روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والحادي والثلاثون 131 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة والحادي والثلاثون 131 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والحادي والثلاثون

رواية غوثهم البارت المائة والحادي والثلاثون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والحادية والثلاثون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل السادس والأربعون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
‏ربّاهُ إنَّ الروح ترجو رحمةً
تــاه الطريقُ فيا إلهى دُلّها..
ضاقت بها الدُنيا وبابُك مُشرعٌ
إن لم تڪن أنت المغيثُ فمن لها؟
ربّاهُ عبدك ضعيفٌ ضاع في
الدُنيا وضاعت نفسه كُلها
دُلني برحمتك الواسعة وإن
كنتُ عاصيًا، فما أعظم رحمتك
وَوُسعها.
_”مقتبس”
__________________________________
هُناكَ بآخر المدينةِ المُظلمة جذبتني أعين تلمع رغم حُزنها، فرأيت بها وهجًا خطف القلب رغم أنني القوي الذي يخشاه كل الناس، كانت عيناها كما القمر المُكتمل بليلة الخامس عشر في الشهر الهجري، مُكتملة ومُضيئة وكأن الحزن يحاوطه لأنه بمفرده، وأظن كذلك كانت عينيكِ في لقائنا الأول، فأنا أعلم جيدًا كم هي قاسية تلك الوحدة التي تجعل المرء مستوحشًا في دُنياه، لذا حينما أقتربت منكِ وظننتكِ طريقًا عابرًا من وسط الطُرقات، تفاجئتُ بِكِ أنتِ نهاية المدينة وآخرها، وأنتِ فيها شمسها وقمرها، فعلمت أن ما فاتني قبل رؤياكِ هو الفراغ بعينيه، فما فاتني قبلك لا يُعنيني، وما هو قادم إن كان بدونك ليس بشيءٍ سيهديني، فهل من قلبٍ مُصابٍ أن ينجو من عينين داهته للهوىٰ وهو الذي كان صامدًا وبعمره ما اهتوى؟ فإن سألوني هل تود العودة والنجاة من سُبل الحُب والهوىٰ وسألوا الروح هل تودِ العودة كما كنتِ، حتمًا سيكون الجواب “أن كُل الهوى نود منه الشفاء إلا الهوىٰ الذي جعل القلب يهتوىٰ، فحتمًا نود الدواء من كل هوىٰ إلا هوىٰ دهتنا عليه عيونك أنتِ.
<“أردتُ أن يكون نصيبي من الدنيا كما نصيب الطير”>
كل يومٍ نتعلم ونصبر ونتأكد إن هناك لم نُدركه بعد لكنه محفوظٌ لأجلنا، لطالما كانت آفة الإنسانية هي التعجل على أشياءٍ رُبما تأتِ لنا في أوقاتها الصحيحة، ورُبما لم نُدركها إلا في وقتٍ مكتوبٍ لنا، لكن ثمة بعض التعجل الذي يُصيب المرء فيجعله ناقمًا وليس صابرًا، ومن ثم تضيع كل الأشياء من بين يديه.
انقلبت السيارة بكليهما ورست جهة اليسار حيث موضع جلوس” أيـوب” الذي حاول بكل طاقته أن يحمي “يـوسف” وينقذه، فلا شك أن الضرر أصابه هو بكثرةٍ بداخل السيارة قبل أن يركض الناس نحوهما وتصرخ لأجل إنقاذهما سويًا، وبعد مرور الكثير من الوقت أتت سيارة الأسعاف وحملتهما لأقرب مشفىٰ على الطريق، وصلا المشفى وكانا غارقيْن في الدماء التي لطخت أجسادهم وملابسهم ولا شك أن حالتهم كانت تساورها الخطورة خاصةً مع انقطاع نفس أحدهما.
بدأت حالة من الهياج تعج بالمشفى خاصةً في قسم الطواريء وركوض طاقم العمل نحو غُرف العمليات الجراحية، وقد خرجت واحدة من الممرضات تحمل أشيائهم ثم قامت بتسليمها للاستقبال بالخارج، وعادت ركضًا لهناكَ من جديد.
كان “أيـهم” في مكتبه بالعمل وبجواره جلس “إيـاد” الذي كان يلعب بهاتفه فصدح صوت هاتف والده الذي حدثه آمرًا:
_وطي صوت التليفون اللي في إيدك علشان أسمع أنا.
نفذ ما أمره به والده، فيما قام “أيـهم” بفتح مُكبر الصوت يجاوب على المكالمة بنبرةٍ عملية وهو يدون أشياءً في الدفتر أمامه، فوجد صوت رجلٍ يهتف بثباتٍ:
_مساء الخير، حضرتك الأستاذ “أيـهم العطار”؟.
_أيوة أنا يا فندم خير، أؤمرني.
هكذا كان جوابه وهو يرد عليه فوجد الآخر يضيف بلهجةٍ أكثر اهتزازًا من سابقتها وكأنه يُجاهد لإخباره بتلك الكارثة:
_طب يا فندم الرقم دا لقيناه في كارت الشغل مع أخو حضرتك، عرفنا من البطاقة إنك أخوه، معلش يا فندم الأستاذ “أيـوب” عمل حادثة على الطريق ومعاه كمان واحد اسمه “يـوسف مصطفى الراوي” وهما موجودين في مستشفى *******.
هوى فؤاده أرضًا في الحال وتدفقت الدماء نحو رأسه بغزارةٍ وشُلَت حركته كُليًا، أما ابنه فكان الأسرع حينما أغلق هاتفه وهرول لوالده باكيًا فانتبه له “أيـهم” وزاغ بصره لوهلةٍ ثم اندفع واقفًا ما إن أدرك أن هذا هو الواقع المرير وليس كابوسًا، ركض بابنه نحو البيت يتركه لأمه التي لاحظت قلقه وخوفه فسألته بلهفةٍ رافقها القلق:
_مالك يا “أيـهم” حصل حاجة طيب؟.
أومأ موافقًا وجاوبها بصوتٍ مُهتريء لا حياة به ولا روح حتى بل كان تائهًا وضائعًا يود أن يمسك بيده أحدهم:
_”أيـوب” عمل حادثة و “يـوسف” معاه.
شهقت هي بفزعٍ ورفعت كفها تُغطي فمها تلقائيًا فيما أوصاها هو على ابنه ثم رحل من البيت بخطواتٍ واسعة فضمت هي الصغير لعناقها وظلت تُطمئنه وتمسح فوق رأسه حتى وجدته يتشبث بها باكيًا وهو يخشى فراق عمه أيضًا، لقد ظن نفسه عليلًا بمرض الفراق وكل من يحبهم يختارون مُفارقته، لذا شاركته البكاء وهي تحفظه بكنفها الآمن وظلت تضم كفيه في راحة كفها وهي تُطمئنه بصوتٍ مُرتجفٍ:
_هيرجع، إن شاء الله هيرجع تاني ويكون كويس، ادعيله زي ما علمك تدعي وتطلب من ربنا، وخليك واثق وخلي إيمانك كبير بربنا يا “إيـاد” ادعيله يا حبيبي يرجع تاني البيت وربنا يرده لينا بالسلامة.
في مكانٍ آخر كان “بيشوي” وصل شقتهم ومعه الثلاثة بعد إصراره أمام “جـابر” وتمسكه برأيه في آخذهن حتى حدث ما أراد وأخذهن معه لبيته، وقد رحبت أمه بهن بحفاوةٍ وقبل أن يتحدث هو صدح صوت هاتفه برقم “أيـهم” فجاوبه لكي يخبره أنه لن يذهب للعمل حاليًا فقاطعه الآخر بصوتٍ عالٍ:
_يولع الشغل دلوقتي، “أيـوب” و “يـوسف” علموا حادثة في مستشفى ******* وأنا مش هعرف أقول لأبويا غير لما أتطمن عليه الأول، تعالى أنا لوحدي ومش عارف أعمل إيه.
بالطبع هو أجاد في اختيار من يعاونه، فهذا الرفيق لم يسبق له أن يتركه بمفرده في محنةٍ قبل المِنحة، لذا تحلى بصفة القوة وأوقفه مكانه ثم ركض دون أن يخبر النسوة بأي شيءٍ خوفًا من انتشار الخبر، وقد ركض نحو “أيـهم” الذي وقف في الأسفل ينتظره فاقترب منه يُشدد أزره بقوله:
_هيبقوا كويسين متقلقش، أنا معاك أهو وهنروح نشوفهم يلا هات المفتاح هسوق أنا اركب يلا، اركب.
ساعة بالتقريب مرت وصلا بعدها للمشفى بهرولةٍ وأنفاسٍ مُتقطعة أقرب للهُاثٍ وصدرهما يعلوان ويهبطان بعنفٍ وقد اقترب “بيشوي” من طاولة الاستقبال يسأل عنهما فأشارت له نحو غرفة العمليات تخبره أنهما في داخلها، حينها وقف “أيـهم” بقلبٍ يتأكل من النيران خوفًا عليهما سويًا، فلم يعد يعلم أيهما يؤلم قلبه أكثر، اقترب منه “بيشوي” يحدثه بنبرةٍ خافتة:
_لازم يعرفوا يا “أيـهم” عرف أهل “يـوسف” كمان.
أول من جالت بخاطره هي “قـمر” بالطبع تلك هي الأصعب من بين الجميع، لذا كاد أن يرفض لأجلها حتى لا تتضرر ويصبح هو المسئولًا عنها، لكن رفيقه اقنعه أن هذا هو الصواب لكن بعد مرور بعض الوقت فمرت ساعة عليهما في خوفٍ وتضرعٍ وتمني عقبها ساعة أخرىٰ في ضياعٍ وخوفٍ ليخرج أحد الأطباء من الداخل فهرولا له بسرعةٍ ليقول هو بثباتٍ:
_أستاذ “يـوسف” بخير الحمدلله، فيه بس شرخ في الكتف وجروح وكدمات الحمدلله عدت وحاليًا هيروح غُرفة الآشعة علشان نتأكد إن مفيش نزيف داخلي أو حاجة، بس الحمدلله حالته مستقرة.
اندفع “أيـهم” يسأله بخوفٍ عن شقيقه وقد جاهد لكي يَخرج صوته مسموعًا من بين أنفاسه الهاربة والرجفة التي احتلت صوته وكلماته وجسده:
_طب، طب “أيـوب” أخويا حالته إيه؟.
مط الطبيب شفتيه بيأسٍ ثم ربت فوق كتفه يهتف بكلماتٍ قاتلة أودت بثباته الكاذب لتكشف عن هشاشته:
_ادعيله، إحنا بنعمل اللي علينا.
أنهى جملته ثم استأنف دخوله للغرفةِ فيما زاغ بصر “أيـهم” وتعلق بالغُرفةِ التي بها شقيقه، صرخ قلبه باكيًا وهو يُنادي على توأم روحه، بينما جسده تصلب وتخشبت أطرافه وتجمد عن الحِراك، أصابه الخوف في مقتلٍ وخشى القادم وتمنى أن يزره الموت قبل أن يُكمل للقادم، أراد أن يركض للداخل ويضمه بين ذراعيه، بينما الجسد صارعه وظل جامدًا كمن لقى حتفه وغادرته الروح، ولم يعِ لما حوله إلا حينما عانقه “بـيشوي” ومسح على ظهره يُطمئنه ويُطمئن نفسه من قبله.
خرج “يـوسف” فوق الفراش المدولب وقد كان مستلقيًا فوقه فتبعه “بـيشوي” وسار خلفه بينما الآخر فظل واقفًا يتمنى رؤية شقيقه ولأول مرةٍ يود البكاء لأحدهم حتى ارتخى جسده فوق المقعد بضياعٍ.
__________________________________
<“علة قلبي دومًا أن حدسه صادقًا ولم يكذب”>
في بعض الأحيان يكون صدق القلب عِلةً نود الخلاص منها، فليس كل ما يشعر به القلب نوده أن يتحقق، حيثُ هناك بعض المشاعر نود الهرب منها ومن صدقها وقوتها، تلك هي بعض المشاعر التي تكون قاتلة عند التأكد منها، والحُجة أن القلب صادقٌ، لكن ليست في كل المرات يتحقق المُراد.
كانت “قـمر” تجلس فوق سجادة الصلاة وهي تشكو بثها وحُزنها للخالق، صرحت له بمخاوفها وبما في نفسها، كما أخبرها “أيـوب” أن تفعل، وقد ازداد الخوف أكثر حينما فشلت في التواصل مع كليهما مما جعل الخوف يزداد ويزداد، فهي اعتادت وقتما تحدث أيًا منهما يجاوبها على الفور أو حتى يُراسلها إلكترونيًا، أما تلك المرة مع رحيلهما المُفاجيء فقلبها حدثها أن الأمور ليست على ما يُرام.
رفعت رأسها للأعلى تتضرع بخوفٍ وقد تهاوت عبراتها فوق وجنتيها وهي تتحدث مع ربها وترجوه بقولها:
_أنا عارفة إني عندي كتير أوي وأكتر من اللي استاهله، بس أنا مش هقدر على غياب حد منهم، ديم سترك وحفظك ورعايتك ليهم يا رب، أنا ما صدقت تجمعني بيهم هما الاتنين مع بعض، وبقوا هما الاتنين علطول مع بعض، انصرهم يا رب وقويهم وطمن قلبي عليهم.
صدح صوت الهاتف بجوارها فتحركت تجاوب بلهفةٍ فوجدتها “عـهد” حينها جاوبتها بصوتٍ استعاد الروح فيه بعدما نحت خوفها جانبًا لتجد الأخرىٰ تسألها بترقبٍ:
_هو “يـوسف” مجاش لسه أو كلمك؟ علشان كنا متفقين إني هستناه النهاردة وهو قالي إنه مش هيتأخر، فعلشان كدا بسألك، تليفونه مقفول مش مجمع معايا خالص علشان أكلمه.
أكان يَنقُصها قلقًا فوق رُكام قلقها؟ لقد اكتفت بالخوف والمزيد من القلق خاصةً أن الوقت شارف على الثانية عشر فبالطبع هذه كارثة، لكن يبدو أن العقل خشى على القلب من فرط قلقه فأعطاه إشارة خضراء يعبر بها نحو الطريق الآمن حيث قالت هي بلهفةٍ تُطمئنها بقولها:
_بصي هو “عُـدي” لسه مجاش بس أكيد يعني هما معاه في الشركة علشان باين قالهم فيه إجتماع مهم وهما راحوا على هناك، متقلقيش زمانهم جايين يا “عـهد”.
أغلقت معها الأخرى بعدما حاولت أن تُطمئن نفسها بحديث “قـمر” على الرغم أن القلق تفاقم أكثر لديها، ففي ظروفٍ مثل ظروف عائلته وتربصهم لآذيته من المؤكد لن تستطع صياغة أي كلماتٍ تُطفيء بها نيران القلب لذا أخفضت رأسها نحو الطاولة التي أعدتها له كمكافأةٍ طلبها منها تطالعها بإحباطٍ، أما “قـمر” فتحركت نحو الشقة الأخرىٰ تجلس برفقة “ضُـحى” لتهرب من قلقها لكنها تفاجأت حينما فتح لها “عُــدي” الباب فتوسعت عيناها حينئذٍ.
أما هو فعقد حاجبيه نظير نظرتها له وسألها بسخريةٍ:
_أنتِ هطلة يابت؟ جاية هنا تبحلقي فيا كدا؟.
كاد أن يتركها ويعود للداخل لكنها امسكت مرفقه وأعادته من جديد أمامها وهي تسأله بخوفٍ:
_هو أنتَ هنا إزاي؟ وفين “يـوسف” و”أيـوب”؟.
ازدادت حيرته أكثر من حديثها وسألها هو بتيهٍ:
_فين إيه؟ دول خارجين من هناك قبلي بساعتين وأكتر، أنا لسه جاي تقريبًا من ربع ساعة، بس هما خرجوا قبلي بكتير، ممكن يكونوا راحوا مشوار مع بعض أو حاجة متقلقيش، تعالي يلا.
ولجت هي خلفه بخوفٍ وفي يدها هاتفها تقبض عليه بكفين مُرتجفين وجلست على أقرب مقعدٍ بشرودٍ وعيناها تُطالع ساعة الحائط وتعد معها حركات العقارب بها، منذ يومين وهي تعيش تلك الحالة من الخوف وتتمنى أن يكون تلك المرة قلبها يكذب عليها، هذا القلب الذي لم يسبق له أن يكذب في أي شيءٍ تمنت تلك المرة أن يكون كاذبًا، وإبان تفكيرها وجدت “عُـدي” يخرج مهرولًا من غرفته وهو يُغلق أزرار قميصه ففطنت أن هناك شيءٌ أمسى يُشكل خطرًا.
لذا وقفت أمامه تسأله بنبرةٍ أقرب للبكاء حينما تمكن منها الضعف وباتت تشعر أنها على حافة هاويةٍ وسوف تسقط فيها:
_حصل حاجة صح؟ بالله عليك قولي.
لم يُجيد الهرب منها أو الكذب عليها فأخبرها بما حدث ليجدها تبكي أمامه بعدما نكست رأسها للأسفل وهربت الكلمات من لسانها فضمها هو له يُطمئنها ليصله صوت صرخاتها عاليًا بعد ذلك وهي تتشبث به بحثًا عن الأمان وقد اجتمع البقية على صوت صرخاتها فتدهورت الأوضاع أكثر مع نزول “عـهد” لهم.
حينها توليا “عُـدي” و “فضل” مهمة توصيلهن لهناكَ بعد صراعٍ معهن لكن حالة “غالية” كانت الأصعب فهي لن تحتمل تلك الفاجعة للمرةِ الثانية بعمرها، في أول مرةٍ خسرت كل شيءٍ وتلك المرة هي الخسارة التي تتساوى بكل شيءٍ، خسارة حبيب الأعين الذي غاب عن العين وظل القلب يراه ويحفظه، لذا كانت أول المهرولين للمشفى وخلفها البقية.
قابلهم “بيشوي” في الرواق فطمئنهم بقوله:
_متقلقوش “يـوسف” خرج وفاق كمان ومستنيكم جوة، بالراحة بس عليه متقلقيش يا أم “يـوسف” ابنك بخير الحمدلله وزي الفل.
أشار نحو الغُرفة فركضوا جميعًا له بينما “قـمر” فحانت منها التفاتة نحو “أيـهم” الجالس بنهاية الرواق الرُخامي مهزومًا فسألت بصوتٍ باكٍ ومرتجفٍ:
_هو “أيـوب” فين؟.
انتبه لها “بيشوي” فتنهد بقوةٍ وحدثها بثباتٍ:
_روحي أتطمني الأول على أخوكِ، وشوفيه وتعالى بعد كدا أقفي هنا جنب جوزك، يلا علشان أخوكِ جوة مستنيكِ.
ارتعدت أوصالها أكثر وشعرت بجفاف حلقها وهي تطالع الغرفة التي يقف أمامها شقيقه وقلبها يتضرع للخالق أن يكون بخيرٍ، وقد تاهت من نفسها في عُمق نفسها وأنتظرت دقائق فقط تخشى فيهم الدخول لشقيقها، تخشى كل شيءٍ في لحظتها تلك وكأن الماضي حاوط عنقها بكلا كفيه يُشدد عليها ضمته وهي تحاول أن تتنفس.
في الداخل ركضت “غالية” له باكيةً وهي تضمه لها وتصرخ بقهرٍ حيث جلس فوق الفراش بوجهٍ به لاصقات طبية متفرقة، وتم وضع ذراعه الأيسر بداخل الحامل الطبي، وكفه الأيمن تمت تغطيته كاملًا نتيجة الجرح الغائر الذي توسط راحته، أما عن عظامه فهو يشعر أنها تفككت من بعضها لكنه تحامل على نفسه واستقر في عناق أمه وهي تمسح فوق رأسه باكيةً وتسأله بلهفةٍ:
_طمني عليك يا حبيبي، أنتَ كويس صح؟.
في تلك اللحظة ساورته المخاوف فحاول أن يتشبث بها وهو يُتمتم بصوتٍ ضعيفٍ كأنه يرجوها أن تُخيب ظنونه حينما قال:
_خايف تكوني مش هنا، مش هقدر أتحمل دا.
بكت من جديد واحتوته بين ذراعيها تمسح فوق ظهره وهي تؤكد له أنها معه، هي حقًا هُنا بعد كل ما مر به، فتلك لست مرته الأولى التي يفيق فيها على شيءٍ موجعٍ مثل هذا، لكن تلك المرة هي الأفضل من بينهم، تلك المرة استيقظ على عناق أمه وهي تحفظه في كنفها ورعايتها، وقد وقفت “عـهد” خلفها تحمد ربها سرًا أنه أمامها بخيرٍ حتى تلاقت عيناها بعينيه ورآت حديثه لها فيهما، عيناه الصافيتان اليوم يبدو أن الغبار عَلُقَ فيهما والحزن باديًا عليهما.
أطمئن البقية عليه وخاصةً “فضل” الذي ضمه لصدره ثم لثم جبينه ومسح فوق رأسه ثم تركه واعتدل في وقفته يهتف بصوتٍ مُحشرجٍ:
_هنطلع نتطمن على “أيـوب” ونجيلك تاني.
أنتفض قلبه لأجل صديقه وتذكر كيف حاول أن يُفاديه بروحه فلمعت العبرات في عينيه المُنطفأتين وقد أنسحبوا من الغُرفة تباعًا ليجدها تجلس أمامه فوق الفراش ثم رفعت كفها تمسح على وجنته وعبراتها تهبط فوق وجنتيها فيما أدرك هو حاجته لها وحاجتها له فرفع كفه الحُر يمسح على عينيها فوجدها تنتحب باكيةً وحينها ضمها بلهفةٍ تستند على كتفه الغير مُقيد وهمس لها يُطمئنها بقوله:
_أنا كويس والله، أنا هناك معاكِ أهو ومفيش فيا أي حاجة، والله كويس وبقيت كويس أكتر لما فوقت ولقيتكم جنبي ومعايا، بس علشان خاطري متعيطيش.
تمسكت به أكثر وهي تقول بنبرةٍ تقطعت حروفها بسبب البكاء حينما تمسكت بمقيصه لتتأكد أنه ليس سرابًا:
_أول مرة أشوف حاجة مخوفاني أكتر من الكابوس وهي إني أخسرك، قوملي علشان أنا ماليش غيرك وبقيت بصد في وش الدنيا علشان عارفة إنك في ضهري ومعايا.
ابتسم مُرغمًا وابتعد عنها ثم لثم جبينها ونطق يُمازحها بقوله الذي صبغه بالمرح:
_أنا ملاحظ إنك اتعودتي بزيادة، حلو دا هيفيدنا بعدين.
ابتعدت عنه وهي تضحك بيأسٍ من وقاحته وحينها اختلطت عبراتها بضحكتها اليائسة وهي تُطالعه فوجدته يُشير لها أن تقترب مُجددًا فنطقت هي بصوتٍ باكٍ وهي تحرك رأسها نحو اصابته:
_كتفك بيوجعك خلاص بقى.
_لأ التاني سليم علشانك تعالي.
هكذا نطق فاقتربت تضع رأسها فوق كتفه وهي تُغمض عينيها ثم حمدت ربها على سلامته وأنه معها ثانيةً، تعلم أن بسبب هذا الموقف سيهجرها النوم لما يُقارب الأسبوع ولو حضر بالتأكيد لن يحضر بخيرٍ بل سينتهي على كابوسٍ مروع، أما هو ففتش بعينيه عن شقيقته ولم يلحظها، فوقع قلبه من محله خشيةً عليها ومما تُعانيه بالخارج.
في الخارج انزوت هي فوق الدرج تضم جسدها بكلا ذراعيها تبث لنفسها بعض الأمان المفقود وهي تبكي لأجلهما سويًا خاصةً حينما أخبرها أحد المُمرضين عن زوجها بقوله:
_والله إحنا أهو بنحاول بس هو حالته صعبة.
شعرت بعد تلك الجملة أن القتل أنواعه مُختلفة وأكثرها ألمًا هي تلك التي تؤلم المرء على أحبائه وذويه، يكفيها حزنها لأجل شقيقها، وألمها على رحيل والدها فلن تزداد الأمور سوءًا بـ “أيـوب” حيث ذاك الحبيب المرغوب من القلب والمؤكد رغبته من العقل، بكت بكاءً حارًا وهي تجلس فوق الدرج فأتى “عُـدي” يجاورها ثم ضمها بين ذراعيه ومسح فوق رأسها ليزداد بكاؤها أكثر وهي تشعر باحتواء أحدهما لها، بينما تحدث هو يمسح على قلبها بقوله:
_الحمدلله على كل حال، أخوكِ خرج بخير وكلنا اتطمنا عليه وهو كويس، و”أيـوب” الدكتور خرج وطمننا عليه قال بدأوا يتحكموا في حالته، بس مينفعش واحد فيهم يفوق يلاقيكِ كدا تعبانة ومعيطة ووشك أصفر، لازم يلاقوا إنك جامدة وقادرة تقفي، بعدين بدل ما تدعي ربنا يخرجهم ليكِ بالسلامة قاعدة تعيطي كدا؟ مفيش فايدة فيكِ.
رفعت رأسها نحوه وهي تقول بصوتٍ غلبه الحزن وطغت عليه سطوة البكاء:
_أنا بخاف أوي من الحوادث وبخاف على اللي بحبهم ببقى عاوزة أخبيهم من الدنيا كلها، المرة اللي فاتت حادثة واحدة بس خسرتنا كل حاجة، حتى وجود أخويا اتحرمت منه، معنديش استعداد أخسر حاجة تانية حطيت فيها كل أحلامي بعدما بقيت بتطمن بوجودهم معايا.
رفع كفه يمسح على عينيها ثم اسندها وقال بصوتٍ ممتليءٍ بالحيوية لكي يحثها على التكملة ويدفعها للأمام بقوله:
_قومي معايا علشان تشوفي أخوكِ وتتأكدي إنه بخير وعلشان هو أكيد مستني إنك تظهري قدامه تطمنيه يلا وعلشان “أيـوب” لما يفوق كمان.
سحبها من كفها كما الطفلة الصغيرة التي تاهت من والديها بداخل أحد المهرجانات العامة ومن ثم أرشدها أحدهم للطريق الصواب، فوقفت بجواره قبل أن يطرق الغرفة ويدخل بها، فكانت “عـهد” تقف بجوار الممرضة التي تضع له المحلول الطبي بإبرة طبية مُسكنة لألام جسده، وحينما لمح شقيقته فرق ذراعه الحر عن جسده فوجدها تركض له باكيةً كما الهِر الصغير وهو يحتمي في جسد صاحبه، أما هو فأغلق عليها ذراعه ونطق يرجوها بقوله:
_عارف إنك مش كويسة، بس حاولي علشان خاطري وعلشان خاطره، أنا وأنتِ محتاجينه وهو محتاجلك أكتر لما يفوق.
ازداد البكاء صوتًا وازدادت الرجفة تحكمًا، فباتت تلتحد في جسده القوي بجسدها الضعيف وهو يحميها بذراعه القوي ويشدد عضدها وفي تلك اللحظة أراد أن يقوم بجمع طاقة العالم بأكمله ويضعها في قلبها لعلها تأمن بدلًا من ضعفها هذا.
__________________________________
<“دُنيا لم تكن يومًا لنا وإنما نحن هنا كنا عابرين”>
لم أرغب في أي شيءٍ في حياتي لطالما وجدتُ يومي ينتهي بسلامٍ، حيثُ أحبتي بخيرٍ وأنا هادئًا لم أصنع في يومي عداءً مع أحدهم، أنا الشخص الهاديء الذي لم يكترث في هذا العالم إلا بيومه البسيط تمامًا مثل قلبي الرقيق الذي يحفظ كل شيءٍ بريءٍ مثله.
في شقة “آيـات” أنهت أداء قيام الليل ثم أنهت الأذكار ووردها اليومي وهي تجلس فوق السجادة كما الحورية الجميلة، حتى أن “تَـيام” تتبعها بعينيه وهو يسأل نفسه كيف إذًا بحور العين في الجنة لطالما كانت هي من جنس البشر في الدنيا، ازداد تعمقًا فيها حتى أنهت ما تفعله واقتربت منه تجلس بجواره ثم مازحته بقولها:
_افتح دراعاتك.
ابتسم مُرغمًا على جملتها فوجدها تندس بين ذراعيه كما الطفلة الصغيرة وكأنه اكتشف بها تلك العادة منذ زواجهما حينما أخبرته بكل تلقائية أن تلك هي جلستها المُفضلة التي اعتادت عليها منذ صغرها من والدها وشقيقيها، وجدها تُغمض جفونها فنطق بضجرٍ:
_لأ بقى أنتِ بتشتغليني كدا، فوقي معايا مفيش نوم.
فتحت عينيها على مضضٍ فوجدته يحرك كفه وهو يمسح فوق رأسها ونطق بنبرةٍ هادئة يخبرها بصدقٍ:
_أنا كنت عاوز أقولك حاجة مهمة، أنا لما بدأت يعني ألتزم شوية في البداية حاولت علشانك أنتِ، وحاولت كمان علشان مشاعرك، يعني بطلت أتكلم مع اللي المفروض بنات خالتي وأهزر معاهم بالايد، بس لما عرفت إنه غلط بطلت علشان دي أوامر الدين وفروض ربنا علينا، وكمان لما بقيت أخلص اليوم كله حتى لو إنجازاتي فيه قليلة بس مصلي كل الفروض وقاريء القرآن والأذكار بقيت بتأكد إن اليوم دا أفضل بكتير من اليوم اللي ممكن يكون مليان شغل بس مفيهوش طاعات كفاية، فشكرًا يعني إنك سبب في حاجات كتير تتغير أولهم أنا، أنا توهت كتير قبلك.
شعرت في تلك اللحظة بالفخر به فاعتدلت تواجهه بعينيها الضاحكتين ثم قالت بنبرةٍ هادئة تحثه على التكملة:
_شاطر، بس أهم حاجة إن نيتك تكون خير لله سبحانه وتعالى، خرجني من حسبتك وخليها لله وطاعاتك كلها تكون بنية الخير وبس، والغرض يكون تطبيق فرائض ربنا والالتزام بسنة الحبيب المصطفى ﷺ طب أقولك حاجة مهمة أوي هتفرحك ودا حديث عن سيدنا “محمد” ﷺ كمان؟.
أومأ بعينيه موافقًا فوجدها تعتدل بجواره وهي تنطق بأدبٍ ووقارٍ وتفسر له مقصدها بقولها:
_قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:
“مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ،
عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا”
_أي من جمع الله له بين عافية بدنه، وأمن قلبه حيث توجه، وكفاف عيشه بقوت يومه، وسلامة أهله، فقد جمع الله له جميع النعم التي من ملك الدنيا لم يحصل على غيرها، فينبغي أن لا يستقبل يومه ذلك إلا بشكرها، بأن يصرفها في طاعة المنعم ، لا في معصية، ولا يفتر عن ذكره.
سكتت هُنيهة تلتقط تركيزه معها ثم أضافت بتفسيرٍ أشمل وأبسط للمعاني السابقة:
_يعني اليوم اللي بينتهي علينا بصحة وعافية الحمدلله، وقلبنا متطمن ومخوفناش ولا حصلت لينا فواجع وأهلنا بخير وسلامة، كل دا كأن ربنا ﷻ جمع لنا كل نعم الدنيا وكأن من ملك الدنيا مش هيلاقي غير النعم دي، فلازم مع كل يوم يعدي علينا بنعم وطاعات ورزق وصحة إننا نشكره وإننا نستغل صحتنا ورزقنا وعافيتنا في طاعات المنعم الرزاق، مينفعش استخدمها في معصية أو حتى أتكبر عن ذكر الله، لازم الإنسان يكون حامد وشاكر لكل النعم اللي عنده.
ابتسم هو لها وطالعها بفخرٍ كأنه أبٌ يرى ثمار جهده في تربية صغاره بالرغم أنه لم يشارك في هذا الجُهد، لذا ضمها بين ذراعيه ثم لثم جبينها ومسح بأنامله فوق رأسها وهو يدعو الله أن يحفظها له فسألته هي بتعجبٍ:
_أنتَ بتعمل إيه؟.
توسعت بسمته أكثر ومال على أذنها يهتف بنبرةٍ أقرب للهمس:
_بحمد ربنا على النعم اللي عندي وبدعيه يحفظهالي.
ابتسمت هي بسعادةٍ ثم استقرت برأسها فوق صدره تستسلم للنوم أخيرًا أما هو فكعادته منذ أن تم الجمع بينهما يظل يُراقبها وهي بجواره حتى ينام هو الآخر وهي بين ذراعيه كطفلٍ يخشى هجر طيوره من العُش الذي صنعه لهم، وفي تلك اللحظة صدح صوت هاتفه برقم “بـيشوي” الذي أخبره بلهفةٍ ما إن أتاه الرد:
_هات مراتك وتعالى مستشفى *****علشان “أيـوب” و “يـوسف” عملوا حادثة وللآسف حالته مش مستقرة.
توسعت عينا “تَـيام” وسرعان ما أخفض عينيه نحو تلك النائمة بسلامٍ وهو يُفكر كيف يوقظها على تلك الفاجعة؟ بالطبع سيكون رد فعلها لا يُحتمل وعليه أن يحتوي نوبتها تلك مهما بكت وفعلت وصرخت هو معها لأجل تلك اللحظات العصيبة.
في المشفى وصل “عبدالقادر” بلهفةٍ لهناك بعدما وصله الخبر وظل واقفًا بصمودٍ يرفع رأسه للأعلى ناهيك عن القلب المُرتجف بخوفٍ على صغيره حينما وجد طبيبًا يهرول للخارج وهو يصرخ بنبرةٍ عالية:
_بسرعة القلب وقــف.
وفي الحقيقة قلوبهم هي التي توقفت عن العمل بسبب تلك الجملة، هم الذين عانوا من وقف القلب والدماغ أيضًا فهاهي الساعة الرابعة بداخل غرفة العمليات ولم يخرج منها حتى الآن، حالته غير مستقرة والقلب لم يُكمل دوره حتى النهاية، بل بين الحين والآخر يتوقف وفي آخر المطاف تم اللجوء للكهرباء وضربه بها في صدره لكي يعود القلب للعمل مُجددًا.
حالة من الرعب هالت الجميع وابتلعتهم في جوفها، بينما “قـمر” جلست القرفصاء بجوار الباب وأغمضت عينيها تتذكر آخر ذكرى جمعتهما سويًا قبل رحيله من البيت، حينما كانا يختران سويًا الأشياء الخاصة بشقتهما ولاحظ هو أنها لازالت خائفة، فقرب رأسها منه ثم لثم عينيها كلًا منهما على حِدة برقةٍ بالغة ثم سألها بصوتٍ رخيمٍ:
_لسه زعلانة برضه؟.
حركت رأسها نفيًا وهي تضحك له ثم مازحته بقوله:
_ماما لما كنت باجي أبوس عينيها كانت علطول تغنيلي بلاش تبوسني في عينيا دي البوسة في العين تفرق، بلاش منها أحسن، مش عاوزة نفترق يا مطروف العين.
ضحك لها رغمًا عنه حينما غمزت هي له بشقاوةٍ ثم أضاف بنبرةٍ هادئة لم تعلم هي حينها أنها ستتحقق بتلك السرعة:
_حتى لو حصل يعني وافترقنا فأنا هتمنى اسبقك على الجنة، وهسيبك هنا تحاولى علشان تجيلي ونكون في الجنة مع بعض، مع إني نفسي أوي آخد بايدك للجنة وأفتخر بيكِ إنك وصلتي لكل اللي يعينك على دينك ودُنيتك علشان توصلي هناك.
ابتسمت وقتها له وامسكت تلابيبه تمازحه بقولها:
_عاوز تسبقني على الجنة علشان تروح لحور العين صح، دا بعينك يا “أيـوب” وراك وراك مش هسيبك ورجلي على رجلك.
ها هي تتحول للقطة الشرسة من جديد لذا امسك كفها ومسح راحته برقةٍ جعلت القشعريرة تسري بجسدها وقال بصدقٍ بعدما أسر عينيها بعينيه الصادقتين كما كلماته:
_قبل ما أشوفك كنت عاوز حور العين، بس والله بعدما شوفتك وحبيتك بقيت بتمناكِ معايا دُنيا وآخرة كمان، أنا راضي بيكِ رزقي في الدنيا دي، ولو في الجنة ربنا كرمني وكتبلي أكون فيها، هطلبك هناك معايا ومش عاوز حور العين.
هذه هي آخر كلماته التي ألقاها على سمعها قبل أن يرحل ضروريًا ويتركها بمفردها هكذا تخشى لحظة الفراق، تخشى أن تفيق على ذكرى سيئة تُشابه تلك التي استفاقت عليها بعد وفاة والدها، لتبقى فقط بينهم تسمع عنه ولم تتذكره، أما هذا، فهي عاشت معه الكثير، كان سببًا في فرحها وإبعاد حُزنها، هذا الذي بالداخل كان ولازال هو الرجل الوحيد الذي تضرعت لخالقها أن يجمعها به، لذا بكت أكثر وهي ترفع رأسها وتتوسل ربها أن يعيده لها.
وقف “عبدالقادر” يردد بنبرةٍ خافتة:
_قُل لن يُصيبنا إلا ما كتبه الله لنا، راضي بحكمك يا رب، راضي وحامد وشاكر الحمدلله، الحمدلله على البلاء قبل العطاء.
في تلك اللحظة وصلت “آيات” مع زوجها وحماها الذي ولج مباشرةً لهم وأول من قابلها كان “أيـهم” الذي تلقفها بين ذراعيه وهي تنتحب باكيةً وتحاول أن تتمسك به بينما هو ظل يُهدهدها بقوله:
_الواد دا طول عمره تاعبنا وفي الآخر بيخرج تاني صح؟ المرة دي هيخرج برضه من تاني ويفرحنا بيه، بس علشان خاطري بلاش تعيطي كدا، مش هيبقى أنتِ وهو، ادعيله أنتِ طول عمرك بركة وقلبك إيمانه كبير.
حركت رأسها موافقةً وبكت من جديد فمسح على رأسها واحتواها بين ذراعيه كما اعتاد معها منذ صغرها، وكم كان ممتنًا للحظة تواجدها معه، فهو عادةً لا يطمئن إلا وهي بقربه ومعه تُشدد من أزره.
في الداخل كان “أيـوب” طريح الفراش موصولًا بالعديد من الأجهزة الصناعية التي تساعد الجسد في القيام بدوره خاصةً أن القلب بين الحين والآخر يتوقف كأنه لم يُكمل دوره والأطباء حوله يحاولون بشتى الطرق ما بين مداواة جراحه المفتوحة، وبين النزيف الذي عانى منه، وبين توقف القلب وإنخفاض ضغط الدم بالجسم، فكانت حالة شبه مُهلكة لمن حوله.
أما هو فكان يرتدي عباءة بيضاء يركض بها في حديقة البيت أو رُبما حديقة أخرى أكبر منها، وضحكته الواسعة تُزين وجهه وهو بالتقريب في عمر العاشرة وقد كانت أمه تركض خلفه ضاحكةً في الحديقة بين الزهور والأشجار وهو يتهرب منها حتى فرقت ذراعيها له فركض لحضنها ضاحكًا مثل عصفورٍ أراد أن يبقى حبيسًا في قفصه حينما كبلته بين ذراعيها ثم سألها بحزنٍ لكونها تتركه بين الحين والآخر:
_مش هتاخديني معاكِ؟ أنا تعبان هنا أوي.
مسحت “رُقية” على شطر وجهه وضحكت له وهي تخبره بنبرةٍ هادئة:
_بس هما هنا كلهم محتاجينك، أنا هناك مستنية تيجي ليا ونكون مع بعض، بس خلي بالك تتوه في نص السكة من نفسك، زي ما وعدتني إنك تحافظ على وعدك، عاوزاك تفضل زي ما أنتَ، بلاش تخلي الدنيا دي تغير فيك حاجة علشان الجنة مستنياك، اوعدني يا “أيـوب”.
رفع عينيه لها وهي تبعده عن عناقها وما إن أدرك أن الفراق قد حان ابتسم لها بحزنٍ ثم لوح بكفه لها ناطقًا بصوتٍ باكٍ وهو يراها توليه ظهرها وتبتسم له:
_أوعدك يا “رِقـة” هجيلك الجنة.
في تلك اللحظة استأنف ركضه عائدًا من جديد تزامنًا مع تعرج الخط المستقيم بالجهاز مما دل على عودة القلب من جديد واستئنافه لدوره، فعاد من بعد موته بإرادة الخالق له لتكون فرصته الثانية في حياةٍ كُتِبَت له رحمةً من رب العالمين، ما إن تأكد الطاقم من عودته مُجددًا للحياة خرج أحدهم من الغرفة ليجد اللهفة القلقة باديةً عليهم فنطق بصوتٍ مُرهق للغاية:
_الحمدلله ربنا كرمه بفرصة تانية والقلب اشتغل.
صدرت همهمات الحمدلله وزفرات الارتياح من بعد انتظارٍ سحق أرواحهم تحت وطأته، حتى أن اللحظات التي مرت عليهم كانت أشد فتكًا من القتل بسيفٍ بتارٍ، وأول الفارحين كانت “قـمر” التي ارتمت على “ضُـحى” تبكي بين ذراعيها والأخرى تمسح فوق ظهرها ومعهما “عـهد” التي انسحبت تُطمئن “يـوسف” الذي ظل بالغرفة بعدما منعه الطبيب.
__________________________________
<“كُلٌ منَّا يُجني ما سبقَ وقدمه للآخرين”>
المعروف كما الكؤوس كُلما صببته بكأسٍ أتى الدور لكأسك، لذا صنائع المعروف دومًا تنعاد على أصحابها بكل خيرٍ، فهل رأيت صانع معروفٍ يشرب من كأسه مُرًا؟ حتى ولو حدث ذلك يعقبه بالمذاق الحلو سريعًا فاحذر وانتبه ماذا تصنع لكي تُجني بيديك؟.
في اليوم التالي بعد صلاة الظُهر كانت “شـهد” تجلس في بيت عمها وقد أتت أمها لزيارتها وهي تشكو لها من أفعال والدها وتسلطه وتجبره وأخبرتها بنفاذ صبرٍ:
_بقى لا يُطاق بجد، علطول متعصب ومكشر وحالته لا تُطاق كمان، ومش بس كدا، دا كمان هيسلم عمك كله حاجة ويعمله توكيل علشان مش معاه سيولة تكفي يكمل في الشغل والشركات، وحاول كتير يتواصل مع
“عاصم الراوي” علشان يبلغه إنه عاوز النفقة والمؤخر بتوعك ومش هيسكت عنهم.
انتفضت “شـهد” وجاورت أمها فوق الأريكة وهي تقول بلهفةٍ بعدما وصلتها الاخبار الأخيرة:
_لأ علشان خاطري يا مامي، خليه بعيد خالص عن موضوع النفقة والمؤخر دا، أنكل “سامي” كلمني وقالي إنه عنده الحل اللي يخليني أرجع من تاني لـ “نـادر” وأنا وافقته وقولتله أنا مش عاوزة أي حاجة بس عاوزة أكون مع “نـادر” من تاني، قولي لبابا ملهوش دعوة من فضلك.
تعجبت أمها من حديثها ومن استهتارها بالأمر فسألتها بتعجبٍ مما يُقال:
_أنتِ إزاي كدا بجد؟ بعد كل دا عاوزة تاني تدخلي حياته عادي كأن مفيش حاجة حصلت؟ أنتِ مش واخدة بالك عملتي فيه إيه؟ حرمتيه من حقوقه كأب وقتلتي ابنه اللي بيحلم بيه، دمرتيه وكنتِ سبب قطع علاقته بـ “يـوسف” رغم إنك كان ممكن تكوني سبب قوي يرجعهم لبعض ويكونوا أخوات، أهملتيه في أصعب أيام حياته وهو عامل حادثة ومستني حد يكون معاه وسيادتك كنتِ في شرم بتشوفي الشغل وهو هنا لوحده وأنتِ عارفة إن “نـادر” وحيد طول عمره لا عنده أخوات ولا أصحاب ولا حد بيقف معاه، كتير كنت بقولك إن هو بيحبك وممكن علاقتك بيه تكون من أنجح العلاقات خصوصًا لو الراجل محتاج للست أكتر، بس أنتِ أنانية، كنتِ عاوزة تفضلي مع “نـادر” وفي نفس الوقت تندمي “يـوسف” على اختياراتك، نسخة من أبوكِ في كل حاجة.
في تلك اللحظة وصلتهما صيحات عالية من الخلف وتصفيقات حارة عقبها ظهور “نـورهان” التي صاحت بسخريةٍ:
_برافو، برافو يا طنط شكلك شطورة خالص، كنتِ فين من زمان بقى قبل ما بنتك تعمل كل دا؟ آه كنتِ في النادي مع مامي أيوة افتكرتك صح، بس فيه حاجة كمان نسيتيها صُغننة خالص، إن بنتك خطافة رجالة وطماعة أوي، لما بتشوف حد غيرها معاه حاجة عينها بتروح عليها وتشبط فيها، زي العيل الصغير كدا لما يمسك حاجة ويفضل يقولك “تاعتي تاعتي” بالظبط بنتك كدا ناقصها سكاتة علشان نتأكد إنها عيالة، كفاية دور الضحية دا يا “شـاهي” يا بيبي مقامك فيلا كاملة.
كانت تتحدث بثمالةٍ وسخريةٍ وهي تُقلد طريقة الصغار مما جعل “شـهد” تُطبق على كفيها وهي تحاول كظم غيظها ثم التفتت لها تُحدثها بنبرةٍ عالية وهي توقفها عند هذا الحد:
_تسمحي مالكيش دعوة بينا؟ واحدة ومامتها بيتكلموا مع بعض أنتِ مالك؟ ولا صح عمرك ما جربتي حاجة زي دي فأكيد مش هتفهميها ولا تقدري أهميتها، ياريت تسكتي أحسن.
دومًا لسانها يحتاج للقطع، لم تُفكر لوهلةٍ في مشاعر غيرها وإنما تأتِ وتضرب بقبضتها موضع الجرح لتجعله ينزف بغزارةٍ، لم ولن تكترث بما يُعانيه غيرها من وجعٍ بل تتباهى أنها بخير أمام كل مُتألمٍ، لذا وزعت الأخرى نظراتها بينها وبين زوجة عمها ثم نطقت بغلٍ:
_ياريته كان جه بفايدة، لسه محتاجة تتربي.
ختمت حديثها بالبكاء ثم تحركت نحو غُرفتها مُجددًا ولولا أنها أخذت الجُرعة التي كانت تخفيها لكانت الآن قضت على أي نوعٍ تراه من المُخدر لكنها أرادت الانتقام لذا أخرجت الهاتف تطلب رقم “نـادر” الذي جاوبها بعد المحاولة الثالثة فوجدها تنطق بثباتٍ رغم منافاة هذا الشعور بداخلها:
_إزيك يا “نـادر” معلش أنا كنت حابة آجي أشوفك وأشوف طنط علشان أنا مخنوقة شوية وبصراحة فرحت أوي بالفرصة التانية دي منك وأهو نكون صحاب.
شعر هو بالتخبط فنطق أخيرًا بعدما اتخذ قراره:
_مفيش مشاكل بس ممكن نأجلها لبكرة؟ لأن للأسف “يـوسف” عمل حادثة وفي المستشفى وأنا هروحله، ومعاه واحد قريبي كمان، براحتك في أي وقت طبعًا.
شعرت أن تلك هي فرصتها لكي تزداد تقربًا منهم فطلبت منه اسم المشفى لكي تذهب إليها وتطمئن على “يـوسف” وسوف تعتبرها صفعة فوق وجه “شـهد” التي تم طردها من حياة الجميع للأبد، وهي عزمت النية أن ترد لها كل صفعاتها بقسوةٍ أشد من قسوتها، وها هي بدأت الخطوات الأولىٰ وبغير رجعةٍ.
__________________________________
<“لولا الفُرص الثانية لكان كل شيءٍ فينا قُتل”>
كل شيءٍ حسبناه انتهى حتمًا سنتفاجا من جديد ببدايةٍ من بعده تُلهمنا لأشياءٍ قادمة، فما النهاية إلا بداية الطرق الجديدة التي يتوجب علينا أن نسلكها لكي نبدأ من بعد السقوط، فحتمًا النهايات لم تلق بنا، بل نحن نكتب البدايات التي توجب أن توضع لأجلنا.
في مشفى الأمراض النفسية والعقلية، كان “مُـنذر” هناك يعمل بكامل طاقته خاصةً بعدما قابلها في الصباح وابتسمت له برقةٍ ثم توجهت نحو الداخل فظن هو أن بسمتها تلك أضحت سلاحًا له في حربه وسط القصف، لقد اعتاد في حربه على النصر حليفًا له لكن تلك المرة حينما هُزِم أيعقل أن يكون سلاحها أشد فتكًا من سلاحه؟ أيعقل أن تضحك هي ويُهزم هو؟ استأنفت ذاكرته ماحدث أمسًا حينما داوت جراحه برقةٍ ورحمةٍ لأول مرة يعهدهما من جنس البشر.
ولج الغرفة التي استمر على دخولها كثيرًا وهي غرفة “محمود” الذي تحسنت حالته كثيرًا عدا من نوبات الهلع التي تُصبه بين الحين والآخر ويستطع “مُـنذر” ببراعته أن يحتويها ويُحجمها، لقد حاول كثيرًا معه حتى أصبح الآخر شبه مُعتادٍ على تواجده، وما إن جلس بقربه تنهد “محمود” وهو يسأله بتيهٍ:
_عاوز تسأل عن إيه علشان لما بحكيلك برتاح.
ابتسم “مُـنذر” بثقةٍ وهو يرى ثمار جُهده ثم اعتدل فوق مقعده الجلدي واشتد عوده الفارع للخلف وهو يسأله:
_طب إيه رأيك تحكيلي عن “محمود” القديم؟ يمكن نلاقيه مع بعض أنا وأنتَ في كلامك، مع إني متأكد من كدا.
تنهد “محمود” بثقلٍ ثم جاوبه بصوتٍ مُثقلٍ بالهموم:
_أنا لو متأكد من حاجة هتبقى إني مينفعش أعيش وسط الناس علشان هما ملهمش أمان، أو يمكن أنا اللي اتعودت وسطهم ملاقيش الأمان، بص أنا مش عارف بصراحة، بس مش طبيعي واحد يعيش عمره كله مرفوض وسط الناس يا إما يكون بديل ليهم، يا إما عاوزين منه حاجة، أنا وسطهم يا كنت مرفوض ومش قابلني، يا كنت بديل ليهم، يا كنت مش مرغوب في وجودي، بأي شكل هقدر أكون وسطهم؟.
سأله بصوتٍ مُرتجفٍ ظهرت به بوادر البُكاء حتى تنهد بثقلٍ فوجد “مُـنذر” يمسك كفه وهو يحدثه بثباتٍ:
_كل دا طبيعي لأنك شوفت كتير منهم، وأكبر مشكلة اللي دمرت الباقي منك هي اللي أخوك عملها واتسبب فيها دي، دي كانت الناهية، بس لأ يا “محمود” مينفعش، مش معنى إن العالم رفضك يبقى إنك تفضل بعيد وقافل على نفسك، أخرج برة وابدأ من تاني واشتغل وعيش حياتك، لسه الحياة قدامك بتديك فرصة، بص إحنا وصلنا لفين؟ أنتَ بتكلمني وترد عليا بعد سنتين كاملين قطعت فيهم الكلام، كان لازم تنفجر فيهم وتخرج اللي جواك ودا اللي حصل، لما خرجت الوجع منك على هيئة كلام منك ليهم بقيت بالتدريج قابل كلامي لأنك فضيت مساحة من الزحمة اللي جواك، عاوز بعد كل دا تفضل هنا؟ حرام عليك نفسك.
مسح “محمود” وجهه بكلا كفيه وبادله الحديث بقوله:
_طب تمام، أنا معاك وهخرج عادي وهاخد علاج لنوبات الهلع وهتحكم في كل دا، عاوزني أخرج أواجه الناس برة إزاي؟ ولا حتى أواجه أخويا وأقف قصاده إزاي؟ أنا بخاف منه، لو شوفته ممكن أرجع تاني لنقطة الصفر وأصعب، أنا لحد دلوقتي بشوفه في كوابيسي، اللي قهرني إني هنا عمري بيضيع، وهو برة بينجح ويصرف فلوسي اللي شقيت بيها وكبرت اسم أبويا، وهي؟ هي اختارت اللي كَـفته مليانة وهتطب، أنا دفعت تمن كرههم ليا كتير، بقيت بتمنى العمر يجري بيا علشان أهرب من الألم ونسيت إن دا في حد ذاته ألم.
شاركه “مُـنذر” الألم وربت فوق كتفه وهو يُضيف:
_فيه مقولة بتقول “لكي تخرج من الجحيم يتوجب عليك أن تمر خلاله” بمعنى إنك مستحيل تخرج من طريق من غير ما تمشي فيه أو على الأقل تعدي عليه، فلو اعتبرنا إن هما جحيمك وفيه نعيم مستنيك، فأنتَ مُضطر تمشي في الجحيم دا لحد ما تخرج منه، لو بصينا للجانب التاني، أنتَ خسران صحيح، بس هنا خسارتك أكبر، لأنهم متطمنين بوجودك هنا، إنما لما نكمل العلاج والجلسات مع بعض، دا هيحسن حالتك، ولسه فيه كارت أخير عندي هلعب بيه.
عقد “محمود” كلا حاجبيه باستنكارٍ بالغٍ فوجده يغمز له ثم اعتدل واقفًا وودعه وخرج من الغرفة تاركًا إياه خلفه يشعر بالتيه بعض الشيء لكنه يحاول بكلا ذراعيه الضعيفين أن يتشبث بالحافة قبل أن يسقط بعُمق الهاوية.
خرج من الغرفة بثباتٍ فقابلها بالخارج تمر بالرواق وملامحها بها لمحة فضولٍ نحوه مما جعله يسألها بعينيه فاقتربت منه تقف أمامه وهي تقول بأدبٍ وتهذبٍ:
_أنا حابة اعتذر ليك عن القلم اللي نزلت بيه على وشك، أكيد تصرفي كان غلط وقتها، لكن مش آسفة على الكلام علشان دا كان رد فعل ناحية فعلك اللي كان صعب، اتمنى يعني تنسى أني سحلتك بالقلم على وشك.
رفع حاجبيه من تحولها في منتصف حديثها وسرعان ما زفر بقوةٍ ثم مسح وجهه بعنفٍ ونطق بنبرةٍ رسم بها الهدوء:
_عمومًا حصل خير ومتنسيش إني أنا اللي سبق وغلطت لما كلمتك بطريقة مش كويسة، بس عاوزك تتأكدي من حاجة واحدة، أنا لو قولت الكلام اللي قولته دا علشانك أنتِ، علشان مش حابب إنك تتأذي بسببي، أنتِ متعرفيش حاجة عني، ولا عن حياتي وعمرك ما هتتوقعي مهما سرحتي بعقلك، فأنا آسف، وعلى فكرة دي أول مرة اعتذر فيها لحد.
يبدو أنها مميزة لتحظى بكل الأفعال التي تصدر عنه لأول مرةٍ، يبدو حقًا أن هناك رابطٌ قويٌ يعقدهما معًا حتى تُطال النظرات بينهما، فلاحظت هي خوفه ورجائه الخفي في عينيه، بينما لاحظ هو اصرارها تجاهه وكأنها تخبره أنها معه، لذا سحبت نفسًا عميقًا وقالت بشموخٍ:
_طب أنا ممكن في أي وقت احتاج لخدمة منك، هتساعدني وقتها ولا هتبوخ بكلامك الغوغائي قليل الذوق؟.
قلب عينيه مُفكرًا لوهلةٍ ثم عاود النظر إليها بقوله:
_لو حد غيرك بيقول كدا كان زمانه مقتول، بس ماشي أي وقت تحتاجي فيه خدماتي أنا موجود ألحق المحتاجين اللي زيك كدا اللي مبيعرفوش يتصرفوا.
اكفهرت ملامحها غيظًا منه وقبل أن تصرخ في وجهه مر بجوارها وهمس لها خِفيةً كأنه لم يتعمد فعل ذلك عن قصد:
_شكلك حلو بالضفيرة دي.
قصد شعرها الذي جمعته بجديلة منذ بداية منابت رأسها حتى الأطراف توسعت عيناها بدهشةٍ وما إن التفتت له وجدته رحل من جوارها وبادلها نظرتها بأخرى لامُبالية كأنه حقًا لم يفعل أي شيءٍ، أما عن قلبها فهو يدوي بصخبٍ جراء كلماته التي لم تكن بريئة كما ادعى هو ذلك، لقد اقسمت على تعذيبه، وهاهي تناوله الفرصة الثانية بصدرٍ رحب.
__________________________________
<“اللقاء الذي يتجدد بغير موعدٍ هو الأصدق”>
بعض اللقاءات تتجدد بغير ميعادٍ وبغير قصدٍ مننا وفي بعض الأحوال تكون أفضل من كل المواعيد المُرتب لها، فتلك اللقاءات التي تهديها لنا الطُرقات رُبما تشكل لنا حياةً كُنا نرجوها ولجأنا لها في خيالنا.
وصلوا الشباب مع بعضهم للمشفى حتى يقومون بزيارة رفيقهم الذي ظل بالمشفى متعنتًا ومتمسكًا بقراره في الجلوس هُنا، ولج له “إيـهاب” و “إسماعيل” سويًا وخلفهم “سـراج” الذي عاد من سفره لأجل صديقه، أما “نَـعيم” فلم يبرح مكانه بل ظل يتجول بين الاثنين فتارةٍ يذهب لـ “أيـوب” وتارةٍ يذهب لـ “يـوسف” وفي الأغلب يجاور “عبدالقادر” الذي بدا الضعف عليه واضحًا.
ولج “مُـحي” للمشفى بعدما صف السيارة وإبان دخوله وجدها هي لا غيرها تقف تتحدث مع شخصٍ ما أكبر منهم في العمر مما جعله يُضيق عينيه بشكٍ واقترب منها متوجسًا ليجد هذا الشاب يندفع في قوله لها:
_أظن كدا خلاص أتطمنتي على صاحبتك وأخوها يلا ولا حابة إننا نتأخر يعني؟ أنا قايل لعمي إني مش هأخرك.
زفرت هي بقوةٍ وكأنها شعرت بالملل لكونها تفسر له الأمر في كل مرةٍ لكن العائلة لم تفهم عليها ما تُعاني منه هي:
_وأنا يا “وائل” كل شوية أشرحلك وأقولك إنك ابن عمي ومينفعش يكون فيه مشاوير بينا كتير، ولا حتى ينفع توصلني وتجيبني، أنا هركب مواصلات عامة فيها ناس كتير، ممكن أنتَ تروح عادي زي ما أنا جيت أتطمن على صاحبتي هنا.
_واسيبك لوحدك وأمشي؟ بعدين أنتِ بقيتي متشددة كدا ليه؟ ما طول عمرنا بنهزر ونضحك كلنا ووصلتك كتير قبل كدا، لازمته إيه الدور دا كله علينا يعني؟ ما إحنا مش غُرب يا “جـنة” عن بعض.
شعرت هي أنها اغتاظت منه لكنها تغاضت عن ذلك وحركت عينيها للجهة الأخرى فرأت “مُـحي” يتابعهما بعينيه وقد اقترب منهما يسأل بنبرةٍ صبغها بالجمود:
_خير يا أستاذ فيه حاجة؟ بتعلي صوتك عليها ليه؟.
التفت له الآخر بكامل جسده ورمقه بعينين متسعتين ورد على سؤاله بسؤالٍ غيره:
_حضرتك اللي مين وبتتدخل ليه؟ أنا وقريبتي مع بعض.
في تلك اللحظة أتى “تَـيام” لشقيقه وحدثه بلهفةٍ:
_عاوزك كمان شوية توصل مراتي لحارة العطار علشان ترتاح شوية، طالما “أيـوب” لسه مفاقش وهي متبهدلة هنا كدا معايا ومش عاوزة تاكل ولا ترتاح حتى، وأنا هنا مع “يـوسف” والشباب تمام؟.
حول “مُـحي” نظراته بين شقيقه وبينها وفهم ما توده هي وبالطبع أمام هذا اللزج أراد أن ينتصر عليه فنطق بحديثٍ جعله عاديًا وهو غير ذلك:
_تمام مفيش مشاكل أنا عيني ليك، بس خلي الآنسة “جـنة” معاها علشان تساعدها وتسندها أكيد مش هينفع أقرب أنا وأساعدها، وبالمرة الاتنين يكونوا مع بعض، مش كدا أفضل؟.
تنهدت “جـنة” براحةٍ وأضافت بلهفةٍ توافقه االرأي:
_بالظبط كدا أنا مش هينفع أسيب “آيـات” لوحدها علشان كدا مش هقدر أمشي دلوقتي، عن إذنكم هروح أتطمن عليها وأقعد جنبها، عن إذنك يا “وائـل” روح أنتَ، أنا مش هقدر أمشي في الظرف دا.
استأذنت من قريبها ثم تحركت نحو رفيقتها تجلس بقربها ثم ضمتها لها وهي تُربت فوق كتفها ورأسها حتى استقرت “آيـات” بين ذراعيها وهي تتضرع للخالق أن يحفظ لها شقيقها الذي حتى الآن لم يَفِق بعد، ولازال موصولًا بالأجهزة الطبية، وفي الداخل جلست “قـمر” بجوار الفراش وأمسكت كفه الموضوع به الإبرة الطبية ثم مسحت عليه وهي تقول بصوتٍ باكٍ:
_قوم ورد عليا وأديني أمل في اللي جاي، عارف أنا طول عمري عايشة بسمع عنه بس وهما كلهم بيحلفوا بيه وبحياته وأخلاقه بس، عمري ما افتكرت حاجة غير بس إني كنت محتاجاله أوي، وساعات كنت بحمد ربنا علشان متوجعتش زيهم وهو سايب ليهم ذكريات حلوة، ساعات الذكريات دي بتوجعنا أوي، قوم علشان خاطري أنا لسه محتاجالك، لسه محتاجاك تاخد بايدي في الدنيا علشان نروح الجنة مع بعض احنا الاتنين، قوم علشان أنا بدأت أخاف من غيرك والله، اديني إشارة طيب.
كالعادة منذ فجر اليوم كل ما يصدر عنه الصمت فقط حتى كرهت هي الصمت والسكون رغم محبتها لهما لكنها كرهتهما إن كانا صادريْن عنه هو، وحينما غلبها اليأس مالت على كفه برأسها تكتم صوت البكاء.
في غرفة “يـوسف” ظلوا الشباب معه يطمئنون عليه وقد انسحب “إسماعيل” يطمئن على زوجته وما إن وجد الإرهاق باديًا عليها أخذها بعيدًا عن الجميع ثم أتى لها بمشروبٍ يساعدها على استرداد طاقتها من جديد وقد وافقت هي بعد إصرارٍ، وبعدما نفذت ما طلبه منها قال بنبرةٍ هادئة يدعمها:
_لازم أنتِ تكوني فايقة وواعية لنفسك علشان عمتك وعلشان “قـمر” اللي محتاجاكِ دي، الحمدلله ربنا طمننا على “يـوسف” بس لسه “أيـوب” مفاقش هو كمان، ربنا يعدي المحنة دي على خير ويقويكم ويخرجهم بالسلامة من هنا.
أومأت له بتعبٍ ولم ترد عليه كما اعتاد على مجادلتها فعلم ان التعب بلغ أشده عليها لذا ضمها له واحتواها بين ذراعيه ثم حرك كفه صعودًا وهبوطًا فوق كتفها فوجدها تنطق بنبرةٍ مُجهدة:
_أنا من إمبارح وأنا أعصابي بايظة ورجلي مش شيلاني بس مش هقدر اسيب “قـمر” و “عـهد” لوحدهم، صعبانة عليا أوي وهي خايفة على أخوها وجوزها نفسي أطمنها بس مش قادرة.
ظل معها يدعمها ويشدد من أزرها ويبثها القوة لكي تُكمل دورها مع الآخرين، أما في داخل غرفة “يـوسف” بعدما التفوا الشباب حوله يطمئنون عليه سأله “سـراج” باهتمامٍ:
_مش الأحسن بقى إنك تروح بيتك؟ أنتَ الحمدلله بخير مش مستاهلة القعدة هنا كل دا علشان أهلك حتى ميتعبوش معاك.
رفع “يـوسف” رأسه له ونطق بضجرٍ:
_مش هخرج من هنا من غير “أيـوب” زي ما دخلنا مع بعض هنخرج مع بعض، علشان كان زماني مكانه لولا إن هو جاب العربية ناحيته هو، وفي الآخر أخرج وأسيبه وأسيب “قـمر”؟ مستحيل اعمل كدا مع واحد فداني بروحه.
تدخل “نَـعيم” ينطق بنبرةٍ هادئة يحاول بها اقناعه بما يود:
_طب أنا هقولك علشان خاطر والدتك ومراتك، روح البيت وأبقى تعالى أتطمن عليه، الست برة مش قادرة تصلب طولها من قلقها عليك وعلى “قـمر” وعلى “أيـوب” ربنا يقومه بالسلامة ويفوق وميطولش عليه.
أدرك “يـوسف” أن الحديث بالهدوء لن يُجدي نفعًا، لذا تطرق للحدةِ الطفيفة فنطق تزامنًا مع دخول “عـهد” الغرفة:
_ياحج الله يكرمك أنتَ عارفني وعارف إني عنيد، مش هينفع أخرج من هنا واسيبه لوحده على الأقل يفوق ويكلمني زي ما بكلمكم كدا، واللي متضايق يمشي أنا مش عاوز حد، أنا قادر أحرك نفسي عادي، دي مش أول مرة يعني.
تفهمت “عـهد” حالته وعناده لذا اقتربت منه تقف بمحاذاته ثم مسحت على كتفه وهي تنطق بقوةٍ تهديء من روعه أمام الجميع وتزيح عنه القلق والإضطراب:
_ومحدش متضايق خالص وإحنا معاك كلنا بس المهم راحتك وأنتَ من امبارح عمال تتعصب بس على الكل، محدش هنا عدوك كلنا خايفين عليك، اهدا شوية متفضلش متعصب كدا، بعدين أنتَ مش لوحدك هنا، أنا معاك ومامتك وأختك وخالك وكتير أوي راضيين بكل حاجة علشانك أنتَ.
وقع في صراعٍ أمامهم فلجأ لإغماض عينيه حينما اشتد عليه ألم جسده وعظامه، ثم عاد للخلف فنظروا هم لبعضهم بيأسٍ أما “إيـهاب” فخرج من الغرفة يجاوب على هاتفه ثم عاد من جديد يشير للبقية بالرحيل.
بعد مرور عدة ساعات..
رحل البعض من المشفى وظل البعضُ مُرابطين هناك منهم “أيـهم” الذي لم يتزحزح من مكانه بجوار غرفة شقيقه و “قـمر” التي قطعت الرواق ذهابًا وإيابًا بين الغرفتين تارةً لشقيقها وتارةً لزوجها، حتى شعرت بالإرهاق فتحركت تحتسي قدحًا من القهوة، لاحظ “يـوسف” فراغ الغرفة عليه وانتهاء المحلول الطبي فنزع عن يده الإبرة ثم تحامل على نفسه وحرك جسده المتعب بوجعٍ تفرق في أصغر الذرات الموجودة فيه، وفتح بابها وخرج من الغرفة..
تحرك بعرجٍ نحو غرفة “أيـوب” وقد لاحظ حديث “أيـهم” في الهاتف فولج مُباشرةً ليجده في أكثر المرات بُغضًا، ففي السابق كانت تزعجه سيرة “أيـوب” أما حاليًا فهو يتألم لأجل “أيـوب” وهو طريح الفراش بتلك الهيئة، خطى نحوه بخطواتٍ بطيئة بقدر ما سمح له جسده المجروح، جلس على الفراش الموجود في الغرفة يراقبها بعينيه كما الطفل الذي يرى والده في لحظات الفراق، لذا ازدرد لُعابه ثم نطق بصوتٍ مُحشرجٍ:
_أنا عمري ما توقعت إني ممكن أحبك كدا، وعمري ما تخيلت إني أشوف صورة أبويا في حد تاني، أنا بحسك هو أوي يا “أيـوب”، بشوفك بتطمن إنك معايا وفي ضهري، عارف لما باجي أعمل حاجة وأعصبك وأخليك تتنرفز؟ بعملها علشان أشوف خوفك عليا اللي بيفكرني بخوفه هو كمان، بس هو سابني ومشي، بلاش أنتَ كمان تسيبني علشان من بعدك مش هتقوملي قومة تاني، قوم يا “أيـوب” وهديك “قـمر” والله هديهالك وتاخد عيوني كمان معاها، بس قوم متفضلش كدا.
يبدو كأنه يتوسله، حقًا تحمل المزيد والمزيد ولم يعد يتحمل بعد، لقد أدرك معاناة الفقد منذ لحظات عمره التي بدأت في الترعرع، فقد أبيه، ثم عائلته ثم بيته ثم حياته بأكملها، وما أن عادت له تلك الأشياء الآن يدرك خسارة شخصٍ يسانده ويكاتفه، لذا بكى وترك لعبراته العنان ثم نطق بصوتٍ باكٍ:
_أنتَ أول حد أتمنى يحبني ويمسك ايدي وقت ما أنا مقدرتش أحب نفسي وأفضل معاها، شوفت مني كتير ولسه عندك استعداد تشوف وراضي، قوم علشان من غيرك محدش هيعرف يتعامل معايا ويأدبني.
انهى حديثه ثم مال عليه يُلثم جبينه وكأنه يتذكر وفاة والده، من جديد يوضع بنفس الموقف المؤلم حيث رحيل الأحباء على القلب، لم يعهد في صغره لحظة وفاة أبيه، والآن يرى بأم عينيه وداع أخٍ أهدته له الأيام صُدفةً، لقد نال منه الألم مبلغه وبلغ أشده، حتى صدح صوت الجهاز مُعلنًا عن توقف القلب من جديد حيث الخط المُستقيم الذي ظهر فوق الشاشة وعقبه صوت صفير الجهاز مما جعل “يـوسف” يشعر بنواقيس الخطر تدق فوق رأسه وشعر كأنه يفقد والده للمرةِ الثانية.
في الخارج صدح صوت هاتف “أيـهم” برقم “بـيشوي” فهرول نحو والده يطلب منه الرحيل ثم تحرك بلهفةٍ وخرج من المشفى وولج سيارته بسرعةٍ كُبرى ثم مسح وجهه يستعيد بذلك نشاطه وتركيزه، ثم قاد السيارة بسرعةٍ فائقة كأنه يتحدى الأرض أسفل إطارات سيارته وبعد مرور بعض الوقت الذي مر عليه بنيرانٍ موقدة وصل لحارة “العطار” بالتحديد داخل واحدةٍ من البنايات القديمة بها شبه المُتهالكة، وقد ولج هناك بأنفاسٍ ثائرة ثم طرق فوق أحد الأبواب ففتح له “بـيشوي” وفي الخلف وقف “إيـهاب” بجوار “سـامي” المُقيد فوق أحد المقاعد، أما “أيـهم” فبعدما لاحظ نجاح خطته انتفخت أوداجه واقترب منه بخطى مُتمهلة ثم قبض فوق خصلاته ونطق من بين أسنانه المُطبقة فوق بعضها:
_أنا ليا عندك حقين، حق ابني اللي أنتَ خطفته وأنا سكت بمزاجي، وحق أخواتي الاتنين ودي مش هقدر أعديها، علشان أنا عندي مبدأ، إنك تكرهني دي بتاعتك وبراحتك، بس إنك تأذيني وتأذي اللي مني، فدي ردي عليها براحتي وبتاعتي.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

‫6 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى