روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والحادي والخمسون 151 بقلم شمس محمد

موقع كتابك في سطور

رواية غوثهم الفصل المائة والحادي والخمسون 151 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والحادي والخمسون

رواية غوثهم البارت المائة والحادي والخمسون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والحادية  والخمسون

“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل السادس وستون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
يا منعمًا قبل الرجاء و معطيًا قبل الدعاء
يا منعمًا قبل الرجاء و معطيًا قبل الدعاء..
مواهب إلاحسانِ ..
أنا لا أُضامُ و في رحابك عصمتي ..
أنا لا أخافُ و في حِماك أماني ..
أنا لا أُضامُ و في رحابك عصمتي
أنا لا أخافُ و في حِماك أماني ..
أنا إن خشيتُ الذنب هون محنتي ..
_”نصر الدين طوبار”
__________________________________
رُبما من نفسي سأمت لذا بها قُتِلت..
فلمن الذنب ولما الذنب إن كنتُ أنا أول مَن مِن نفسي من تأذيت؟ كُل الخيارات أُتيحت أمامي لكني وبكل طواعيةٍ وإرادةٍ مملوءة مني اخترتُ تلك التي يملؤها الطمع، اخترت الدرب المُظلم منذ بدايته أملًا أن يكون النور موجودًا في نهايته، نفسي والهوىٰ والشيطان كانوا عدوًا لي، وأنا وبدون مثقال ذرةٍ من التفكير تحالفت معهم، أنا من اخترت الطريق الأسهل في سيره ولم أكد ألمح أن العاقبة في النهاية ما هي إلا حُفرة من نارٍ وأنا سقطت بها لأسفل السافلين، كتبت نهايتي بنفسي ولم أعلم أن نهايتي تلك ماهي إلا بداية لنيرانٍ لم أتحملها قط، فمن منا فوق الأرض يملك حق الروح كي يُزهقها بملء إرادته وقتما شاء وكيفما شاء؟ نحن دومًا وأبدًا كُنا لله ولم نكن يومًا قط لأنفسنا، لكنها الدُنيا، دُنيا تقوم بإغراء العبد ليقدم لها كل شيءٍ ناسيًا ومتناسيًا أن ماهي إلا دُنيا وأدنىٰ مما تخلينا..
فأي ضياعٍ هذا أضعنا به أنفسنا، وأي إغراءٍ هذا جعل النفس تُقدم كل شيءٍ حتى الروح فداءً لفناء الدُنيا؟.
<“يا ليتنا سبقنا ولأخرتنا قدمنا قبل النهاية”>
رائحة الموت ملأت البيت، ومعها خيم الحزن على الأركان وكأن زهوة الحديد اللامع غلفها الصدأ، البيت اتشح بالسواد كي يُغطي على كل لونٍ من كل حدبٍ وصوبٍ، والقلوب تأنِ وتبكِ إما بحزنٍ لأجل الفقيد، وإما خشيةً من المصير، نحن لا نكره الموت، وإنما نحن نبغض الفراق، حتى وإن كان هذا الفراق لروحٍ كانت وسط البشر تسير بأذىٰ، فللموت حُرمة لا ينكرها ولا يشمت بها إلا الفج صاحب القلب الغليظ..
“وَجِاْيٓءَ يَوۡمَئِذِۭ بِجَهَنَّمَۚ يَوۡمَئِذٖ يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَٰنُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكۡرَىٰ (23) يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٞ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٞ (26) يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ (27) ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةٗ (28) فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي (29) وَٱدۡخُلِي جَنَّتِي (30)”
هكذا أنهى القاريء القرآن الكريم بذكر كلام الخالق ﷻ والذي غفلت عنه القلوب وتناست أين مكمن الروح بعد ذلك، القلوب التي غفلت عن مصيرنا المكتوب وراحت تركض خلف دنيا فانية هوت بنا إلى أسفل قاعٍ حتى والروح صاعدة لبارئها، فماذا قدمنا وماذا فعلنا؟ ماذا لأجل اللقاء العظيم سبق وأعطينا؟ كل شيءٍ وضعناه بين راحتي الدنيا كي تُغلق قبضتيها علينا ونغفل نحن عن آخرتنا، فتضيع منَّا الأرواح سدىٰ ونعود لنقول يا ليتنا سبق ولآخرتنا قدمنا..
في الداخل اتشح النسوةُ بالسوادِ يلتفن في حلقةٍ دائرية حول أمٍ فقدت ابنتها بميتةٍ بشعة لا يتمناها حتى العدو لأبغض أعدائه، ميتة الجميع يعلم نهايتها ومصيرها وتصبح السيرة تلوك بالأفواهِ كما العلكةِ بالفمِ روحةً وجيئةً بغير احترامٍ لميتٍ ولا عِظةٍ من الموقف الراهب للأنفسِ، أمٌ ترتكن فوق ذراع الأريكة وعيناها ثابتة على صورة فقيدتها وهي صغيرة وكأنها تبحث عنها في اللاشيء حولها..
وفي الخارج بحديقة البيت وقف والدها بتيهٍ وعدم استيعابٍ لما حدث، كيف انتهت الحياة في طرفة عينٍ بغير تعقلٍ أو حسابٍ محسوبٍ يُشيء بما قد يكون حدث؟ كيف أهمل حتى وصلت الأوضاع لتلك النقطة الأخيرة كي تنتهي حياة ابنته الوحيدة والأدهى أن هي من قامت بهذا الفعل بنفسها؟ هي من أزهقت روحها وقامت بقطع الوريد حتى انفجرت الدماء وغادرت الروح ووارى التراب الجسد خلفه، ولا يعلم كيف كان أثر قرع النعال على الروحِ؟..
وقف كلًا من “نـادر” و “يـوسف” بجوار بعضهما يقدما واجب العزاء ورغمًا عنهما تحول إلى فرضٍ منهما فوقفا في الصف يأخذان العزاء بجوار عمها الذي يقف غير مكترثٍ وبجوار والدها الذي يبدو أنه حتى الآن لم يعِ أين يقف ولا ماذا يفعل وإنما جسده كان مُبرمجًا بشكلٍ آلٍ فرغ من الروح والإدراك، والأكثر حزنًا من بين الجميع كان “نـادر” الذي تلقى الخبر أول فردٍ حينما هاتفته “نـورهان” تستغث به وكان لجملتها الصارخة أبلغ أثرٍ في حياته:
_ألــحقني يا “نـادر”..”شـهد” انتحرت.
وما تلى ذلك كان ركضه من مكانه إليها كي يلحق ما يمكن إلحاقه قبل أن تغادر لكن السيف قد سبق العزل وغادرت الروح من الجسد، رآها بعينيه وهي فوق الأرض الدماء تُحيط بجسدها والسكين بجوارها كدليلٍ على جُرمها في حق نفسها، رأى عينيها مفتوحتين على وسعيهما فاقترب منها بخطىٰ وئيدة وجسدٍ مرتجفٍ ثم أسبل عينيها وضم أهدابها فوق بعضها وكان ذلك هو اللقاء الأخير بينهما..
لقاءٌ يخلو من الروح، وعلى أثره بكت الروح.
خرج من شروده على كف “يـوسف” فوق كتفه فضم جفونه فوق جمر عينيه المُلتهبتين ببكاءٍ مكتومٍ فحدثه الآخر بثباتٍ كي يرحلا من هُنا بعدما رحلوا البقية وفرغ المكان:
_يلا علشان نمشي إحنا كمان، أنتَ من إمبارح واقف على رجلك وبتخلص في الإجراءات والورق، بكرة نبقى نيجي شوية كمان لو فيه حاجة، هخرج العربية من الجراچ وأجيلك.
أومأ له بصمتٍ وعجزٍ حتى عن الرد، بل ابتلع الحديث في جوفهِ وصمت والذنب بداخله يتفاقم بشكلٍ كبله حتى عن الهروب منه، وقف يلوم نفسه ويُقرع عقله على تقصيره أو ربما على هروبه من دربها حتى فعلت ما فعلته بنفسها، ألقى نظرة أخيرة على المكان الفارغ حوله ولوهلةٍ الظلام سرق حدسه ففكر بها، كيف حالها الآن في قبرها بعد ما فعلته بنفسها؟ كيف حالها وهي تُسأل الآن؟ شعر وكأنه يُلقى في وجه دوامة إعصارية تمنى أن يخرج منها وكأنها كابوسٌ مروعٌ يعجز عن الإفاقة منه..
تحرك نحو الخارج يتابع حركة الناس بعد تقديم واجب العزاء، حالة معتادة ومُكررة يوميًا، لحظة تأثر وليدة معرفة الخبر، انشداه عند معرفة خبر الميت، شفقة على حال أهل المتوفي، ملابس سوداء رثاءً للمرحوم وكأن الألوان مُحرمة عليهم من بعد الرحيل، ومن ثم تعود الحياة لمجراها وكلٌ يعود لروتين الحياة المعتاد ويبكِ على ليلاه..
كان يرتدي حُلة سوادء تتلائم مع ظُلمة روحه والسواد الحالك الذي يسكنه ويُخيم فوق رأسه، يقف بصمتٍ وخزيٍ من نفسه وهو يُفكر هل لو كان أعطاها فرصة وحيدة قبل الرحيل كانت النهاية ستبقى بنفس النهاية؟ هل لو كان أنصت لها وعاد كما طلبت وتمنت؛ كانت نهايتها ستتغير؟ هل هو صاحب الذنب أم أن هي وحدها من يقع على عاتقه الذنب؟ زادت حيرته والذنب يتفاقم بداخله أكثر من ذي قبل ولم يخرج من شروده إلا على صوت “سـامي” يُلقي عليه اللوم بقوله:
_مبسوط كدا يا “نـادر” باللي حصل؟ أهي قتلت نفسها وسابتلك الدنيا كلها وارتاحت وريحتك معاها، مبسوط بفشلك كدا في كل حاجة وصلتلها؟ ماشي ورا “يـوسف” زي العيل الصغير علشان يحركك وأديك أهو بتخسر كل حاجة عندك، ورثك وفلوسك واسمك وشغلك، حتى بيتك ومراتك كمان خسرتهم، والاسم إنك وسط ناس بيحبوك؟ شوفت آخر عنادك إيه؟ أهي ماتت وقتلت نفسها وأنتَ السبب.
يلقي الذنب فوق عاتقه برمي كلماته السامة وكأنه أتى ليُضيف الوقود فوق النيران كي تتصاعد الألسنة بداخله وتطول القلب المتألم، لكنه عبر عن نيرانه بقوله متألمًا ومقهورًا:
_بــس بـقى كـفاية، أبعد عني وحِل عن سمايا بدل ما أنا اللي أقتلك نفسي وأروح في ستين داهية، أنا مش حِمل كلمة واحدة من حد حتى لو الحد دا هيكون أنتَ نفسك، سـيبني في حالي بقى وأبـعد.
هدر بها صارخًا في وجه أبيه الذي استفزه بحركةٍ أخرى جعلته يقف في مواجهته مُباشرةً ثم لجأ لسياسته المضمونة وهي اللعب فوق أوتار الأنغام المفضلة لديه وبث سمه في هيئة كلماتٍ كانت:
_أبعد عنك علشان تضيع نفسك أنتَ كمان؟ ولا علشان أنا بقولك الكلام اللي مفيش مهرب منه؟ وهو إنك فاشل في كل حاجة طول عمرك وعمرك ما فلحت من غيري، حتى اللي ماتت دي ذنبها في رقبتك ورقبة غبائك اللي خلاها تنهي حياتها وعلشان مين؟ علشان ناس فاكرهم بيحبوك.
_بــس أبـوس إيــدك بقى، كــفاية.
هدر بها “نـادر” بصراخٍ وقهرٍ وهو يشعر أن الذنب يفتك به ويُفتت قلبه ثم يضغط فوقه بالحذاء ويدمر جسده بأطراف الهشيم المنثور فيه حتى أتى من يحصنه وياله من حصنٍ منيعٍ.. فسلاح الضد الذي يملك حديْن أحدهما ثالمًا والآخر باترًا دومًا يخفق أحدهما في تأدية مهمته والآخر يُجيد، لذا الطرف الثالم كان هو الذي أجاد القيام بعمله حيث مر فوق النحر ولم يظهر لمروره أثرٌ، احتدم النقاش بينهما حتى أن “سـامي” بادر برفع يده لكي يقوم بجر ابنه لكنه لم يكد يعلم أن هناك الحصن المنيع الذي يقف في وجه ابنه كي يحميه منه هو..
حال “يـوسف” بينهما ودفع الآخر بطول ذراعهِ الممدود ثم هدر في وجهه بتحذيرٍ بعدما أشهر سبابته له:
_لو فكرت تقرب منه والله العظيم أنا اللي هقل أدبي عليك وأظن أنتَ ليك نصيب كبير في طَلعة مني، ابعد عنه وخليه في حاله، ما صدقنا حاله أتصلح بعيد عنك وربنا كرمه، تخيل بقى بيصلي، كأنه كان عايش مع شياطين.
والكلمة الأخيرة بالطبع تشمل “سـامي” ومن يقف خلفه يطالعهم بصمتٍ، لكن العدو الغبي هو الذي يترك غريمه يفر من المعركة بغير أن يكتسب جزءًا من المُتعة الغير شريفة، لذا تفوه “سـامي” بالمزيد من الحديث المحقون بالسمِ:
_الشيطان بجد هو أنتَ يا “يـوسف” مفيش غيرك، بس تصدق أنتَ معلم ولعبتها صح، خليته زي اللعبة في إيدك وهو ماشي على عماه ينفذ كلامك، لحد ما خليته يبعد عنها وتموت نفسها، وبكدا تبقى خدت حقك منهم هما الاتنين، تصدق نسيت إنك مريض نفسيًا بسبب ذكائك دا؟.
قالوا والحق يقع على من قال “أن الجحيم إذا أندلع بداخل المرء ستذهب النيران لكلا الجانبين وتحرق الجميع معها” وهذا الماثل أمامه لم يُخلف بكلماته إلا جحيمًا سيكون هو أول المُحترقين به، لذا ارتخى ذراع “يـوسف” ونطق مؤيدًا له بقوله:
_طب مش نفسك المريض النفسي دا يمسي عليك؟.
جُملة، هي فقط جُملة ألقاها والقادم كان كما الطوفان حينما أندلع هو من مكانه بإنطلاقة السهم وبحركةٍ خاطفة قام بسحب “سامي” ووضع رقبته فوق مقدمة أقرب سيارة قابلته ثم ضغط على عنقه وقام بلوي زراعه للخلف واتكأ بقوةٍ ثم نطق من بين أسنانه المُتلاحمة ببعضها:
_ولما أنا مريض نفسي زي ما بتقول، اللي زيك أنتَ يبقى إيه يا تربية الغُرز يا ابن العالمة؟ مين كان خلاني مريض نفسي غيرك أنتَ وحيلة أمه اللي واقف وراك؟ تحب أخليك تحصل المرحومة وتاخدوا بونس بعض في جهنم الحمرا؟ تحب أمسي عليك؟!.
أنهى جملته تزامنًا مع ضغطه فوق رزاعه أكثر حتى صرخ “سـامي” يتأوه بألمٍ حاد وحقًا شعر كأن زراعه يُكسر، وقبل أن يخطو أيًا من “نـادر” و “عـاصم” كي يقوما بإبعاده عن الآخر هدر فيهما بعنفٍ أقرب للصراخِ الهادر:
_ورحمة أبويا لو حد فيكم قرب هجيبه مكانه، خليكوا بـعيد.
أنهى حديثه ثم التفت وبحركةٍ أخرى أكثر عُنفًا وعنفوانًا منه ولم يفكر لمرتين قبل أن يأخذها قام بكسر ذراع “سـامي” ولم تظهر أمامه إلا صورة واحدة فقط، صورته في صغر عمره باكيًا ومتوسلًا له كي يعطف عليه ويتوقف عن ضربه..
حينها اقترب “نـادر” وسحبه من فوق والده وما بين الاتنين عَلُقَ في المنتصف لكن “عـاصم” تدخل وقام بمساندة “سـامي” ثم هدد الآخر بقولهِ صراحةً:
_قريب هرجعك مكانك اللي مالكش غيره، وجودك برة هنا وسط الناس غلط، أنتَ مجنون واللي زيك مالهوش مكان برة، أبقى خلي بالك من نفسك معاه يا “نـادر” أحسن نلاقيك محصل طليقتك أنتَ كمان، أظن شوفت بعينك عمل إيه في أبوك.
خمدت نيران “يـوسف” ووقف يوزع نظراته بينهم بضيقٍ وبعدها خطى نحو سيارته ثم ولجها وقادها حتى مر بجوار “نـادر” وقبل أن يركب الآخر معه أتت “نـورهان” توقفه وما إن التفت لها مدت يدها له بالخطاب وهي تقول باكيةً:
_دا جواب من “شـهد” ليك وموصية ييجي ليك، لو سمحت خده علشان دي أمانة ليك، لو مش عاوزه ممكن أصوره وأبعته ليك.
ترقرق الدمع في عينيه وأحس بالماء البارد كأنه يُسكب فوق رأسه لكي يُناقض الدماء الساخنة في جسده، وقد حسم أمره والتقطه منها بأنامل مُرتجفة وحينها التفتت هي ثم ولجت البيت بينما ولج هو السيارة بجوار ابن خاله وقد طوى أهدابه خافيًا الدمع المدرار بينهم والقلب في الداخل يسبح في العَبرات النازفة…
__________________________________
<“دُنيا لم تلق بالمرء الحنون، وإنما تلق بجاحدٍ”>
قالوا أن الهوىٰ ذنبٌ والواقع فيه آثمٌ..
وقُلتُ أنا أن الدُنيا غابة ولم يُنجي المرء منها إلا أنه عاشقٌ
والعاشق يوم أن عشق وقع في هوىٰ القمر، وآهٍ منه ذاك السراج الوهاج الذي حول الزاهد لآخرٍ يعشق السهر، قالوا وقالوا وأكثروا من الأقاويل ولم ينتبهوا أن القلب بدون عشقٍ كان كما العليل..
طريقٌ طويلٌ ممتليء بالصمت كان “أيـوب” يقود به سيارته بجوار زوجته الصامتة التي لجأت للسكون والصمت تلتحد بهما من بعد فاجعة “شـهد” وهذا هو الأمر الذي لم يفهمه هو حتى الآن منذ أن أخبرتها “ضُـحى” بهذا الأمر صباح اليوم، وقد لمح “أيـوب” شرودها فسألها بتعجبٍ من حالتها تلك:
_مالك بس يا قطة ما كُنا حلوين لحد الصبح؟.
التفتت هي له بتيهٍ وبالٍ غير رائقٍ وكأنه ماءٌ تعكر بهبوبٍ الرياح الغابرة ثم أطلقت تنهيدة قوية تعبر عن ضجرها وردت عليه بقولها:
_كنت بقى، بصراحة متضايقة علشان موتتها دي يا “أيـوب” ومش فاهمة هان عليها نفسها إزاي تعمل كدا، خسرت كل حاجة وهي عايشة واختارت الموت بالطريقة دي علشان تبقى خسرت الآخرة كمان؟ بعدين “نـادر” أكيد هيتأثر بموتها لأنه هيحس بالذنب ناحيتها، وللأسف هي معملتش حاجة حلوة في حياتها تخليني حتى أقدر أدعيلها.
فهم هو ما يدرو بداخلها وأدرك تُخمة مشاعرها التائهة ما بين الشفقة والحزن والتأثر فتابع الطريق بعينيه وأعطاها كامل التركيز إبان قوله الذي أتى به مسترشدًا بحكمةٍ دينية:
_الدنيا مُغرية في عين العبد يا “قـمر” وممكن الإنسان في لحظة طمع يضيع من أيده كل حاجة كانت عنده، الدنيا كلها أصلًا متساويش أي حاجة عند رب العباد، وإلا مكانش ربنا خلق لينا الجنة والنار، فالناس تقولك أنا في الآخر هاخد إيه يعني لما أساعد وأمد أيدي لغيري، الناس مبقيتش تستاهل، فالناس حتى بقت تستخسر الخير وبتبص المقابل منه إيه، محدش بيبص للآخرة وإن العمل دا هيقعدلك، علشان كدا سيدنا محمد ﷺ حذرنا من الدنيا وقال عنها العجوز الشمطاء، لأن اللي حبها وهوىٰ الدنيا هو دا اللي هيكون من أتباعها.
عقدت حاجبيها وطالعته بحيرةٍ كأنها تخبره خفيةً أنها لم تفهم مقصده فوجدته يبتسم لها ثم أوقف السيارة ومد كفه لها بزجاجة المياه بصمتٍ ثم حثها برأسه فأخذتها منه ولازالت واقعة تحت سطوة الحيرة، بينما هو أضاف مُتابعًا:
_دي بالظبط الدنيا يا “قـمر” زيها زي شوية المياه اللي في إيدك دي، دلوقتي إحنا في العربية دي معانا مياه وشنطة فيها أكل وحاجات كتيرة، هل حسيتي لثانية واحدة إنك عطشانة والحاجة دي وراكِ ومعانا؟.
هزت رأسها نفيًا كي تنفي حدوث هذا الشيء بينما تابع هو مُكملًا على ما سبق وأضاف بنفس ذي الطريقة:
_طب لو إحنا في صحرا ومش معانا أي حاجة خالص من دي، وعلشان نوصل للمكان اللي فيه الأكل ممكن منلحقش نوصل هتعملي إيه؟ وهتتصرفي إزاي؟.
حديثه وأسئلته بدأت تساورها بالحيرة فتنهدت بقوةٍ ثم قالت بتيهٍ لعلها تسايره فيما يستفسر عنه:
_معرفش أكيد، بس هخاف وممكن أسرع الخطوات علشان ألحق أوصل لهناك بسرعة، ويمكن أكون مش قادرة أوصل فمش هجري خلاص وأسلم بالأمر الواقع، بص خليها على الله وربك يكرم باللي فيه الخير، بس بجد لو في الوضع دا ممكن أخاف وأتمنى مجربش لحظة الخوف دي.
ابتسم هو لها ثم رفع كفه يمسح فوق جبينها الذي تندى من الخوف وكأنها تخيلت ذاك المصير بينما أضاف هو بثباتٍ:
_ربنا ما يكتب عليكِ التوهة أبدًا، بس أنا بقولك إن الحاجة اللي عندنا ومعانا إحنا مهملين فيها، واخدين إنها أمر مُسلم بيه وخلاص، بس الحاجة هي هي لو بتضيع مننا هنجري بآخر نفس فينا علشان نلحقها، إحنا بقى لو عارفين إن دي آخر لحظة في حياتنا هنتمنى العمر يطول، نتمنى نصلي ونصوم ونصل الأرحام، ونود الناس، ونقدم الخير، بس طول ما الوقت بيطول علينا فيها بنتعب أكتر، علشان كدا
أبلغ كلام قيل عن الدنيا كان في وصفها بالعجوز الشمطاء.
سكت عن الحديث هُنيهة عابرة ثم تابع:
_يوم القيامة تأتي عجوز كريهة الرائحة وتضحك علينا فمن هي؟ من هي العجوز الشمطاء التي حذّرنا منها الرسول ﷺ ويراها المسلمون يوميًا؟.

‏قال ابن عباس “رضي الله عنه”
‏يؤتى بالدنيا يوم القيامة ف صورة: ‏
“عجوز شمطاء زرقاء، ‏أنيابها بادية، ‏مشوّهة خلقها،
‏فتشرف على الخلائق، فيقال:
أتعرفون هذه؟ ‏فيقولون:
” نعوذ بالله من معرفة هذه” ‏فيقال:
“هذه الدنيا التي تناحرتم عليها،
‏بها تقاطعتم الأرحام،
‏وبها تحاسدتم وتباغضتم، واغتررتم،
‏ثم تقذف في جهنم،
‏فتنادي هي:
يا رب أين أتباعي وأشياعي؟
‏فيقول الله عزَّ وجلَّ :
ألحقوا بها أتباعها وأشياعها.
_ودول بقى اللي الدنيا أغرتهم لدرجة إنهم نسيوا الآخرة والعمل الصالح، وإن دار القرار هي الآخرة نفسها بعد الموت وإن الموت مش النهاية، الموت دا بدايتنا اللي بجد، بداية الحياة اللي إحنا لسه هنروحها وكل واحد فينا يلاقي مصيره، فاللهم أحسن خاتمتنا، وأكتب لنا الجنة، وأتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة وقِنا عذاب النار يا أرحم الراحمين.
درسٌ جديدٌ تعلمته منه وأضافته في سراديب العقل كي تُغلق عليه ولا يفر من ذهنها وتعود خائبة كما تبغض في نفسها، أغلقت على حديثه جيدًا في رأسها وظلت تُردد الدعاء تكرارًا وقد استأنف هو القيادة وهو يذكر الخالق في سريرته ويُردد آيات القرآن الكريم، حتى وجدها تضع رأسها فوق كتفه وتلف كفيها حول ذراعيه ثم قالت بصوتٍ نطق بكل رجاءٍ:
_يا رب نروح الجنة كلنا، صدقني من بعدك أنتَ و”يـوسف” في حياتي خلاص مبقيتش عاوزة حاجة تانية في حياتي، ولا في الدنيا، عاوزة اللي جاي يكون في الجنة مع بعض.
رد عليها هو بنفس الهدوء يُطمئنها ثم لثم جبينها وأكمل الطريق كي يصل بها إلى بيته، وبعد مرور بعض الوقت بالفعل أوقف السيارة أمام بيت آل “العطار” وترجلا من السيارة سويًا، وحينما ولجا البيت معًا كان “عبدالقادر” يقف في انتظارهما سويًا وقد اقترب من ابنه يرحب به وبعودته ثم لثم جبينه وطَلَّ في عينيه بنظرةٍ خاطفة ثم قال بصوتٍ ضاحك ظهرت منه الفرحة:
_تصدق باين عليك الفرح؟ أول مرة تيجي من هناك وشك منور كدا، البركة في القمر اللي معاك.
ضحكت هي بخجلٍ لهما فتدخل “أيـوب” يمازح والده بقوله المُصطبغ بالمرح:
_ما خلاص يا “عبده” أنتَ هتفضحني؟ قعدتك مع “أيـهم” بقت خطر أوي خد بالك، هو فين صح والواد “إيـاد” فين؟.
وعلى ذكرهِ نزل من شقته والتقى بهم وقد احتضن الشقيقان بعضهما البعض ورحب كلاهما بالآخر والأكثر حفاوةً كان “أيـهم” الذي أخبره بضجرٍ زائفٍ:
_حبيبك بيجهز نفسه علشان رايح عند فرح عقبال عندك، طاير من الفرحة وأنا مفهمهم إنه مجبور، طول عمره كاسفني قدام القريب قبل الغريب.
ظهرت الضحكات عليه وهو معهما أيضًا ثم طلب من شقيقه أن يصعد نحو شقته كي يسترح قليلًا من عناء السفر الطويل، وقد عاد البيت مُضيئًا بعودة الأحباب لديه من جديد، وهذا ما أتضح على وجه “عبدالقادر” المبتسم بحبٍ حتى وجد “أيـهم” يلثم وجنته بحركةٍ خاطفة ثم مازحه بقوله:
_مين اللي واخد بالك يا “عبده”.
ضحك له والده ثم أشار موضع تحرك”أيـوب” للأعلى وهتف بصدقٍ وحبٍ لأجل صغيره الذي عاد له بفرحٍ:
_بص وشه منور إزاي؟ كنت خايف يرجع زي كل مرة متضايق من هناك وجروحه مفتوحة، بس البركة فيها بقى شكلها نسته شوية من وجعه وتعبه اللي شافه، ربنا يراضيكم يا بني ويبعد عنكم شر الدنيا دي.
وتلك هي الدنيا لا أكثر، بيتٌ صغير يحتمي فيه المرء من العالم الكبير، أسرة دافئة تحتوي المرء في أكثر حالاته شتاتًا، عملٌ صالحٌ يبقى بعد الزوال، دعوة أبٍ وأمٍ تكون درعًا في مواجهة غدر البشر، ونهاية صالحة تلق بنا بعد العيش الكادح هُنا في دنيا لم تكن يومًا لنا.
__________________________________
<“تأتي الرياح بما لا تستطع النفس تحمله”>
تأتينا الرياح بما لا تقدر الشرائع على مواجهته..
فالسُفن لدينا أضحت مُحطمة، والأمواج أمست عاتية، والنفس الذي يقاوم غدا مُتقطعًا، ورغم كل ذلك لازالت السفينة المُحطمة تُبحر أملًا في الوصول إلى مرسىٰ يكون هو مقرها الدائم…
الظلام ملأ المكان حوله، وهو نفسه أصبح كما البُقعة السوداء في ثوبٍ أبيض ناضرٍ، يجلس بخيبة أملٍ أسفل الأريكة ولازال بنفس الحُلة السوداء كأنه يخشى نفسه أن يُبدل الثياب فتتعرى روحه، الذنب لم يكن هينًا كي يتجاوزه، حياته بأكمها تُكرر عليه بشريطٍ يمر ولم يرحمه، بل كانت الرجفة تسير في جسده ما إن يتذكر كل شيءٍ وبالأخص اللقاء الأخير بينهما..
رفع عينيه المُشتعلتين بجمرٍ مُلتهبٍ نتيجة كتم البكاء وحصار الدموع خلف الضلوع، لكن رغم ذلك صوت ألم كان بمسموع، نظرة أخيرة ألقاها على المظروف الأبيض قبل أن يفتحه ثم بادر بفتحه أخيرًا وكأنه يعلم أنه أضعف من تلك المواجهة، لكنه فعل.. وياليته ما فعل..
فتح الورقة المخطوطة بخط يدها وأثر العبرات عَلُقَ بها منها هي كأنها أرادت أن توثق وداعها بخطابٍ يشهد عليه الدمع، تحامل على نفسه وثبت عينيه على الخطاب فوجدها كتبت:
_”إزيك يا “نـادر”.. عارفة إنك مش هتكون كويس دلوقتي وعارفة إنك أكيد هتكون مشيل نفسك الذنب ومحملها فوق طاقتها، بس صدقني أنتَ مالكش أي ذنب في حاجة، أنا بس اللي أستاهل كل حاجة وحشة تحصلي، أنا بقولك آسفة وحقك عليا، آسفة إنك ضيعت حياتك معايا وأديتني كل حاجة ومشوفتش مني أي حاجة، آسفة علشان أنتَ قدمت كتير وأنا حتى القليل بخلت بيه عليك… آسفة علشان ضيعتك من ايدي وضمنت حبك وكانت النتيجة إني ظلمتك معايا، أنا بعتذرلك كمان عن آخر مرة اتقابلنا فيها، بس…”
عبراتها حينها قطعت عليها السبيل كي تُكمل الخطاب، لذا نزلت للسطر التالي أكملت به الخطاب بكتابةٍ مرتجفة:
_”بس أنتَ فهمت غلط وقتها، صحيح كنت هجيبك عندي بس والله ماكنتش هضحك عليك، كنت هقولك كل حاجة وأصارحك وأقولك إني محتاجاك ومبقاش ليا حد في الدنيا حتى بابا بقى حاسس إني تقيلة عليه، كنت هقولك إنك الوحيد في كل الدنيا دي اللي حبني بجد، الوحيد اللي اختارني في الوقت اللي كنت بختار فيه نفسي، بس زي ما أنا أتسرعت كتير وظلمتك، المرة دي أنتَ اتسرعت ووجعتني بكلامك ودا حقك برضه، وأقل من حقك، الدنيا مش كلها نهايات سعيدة زي الأفلام والمسلسلات، نهايتنا مع بعض من أحزن النهايات بس أنا فاكرة كل الحلو اللي فيها..
_أنا أخترت النهاية دي لنفسي علشان شوفتها في عينك إنك خلاص مش عاوزني، أول مرة أشوف الكره دا منك، فحسيت إن دي هي النهاية الأخيرة لينا مع بعض، صدقني أنا خوفت آذيك تاني وخوفت أضعف ومعرفش أعيش من غيرك علشان كدا أخترت أموت نفسي، خوفت عليك مني وخوفت مقدرش أمنع نفسي تاني إني آذيك بس والله أنا محدش علمني حاجة ولا حد كان بينصحني، أنتَ بس اللي كنت معايا في الدنيا، وآخر حاجة هقولها ليك هي أني محبيتش “يـوسف” زي ما حبيتك أنتَ، جايز كنت مبهورة بيه وبحياته وبشكله، بس لما حبيت حبيتك أنتَ، سامحني يا “نـادر” ولو ينفع أبقى تعالى زورني عند قبري، مرة حتى بس كل فترة، واتأكد إني اخترت الأذى لنفسي علشان مأذاكش أنتَ، وأخيرًا هقولهالك لأول ولآخر مرة؛ بحبك يا “نـادر” ومحبيتش حد غيرك…
مع نهاية الخطاب كانت البداية لإنفجار الدمع منه كي تُعانق العبرات أثر دمعها العالق فوق الحبر بالخطاب وأقصى ما استطاع أن يتحدث به من بين ذلك كله كانت جملة واحدة يتمنى بها المُستحيل:
_ياريتني ما حبيتك يا “شـهد”.. ياريتني ما حبيتك.
وفي قوانين البشر بتلك الدنيا..
كانت “ياليت” لا تُقيم قوائم البيت، فنتمنى المستحيل ونرغب ما لم يمكن له أن يحدث، أو بالأحرىٰ نحن من خذلنا أنفسنا حينما نتمادىٰ ونطمح فيما يكون أكبر من واقعنا ثم نُلاقي الهزيمة بشرها في أنفسنا، نحن خُذِلنا ولم نجد خُذلانًا أكبر من ذاك الذي خذلنا به أنفسنا.
__________________________________
<“رُبما كانت النهاية معلومة من البداية؛ لولا الفضول”>
الفضول هو من يدفع المرء كي يكتشف…
ففي بعض الأحيان قد تكون النهايات معلومات لكن ثمة شيءٍ فينا هو من يدفعنا للتجربة؛ وماهو إلا الفضول المزعوم بداخلنا يجعل كل حماسنا وشغفنا يتجه نحو تلك الأشياء المخبوءة في مكمن الأسرار بداخلها..
بدأت عتمة الليل تزداد أكثر وقد وقف “أيـهم” على أعتاب وكالته ينتظر مجيء زوجته بابنه وما إن أتيا له تنهد هو ثم تحرك كي يقف بمحاذاة سيارته، أتى له ابنه ركضًا وقال بلهفةٍ:
_”أيـوب” جه سلم عليا قبل ما يطلع شقته، وجابلي حاجات كتيرة أوي أوعى تيجي جنبهم لحد ما أرجع تاني، أنا خدت الحاجة الحلوة وهتلاقيني سايبلك هناك زيها.
ابتسم له “أيـهم” ثم بعثر خصلاته بمشاكسةٍ وبعدها رفع عينيه تجاه زوجته يسألها بعدما تنهد بعمقٍ تنهيدة ممدودة بمللٍ بدأ يساوره:
_خلاص؟ ناويين علشان أتكل بيكم؟.
أومأت له موافقةً وقد ركبوا السيارة بعدما ودع الصغير جده واستمع لوصاياه بشأن الليلتين القادمتين عليه في بيتٍ غريبٍ يَزُره لمرته الأولى في حياته، وقد وصل بهم “أيـهم” لمقدمة الشارع المُزين بإضاءة ذهبية سارقة للانتباه وقبل أن يترجل أيًا منهم من السيارة أوقف صغيره بقوله:
_مش هوصيك، الست دي أمانة في رقبتك.
أندفع الصغير نحوه من الخلف يطوق عنقه بذراعيه الصغيرين ثم قال بنبرةٍ ضاحكة يؤكد ما سبق وقاله والده له:
_في عيني متقلقش، لو حد قرب منها هجيب كرشه.
حينها التفت هو لزوجته وهتف بجديةٍ تصطبغ بالصرامةِ:
_طب يا “نِـهال” أظن مش محتاجة أقولك تكلميني علشان ألحق أجيب المحامي والتُربي بالمرة، يا زين ما ربيت والله.
تحول حديثه من الجَدِ إلى الهزل والسخريةِ وقد ترجل الصغير أولًا من السيارة بينما هي وقبل أن تترجل أقتربت منه تُلثم وجنته بلثمةٍ مسروقة بسرعةٍ ثم أضافت بنبرةٍ ضاحكة:
_خلي بالك من نفسك الليلتين دول، أوعى أرجع ألاقيك عامل زي الأفلام الهابطة بقى ومتجوز عليا، شوفتها كتير وبقت حمضانة أوي في الأفلام والمسلسلات الهابطة.
ضحك رغمًا عنه ثم قال بنبرةٍ هادئة على عكس عادته:
_طب يلا أنزلي وخلوا بالكم من نفسكم، ولو حصل حاجة كلميني وهاجيلك لحد عندك، وماتنسيش كلامي، أنتِ ست الستات كلهم ومش ناقصك أي حاجة، بالعكس فيه غيرك كانت حياتهم ناقصة كل حاجة قبل ما تيجي أنتِ.
الحديث منه دومًا يملك أثرًا بالغًا عليها، تعجز عن الرد أمامه وتقف تائهة في عينيه نظير لحظة دافئة معه وقد استغل هو هيامها وبسمتها العذبة فمال عليها يُلثم وجنتها وحينها اندفع “إيـاد” برأسه من النافذة المجاورة لها هي وهتف بشقاوةٍ ومرحٍ:
_ما كنا في البيت براحتنا، حاسب أحسن أبوها يشوفك.
ازداد خجلها وهي تجلس بهذا المنظر بينما “أيـهم” فعاد للخلف بتروٍ ثم حمحم بقوةٍ يحاول استعادة هيبته حتى وجدها تفر من جواره بسرعةٍ كُبرى جعلته يحقد على صغيره الذي ولج برأسه من النافذة يشاكسه بعبثٍ:
_معلش يا حج “أيـهم” بوظت عليك اللحظة، تتعوض لما نرجع إن شاء الله من تاني، عاوز حاجة مني؟ أؤمر.
ضيق الآخر جفونه ثم اقترب منه يهمس بشرٍ صريحٍ دون أن يخفي عنه نواياه التي أضمرها في نفسه:
_لأ يا حبيبي ميأمرش عليك ظالم، بس وعد مني هترجع تلاقي حتة مفاجأة؟ عارف باب زويلة اللي حكيتلك عنه؟ هعمل أخوه بالظبط في حارة العطار، وهستفتح الشُغلة بيك.
دار”إيـاد” بعينيه في المكان ورفرف بأهدابه كدليلٍ على الخوف ثم مازح والده بقوله متجاهلًا عن عمدٍ كل الكلام الذي قيل له من قبيل التهديد:
_طب يا بابا في رعاية الله، ربنا يستر طريقك.
أنهى الحديث ثم ركض يجاور أمه ويمسك الحقائب عنها وقبل دخولهما البيت التفتا له يودعانه بكفيهما وحينها ابتسم هو لهما ثم تحرك بعد دخولهما، قاد السيارة بمشاعر مختلطة ومتباينة مع بعضها عجز هو عن تفسيرها، لم يفهم سبب سعادته بما وصل إليه معها، ولا يفهم سبب حزنه لغيابهما عنه لمدة ليلتين كاملتين؟! الأمر في قمة بساطته وهو يضعه في قمة المُبالغة، لكن يبدو لأثر تواجدها في حياته كل شيءٍ جميل، هي ذاتها جميلة وكأنها خُلِقت خصيصًا لأجلهِ كي تُناسبه هو من بين الجميع..
عاد للحارة من جديد ودخل يجاور والده في مقر العمل وحينها جلس بوجهٍ مبتسمٍ جعل والده يطالعه بحيرةٍ حتى وفجأةً صدح صوت الألعاب النارية بالخارج ترافقها سيارات تصدح بأبواق عالية في الخارج كدليلٍ على مُناسبةٍ قادمة إليهم وقد أتى “تَـيام” من الخارج وألقى عليهما التحية ليبادر الكَبير بسؤاله:
_هو في إيـه برة؟ فرح دا ولا إيه؟.
حرك عينيه بتيهٍ بينهما ثم رد على السؤال بآخرٍ غيره:
_هو “إيـاد” فين بس؟.
نظر الاثنان لبعضهما البعض ثم عاد له “أيـهم” يجاوبه بنظراته قائلًا بتيهٍ وتشوشٍ كون السؤال لا يتناسب مع الآخر:
_”إيـاد” مع مامته عندهم فرح، بتسأل ليه؟.
_أصل اللي برة دا فرح أم “إيـاد” ودي زفتها، فقولت أشوفه علشان ميخرجش والحمدلله إنه مش هنا، أهيه هتخلص وتطلع على السعودية، ويا رب مترجعش تاني هنا.
لفظ “أيـهم” أنفاسه براحةٍ وكأن هناك هَمٌ كان يجثم فوق صدره يمنع التنفس عنه، لكنه عاد وتذكر الحديث المُقال من فم الآخر فسأله بتعجبٍ:
_هي رايحة تعمل عمرة يعني؟ هتتوب لربنا خلاص؟.
حديثه كان ساخرًا أكثر من كونه مُستفسرًا وقد جاوبه الآخر بثباتٍ يفسر مضمون الأمر بطريقةٍ أقرب للاستهتار بها:
_لأ دي متجوزة واحد شغال في السعودية علشان كدا هتروح تعيش معاه هناك، وبصراحة كدا أحسن، ربنا يبعدها عنك أنتَ وابنك ويكرمك في حياتك ويكرمها بعيد عنك، حتى ابنك يعني خلاص خرجها من حياته.
أومأ هو موافقًا له ثم خرج وطَلَّ بعينيه على الخارج فوجدها تسير بجوار زوجها تمسك بكفه بسعادةٍ تعجب هو منها، فتش بعينيه عن تلك الأخرى التي كان يعرفها وحمدًا لله أنه لم يجدها، حمد ربه أن دربه معها أنتهى هُنا، وأن الطريق أصبح يناسب أخرى غيرها، ثم عاد يُفتش بداخله عن مثقال ذرةٍ لها من مشاعرٍ قد كان يحملها لها، لكنه حتى لم يجد..
فقط الخواء والفراغ هما ما يسكنانه، النسيان والإنكار هما ما يتدفق بهما عقله، راحة غريبة يشعر به كأنه قام ببتر ساقه كي يُحافظ على سائر جسده من انتشار مرضٍ خبيثٍ كان يتوغل في الجسم سرًا، وكما سبق وقال له شقيقه:
“الخالق يُكرمنا فَيُحرمنا، ثم يُعطينا فَيرحمنا”
__________________________________
<“ولما وجدتُكَ راحلًا علمتُ أن الروح تُغادرني”>
في واحدةٍ من أساطير العشق..
قيل أن الغيرة هي المحرك الأكبر لأعتى الآلات حتى تلك التي غلفها الصدأ وسكن أثر الزمن في كل خليةٍ بها، فهي دومًا كما الشرارة التي على أثرها تندلع النيران فيحدث ما كان مَرجوًا وآملين في حدوثه…
صباح اليوم الجديد يُعني البداية الجديدة لكل نفسٍ معطوبة كان الوجع رفيقًا مُلازمًا لها، لذا مع ظهور أول خيوط الشمس تظهر بسمات الأمل في الوجوه كافة حتى تلك الأوجه الواجمة التي لا تبتسم، وهو هُنا عاد من بعد لقاءٍ أهدته هي له ليكون نُذرًا يخبره عن ترحيبها به وبحياته..
كان كما التائه يبحث عن سهمٍ يُشير لأي جهةٍ معلومة لكنه لم يجد، كل المواطن غربته، وكل الطُرقات طردته، وكل الدلائل خذلته؛ ولا زال يبحث عنها هي تحديدًا، صال وجال في المشفى بأكمله وهي لم تظهر رغم يقينه بأمر مجيئها بسبب سيارتها المصفوفة بالخارج، وقبل أن يخطو خطوة جهة اليسار؛ صوت ضحكتها وصله من جهة اليمين..
التفت “مُـنذر” بتيهٍ فوجدها تقف وسط مجموعة من الأطباء من الجنسين وتضحك معهم وهم أيضًا يبادلونها الضحكات ويبدو أنها سعيدة حقًا، ماذا يفعل هو في أمره وحاله وهو يراها بتلك السعادة بدونهِ؟ غرق في التفكير ورغمًا عنه أُضرِمت النار في قلبه فتحرك نحوها ثم وقف بجوارها يُلقي تحية جامدة بوجهٍ مُقتضبٍ:
_صباح الخير.
_صباح النور.
كانت تحية خافتة آلية مُرددة ومُكررة، وقد لاحظ هو تبدل الملامح بمجيئه وتعجب هل هي فقدت عقلها وفعلتها وأخبرت الجميع عنه؟ هل أنتقمت منه بتلك الطريقة كي تسترد كرامتها المهدورة في ساحة عشقه؟ غرق في التفكير وهو يراقب الملامح حتى بدد أحدهم ظنونه بقوله:
_كويس إن حضرتك جيت، كنا بنقول للدكتورة بما إننا محضرناش الخطوبة بتاعتكم إيه رأيكم نحتفل بيكم برة قبل كتب الكتاب وأهو نكون براحتنا والعزومة دي علينا أنا ودكتور “هـاشم” بما إنك خلاص بتدخل القفص برجلك، أهو تفتكرنا، بس هي قالت إنك ممكن ترفض.
حرك عينيه نحوها هي فوجدها تبادله النظرة بأخرى فقدت الحيل بأكملها كأنها تُلقي الأمر له هو في ساحته وحينها عاد بالنظر للآخرين ثم قال بثباتٍ:
_متشكر جدًا بس بلاش تكاليف لحد أو عزومة، كتب الكتاب خلال أيام بسيطة جدًا ونعوضها كلنا إن شاء الله، وأكيد هستناكم طبعًا أنا والدكتورة “فُـلة” خطيبتي اللي هتكون مراتي خلال أيام إن شاء الله، متشكر مرة تانية.
لا يعلم لمن يبث تلك الحقائق، لهم هم حوله، أم لنفسه حتى لا تخونه وتفعل ما لم يرغبه هو، أقر وأخبر الجميع بما ينتويه وقد أنهالت عليهما المباركات حتى فرغ المكان عليهما فأشار لها بصمتٍ أن تتبعه حينها رفعت أحد حاجبيها ثم ربعت ذراعيها ووقفت محلها، وما إن عاد لها يسألها بنظراته وجدها تتمرد وتخبره برأسٍ مرفوعٍ:
_دي المستشفى بتاعتي، أنتَ اللي تيجي ورايا.
أنهت حديثها ثم سبقتها برأسٍ مرفوعٍ وثقةٍ لامُتناهية كأنها ذاهبة كي تتوج بجائزةٍ ذهبية، ولم يمنع نفسه من الضحك على طريقتها وهو يتبعها حيث مكان ذهابها وما إن وصل وجدها تضيق جفونها تسأله عن سبب أفعاله وأحاديثه فوجدته يتنهد بقوةٍ ثم اقترب منها يجاوبها بصدقٍ:
_بصي، يمين شمال مش هينفع أكون بعيد عنك، مش هقبل حد يجيب سيرتك بكلمة واحدة أو حد يفكر فيكِ بطريقة مش كويسة، علشان كدا بقولك، نحدد معاد كتب الكتاب وتكوني مراتي وأوعدك إني مش هقصر في حمايتك ولا حقك، مش هخلي حد يقرب منك لو التمن قصاد دا روحي كلها، بس أنا هطلب منك طلب واحد بس، عاوزين نتعامل عادي زي أي اتنين، نحاول مع بعض يمكن اللي أنا معرفهوش أشوفه على إيدك أنتِ، واللي فات وقت ما هكون قادر هعرفك بيه كله، بس صدقيني أنا مش بايدي أي حاجة، يمكن ربنا جمعني بيكِ لحكمة أنا مش فاهمها، بس مسيري هفهم.
استشفت الصدق في نبرته كأنه يُخبرها خفاءً أن حديثه خرج من قلبه لها، لاحظت عينيه وهي تنطق بكل شيءٍ يؤكد التفوه بالكلمات حتى شعرت بالدفء يتوغل لداخل قلبها، لأول مرةٍ تشعر تجاهٍ رجلٍ بشيءٍ يتراقص فوق أوتار القلب، وقُدِرَ لها أن يكون هو، هو لا غيره من بين الجميع..
أومأت له موافقةً وتجهزت هي كي تتركه وتختفي من أمامه قبل أن يفتضح الشوق من عينيها، لكنها عادت الخطوة من جديد وأخبرتها بلهجةٍ آمرة تحذره من تكرار الأمر:
_أنا ممكن أقبل فيك كل العِبر إلا إنك تحسسني إني تقيلة عليك أو عالة مفروضة على حياتك وأنتَ مضطر تقبلها.
أنهت الحديث وخطت من جديد تسبقه بخطوتين وكما المعتاد أوقفها هو حينما ناداها باسمها الذي لم يختلف أثر نطقه:
_”فُـلة”… أنتِ مقامك عندي أكبر من إنك مفروضة عليا أو حتى عالة وأنا مجبور عليها، أنتِ مينفعش تقولي على نفسك كدا، علشان أنا عمري ما شوفتك ولا هشوفك كدا.
نزلت العَبرات من عينيها ودق قلبها بتهورٍ كأنها تتجهز لسباق العِدو وعليها أن تأخذ كافة الإحتياطات اللازمة، صورة الماضي ومضت أمام عينيها وعادت وخبأت من جديد وهي تتذكر لمسات كريهة فوق جسدها الصغير ونظرة خبيثة كانت ترمق جسدها متوشحة بلباس اللُطف، ودناءة طبعٍ من رجلٍ يحمل دم أبيها وليس بشبيهٍ له..
خطت نحو مكتبها وأغلقت على نفسها وهي تتمنى أن تشاركه هو الأمر، تتمنى أن تخبره بكل شيءٍ تكتمه في سريرتها وتضعه في خزينة الأشياء المخبوءة داخل سراديب العقل، تتمنى إخباره أن الماضي كما سبق وقتله وقتل هو به، أنها أيضًا من المقتولين على يد الأقارب وليس الغُرباء..
تبدو كأنها مصفوعةٌ عن ذي قُرب،
وكأن الصفعة كُلما أقتربت؛ كُلما زاد أثرها قوةً، فتلك الطعنة التي تأتيك من بعيدٍ، لا تُماثل مثقال ذرةٍ من أثر تلك التي تأتيكَ من قريبٍ منكَ كنت تأمن على نفسك معه هو.
__________________________________
<“ولأن النهايات السعيدة أسطورية،
تلك منذ البداية حزينة”>
في مواثيق العشق والغرام قالوا أن النهايات السعيدة خُرافية وكأنها تُخالف قوانين المنطق، ولأجل ذلك فإن بعض القصص منذ بدايتها يُختتم فوقها بختم النهاية الغير سعيدة، وكأن الأمر يتم رضاءً بحسبة القلوب، وإنما بحسبة العقول لا يَصح أن يتم الأمر كما دُبِرَ له…
الأيام بدون من نُحب ثقيلة..
تمر ببطءٍ قاتلٍ كأنها سيفٌ ثالمٌ يتراقص فوق العُنق، لذا النجاة قد تكون في لقاءٍ يحمل معه الخلاص من كل شيءٍ يفتك بالنفسِ الملولة في انتظار ما تود، أنهى “عُـدي” عمله ثم خرج من المقر وقرر أن يذهب إليها، يكفيه عدد الأيام المارة عليه بدونها، كانت خير أنيسٍ له والآن هو يعلم أنها تهرب منه، لذا عليه أن يواجه السيف قبل أن يلوم القاتل..
وصل إلى بيتها وهنا أصابه التردد، فشتان ما بين مجيئه عند خطبتها وما بين حالته تلك وهو يقف بترددٍ أن يطأ بقدمه أرضها التي استبسل لأجلها، ولأجل الحصول على صك ملكيته لها، قرر أخيرًا أن يُكمل الخُطى فولج البيت على استحياءٍ وتقابل مع أُمِها التي ما أن رآته بدت كأنها وجدت نجدتها ونجدة ابنتها…
جلست معه في حديقة البيت باكيةً وشاكيةً حال صغيرتها التي عادت لحالها القديم وسقطت في هوةٍ ساحقة تُسمى بنقطة الصفر، أخبرته عن طيلة صمتها وعن بكائها وعن ابتعادها وعزوفها عن العالم، وحينها شعر أنه أول المُقصرين في حقها، رُبما أراد أن يترك لها الفرصة كي تختار وهذا ما أكده العقل له، لكن القلب نعته بالكذب وأخبره أنه أراد أن يثأر لأجل كرامتهِ فاختار أقسى الطُرق عليها..
دقائق مرت عليه وهو يجلس في انتظارها حتى خرجت أخيرًا وسمحت لطيفها أن يسري أمامه، تلهف لرؤيتها فاستقام واقفًا بمواجهتها ليجدها تقف على مقربةٍ منه وكأن في عينيها العتاب ولا يعلم لمن، أهي تعاتبه هو على الهجر والغياب، أم تعاتب نفسها على ما فعلت بنفسها من عذاب؟ لمن نتحدث ومن لنا يستمع إن كانت قلوبنا أغلقت في وجهنا الأبـواب؟.
جلست بصمتٍ وقد جاورها هو بعد رحيل أمها، فوجدها تسحب الهواء عنوةً داخل رئتيها ثم قالت بصوتٍ أعرب عن اضطراب نفسها وشتات حالها:
_عارفة إني تعبتك وجيت عليك بس أنا آسفة، مقدرتش أخرج من الحالة دي وأنا شايفة الماضي كله بيرجع من تاني كأني معيشتش يوم واحد من بعده، كل حاجة حواليا بتقول أني وحشة وأنانية وظالمة وخاينة كمان، أنانية علشان أخترت أنساه وأكمل حياتي، وظالمة علشان مفكرتش في حد غير نفسي، وخاينة علشان أنتَ متستاهلش مني كدا، متستاهلش إنك تكون مجرد حد مكان حد تاني، بس أنا والله مش شايفاك كدا، أنا متأكدة إنك عندي كبير أوي ومش مجرد حد وخلاص جه حياتي.
بكت وهي تحدثه كأنها تستجديه أو رُبما تجعله مُطلعًا على كتاب ألغازها كي يقوم هو بفك الشفرات المُعقدة حدَّ التعجيز، أرادت أن تجعله عالمًا بنفسها الضعيفة الهشة التي لم تملك مثقال ذرةٍ من ثباتٍ تدعيه هي، طالعته بآسفٍ فوجدته يُشفق عليها، نظراته ترأف بها وبما تُعانيه، لذا وبغير حسابٍ أمسك كفها الذي سبق ووُضِعَ به خاتمه ثم أسلت الخاتم من بِنصرها تحت نظرات الدهشة المصحوبة بالصدمةِ منها، بينما تنهد هو بقوةٍ يُحرر أنفاسه ثم قال بخبطةٍ في مشاعره:
_أنتِ مش وحشة ومش خاينة ومش ظالمة كمان، أنتِ أجمل وأحلى قلب في الدنيا كلها، وهو كان محظوظ بيكِ أوي، هو كمان كان جميل زيك وكان بطل الناس كلها برة بتجيب سيرته بكل خير، اللي يضحي بحياته وعمره علشان أرضه وبلده وأهله يبقى بطل، ويتزعل عليه العمر كله كمان، وعلشان أنا ماكونش أناني، بلاش دِبلتي دلوقتي تكون في إيدك، خدي وقتك في الزعل عليه، خرجي كل اللي جواكِ ليه، بلاش ترسمي وش أنتِ أضعف منه، هو يستحق زعلك أكتر مني…
أخفضت عينيها نحو كفها الحُر ثم عادت تقرأ ملامحه التي لم تفهم منها أي شيءٍ، لكنها سألته بتيهٍ وبكاءٍ كانا هما أول الحاضرين من أسفل رُكام روحها:
_أنتَ هتسيبني؟.
والنبرة هنا تقتله هو قبل أن تقتلها هي، النبرة المسكينة المنكسرة جعلته يتقهقر كقائدٍ أشفق على حال غريمه، فلم يكن أمامه إلا أن يقوم بصبغ الحوار بما لا يضر بقدر ما ينفع:
_مش هسيبك، بس مش هكون معاكِ وأخليكِ تضيعي مني، البرواز مش مكفي صورتين مع بعض، على الأقل دلوقتي نخلي فيه الصورة اللي محتاجينها تظهر، حرري نفسك مني وسيبك من التفكير فيا وفي عقدة ذنبي، أنا مقدر مشاعرك والله كلها، ومش هضغط عليكِ، ووقت ما تحسي إنك محتاجاني أنا هتلاقيني معاكِ.
الحديث كان بلسمًا يُطيب الجروح المتوسطة في الروح المعطوبة، كلماته كانت تملك الأثر الطيب حتى أدركتها هي فكفكفت دموعها وعادت تسأله بصوتٍ باكٍ:
_طب ولو مقدرتش أرجع تاني؟.
والسؤال هُنا كان مؤلمًا، تسأله هي عدم العودة وعليه هو أن يُجيب ويُطمئن، لذا تنهد بقوةٍ وجاهد كي يرسم الشجاعة والتطوع، فأتاها قوله الباسم بضحكةٍ حزينة مقتولة:
_هبقى كسبت أخت جميلة أوي طول عمري.
_طب لو قدرت أرجع، هلاقيك؟.
سؤالٌ مُفعمٌ بالأملِ جعله يرفع عينيه ويُثبتها على زرقاوتيها ثم قال بصدقٍ أكبر تلك المرة كأنه يُطمئنها بقدرٍ أكبر:
_ولو مرجعتيش في كل الأحوال مستنيكِ.
أختتم حديثه بإيماءة بسيطة من رأسه جعلتها تبكِ أمامه من جديد بينما هو فسحب المحارم الورقية ثم أعطاها لها حتى أخذتها هي ومسحت وجهها فوجدته يبتسم لها ثم بدل الحديث بغيره ممازحٍ لها:
_بقولك إيه الشركة كلها بتغرق من غيرك، أنا مش فاهم حاجة وماشي أخبط ومتحمل هرمونات “مادلين” وساكت، بكرة الصبح هعدي آخدك من هنا وتوصليني معاكِ بالمرة، إلا نبدأ نخصم بقى.
ابتسمت هي من بين عبراتها المُنسابة فوجدته يتحرك من جوارها كي يرحل، أولاها ظهره وتجهز للرحيل وأول ما بدر لذهنها بعد رحيله كان قولًا ألقاه عليها القلب وكأنها توجهه لقلبه:
_”لكنك تركتني عالقًا بالمنتصفِ..
فلا أنا أمنتُ عند البدايات
ولا أدركت سلام النهايات؛
أنا هُنا بين الطريقين تائه الخُطىٰ،
حائرٌ بيني وبين آخرٍ كان يُشبهني”.
والقلب هُنا يخبرها هي الحقيقة قبله هو، يخبرها أن ظهوره كان أمرًا غريبًا جعل حياتها تنقلب رأسًا على عقبٍ، فلا هي في بداية الطريق كي تعود بأدراجها حيث أتت، ولا هي أدركت النهاية كي ترتاح من التفكير في القادم، هي فقط عالقة في المنتصف بين كلا الطريقين ولا تعلم أيهما ستختار..
ثوانٍ مرت فقط بعد إختفاء أثره، ووجدت بعدها الحديقة تمتليء بالرجال وكأنهم أتوا خصيصًا لمحاصرتها وحينها شدت طرف حجابها تقف في الحديقة مُحاصرة برجال الشرطة وقد لمحت “عُـدي” يعود لها ركضًا بخوفٍ عليها، وقد تقدم أحدهم منها يسألها بنبرةٍ جامدة:
_أنتِ “رهـف المُحمدي”؟.
أومأت له موافقةً بخوفٍ وتيهٍ وعيناها تطوف بخوفٍ في المكان كأنها طفلة صغيرة تائهة في الحرب من بعد هدنةٍ خادعة أتت الدقائق بعدها بصوت القصف الذي أتى على هيئة قولٍ جامدٍ:
_طب أتفضلي معانا.
والأمر هنا نافذ لا محالة، وإلى هؤلاء الذين يتساءلون أي قانونٍ ذاك الذي لم يُخضع السُلطةِ له، فيتوجب علينا إخباركم أن قانون الغاب يسود فوق كل قانونٍ، هنا حيث أنتَ فريسة بين أنياب الذئاب، ودفوعك الشرعية متواطأة أسفل قانونٍ أسسه وُضِعَت كي تلِق بغابةٍ وليست حياة للبشر.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى