رواية غوثهم الفصل المائة والثاني والخمسون 152 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة والثاني والخمسون
رواية غوثهم البارت المائة والثاني والخمسون
رواية غوثهم الحلقة المائة والثانية والخمسون
“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل السابع وستون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
أنا إن نسيت .. فأنتَ لا تنساني ..
أنا ليس لي إلاكَ ربٌ يُرتجى ..
يا واصلَ إلاحسانِ بالإحسانِ ..
اغفر لنا و امنُن علينا بالرضا..
و النصر و التأييد كلَ آوانِ ..
الصلاةُ و السلامُ عليك يا من بكَ يرحمُنا الله.
_”نصر الدين طوبار”
__________________________________
وكأن كُل ما كرهته سبق وأدركته..
فلطالما كنتُ أبغض الوحدة، فترعرع شبابي وحيدًا..
كُنت أمقت الغُربة فوجدتها تسكن بداخلي، كنتُ أكره لحظات الوداع ولم أعهد إلا وداع كل من أحببت، كنتُ أكره المنتصف ورُمادية الأشياء، فلم ألمح إلا ذاك اللون الرمادي وأنا في المنتصف بين الأشياء بقيتُ عالقًا، كل شيءٍ من حولي فقد معناه وأنا هُنا أقف حائرًا، ومن بين الناس كنتُ تائهًا، فأي طريقٍ اختار وأنا لم أرَ بحياتي غير الضياع؟ ذات يومٍ أردت أن أكتب، أردتُ أن أكتب عني أنا، أكتبُ عن ذاك الحالم بحرية الطير، وخفة الروح، الآمل بنورٍ لم يسطع، الراغب في حياةٍ لم ينلها، وقبل أن أكتبُ فقدت قلمي، ووجدت مكانه ألمي، فتقهقرتُ مُتراجعًا وأنا أفكر عن أي ضياعٍ أكتب؟ هل أكتب عن ضياع الأحلام؟ أم أكتب عن فقد الأقلام، أم أكتبُ عن قلبٍ صغيرٍ غير قادرٍ على احتواء الآلام؟ عن أي ضياعٍ أكتب؟ هل أكتب عن ضياع السُبل، أم أكتب عن قهر المُقل، أم أعود لغرفتي من جديد متقهقرًا وأكتم خَيبتي؟..
<“ولأن الطير الحُر أزعج السجين، أراد قتله”>
فاقد الشيء هو أول حاقدٍ على مالكه..
ورُبما تلك هي الحقيقة الغائبة عنك والتي لم يخبرك عنها أحدٌ فيما سبق، فالطير الحُر حينما ينل حُريته لا يحقد عليه ولا يوقف طيره إلا آخرٌ كان سجينًا بين الأقفاص طوال عمره حتى نسىٰ كيف كانت تعمل أجنحته، ولأن كل ذي حُريةٍ مطلوب، فالسجين بحرية غيره مقهور..
في طرفة عينٍ وجدت الحديقة تمتليء بالرجال وهي في المنتصف مُحاوطة بينهم كطيرٍ سقط من السماء برصاصةٍ طائشة انتصفت في قلبه، وتحت صرخات الأم باسم ابنتها، ونظرات الهلع من حبيبٍ على حبيبته رحلت هي، سارت معهم كما الطفلة الصغيرة التي وقعت وصايتها لعائلة أبٍ فقيدٍ، وتم الوداع بينها وبين أمها بأقسى الطُرق الممكنة..
تم سحبها وجرها كما الماشية دون احترامٍ لحرمة البيت، كانت كما القط المُبتل في ليلةٍ ممطرة ووجد أصحاب البيت يقومون بطرده ليصبح بدون مأوىٰ، حانت منها التفاتة للخلف فوجدت أمها تصرخ والرجال يقطعون عليها الطريق، و”عُـدي” من حولهم يُصارع كي يصل لها وكل المحاولات لأجل الوصول.. باءت بفشلٍ مُحتمٍ..
سـاعات مـرت..
دقائق فشلوا في عدها، انتظارٌ بغير انتصار، تم إلقاء القبض عليها بغير سببٍ واضحٍ وتركت خلفها أُمًا تبكِ وحبيبٍ يُصارع الهواء كي يصل لها حتى نجح وفعل، فعلها ووصل لواحدٍ من أكثر المباني التي لم يُخيل له أن يدخلها ذات يومٍ، وقف أمام مبنى “الأمن الوطني” ينتظر قدوم الغوث له، ينتظر المجيء بروحٍ مسلوبةٍ منه، وكله معها بالداخل، لم يترك جزءًا منه معه، وإنما الكُل مع الكُل الآخر وهو يقف في الانتظار..
أتى له “نـادر” بلهفةٍ ما إن وصلته استغاثته به، وقف أمامه ثم طل بعينيه على المكان وعاد إليه بنظراته هاتفًا بثباتٍ دون أن مُزايدات أخرى في الحديث:
_”يـوسف” راح يجيب “عادل أبو الحسن” وهييجوا علشان يشوفوا حل، متقلقش هتخرج وهيكون مجرد إجراء مش أكتر، بس هنا مينفعش محامي يدخل ولا التحقيق بيكون زي النيابة، المكان دا ليه إجراءات خاصة، “عـادل” بيه ممكن يدخل ويحل الدنيا هو بمعرفته.
عاد “عُـدي” بعينيه نحو المكان وهو يتمنى أن يصدق حديث الآخر، يتمنى أن تكون سالمة في الداخل، ويتمنى أن لا تطلها شائبة من الشوائب المُحيطة بجميع من سلف بهم الزمن إلى هُنا..
وفي الداخل، بوسط غُرفة رمادية داكنة، مُحصنة بزجاجٍ ضد الإختراق، وبها كاميرا واضحة للعيانِ، كانت تجلس فوق المقعد في انتظار القادم، تنتظر السبب المزعوم الذي أتى بها إلى هُنا، حتى فُتِح الباب وطل منه أحد أعمدة هذا المكان، رجلٌ ما إن ظهر أمامها ارتجف جسدها وأجفلت ما إن دب الرُعب في نفسها، بينما هو لوهلةٍ طاف بعينيه في وجهها، ولحظها اليسير كان أكثرهم احترامًا هُنا، لذا تولى دفة التحقيق معها مُباشرةً فتكلم بصلدةٍ:
_بصي، أنا عملت اللالي علشان أدخلك أنا مش حد غيري، وصدقيني لو حد غيري كان دخل كان زمانك بتشوفي معاملة تانية خالص، “حـمزة التهامي” اللي كان خطيبك كان ليه علاقة بأي منظمات أو مؤسسات خارجية؟.
توسعت عيناها وتجمدت أطرافها وهي تُطالعه بدون نظر، شردت عيناها بتيهٍ ونزلت عَبراتها تتسابق والآن فهمت أن الطير الحُر يتهمونه بخيانة السرب والتحليق من غيرهم، بكل صراحةٍ يتم وسم الميت بشرفٍ، أنه لجأ للجاسوسية كي يملع نجمه في السماء، وقد أخرجها من شرودها صوته الغليظ:
_أنتِ كنتِ بتشتغلي معاه، ودا معناه إنك عارفة كل حاجة عنه، واللي هو كان كاتبه دا ونشره لو بيوضح حاجة يبقى إنه خاين ومُتأمِر كمان، كان تبع مين؟ ومين كان بيمول شغله علشان يقدر يفتح جريدة ويملك موقع ومنصة الكترونية؟.
بالله كفىٰ، كفى التضليل للحقائق، وكفى التلاعب بالأدلة، والتحايل بالقوانين، كفى كل شيءٍ يلوث سيرةً نقية، لذا هدرت في وجهه بإنفعالٍ أعمى دون أن تحسب له حسابًا:
_”حَـمزة” كان شاب مصري حُر، صحفى عنده قلم مبيكدبش ولا يضلل حقايق، اللي بتتهموه إنه جاسوس ومتأمر وبتخوضوا في شرفه دا راح علشان كان بيعرف الناس حقوقها، اللي أنتَ جايبني هنا علشان أجيب سيرته وأوسخ سمعته، كان أنضف من مليون واحد متداريين ورا المكاتب، “حَـمزة” كان شاب مصري حُر، وأظن كدا الإجابة كافية أوي للأسئلة اللي عندك.
هي لم تعهد القوة في نفسها إلا مع الراحل، سيرته وحدها تبثها القوة الهاربة منها، كان دومًا يخبرها أن قوة المرء تُرهب الجُبناء، لذا تجلت قوتها أمام الغريم الجالس، الذي حتى الآن لم تفهم مقصد نظراته لها، وآخر ما يشغل ذهنها حقًا، هو أن تكترث به أو بنظراته، لذا تجاهلته ورفعت رأسها بشموخٍ وصوت “حَمزة” يتردد في سمعها بقول:
_طول ما أنتِ في بلدك وأرضك ترفعي راسك، متوطيهاش علشان ما هيصدقوا، مينفعش تكوني في بيتك وتسمحي لحد يدخل يهينك ويقلل منك فيه، واللي يعمل كدا، أضربي صوابعك في عينه، الساكت عن الحقوق، ألعن من واكلها.
وأمام حرب النظرات الدائرة اضطر من يُجالسها لمتابعة عمله معها رغم تأكده وعلمه أن تلك الجلسة لن تُسفر عن شيءٍ مرغوبٍ من قبيله، وإنما هي إجراء روتيني يتم بشكلٍ عامٍ إتقاءً لشرٍ قد يُداهم الأيام القادمة وتكون هي من مؤسسيه، لطالما ظهرت الحقائق المخبوءة، وتعرت الأراضي المُغطاة…
في الخارج وصل “يـوسف” تزامنًا مع وصول “حـازم” شقيق الفقيد، ومع الأول وصل “عـادل” الذي قدُمَ لهم في لمح البصر ما إن أخبره “يـوسف” بحاجتهم الشديدة له، ولأجل الحُريات ودفاعه المُستميت عن الشباب أتى وهو ينتوي الدفاع عن الميت ووارى جسده التراب، قبل الحي مُنعمًا فوق الأرض..
أقترب “يـوسف” من “عُـدي” وبحركةٍ خاطفة ضمه له في عناقٍ كان أتيًا من قلب الأخ الأكبر لآخرٍ فقد كل ذرات صبره وثباته فارتكن على جسد أخيه يُلقي بحمله الثقيل، وأتى لهما “نـادر” يُربت فوق ظهرهِ مُشددًا أزره وكأنما يُخبره بصمتٍ أنه هُنا معه.
__________________________________
<“البدايات التي تأتِ بعد نهايات مؤلمة، تكون رحيمة”>
عند النهايات الشاقة التي قد نعتقد فيها أننا وصلنا لنهاية الأمر وأن الطُرق لم تُفضِ إلا لنقطة الخسارة فقط، قد نتفاجيء ببدايةٍ جديدة تُخبرنا أن ما سبق كان فقط درسًا كي نتعلم السير في الطريق الضال مننا، بداية رحيمة تكون عوضًا عن تلك النهاية التي لفظ بها المُحارب آخر أنفاسه..
عائلة جديدة، بيتُ كبيرٌ الدفء يظهر من جدرانه، أصوات عالية وصاخبة تُشيء بفرحٍ قادمٍ إليهم، حركات كثيرة وضحكات عالية، رجالٌ في العائلة قاموا بفض الخلافات والنزاع بينهم، وفتيات ونسوة يتعاونن فيما يفعلن، وهو هُنا يجلس كما الغريب الصامت، يشاهد كل من حوله بخجلٍ من المشاركة، ولأنه يُعاني من فرط الحركة، فالجلوس كان محبسًا له..
جلس “إيـاد” فوق الأريكة بصمتٍ وترك عينيه تُتابع أمه التي وقفت بجوار نساء العائلة تقوم بتحضير حقائب العروس وحزم الأمتعةِ وهي تضحك مع الجميع ثم تتابعه بعينيها بين الحين والآخر، تلقي له قُبلة في الهواء يُبادلها هو ببسمةٍ مُشرقة كونها في أوج انشغالها لم تنساه، وقد أتت له الصغيرة صاحبة العامين وأكثر تركض له، فابتسم هو لها ثم حملها فوق قدمه وسألها عن ما تمسكه بيدها:
_أفتحهالك؟.
أومأت له الصغيرة فعاونها هو ثم أطعمها بحنوٍ وهو يبتسم لها ويراقب نمنمة ملامحها الصغيرة عن كثبٍ، لطالما كان حلمه أن يجلس وسط الصغار ويكون أخوةً له وبالأخص الفتيات الرقيقات، أندمج في مراقبتها واللعب معها بهاتفه حتى وجد صوتًا يهدر بنبرةٍ جامدة وذهولٍ أرعبه:
_إيـه دا.. أنتَ شايل بنتي إزاي كدا؟.
تضرج وجهه بحمرة الخجل والإحراج وراح بعينيه يبحث عن أمه قبل أن يقف باكيًا هنا، لكن الآخر سأله بجمودٍ:
_عارف اللي أنتَ شايلها دي مهرها كام؟.
رفع حاجبيه بصدمةٍ ثم أخفض عينيه نحو الصغيرة وعاد له ينفي برأسه معرفة الشيء فوجده يقترب منه يمازحه بما يُناقض طريقته السابقة في الحديث:
_بص، أنا مخي قفل، البلد هنا فيها أزمة عرسان، طالما شيلتها تشيل الشيلة كلها، وتدفع مهرها وتبقى محجوزة ليك، إيـه رأيك؟.
ضحكت “نِـهال” رغمًا عنها وكذلك شقيقتها التي أضافت تُشاكس زوجها وتمازح الآخر:
_هي البت مزعلاك في إيه؟ دي كله بيتمناها عنده دي.
التفت لها يضحك بصخبٍ ثم أضاف ضاحكًا:
_ماهو علشان كدا بقولك أنا مش هستخسرها في “إيـاد” بس هو يجيب المهر ومبروك عليه، أول ما تتم السن القانوني هروح بنفسي أسلمهاله لحد عنده.
أدرك “إيـاد” الوضع حوله وأن هذا الشاب ربما يحب المزاح كثيرًا وبالطبع سيكون خير أنيسٍ له هُنا، وعليه قرر أن يتابع المزاح معهم فحمل الصغيرة وهتف بخبثٍ صبغه ببراءةٍ كاذبة لترى هي زوجها في صغره بصورةٍ أخرىٰ:
_والله أنا مش هكسر كلمتك، بس لو كدا أخدها معايا وأنا ماشي، بدل ما تتعب نفسك وتجيبها أنتَ، قولت إيه؟.
في طرفة عينٍ حول الحديث لمبارزةٍ كلامية، مزاحٌ هزلي متبادل فوق خشبة مسرحية وهمية، جلس معه الشاب والد الصغيرة وظل يتحدث معه ويمازحه بألفةٍ كانت غريبة بينهما، شعر “إيـاد” معه بأنسٍ كان يفتقده طوال جلسته منذ الأمس، حتى أتت الشقيقة الكُبرى، حينها تبدلت الملامح ومال والد الصغيرة على “إيـاد” يهمس له بمزاحٍ ساخر:
_دي المفروض إنها خالتك “نـهاد” أختهم الكبيرة بس هي بتحب اسم أم الرجالة، مخلفة ٣ حيتان بشرية دمهم أتقل من دم الهنود، لو عاوز تخليك في أمان خليك معايا، أتفقنا؟.
أومأ له بتيهٍ ثم وقف ما إن أتت هي، أمرأة يبدو عليها الثراء الفاحش من ثيابها والحلي المزين لزراعيها حد المرفق، وسلسالٌ ضخم يظهر فوق ثيابها، وملامحها جامدة وجادة حتى في الترحيب بأخوتها وأمها تبدو جامدة، أما عن أولادها الثلاث… حوائط بشرية حقًا، أقوياء البنية، طوال القامة، أول ما بدر لذهنه معركة دامية معهم سينتهي الأمر به في أروقة المشافى لذا عليه أن يلتزم الصمت..
والصمت حقًا أطبق عليه حينما أمعنت هي النظر في وجهه ثم التفتت لشقيقتها تسألها بتعجبٍ من تواجده:
_هو دا ابن جوزك يا “نِـهال”؟ مقولتيش إنه جاي يعني.
تبدلت ملامحه في ثوانٍ وقبل أن تنطق أمه، تدخل زوج شقيقتها يجاوبها باستفزازٍ أتقنه وتعمده لها:
_ما ييجي، دا بيته وهو مش غريب ومن إمبارح الراجل معانا طلعان عينه وشايل كتير معانا، بعدين الرجالة بتوعك جايين متأخر ليه بقى؟ سايبين الفرح وجايين زي الضيوف.
لم تجاوبه هي ولم ترد عليه فقط تجاهلته فلثم هو وجنة ابنته وتجاهلها هي حتى أتى ابنها الصغير وأقترب من ابنته كي يخطتفها من بين يديه فدفع هو كفه بعيدًا وردعه بقوله:
_بس يا حبيبي دي ضد اللمس.
أنهى جملته القاطعة ثم وقف وهو يحمل ابنته وقد التفت لـ”إيـاد” وقال بثباتٍ يخلو من المرح:
_تعالى معايا يا “إيـاد” علشان هجيب حاجات من تحت وعاوزك تمسك “حـور” وأنا شايل الحاجة.
أومأ له موافقًا وتحرك يجاوره فسأله الصبي الآخر بحنقٍ:
_اشمعنا هو يمسكها وأنا لما جيت أشيلها مرضيتش.
التفت من جديد يجاوبه باستفزازٍ وبسمة تعج بالسُخفِ:
_علشان هو دفع مهرها.
وفقط، أنهى الجملة ثم رحل بصغيرته وبالصبي الذي ألقى عليها نظرة أخيرة فوجد جمود ملامحها يُذكره بجمود كان يعرفه، تلك القسوة هو رأها من قبل، ركود المشاعر هذا هو سبق وتلقى منه المُعاناة، لذا لاذ بالفرار مع زوج الخالة الطيبة، هربًا من نظرات الخالة الشريرة كما صور له عقله الصغير.
وفي الأعلى بمجرد اختفاء الصبية الثلاث أتت “نِـهال” نحو شقيقتها الكُبرى وهتفت بتقريعٍ لها:
_”نِـهاد” لو سمحتِ ياريت مالكيش دعوة بيه خالص، لا تقولي ابن جوزك ولا تجيبي في سيرته، أتعاملي معاه عادي زيه زي أي عيل في العيلة هنا، بلاش تخليه يحس إنه ضيف وسطنا، ممكن بعد إذنك؟ أنا ما صدقت أجيبه هنا.
رفعت الأخرى حاجبيها باستنكارٍ شديد ثم سألتها بحيرةٍ زائفة لا تمت لباطن الأمر بصلةٍ واحدة:
_وهو أنا قولت حاجة يعني غلط؟ مش هو ابن جوزك ولا أنتِ لقياه في الشارع يعني؟ بعدين كدا كدا أحفاد العيلة معروفين يعني مش هنتوه فيهم، محدش هييجي جنبك أنتِ وهو.
تنهدت “نِـهال” بثقلٍ وقررت أن تكف عن الحديث وبداخلها تتمنى ألا تقوم شقيقتها بإفساد الأمر وتدمير أواصل الود بين الصغير والعائلة، هي تعلم غيرة شقيقتها منه ومن حب عائلتها له؛ خشيةً أن يحل محل أحد أبنائها الثلاث، وبناءً على ذلك سوف تتكيء بكلماتها وترتكز على نقطة كونه لم يكن من العائلة، غافلةً عن رابطةٍ نشأت بينه وبين شقيقتها التي أتخذت لنفسها من تواجده عالمًا.. ومن ماضيها مهربًا.
__________________________________
<“رُبما غيبنا لكن بالأثر لازِلنا حاضرين”>
هي أحلام، فقط أحلام..
وستبقى كذلك بداخل كتابٍ مُغلقٍ لم يُقدر له أن يُفتح أو تشهد صفحاته نورًا، فلطالما ظن الطير أن طيره جريمة يُعاقب عليها، سيفعل كل ما بوسعه كي يقص أجنحته..
في مُجتمعٍ ترهبه الأسماء، وتقوده السُلطات بالطبع اسمه سيملك الأثر الكافي كي يدخل بين براثن الأسود في مكانٍ يُخالف كل قواعد القانون، لن يحتج لكثيرٍ من الوقت كي يعلن عن هويته فَتُفتح له الأبواب المُغلقة حتى المنيعة منها، ورغم كرهه لسلطته الحكومية واستغلالها بتلك الطريقة، لكن المضطر في الصحراء سيلجأ لأول ناقةٍ تُقابله..
ومع بعض العلاقات الأخرى، والوساطة ممن هُم ذوي سُلطةٍ أكبر منه استطاع أن يصل لها، وما إن وصل “عادل” وتطلع على الأمر، ألقى أمره بشأنها، لجأ لبعضٍ من الحِيل الأخرى استطاع تحرير تلك البريئة أخيرًا من براثن الذئاب بالداخل، تلك هي مرته الثانية التي يلجأ فيها إلى استغلال سُلطته كي يُنقذ الأبرياء من هُنا، وبعد مرور دقائق خرجت معه برأسٍ مُنكسٍ للأسفل وكأنها حقًا أجرمت..
في الخارج أول من لمح طيفها كان “عُـدي” الذي ترك موضعه وركض مهرولًا نحوها، وقف يُشبع عينيه بها بعد خوفٍ ظل يفتك به ويُفتت قلبه، وما إن عادت له شعر أن تلك لم تكن هي الأخرىٰ، هذه تبدو كأنها مُجردة من الحياة، أو رُبما هناك صفعات استقرت فوق وجهها فعليًا…
أتت أمها تحتضنها بعد يومٍ وصل به الليل لمنتصفه ولولا السُلطات والوساطة لما كانت أنقضت الليلة، كبلتها أمها وهي تبكِ والأخرى صامتة وساكنة عن أي فعلٍ، فقط تحجر الدمع في عينيها اللاتي ترتكزا في اللاشيء أمامهما وعيناه هو من بين الجميع تتابعها وكأنه حاضرٌ يتطلع لمستقبله والماضي يفصل بينهما.
أتى زوج شقيقتها وأمسكها بمعاونة أمها ثم وضعها بالسيارة وهي لازالت تنتهج الصمت سبيلًا، وقد أتى “يـوسف” يدفع “عُـدي” في مرفقه ثم حثه على الذهاب بقوله الآمر:
_روح معاهم يلَّا بعربية “نـادر” وأنا هحصلكم، استناني هناك علشان هنروح الحارة مع بعض، يلا يا “نـادر” خليك معاهم هناك.
رحلت السيارة الأولى وهي بها، ورحلت الثانية وهو بها، والقلوب معًا، بينما “يـوسف” فوقف بجوار “عـادل” يسأله بتعجبٍ من الأمر الذي أصاب صفو لحظاتهم:
_هو اللي حصل دا كان لازمته إيـه؟ وليه ياخدوا بنت من بيتها بالشكل دا ويطلعوا عين أهلها؟ عملت إيه “رهـف” علشان تبقى دي أخرتها يعني ودا عقابها؟.
تنهد الآخر بثقلٍ ثم رد عليه بنبرةٍ جامدة كأنه فقد صبره:
_اللي حصل مجرد إجراء روتيني، علشان قضية “حـمزة” اللي اتفتحت ومحدش عارف مين عمل كدا، كل اللجان الإلكترونية دي ممولة وأرقامها من برة، ودا لو بيدل على حاجة يبقى إن “حَمزة” كان جاسوس ومتأمر ودا بيهدد الأمن الوطني، علشان كدا خدوها يحققوا معاها.
فرغ فاه “يـوسف” من هول المفاجأة التي سقطت عليه واندهش من الحديث، فلم يكن أمامه إلا أن يحتج صارخًا بنبرةٍ عالية:
_بـس دا كـله كـدب، هو عمره ما كان جاسوس ولا إرهابي، دا واحد كان بيدافع عن أهله وبلده وبيكشف حقايق للناس، واحد اختار حُرية الناس قدام حياته، مش دا اللي كشف المستشفيات وكشف الملاجيء وكشف تهريب الآثار وكشف الشباب اللي بتموت في المراكب، مش دا اللي فضل يجري ورا ورق البحث بتاعي علشان البلد يكون فيها ناس بتتعلم؟ مش دا اللي وقف في وش الظلم وفضل يدور ورا تجار المخدرات اللي مبوظين الشباب؟ مش دا المَصري الحُـر؟…
هدر فيه بجملته الأخيرة حتى نكس الآخر رأسه بخزيٍ ثم عاد ورفعها بنصف إيماءةٍ كأنه يوافقه على حديثه، ثم أضاف بقهرٍ:
_وعلشان هو مصري حُـر كان دا تمن حُريته.
أولاه ظهره بعد حديثه ثم ولج السيارة وقد تبعه “يـوسف” بضيقٍ وضُجرٍ وكأنه لم يجد فوق الأرض مُتسعًا، ثم ولج هو الآخر وجاوره بالسيارة كي يقم بتوصيله أولًا ثم يذهب لأخيه ثانيًا.
في بيت “رهـف” بدأت تدرك الوضع حولها، بدأت تستفيق لما يحدث وأنها لتوها عادت لبيتها بعد ساعاتٍ قاتلة مرت عليها ظنت فيها أن الحياة قد انتهت هنا، تذكرت حديثهم الفج معها، تذكرت الاتهامات الوضيعة التي وسِمت بها، تذكرت التهم المنسوبة إلى الميت بشرفٍ؛ فأصبح ميتًا بسبٍ وقصفٍ وخيانةٍ، بكت من جديد وهي تجلس فوق الأريكة وقد أتى “عُـدي” يجلس على عاقبيه أمامها حتى تلاقت المُقل ببعضها في خوفٍ منه وقهرٍ وكمدٍ منها..
لمح وجنتها المتورمة وأدرك أن اليد التي طالت حُريتها هي نفسها التي طالت وجنتها وتركت أثرها فوقها، مد يده لها بالمحارم الورقية فأخذتها هي ومسحت وجهها وما إن استعادت رابطة جأشها قالت بقهرٍ وكسرٍ توسط الروح:
_أنا تعبت أوي يا “عُـدي” تعبت ومتخيتلش طول عمري إني يحصلي كدا، هو نفسه لو كان عايش مستحيل كان هيسامح نفسه على اللي حصل، النهاردة سمعتهم بيسبوه في شرفه ويتهموه بالخيانة، ووصفوني أنا بأفظع الشتايم، لولا عمو “عـادل” جه فجأة كان زماني ميتة جوة من القهرة، أنا ما صدقت أبطل أخاف شوية، كدا الخوف جوايا عمره ما هيقل، كل اللي بحبهم بيسيبوني، وكل اللي برتاح وأنا بعمله بيتحول فجأة لفرض عليا، عايشة كأني عالة على كل اللي حواليا، صدقني أنا تعبت مني ومن كل حاجة حواليا، لو عاوز تمشي أنتَ كمان أمشي ومش هلومك والله، والله ما هلومك، بس أمشي قبل ما أتعلق بيك أكتر من كدا.
في لحظة بكاءٍ باغتته بالصراحة القاتلة، أدهشته بحديثٍ لم يظنها أنها تفكر به تجاهه، عرضت أمام وجهه الحقائق المخبوءة وهو الذي من سويعات مرت أتى كي يُخلصها من قيده، حقًا هي ليلة لن ينساها هو مادام حيا وعاش، هرع الدمع من عينيها فتنهد هو مُطولًا ثم قال بنبرةٍ مبحوحة بعدما تضاربت مشاعره:
_وأنا مش هامشي يا “رهـف” ولا هسيبك حتى، أنا معاكِ لآخر نفس فيا ومستنيكِ تاني في حياتي، أنا من قبل ما أعرف إني بحبك حتى وأنا حاسس ناحيتك بالمسئولية، فما بالك بقى وأنتِ خطيبتي وقريب هتكوني مراتي؟ تحبي أكتب كتابي عليكِ علشان محدش يقدر يقرب منك؟ موافقة إنك تكملي معايا أصلًا؟.
بعد تيه النظرات كما السفينة الشاردة عادت له بعينيها ترسو عند مُلتقى عينيه ثم أومأت موافقةً له، هي لن تنكر أن الأمان موجودٌ بصحبته، لن تُنكر أنها مؤخرًا أصبحت تنتمي إليه حتى باتت تظنه مكانًا لها من بين العالم، أحبته ولم تعِ ذلك، سقطت في بئر حنوه عليها وفتحت له الأبواب على مصراعيها، ولكي تتم الأمور بصورةٍ صحيحة سيلجأ لوضع الأمور نصابها الصحيح، هي بدونه ستظل خائفة، ومعه فقط تجد الأمان.
أعطته إشارة واحدة تخبره بها أن الطريق فرغ من العقبات، ستحتمي به لطالما هو رحب بذلك، ولهذا السبب أوقفته بلهفةٍ قبل أن تظر الفرحة فوق وجهه ويفشل في حصرها:
_بس أسمعني الأول، أنا ممكن أكون محتاجة للأمان اللي بلاقيه عندك، مش عاوزة أظلمك يا “عُـدي” ومش هقدر أرفض وجودك في حياتي، أنا مش عاوزة أخسرك، وفي نفس الوقت مش عارفة أنا عاوزة إيـه، أنا تعبت مني.
تنهد هو تلك المرة ثم مسح وجهه بكلا كفيه يفركه بقوةٍ ثن عاد بتركيزه لها وقال بثباتٍ يحاول بها طمئنتها:
_طب بصي، أنا كدا كدا باقي عليكِ وعاوزك، مش هفرط فيكِ، وأنتِ باين إنك عاوزاني بس تايهة، أنا هديكِ فرصة ومش هضغط عليكِ بوجودي، هنتعامل عادي زي الأول، ووقت ما تتأكدي بجد إنك قادرة تديني مساحة عندك، سيبي الباقي عليا أنا، أوعدك أنا هشوف شغلي صح ساعتها، ودِبلتك هتفضل معايا في الحفظ والصون، تمام كدا طيب؟.
في الحقيقة عرضه أغراها كي توافق؛ فأومأت له موافقةً ببسمةٍ هادئة وقد رحل هو من أمامها باسم الوجه، لقد عاد يستمسك بالأمل وقد طوى عن قصدٍ صفحة من صفحات اليوم بداخل كتاب الذكرى، وهي فعلت المثل، لعلها ترحم نفسها مما هي تعايشه، خاصةً بعد اليوم باتت مُدركة أنها في أوج حاجتها إليه، وقد قُدِرَ لها أن يكون أمانها عنده هو لا غيره.
__________________________________
<“لكني أصبحتُ تائهًا، وأخشى على سبلك مني”>
هو لم يكن ذات يومٍ برجلٍ متصالحًا مع الحياة..
مرافقة العالم باللين لم تجديه نفعًا، مصادقة الأيام ومُسايرة الأمور لم يكونا يومًا بقاموسه، النسيان لم يكن يومًا في حسبته، هو الخصم الأوحد للعالم، العنف هو الحل الأمثل، القوة والتسلط هما الأمر الأكيد ومن ينكر تلك الحقائق يدعي المثالية، وفي زمانه التبجح هو الحل الوحيد..
ذات مرةٍ تم وصف المريض النفسي في نوبته أنه كما القنبلة الموقوتة التي ستنفجر بين اللحظة والأخرى، وهو على المشارف لا شك، هو على حافة الهاوية لسقوطٍ محتمٍ لقعر سفحٍ لم يطله أبدًا، وقد وصل شقته أخيرًا بعد صراعٍ مع نفسه بقيادةٍ متهورة كانت ستؤدي بحياته لولا أنه توخى الحذر في آخر اللحظات..
ارتكن بجسده المتعب فوق الأريكة وألقى برأسه للخلف، عاد لشروده وصمته وأنزوائه وعزوفه عن الجميع، حتى بعودته للعمل طالتهم هناك نوبة غضبه الشديدة، وها هو يعود خائب الرجا باحثًا عن الصفاء بداخله فلم يجد له مكانًا، فقط الوجوم في الوجه، والعطوب في الروح..
أتت ملاذه تجاوره، فحاله لم يروقها منذ أيامٍ، وحدته وبعده عنها لم تستحوذ إلا على أشر الأفكار لديها، بالأخص منذ أن انتحرت “شـهد” وهو ينتهج أغرب السُبل في التعامل، ظلت تطالعه بصمتٍ وهي تبحث عن كلماتٍ مُناسبة لا تُثير غضبه كما يفعل منذ يومين، وقد بادرت تلك المرة بلمس كتفه وسألته بنبرةٍ هادئة:
_أنا مسخنة الأكل ومحضراه علشانك، تحب أغرفه دلوقتي ولا تاخد دُش تفوق بيه نفسك علشان تعرف تاكل؟ شكلك تعبان أوي ومجهد وعاو….
قطع حديثها حينما أرتمى عليها وألقى برأسه الممتليء فوق كتفها بصمتٍ، فقط أراد أن يجد مكانًا مناسبًا لوضع رأسه، ولم يجد غيرها هي، وهي لأجل تلك الحالة مسحت فوق رأسه وتركت أنفاسه تلفح عُنقها بشتاتٍ، كانت نبضاته مرتفعة بشكلٍ ملحوظٍ، وبدا من هيئته تلك أنه فقد زمام التحكم في حالته، وترك نفسه لنوبته تبتلعه، ولذا حاولت أن تتحدث معه تطمئن عليه فوجدته يوقفها بنبرةٍ جامدة أقرب للآمرة:
_اسكتي، مش عاوز أسمع كلمة واحدة.
توسعت عيناها بهلعٍ منه ومن نبرته تلك لكنها صمتت خوفًا من غضبه، بينما هو عاد واستقر فوق كتفها من جديد ولأنه ليس بملاكٍ أو قديسٍ بدأ أن يتخطى الحدود الموضوعة بينهما، وبدأ ينحث كل الوعود المقطوعة، وحاول أن يزداد في قربه أكثر، لكنها بصوتٍ مرتجفٍ نادته بنبرةٍ أقرب للبكاء، أخرجته من حالة اللاوعي والإنشداه بها فتنهد بثقلٍ ثم ابتعد عنها وأمرها بلهجةٍ حادة ما إن أدرك فعلته:
_أدخلي نامي وخليكِ بعيد عني دا أضمنلك أنتِ.
أرعبها بطريقته؛ فأومأت هي بخوفٍ منه ومن نظرته ومن نبرته ثم حملت حالها وركضت من أمامه نحو الغرفة تلوذ بها بعيدًا عنه، يبدو كأنه أمسى غريبًا عنها ولم تعرفه طوال حياتها، حقًا تراه بحالته تلك لمرتها الأولىٰ، وكأن “يـوسف” الحنون الآخر تركه وغادره، والأمر فقط لم يكن بهذا اليوم وإنما هو منذ أيامٍ مرت وهو يتعامل معها بتلك الغرابة..
كانت تجلس فوق طرف الفراش تحاول استجماع شتاتها ولملمة نفسها المُبعثرة فوجدت الباب يُفتح فجأةً ولغبائها نست أن تغلقه، وكيف تغلقه خوفًا من مصدر أمانها الوحيد؟ خطى نحوها بخطواتٍ هادئة ثم جلس على رُكبتيه ووضع رأسه فوق ساقها وكأنه كما الفتى الصغير يعود لأمه بعد اقتراف الذنب، لم يُحايل ولم يتحدث وكأن نظرتها له قتلته في محله، لذا تنهد بقوةٍ يطرد أفكاره ثم رفع كفه يحتضن كفها وقال بتوسلٍ صادقٍ أتى من حيرته وشتات أمره:
_متسيبينيش لوحدي، أنا تايه.
والصراحة خير دليلٍ على صلاح النية، فأخفضت هي رأسها نحوه والدمع يُهدد بالنزول، بينما هو فسكت عن الكلامِ ثم رفع جسده لها من جديد وقال بضياعٍ ألبسه رداء الذنب العالق به:
_تايه وضايع ومش عارف أروح مني فين.
وفي مواثيق العشق، عنوان التائه يكمن بين ذراعي من يُحب، فالضال في الطُرقات كان احتضانه واجبًا، لذا أخفضت نفسها حتى جاورته ثم ضمته من جديد بين ذراعيها وهي تُربت فوق رأسه المزدحمة، وتمسح بكفٍ فوق قلبه المخلوع، كانت حانية عليه وأحن من نفسه أيضًا، وكان هو رغم ضياعه لم يعرف غيرها، فجأةً تلاشت كل الدلالات من أمامه ولم يجد إلا ذاك الذي يوصله لها هي، والآن يرتكن عليها من قسوة الأيام آملًا أن ترحمه نفسه بدلًا من الحرب المُقامة بداخله.
وهي لأجله تعفو وتحاول وتصفح، ستتجاوز عن فكرة تغيره معها، وستتخطى عنفه الغير مبرر في بعض اللحظات، سوف تهرب من فكرة عزوفه عنها وجلوسه بمفرده كأنها نكرة تسكن معه، ولأجل لحظة ضعفٍ مثل هذه سوف تحتويه رأفةً به لطالما كانت نفسه مكلومة وتحتاج لمن يرفق بها، لذا وضعت كفها فوق جبينها وبدأت تقرأ له ما تيسر من آيات الذكر الحكيم، حتى وجدته ينعم بسلامٍ في غمضة عينٍ كأنه يخبرها أنه أصبح آمنًا بجوارها فقط، حتى رأسه خمدت نيرانها..
__________________________________
<“أتي اليوم الموعود وأنتَ لم تأتِ حتى”>
لحظات انتهاء المسعى المُكلل بالنجاح هي اللحظة الفارقة ما بين الأمل والإحباط، هي لحظة فقط ما إن يصل لها المرء يُدرك أن حلاوة الأيام تكمن في الوصول لما أراد بأكثر مما كان يتمنى، لحظة حتى وإن لم يرغب بعدها في أي شيءٍ سوف يتمنى كل شيءٍ…
صباح اليوم الجديد أتى وبدأ هو يسلك درب السعي، بدأ يخوض المضمار بشجاعةٍ أكبر، فأصبح كل ما يهمه في العمل مؤخرًا أن يكتسب الخبرة الكافية في عمله كطبيبٍ صيدلي بدأ يشق الطريق، نعم البداية كانت خاطئة منذ أن اختار هذا العمل كي يكون أمامها، لكنه بدأ يدرك مضمون العمل والفضل للطبيب الذي يعمل معه، ثم لشقيقه الذي لم يتركه، ومن قبل الجميع أولًا وأخيرًا مولاه الذي من عليه بتوبةٍ جعلته يفيق من غفلته..
فتح هو الصيدلية بنفسه، وولج بهدوء فهو في انتظار النتيجة المؤجلة منذ زمنٍ، لقد مل وهو ينتظر خبر نجاحه حتى ظن أن الرسوب هو مصيره الحتمي في تلك الكُلية، يتمنى أن يختبر شعور النجاح بدون رسوبٍ في مادةٍ تكون علامة حمراء بوسط شهادته، وبناءً على ذلك فتح الحساب الخاص بكليته يتابع الأخبار الأخيرة..
مرت ساعة أو ربما لحقتها أخرىٰ وهو في الانتظار..
ربما ينتظر خبر خلاصه من الجامعة، وربما ينتظر مرور طيفها وهي تركض الخطوات الفاصلة بينه وبينها قبل أن يراها، وقد أتت الجنية خلسةً من فوق ضفافٍ جافٍ كأنها تلجا لليابسةِ، رغم أن المياه حياتها…
ولجت له بخطىٰ مترددة كأنها تخشى الدخول له ثم وقفت أمامه فوجدته يبتسم تلك البسمة المستفزة التي بالرغم من استفزازها إلا أنها تعجبها بكل أسفٍ، وقد أقتربت بضعة خطوات وهي تقول بثباتٍ واهٍ:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا عاوزة دوا الضغط دا لو سمحت.
مدت يدها بالعلبة له كي يأتِ لها بمثلها وبنظرةٍ خاطفة لمح الدواء وأحضر الأخرىٰ، ثم مد يده لها فتنهدت هي بعمقٍ ثم وقفت تنتقي بعض الأشياء الخاصة بالعناية بالبشرة والشعر ووقف هو يكتم بسمته من خجلها كأنها تسرق الأشياء وقد قرر أن يثير استفزازها فهتف بمرحٍ:
_على فكرة مش محتاجة الكسوف دا كله يعني، أوعدك بكرة الحاجات دي كلها تيجي لحد عندك ببلاش، من غير ما تتعبي نفسك وتنقي وتختاري أنتِ كمان.
هو يتحدث وهي كل ما عليها فعله أن تتمسك بحبال الصبر قبل أن تضربه بالأشياء فوق رأسها، لذا تنهدت بثقلٍ ثم التفتت له تضع الأشياء كي يقوم بحساب الثمن فوجدت يطالعها بنظرة المُشتاق، نظرته تلك المرة كانت تخبرها عن أمله فيها وفي حياةٍ يرغبها معها هي، لكنها هدرت فيه بانفعالٍ طفيفٍ:
_هو محدش قالك إن واجب عليك تغض بصرك؟.
كان بالفعل أخفض عينيه لكنه أعاد النظر إليها ثم رد عليها بصدقٍ لم يكن بكاذبٍ وإنما هي حقيقة تسكنه ولا يوجد مفر منها:
_طب لو غضت البصر، إزاي هغض البصيرة؟.
والمقصود هنا أنه يراها بقلبه، حقًا يراها بعينين أخريتين غير اللاتي في رأسه، هو يراها بقلبه ونيسة الأحلام، يراها الأمل الذي يحتاج هو أن يُطهر نفسه من كل سوءٍ وذنبٍ كي يكون برفقتها، أما هي فدومًا لا تعهد منه إلا الصراحة، لم يكن يومًا حديثه بمخبوءٍ في سريرته، وإنما هو يخبرها بكل شيءٍ دون أن يُخفيه عنها، وقبل أن يحسب هو الحساب وتقوم هي بدفع المال نظير المشتريات صدح صوت هاتفه برقم زميلٍ له، فخطف الهاتف وجاوب على الرفيق الذي أتاه بالبشارةِ قائلًا:
_مبروك يا دكتور، جيبت جيد ومعدي صافي.
وتلك هي النقطة الأخيرة التي جعلت الضحكة تشق وجهه وهو يرد على زميله مُهللًا بسعادةٍ كأنه يختبر هذا الشعور لمرته الأولى، لكنها وبكل أسفٍ كانت الأخيرة، لقد أختتم مشواره التعليمي أخيرًا وأنتهت رحلة العلم، ليبدأ شق الطريق برحلة العمل، وقد وقفت هي تتابعه بتعجبٍ حتى عاد لها بتركيزه ثم أخبرها بوجهٍ مُشرقٍ:
_أنا الحمدلله نجحت وكدا خلصت تعليم رسمي.
طالعته بعجبٍ من أمرهِ ثم تجاوزت حديثه وأشارت نحو الأشياء تهتف بجمودٍ زائفٍ كي تخبيء خلفه سعادتها لأجله:
_طب لو سمحت ممكن الحساب؟ أنا أتأخرت.
ساوره الإحباط بسبب رد فعلها لكنه أومأ موافقًا لها ثم أنهى عملية البيع وتممت هي الشراء، ثم فرت من أمامه بخطواتٍ واسعة حتى وصلت للخارج ويبدو أنها نست شيئًا فعادت بأدراجها له من جديد تخبره بتوترٍ وتلجلجٍ كأنها تخشى ما تفعله:
_مبارك عليك النجاح، ربنا يسدد خطاك ويوفقك لما يحبه ويرضاه، عن إذنك يا دكتور “مُـحي”.
في لحظةٍ تركت له الألم ثم عادت وحولته للأمل..
لم تعلم هي كيف لعبت بفعلها في أوتار فؤاده المتصديء حتى عاد له بريقه اللامع من جديد، جعلته يبتسم بوجهٍ بشوشٍ ما إن طالع أثرها ثم تنهد بقوةٍ وهتف متضرعًا بصدقٍ:
_ربنا يباركلي فيكِ.
وهي صعدت توبخ نفسها، تُهين قلبها الغبي الذي أجبرها على فعلها، تصف نفسها بالحمقاء كونها تنجرف خلف مشاعرها وهي تعلم أن الأمر برمتهِ به الكثير من الأخطاء، لكنها بقدر ما تستطع تحاول، وتلك المرة هي تشعر بشيءٍ غريبٍ عليها في بيتها، البيت أصبح منمقًا بشكلٍ غريبٍ، أمها تبتاع الكثير من الأشياء على غير المعتاد، والدها يطالعها بوجهٍ مبتسمٍ يخبرها بشيءٍ لم تعرفه، وعلى هذا المنوال منذ فجر اليوم حتى الظهيرة..
كانت في غُرفتها تقوم بقراءة القرآن من كتاب التدبر والتفسير وقد قطعت أمها خلوتها حينما ولجت لها بوجهٍ مبتسمٍ ثم قالت بصراحة أمٍ غلبتها الفرحة:
_بقولك إيه بقى، بصراحة كدا جايلك عريس، وأنا وأبوكِ الفرحة مش سيعانا خلاص، ومش قادرين نخبي أكتر من كدا عنك، واد ابن حلال وطيب وأبوه وأخوه ولاد أصول أوي وأبوه راجل طيب جدًا وكلم أبوكِ وعاوزك لابنه، يعني ولاد حلال أوي، وافقي علشان خاطري وفرحينا، دا أنا وأبـوكِ مالناش غيرك أنتِ.
حسنًا إن كان هو يقوم بخداعها فهي لن تمررها له، هي فقط مجرد جلسة في الرؤية الشرعية وستجعله يتأدب، ابتسمت بخجلٍ وأومأت لأمها موافقةً وهي تعلم أن أمر نجاحه لن يمر بهذه البساطة، تعلم أنه سيأتِ لها وحديثه معها اليوم خير دليلٍ على النية المأخوذة منه، ومع عناق الأم الفرحة، طارت هي فوق السحاب تنتظر مجيء رفيقها كي تُحلق معه ويؤنس كلاهما وحدة الآخر.
__________________________________
<“ولأجل النتيجة المرغوبة سنفعل كل شيءٍ بوسعنا”>
من سفح الهرم حتى قمته هُنالك مسافة مقطوعة..
تلك المسافة لا تُقاس بأمتارٍ وإنما تُقاس بأنفاسٍ، فهي تُحسب بقدر الجُهد المبذول والألم المأخوذ، مسافة ننساها ما إن نستقر فوق القمة ونتلمس الشعاع المُضيء بعد طريقٍ مُضني كان رفيقه الظلام والألم، وبهوت الضوء وضياع الأمل..
بعض المشاوير المُهلكة تأتِ على النفس بسعادةٍ..
فهو بالرغم من تعبه وكثرة ضياعه وشتاته بدأ يطالع الأمر بصورةٍ أخرى، أمر جمعهما سويًا في بيتٍ واحدٍ فقط يتطلب مرور ساعات يقوم بحسابها بمرور كل ثانيةٍ، يقف يتابعها بجوار أمها وبُنيتاه ترتكزا على خضراوتيها الوهاجتين بضحكةٍ سعيدة، وهو القاريء المُخضرم للغة عينيها بالطبع يفهم ما تسرده هي عليه بغير كلامٍ منها..
“مهرائيل” التي تقترب منه رويدًا رويدًا وتقوم بهدم الحصون لأجله، أصبحت الآن نصب عينيه في شقتها تضع اللمسات الأخيرة لبيتها حتى الخطوة الأخيرة لحظة دخولهما سويًا، وما إن ابتعدت أمها عنهما اقترب هو منها ثم سألها بنبرةٍ ضاحكة:
_أمك جاية بأوامر عُليا من أبوكِ، لازقة فيكِ.
ضحكت هي رغمًا عنها ثم حركت كتفيها وقالت بنبرةٍ تماثله في حلاوة الضحكة المشرقة بخجلٍ طفيفٍ:
_كلها ساعات بس وهكون معاك لوحدك هنا، وساعتها أبقى أحكم عليهم كلهم ومتخلينيش أخرج من بيتك خالص مهما حصل في بعد كدا.
ضيق جفونه عليها ثم اقترب منها أكثر يسألها بخبثٍ:
_ليه هو أنتِ ناوية تخرجي من هنا ولا إيه؟ أنسي خالص، دا أنا نفسي أتقطع لحد ما وصلتلك وروحي خلصت معاكِ أنتِ واللي خلفك كمان، بس مش مهم كله فدا عيونك الخُضر وأشجار الزيتون.
تورد وجهها أمامه ورفعت كفها تُرطبه من الحرارة فوجدته يهمس لها بنبرةٍ خافتة أقرب للهمس:
_خليكِ مكسوفة براحتك، كلها ساعات وهقطع رقبة كسوفك دا، عاوزك بت مخربشة كدا، اللي يقرب منك تاكليه بسنانك.
أومأت له ضاحكةً وقد أتت أمها تحمل الشاي لهما فانتبه هو لعودتها وحينها أطلق سبة من بين شفتيه يلعن به حماه الغبي الذي بالرغم من عدم حضوره إلا أنه ترك أثره حاضرًا بينهم، وهي بكل بساطةٍ لا تفكر سوى ببيتها معه، وحياتهما القادمة هنا بين أروقة البيت، والعزم على تتفيذ كل مُخططاتها..
وفي الأسفل توقفت سيارة “يـوساب” ومعه بها “مارينا” تائهة في الخلف وسط العديد من الحقائب البلاستيكية وهي تتأفف بضيقٍ جعله ينبهها بصرامةٍ:
_أفردي وشك وبطلي نفخ، أنتِ مش عيلة.
رمقته بطرف عينها ثم آثرت تجاهله وعادت ترتكز بعينيها لما تفعل وهي تفحص الحقائب وقد تنهد “يـوساب” بثقلٍ ثم قال بنبرةٍ أهدأ يحاول بها أن يستمسك بصبره:
_مش معنى يا “مارينا” إني متفهم يبقى أنا عيل مش راجل، مش علشان حاجة أنتِ مصممة عليها يبقى أنا هوافق عادي، الفستان فعلًا كان ضيق ومش هينفع واحدة تلبسه في كتابة العقد، واللي نقيناه التاني أحلى، وبعدين الراجل المفروض يغير على البنت اللي بيحبها، عاوزاني أسيبك عادي كدا تخربي الدنيا.
ضيقت جفونها وهي تُطالعه وقد شعرت بالهدوء يجتاحها فقررت أن تلجأ لنفس الوسيلة في الحديث وهي تسأله:
_ماهو أنا كنت هموت عليه وعاوزاه، وبابا كان مستحيل يوافق عليه لو أنا لوحدي، بس علشان أنتَ معايا هو هيوافق ويرضى، آجي ألاقيك أنتَ أصعب منه وكل حاجة مش عجباك ورافضها؟ دا أنتَ شكلك كدا سوسة.
افتر ثغره ببسمةٍ مشرقة ثم قال يُجاريها في الحديث بقوله:
_أيوة صح، أنا سوسة وخلي بالك بقى علشان خبيث ومش سهل ودماغي دي لسه بعيد عنك إنك تفهميها، كل اللي ليكِ عندي إنك تفضلي معايا في أمان ومسيبكيش قلقانة لوحدك، تمام كدا؟ تحبي حاجة تانية تبسطك وترضيكِ؟.
حركت رأسها نفيًا ببسمةٍ هادئة زينت مُحياها ثم تنهدت بعمقٍ وشكرته على حديثه ولينه معها، فأضاف هو بصراحةٍ معهودة بالصدق منه:
_على فكرة شكلك في الفستان التاني أحلى، وعلشان كدا صممت عليك، لأنك في المعتاد ملامحك حلوة وشكلك بريء، والفستان دا وضح برائتك أكتر، بعدين أنتِ حلوة من غير حاجة يعني.
صفو النظرة غطى على خبث النبرة فابتسمت هي له ثم ترجلت من السيارة في محاولةٍ منها كي تمسك بكل الحقائب، وحينها ترجل هو ونزل كي يُساعدها ثم قال بنبرةٍ ضاحكة أثارت استفزازها:
_بطلي شغل عافية ذوق دا، هو أنتِ أخطبوط؟.
وكالعادة أثار استفزازها بنجاحٍ فقامت بدفع باب السيارة بعنفٍ وتركته وأولته ظهرها فوجدته يصرخ من خلفها بحنقٍ:
_يا بت عليها أقساط يخربيتك.
التفتت تراقص له حاجبيها ثم ولجت البناية ركضًا، بينما هو تركها تفر منه، تركها تفعل ما يحلو لها لطالما في النهاية ستعود في نهاية الأمر إليه، لا يهمه من كل الأحوال حوله سوى أن يُقيم سلوكها الأعوج، يهتم بها كصغيرةٍ تائهة، تحتاج لبعض الشدة وبنفس الوقت في أشد حاجتها للين كي تستقيم خطواتها التائهة.
__________________________________
<“برغم آلام روحه، كان يُطيب جراح الآخرين”>
عندما تسير بين الناس سوف تجد بعضهم يُعاني من الألم ورغم ذلك هو أكثر الناس مداواةً لجروح غيره، ستجده ساعيًا لكل خيرٍ رغم أن الشر يركض خلفه، تجده يقف درعًا ومواسيًا وهو في الخلفية قلبه كان مخلوعًا من فرط الخوف..
بدأت الحياة تصبح روتينية بشكلٍ يحمل معه لذة غريبة، فهو استيقظ صباحًا وقضى فرضه وعاداته الدينية الملازم عليها منذ صغره، ومع وجود قمره كان الأمر مختلفًا، فأصبح كل شيءٍ هنا يحمل لمستها هي، فطوره تجهزه هي، ثيابه تقوم هي بتحضيرها وتختارها وتُنمق كل شيءٍ حوله، تمامًا كما القطة الصغيرة التي تحتمي بصاحبها وتلتجيء فيه ثم تبدأ مشاكسته بمخالبها، وهذا فعلته حينما لثمت وجنتيه قبل أن يرحل على عمله وأكدت عليه بنبرةٍ مرحة:
_متتأخرش علشان هخاف أقعد لوحدي كتير، والله أسلط عليك الحبايب كلهم ونعمل قعدة صلح، روح شغلك وتعالى بسرعة.
ضحك هو لها ثم اقترب يُلثم جبينها تمامًا كما كان يفعل والده مع حبيبته، وقد ابتسمت هي له بسعادةٍ ثم أغدقته بدعائها له وقبل أن يرحل من الشقة أوقفته قائلة:
_صحيح إحنا هنبات تحت زي ما قولتلي؟.
التفت موﻤئًا فوجدها توميء هي الأخرى وحينها غمز لها بعبثٍ ثم قال يُشاكسها بمرحٍ:
_متخافيش هبقى أحكيلك حدوتة زي المرة اللي فاتت، فاكرة الحدوتة وما بعدها يا قطة؟.
الوجه العابث له عند باكورة الصباح جعلها تتفائل بيومه، لذا دفعته بخفةٍ وهي تتكيء على مخرج الكلمات كي ينتبه لنفسه ووضعه فقالت:
_سلام يا شيخ “أيـوب” ها شيخ “أيـوب”.
والشيخ كما تلقبه هي يضحك ويبتسم وبدأ العمل في محله مبتسم الوجه لكل مارٍ أو زائرٍ وهو يعلم أن البيت أصبح في انتظار عودته اللطيفة كي تبدأ هي طقوسها في اقتحام حياته ومشاركته كل لحظاته منذ عودته حتى وضع جسده فوق الفراش وهي بين ذراعيه..
طالع الساعة بعينيه بعدما خرج من شروده فيها، وقد وجد أن الآذان شارف وقته كي يُرفع، فتحرك نحو المسجد بخطواتٍ رتيبة يلقي التحية كاملةً على كل من يواجهه ويُقابله، حتى وصل وفتح المسجد وولج وبدأ يقوم بتجهيزه للمُصليين، وقد جلس يرتكن فوق العامود الرُخامي بارتخاءٍ تامٍ فشعر بأحدهم يجلس أمامه وحينها فتح عينيه وفرق جفونه ولدهشته فرغ فاهه ثم سأله مستنكرًا:
_أنتَ !! غريبة.
والآخر حرك كتفيه له كأنه لا يملك أي حيلة من بعد التيه إلا أن يحضر له ويكون بصحبته، عيناه نطقت وأعربت عن تيهٍ يشعر هو به ففطن الآخر لحاله وربت فوق كتفه كأنه يخبره أنه معه مهما حدث ومهما امتلأت نفسه بشتاتٍ لعل الخالق يجعله غوثًا وسببًا لإنقاذ البشر، سواء كانوا تائهين أو حائرين في أمرهم أو خائفين مثل من يجلس أمامه.
__________________________________
<“حان الموعد لاحتضان الأحلام البعيدة”>
تلك الأحلام البعيدة التي يطول بنا الوقت كي نصل لها تأتِ لنا لحظةٌ كي نعانق بها تلك الأحلام ونُحقق ما ظنناه مستحيلًا، أو ربما حسبناه عن منالنا بعيدًا، فتلك الأشياء صعبة المنال التي استعصت علينا، وردتنا طُرقاتها خائبين هي نفسها من تُصالح أوقاتنا وأيامنا بما كنا نود ونرغب..
في بيت “نَـعيم” بمنطقة نزلة السمان..
كان “إسماعيل” يجلس على طرفٍ و “ضُـحى” على الآخر وقد فصل بينهما “إيـهاب” الذي يحاول الوصول إلى حلٍ وسطي يُرضي الطرفين بعد عنادٍ ونزاعٍ وصل لخصومة يومين بينهما، عادا كما القط والفأر سويًا في علاقتهما، والأخ الكبير يلجأ لهدنةٍ يوقف بها الحرب، لذا نطق مستفسرًا ببقايا طاقته النافذة:
_ها آخر كلام الحمام نكسره ولا نعمل فيه إيه؟.
_آه طبعًا…
_لأ أكيد..
وبالطبع الإيجاب منها هي، والسلب منه هو، فضرب “إيـهاب” وجهه بكلا كفيه بحنقٍ منهما وقد نظرا لبعضهما شزرًا بتحدٍ جعل الآخر يهتف بصرامةٍ كي يقطع عليهما سبل النزاع:
_أنا زهقت من العلاقة المقرفة دي، بقولكم إيه قسمًا برب العزة ما فيه حاجة محتاجة تتكسر غير دماغكم أنتوا الاتنين، وأنا راجل عديم الرباية علشان سايب حالي وقاعد أحل بينكم مشكلة تافهة مكبرينها ومخليين الناس تمسع صوتنا عليها.
في تلك اللحظة أتت “آيـات” ووضعت واجب الضيافة لهم مبتسمة الوجه ثم أولتهم ظهرها كي تعود وتجلس برفقة “سمارة” التي أصبحت بمثابة أختٍ لها، وكلتاهما وطدت أواصل العلاقات والود بين الأخرى، بينما “إسماعيل” فقال بنبرةٍ جامدة بعض الشيء:
_دلوقتي الحمام مش عاجب الأستاذة، بتقولي قديم وعاوز يتغير، أنا مش معترض على الفكرة، بس معترض على الوقت علشان أنا عاوز أتجوز وأخلص نفسي، كلامها دا هيدخلنا في شهور ولسه الشقة هتاخد وش نضافة كمان وكهربا، دي كدا هتبقى جنازة مش جوازة.
التفتت هي لشقيقه تخبره وتضعه بموضع الشاهد:
_طب أشهد أنتَ يا “إيـهاب” قالي شوفي الشقة محتاجة إيه وعينيا ليكِ، وأول ما قولتله لوى بوزه في وشي وزعل، إيه؟ أحوليت دلوقتي يعني؟ فين عينيك بقى.
كان يشعر أنه يُجالس صغارًا وليس كبارًا على وشك الزواج، لكنه تحامل على نفسه وقرر أن يقوم بترويض الخيول العنيدة كي ترضخ له، لذا تناول دفة الحوار بلباقةٍ قائلًا:
_بصي هو عمل كدا علشان مش عاوز يزعلك، لأن أصلًا هو مكانش ناوي يتجوز، فشطب الشقة تشطيب سوقي كدا علشان بس يبقى يقعد فيها لو جاله مزاج، بس غير كدا لأ، ظهرتي أنتِ وغيرتي الحسبة كلها، علشان كدا هو سألك لأنه متحمس، بس علشان مرضاش ليكِ الزعل يعني، الحمام هيتكسر ونركب حمام جديد، حاجة تانية؟.
هزت رأسها نفيًا له وهي تقوم بكتم بسمتها المنتصرة فتدخل زوجها يخبر شقيقه بحنقٍ كي يقطع عليها نصرها:
_دي عاوزة الحمام أسود يا “إيـهاب” هي ناقصة يعني، ما كفاية أنا ملبوس لوحدي والدنيا معايا بايظة وخربانة يعني.
ضحك له شقيقه وقبل أن يرد عليه صدح صوت “سمارة” بألمٍ أولي بدأ من خلف ظهرها، ومن ثم بدأت أنفاسها تنقطع، فركض نحوها “إيـهاب” بخوفٍ ولهفةٍ وحينها مدت كفها له وهي تصرخ بصوتٍ مكتومٍ وقد لاحظت “ضُـحى” ظهور بوادر الولادة من خلال ملابسها فصرخت به تنذره:
_دي بتولد، شيلها بسرعة.
حملها “إيـهاب” فوق ذراعيه وهو ينادي على شقيقه الذي هرول خلفه وسحب المفاتيح كي يجلب له الحقيبة المُجهزة سلفًا، وفي طرفة عينٍ أنقلب البيت بخطواتٍ راكضة ومشتتة خاصةً أن الموعد فاجئهم جميعًا على غير المعهود الذي أخبرهم به الطبيب، ووسط كل ذلك خرج “نَـعيم” يبحث عن سبب التيه والشتات الحادث بالخارج فأتت له “تَـحية” بخطواتٍ راكضة تخبره:
_”سـمارة” بتولد يا حج، البيت هيزوره الفرح.
وحينها ابتهجت ملامحه ووقف يبتسم بسعادةٍ وكأنه هو من ينتظر ذاك المولود بفارغ صبره، حال الجميع في البيت لفت نظره فلم يعِ لنفسه إلا وهو يتبعهم بفرحةٍ كبرى كي يكون أول من يلمح الضيف الجديد لبيتٍ عاش ينتظر قدومه..
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)