رواية غوثهم الفصل المائة والثاني والعشرون 122 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة والثاني والعشرون
رواية غوثهم البارت المائة والثاني والعشرون
رواية غوثهم الحلقة المائة والثانية والعشرون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل السابع والثلاثون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
حزين العينين مُتعب القلب
أحمل في داخلي نفسي والذنب..
كسير الفؤاد وكأنه تعذب
أو رُبما الزمان لم يتركه إلا وعذَّب..
عليلٌ أنا كخاسرٍ في الحرب
وضائعٌ كشتيتٍ في الدرب..
لكني أحمل خارطتي معي وهي في القلب
حيث عودتي لكَ بكل رجائي يا غافر الذنب
_”غَـــوثْ”
__________________________________
الآن وفقط..
أصبحت مُحبًا للحياةِ مُستشعرًا كل النعم وأساسها أنتِ، أرخيت أَكُفتي عن العالم وتركتُ لنفسي الحرية كما الطير تاركًا خلفي القفص المصنوع من سياجٍ قيدتني، قُمت بنفض غُبار الخصومة العالق بيني وبين العالم وتصالحت معه لأجلكِ، الآن أصبحتُ مُقدسًا ليومٍ ينتهي عندكِ حتى ولو كان عاديًا لم يحدث فيه ما يُميزه، وكأن ميزته الوحيدة والفريدة هي أنتِ، لا يُهمني لو كرهني العالم بأكمله مادُمت أنا أكرههم جميعًا، ولا يَهُمني إن فاتني الناس بمفردي لطالما بينهم كنتُ وحيدًا، لا يَهُم العالم من الأساس، أتدرين لما؟ لأن وبكل صدق عيني تراكِ أنتِ العالم بكل الناس، رُبما في السابق كنتُ ليس كما أنا عليه، لكن لا يوجد سببٌ إلا أنتِ فيما وصلت إليه، ولا يَهُمني من كان يُحركني بيديه، فقد أصبح فقط كل ما يَهُمني أن قلبك يُرافق قلبي، وأن أنتصر بِكِ على العالم في حربي، أنا وأنتِ فقط سنصبح لبعضنا عالمًا وكأننا زهورٌ مُجتمعة في صِنوانٍ واحدٍ، وفي الأساس الحقل هو موطننا الأصلي.
<“حاولت إنقاذ نفسي، لكن البحر كان أقوىٰ”>
أتعلمون أن المرء قد يُقتل بالصمت؟
نعم الصمت قاتلٌ تحديدًا كمن يغرق في اليم وخشى أن يظهر للناسِ ضعيفًا فظل يحارب بأنفاسٍ بالية كخرقةٍ من القماش الزهيد، ويوم أن أتخذ الخطوة ورفع كفه يطلب النجاة وجد نفسه يلوح لعالمٍ أعمىٰ لن يرَ استغاثته قط، وما إن حاول رفع صوته لجذب انتباههم، وجد نفسه أبكمًا لم يقو على الصراخ، فعلم حينها أن الموت بصمتٍ قد يكون أشرف من استنزاف آخر طاقته في محاولاتٍ فاشلة..
قهر، وظلم، عالم يُقاد بقانون الغاب، مسئول فاسد، وحاكم ظالم وقطيع يسيرون مُطرقي الرأس بخزيٍ، هذا ما نَعِش فيه تلك الأيام، أهذا هو العالم الذي حلم به الصغير وأراد أن يكبر لكي يُغير العالم وفقّا لقوانين فؤاده العطوف؟ يبدو حدث بالفعل لكنه لم يضع في الحُسبان أن يد التغيير ستطرأ على عالمه هو، وقد وقف “إسـماعيل” بين الحشد المتجمهر حول جُثمان الفتاة التي حتى لم تُسبل أهدابها لتلك اللحظة وظلت مفتوحة كما أحشاء جسدها الفارغ !!.
وجهها الأزرق نتيجة إزهاق روحها، جسدها الفارغ أمام العَيان، تواجدها وسط القُمامة بالطريق؟ جسدها المُشرح تمامًا حينها هوىٰ فؤاده أرضًا وأختنقت أنفاسه بين الرئتين كأنها مُحاصرة لكنه حارب نفسه وحرك رأسه أخيرًا للخلف يسأل بصوتٍ بالكاد يُسمع من بين شفتين مُطبقتين:
_هو… هو إيـه دا؟ مين اللي عمل كدا؟.
أنتبه له شيخٌ كبير السن من وسط الناس وضرب كفيه ببعضهما ينطق بحسرةٍ جلية في صوته مُمررًا لها في عينيه:
_والله يابني العلم عند الله، مدلق الزبالة دا الناس بتيجي تحط فيه الكراكيب والزبالة والحي بليل يشيلهم، بس من شوية الدنيا أتقلبت والكلاب أتجمعت على الريحة، وفضلوا ينبحوا لحد ما الناس دورت ولقت الجثة دي في الزبالة !!.
ألهذه الدرجة وصلت بشاعة العالم؟ لقد وصلنا لزمنٍ أضحت فيه كلاب الطُرقات أرحم من بعض البشر؟ فتاة بريئة مثل هذه ما الذي أرتكبته في حياتها لكي تنل موتها وتلقَ حتفها بتلك الطريقة؟ أغرورقت عينا “إسـماعيل” بالعبرات وظل يستغفر الخالق وهو يبتعد للخلف تزامنًا مع وصول سيارة الشُرطة ورجال الحكومة، وكحال أي فردٍ في هذه اللحظة يغمضون أعينهم من بشاعة ما رأوا، ويسدون أنوفهم قبل أن تتسرب إليها الرائحة، وقد ولج هو سيارته يختبيء فيها من وحشية العالم لكن مظهر الفتاة عَلُقَ بذهنه دون مُفارقةٍ..
كان يرتجف كورقةٍ في مهب الريح، جبينه تندى عرقًا رغم عدم بدء الأيام الصيفية، ظل الألم ساريًا من منتصف عموده الفقري حتى أسفل رُكبتيه الهُلاميتين، وطنينٌ في أذنيه لازال يتردد فيهما حتى أغمض عينيه لكن صورتها لم تنفك عن عقله حتى فرق جفونه بفزعٍ وقد هاله المشهد المروع لبراءة قلبه..
في بيت “نَـعيم” تحديدًا من بعد انتشار خبر الزواج أنقلبت حالة الجميع، ما بين حماسٍ مُلتهبٍ وشغف متقد، وما بين فتور وخوفٍ معًا، وما بين مسئولٍ يسعى ويحاول لكي يِخضع الوقت لصالحه، وقد كان “إيـهاب” جالسًا مع “نَـعيم” في مكتبه يحاول تهدئته من بعد اهتياج أعصابه وقال بثباتٍ:
_أنا سيبتك ترتاح شوية أهو، بس مينفعش تعصب نفسك كدا لحد ما تترعش وتهبط مننا، قولي عاوز إيـه، وأنا تحت أمرك، بس متزعلش نفسك وشاورلي على اللي في دماغك.
حرك “نَـعيم” عينيه نحوه وزفر بقوةٍ يُخرج ضيق صدره وهتف بصلدةٍ وبنبرةٍ جامدة وجه له الحديث:
_فيه إني خلاص فاض بيا، أنا ساكت ومتحمل وقولت كفاية بس إنه يكون مبسوط ويكون متطمن وأنا عارف إنه بخير، سيبته يفضلها هي وقولت مهما كان هي أمه وربيته وضيعت عمرها كله في رعايته، بس يتقل منه كدا لأ، مش هنضحك على بعض أنا ابن سوق وفاهم، مهما وصل حبها ليه هيفضل غريب عنها قصاد عيلتها، ومهما حبيته مش هتفضله على أهلها، يبقى أضمن راحة ابني وأجوزه ويبقى في بيته مُعزز مُكرم ولا إن حد يستجرى يرفع عينه فيه، والقلم الله في سماه لولا العيبة وإني عامل حساب كل فعل أنا كنت خليتها بكت بدل الدموع دم، بس دول خسارتهم الكبيرة إن واحد زي ابني يخرج من عيلتهم..
سكت هُنيهة عابرة ثم بادر من جديد في الحديث قائلًا بنفس الطريقة السابقة:
_عارف؟ أنا اللي مخليني ساكت إنها هتخسر كتير وسط عيلتها ومش هتلاقي غير “تَـيام” هو اللي يلحقها، ومش هتدخل أنا هخليها تعرف إنها ضيعته من إيديها، وهو قلبه طيب زي قلب العيال الصغيرة، علشان لو كان ابني وحشكان ردلها القلم عشرة فوق وشها، ولا كان طمع حتى وساب بيتها وجه هنا، خلص بس معايا الفرح وشوف لازمهم إيه، ومتخليش “سـراج” يدفع حاجة، زيه زي “تَـيام”.
أومأ له موافقًا وقبل أن يرد عليه صدح صوت هاتفه برقم ذراعه الأيمن كما يُلقبه “مـيكي” وقد جاوبه بعمليةٍ وإيجاز:
_سامعك، في إيـه؟.
جاوبه الآخر بلهفةٍ قلقة يُغلفها ضيقٌ أو ربما الحزن هو الطاغي عليها:
_بقولك يا “عمهم” الحكومة قالبة الدنيا برة والمكان مترشق أنا قولت أعرفك تطمن على اللي يخصك، عامةً “إسماعيل” خرج وزمانه وصل البيت كمان.
تعجب من الحديث المُلقىٰ على سَمعهِ وهَـبَّ مُنتفضًا وهو يسأله بصدمةٍ جلية على تعبيراته المُصدرة:
_هو إيـه اللي حصل؟ بيدورا على حد؟.
كان هذا أول ما بدر إلى ذهنه حيثُ المُعتاد في هذا المكان لكن الآخر أخبره عن الجُثة المُلقاة بالطريق وعن الأمر الذي أدى إلى تدهور الوضع برمتهِ وقد هوىٰ فؤاد “إيـهاب” أرضًا وبدا تائهًا بعض الشيء وقد أغلق معه الهاتف وأخبر “نَـعيم” الذي كان يجلس ويترقب بسمعٍ مُرهفٍ وما إن أخبره الآخر، نطق هو يحثه على الحركة بقوله:
_طب قاعد ليه؟ روح أتحرك وشوف إيه اللي حصل ولو فيه حاجة محتاجة حد مننا خلصها، ربنا يصبر أهلها ويلطف بحالهم وميوجعش قلب حد على ضناه، يلا.
أومأ “إيـهاب” موافقًا وتحرك لخارج المكتب لكي يتوجه إلى موضع الجدل المُثار لكنه لم ينسَ أن يطمئن على الجزء الأصغر من قلبه، وتزامنًا مع خروجه ولج الآخر للبيت ومنه توجه لداخل غُرفته مُباشرةً فارتاح هو قليلًا من عبئه وتوجه نحو الخارج، وبعد مرور دقائق من القيادة السريعة أوقف السيارة على مقربةٍ من الحادث وترجل منها ثم توجه نحو ضابط المباحث ومأمور التفتيش والتنقيب وقد أفسح له الحاضرون مجالًا فتوجه هو مُباشرة وهتف بثباتٍ يُحسد عليه:
_خير يا باشا فيه حاجة؟.
ألتفت له الضابط وشمله بنظرةٍ عرفه من خلالها على الفور وقبل أن ينطق الآخر مُعرفًا بنفسهِ قاطعه الضابط بقوله الودود:
_”إيـهاب” باشا طبعًا عارفك وعارف إنك الكبير من بعد الحج “نَـعيم” هنا، غني عن التعريف طبعًا.
بدون مُبالغة وبدون مُجاملة لشخصه هذه هي حقيقته، فالجميع يعرف من هو، هذا المُهذب الأول للشباب، والكبير من بعد كبيره، القوي صاحب الدفاع عن الحق، الوحيد الذي يقهر العدو والجبان، رجلٌ كثرة معاشرته للخيول جعلته يتحلى بصفاتها الحَسِنة قبل السيئة، وقد شكره هو بلباقةٍ وسأله بإهتمامٍ عن الجُثمان المُغطى بأكياسٍ سوداء فكان الجواب قاتلًا لثباته بقول:
_للآسف دي بنت الناس لقيتها مرة واحدة وسط الطريق وزي ما أنتَ شايف كدا أعضائها مسروقة وشكل الموضوع طازة علشان جسمها متحللش، هنشوف التحريات والبلاغات والطب الشرعي كمان يمكن يكون حد من أهلها عامل محضر فقد أو حاجة، وأكيد الدنيا هتفضل قلق الكام يوم دول، معلش بقى استحملونا.
خرجت كلمته الأخيرة كما لو كانت استئذانًا من مالك الأرض ليجبهُ الآخر عارضًا جل خدماته:
_تحت أمر معاليك، ولو سيادتك محتاج حاجة مني أو من رجالتي أو من الحج نفسه إحنا تحت أمر معاليك، ونتمنى نساعد ونوصل للحق، ربنا معاكم يا باشا.
أنهى جملته وقد ألتفت قاصدًا الرحيل لكن الغطاء تحرك بفعل الهواء وظهرت الفتاة مما جعل قلبه ينقبض وتنحسر الأنفاس بين الرئتين حينما تذكر موقفًا في صغره لم ينفك عن ذاكرته، موقفٌ ذكره بأحد الصغار الذي كان يسكن معه في مسكنهم القديم؛ لذا هرب مُسرعًا من المكان وولج سيارته يحاول فيها تنظيم أنفاسه الثائرة.
__________________________________
<“لم يغيرهم الزمن، لازالوا كما هُم”>
يُولد الإنسان بفطرة الخير ويعيش بها حتى تطلهُ أيدي الحياة وتغير ليصبح كمن خشاهم ذات يومٍ، تطرأ عليه التغييرات التي قد يكون كرهها، لكنه أبدًا لن ينسَ أن الخير هو ما يسكنه دومًا وأبدًا، فبالرغم من تلك التغييرات التي تلون جداريات حياته إلا أنه لازال يتمسك بنبتة الخير بداخله..
الاثنان معًا رغم إختلافهما البائن مثل بيان الشمس في الظهرة إلا أن هناك تناسق روحي بينهما يجعلهما مُتشابهين، فلا “يـوسف” وحده بدون “أيـوب” ولا “أيـوب” بمفرده بغير “يـوسف” كلاهما مع الآخر يحتاجه وكلاهما للآخر يسانده، وبعد تسوق وتجول في أزقة حارة “العطار” أنتهى بهما الحال وكلاهما يمسك في كلتا يديه حقائب بلاستيكية كبيرة الحجم بها كل ما لذَّ وطاب، وقد وقف “أيـوب” يسأله بحيرةٍ:
_أنا عاوز أفهم؟ إحنا بنعمل إيه والحاجات دي لمين؟.
ألتفت له “يـوسف” برأسه وهتف بثباتٍ يناوله الجواب:
_دي حاجات للشقة اللي هنطلعها، كمل بس جميلك معايا للآخر خُلقك بقى ضيق ليه بس؟ ما تصبر مش هخطفك.
أنهى حديثه ثم ألتفت وفتح بوابة البناية وولجاها سويًا وبعد دقائق وصلا عند شقةٍ وقام “يـوسف” بالضغط على مقبس الجرس فأتى الصوت من الداخل يستفسر عن الهوية ليجاوب هو بثباتٍ خفى خلفه توتره:
_أنا “يـوسف” ومعايا “أيـوب”.
جملته بدت وكأنه يخبرها أنهما مصدر الأمان ففتحت “فاتن” الباب بلهفةٍ لهما وقد ولجا الاثنان بحالٍ عكس الآخر، حيث ولج الأول بقوةٍ والثاني باستحياءٍ من أهل البيت لكنه ولج مع رفيقه، وقد وضعا الحقائب وتحدث “يـوسف” بنبرةٍ حاول رسم الثبات بها:
_دي حاجات علشان الشقة فاضية عليكم، فيها كل حاجة ممكن تحتاجوها، وعلاج “نـادر” كمان هنا هتلاقيه عندك بس بصراحة معرفش المواعيد بتاعته، فممكن يكلم الدكتور يسأله، شوفي كدا عاوزة حاجة تاني؟.
تعجبت من فعله ووقفت أمامه حائرة فيما أبتسم “أيـوب” بزاوية فمه حينما أدرك أن هذا المُتعجرف غلبه تلك المرة أصله الطيب، وقد خرج “نـادر” يستند على عصاه فوجدهما سويًا وقد مرر عينيه عليهما سويًا وسألهما بترقبٍ:
_حصل حاجة ولا إيـه؟ خـير.
كان يسألهما من قبيل المُعتاد في أيامه الأخيرة حيث القلق والإضطرابات التي تُداهم حياتهم لكن الجواب أتاه من “أيـوب” حين قال بلهجةٍ وقورة بها لمحة من الودِ:
_لأ متقلقش، “يـوسف” جابنا نتطمن عليكم وجايب حاجات للبيت علشانكم، طمني بس عليك، بقيت أحسن دلوقتي؟.
بحديثه استطاع جذب إنتباه “نـادر” الذي رمقه بخفةٍ لم يطل بها نظراته ثم نطق بنبرةٍ خافتة:
_أنا كويس الحمدلله، شكرًا على سؤالك.
الحواجز بينه وبين سائر الناس بالغة للغاية، لم يعتاد إلا القسوة ولم يُعامل إلا باللسان الفظ وكأنه لم يستحق أن يُعامل بأدمية، وقد أقترب منه “يـوسف” يناوله الدواء ونطق بقوةٍ ثابتة الأثر:
_دا العلاج بتاعك أهو، ولو محتاج تنزل العيادة اللي في المسجد تحت علشان تكمل جلسات العلاج الطبيعي مفيش مشاكل، أنا وعدتك إنك في رقبتي وأنا مبرجعش في وعدي، أعتبر نفسك مسئول مني.
حديثه رغم أنه خرج غليظًا أو رُبما متصلدًا يخلو من المشاعر لكن الصدق ظهر فيه جليًا بقدر ما حاول أن يخفيه، وقد أبتسم له “نـادر” وشكره بنبرةٍ خافتة فيما وقفت “فـاتن” تراقبهما سويًا بعينين فرحتين ثم أنتقلت بعينيها إلى “أيـوب” و “يـوسف” سويًا لتتذكر والديهما أيام صباهما، وقد أوجب عليهما التحرك بسبب تأخر الوقت، فاستأذن كلاهما وخرجا من الشقة..
أنتبهت هي لخروجهما فوقفت على أعتاب الشقة تهتف بلوعةٍ لم تنجح في إخفائها:
_”يــوسف”.
ألتفت لها بتعجبٍ يرمقها بنظراتٍ جامدة فوجدها تقترب منه وتحتضنه بغتةً مما جعل جسده يجفل إثـر حركتها تلك وتيبست عضلاته وبرحَ عنه رد الفعل بينما هي ربتت على ظهره وهتفت ببكاءٍ:
_أول مرة أتأكد إن “مُصطفى” مماتش، دا ساب حتة منه فيها أصله الطيب، أنا دلوقتي شايفاك هو بالظبط، وحاسة إن هو اللي حاضني.
حديثها لمس الوتر الأكثر حساسية بداخله ودون أن يعي لنفسه ضمه بكلا ذراعيه سامحًا تلك لمشاعره أن تتغلب عليه، أطاح بالتعقل وسلم الراية للفؤاد ليرفعها ويعلن ظفره وقد داهمها بسؤالٍ مُتخبطٍ كحال رأسه:
_بجد شايفاني زيه؟.
كان يتلمس منها الجواب المُراد لكي يمسح على قلبه وقد أبتعدت عنه تُحرك رأسها وهي تقول بضحكةٍ حزينة شقت الطريق لتعلن عن نفسها:
_والله هو، كنت علطول بطلع عينه زيك كدا، وأخليه يزعل مني وأول ما يحس بس إني محتاجاه كان بييجي وياخدني في حضنه، تعبته وتعبتك بس والله أنا كمان تعبت أوي.
تبدل جمود نظراته إلى الحنو والرفق وقد مسح عينيها بنفس الحركة التي كان يفعلها والده له ولها ثم سحب نفسًا عميقًا ونطق بصوتٍ مبحوحٍ إثر تدفق المشاعر له:
_خلاص اللي حصل حصل، والأذىٰ طال الكُل خلي بالك بس من نفسك ومن “نـادر” ولا أنتِ غاويالي التعب يا “فـاتن”؟.
قلد طريقة والده في جملته الأخيرة مما جعلها تبتسم مُجددًا له وحينها تنفس هو يُخرج الإضطراب الذي ساور عقله ومشاعره ثم ألتفت يوليها ظهره وودعها ببسمةٍ طفيفة ثم ولج المصعد مع”أيـوب” وقبل أن يُغلق الباب ركضت هي لهما وهتفت بوجهٍ مبتسمٍ:
_قبل ما كل حاجة تتغير زمان، “مصطفى” كان بيجيب “عبدالقادر” في أيده كدا وييجوا يتطمنوا عليا برضه، لما شوفتكم مع بعض أفتكرتهم، وصدق اللي قال إن اللي خلف مماتش، ربنا يبارك فيكم ويديمكم لبعض.
نظر كلاهما للآخر ببسمةٍ هادئة ثم ودعاها ورحلا من البيت يسيرا بجانب بعضهما وقد بادر “يـوسف” بسؤاله وهما بجوار بعضهما:
_لسه متضايق؟ على فكرة هو حقك بس مينفعش تزعل كتير وتفرحهم، كدا كأنك بتقولهم شاطرين عرفتوا تنكدوا عليا وتفرحوا أنتوا، أحسبها كدا بعقلك؟.
توقف “أيـوب” عن المسير وألتفت له يسأله بعينيه عن مقصده ثم دعم هذا الاستفسار بسؤاله قائلًا:
_أحسبها؟ بس أنا فعلًا متضايق بجد، أصلي أتحرمت من دخول بيت ربنا علشان بقول كلمة حق دي فكرة مُهينة، زيي زي اللي عمل حاجة حرام فيه، المطلوب مني إني أضلل الناس وألعب بعقل العيال وأبقى إمام مسجد مُضل للناس علشان أعجب؟ الحال بيضيق عليا وأنا عشمان في رب الناس، دا إبتلاء وهيعدي، وربك رحيم بعباده.
ربت “يـوسف” على كتفه وتحدث يدعمه بقوله:
_بالظبط، ربنا رحيم بعباده أوي، وأنتَ اللي عملته في حياتك كان كتير واللي شوفته كان أكتر ولسه فيك الأصل الطيب والأخلاق اللي مش كله لسه بيتمتع بيها، بعدين خليك ناشف وأصلب طولك، الحج “نَـعيم” علطول كان يقولي أكتر حاجة تقهر عدوك إنه يشوفك فرحان وبتضحك، أوعى تبين إنك زعلان ومقهور ومتضايق، بس خليه هو بفرحتك يتضايق، لو منك أنكد على أبوهم كلهم.
ضحك “أيـوب” مُرغمًا ثم استأنف السير معه حتى وصلا لبيت “العطار” فهتف “يـوسف” يودعه بقوله:
_تصبح على خير ومتقلقش، هتتحل والله وربنا هينصرك عليهم، طالما مبتعملش حاجة وحشة خلاص، يخبطوا راسهم في أتخن حيطة، بعدين مش كل الناس ذوقها حلو علشان تقدر الحلو اللي زيك كدا.
كان حديثه مرحًا بطريقةٍ يندر التحدث بها مما جعل “أيـوب” يعود برأسه للخلف ثم سأله باستنكارٍ حقيقي:
_أنتَ مشاعرك فياضة النهاردة كدا ليه؟ أنتَ كويس طيب؟.
ضحك “يـوسف” وحرك كتفيه كأنه يعبر عن اللاشيء فيما ودعه “أيـوب” وتحرك صوب الباب يفتحه فناداه “يـوسف” بلهفةٍ بعض الشيء:
_”أيـوب”..
ما إن حرك الآخر رأسه له نطق بصدقٍ يُطمئنه:
_متخافش منهم ولا تزعل نفسك، أنا في ضهرك.
كان يُطمئنه وهو أكثر من يحتاج الطمأنينة، كعصفورٍ رأى رفيقه أجهده الطير فذهب له يحتويه بجناحيه المكسورين، مسح بحديثه على قلب الآخر ثم تحرك من المكان يتوجه لبيته حتى ينعم بالراحة قبل أن يبدأ اليوم التالي بنفس منوال سابقه، وقد ولج “أيـوب” غرفته مُباشرةً ثم بدل ثيابه وتوضأ وتوجه نحو رُكن الصلاة يُقيم الليل به كعادةٍ لم يُفرط بها طوال عمره، فمهما طال البلاء يعلم أن من يعقبه هو العطاء.
__________________________________
<“لقد رأينا الصباح الأول من بعد حربٍ وقصف”>
النهار الهاديء دومًا هدية من الخالق لشخصٍ قضى ليله في الحرب، حيث صوت القصف والصراخ وارتفاع ألسنة النيران وهي تلتهم الزهيد قبل النفيس وتترك أثرها حيًا في الروح، ثم تعبر لداخل القلب تستقر به لتصبح ذكراها البائسة ساكنة بالعقل، لكن مع ظهور أول خيوط النهار وبزوغ الشمس يحل الأمل محل كل المشاعر السابقة..
كان يتجهز في غرفته ببيت عمه صباحًا وقد هندم قميصه الأسود ونثر عطره المميز ووقف يُهندم نفسه ومظهره ثم أمسك هاتفه الصامت فوجد رقمها يُزين شاشته حينها عقد حاجبيه وفتح المكالمة ليجدها تسأله بلهفةٍ:
_بسرعة أفتح الواتساب بسرعة يلا.
هذه الغريبة التي تُداهم حياته جعلته يتعجب في الصباح وقد أغلقت في وجهه حتى فتح هو التطبيق فوجدها أرسلت له صورتين تُخييره بينهما وقد كانت الصور لحقيبتين وحذائين وقد أرسلت له أسفل الصورتين:
_أختار ألبس الشنطة البيضة والكوتش الأبيض ولا الشنطة السودا والكوتش الأسود؟ بسرعة علشان كدا هتأخر مفيش وقت.
تعجب منها وازدادت حيرته في أمرها لكنه قام باختيار لم تتوقعه هي حيث اختار الحقيبة السودا مع الحذاء الأبيض وكتب أسفل اختياره بثباتٍ:
_الاتنين مع بعض أحلى، والشنطة السودا أقيم من البيضة، إنما الكوتش الأسود حاسه كبير كدا وضخم، التاني أرق.
رأت رسالته فكتبت له تتأكد:
_بجد؟ شايف كدا؟
_دا رأيي ومش هفرضه، أنتِ خدتي رأيي في ذوقي وأنا قولتلك ذوقي إيـه، عمومًا مش هنختلف، شوفي إيه يريحك يا “فُـلة” وأعمليه.
أبتسمت هي على الطرف الآخر ما إن وجدته يشاركها الرد والمناقشة ولم تجاوبه وإنما فعلت ما أختاره هو ثم ودعته برسالةٍ دون أن تخبره ماذا فعلت وعلى ماذا استقر خيارها، بينما هو فنبشها في ثباته أثار فضوله، لقد أراد معرفة علام استقرت أخيرًا لكنها لم تناوله هذه الراحة لذا ظل مكانه لدقائق ثم خرج من البيت يتوجه صوب دراجته واستقر فوقها وقبل أن يتحرك وجد “مُـحي” يهرول خلفه بأدوات العملية ثم هتف بلهفةٍ:
_نزلني عند الطريق برة وأنا هكمل علشان عربيتي بطاريتها بعافية اليومين دول، بسرعة عندي إمتحان.
ألتفت له “مُـنذر” برأسه وهتف بسخريةٍ:
_وعلى إيه؟ هوصلك للكلية علشان الإمتحان، مش ضامن لو سيبتك على الطريق هتعمل إيه بصراحة، كدا أحسن.
لم يرد الآخر بل ألتزم الصمت وأخرج مُذكرة صغيرة يسترجع بها معلوماته الدراسية فيما وضع “مُنذر” صندوق الأدوات العملية أمامه فوق الدراجة وهو يقودها، وقد أوصله بالفعل للكُلية ثم عاد نحو مقر عمله في المشفى.
وصل هناك في موعده تمامًا بدلًا من أن يصل أبكر من المعتاد وقد رآها تقترب منه في الرواق وهي تبتسم تلك البسمة التي تجعله عاجزًا عن تحريك عينيه بعيدًا عنها، وكأنها شمسٌ مُشرقة تُدفيء صقيع قلبه، أما هي فأقترتب تُحييه تحية الصباح وهتفت بعمليةٍ تناقضت مع رسائلها منذ قليل:
_صباح الخير يا دكتور “مُـنذر”.
عقد جبينه وردد مشدوهًا بضياعٍ تحيتها:
_صباح النور.
أوزعته بسمة هادئة ثم تحركت صوب مكتبها فيما لاحظ هو أنها قامت بتنفيذ اختياره حيث أرتدت الحقيبة ذاتها والحذاء نفسه ووقتها زادت الثقة في اختياراته بعمق نفسه لطالما كان يظن أنه آخر من يتم الرغبة في اختياراته واختياره هو بشكلٍ عام، بينما هي أنزوت بعيدًا وراقبته بعينيها حتى ولج غُرفته بملامح مُنبسطة فأيقنت أنها تسير على الخُطى الصحيحة للإقتراب منه والتوغل لأرضهِ المُغلقة بأسلاكٍ شائكة، لكنها لم تمنع نفسها من الإبتسام فور أن أدركت تأثيرها عليه كشمسٍ تشرق بعد ليلٍ عصيب.
__________________________________
<“بعض البشر هدايا لنا من وسط الأيام”>
من منَّا لم يُخطيء في حق نفسه والآخرين من قبله؟ فليس منَّا فوق الأرض من عُصِمَ من الوقوع في الخطأ، لكن مع مرور الوقت تتفاوت درجات الأخطاء لدينا، ويزداد عُمق الخطأ مع إزدياد مرور الوقت علينا وكلما تأخرت في إصلاح مفاسدك كُلما أضطررتُ آسفًا لدفع تكلفةٍ أكبر..
أرادت أن تقوم بإصلاح أخطائها كافة، وأرادت أن تعترف بخطايا أرتكبتها في حق نفسها، لذا أنهت مُحاضراتها وتوجهت للمكان الذي يجلس به خطيبها ولحسن حظها وجدته بمفرده في المكتب ويبدو أنه يقوم بمراجعة أشياءٍ خاصة بعمله لذا طرقت الباب وهتفت تستأذنه بقولها:
_ينفع أدخل؟.
جذبته بصوتها المُحبب لقلبه وقد أشار لها أن تقترب منه وقد جلست بجواره وأبتسمت له بوجهٍ مُشرقٍ ونطقت هي مبارةً بالحديث:
_صباح الخير أولًا يعني، ثانيًا آسفة لو بشغلك أو بضايقك بس أنا كنت محتاجة أتكلم معاك يا “يـوساب” شوية بس لو مشغول ممكن نخليها وقت تاني علشان مضغطش عليك.
نفىٰ ذلك سريعًا حينما قبض على كفها ومنعها من التحرك فوجدها تستقر في جلستها مُجددًا بينما نطق هو بطريقةٍ رسمية حفاظًا على مكانهما:
_أتكلمي وقولي عاوزة تقولي إيه، أنا هسمعلك.
هذا ما ترجوه هي في وقتها الحالي، لقد أرادت أن تجد من يستمع لها ويُنصت بدلًا من الوحدة التي تغمرها وقد حسمت القرار أخيرًا وسحبت نفسًا عميقًا وتفوهت بقوةٍ ناقضت تراقص خوفها:
_أنا بس محتاجة أقولك حاجة مهمة، يمكن خدت وقت علشان أثق فيك بس أنا بجد محتاجة أتكلم معاك وأفهمك حاجات كتير، أولهم إني مش وحشة ومش شخصية تافهة، بالعكس أنا والله عندي طموحات وأحلام كتيرة بس أنا متهورة شوية، أهمهم أي حاجة قبلك مكانتش بقصد مني، يعني أنا كنت لاقية حد بيهتم بيا ويتكلم معايا كويس ويشجعني، فحسيت إني محور إهتمام عنده وبالتالي مشاعري أتحركت ناحيته، قدام كل دا أنا كنت في بيت مفيهوش حرية رأي، بابا كل حاجة يفرضها علينا، ممشي كلامه وبس، بيعاند في اللي نعوزه طالما اختيارنا إحنا، بس كل مرة كنت بعانده فيها كنت بتضايق من نفسي إني بعمل حاجة من وراه، بس أنا مش مرتاحة وحاسة إني غلطت كتير وحاسة ناحيتك بتأنيب ضمير، كأنك تستاهل حد أحسن.
يبدو أنها تقصد إفساد مظهره لكي تخرج بالرجل البربري الذي يسكنه لذا عاد للخلف بظهره وقرر أن يلجأ للبرود معها فنطق بفتورٍ ظاهري:
_مش أنتِ اللي تقرري استاهلك ولا لأ، أنا اللي هقرر لأنها حياتي وأنا حُر دا أولًا، ثانيًا يا “مـارينا” خلينا نتفق مع بعض، هييجي يوم من الأيام ومش هيبقى ليكِ غيري في الدنيا، هبقى أنا مرجعك الوحيد في الدُنيا دي، فيبقى الحل إن الصحوبية تكون بينا أحسن من التراجع والفتور، فكلميني كأني صاحب بتثقي فيه، ولو كلامي مش عاجبك خلاص.
أومأت موافقةً على حديثه ثم تنهدت كأنها وصلت أخيرًا للطابق المنشود من بعد صعودٍ على درجٍ لم ينتهي، وقد نطقت بصوتٍ مُضطربٍ:
_بص، أنا أتربيت في بيت مبيحترمش حرية الرأي، بيقللوا مني فيه ومبيعترفوش بحاجة بحبها أو عاوزاها، حتى الكُلية دي مجبورة عليها، وأضطريت أوافق علشان أخلص نفسي من التأنيب، بس أنا لسه عندي طموحات وأحلام عاوزة أحققها، مش عاوزة أقف هنا وبس، على الأقل كنت بحاول أثبت لنفسي أني أقدر أعمل أي حاجة أنا عاوزاها.
فهم هو مقدار تخبطها ومنسوب الإضطراب في بحر مشاعرها المُهتاجة بالأمواج فوق بعضها وقد قرر أن يُنصفها أمام نفسها على اختيارها له:
_وأنا سمعتك وهرد عليكِ، عارفة فيه كام بيت في مصر ماشيين بالإجبار والتقليل من عيالهم؟ عارفة فيه كام بنت زيك؟ ومش بنات بس، لأ وشباب كمان، الأهل أختلط عليهم الأمر بين واجب التربية وفرض الآراء، وعلشان كدا في النص هنلاقي شباب ضايع وأتظلم، بس هل بقى كل بيت أهله متزمتين يكون دا سبب لشخص يضيع نفسه؟ يعني مثلًا واحد يشرب مخدرات نتيجة إهمال في بيته، هل دا سبب كافي؟ أو بنت ترمي نفسها في علاقة مش كويسة هل دا ينفع؟ لأ طبعًا، دا بيكون إعلان عن الرفض بيخرج على هيئة أفعال غير مقبولة، بس مش كل الأفعال دي بتكون من ناس وحشة، علشان كدا بقولك كل اللي حصل منك زمان أنا هعتبره طيش شباب وفات، ولو يحقلي اسألك عن حاجة تبقى من اللحظة اللي بقيتي فيها مسئولة مني، قبل كدا أنا مسامح، رغم إنك تعبتيني أوي.
أبتسمت “مارينا” بعينيها قبل شفتيها ودوىٰ صخب قلبها عاليًا وهي تراه يعبر فوق حاجز مخاوفها كفارسٍ يمهر قيادة الأمور بنفسه وقد أنتبه هو لساعته فأشار على الوقت بقوله مُبتسمًا:
_القعدة معاكِ ميتشبعش منها، بس أنتِ عندك محاضرة دلوقتي وأنا عندي سيكشن للفرقة التانية، هنكمل كلامنا وإحنا مروحين، وأي وقت تحتاجي فيه تتكلمي أنا هسمعك.
حركت رأسها موافقةً وحملت أداوتها تزامنًا مع دخول المُعيدة ذاتها التي تكرهها هي وتصب عليها الغيظ فوق قلبها صبًا، وقد كانت المشاعر مبتادلة بين كلتيهما لترمقها الأخرى بخيلاءٍ ثم تجاهلتها ووقفت أمامه هو تسأله بإهتمامٍ:
_”يـوساب” وراك سكاشن دلوقتي؟ ولا لسه الفترة التانية؟.
مهلًا هل هي تنطق اسمه مُجردًا من الألقاب؟ وتتدلل أمامه أم من الأساس هذه هي طريقتها؟ ألم تفهم أن هذا الفعل أمسى عيبًا؟ وقعت حقًا في دوامة الفكرِ فيما راقبها “يـوساب” بعينيه ونبهها بقوله لكي تستفيق من حالتها:
_المحاضرة يا “مـارينا”.
أنتبهت أخيرًا من شرودها له وقد رأت الآخرى ترمقها باستعلاءٍ ثم سألته بتعجبٍ يساوره الأمل ألا يتعدى الأمر حدود ذلك:
_هو حضرتك كنت بتشرح ليها حاجة ولا بتعيد إمتحان؟.
رغم أن الحديث بدا عاديًا وأكثر إلا أن هناك تقليلٌ وإهانة جعلت “مارينا” تندفع نحوه ثم جاورته وهي تنطق بتشفٍ وغيظٍ للأخرىٰ:
_لأ بعيد إمتحان إيه؟ هو حضرتك متعرفيش إننا أتخطبنا؟ هو بصراحة إحنا اتفقنا كل حاجة تكون في الهدوء لحد التخرج بس كدا أفضل وأنا أكيد هتشرف بيكِ في خطوبتي يا دكتور “نـيروز” وهكون سعيدة جدًا بحضورك.
ألقت قُنبلتها ثم ألتفتت له تراقب ملامحه وما إن لمحت البسمة تطفو فوق ملامحه غمزت له ثم رحلت من المكان وهو خلفها كعادته يقف تائهًا بعد كل فعلٍ يصدر عنها ويصيبه بالشتات في أمره وقد استأذن هو من زميلته وتحرك نحو مكان المحاضرة العملية فيما وقفت هي تنظر في أثرهما بتعجبٍ ثم نطقت أخيرًا بتقليلٍ منهما:
_الاتنين عيال والله.
حقًا عدو المرء هو الذي فشل في التحصل على ما سبق وحصل عليه غيره لذا كان الأقرب لها أن تنعتهما بعدم النضج أفضل لها من الاعتراف أن هناك غيرها من يستحق الأفضل، لكن كما سبق وقيل، هناك قِلة يعتبرون أنفسهم محور الأكوان وفلك الكواكب أثناء دورتها وقد يكون أصلهم لا يُرى بالعين المجردة.
__________________________________
<“بعض المواقف تحتاج لمن لا يعرفه التهذب”>
لقد كان الصمت علة الساكت، فمن يقبل الإهانة ويسكت عن الحق لن يُلاقي إلا الضعف والهوان ولن يُعرف بغير الجُبن، أما القوي المُدافع لأجل حقوقه فهو الوحيد الذي يهابه الجميع، فلك أن تختار بين أن تصبح ذليلًا خوفًا من استرداد حقك، وبين أن تصبح أنتَ حارسًا لطُرقك..
أرتدي “بـيشوي” ثيابه لكي يتوجه إلى عمله لكن أمه قابلته عند الرواق المؤدي لصالة الشقة وأخبرته بلهفةٍ:
_أنا هروح أفطر عند “نجلاء” وأشوف حكايتها، تعبانة بقالها يومين وأخواتها قالبين عليها، لما أشوف آخرتها.
كادت أن تدخل وتتركه لكنه أوقفها وحذرها بقوله:
_متخليهاش تكلم “تَـيام” في حاجة ولا تفاتحه في أي موضوع، وياريت لو متكلموش أصلًا علشان تقدر قيمته وتعرف هي عملت إيه بحبها لعيلتها، وسكوتها ليهم.
حدثها بجمودٍ جعلها تزفر بقوةٍ ثم هتفت تنهره بقولها:
_دا أنتَ!! بوريه منك يا ابن بطني، عيل أعوذ بالله وارث طبع أبوك بدماغه الناشفة، خربتها وقعدت على تلها خلاص؟ ولعتها يا ابن “جرجس”؟ تلاقيك فرحان والفرحة مش سيعاك علشان راح لأبـوه، أقول إيه بس.
لاحظ أنها تلومه وتُلقي بالإتهام عليه فزفر بقوةٍ ثم هتف بنبرةٍ أهدأ من سابقتها:
_ياستي أفهميني، بطلي تلومي فيا من غير ما تعرفي حصل إيه، أختها مدت إيدها وضربته بالقلم وهي واقفة ساكتة، وقبلها طردته وقالتله لو عندك دم أمشي، وقبلها سلطت جوزها يقوله إنهم خلاص هيشيلوا”نـجلاء” ومش محتاجينه والواد صابر وساكت، بس كدا كتير عليه، مش عارف يراضيها ولا يراضي أبوه وأخوه ولا حتى يراضي نفسه التايهة بينهم كلهم، هي لو ناوية تفوق لنفسها يبقى المرة دي تختاره، لو هتفضل زي ما هي يبقى بلاها خلاص وجودها وعيلتها أولى بيها منه، ويعوض أبوه عن اللي عاشه بعيد عنه ويتجوز، أعتبريه إختبار ليها يمكن تنجح فيه.
في الحقيقة هي من أكثر الناس الذين لقوا كرهه، تستفزه دومًا بصمتها لعائلتها وتحكم أشقائها فيها وفي حياة رفيقه، تسكت عن الإهانة له والتقليل منه ثم تسترضيه لكي يجبر نفسه على معاملتهم، لذا قرر أن يُخلص عنق رفيقه من الأصفاد الموضوعة في نحره وقد صدح صوت الباب الخاص بهم فتوجه يفتحه ليجدها هي، مكتبته العريقة وعيناها أفصح الكُتب بلاغةً، أبتسم بعينيه وشاكسها بقوله:
_خير؟ جاية عندنا ليه؟.
أبتسمت “مهرائيل” له وجاوبته بوجهٍ مُبتسمٍ:
_علشان أخد طنط وننزل الكنيسة مع بعض، عند سيادتك أي أعتراض يا أستاذ “بـيشوي”؟.
سألته بنبرةٍ ضاحكة جعلته ينفي ذلك برأسه ثم علق مُعدلًا بقوله المرح:
_إن شاء الله أعدم أعدائي كلهم لو كان عندي إعتراض، بس هو اللي بيروح الكنيسة بيكون حلو كدا وعيونه خطافين كمان؟.
تورد وجهها حينما زحفت حُمرة الخجل عليه وقد قررت أن تُجاريه وهتفت بخجلٍ تتحدى به نفسها بعض الشيء:
_مش يمكن خطافين علشان شافوا حاجة بيحبوها وتستاهل الخطف؟ مش من العبث يعني هيكونوا خطافين.
فاجئته بما تفوهت وقد أطال النظر في وجهها وهتف بمزاحٍ يراوغها بقوله:
_حلو أثبتي بقى على كدا، عاوز من دا كتير الأيام الجاية.
ضحكت هي بصوتٍ عالٍ فيما ولج هو للداخل وسحب عبوة كعك مُغلفة ثم مد يده لها بها وهتف بثباتٍ:
_خدي دي أفطري بيها، أنا اللي مشتريها.
_تسلم الأيد اللي جابت.
هكذا كان ردها عليه مما جعله يتواقح بقوله:
_أنتِ عاوزة تتباسي على الصبح كدا ليه.
أتت أمه من الداخل فعدل هو حديثه مُسرعًا بقوله:
_فوق راسها، تتباس فوق راسها علشان هي أصيلة وتستاهل كل خير وتقدير، بلاش دماغك تروح لبعيد يا ست، أنا راجل أخلاقياته هي راس ماله.
لوت أمه فمها بتهكمٍ فيما مال هو على”مهرائيل” يحدثها بنبرةٍ خافتة لم تصل لغيرها:
_عاوزين نعيد التفكير تاني مع بعض، عن إذنك.
وصلته ضحكتها الخجولة فيما ترك الشقة ورحل بحالٍ غير المتعارف عليه حيث زينت البسمة ملامح وجهه وبُعِث الأمل في نفسه، وقد توجه نحو عمله مُباشرةً والغريب أنه يبتسم على عكس جمود ملامحه وقسوة طباعه، لكن مُتعة قاريءٍ مُخضرمٍ مثله لن يُضاهيها فرحًا إلا وقوع عينيه على النصوص البلاغية التي يُحب، وهي تأتي له بعينيها وتصبح ككتابٍ يلهمه لملايين الأشعار، لكن اللغة تبدو متواضعة أمام عينيها.
__________________________________
<“ماضينا لن ننساه مهما بلغ الحاضر مداه”>
مسكينٌ من ظن أن الماضي يُنسىٰ، فالماضي يُشبه دومًا كومة قشٍ متراكمة فوق بعضها في النفس ومع هبوب أول كتلة رياحٍ يتبعثر داخل المرء وكأنها نيرانٌ تصاعدت ألسنتها لتسحب معها كل شيءٍ..
كان “إسماعيل” حبيسًا في غرفته يُعاني من نوبة ظن أنها لن تُداهمه مُجددًا، حيث قضى ليله بين كوابيسٍ وخيالات لم تُبرح عقله بسبب الفتاة التي رآها أمسًا، ظل عقله يتلاعب به ويرسم له خيالات وهمية، ثم أحلام مرئية، ثم والمشكلة الأكبر استمع لتلك الأصوات المُخيفة التي هي سبب عِلته في تلك الحياة، لقد عاش ليلته مع العالم الآخر حتى أجهد نفسه وظل ينفث هواء التبغ المشتعل في غليونه حتى أمسك هاتفه وطلب رقمها وما إن جاوبته حدثها بتيهٍ:
_أنتِ فاضية يا “ضُـحى”؟.
أتته بالرد وأخبرته أنها لم تعمل في هذا التوقيت وسألته عن سبب ضياعه وتيه كلماته فجاوبها بما لم تتوقعه هي:
_أرغي في أي حاجة يا “ضُـحى” أنا عاوز أسمعك.
تعجبت منه وبدأت تسأله عن أحواله وهو يتهرب من الجواب لكن مع قوة شخصيتها وتمكن عنادها أمامه قرر أن يُخبرها بكل شيءٍ حين هتف بتشتتٍ:
_أنا إمبارح من بعد ما شوفت البنت دي وأنا مش بخير، حاجة جوايا أتحركت وحسيت إن فيه حاجة غلط، بس طول ما أنا نايم بليل كوابيس عمالة تيجي وصور عمالة تظهر قدام عيني، وكأني روحت مكان تاني وأنا نايم مكاني، دا بيحصل في حالة واحدة الشيخ قالي عليها، وهي إن واقع تحت سُلطتهم هما وفيه حاجة هعرفها.
توسعت عيناها على الطرف الآخر وهتف يُطمئنها بقوله المُضطرب وكأنه يُطمئن نفسه معها:
_بصي أنا مش بخوفك، بس المفروض ربنا خلق الإنس والجن، ووضع حجاب بينهم، أنا من اللي حصل فيا زمان الحجاب اللي بيني وبينهم أتشال، يعني بسهولة أقدر أتسخر وأعرف أي حاجة حد عاوز يعرفها بيستعين بخدمتهم، دا شغل كفر بالله وشعوذة، وأنا شقيت لحد ما بقيت إنسان شبه طبيعي، بس من إمبارح فيه حاجة غلط.
زفرت هي بقوةٍ ثم قررت أن تتولى دعمه حتى لا تُخذله كونه وثق فيها هي من بين الجميع:
_طب بص، قوم وخد دُش روق نفسك وأتوضا وصلي، وحصن نفسك وأقرأ الأذكار وشغل القرآن في الأوضة، وأخرج برة في الهوا وأمسك المُصحف وأقرأ منه وأحمي نفسك وربنا يقويك، لكن قعدتك كدا غلط، وحاول تكلم الشيخ وهو يقولك تعمل إيه، أو أقولك؟ كلم “أيـوب” هو هيفيدك.
في الحقيقة بدا كتائهٍ وهي أرشدته للطريق الصواب لذا وافقها في القول وفتح هاتفه على سورة البقرة وتركه في الغرفة ثم ولج المرحاض لكي يتحمم، لكن عقله لازال مُتمسكًا بكل شيءٍ، وفي تلك اللحظة تمنى أن يأتِ شقيقه لكي يضمه بين ذراعيه ويحميه كما يفعل معه من صغرهِ
في الخارج تحديدًا بجوار حظائر الخيول كان “تَـيام” يقف وهو يتابع المكان السارق لأنفاسه، حيث بدء الغروب البُرتقالي، ووجود الخيول اللامعة، والزهور اليافعة الملونة، والزرع الأخضر الناضر، لكن نفسه عليلة بكفٍ ضرب فؤاده قبل وجنته، وقد ظل مكانه حتى أتاه صوتٌ من خلفه يعاتبه برقةٍ:
_يعني برضه لما نتجوز أفهم إنك هتسيبني لوحدي وتيجي تقعد عند الخيول هنا؟ دي إشارة مش مبشرة خالص منك.
يبدو كمن ضرب فوق رأسه وهو يلتفت لها يتأكد من هويتها ليجدها هي حقًا وقد أبتسم بعينيهِ وافتر ثُغره عن بسمةٍ مدهوشة وهو يسألها:
_”آيـات”!! بتعملي هنا إيه؟ وجيتي إزاي كل دا؟.
أقتربت منه تقف أمامه وهي تقول بمعاتبةٍ من ملامحها المُبتسمة:
_جيت علشان حضرتك مشيت ومش معبرني، هو بصراحة معاك حق الخيول شكلهم حلو اللهم بارك بس يعني رد على مكالمة واحدة، متحسسنيش إني بجري وراك كدا.
كما هي رقيقة والقسوة لم تعرف الطرق لقلبها، تبدو كملاكٍ يرافق أيامه لذا أقترب هو منها يقف في مواجهتها مُباشرةً ونطق بقلة حيلة كمغلوبٍ على أمره:
_أنا مقدرتش أكلمك علشان كنت مقهور وزعلان، محبيتش أزعلك أنتِ كمان معايا، بس بصراحة جيتي في وقتك، علشان كالعادة أنا تايه ومش لاقي طريق واحد مفتوح، كلها حواري سد في وشي، أعمل إيـه؟.
سألها يعبر عن ضياعه وهذا السؤال تحديدًا هو ما يجعل المرء عاجزًا عن الحراك، وقد حركت هي كفها نحو قلبه تشير عليه بإصبعها ثم حدثته بحكمةٍ تتصف بها دومًا:
_دا طيب وجميل مش بيأذي حد، اسمعله وشوفه عاوز يعمل إيه، أو هقولك هي مامتك برضه وغصب عنك برضه ابنها، يعني احتمالية قطع العلاقة بينكم دي مستحيلة، ووالدك طيب هنعيش معاه هنا وهو بنفسه مش هيقبل إنك تسيب الست اللي حبيتك وشالتك العمر كله، يبقى الحل إنك ترضي الطرفين، بس متنساش حق حد عليك، وهي ليها حق الطاعة منك والرعاية كمان، متقلقش أنا معاك.
كانت تُطمئنه حتى وجدته يبتسم لها وسألها بمراوغةٍ:
_معايا بس؟.
حركت رأسها نفيًا وهتفت بنبرةٍ ضاحكة:
_معاك وبحبك كمان، أرتاحت؟ بس خلي الخيول تنفعك بقى أنا جايبة بابا وجايين نتطمن عليك وسيادتك هنا مُكتئب، دا إحنا لسه بنقول يا هادي وبنبدأ.
ألقت حديثها وكادت أن ترحل لكنه أعادها من جديد تقف في مواجهته وقد قربها له أكثر بكفه الذي استقر فوق خصرها ثم ركز بعينيه في عينيها الصافيتين ونطق مشدوهًا برؤيتها بهذا القرب وآشعة الشمس تسقط فوق وجهها:
_هو أنا قولتلك إنك أحلى حاجة وسط كل دا؟.
أومأت له موافقةً بخجلٍ فيما مسح هو على وجنتها وزفر بقوةٍ ثم تحدث يخبرها بما حدث له في غيابها عنه:
_مش هرتاح غير في وجودك أنتِ وبس، شوفي عاوزاني أعمل إيـه وأنا هعمله علشانك أنتِ، والله مستعد أعمل أي حاجة طالما أنتِ شايفاها صح، نفسي أشوف الدنيا كلها بعينك أنتِ يمكن تطلع مش زي ما أنا فاكر، ونفسي برضه أشوفني في عينك عامل إزاي.
أبتسمت له واستسلمت لمشاعرها لذا رفعت كفها تستقر به فوق كتفه وهتفت بنبرةٍ دافئة وعميقة كعمق عينيها وقلبها:
_شايفاك أطيب راجل في الدنيا كلها، وأجدع صاحب وأحن أخ، وشايفة إنك الراجل اللي حلمت بيه في يوم من الأيام ودعيت ربنا يرزقني بحد أحن مني على نفسي، وكنت بقول اللهم أرزقني به هينًا لينًا طيب القلب لا أشقى في صحبته، والحمدلله على عطاء ربنا، إنه كرمني بيك أنت، خدني في حضنك علشان تتأكد إني ليك وبس.
نادت ولبى هو النداء حينما ضمها بين ذراعيه بقوةٍ وكأنها الأمل الأخير له في هذه الدنيا لتستقر هي برأسها فوق كتفه كحمامة سلامٍ تواسي رفيقها المُتعب، أنا هو فينتمي لها وليس لغيرها هي وحدها من يشعر بقوة الإنتماء لها، يخاف الجميع ويخشى تقلب مشاعرهم نحوه إلا هي، كأنه يضمن أن قلبها خُلِقَ لأجلهِ، لذا ضمها كمن يضم كنزه النفيس خشيةً من أن يفقده.
__________________________________
<“لقد قادتهم طُرقاتهم للمصير المُستحق”>
بعض الأشخاص تنقلهم طُرقاتهم وفقًا لأفعالهم واختياراتهم فتصبح أماكنهم في نهاية المطاف هي ما يستحقونه، لذا لا تتواجد نهاية من قبيل العبث وإنما هي الإختيارت التي وقعت عليها رغبتهم من البداية وهذا ما يستحقونه هُم..
أنتقلت لبيتٍ جديد يملأه الغموض، بيتٌ لم تجد نفسها بين جدرانه لكنها مُجبرة على العيش فيه مع ابنة عمها الغامضة، وعلى سيرة ابنة عمها هي هنا تجلس في حديقة البيت بمفردها تشعر بالضُجر والملل وقد أتت “نـورهان” ابنة عمها تُخاطبها بمللٍ:
_بابا قالي آجي أشوفك لو عاوزة حاجة، عاوزة حاجة؟.
تتحدث دومًا بفظاظةٍ وتعتبر نفسها ذي شأنٍ عالٍ وتتعالى على غيرها، هذه هي طريقتها والتي لم تتناسب مع “شـهد” لذا رفعت حاجبيها وسألتها باستنكارٍ:
_هو أنتِ ممكن تتكلمي بأسلوب أحسن من كدا يعني؟ علشان بس أقدر أرد عليكِ، وياريت مالكيش علاقة بيا وخليني في حالي.
لم تكترث الأخرى بها بل فتحت هاتفها تتصفحه وخاصةً أنها مولعة بصفحات التواصل الإجتماعي وقد بحثت عن اسم “نـادر” في تطبيق الإنستجرام لتجده أمامها وقد قامت بفتح حسابه الخاص لتجده يحمل صوره فقط، والصور التي كانت تختص بتواجده مع “شـهد” قام بحذفها مما جعلها تبتسم بتشفٍ وهي تقول:
_”نادر” شكله تخطى بسرعة أوي، يا حرام دا مسح صوركم مع بعض رغم إنه كان لسه من فترة منزل صورة ليكم مع بعض، شكلك غاوية خسارة أنتِ، يعني مرة تخسري واحد زي “يـوسف” ومرة تضيعي واحد زي “نـادر” شكلك غبية بصراحة.
ضغطت على الجرح الأكبر لديها وقد توسعت عينا “شـهد” بصدمةٍ وحينها مالت الأخرى عليها تهتف بخبثٍ تقطره كلماتها:
_أنا من رأيي تختفي من الساحة خالص، وسيبيني أنا أشوف “نـادر” يمكن يكون محتاج حد جديد بعدما زهق منك، خصوصًا إنه عارفني كويس وعارف إني لما بعوز حاجة بوصلها، وأهو أبقى حافظت عليه في عيلتنا.
من جديد تصفعها في نفس الثانية فوق كرامتها وقد حاولت “شـهد” صفعها فوق وجهها لكن الأخرى قبضت على رسغها وهتفت بغلٍ دفينٍ:
_أهدي وأرسي كدا وأعرفي إنك قاعدة في بيتي يبقى تقعدي بأدبك، ولو يا حلوة مقموصة كدا كنتِ حافظتي عليه وهو معاكِ، ولا نسيتي يا “شـاهي” إني قولتلك من بدري أنتِ مع “يـوسف” وأنا مع “نـادر” جاية دلوقتي تتقمصي؟ صدقيني أنا بكرهك وبكره وجودك، وقعادك هنا معايا مقرف زيك.
دفعت كفها بعيدًا عنها بعنفٍ فيما تأوهت “شـهد” وهي تقوم بتدليك رُسغها وقد تذكرت لتوها أن “نورهان” سبق وأخبرتها بإعجابها الصريح بـ “نادر” ولولا أطماعها والإنسياق خلف رغباتها لما كانت وُضِعت في هذا الموقف.
بينما في الداخل ولجت “نـورهان” غرفتها بعدما تسلقت الدرج قفزًا لكي تصل لغرفتها ثم ولجت المرحاض وقامت بفتح جيب بنطالها الفضفاض بجيوبٍ عديدة ثم أخرجت منه كيسًا صغير الحجم وقامت بسكبها على ظهر كفها ومن ثم قامت بسحب الجُرعة برشفةٍ واحدة من أنفها..
شعرت بالإنتشاء يسري في عروقها ومنه إلى رأسها مباشرةً، شعرت بجسدها يُضاهي خفة رَيش الطيور وقد سحبت نفسًا عميقًا وفتحت عينيها تراقب نفسها في المرآة، فتاة غريبة الأطوار، وحيدة وسط الجميع، عزفت العالم بأكمله، ألقت نفسها بأحضان المُخدرات وأصدقاء السوء، وقد كانت التغييرات طرأت عليها كُليًا، حيث شعرها المُجعد تتخلله بعض الخُصلات الحمراء الداكنة، وهناك قطع معدنية تلتصق في وجهها حيث فوق حاجبها الأيسر، وأخرى في أنفها، وأخرى في شفتها، مظهرها غريبٌ يبث الرُعب في نفس من يُطالعها وقد أرتخت أعصابها تمامًا وجلست فوق الأرض الرُخامية تضحك مع نفسها إثر الإنتشاء الساري بأوردتها، فتُرى أي مصير سوف تلقاه هي وأمثالها؟.
__________________________________
<“يحملون الشر بأنفسهم، ولا ينازع الخير وسطهم”>
لولا صوت الضمير الحي في نفوس البشر لما كُنا من الأساس بشرًا، فبعضنا قام بقتل ضميره وأزهق روح أخلاقه حتى بات مثل الحيوانات في الطرقات ينهش في كل من يرغب فيه ويشتهيه، الإنسان وُلِدَ قضية يستحق أن يُدافع العالم عنه، لكن محكمة الدُنيا تأبىٰ أن تُقيم العدل، وعند الله تجتمع الخصوم..
يجلس فوق مقعده بأريحية شديدة متلذذًا بعدما أنتهى من أمر الفتاة وأخفى كل شيءٍ قد يجر قدميه لساحة البحث والشك، وقد صدح صوت هاتفه فخطفه سريعًا من فوق المكتب وجاوب على المكالمة سريعًا ليصله حديث الآخر:
_اسمع يا “شفيق” مش عاوز تهور خالص الفترة دي، بغبائك رميت البت في الشارع والدنيا أتقلبت، ولو أتعرف إن البنت دي من عندك هتبقى مصيبة ولو حد مننا أتدخل هتبقى كارثة ونفتح علينا أبواب النار، علشان كدا توقف كل حاجة وتزود الرعاية في الدار عندك، وتهتم بالأولاد يمكن تيجي لجنة أو حاجة، المهم مين اللي عمل كدا في البنت؟.
تندى جبينه عرقًا وخطف المحارم الورقية يهتف بتلجلجٍ:
_يا فندم كانت بتتكلم ومش عاوزة تسكت، حاولت أقنعها مرضيتش تسمعني، وأنا كنت هنا معاها، والدكتور كان برة وقالي إقنعها وهي دماغها كانت حجر، كان لازم تخرج بإرادتها علشان محدش يشك في حاجة.
لاحظ الطرف الآخر توتره وتلجلج حالته فباغته بسؤالٍ غير متوقعٍ:
_أنتَ عملت حاجة في البيت يا “شفيق”؟.
فهم هو مقصد السؤال وقبل أن يجاوبه وصله الرد من الآخر بجمودٍ وقسوةٍ:
_مفيش فايدة فيك، قولتلك مليون مرة مزاجك الزفت دا خليه بعيد عن الشغل، هات واحدة من أي زفت شبهك وأبعد عن بنات الدار بس مفيش فايدة فيك، صدقني أنتَ مش هترتاح غير لما تتطرد في الشارع وتخربها على دماغنا كلنا، أتنيل دلوقتي لحد ما نشوف حل.
أغلق في وجهه وقد تفاجأ “شفيق” من هذا كثيرًا وقد أغمض عينيه وهو يتذكر كيف أعتدى على الفتاة وكيف لقت حتفها من الخوف بين يديه وهي تصرخ بأعلى صوتها لكي تصلها النجدة فلم يجد إلا العنف معها سبيلًا لكي يُخرسها فصفعها بكفهِ لتسقط أرضًا وأرتطمت رأسها بجزء من الطاولة ونزفت الدماء منها، وحينها قرر أن يستغل جثمانها فأتى بالسفاح الحاصل على شهادة طـبٍ لم يمت أخلاقها بصلةٍ ثم بدأ في تنفيذ جريمته الثانية..
خرج من شروده مع تكرار صرخاتها في أُذنيه كأن الموقف حال أمام عينيه، وقد قرر أن يترك المكان ثم تحرك لخارجه يطالع الفتيات الصغيرات في غرفتهن بأعين جائعة ترى فيهن كل ما أمسىٰ نفيسًا ويصعب المنال.
__________________________________
<“من يحاول لأجل غيره يستحق أن يُحاول لأجلهِ”>
هناك بشرٌ يستحقون حقول الورد، ولأجلهم نستمسك بالودِ، بشرٌ لأجلهم نحفظ العهد، ولا نسعَ إلا للوفاء بالوعد، هؤلاء هم الذين يحاولون لأجلنا ولأجلهم نبذل كل مافي جُهدنا..
في مقر شركة “الراوي”..
خرجت “رهـف” من مكتبها تتوجه نحو مكتب “مادلين” وقد كان الآخر يُراقب خروجها حتى ولج المكتب الخاص بها بعد خروجها ثم ترك به شيئًا وخرج بخفة لصٍ مختلسٍ ووقف يراقب عودتها حتى أتت هي من جديد وولجت مكتبها تجلس فوق المقعد لكن ما سرق إنتباهها كانت الزهرة الزرقاء يلتصق بها ورقة جعلته تمد كفها الصغير وتلتقط الزهرة وقرأت ما دُوِنَ بها حيثُ كتب هو ما يُناسبها
“لأجل عينيكِ أتينا بالورد،
ولأجلنا أسقطِ الراء وتعالي بالوِد”
تلك العبارة دونها هو بخط يده ثم كتب اسمها واسمه في نهاية الورقة حتى ضحكت هي وخلعت نظاراتها الطبية وقد طرق الباب هو وولج بعدما سمحت له وقد تحركت نحوه تحدثه ببسمةٍ بشوشة تُعطيه راحته:
_أنا عاوزة أقولك إني فكرت ووافقت، موافقة أدي نفسي فرصة تانية معاك ونعوض بعض، وعاوزة أقولك حاجة كمان، أنا مش من طبعي الغدر، ووفية للشخص اللي معايا، وحقك عليا إني أكون وفية ليك يا “عُـدي” وأوعدك هحاول بكل طاقتي والله أنسى كل حاجة علشان حقك عليا.
أثلجت روحه أخيرًا بعدما أُضرمت النيران بداخله لكنه قرر أن يتولى هو قيادة المعركة فنطق بثباتٍ بعدما وضع كفيه في جيبي بنطاله ورفع رأسه أمامها:
_وأنا مش عاوز غير فرصة واحدة بس منك، اللي جاي بتاعي أنا ودوري إني أخليكِ تنسي كل حاجة قبل ظهوري في حياتك، كله بمعنى كله، وهعتبرها تحدي، زي ما قدرت أخليكِ تشوفيني، هخليكِ تصدقي حُبي وإنه مش شوية.
أومأت له بتفهمٍ وأخفضت رأسها نحو الزهرة التي تقبض عليها بكفيها وقد لاحظ هو ذلك فابتسم لها ثم ومض بجفنه وراوغها بقوله:
_بس حلوة الوردة، تستاهل المُعافرة.
أنهى جملته التي كانت تحمل معنيين ثم رحل من المكتب فيما شعرت هي بصخب نبضاتها التي تدوي عاليًا وقد أيقنت أن هذا هو من يستحق أن تفعل كل شيءٍ لأجله حتى لو كان الأمر يكمن في إزالة الماضي بأكمله، أما هو فكان النصر حليفه للمرةِ الثالثة بنفس اليوم، ففي ظهر اليوم ربح فريقه المفضل في الدوري الإنجليزي، وفي وقت المغرب ربح فريقه المفضل محليًا، ثم أتت هي تُضيف لليوم جمالًا جديدًا خاص بها هي..
__________________________________
<“أن أتوك في أرضك يستفزونك، قُم أنتَ باستنزافهم”>
قد يكون المرء كل ما يشغله فقط هو حاله دون أن يكترث بحال الآخرين معه، لكن ثمة بعض المُفسدين يزعجهم كونك بعيدًا عن مدار الأعين، لذا إن أتوك قاصدين افساد لحظاتك الهادئة والتدخل في شئونك، من الأفضل ألا تدعهم يرحلون قبل أن يبكوا على شئونهم..
عاد “يـوسف” من عملين شاقين عليه، حيث الأول في شركة البترول والثاني الخاص بعائلته، ثم عاد للبيت وأمسك الحاسوب الخاص به وبجواره ورقة وقلم يدون بهما الملاحظات لحالته المرضية والعلاج الأول الذي بدأ به، وقد قرأ عن العلاج الأول كثيرًا حتى عجز عقله عن الاستيعاب فقرر أن يُخاطب طبيبه النفسي الذي جاوبه على الفور فأضاف هو بعد التحية:
_بص أنا حاليًا بحاول أفهم أعمل إيه بالعلاج المعرفي دا، يعني أبرمج عقلي إزاي على حاجة أنا مش مقتنع بيها؟ أكيد فيه حاجة غلط أنا مش لاقطها، الفكرة عمالة تروح وتيجي وبصراحة لو زهقت مش هكمل حاجة من كل دا.
أوقفه الآخر بثباتٍ دون أن يُظهر قلقه:
_بلاش تهور، إحنا بدأنا الخطوات الجد خلاص، بص الفكرة من نوع العلاج دا إنه مقوم للعقل، يعني عقلك حاليًا متمسك بوهم إن عيلتك مش حقيقة ومش موجودة، والفكرة دي بتوصلك للعنف والعصبية لأنك مش هتقدر تواجه حقيقة زي دي، بس الفكرة بقى إنك تثبت لعقلك إن هما حقيقة، يعني تصنع لحظات تفضل تفتكرها، تخليهم حقيقة مُجردة من أي زوائد بحيث عقلك ميلاقيش مساحة للشك فيها، عاوزك تجرب معاهم نوع جديد من المشاعر وسجله وهاته معاك نناقشه مع بعض، وياريت لو تكتبلي ملاحظات عن حالة استجابتك للعنف والعصبية الفترة دي، بالتوفيق.
أدرك “يـوسف” ما يتوجب عليه فعله وقد أغلق معه الهاتف ثم عاد يدون ملاحظاته حتى ولجت له شقيقته وناولته قدح القهوة فيما سألها هو بتعجبٍ من غياب أمه:
_هي ماما فين؟ مختفية بقالها شوية.
جاورته وجاوبته بقلة حيلة:
_الست اللي بيجيبوا منها حاجة الجهاز جابت حاجات جديدة وخدت خالتو “أسماء” وراحوا يشوفوا حاجات ليا ولـ “ضُـحى” قولت آجي أخرجك عن شعورك شوية بس خلاص صعبت عليا، هروح أطهق “ضُـحى” في عيشتها.
كادت أن تتحرك لكنه أمسك رسغها وأوقفها عن الحركة ثم هتف بلهفةٍ يستجديها بقوله:
_لأ خليكِ قاعدة معايا، أقعدي نتكلم شوية مع بعض.
جلست في مواجهته ثم سألته بعينيها فوجدته يتنفس بعمقٍ ثم داهمها بسؤالٍ لم تتوقعه هي:
_أحكيلي كدا عنك وعن “أيـوب” حبتيه إزاي؟.
أخجلها بسؤاله لكنها استشفت فضوله فقررت أن تخبره بكل شيءٍ وحينها أبتسمت له وتحدثت بخجلٍ حاولت أن تُخفيه:
_عادي، بص فضلت فترة أروح هناك أديهم الفلوس اللي خالو كان بيبعتها حق إيجار البيت والورشة، وساعات بتكوت فلوس شغل بينهم، كنت كل ما أروح ألاقيه في حاله وعمره ما رفع عينه فيا، ولا حتى بصلي، كنت بستغربه أوي ولقيته كدا مع كل الستات، بعدها كسرت الزير بتاعه من غير قصد والله، وهو أتعصب يعيني وزعل علشان كان تعبان فيه، وساعتها لما لقاني أتكسفت دخل جاب واحد غيره وأداه لصاحبه وقال ربنا يعوض عليه، حسيته حنين كدا وطيب أوي، بعدها روحت ولقيته لوحده مرة في المكتب فاستفزني إنه مش حاسس بيا، سألته اسمك إيه، على أساس يعني لو ضرب الفلوس في جيبه، قالي اسمي “أيـوب” كنت متغاظة منه قولتله الأسطى “أيـوب” بتاع القُلل علشان بس يعرفني، وبعدها طلع هو سوسة ومش عاوز يتكلم.
ضحك “يـوسف” بيأسٍ منها حتى لكزته في كتفه وهتفت بقلة حيلة أقرب للبكاء:
_أنا حبيته من كلامهم عنك وعن بابا، حسيته شبهكم أوي، طيب وابن أصول ومحترم وعمره ما غلط في حد، وعلشان كدا كنت بشوفكم أنتوا الاتنين فيه، حاجة كدا قالتلي إنه منكم ومننا، فحبيته، بعدين أنا غلطانة يعني إني حبيت واحد شبهك ماهو أنتَ كنت واحشني، صحيح معرفكش بس كنت حاسة إنك واحشني.
توسعت بسمته لها ثم تحرك صوب المرآة في غُرفته ووقف أمامها وأشار لها أن تقترب منه وقد وقفت بجواره بتعجبٍ فوجدته عاد للخلف ثم قام بتحرير خصلاتها ونطق بصوتٍ رخيمٍ:
_لما كُنا صغيرين مكانش حد غيري بيسرحلك شعرك، ولما ماما كانت بتسرحه هي كنت بعيط وأزعل وأخليها تفكه وأسرحه أنا تاني، كنت مهووس بشعرك وكل التِوك اللي كنتِ بتحطيها، وكنت بغنيلك كمان أنا وماما، وساعات بابا معانا لو موجود، مش فاكرة صح؟.
نفت ذلك برأسها وقد لمعت العبرات في عينيها إثر الذكريات الماضية التي وبكل آسفٍ لم تتذكرها ليسحب هو نفسًا عميقًا ثم أمسك فرشاة الشعر ووقف خلفها يُدندن بنبرةٍ خافتة:
_كان فيه فراشة صغنططة..
مفرفشة ومزقططة، لابسة بلوزة منقطة
على جونيلا مخططة، لابسة بلوزة منقطة
على جونيلا مخططة، منقطة ومخططة..
أنهى الشطر الأول ثم فتح أحد الأدراج وأخرج منه مشبكًا من خامة العاج كرستالي اللون ثم قام بجمع طرفي من خُصلاتها البنية الكثيفة ثم وضع بهما المشبك في منتصف رأسها الذي أعتلته فراشة لامعة كبيرة الحجم ثم أمسك الفرشاة يُمشط بقية الخُصلات وهو يستأنف الغناء وهي معه بنبرةٍ باكية:
_وسط الجنينة لمحتها
وهي طايرة في الهوا،
وسط الجنينة لمحتها
وهي طايرو في الهوا،
ناديتها بصت تحتها
قولتلها تيجي نلعب سوا،
قالتلي طيب يا اسمك إيه.
ألتفتت له باكيةً ثم أرتمت عليه وقد طوقها هو بكلا ذراعيه ومسح فوق ظهرها وقد عرفت العبرات سبيلها نحو عينيه وهو يحاول مُحاربة وهمٍ يخشى الإفاقة منه، فلو كان هذا الوهم داءً ففي حالته تلك لم يرغب بإيجاد الدواء، ففي بعض الأحيان قد تكون الآلام أهون من الإفاقة على شيءٍ لن تتحمله النفس، فنلجأ وقتها للإحتماء بالألم.
في الحارة خاصةً بوكالة “العطار” عاد “عبدالقادر” من عند “نَـعيم” بعد الإتفاق على موعد الزفاف وذلك بعدما أصرت عليه ابنته أن تذهب بنفسها تطمئن على زوجها، وقد عاد لعمله ووجد هناك “أيـهم” ومعه حفيده أيضًا فجلس بقربهما لمتابعة شئون العمل وأثناء إنغماسهما بالعمل قطع عليهم الاستكمال صوتٌ لم يتم توقع صاحبه حيث قال:
_السلام عليكم ورحمة الله يا “عبدالقادر”.
رفع الآخر رأسه وهو يرد التحية التي لم تكتمل حينما لمح زائره حيث قال:
_وعليكم السلام و رحمـ…أنتَ؟.
أقترب منه “عـاصم” يسأله بتهكمٍ متجاهلًا عن قصدٍ ضيقه:
_جرى إيه يا “عبدالقادر” مش هترحب بابن خالتك ولا إيه؟ طب أعتبرني “مصطفى” الله يرحمه يمكن توجب معايا زيه.
تحرك “عبدالقادر” من موضعه ليقف في مواجهة الآخر يهتف بحدةٍ بالغة إثر تطاول الآخر وتماديه على سيرة رفيقه:
_لا عيشت ولا كنت ولا عمرك هتطول منه حتى حرف في اسمه، وسيرته لما تيجي على لسانك الزبالة دا تيجي بأدب، وإذا كنت ساكت عليك علشان حاجة، فأنا ساكت إحترامًا ليه هو بس، لكن قسمًا بالله يا “عـاصم” أنا لو طولت أحرقك حي مش هتأخر وهعملها، بس أنا سايبك تجيب آخرك في الدنيا دي، وهاخد الحق منك يعني هاخده، وهخليك زي كلاب الشوارع متسواش تعريفة.
تحدٍ سافر نُشب بينهما في النظرات وقد تصاعدت ألسنة اللهب عاليًا كما تنتشر النيران في الهشيم، وقد وقف “أيـهم” يتابع نظراتهما وهو يحاول حسم أمره، هل يتدخل بينهما أم يتمهل لحين صدور رد الفعل من أبيه؟.
أسفل بناية “يـوسف” وقف ذلك البغيض ينتظر قدومها بعدما لمحها تخرج من الحارة برفقة زوجة شقيقها وقد أتت بالفعل برفقتها لكن تلك المرة كانت تحمل كلًا منهما حقائب كبيرة الحجم، وقبل أن تلج البناية نادى عليها بنبرةٍ هادرة:
_”غَــالية”!!!.
هذا الصوت البغيض هي تعلمه جيدًا وتعلم صاحبه وقد ألتفتت لصاحب الصوت هي ومن معها لتجده يقترب منها وخاطبها بنبرةٍ صلدة وقوية:
_أنا جيتلك أقولك عقلي ابنك يا “غَـالية” وخليه ميفتحش صدره أوي كدا علشان متزعليش عليه تاني والمرة دي مش هتلمحيه، والأحسن تقولي مراتي فين هي وابني بدل ما أخليكِ تزعلي على عيالك الاتنين.
قررت هي أن تتحلى بالشجاعة كما هي منذ صغرها لذا أبتسمت بسخريةٍ وسألت “أسـماء” تستهزيء به بطريقةٍ غير مباشرة:
_دوري كدا في الشنط اللي معاكِ يا أم “عُـدي” يمكن نكون مخبيينهم ولا حاجة، ولا استني صحيح، نكونش نسيناهم عند الخياطة ولا في السوق، لا يكونوا حتتين قماش تايهين ولا حاجة، دوري بس يمكن يكونوا هنا ولا هنا.
طريقتها كما هي لم تتغير مهما مر العُمر عليها، وقد رفعت رأسه له بسخريةٍ وهي تقول بآسفٍ مُفتعلٍ:
_للآسف مفيش حاجة، زي ما أنتَ شايف كدا، روح يا شاطر دور على اللي يخصوك بعيد عننا، وبالنسبة لابني فخليه كدا مخلي النار تاكل في قلبك، وعلى فكرة ابني ربنا يحرسه من العين مش فارق معاه أشكالك خالص، راجعلي راجل ملو هدومه، مهندس الدنيا كلها تتباهى بيه، راجل ونعم الرجالة، صنفك الزبالة كله ميعرفش يجيب زيه، أصل فيه فرق بين اللي أتربى على أيد راجل وبين اللي أتربىٰ على أيد عالمة.
أتقدت النيران بداخله وأرشقها بنظراتٍ نارية فيما أضافت هي من جديد تُحذره بقولها:
_وتاني مرة أنا اسمي أم “يـوسف” ولا أقولك؟ أم الباشمهندس “يـوسف” والأفضل إنك متتعاملش معايا لحد ما ربنا ياخدك ويريحنا منك.
أقترب منها بغتةً يحاول صفعها وقد وجدت حصنًا منيعًا يقف في مواجهتها ولم يكن إلا “فـضل” الذي ظهرت النيران تحاوط عدستيه وهو يقبض على كف “سـامي” وقد ألتهبت النيران بصدره وكأن إنتقامه أتى له على طبقٍ من ذهبٍ وعليه أن يتناول وجبة الإنتقام المُقدمة له.
_____________________
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)