُناك يقف وسط حقائب بلاستيكية ومنتجات غذائية خاصة بالتبرع للمُحتاجين وقد ولج له رجلٌ كبير السن لحيته طويلة بيضاء وقد هتف يؤنبه بقوله:
_يا “عـبادة” يابني أنتَ أمين على الحاجات دي، دي رزق عباد ومسئول عنه عباد الحاجة دي متسلمتش والوقت اتأخر، شوف العناوين وحد يروح يوصلهم يابني، إنما كدا حرام والناس مستنية.
طالعه الرجل بفظاظةٍ ونطق بتواقحٍ في الكلمات:
_وأنا هلف عليهم ولا إيـه، إيه الدلع دا؟ المفروض ييجوا هنا ياخدوا الحاجة بتاعتهم، بعدين أنا مش ذنبي إنهم مش عارفين المواعيد بتاعتهم إيـه، المفروض كل واحد يدور على مصلحته يا شيخ “صَالح” أديك شايف كام حاجة فوق كتافي.
تعجب الرجل من هجومه وشعر بالضيق يستولى على رحابة صدره كأنها مساحة خضراء واسعة يزحف فوقها خراب الإعصار، وقد نطق بغلبٍ على أمـره:
_يابني الله يهديك، “أيـوب” الباشمهندس اللي وراه مشاغل بالكوم كان بيروح لحد الناس بنفسه ويديهم الحاجة وعمره ما سمح ليهم يتهانوا ولا يحسوا بإهانة وقلة قيمة، حرام عليك دا رزق ناس بتعيش عليه من الشهر للشهر ولُقمة حلال بياكلوها، أنا عارف موظفين إيـه دول؟.
الحال برمتهِ لم يُعجب، تلك المساجد التي تُحرم على أهلها وتصبح مجالًا لغيرها، الأمر مؤخرًا أضحى ملحوظًا في المُتاجـرة بالخير وباسم الخير لسبيل المصالح الشخصية وقد أغتاظ “عـبادة” ما إن ذُكـر اسم “أيـوب” أمـامه ونطق بفظاظةٍ تزايدت عن سالفها:
_وأنا ماليش دعوة بحد يا شيخ “صـالح” اللي عاوز حاجة ييجي ياخدها نفسه أنا ورايا مصالح وأكل عيش وقاعد مستني، وبعدين لما هو “أيـوب” خَير أوي كدا، شالوه ليه وجابوا حد مكانه؟ إلا إذا كان غلطان في حاجة؟ بعدين هو هيعمل كدا لله في لله؟ أكيد مستفيد كتير طبعًا.
في تلك اللحظة أتاه صوتٌ من حيث لا يَحتسب وخاطبه بقسوةٍ وإندفاعٍ قائلًا:
_مستفيد دعوات الناس اللي أمثالك مش بيطولوها ولا بيشوفوها، بعدين سيادتك مستغرب ليه إن أخويا راجل محترم وشالوه من هنا؟ ماهو علشان أمثالك يفضى ليهم الأماكن دي ويسوقوا فيها، بس ملحوقة الناس قدموا فيك شكاوي وبما إني هنا مسئول زيي زيك فحضرتك كتر خيرك مالكش مكان هنا تاني، وحاجة الناس أنا هوصلها بمعرفتي، بس حضرتك متحول للتحقيق علشان تعرف كويس بعد كدا تقل أدبك وتغلط، وبالمناسبة، الحاجات اللي خدتها والفلوس اللي استلفتها بتاعة الغلابة برضه أتعمل تحقيق بيها، خلي عندك دم بقى وأمشي بدل ما ورب الكعبة أفضحك.
هذا هو صاحب الحق وهذه هي قوته، وهذا هو الابن الكبير في العائلة الذي سعى لأجل حق شقيقه وقد سقط قلب الآخر من محله ووقف تائهًا فيما هتف الشيخ “صـالح” بحزنٍ:
_شوف يابني، ربنا سبحانه وتعالى عالم ومُطلع، أنتَ مديت إيدك على فلوس الغلابة ومديت إيدك في أكلهم ورزقهم واستحليت الحرام، وروحت بلغت عن غيرك علشان يمشوه من هنا، بس صدقني ربك عادل، وأنتَ استهونت بنظرته ليك وأنا هقولك حاجة واحدة بس، العباد مش شايفين وفي غفلة، بس ربك لا بيغفل ولا بينام، روح الله يسامحك ويهديك، وأنا هستر عليك.
قبل أن يتحدث أوقفه “أيـهم” الذي أشار له بعلامة الصمت ثم فتح الباب الخشبي الصغير وأخرجه منه وقد تنهد بثقلٍ وألتفت للرجل يهتف بنبرةٍ أكثر ثباتًا:
_تسلم يا حج “صـالح” وكويس إنك عرفتني، أنا هوصل الحاجة للناس وبالنسبة لـ “أيـوب” هيرجع بعد يومين بالكتير، كلمتله حد تبعنا وهو قالي يومين الدنيا تهدا ويرجع تاني، ويارب ييجي موظف محترم وكتر خيرك إنك عرفتني إنـه بيمد أيده على حاجة الغلابة، أظن دي مش هقبلها طول عمري ولو مشي بضهره يتمنى نسامحه، إلا الحرامي.
ربت الرَجل فوق كتفه مستحسنًا شهامته ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
_والله يابني ما كنت رايد أفضحه، بس شكله ناسي إن دي فلوس يتامى وستات غلابة ورجالة عاجزة علشان كدا ساق فيها، إنما الحج “عبدالقادر” طول عمره هو بيته أهل أصول وكرم اللي يديه باليمين، ايديه الشمال متعرفهوش، وخليك أنتَ ماسك التوزيع والفلوس، و”أيـوب” يرجع مكانه تاني يأم بالناس، أنا عن نفسي بحب أصلي وراه وأحب الحارة وصوته بيرفع الآذان فيها، ربنا يبعد عنه المؤذيين وينصره على كل حاقد وظالم.
تنهد “أيـهم” ثم آمن خلف دعاء الرجل وأنتظر حتى وصله الكشف باسماء الناس الذي يتلقون المُساعدة من أهل الحارة ثم فهم ما يتوجب عليه فعله، وقد طلب رقم ابنه وأمـره أن يحضر له لمكان المسجد وبعد دقائق وصله “إيـاد” فأبتسم له والده وأشار على الحقائب وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_هستغلك وهتيجي معايا نوزع الحاجة دي لأهلها وأفرجك الموقع الاستراتيجي للحارة، إيـه رأيك في الفكرة دي؟.
ضحك له “إيـاد” وحمل الحقيبة فوق كتفه وهتف بشقاوةٍ مرحة يمازح والده بـها:
_عادي، كنت بروح مع “أيـوب” كتير وكل مرة كان بيعلمني حاجة جديدة، وقالي كل ما أحس نفسي هستكبر وأبقى جاحد على النعم، آجي أعمل خير وأوصله للناس، يلا أنتَ بس معايا علشان أنا عارفهم كلهم بيت بيت.
ضحك هو لابنه رغم دهشته من حديثه لكنه يعلم جيدًا السبب في ذلك فلولا وجود شقيقه معه وإسهامه في تربيته لابنه لما كان أصبح على ماهو عليه، لكنه أحسن صُنعًا حينما ترك له حُـرية التصرف كما يُـريد في ابنه لينشأ بتلك الطريقة الصالحة، ليصبح نسختين من والده وأيضًا يحمل صفات عمه.
__________________________________
<“كأن النيران حكمت على نفسها بالإنطفاء”>
لا تشغل عقلك بما لا يستحق أن تشغله ودع لنفسك منفسًا للحُرية فالنار تأكل في نفسها إن لم تجد ما تأكله، لا تَحكم على غيركَ بما لا تعلمه، وأتـرك يدك من ذنبٍ تقترفه وأبتعد عن طريقٍ إن كنت لا تعلم كيف تسير فيه تأثمه…
في بيتٍ كبيرٍ وسط غيره من المباني التي يتباهى بها ساكنيها في منطقةٍ راقية يظن من ولجها أنه خير من يقطن فيها يجلس “نـزيه” برفقة شقيقه الكبير صاحب المنصب الرفيع حكوميًا ويحتل مكانةً كُبرى وسط غيره من رجال الأعمال والسطوة والنفوذ وقد نطق بصلدةٍ يوبخ شقيقه قائلًا:
_مينفعش يا “نـزيه”!! بنتك غلطت وتصرفاتكم كانت غلط كلها، هو لو راح وقال موضوع إنها أجهضت نفسها دا هتبقى كارثة لأن دي جريمة بيتعاقب عليها، ولو أتكلم عن موضوع “يـوسف” وقال إن كان فيه حاجة بينهم هتبقى فضيحة لأن فيه كتير عارفين إن “شـهد” كانت مرتبطة بـ “يـوسف” أظن أنتوا تهدوا خالص الفترة دي، وبنتك ملهاش دعوة بحاجة خالص، وخليها تسافر يومين ولا حاجة، أقولك؟ هاتها مـع “نـورهان” بنتي الفترة دي وأهي الدنيا تهدا شـوية، بس أي تصرف من غير ما ترجـعولي أنا هقطع نفسكم، مش عاوز فضايح كل شوية.
وبخ شقيقه وأهانه ثم نفث هواء سيجاره وهتف بلباقةٍ عملية:
_وبالمناسبة صح، بالنسبة لشغلك أنا لسه معرفش هو مبلغ فين ولا مين بس لو قدرت أتصرف هعمل كدا، مقدرتش يبقى أنتَ برضه متتصرفش ولو كدا أنا جاهز أشتري اللي عندك قبل ما تخسر كل حاجة، وآخر حاجة تاني بنتك هتفضل تحت عينيا وفي بيتي أحسن، يا كدا يا مش عاوز منك تدخلني في شيء يخصك نهائيًا.
تنهد الآخر وأومأ له موافقًا وقد نزلت “شـهد” من فوق الدرج وخلفها الخدم يحملون أمتعتها وبجوارها كانت تنزل أمها وقد هتفت هي بثباتٍ:
_أنا جاهزة يا أنكل وكل حاجتي حضرتها.
أنتبه لها عمها وأشار لها أن تتبعه وقد ودعت هي والديها وخاصةً أمها ثم تحركت من البيت برفقة عمها الكبير حتى تهدأ الأوضاع عن تفاقمها الأخير بعدما قامت بنشر إعتذارٍ لطليقها وتحدثت أن السبب في ذلك سوء تفاهم نشب بينهما بفعل بعض الحاقدين، والآن هي تُساق نحو طريقٍ لا تعلم هي نهايته، فربما تكون بنفسها ذاهبة لأبواب النار..
__________________________________
<“المُتأذي لم يكن جزءًا من رَوحي، بل كان كل روحي”>
في بعض الأحيان يؤلمنا الجزء أكثر من الكُل، وتُتعبنا الروح أكثر من الجسد، لكن إذا كان المُتألم هو قطعة أخرى من الروح فحينها تموت الروح لأجل أعزائها ويفقد القلب ثباته، ليتحول وجيفه الفرح إلى رجيف الهلع والحزن..
لاحظ “نَـعيم” مجيء ابنه صباحًا وجلوسه معهما في البيت وقد تعجب كثيرًا مما حدث ونظرًا لحكمته استنبط أن هناك مجهولٌ يسير في قلبه ويُثير فيه القلق لذا أنتظر قدوم الشباب مـن العمل ثم جلس في غرفة مكتبه ومعه “تَـيام” الذي كان يشعر بالقلق من نظرات والده وقد هتف الآخر بثباتٍ:
_بص يا “تَـيام” أنا أبوك وأنتَ حتة مني، قدامك أهم كلهم مفيش واحد قدر يخبي عني حاجة حتى “إيـهاب” نفسه رغم كل الهيبة دي وخوف الناس منه بسبب قوته ودفاعه عن الحق بس عمره ما حط عينه في عيني وكدب عليا، “يـوسف” نفسه اللي عامل زي البحر الغويط بييجي عندي ويعري نفسه خالص، كلهم حتى أخـوك “مُـحي” بس أنا عاوزك تقولي مين مزعلك ومخليك متضايق كدا، أخوك قالي إنك راجع تعبان ومعاك “بـيشوي” وكلمته قالي إنك مخنوق والأفضل تقولي حصل إيـه بدل ما أعـرف أنا، هتكدب عليا؟ ولا لسه مش عاوز تأمنلي؟.
حديثه أحزن ابنه الذي شعر أن والده هو آخر الأماكن لديه مؤخرًا وقد هتف بلهفةٍ يستجديه حينما قبض على كف والده:
_متقولش كدا والله أنا ماليش غيرك وعمري ما هعتبرك غريب عني، بالعكس أنا لو فيه حاجة مزعلاني هقولك أنتَ علشان واثق إنك عمرك ما هترضالي الزعل، بس أنا مش عاوز أزعلك ومش عاوز الدنيا تكبر عن حجمها، صدقني أنا بخير.
لم يقتنع والده بحديثه وقد هتف بقوةٍ أكبر وهو يمسح فوق خصلاته العالية مُمررًا كفه فيها لتُضفي حنانًا فوق مشاعره:
_وأنا علشان كدا بقولك عرفني في إيـه، والله لو مش عاوزني أعمل أي حاجة بس أسمعك أنا عيوني ليك بس قولي مالك يا حبيب بابا.
أمام تلك الجُرعة الهائلة من الإطمئنان والحنان تنهد بثقلٍ ثم هتف بصوتٍ مُضطربٍ ضائعٍ:
_أنا هقولك علشان أنا بحبك وكل يوم بحس إني حتة تانية منك، أنا والله مش أناني ومش وحش بس تعبت، هما مش قابلني وسطهم ومحسسني إني مليقش بيهم، يا شايفني عيل لقيط أختهم بتعطف عليه، يا شايفني حرامي عاوز أنصب عليها، وأنا والله بحبها هي وعاوزها هي، محدش فيهم مستوعب إنها أمي، حتى لما قررت في لحظة شيطان أسيبها قلبي مطاوعنيش، وهي، روحها فيهم هما، بتختارهم وبتحبهم وعمرها ما بعدت عنهم، بس أنا مش هقبل يتقل مني كدا كتير، أنا عندي عزة نفس ومقبلش حد يهيني…
توقف الحديث على طرف لسانه وقبل أن يقوم بفك العُقدة ويستأنف حديثه فُتِح الباب وظهر من خلفه “مُـحي” الذي هتف بنبرةٍ عالية منفعلة كأنه يهدر بغضبٍ أعمىٰ:
_أنتَ ليه مقولتش إن أختها مدت إيدها عليك وضربتك؟ مقولتش ليه من إمبارح إنها طردتك من بيتها؟ سِكت ليه عن اللي حصل منهم؟ لو هما فاكرين إنهم أدوك حاجة يبقوا غلطانين ولو هي شايفة إنها أتكرمت عليك بحاجة تبقى غلطانة، علشان أنتَ بعد كل دا لسه بتختارها وقاعد معاها وسايبنا، بس لا عاش ولا كان اللي أيده تتمد عليك…
توسعت عينا “نـعيم” ومرر نظراته بين الاثنين فوجـد “تَـيام” يُطالعه بخوفٍ وقد هتف هو يستفسر من صغيره بقوله غاضبًا:
_مين اللي قالك الكلام دا؟ وعرفته منين؟.
أنتبه له “مُـحي” وثبت عينيه على والده يهتف بنبرةٍ جامدة:
_”بـيشوي” لما لقاني بلح عليه وبسأله هو حصله إيه وليه معرفش ينام قالي إن دا حصل منهم وبسببهم تعب إمبارح، وهو مقالش بس بعد كدا هو هيفضل معانا هنا، هي خسرته ودي مش أول مـرة حد منهم يهينه، إنما توصل للضرب لأ.
أدرك “نَـعيم” أن هذا ما حدث وأيقن ان ابنه كان سيخفي عنه ما حدث لذا ضرب الأرض بعصاه غضبًا ثم وقف خرج من مكتبه ووقف في بهو البيت ونادى على الشباب الذين حضروا عدا “إسماعيل” الذي كان في عمله وقد رفع صوته يهدر بإنفعالٍ:
_فرحك يا “سـراج” هيكون يوم الجمعة ومعاك فرح “تَـيام” كمان، أنتوا الاتنين أخر معاكم أسبوع من الليلة دي، ودا كلام مش هرجع فيه، وأنتَ يا “إيـهاب” بكرة تحضر نفسك علشان هنروح للحج “عبدالقادر” نبلغه بتقديم الفرح، أما “مُـحي” و “مُـنذر” فمهمتكم تجهزوا للحنة ليلة الخميس، عاوزها ليلة السمان كلها تتكلم عنها، ودا آخر كلامي، مـفهوم؟!.
وجـه أوامره للجميع حتى حركوا رأسهم بموافقةٍ فيما ألتفت هو لابنه وما إن تواصلت المُقل ودار بينها الحديث المُعاتب من كليهما للآخر هتف “نَـعيم” بصوتٍ خفيضٍ عن سابقه:
_أنا بعمل اللي يريحك أنتَ حتى لو مش فاهمه، ولو هما مش عارفين أنتَ مين أنا هعرفهم، وكتر خيري أوي كدا إني سايبك ليها بعد كل العمر دا، إنما توصل للإهانة بالشكل دا، مش هقبلها، ولولا إنها ست أنا كنت قطعت إيدها الاتين، بس ملحوقة، بكرة يعرفوا مين أنتَ وابن مين.
وقفت “سـمارة” بجوار زوجها تُطالع “نَـعيم” بشفقةٍ وكأنها هي وحدها من تعلم بألمه ومرضه وقد أتضح ذلك من رجفة كفه فوق العصا فمالت على أذن زوجها وهتفت بنبرةٍ خافتة:
_بقولك إيـه يا أخويا، ما تروح كدا تهديه ودخلوا يرتاح شوية ويهدا علشان هو تعبان ومتعصب وأيده بتترعش، وخلي “تَـيام” معاه برضه وأنا هعمله كوباية عصير، يلا بسرعة أحسن يقع من طوله، ويتعب أكتر.
أنصت لها زوجها وراقبه بعينيهِ ليجد حديثها مُحقًا فأومأ موافقًا ثم تحرك له ووقف بجواره يُهديء من غضبه بقوله:
_طب وحد الله وهدي نفسك وتعالى معايا واللي عاوزه كله هعمله، تعالى بس يلا عاوزك في كلمتين ضروري وفهمني عاوز إيـه أعمله كله من دلوقتي لو تحب.
أجاد الدور في إمتصاص غضبه كما يفعل دومًا ثُـم تحرك خلفه حينما أولاه “نَـعيم” ظهره وتوجه نحو مكتبه بهيبةٍ ورأسٍ مرفوعٍ فيما وقفوا الشباب ينظرون لبعضهم بحيرةٍ تائهين عدا “تَـيام” الذي جلس فوق المقعد وهو يمسك رأسه بكلا كفيه حائرًا في أمرهِ وفيما أصابه مؤخرًا وأصاب حياته قلبها رأسًا على عقبٍ..
__________________________________
<“أنا وقلبي لكم، وأنتِ وقلبك لنا”>
كالنجوم في السماء تلمع الأعين بلقاء من تُحب، وكالأطفال نحن نسعد ونفرح برؤية من نُحب، خاصةً إن كانت الرؤية غير متوقعةٍ وكان اللقاء للروح من بعد شوقٍ هو الأحب..
وقف يستند على سيارةٍ ما وهو يدخن سيجاره في إنتظار ظهورها من خلف البوابة الحديدية لكي تُعلن عن إنتهاء عملها وقد شـعر بالملل في إنتظارها لكنه أطمئن ما إن وجد الأضواء أغلقت في العيادة ثم بعدها ظهرت هي فأبتسم بخفةٍ حتى وقفت “عـهد” أمامه تسأله بتعجبٍ:
_مقولتليش إنك جاي يعني النهاردة.
حرك كتفيه لها ثم هتف بصوتٍ هاديءٍ بعض الشيء لكي يُنافي الحماس فيه:
_أنا لسه مخلص شغلي وقولت آجي أخدك بدل ما تروحي لوحدك بليل، بعدين فرصة نتمشى مع بعض شوية، بعدين وحشتيني يا ستي، إيـه موحشتكيش خالص؟.
أبتسمت له ثم جاورته وهي تقول بصدقٍ:
_لأ وحشتني طبعًا، حتى وأنتَ معايا بتوحشني.
رفع حاجبيه بغير تصديق فيما سارت هي تتقدمه هربًا من إحراجها بسبب حديثه فيما جاورها هو وسارا جنبًا إلى جنبٍ بجوارها يتذكر بداية علاقتهما سويًا ثم توسعت بسمته شيئًا فشيءٍ وهتف بصوتٍ رخيمٍ دافيء:
_أفتكرت أول أيام أتعرفنا فيها على بعض كنت كل مرة بستغرب أنتِ إزاي كدا، مُذهلة وقوية وقادرة تكملي تاني عادي، لما كنت معاكِ في الأول وشوفت عمايل عيلتك كنت بستغرب إزاي بتكملي لوحدك وتصرفي على البيت ورغم كدا برضه مش عاوزة توقفي طريقك، ولحد دلوقتي برضه مكملة رغم إن واحدة مكانك معاها فلوس فأقرب حاجة تعملها إنها توقف شغل خالص، بس أنتِ شيلتي الفلوس لأختك علشان تأمني مستقبلها وقابلة تكملي شغل، يعني أنتِ تركيبة حلوة من وفاء الخيول وبراءة الطيور..
ضحكت له وحركت رأسها للأمام تسأله بحماسٍ:
_علشان كدا قولت إني شبه “شيريهان”؟.
توقف عن السير ووقف يُطالعها وهو يقول بصدقٍ:
_هتصدقيني لو قولتلك إنك متتقارنيش بغيرك في أي حاجة؟ حتى أنا مش شبهك ومش زيك، أنا أضعف منك مليون مرة ومش سريع في التخطي زيك، يمكن أنتِ و”شـيريهان” كان عندكم أسباب كافية تخليكم تقوموا بس قومتوا، إنما أنا قومتي كانت بتاخد وقت أوي ولسه بتاخد وقت لحد دلوقتي ومش عارف بعمل الصح ولا الغلط يا “عـهد” ومش عارف أنا بعمل إيه..
أخبرها عن ضياعه فيما رفعت هي كفها تقبض على كفه بأصابعها ثم نطقت بلهفةٍ تُطمئنه بما يزيح عن كاهله العبء:
_بس قُـمت، قُـمت تاني ووقفت على رجلك وكل مرة أنتهت فيها حكايتك كنت بتبدأ حكاية جديدة، لو محتار أوي أنتَ وقفت على رجلك ولا لأ، أفتكر إن أنا من بين كل الناس أخترتك أنتَ وبس، دا سبب كفاية يعني يخليك تكون فخور بنفسك أني أخيرًا تنازلت ووفقت عليك يعني.
ضحك بوجهٍ مُشرقٍ حتى جلجلت ضحكته عاليًا ثم نظر لها من جديد يشملها بعينيهِ ثم باغتها بقوله الذي شعرت أنه ينطقه لمرتـه الأولىٰ:
_”عـهد” أنا… بحبك بجد، يمكن مش بقولها كتير ولا بعبر بس أنا مش بعرف أقولها، بحب اللي قدامي يحسها، وعلشان كدا أنا مش بكررها كتير، بس أتمنى تكوني مصدقاها وحاسة بيها وإني مش بقولها تقضية واجب، أنا بقولها علشان أنا مبرتاحش غير لما نهاية يومي وطريقي توصلني ليكِ أنتِ.
تلك المرة ينطق بمشاعر جديدة وكأنه شخصٌ جديد ولد بتلك المشاعر في داخله لتصبح نبرته مميزة لذلك الحد بينما هو فأقترب منها يُلثم جبينها ثم أشار لها أن يرحلا سويًا وقد حركت رأسها موافقةً بخجلٍ ثم سارت معه جنبًا إلى جنبٍ نحو البيت بينما هو فكان غارقًا في تفكيره بشأن المفاجأة الجديدة التي قام بتحضيرها لأجل زواجهما لكنه تريث ريثما ينتهي كل شيءٍ كما دبر وخطط له.
في مكانٍ ما بوسط حارة “العـطار”
كانت “قـمر” برفقة “أيـوب” يتجولان سويًا ويقوما بشراء العديد من الأشياء وهو يُشاركها كل شيءٍ في الإختيار وفيما تُريد وقد كان هو من يختار وينتقي حتى خرج من قوقعة حزنه رويدًا رويدًا وبدأ ينسْ ما كان يشغل عقله والفضل في ذلك بعد إرادة الخالق رجع لها هي، وقد أنتهيا من شراء الأشياء وأعادا التجول من جديد فلمح بعينيهِ عربة تختص بنبات الذُرة المشوي فأشار لها برأسهِ وسألها بشغفٍ جم:
_تاكلي دُرة مشوي؟.
أومأت له موافقةً بحماسٍ ثم توجهت معه نحو العربة ووقفت بجوراه وهو يختار لها واحدٌ ثم أختار لنفسه وهو يبتسم فوجدها تسأله بإهتمامٍ:
_خلاص أعتبرك مش زعلان؟.
توسعت بسمته وهو ينظر لها ثم حرك رأسه نفيًا وهتف بصوتٍ دافيء:
_بالعكس، أنا من أول ما كلمتيني علشان ننزل وفضلتي تشاركيني كل حاجة معاكِ وأنا مش زعلان، يمكن مستغرب ويمكن محتار بس مش زعلان والله، أقولك طيب سر محدش يعرفه خالص؟ علشان تعرفي إني بقدر أشاركك أنتِ وبس.
حركت رأسها بحماسٍ وتأهبٍ في إنتظار المزيد منه لتجده سحب نفسًا عميقًا وهتف بوجعٍ ما إن تذكر حياته السابقة:
_ساعة لما كنت في المُعتقل وخرجت بعد كتب كتابنا أنا جوة كنت بردد اسمك وأفتكر إنك بقيتي مراتي وأكيد هخرج وأكون معاكِ هنا، هما جوة قالولي إن فيها سنين مش شهور حتى زي أول مرة، بس جوايا حاجة قالتلي إني هخرج وأشوفك وعيني تقابل عيونك، كنت حاسس إنهم دافيين أوي وحنينين زي صاحبتهم، بس كلمة حق والشهادة لله أنتِ وعيونك حلوين وتتحبوا.
ضحكت له بخجلٍ ثم رفعت كفها تُرفرف به أمام وجهها بسبب السخونة المُتدفقة إلى رأسها من فرط الخجل بينما هو سألها بنبرةٍ ضاحكة:
_أنتِ أتكسفتي ولا إيـه؟.
أومأت له موافقةً بعُجالةٍ مما جعله يضحك عليها ثم تحرك معها من المكان وهو يمسك في يده الحقائب بينما هي فكانت تشعر بالسعادة وهي تجاوره والمارين يلقون عليه التحية ويرحبون به ويدعون الخالق لكي يبارك لهما، وما إن أوقفها أمام البناية تنهد بعمقٍ ثم قال بصدقٍ:
_مش عارف من غيرك كان ممكن أعمل إيـه بس أنا أكيد كنت هقفل على نفسي زي كل مرة، المرة دي بقى أنتِ واقفة قدام زعلي وش لوش وكسبتي كمان، الحمدلله على نعمة وجودك ألف مرة، والحمدلله إن ربنا رزقني بيكِ أنتِ وفتح أبواب قلبي علشان تكوني أنتِ الفتنة والغواية.
من جديد تضحك بسببه وكأنها تحتاج فقط لدليل يُثبت لها أنها كافية له وتليق برجلٍ مثله وقد قرأ في عينيها تلك النظرة فأقترب يمسك كفها ثم ضغط عليه وأضاف بتأكيدٍ لما سبق وتفوه به:
_مفيش ست في كل الدنيا دي ممكن تخليني أحبها زي ما حبيتك، زي ما برضه عيني مخانتنيش وعملتها وشافت حد غيرك، فأطمني يا قُـطة بقى علشان أنا مواريش غيرك أنتِ.
_لا يا شيخ؟ أنا مش سايبك مُكتئب يا عم أنتَ؟.
كان هذا حديث “يـوسف” الذي وصل مع زوجته ورأى شقيقته مع زوجها وقد ألتفت له الآخَر وهتف بنبرةٍ ضاحكة:
_ماهو أنا بعالج الإكتئاب أهو.
كان حديثه مرحًا إلى حدٍ ما مما جعل “يـوسف” يشير لشقيقته ومعها زوجته بالصعود ثم وقف أمام رفيقه الذي حرك رأسه مستسفسرًا فهتف الآخر بثباتٍ:
_عاوزك معايا في مشوار مهم، وأعتبره مضاد إكتئاب برضه يا مطروف العين.
بدا وكأنه يسخر منه لكن الآخر لم يُمررها فجاوره وهو يهتف بسخريةٍ لكي يُمازحه هو الآخر أو رُبما يرد له طريقته:
_وماله، يلا يا “غَـريب”.
الإثنان دومًا رغم كل شيءٍ بينهما إلا أن التشابه بينهما كبيرٌ بما يكفي ليخلق الأُلفة بينهما، وكعادتهما يسيران بجانب بعضهما مُتكاتفين والأعين تطلع عليهما سويًا بجوار بعضهما وكأنهما بطلان مغواران يقاتلان لأجل حماية المدينة من كل شـرٍ..
__________________________________
<“مُحب الورد يرعاه، والطامع يقطفه”>
في بعض الأوقات تمتليء الحقول ببعض الأزهار المتروكة في الفراغ بغير صاحبٍ، والأمين فقط هو من يرعاها ويحافظ عليها لأجل من يستحقها، والوضيع هو من يختلس الحِراك لوسط الحقل حتى ينتزع تلك الزهور ويأخذ منها رحيقها…
الفرح والسعادة كلاهما صفات تملأ القلوب وخاصةً تلك القلوب المُتعبة التي كانت تنتظر الفرح مثل قلب”إسماعيل” الذي كان يقود سيارته وهو يستمع لأحاديث “ضُـحى” الكثيرة وقد تعجب هو من عدد ساعات يومها لكي تحدث تلك المغامرات خلاله أثناء أول يومٍ بالعمل من بعد عقد قرانها، وقد وصلها صوتها وهي تُقلد الفتاة بميوعةٍ حين قالت:
_لأ وجيالي بكل برود تقولي أنا ماجيتش علشان البنات قالوا إن كتب الكتاب على الضيق خالص، بس معرفش إنك عاملة فرح كبير أوي كدا، صحيح خطيبك اللي كان متصور معاكِ عند الخيل دا شكله لذيذ؟ بس على مين مسكتش ليها ..
قرر أن يُجاريها فسألها بنبرةٍ ضاحكة:
_شاطرة يا روحي، قولتيلها إيـه بقى؟.
_قولتلها لأ مش خطيبي دا جـوزي وأتكيت أوي على الكلمة كدا علشان تحترم نفسها، وقولتلها هو مش لذيذ بس، هو حنين وجميل ولَـطيف وبيحبني أوي، ربنا يعوضك بواحد زيه يا رب يتمنالك الرضا ترضي، هي علشان حقودة وفاكرة نفسها محور الكون وأي راجل بيدوب في جمالها أتخرست، دا علشان أنتَ زي القمر وشيك ووسيم وباين إنك فرحان أوي بيا وكلهم قالوا كدا.
هكذا جاوبته بتلقائيةٍ جعلته يضحك عليها بصوتٍ عالٍ ثم مسح وجـهه وهتف يمازحها:
_أنتِ مش بس مطرقعة، أنتِ كمان واقعة؟.
أثناء ما كان يتحدث معها لاحظ تجمع بعض الناس في وسط الطريق مما أوقف سيره فهتف هو بلهفةٍ:
_بقولك إيـه شكلها حادثة على الطريق، أقفلي هنزل أشوف في إيـه كدا وهرجع أكلمك، سلام.
قبل أن يُغلق هتفت هي بعُجالةٍ تستوقفه:
_استنى بس، خلي بالك من نفسك وأمشي علطول وأنا هستناك تكلمني وتطمني يلا، خلي بالك من نفسك.
أبتسم هو إثر إهتمامها البائن وخوفها عليه وقد تحرك من سيارته بهيبةٍ نحو الناس يخفي شغفه نحو معرفة المزيد وقـد توسعت عيناه ما إن وقعت على فتاةٍ مُلقاة في الأرض بوجـهٍ أزرق وبطنٍ فارغة بعدما سُرِقَت أعضائها!!
سقط قلبه وهو يرى فتاة هزيلة صغيرة العمر والحجم مُلقاة فوق الأرض على الطريق مجهولة الهوية وقد نُزِعت عنها الحياة بأكثر الطُرقات وحشية، وقد ترقرق الدمع في عينيه وعجز عن التحرك، ففي العام والمتعارف عليه للموت حُرمة لا يُنكرها إلا من فـجر، فماذ إذا كان الموت وحشيًا بتلك الطريقة؟ بالطبع تهرع القلوب العبرات وتنزف دمًا، وبكل آسفٍ هذه الفتاة هي نفسها صاحبة المصير البائس الذي كُتِبَ عليها منذ أن وُلِدت، فتاة تشبه الزهور لكن وبكل آسفٍ وضعت في الحقل الخاطيء…
____________________
إن شاء الله الفصل الجاي بعد أسبوع، يعني يوم الاتنين الجاي لأن الاسبوع دا عندي ٣ إمتحانات آخرهم يوم السبت ووعد أتخرج وهعوضكم، دمتم بخير.
__________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى