رواية غوثهم الفصل المائة والثاني والثلاثون 132 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة والثاني والثلاثون
رواية غوثهم البارت المائة والثاني والثلاثون
رواية غوثهم الحلقة المائة والثانية والثلاثون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل السابع والأربعون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
والمرء لا تُشقِيه إلا نفسُهُ
حاشا الحياة بأنها تُشقيه
ويظنّ أن عدُوّهُ في غيرهِ
وعدُوّهُ يُمسي ويُضحي فيه.
والمرء لا تُشقِيه إلا نفسُهُ
حاشا الحياة بأنها تُشقيه
_”عبد اللَّه البردوني”
__________________________________
هذا القلب يا سيدتي عليلٌ..
وعِلته ليست كما أي علةٍ مُتعارف عليها، وإنما عِلته عشقٌ لم يود منه شفاءً، عليلٌ أنا بالنظر لعينين دونهما أتوه في هذا العالم وأفقد مساراتي، فأي نظراتٍ هذه تتلاعب بالقلب؟، فبالغياب تُشقيه، وبالحضور تُشفيه؟ أظن أنهما ليستا بعينين عاديتين، وإنما فيهما سحرٌ كان ولازال خاصًا بهما، عينان هما مدائن الطمأنينةِ وأنا دونهما أعيش في غُربةٍ لا تنتهي، أتعلمين أي شعورٍ يراودني حينما أراهما؟ تمامًا كمن يسير في الصحراء أسفل شمسٍ حارقة ثم زارته نسمات الهواء الخفيفة تُداعب وجهه، أو كأنما طفلٌ تاه عن بيته ومن ثم عاد له مُجددًا فوجد أمه تفتح له ذراعيها وتضمه وتحميه بكنفها، بئس الشعور هو الشعور بالخوف في غُربةٍ ظنوا فيها أن المرء يحيا ويأكل، لكنهم لم يحسبوا أن الغُربة في بعض الأحيان هي التي تأكل في المرء، وأنا بدون عينيك تأكلني الغُربة، وتُفتتني الكُربة، فظلي هُنا معي فأنتِ بكل الأحِبة.
<“دقائق نحياها في خوفٍ، نموت فيها أعوامًا”>
ليس كل ما نظنه ندركه، ففي الأغلب تلك الأشياء التي حاولنا الابتعاد عنها هي نفسها ما ركضنا إليها بكل طواعيةٍ مِنَّا لكي فقط نصبح بجوارها، رُبما هي سذاجةٌ من العقل وبراءة من القلب أن نُحب ما أردنا أن نكرهه ووددنا البُعد عنه.
حالة من الهياج والهرج ظهرت بالغرفة مع صفير الجهاز مُعلنًا عن توقف القلب للمرةِ الثالثة، تلك المرة توقف النبض كُليًا وتوقف القلب عن آداء عمله، أما “يـوسف” فأخرجوه من الغُرفةِ وظل بالخارج واقفًا يتابع الغرفة بعينيه بقلبٍ يتآكل من نيرانٍ لم ترحمه، الآن يرى بعينيه المصائب تتحقق أمامه بفقدان عزيزٍ على القلب، وجد نفسه دون أن يعي لذلك يتضرع سرًا بقلبه وعلنًا بلسانه أن يستعيد رفيقه عافيته من جديد، وقد أتى صوتها من خلفه بلوعةٍ جعلته يُغمض عينيه هربًا من مواجهتها، لكنها أتت تجاوره وهي تسأله عن زوجها بصوتٍ باكٍ:
_هو إيه اللي حصل؟ وأنتَ خرجت ليه تاني؟.
نظر لها “يـوسف” بعينين مغرورقتين فيما لاحظت هي ركض الممرضة نحو غرفة زوجها فوقفت تتطلع لهم ببكاءٍ حينما وجدت الطبيب يعيد إنعاش القلب بالصدمات الكهربية فعلمت أن القلب توقف من جديد؛ أما شقيقها فضمها له يؤازرها لتلتحد به باكيةً بصوتٍ فهي حقًا لم تحتمل أكثر من ذلك، لحظات الإنتظار أصعب مما يمر على المرء، وهي لم تتحمل أن تظل عالقةً هكذا بدونِ خبرٍ يؤكد لها.
في الداخل حاول الطاقم الطبي أكثر من مرةٍ إنعاش القلب بالصدمات الكهربية حتى عاد أخيرًا النبض وظهر تعرج الخط الذي كان مُستقيمًا، في تلك اللحظة زفر الطبيب بقوةٍ وأطلق تنهيدة عميقة من جوفه ثم خرج من الغرفة فوجد “عبدالقادر” في وجهه يسأله بقلقٍ:
_طمني يا دكتور، القلب اشتغل؟.
أومأ موافقًا بتعبٍ ثم نطق بصوتٍ مُجهد كُليًا:
_الحمدلله القلب رجع اشتغل، بس نتمنى من ربنا إنه ميقفش تاني علشان الأوردة والشرايين متقفش عن توصيل الدم للجسم كله، دي هتبقى مشكلة لو الدم اتمنع من الوصول للمخ.
ساورهم القلق جميعًا وخاصةً “قـمر” التي كانت تقف بجسدٍ متجمدٍ عن الحركة فيما بدأ الطبيب يفسر لهم المقصد طبيًا بقوله:
_كل الحكاية ومافيها إن القلب هو المُحرك للجسم كله، مسئول عن ضخ الدم في الجسم وتوزيعه في كل خلايا الجسم ومع ذلك برضه الأكسجين، بس للأسف الجروح والكسور والنزيف اللي الاستاذ أتعرض ليهم خلوا أداء القلب يحصل فيه قصور، بمعنى إنه أضعف من إنه يضخ الدم ويدير المهام زي الأول، هو حاليًا بنلجأ لإنعاش القلب بصدمات كهربا بحيث الدم يرجع تاني والأوردة تشتغل والدم يوصل للقلب، الخوف لو الدم اتمنع عن المخ لأن لا قدر الله دي بتبقى صعبة، بس حاليًا المخ شغال تمام والدم بيوصله، وأملنا في ربنا كبير.
فسر لهم وياليته ما فعل، ففي تلك اللحظة أرادت “قـمر” أن تركض للداخل وتبقى بجواره حتى نهاية عمرها هي، أرادت أن تختبيء من الجميع وتكشف له فقط عن نفسها، كل شيءٍ حولها أصبح يُضيق عليها الخِناق وهي تتصنع الصمود فقط لأجل من حولها، نعم هي تعلم أن المسألة وقتية قبل أن تنهار كُليًا أمام الجميع، لكن “عبدالقادر” لمحها وهي تبكي فاقترب منها ثم لثم جبينها وتوسلها بقوله:
_ادعيله يا “قـمر” ادعيله يا بنتي.
بكت أكثر ثم رفعت رأسها تطلب من الخالق أن يرد له عافيته وصحته ويفيق من جديد لهم، كانت تشعر بثقلٍ في روحها وكأن هناك سيارة تسير خلفها وهي تحاول الهرب منها لكنها كلما اختارت طريقًا وجدته كما المتاهة وكأنها تدور في حلقاتٍ مُفرغة لا نهايةَ لها.
في غرفة “يـوسف” ولجتها “غالية” فوجدت الفراش فارغًا منه وأقرب ما وصل لعقلها كانت ذكرى مريرة أتت بكل ما فات وألقته بالعقل ليرتسم أمام العين، فلم تنتبه أن ذاك الصغير الذي خُطِفَ منها هو نفسه هذا الرجل الفارع الذي يقف في الخارج ويساند شقيقته، ركضت من الغرفة بخطواتٍ شبه عنيفة حتى وجدته في الرواق يحتضن “قـمر” فتنهدت بعمقٍ ثم اقتربت منهما بخطواتٍ أهدأ من سابقتها ثم ضمتهما ترتوي من ظمأ الشوق بهما في عناقها.
وقد أتت “عـهد” تقف بجوار زوجها ثم رفعت نفسها لتصل لأذنه وهي تقول بصوتٍ أقرب للهمس:
_تعالى ارتاح شوية جوة أنتَ جروحك لسه ملتهبة وكتفك مكسور، يلا علشان تقدر تقف مع أختك ومامتك وتسندهم، ومتقلقش أنا مع “قـمر” مش هسيبها لحد ما “عُـدي” يرجع تاني.
أومأ موافقًا ثم انسحب معها بصمتٍ وهي تسانده بعدما عانقت كفه بكفها، أما هو فكان في عالمٍ آخر حيث الخوف الذي سكنه وبدأ ينهش فيه لأجل رفيقه، الآن فقط أدرك أنه يحتمي فيه ويلجأ إليه وأدرك أيضًا أن “أيـوب” هو الغَـوث لروحه المتألمة، فجلس فوق الفراش وزاغ بصره بعيدًا وبكل آسفٍ خياله أتى بذكرى الفاجعة التي استيقظ عليها صراخات الفقد، وكارثة التشرد، فكاد يُجزم أن لو حدث ما يخشاه هو بالطبع ستتجرد مشاعره من الإنسانية والرحمة وسيعهد العالم أسوأ وأقسى مافيه، بات “أيـوب” الآن أمله الأخير قبل أن يتحول لوحشٍ يُدمر كل شيءٍ ثأرًا وانتقامًا له.
لاحظت “عـهد” تغير ملامحه فاقتربت تجلس على رُكبتيها أمامه ثم رفعت رأسه بكفها حتى تلاقت الأعين معًا، فسألته هي بتقريرٍ أكثر من الاستفهام:
_خايف عليه صح؟.
أرادت أن تُعطيه مساحةً لإفراغ طاقته وما يشعر به من تشتت بالروح والقلب، بينما هو فترك لعبراته العنان ونطق بصوتٍ باكٍ كأنه عاد طفلًا صغيرًا بالتحديد في عمر فقد أبيه:
_خايف يسيبني لوحدي بعدما بقيت بتطمن في وجوده، من ساعة ما عرفته وصاحبته وهو بقى أكتر من أخويا، الوحيد اللي لما بفتكر إنه هيشاركني في “قـمر” مبزعلش بالعكس بفرح أوي، خايف كمان شوية اسمع صوت الصويت اللي لسه حد دلوقتي مبيسيبش ودني.
هي مثله، تدرك مرارة الفقد ومُر الإنتظار، فكلٍ مِنَّا فقد عزيزًا على القلب ولم يتخطى تلك اللحظة حينما استيقظ على فراقه، فجميعنا نلجأ للنوم وتوهم أن الفقد كابوسٌ وسيفيق منه، لكن النوم ما إن انتهى واستفاق العقل أدرك القلب أن بات غارقًا في الألم، لذا شاركته البكاء لكنها تجاهلت نفسها ثم رفعت كفها تزيل عنه عبراته العالقة في أهدابه ثم جاورته ووضعت رأسه فوق كتفها وهي تُربت عليه.
__________________________________
<“الثأر ليس منكم، بل الثأر لنا نحن”>
لكل فردٍ مِنَّا حقه في حب أو كره من يري، لكنه أبدًا لا يملك الحق في إيذاء غيره، لذا في بعض الأوقات إن كانوا مَلكوا هم الحق في الأذى والكراهية، فنحن لدينا حق الثار لأنفسنا من كل عدوٍ اختار الخصومة بيننا، فإن كنتَ تظن أن آذاك لغيرك من باب الحُرية، فتأكد أن ثأره منك هو الحُرية بذاتها.
نيرانه الموقدة لم تنطفيء بل ظلت تزداد تأججًا كُلما تذكر ما يعايشه شقيقه واللحظات العصيبة التي مرت عليهم جميعًا، كان يود أن يقوم بحل رأس “سامي” من مكانها لكنه عوضًا عن ذلك ظل يُكيل له الضربات في أنحناءٍ مُتفرقة في جسده، وعلى عكس ما توقع هو، فكلما ازدادت ضرباته كُلما شعر بالنيران تزداد أكثر، ولم يفيق من غضب انتقامه إلا على صوت رفيقه “بـيشوي” وهو يبعده عنه بينما “إيهاب” فمال على “سـامي” يتفحص نبضه وما إن أدرك أنه لازال حيًا لفظ أنفاسه المكتومة ونطق بصوتٍ هاديءٍ:
_لسه حَي، متقلقش لسه الروح فيه.
تحدث “أيـهم” بغضبٍ أعمى وصوتٍ هادرٍ أعرب عن نيرانه الموقدة بداخله ولازالت تحرقه بألسنتها المتصاعدة:
_وعاوز فيه الروح لحد ما آخد منه كل حاجة وأرميه زي كلاب الشوارع مش لاقي حتة تلمه، وكل ما ييجي يخرج في الروح هلحقه وأداويه علشان أعذبه وأحرق قلبه، اللي ليا عنده كتير من زمان من ساعة خطف “أيـوب” وهو عيل صغير، وبعدها خطف ابني ودلوقتي عاوز يقتل الاتنين، أقسم بالله العظيم لأخليك تلف زي الكلب يا “سـامي” وأبقى قابلني لو لحقت حاجة، مش هقتلك بالعكس، أنا هحرق دمك باللي يكيفني ويخليني أشمت فيك العمر كله، يا كدا يا السجن أولى بيك تموت وتعفن فيه.
استمع “سـامي” للحديث وهو يحاول فتح عينيه لكنه فشل فشلًا ذريعًا، فلم يَعد يُدرك أي مكانٍ بجسده لم يؤلمه، حتى جفونه عند الإغلاق تؤلمه أيضًا، لذا قرر تجاهل تلك الآلام وتجاهل الحديث ثم أرجع رأسه للخلف وأغمض عينيه هربًا من الضوضاء التي خلفها هذا المُزعج، فهو لم يتخيل أن “عبدالقادر” يُنجب همجيًا بهذا الشكل، لقد فاق والده وشقيقه في كل شيءٍ والآن ينتقم بنيرانٍ سوف تحرق الجميع.
تأكد “إيـهاب” من إحكام حصار جسد “سـامي” فوق المقعد مُجددًا ثم حقنه بإبرة طبية مُسكنة لآلام جسده، بالطبع ليست رحمةً به وإنما لكي يتحمل المزيد والمزيد، فيبدو أن أحدهم قرر أن يعامله بأقسى المباديء وأكثرها وحشية، أنهى ما يفعله ثم خرج من الشقة خلف الآخريْن فنطق “بـيشوي” يوبخه رفيقه بقوله:
_هو أنتَ مُخك بيقف ليه مرة واحدة وتضيع كل حاجة مننا؟ أفرض كان مات في إيدك كنت هتحسبه علينا بني آدم وخلاص؟ اسمع!! أنا جيبته ليك علشان أنتَ اتأكدت من “يـوسف” لما سألته وقالك اللي حصل قبل ما العربية تتقلب بيهم، بس أكتر من كدا مش هينفع وياريت كل حاجة تبقى بالعقل.
رفع “أيـهم” كفيه يمسح وجهه بعنفٍ ثم أومأ موافقًا بقلة حيلة بينما “إيـهاب” فصدح صوت هاتفه برقم “نَـعيم” ففتح المكالمة ليجد الآخر يطمئن عليه، جاوبه وأخبره أنه في مِشوارٍ لن يتأخر به كثيرًا؛ فأخبره “نَـعيم” بأسفٍ:
_للأسف “أيـوب” قلبه وقف تاني من شوية ويعتبر مات ورجع تاني، الدكاترة هنا بيقوله إن لسه الحالة طالما مش مستقرة كدا مش هيقدروا يأكدوا أي حاجة، روح أنتَ البيت شوف مراتك اللي عندها متابعة دي، وأنا هنا معاهم وخلي “مُـنذر” ييجي مكانك.
شعر “إيـهاب” بالحزن والقلق لأجل الآخر ثم أغلق معه وهاتف شقيقه “إسماعيل” يستفسر منه عن مكان تواجده، فأخبره هو بصوتٍ هاديءٍ من داخل سيارته:
_أنا خدت حماتي و “ضُـحى” و “عُـدي” وصلتهم علشان ياخدوا هدوم لـ “يـوسف” و “قـمر” كمان وهرجع أوصلهم وأفضل معاهم هناك متقلقش، وبعت “سـراج” مكاني يتابع عربيات البضاعة والفلوس كمان معاه، علشان أكيد هفضل معاهم هناك علشان “أيـوب” لحد ما أتطمن عليه، دا عِشرة برضه.
استحسن “إيـهاب” فعل شقيقه ثم أغلق معه فوجد “بيشوي” يلتفت له يشكره ويخبره بامتنانٍ له:
_ألف شكر يا “إيـهاب” رَّوح أنتَ شوف دنيتك وحالك علشان لو احتاجتك معطلكش تاني، وأنتَ يا “أيـهم” روح شوف ابنك اللي مبهدل الدنيا في البيت وطمنه، وغير هدومك وشوف “آيـات” كمان وصلت ولا لسه.
كان “أيـهم” في لحظته تلك ناقمًا على كل شيءٍ لكنه تدراك سريعًا الأمور لذا أومأ موافقًا بتيهٍ حينما ارتسمت صورة ابنه أمام عينيه، فهو يعلم قَدر محبته لعمه الذي كان كثيرًا ما يخبره أنه كما الأخ الكبير له، ومن المؤكد أن “نـهال” هناك تتحمل أكثر من طاقتها، فَطِن هو لذلك فتحرك صوب البيت مُسرعًا وما إن ولج وجد “آيـات” تجلس في ردهة البيت تقرأ القرآن وعبراتها عالقة في أهدابها، وابنه ينام فوق فخذها ووجعه تلطخ بالعبرات، فتألم قلبه لأجلهما وتحرك يجلس بجوارهما.
جذب انتباه شقيقته فضمت دُفتي المُصحف ثم ارتمت عليه تضع رأسها فوق فخذه ولازال ابنه بين ذراعيه فكان كما الطير الذي يحمي صغاره من العواصف أسفل جِناحيه، أما “آيـات” فهي دومًا مُطيعة لذا أتت للبيت هُنا بعد توسلٍ ورجاءٍ من “تَـيام” لها، وحينما خشيت عليه أكثر سألت شقيقها بصوتٍ مُختنقٍ:
_فاق ولا لسه يا “أيـهم”؟.
رفع كفه يمسح فوق رأسها ونفىٰ ذلك بقوله:
_لسه مفاقش، نزف كتير والكسور في جسمه أكتر بس أملنا في ربنا كبير، متبطلش تدعيله علشان خاطري وخاطره، عاوزه يفوق ويفرح لما يلاقينا كلنا واثقين في إرادة ربنا وراضيين بقضائه وحكمته، صح يا “تـوتة”؟.
دللها بحنوٍ جعلها تمسح عبراتها المُنسابة ثم اعتدلت وهي تضم” إيـاد” لحضنها تمسح فوق رأسه، وفي تلك اللحظة خرجت “نِـهال” من المطبخ تحمل الحامل المعدني الكبير وهي تستجديه بقولها:
_كويس إنك جيت، علشان خاطري بالله عليك تاكل وتأكلهم هما الاتنين، من إمبارح و “إيـاد” قاطع الأكل وهي كمان من ساعة ما جت عمالة تعيط، كُل يلا وأكلهم علشان تقدر تقف مع أخوك.
حرك رأسه نحوها وكاد أن يرفض لكنها تركت الحامل المعدني ثم ولجت للداخل لكي تُحضر المزيد من الطعام، فتبعها هو نحو المطبخ ليجدها تُكمل ملء الصحون وما إن استشعرت تواجده اقتربت منه فجأةً وضمته بكلا ذراعيها فقط دون أي حديثٍ يُقال، هي تعلم أنه أكثر من يحتاج الدعم والإحتواء في تلك اللحظات، فمنذ المرة الأخيرة حينما لجأ لها وارتمى بين ذراعيها وظل يُخبرها عن كل شيءٍ يؤلمه فباتت هي تعلم أقرب الطُرق له.
تمسك بها وهو يشدد ضمته لها ونطق بصوتٍ مُرتجفٍ:
_أنا بكره إني أكون ضعيف كدا، إحساس إنه بيضيع مني مش سايبني في حالي وأنا معنديش حاجة أعملها غير قلة الحيلة، لو “أيـوب” حصله حاجة أنا مش هعرف أكمل حياتي تاني يا “نِـهال”.
ابتعدت عنه وضمت كفيه بين راحتيها فوجدته يُنكس رأسه للأسفل هربًا منها فنطقت هي تُشدد من أزره بقولها الداعم له لكي تحثه على التكملة:
_وهو أكيد هيخرج من تاني، متقلقش عليه وخليك واثق في حكمة ربنا وإرادته إنه بيختار للعباد الأصلح ليهم، ودا ابتلاء وهيعدي، فأحمد ربنا واشكره إنه ابتلانا وفاكرنا علشان نرجعله من تاني، الأول كُل وآكل أختك اللي مفيش فيها نفس دي، وشوف “إيـاد” وأكله هو كمان وقوله إنك هتاخده يتطمن على عمه، متنساش باباك سايبك مكانه وهو اللي محتاج إنك تكون مكانه دلوقتي.
أومأ لها موافقًا كما الطفل الصغير حينما يتلقى التعليمات من أمه ثم ضمها له بقوةٍ كأنه يحتاج لمن يخبره أنه على قيد الحياة ولازال يتنفس، وما إن تجددت الطاقة به خرج من المطبخ وأوقظ ابنه الذي ما إن رآه ارتمى عليه باكيًا فضمه هو بين ذراعيه القويين ونطق بقوةٍ عادت له مُجددًا:
_كدا؟ عاوز تخليه يزعل منك ويشمت فيا يقولي طلع بيخلف بوعده؟ مش المفروض تكون دلوقتي بتدعيله وتقرأ قرآن علشان دا وقت الابتلاءات؟ يلا علشان لو أكلت أنا هوديك المستشفى وأخليك تشوفه، بس تاكل الأول.
كلاهما يُعيد الحياة في الآخر فضمه “إيـاد” بقوةٍ يشكره ويوعده بما ينتوي فعله ومن ثم استأنف “أيـهم” دوره في رعاية البيت وذويه وفرض حمايته عليهم كما تربى واعتاد أن يكون مسئولًا عنهم وعن حمايتهم حتى من أنفسهم.
__________________________________
<“لا تُصرف في قلقك حتى لا تفشل في فعلك”>
كثرة القلق دومًا تؤثر سلبًا على العقل فتتسبب في شلله عن الحركة، لذلك لا تُصرف في قلقك حتى تكون خطواتك القادمة أكثر تحسبًا بدلًا من التشتت الذي يُعرقل بعض الخطوات ويجعلها نتائجها غير مرغوبٍ بها.
عاد لبيته بعد تعبٍ أهلكه تمامًا، فلم يعد قادرًا على أي فعلٍ خاصةً والمتألم هو صديقه المُفضل، الأمر أحيانًا يتطلب منَّا أفعالًا لم نقدر عليها لكننا نصبح مُرغمين على فعلها خاصةً إن كان هناك من آمل بنا خيرًا، وقف “بـيشوي” يطرق جرس الباب تحسبًا لمن هن بالداخل ومن حظه أن “مهرائيل” هي التي فتحته له ليلاحظ هو عينيها الباكيتين.
تنهد بثقلٍ ثم نطق بثباتٍ يواري خلفه قلقه عليها:
_مالك يا بومة؟ شكلك معيطة صح؟.
أومأت موافقةً له فابتسم هو مُرغمًا على طريقتها وهي توميء له ثم ولج وأغلق الباب خلفه ليجد أمه تهرول نحوه بلهفةٍ وسألته بقلبٍ مُلتاعٍ:
_طمني يا حبيبي أخوك فاق؟.
حرك رأسه نفيًا بأسفٍ فوجدها تجهش بالبكاء فضمها ولثم جبينها ثم طمئنها بقوله كأنه يُطمئن نفسه من قبلها هي:
_هيقوم ويفوق ويرجع تاني الحارة ينورها، الحارة دي متنفعش من غيره ولا إحنا هنقدر نكمل من غيره، بعدين هي دي الأمانة اللي “رُقـية” سابتها ليكِ؟ عمالة تعيطي وتفولي على الواد؟ هيقوم يا “تـريز” وتفرحي بيه كمان زي ما فرحتي بـ “آيـات” كدا وأتطمنتي عليها، بعدين “آيـات” في بيتهم أكلوني وأخليكم تروحوا تشوفوها قبل ما أمشي مع “أيـهم”.
ابتهج وجه” تـريز” عن السابق بينما “مهرائيل” فأرادت أن تهرول نحو بيت رفيقتها وقبل أن تتجه صوب الباب أوقفها “بـيشوي” بقوله الصارم الذي بدا جامدًا:
_رايحة فين؟ هاكل وآخدكم وننزل تشوفيها، مش دلوقتي يعني بعدين أنتِ مالك عاملة كدا ليه؟ هو فيه حد مزعلك؟.
نفت ذلك برأسها ثم رفعت كفها تمسح وجهها وهي تقول بصوتٍ مُختنقٍ كادت أن يختلط بالبكاء لكنها تمالكت نفسها:
_مفيش، أنا بس مضغوطة ومش حِمل اللي بيحصل، ومتعودة علطول بروح لـ “آيـات” لما بحس بالضغط دا عليا، علشان كدا ما صدقت أروحلها لأنها أكيد محتاجاني معاها.
تفهم حالتها وما تُعانيه وتشعر به وجراء ذلك سحب نفسًا عميقًا ثم نطق بصوتٍ عميقٍ دافيءٍ:
_حاضر، وعد هغير هدومي وهوصلك علشان تكوني معاها.
هي تعلم أنه ما إن يقطع وعدًا يوفيه ولا ينقضه، لذا اغصبت شفتيها على بسمةٍ هادئة أهدتها له ثم أولته ظهرها وولجت الغرفة التي اختصت بشقيقته قبل أن تتزوج ثم جلست فوق الفراش باكيةً وهي تشعر أن كل شيءٍ حولها أصبح ثقيلًا كما المركب فوق المياه الراكدة، فلا المركب بخفة الورق لكي تتحرك، ولا المياه تُساهم وتَسير.
في الشقة المجاورة كانت “جـنة” تُقيم صلاتها المُتأخرة بعدما أوصلها “مُـحي” لهُنا وقد تذكرت كيف دون أن يقصد أو رُبما قصدها أن يُخلصها من المُزعج قريبها حينما أوصلها لحارة “العطار” بعدما أنزلت هي “آيـات” واطمأنت عليها بداخل البيت، شردت فيه حينما أوقف السيارة أمام بنايتها وقبل أن تنزل منها بانزعاجٍ منه نطق هو معتذرًا:
_أنا آسف إني صممت أوصلك لهنا، بس أنتِ أمانة برضه علشان لما “تَـيام” يسألني عنك، بعدين أكيد أنا أرحم من التِنح قريبك دا، دا أنا “مُـحي الحُصري” برضه.
لاحظت هي تكبره وتعاليه فعادت تستقر في جلستها ونطقت بضجرٍ لم تدرِ سببه تحديدًا لكنها فسرت ذلك بسبب رؤيتها له كثيرًا:
_وأظن يعني حضرتك شايف إحنا راجعين منين، من حادثة فيها شباب ربنا يسترها عليهم ويردلهم صحتهم وعافيتهم، ونصيحة كمان يا رب تفهمها دلوقتي قبل ما تفهمها متأخر اعتبرها نصيحة من أخت مش هتشوفها تاني، الموت بييجي فجأة ومحدش فينا عارف لحظته إمتى، فخليك مستعد كل لحظة لمقابلة ربنا، علشان لو اللحظة دي جت وأنتَ في غفلة ومش مستعد صدقني هتندم أوي، متغركش إنها دنيا، وزي ما قولتلك اعتبرها نصيحة من أخت ليك مش هتشوفها تاني.
حديثها كما لمسة الكهرباء حينما تلمس البشرة فيقشعر الجسد بأكمله على إثرها، لذلك التفت خلفه يُطالع عينيها الخضراوتين وهي تبادله نظرته آسفةً فوجدته يتنهد بقوةٍ ونطق بثباتٍ مؤكد:
_وليه تبقى مجرد أخت ومش هشوفها تاني لما ممكن تبقى حاجة تانية وتشد بايدي لطريق ربنا وأهو أشوفها كل يوم؟.
كادت أن تصرخ بغيظٍ منه وتوبخه لكن عوضًا عن ذلك ترجلت من السيارة بينما هو فابتسم بخفةٍ ثم تتبعها بعينيه حتى ولجت البناية وأغلقت الباب فرحل هو بالسيارة مُسرعًا يعود لبيته، بعدما استمتع بهيئتها المُغتاظة منه ومن أفعاله، خرجت هي من شرودها بضيقٍ وسرعان ما ناقضت حالها ببسمةٍ تراقصت فوق شفتيها، فهتفت تُقصيه من فكرها بهمسها:
_وقح ومُتساهل.
__________________________________
<“ونحن في الإنتظار نسينا أننا ننتظر”>
هذا الوقت الذي نمضيه ونحن ننتظر رُبما يُنسينا أننا ننتظر، فمن الممكن أن نتأقلم على الشيء حتى ننسى ما كُنا ننتظره، لكن إن كان هذا الإنتظار يضيع في أملٍ لحياةٍ سنحياها من جديد، فبالطبع لن يُمكننا أن نعتاد على شيءٍ يُسحق أرواحنا.
“بـعد مـرور يـومين”..
مرا يومان كاملان على الجميع في قلقٍ وترقبٍ ولم يسعف قلوبهم إلا الطبيب الذي أخبرهم فجر اليوم أن الحالة أخيرًا لجأت للاستقرار وتلاشت مرحلة الخطورة عنه، فهنا عادت الأنفاس من جديد لموطنها بداخل القلوب بعدما هجرتهم، فهم الآن في انتظار الإفاقة منه، لقد مرت الثمانية وأربعون ساعة الماضية عليهم بوضعٍ في أوج صعوبته، فلم يتوقع أحدهم أن يغيب “أيـوب” عنهم لمدة يومين في هذا الوضع الخطر، لقد مر عصر اليوم الثالث وهو لم يفق بعد..
في الغرفة الثانية التي ظل بها “يـوسف” يتلقى الرعاية الطبية لجروحه والكسور والكدمات المتفرقة بعظامه، كان “نـادر” معه ولم يفارقه طوال النهار، بل قضاهم برفقته رغم الحزازية التي لازالت بينهما في التعامل، لكن “نـادر” حاول أن يعتاد تدريجيًا على تقلبات “يـوسف” وحالته التي تتبدل بطرفة عينٍ.
جلست “عـهد” أمام “يـوسف” تُطعمه بعدما وافق أخيرًا يتناول الطعام لكن سبق وقطع له “إسماعيل” وعدًا أن أخوته أيضًا سيتناولون الطعام، وإبان ذلك كان “نـادر” معه في الغرفة وشرد في وجه “يـوسف” الذي كان يأكل على مضضٍ كأنه حقًا مجبورٌ على ذلك، وقد لمح بعينيه “نـادر” وهو يتطلع نحوهما فنطق بتهكمٍ ظنًا منه أنه يراقب “عـهد”:
_أنتَ باصص فين متخلينيش أقفل عينك خالص.
انتبه له من وسط شروده وعقد حاجبيه مُتمتمًا باستنكارٍ:
_أنا؟ هبص فين يعني؟.
كاد أن يجاوبه “يـوسف” لكن هناك صوتٌ أتى منعه من الاسترسال حينما ولج الغرفة يتحدث باقتضابٍ كعادته:
_مساء الخير، إزيك يا “يـوسف”؟.
التفت الاثنان نحو”عـاصم” الذي وقف على أعتاب الغُرفةِ ولم يصدق كلاهما نفسه، فمن يتخيل ولو بأحلامه أن “عاصم الراوي” يأتِ لابن شقيقه بعد تلك المنازعات والمُشاحنات، بالطبع هذا حُلمٌ أو رُبما كابوسٌ أزعج أحدهما في نومه، فقد وقف بتعجبٍ ظهر عليه من وجود الاثنين معًا، أما “يـوسف” فزادت صدمته حينما وجده يقترب منه ثم نطق بجمودٍ:
_سلامتك، كويس إنك قومت منها.
تعجب من حديثه وطريقته لكنه رفع كلا حاجبيه وسأله بسخريةٍ تهكمية:
_كويس إني قومت ولا ياريتي ما قومت؟ أصلها بتفرق معلش، بعدين دا أنتَ غريب أوي تقتل القتيل وتمشي في جنازته؟ دلوقتي جاي تفتكر إنك ليك ابن أخ؟ وقبل كدا كنت ابن **** ولا إيه مش فاهم؟ إيـه اللي جابك، هو أنا ناقصني وشك دا كمان؟.
توسعت عينا “عـاصم” وذُهِل من طريقة ابن أخيه ورأى بكلماته موضع الفجور، فيما شعر “يـوسف” في تلك اللحظة وكأن الطوفان ثارت ثورته، لم يعد يتحمل أكثر من ذلك، فكاد أن يترك الفراش لكن كف “عـهد” تسلل ومنعه لكنه دون أن يدرك دفعها وهدر بانفعالٍ:
_أوعــي.
عادت للخلف بصمتٍ فيما حرك هو رأسه نحو “عـاصم” وهـدر بانفعالٍ جم وغضبٍ أعمى:
_فاكرني مش عارف أنتَ جاي ليه؟ جاي علشان تبعد عنك الشُبهات وعلشان محدش يشك فيك، أتطمن أنا مستحيل أجيب سيرتك علشان لو ليا حق هاخده بأيدي، أنا مش عويل علشان استني حد يجيبلي حقي، وسبق وقولتلك أنا بايدي دي هوصلك مكان من الاتنين، يا هحط جنب أمك، يا هوديك مصحة بعدما أطير عقلك منك.
تعجب “نـادر” من طريقته وعنفه وعنفوانه الغير مُبررين، فمهما تمرد هو ومهما عارض وقاوم بالطبع لن يستطع أن يفعل ما يفعله “يـوسف” وإبان انغماسه في الشرود وجد “عـاصم” ينطق بثباتٍ بعدما رفع رأسه يتحدى “يـوسف” بنظراته:
_محدش عارف مين فينا هيودي التاني فين، سلامتك.
تلك المرة أقسم “يـوسف” أن يبرحه ضربًا يجعله ساكنًا في غرفة المشفى إلى أن يأذن الله وتُزهق روحه، تحرك من فوق الفراش بعدما نفرت عروقه واتقدت نيرانه وخيم عليه العنف الغير مُبرر ناهيك عن ألم رأسه لكن ظهور “فـضل” يحول بينهما كان الصمت الذي أتى بعد الأمطار بالأخص حينما دفع “عـاصم” في منكبيه ونطق بصوتٍ جامدٍ:
_أنتَ جاي هنا ليه يا “عـاصم”؟.
العدو الثالث له في تلك الحياة يقف أمامه، فبقدر كراهيته لـ “نَـعيم” و “عبدالقادر” حظى “فضل” على كراهيةٍ أكبر لدى “عـاصم” وذلك ظهر في نظراتهما لبعضهما فيما نطق “فـضل” بنبرةٍ جامدة يطرده للخارج:
_لو عندك دم يا “عـاصم” أخرج برة، أخرج بدل ما ورب الكعبة أجيب راسك تحت رجلي دلوقتي وأخلص منك القديم والجديد كله، أنا لو عامل حساب لحاجة يبقى حساب أختي اللي مش عاوزها تشوفني وأنا بقتل *** زيك، برة ومشوفش وشك تاني، بــرة.
لولا الغباء في بعض الأحيان لما أدرك الفرد مِنَّا أن هناك أشياءٌ أخرىٰ لم يراها ولم تلحظها عيناه، لذا التفت “عـاصم” يلعن غباء “سـامي” الذي أتى به إلى هُنا بعدما وعده الآخر أن سوف يخلصه من الاثنين في آنٍ واحدٍ، هو لم يتوقع أن تصل للقتل أو تكون نهايتهما بالشركة بتلك الطريقة، لذا أتى إلى هنا لكي يُزيح أية شُبهات قد تلتصق به أو اتهاماتٍ قد تدور حول اسمه.
ارتمى “يـوسف” فوق الفراش بأعصابٍ تلفت كُليًا وأراد أن يُفرغ طاقته المشحونة تلك في أحدهم، أراد أن يتحرك ويضرب ويقوم بتكسير كل شيءٍ حوله لكي تخمد نيرانه تلك، رأسه لم ترحمه بل شنت هجومًا ضده وكاد هو أن يخسر في تلك الحرب، كاد أن يبكِ أيضًا مما يشعر به من خوفٍ وفقدٍ وألم فراق والده ومما تسيبوا فيه له ولصديقه، كما أن شعور الذنب تفاقم لديه لكونه أقحم ذاك البريء في طُرقاته.
لاحظت “عـهد” حالته وارتجاف كفه وارتعاش أطرافه فباتت على يقينٍ أنه لم يكن على طبيعته الهادئة وإنما تلك هي واحدةٌ من أمواج غضبه وعنفه فاستأذنت من “فضل” أن يُفرغ الغرفة وقد تحرك “نـادر” أيضًا بتفهمٍ أما هي فجلست بقربه ثم أمالت جسده عليها وجعلت رأسه تستقر فوق كتفها بصمتٍ، أما هو فأغمض جفونه وتناسىٰ كل شيءٍ حوله إلا هي وتواجدها معه.
في الخارج بنهاية الرواق كان “إسماعيل” يقف على مقربةٍ من “ضُـحى” و “قـمر” التي حتى الآن لم تتناول الطعام، بل كرست يومها بين زوجها وشقيقها وهي تصول وتجول من الغرفة هذه للغرفة تلك، كانت ولازالت حتى الآن تدور في حلقاتٍ مُفرغة وكأن العالم لم يلحظ بكائها، فتحرك “إسماعيل” يسحب أحد المقاعد ثم جاورهما ونطق بهدوء:
_بصي يا “قـمر” أنا يمكن مسبقش وأتكلمت معاكِ قبل كدا، بس والله أنتِ زي أختي بالظبط ولو كان عندي أخت كنت هتمنى من ربنا تكون أنتِ، زي ما “يـوسف” أخويا و “أيـوب” كمان بس مش هينفع كدا، لازم على الأقل تاكلي أي حاجة علشان تقدري تتحركي تاني، الدكتور الحمدلله طمنك وقالك الحالة استقرت والقلب انتظم طبيعي، يعني مسألة إنه يفوق تاني دي كلها ساعات، كُلي بس الساندويتش الصغير دا، وأكلي “ضُـحى” اللي حالفة يمين تطلقني لو ماكلتيش، يرضيكي أترمي في الشارع باللي على كتفي؟.
رفعت عينيها نحوه وسرعان ما ابتسمت مُرغمة على ذلك وهي ترى نظراته المتوسلة بمزاحٍ لها، فحركت رأسها نفيًا، أما هو فمد كفه أكثر حتى أخذت منه الشطيرة بأنامل مُرتجفة، بينما “ضُـحى” فلاحظت بهوت ملامحها وارتجاف كفها، ولاحظت أيضًا اختفاء الأوردة من كفها نتيجة عدم ارتشافها للمياه، فسحبت زجاجة عصير ووضعتها بكفها وهي تأمرها بقولها:
_العصير دا لو متشربش الواد الغلبان دا هيتنكد عليه لمدة شهر قدام وهوريه جناني على حق، شوفي بقى دماغي قدام عنادك دا مين فيهم اللي هيكسب، يلا يا حبيبتي أنتِ كدا هتدخلي أوضة تالتة جنبهم.
أومأت موافقةً فأتى “عُـدي” وجلس بقربهم ثم قدم القهوة لزوج شقيقته ونطق بنبرةٍ هادئة يُطمئن أخته الثانية:
_الدكتور طمني وقالي إن الحمدلله الحالة اتحسنت كتير والضلوع بس فيها إصابات وكدمات جامدة بس الآشعة موضحتش كسور ودا علشان جسمه اترزع في العربية مرة واحدة، ولما يفوق برضه كل دا هيتحدد، أتطمني بقى.
كيف لقاموسها أن يحمل الطمأنينة وكل صفحاته مُمتلئة بالخوف؟ لقد شارفت على اتمام اليوم الرابع والليلة الثالثة هنا وهي تُهدر أيامها في خوفٍ وترقبٍ وضياعٍ لكنها أمام أخوتها تصنعت القوة وسايرتهم لكن بداخلها كان الخوف يأكل في داخلها أكلًا، فأكلت هي بعض اللُقيمات لتكتشف أن معدتها تصرخ من الجوع، أما “ضُـحى” فنظرت لزوجها بامتنانٍ جعله يتفهم تلك النظرة وبادلها بسمتها بأخرىٰ ماثلتها.
_________________________________
<“هُنا بالمكان الذي وُضِع الجسد طافت الروح”>
رُبما هذا الصوت الذي كان يتحدث فيتسبب في إزعاجنا قد نفتقده ذات يومٍ، ومن الممكن أن هذا الهدوء الذي تسبب في شعورنا بالملل قد نسير الأرض بحثًا عنه، أما عن تلك الأيام التي قضيناها في انتظار الأشياء التي سبق ورفضناها فنحن سنأكل ايدينا ندمًا على تهورنا وتصرفاتنا الهوجاء معها.
بداخل غرفة “أيـوب” تمدد “أيـهم” فوق الأريكة بتعبٍ ووضع ساعده فوق عينيه يوقف ألم رأسه الذي بات غير مُحتملٍ، لقد شعر أن رأسه من الداخل تتآكل كُليًا ولم يعد يحتمل أي شيءٍ حوله، حقًا شعور الخوف على عزيزٍ هذا هو أصعب ما يُمر على المرء، شعور الفقد لمكانٍ ننتمي إليه هو أصعب ما يُرهقنا.
كان “إيـاد” جالسًا بجوار الفراش وكفه الصغير يمسح فوق كف عمه وهو بالكاد تحكم في عَبراته حتى لا تظهر وتُعلن عن ضعفه، تصخم قلبه بكلماتٍ كُثِر أراد أن يُفصح عنها، فالتفت يتأكد من نوم والده ثم عاود النظر في وجه عمه النائم بسلامٍ وتحدث بصوتٍ مُختنقٍ:
_بلاش تفضل كتير كدا علشان أنا بحبك، مش أنتَ قولتلي لما “آيـات” تمشي أنتَ هتفضل معايا علطول؟ بس أنتَ نايم وأنا خايف من غيرك، أنا بقيت بحب “نِـهال” أكتر من أي حد، أكتر منها هي، ومش زعلان منها تاني خلاص علشان “نهال” بقت مامتي ومش عاوز حد تاني غيرها، أنا بحبك أوي يا “أيـوب” أنتَ صاحبي اللي عارف كل حاجة عني، قوم ومش هخليك تتعصب تاني ولا هضايقك بكلامي وشقاوتي، قوم علشان تعملي عصير لمون بالنعناع من إيدك.
في تلك اللحظة انتشرت صراخات عالية وعويلٍ جعل “أيـهم” ينتفض من مكانه صارخًا باسم شقيقه بلوعةٍ أوقعت فؤاده من محله وتهشمت عظام جسده فلم يَعد الألم مُحتملًا بصراخه:
_”أيـــوب”!!.
هدر بها بغير هدى أو تعقل ظنًا منه أنه فقد شقيقه حتى فزع ابنه وأجفل جسده للخلف فأدرك هو أن صوت الصراخ أتى من الخارج كما حدث أول أمسٍ وقد هرولت “قـمر” نحو الغرفة باكيةً وهي ترتجف فانتبه لها وسألها بصوتٍ مبحوحٍ:
_حصل إيه برة؟.
رفعت عينيها الباكيتين نحوه ونطقت بصوتٍ بالكاد سمعه هو وفسره من بين ارتجاف كلماتها:
_فيه شاب توفى برة وأهله عرفوا وفضلوا يصوتوا، أنا خلاص أعصابي مش متحملة والله، يا رب يفوق ويطمني عليه بدل ما الخوف عمال ياكل فيا كدا، تعبت وأعصابي باظت كل شوية صريخ وصويت وكل مرة بتمنى موتي قبل…
لم تقدر على تكملة الجملة فسكتت وأرتمت فوق الأريكة بتعبٍ وهي تبكي أمام “أيـهم” الذي تفهم حالتها وسكت، بينما “إيـاد” فمال يُلثم كف عمه باكيًا ثم رفع رأسه يُلثم رأسه فوصلته همهمات ضعيفة تخرج من بين شفتيه المُطبقتين فوق بعضهما، تحرك قلب “إيـاد” فزعًا ومال يضع أذنه فوق فم عمه فوصلته الهمهمات مُجددًا فانتفض يُحدث والده بلهفةٍ حماسية:
_يا بابا، “أيـوب” بيفوق.
هرولت “قـمر” نحوه بلهفةٍ باكية فوجدت مُقلتيه تتراقصان أسفل الجفون وهو يُجاهد لفتحهم، أما عن شفتيه فقد التصقتا ببعضهما نتيجة جفاف حلقه وما إن فرق شفتيه عن بعضهما همهم بصوتٍ أعلىٰ أو رُبما يتألم بصمتٍ فحمدت ربها باكيةً وسرعان ما عاد “أيـهم” الذي هرول للخارج بالطبيب يتفحصه ثم فتح عينيه وداهمه بضوءٍ لكي يتأكد من وعيه وبعد فحصه له ابتسم بهدوءٍ ونطق بثباتٍ:
_الحمدلله فاق أهو، معلش بس استأذنكم برة علشان نقدر نتابع الحالة ونشوف تبعات الإفاقة دي، اتفضلوا ومتقلقوش.
أخرجهم من الغرفة ليقومون بزف الخبر السعيد للبقية وقد ركضت “قـمر” بخطواتٍ واسعة نحو شقيقها الذي استقر برأسه فوق كتف “عـهد” وتمسك بها بذراعه الحُر لكنه استفاق على صوت شقيقته تهتف باكيةً بمشاعر متباينة:
_”أيـوب” فاق يا “يـوسف”.
رفع رأسه بلهفةٍ هو الآخر وكأنه طفل صغيرٍ جلس في انتظار والده بأروقة المشفى خوفًا من لحظة الفقد القاتلة، والآن يشعر أن الروح كأنها عادت له من جديد، انتفض دون أن يعي لألم جسده وعظامه وتجاهل الوجع النفسي والعضوي ثم تحرك نحو الخارج يتعرج على قدمه المُتألمة حتى وجد الرواق ممتلئًا بحشدٍ جعله يقف خلفهم في انتظار رؤيته لكن”عُــدي” أتى يُسانده ثم أجلسه فوق أحد المقاعد وطمئنه بقوله:
_فاق الحمدلله بس لسه لحد معانا شوية كمان، متقلقش الدكتور لحد دلوقتي متطمنا كُلنا وقال إنه اتحسن وحاله بقى أفضل، ادخل يلا علشان جرحك دا ميتفتحش تاني مش ناقصين بهدلة.
ابتسم له “يـوسف” وربت فوق كفه بامتنانٍ له ثم عاود النظر لغرفة “أيـوب” وكأنه اشتاق له خلال الأيام الفائتة عليه بدونه، حقًا اشتاق لرفيقٍ كان أبًا له وفرض عليه أمانه وحمايته ويوم أن تطلب الأمر روحه فداه بها، الآن عاد الأمل يتدفق بداخله كما المياه التي تتدفق بالقناة ثم تَصُب على أرضٍ عانت من الجفاف حتى تجرف سطحها.
أتى “نـادر” وجلس بجوار “يـوسف” و”عُـدي” الذي اسنده هو الآخر فابتسم له “نـادر” وسأله بمزاحٍ خفي:
_على ما أظن كدا كنا صحاب أنا وأنتَ صح؟.
حرك “عُـدي” عينيه نحوه وابتسم له بصفاءٍ ثم أكد ذلك بقوله الهاديء الذي لم يحمل أي ضغينة في نفسه:
_صح، وعلى ما أظن برضه إنك نسيتني.
تلاشت بسمة “نـادر” وحل الوجوم فوق وجهه بصمتٍ فهو حتى الآن يشعر بالنقص بينهم جميعًا، يشعر كأنه أضحى منبوذًا ولا يُطاق، أراد أن يرحل من هنا لكي يتقوقع في بيته بعيدًا عن الأعين يكتفي فقط بجلد ذاته كل يومٍ.
وقف “عبدالقادر” يحمد ربه كثيرًا على عودة ابنه من جديد وبجواره “نَـعيم” الذي لم يقل عنه فرحًا، كانت مشاعرهم جميعًا تتناقض من سابقتها خاصةً مع الأمل الذي أعطاه لهم الطبيب أن الأمر فقط يتطلب ساعات قليلة لكي يتحدث ويستعيد عافيته تدريجيًا، أما “قـمر” فظلت بين أحضان “عـهد” التي ضمتها لكي تواسيها وتحفظها في رعايتها وكأنها اختارت أن تلجأ للسلام من بعد الحرب.
__________________________________
<“إن ظنوا بكَ شرًا لا تخذلهم، أريهم الشر”>
بعض البشر في تلك الأرض تولوا مُهمة القُضاة فباتوا يصدرون الأحكام على غيرهم بغير دليلٍ مؤكد لما يصدرونه، حيثُ تولوا الحكم على غيرهم بالشر وباتوا متأكدين من ذلك، فإذا رأيتهم ظنوا بك شرًا الأفضل لا تخذلهم وأريهم كيف يكون الشر إذًا، ومن ثم اقتنص لحقك المهدور..
في مشفى الأمراض العقلية كان “مُـنذر” يستعد للرحيل لكي يذهب إلى المشفى الآخر ليطمئن على الشباب كما اعتاد أن يفعل منذ يومين، فهو يذهب لعمله مُبكرًا ثم ينتظر مرور ساعات النهار ويرحل للمشفى يجاور عمه ويطمئن على “يـوسف” برفقة الشباب ثم يطمئن على “أيـوب” ويبقى لنهاية الليل ويرحل مع عمه والشباب.
انتظر بعد الدقائق ثم تحرك صوب غرفة “فُـلة” التي هدأت أوضاعه معها كثيرًا ولجأ كلاهما إلى هُدنةٍ بكل آدمية وتهذب، لكنه الآن لا يعلم لما يُخبرها بأمر رحيله لكنه تحرك صوب مكتبها وطرق الباب حتى أذنت له فولج مكتبها الفوضوي ليشعر بالضيق، الأوراق مُبعثرة فوق المكتب وهي تأكل شطيرة كبيرة الحجم، صوت هاتفها يصدح بموسيقى صاخبة، نعم هي طبيبة أمراض نفسية، لكن هيئتها تؤلم النفس وتُهلكها، لذا وقف يتحدث باقتضابٍ:
_أنا هضطر أمشي علشان ألحق أروح المستشفى أتطمن على “أيـوب” و “يـوسف” وقولت أبلغك طبعًا.
أومأت موافقةً وردت عليه بثباتٍ:
_تمام مفيش مشاكل، “جـواد” برضه هيروح يتطمن على “يـوسف” وراحله إمبارح تقريبًا، تقدر تتفضل حضرتك.
حديثها المُنمق لم يتناسب مع الفوضى المحاوطة لها وهو اعتاد في التربية العسكرية التي تربى بها أن تلك الفوضى تؤثر على العقل والنفس، لذا لم يتمالك نفسه أكثر فتحرك نحوها وقام بسحب الأوراق يُرتبها فوق بعضها بحركاتٍ سريعة ثم قام بمسح الطاولة بالمحارم الورقية، ثم مد كفه يُغلق الموسيقى الصاخبة التي تصدح من هاتفها، وهي تراقبه بتعجبٍ، لكنها لم تكترث كثيرًا لذا امسكت الشطيرة واعادت تناولها من جديد فوجدته يسحبها منها وهو يقول بلهجةٍ آمرة وكأنها طفلة مُشاغبة بأحد الفصول الدراسية:
_أولًا، مفيش حد طبيعي ممكن يشتغل في الفوضى دي وينجح أو ينجز في مهامه ووقته، ثانيًا حضرتك دكتورة نفسية وأكيد مُدركة أهمية كل حاجة حواليكِ وانعاكسها عليكِ، ثالثًا الموسيقى دي عالية جدًا وبتأثر على الحواس وبتقلل التركيز والانتباه، رابعًا إزاي بتاكلي وأنتِ بتشتغلي.
اغتاظت منه ومن طريقته وتطفله عليها فخطفت الشطيرة من يده وهي تقول بلهجةٍ مُحتدة:
_خامسًا مالكش دعوة بقى وهات دا.
سحبته منه كفه وقبل أن تستأنف الأكل خطفه من يده وأشار على الأريكة بقوله آمرًا لها:
_روحي كُلي هناك يا إما مش هتاخديه تاني.
ضيقت جفونها بشرٍ ثم حركت كتفيها بلامبالاةٍ وفتحت الدرج وأخرجت علبة الطعام منه ثم تفوهت بلامبالاةٍ كأنها لم تكترث به:
_بألف هنا وشفا معايا كتير.
رغمًا عنه ابتسم، ابتسم لأنها الوحيدة التي تجعله يبتسم مهما كان به من ضغوطٍ نفسية وعصبية وآلام حادة، لذا تنهد بعمقٍ ثم اقترب منها خطوة وسألها بثباتٍ:
_ينفع آخد واحد كمان طيب؟.
ابتسمت له ومدت يدها بالعُلبة وهي تقول برقةٍ تتنافى مع طريقتها السابقة في التعامل والكلام:
_العلبة كلها تحت أمرك، اتفضل.
أخذ شطيرة أخرى بدون أي سبب يفسر له فعله هذا لكنه اعتذر منها بقوله يفسر لها سبب تناوله الطعام الخاص بها:
_أنا لسه قدامي كتير لحد ما أروح فأخدتهم آكلهم وأهو بدل ما تاكليهم لوحدك وتجيلك تُخمة لا قدر الله يعني، أنا بنقذك.
ضحكت رغمًا عنها وسكتت فيما ودعها هو ورحل، هو الآن يشعر أن أرضه المُحتلة سابقًا تعود له من جديد بسلامٍ لم يعهده، لقد عاش كما النازح التارك بيته وأرضه ومعهم الروح والقلب ورحل فقط بالجسد المتألم يعيش وسط الخيام التي وضع بها كل آماله، والآن فقط يُدرك أن الحقوق يُمكن أن تعود لأصحابها، أما هي فأيقنت أنها أحبته هو، هو دونًا عن بقية الرجال من استطاع أن يجذبها نحوه، لذا تنهدت بولهٍ وهي تتذكر مشاكسته لها ومشاكستها له وكيف شاركها الطعام وهي تأمل في مشاركة المزيد معه.
خرج من غرفته وتناول الشطيرتين باستمتاعٍ ثم بدل ثيابه لسترة سوداء عملية لكنه شعر لوهلةٍ أن هناك من يراقبه أو رُبما يتتبع تحركاته، فوقف محله في الرواق يتصنع الانشغال بالهاتف فوجد أحد العاملين يظهر وهو يقوم بتنظيف رُخام الرواق، لم يكترث به كثيرًا ورحل من المكان لكي يذهب للمشفى.
استطاع بمعاونة دراجته البخارية وحريته في القيادة أن يصل لهناك بعد مرور ساعة أو ربما أقل على الرغم من بُعد المسافات عن بعضها، ولج مباشرةً موضع جلوس عمه بالخارج فابتسم له الآخر ثم ربت فوق كتفه وهو يقول مُثنيًا على فعله:
_أنا مبسوط أوي بيك وأنتَ كتفك بكتفي وكتف الشباب هنا، عاوزك تاخد عليهم دول عيلتك وعزوتك وهما اللي باقيين ليك من بعدي، كلهم بيحبوك هنا وكلهم عاوزينك معاهم، شوفت “إسماعيل” بيفرح إزاي بيك؟ ولا “سـراج” هو سايبلك بنت أخته أمانة، وأنا واقف اتباهي بيك وسط الكل.
_تتباهى بيا..!!
تفوه بها “مُـنذر” بتعجبٍ واستنكارٍ معًا فأكد له عمه ذلك بقوله الصارم الذي لم يقبل التشكيك به:
_آه طبعًا، لما أبقى واقف وراسي مرفوعة إنك ابن أصول مش سايب الشباب ومقدر وقفتهم معاك مش ناسيها، أفرح بيك وأشيلك فوق راسي كمان، يابني المواقف دي بتبين ولاد الأصول ومعدنهم الحقيقي، ولما المصيبة بتتحل كل واحد بيفتكر مين وقف معاه ومين وقف في صفه ومين حاول، ومين مهتمش أصلًا، علشان كدا أنا فرحان بيك.
يبدو أن الحياة تُقيم معه معاهدة سلامٍ في كل شيءٍ، اليوم يرى بعينيه حياة أخرى لم يكن يلحظها أو يتوضحها لكن يبدو أن هناك أشياءٌ لم تَفُته بعد، لو كان ماضيه طبيعيًا كما غيره لكان الحال تبدل تمامًا معه، رُبما كان بدأ في حياةٍ أخرى أكثر استقرارًا ورُبما كان صارح عمه بكل شيءٍ ارتكبه ورُبما كان أعطى لـ “فُـلة” فرصة أن تتوغل أكثر في حياته، أشياء كثيرة وقع في التفكير فيها وتمنى أن يُحققها.
بــعد مـــرور ســـاعات..
استفاق “أيـوب” أخيرًا وبدأ يتحدث ويُدرك كل شيءٍ حوله، لم يتذكر كيف مرت الأيام عليه بداخل المشفى ولا أي شيءٍ بعد انقلبت به السيارة واندفع جسده للأمام ثم ارتد للخلف ومن بعدها لم يفقه شيئًا مما حدث، كان يشعر بآلامٍ متفرقة في جسده وعظامه ورئتيه، حتى ضلوعه لم يقدر على آلامها حتى النفس العابر من بينهم بات مؤلمًا.
علمت “قـمر” بإفاقته فعادت الروح تسكن جسدها وعاد النفس الراحل لها، لقد أجزمت أن الحياة أُضيئت من بعد الظلام في غيابه، والآن العودة هي التي تُحييها من جديد، ركضت كما الطفلة التي تغيب والدها عن البيت في سفرٍ طال دون أن يُطمئنهم عليه حتى ولو بسماع صوته، والآن عاد مُجددًا لهم بكامل جسده وروحه وليس فقط صوته، فتحت باب الغرفة التي فرغت عليه ووقفت تُطالعه بشوقٍ وهي تبكي أمامه، وفي تلك اللحظة توقفت قدماها عن الحِراك خشيةً من أشياءٍ كُثِر.
رآها هو أمامه وهي تبتسم وتبكي في آنٍ واحدٍ فتنفس بعمقٍ كما الغريق العائد مُجددًا بأنفاسٍ متقطعة لكنها دلت على حياته وأنه عاش بعد الممات، رأى الذبول في وجهها وعينيها رغم تشوش الرؤية بسبب ألم رأسه، فاستعد للقائها..
_تعالي يا “قمر”.
تفوه بها بعدما فرق ذراعه المتألم عن جسده ليجدها تخطو نحوه بارتجافٍ وكأنها تُصارع لأخذ تلك الخطوة، لم تصدق أنها تسمع صوته مُجددًا بعدما حُرِمَت منه، لا تُصدق أنه عاد مُجددًا ويبتسم لها ويطلب قُربها، كادت أن تركض كما القطة وتلتصق به لكنها تراجعت حينما رآت ألم جسده المُضمد فنطقت بصوتٍ مُرتجفٍ ينذر بالإنفجار باكيًا حينما استشفت وضعه:
_بلاش علشان لو قربت متعبكش.
ابتسم “أيـوب” لها بسمته الهادئة ونطق بصوتٍ رخيم يؤكد لها حقيقة لم تلمحها هي في هذا الوضع رغم تيقنه أنه سيتألم من أقل جُهدٍ:
_والله ما هيريحني غير قُربك، تعالي.
حسنًا هي لم تصمد أمامه أكثر من هذا لذا أقتربت منه تحتضنه بمشاعر متضاربة مع بعضها حيث اللهفة عليه والخوف من ألم جسده ووجعه حينما تقترب منه، بينما هو فلم يصدق أنها بين ذراعيه أخيرًا وقد تنهد بعمقٍ ومازحها بقوله وهو يحاول ضمها له أكثر بمجهودٍ خُرافي:
_مكتوبلي أكمل الطريق معاكِ علشان نروح الجنة سوا.
هذه الجملة كانت القشة التي قسمت ظهر البعير فما إن تذكرت هي غيابه وحديثه قبل الحادث انتحبت وبكت بين ذراعيه بصوتٍ عالٍ جعله يضمها أكثر بقدر ما سمح له ذراعه الموجوع وظل يُهدئها وهو يتشبث بها كأنها طوق النجاة الذي جعله يعود من جديد للشاطيء من بعد الغرق الذي كاد يجعله يتوه وسط الطوفان غارقًا، لاحظ صوت بكائها المكتوم فحاول أن يضمها أكثر وهو يسألها بحنوٍ:
_أنا أهو الحمدلله بفضل ربنا سبحانه وتعالى، مفيش حاجة حصلت غير إن دا ابتلاء وأنا راضي وصابر بيه، ادعيلي ربنا يرزقني بصبر “أيـوب” علشان استحق الأجر، ببعدين مالك بتعيطي ليه؟ الحمدلله يمر المُر برحمة الخالق.
ابتعدت عنه برفقٍ تمسح وجهها بكلا كفيها ونطقت بصوتٍ مُختنقٍ من البكاء الذي استوطن حلقها:
_بعيط علشان كل شوية يخوفوني عليك، أنتَ عارف إن من ساعة بابا وأنا بخاف أوي، خوفت عليك أوي وأول مرة أحمد ربنا إني كنت صغيرة وقت بابا، حسيت بوجع “يـوسف” وتعبه وإزاي شاف كل دا وسكت، كنت هعمل إيه من غيرك؟.
توسعت بسمته أكثر ورفع كفه يمسح على وجنتها وهو يقول بقلة حيلة مُرغمًا على ذلك لكي يجعل الضحكة تعود لوجهها بدلًا من الذبول المُخيم في ملامحها:
_يا ستي كنتِ روحتي لـ “عبدالواحد” ابن تيتة “لـواحظ” دا الواد الله أكبر شقته اتبنت بالدور كامل ومقولكيش موضبها نظام تركي.
توسعت عيناها ما إن أدركت ممازحته لها ومالبثت مرور ثوانٍ حتى علا صوت ضحكاتها معه ليضحك هو الآخر معها ثم ضمها له مُجددًا وهو يُجاهد بصبرٍ لم يملكه على آلامه لكنه أجبر نفسه أن يتحمل وهو يُردد بنبرةٍ خافتة
_يا صبر “أيـوب”.
في تلك اللحظة فُتِحَ الباب وركض منه”إيـاد” وخلفه “آيـات” وخلفهما “أيـهم” لكن تلك المرة عادت الضحكات لملامحهم وتوردت وجوههم، وأكثرهم كان “أيـهم” التي انعكست الأحوال على وجهه بعودة شقيقه، بينما “قـمر” فانسحبت هي من جواره تقف بجوار الفراش، وحينها اقتربت “آيـات” منه تُلثم جبينه ومازحته بقولها باكيةً:
_لو أعرف إني لما أمشي هتتعب كدا كنت فضلت معاكم العمر كله، ربنا يردلك عافيتك من تاني والحمدلله حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه إنك معانا تاني بخير، كنت واثقة في كرم ربنا علينا.
ابتسم هو لها وأومأ بعينيه فيما قفز “إيـاد” فوق الفراش حتى اهتز بعمه الذي تأوه بألمٍ عنيف فاعتذر منه هو بلهفةٍ ثم ارتمى عليه يحاول أن يحتضنه، فجاهد “أيـوب” ألمه وضمه بذراعه ونطق بصوتٍ تخللته الراحة:
_أنا مبسوط أوي دلوقتي إنك في حضني، عارف لو ربنا كرمني وخلفت نونو صغير أنا هقوله إني جربت مشاعر الأبوة دي قبل كدا وعارف، أنتَ ابني وحبيبي وروح قلبي.
ابتسم “إيـاد” له بعينين مُغرورقتين بالعَبرات وضم عمه من جديد فاقترب “أيـهم” منهما وضم الاثنين معًا وهو يتنفس بحريةٍ أخيرًا، وأثناء هذا العناق فُتِحَ الباب من جديد وتلك المرة كان “يـوسف” الذي وقف يأسر “أيـوب” بعينيه، وقف أمامه وهو يتمنى أن يركض له ويحتمي به من نفسه، سار إليه بخطى وئيدة وتواصلت النظرات حينها ببعضها، وقد ابتسم “أيـوب” له ونطق يمازحه بقوله:
_هتلاقي زعلان دلوقتي علشان قومت.
ابتسم “يـوسف” بسخريةٍ وبدون أي حديثٍ أو تفسيرٍ اقترب من “أيـوب” وباغته حينما عانقه أمام الجميع وكأنه يؤكد لنفسه أنه لازال حيًا، عناقه أتى فجأةً وغير متوقعٍ منه بينما هو أراد أن يُبرهن لنفسه أن مخاوفه تبددت بأكملها بعودة “أيـوب”، عانقه وحاول أن يتمسك به كما الطفل الصغير، عانقه وكأنه هذا هو العناق الأخير.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)
عمييقة