روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والثامن والعشرون 128 بقلم شمس محمد

موقع كتابك في سطور

رواية غوثهم الفصل المائة والثامن والعشرون 128 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والثامن والعشرون

رواية غوثهم البارت المائة والثامن والعشرون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والثامنة والعشرون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثالث والأربعون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
الليل أقبل وأنا معه أتيتُ لبابك..
أعلم أنني العاصي لكنك عظيم التوبة
تقبل من طلب أن يبقى في رِحابك..
أتيتُ بعدما من نفسي سأمت
ومن نفسي بنفسي قُتلت لكني
والله أحبك أولًا وأخشى عذابك..
أعلم أنك أنتَ الغفور الرحيم
وأنا المُذنب اللئيم، لكني والله
يا مولاي أود أن أأمن عند بابك..
_”غَـــوثْ”
__________________________________
في السابق كنتُ أتعجب من كلمة الاعتذار سائلًا نفسي بكل حيرةٍ لما قد يتوجب على المرء أن يعتذر؟ لطالما كنت رجلًا تربى على أن الاعتذار يُسقط من هيبة الرجال ويُقلل من قيمتهم، تلك الكلمات الغريبة التي تحمل الأسف والعُذر لم أفهمها قط، لكن لا أعلم لما منذ أن استهديت لسُبلكِ وأنا أرغب في الاعتذار منكِ؟ حقًا أود أن أُبدي آسفي وعُذري عن كل فعلٍ صدر من العالم تجاهك وأبكى عينيك الجميلتين، حتى أنني أصبحت في عُمق افكاري أرغب في تجديد آسفي لكِ ولقلبك حتى عن تلك الأشياء التي طالتك من قبل دخولي لأرضكِ، رُبما تحسبينها مجرد كلمات فحسب، لكنها حقيقة كُتِمَت في ثنايا قلبي، فدعيني أمليُ عليكِ أسفي وأنطقها علنًا لكِ أنني آسفٌ أنا، أنا الذي لم يخضع لأحدٍ، إلا لسهم عينيك وما امتلكه من قوةٍ على مُحاربٍ عاش يعهد الإنتصار ولم تأتيه الهزيمة إلا منكِ أنتِ، فهل يُعقل أن من وصفوه الناس بـ ظافرٍ أمام جيوشٍ من الأعداء والأحزاب، أن يَلقى هزيمته على أهداب عينين؟ والأدهى أيضًا أنني بعد هزيمتي تلك أعتذر منكِ، يبدو أنهم سينعتونني بالجنون أيضًا، لكن لا يَهم، فأنا في نهاية خطابي لكِ أجدد آسفي على قدومي إليكِ متأخرًا، وأجدد آسفي نيابةً عن العالم الذي تسبب في بُكائك، وأجدد آسفى لهزيمتي أمامك، لكني لن أجدد أسفي لاقتحامي أسوارك وسبر عينيك وأغوارك، فإن كنتُ في الفُلك تائهًا، كُوني لي كوكبًا ودعيني أطوف في مدارك، وإن كنتِ لا تعرفينني من أنا، سأخبركِ أنني الضائع الذي أرشده العالم بأسره لديارك ..
<“نحن قومٌ نستمسك بالفرح، خشيةً من قدوم الأحزان”>
اللحظات السعيدة، الأوقات الصاخبة بأصوات الضحكات العالية، نظرة العين في راحةٍ لأوجة تُحبها وتُحب النظر لها، نبض القلب بحركاتٍ غير مُرتبة ركضًا خلف فرحةٍ حيوية تدُب فيه الروح مُجددًا، كل تلك المشاعر التي تُداهم القلب وتسكنه ماهي إلا نتاج فرحة لم يعهدها القلب في السابق فأضحى خائفًا أن تُبرحه ويفتقدها…
أضواء مُزينة، ستائر بيضاء أطرافها تطير في الهواء كأنها حمام سلام يُحلق فوق الرؤوس، نسمات هواء في أواخر الشتاء أتت لترافق الحاضرين، ضحكات واسعة أثناء جلسة التصوير بجانب الخيول، أضواء مُبهرة للأعين سقطت على أوجه الحاضرين بزفافٍ حقق نظرية السهل الممتنع، حيث تم بشيءٍ من التواضع وفي داخله كان الدُر كامنًا..
كانت “آيـات” بجوار “تَـيام” أثناء جلسة التصوير التي كانت بمشاهد رومانسية لهما سويًا ومعهما الخيل الأبيض اللامع وباقة زهور من وردات “التوليب” الأبيض الذي يُشبهها كثيرًا، أما “تَـيام” فغرق وغاص في عينيها ببراءتها المُعتادة، تلك التي أطلق عليها حمامة السلام التي تأتي في كل صباحٍ تُصادق رفيقها وتستقر فوق كتفه بنعومةٍ، وقد وقف “إيـاد” من مسافةٍ متوسطة يراقبها بحزنٍ وهي تبتعد عنه..
لطالما كان هو الأكثر حاجةً لها من بين ساكني البيت بأكمله، هو من تربى على يديها وهو من أعلن لها عن شدة حاجته لها، هي وفقط التي داوت جراحه من بعد رحيل أمه عنه، ففي غياب الأم، كانت هي الأم والعالم بأسره، وقد رآته هي فتبدلت ملامحها لشيءٍ من الحزن ثم تركت زوجها وتحركت تخفض جسدها للصغير وهي تبتسم له برقتها المعهودة وقالت:
_مش عاوز تتصور معايا؟.
حرك رأسه بتيهٍ وهو يقوم بفرض الحصار على عبراته بين أهدابه الطويلة فيما ضمته هي تمسح فوق ظهره وهي تحدثه بنبرةٍ خافتة:
_متزعلش، بس أنا مستحيل أخليك لوحدك، هكلمك كل يوم وكل شوية وزي ما عودتك هعرف صليت وحفظت وسمعت ولا لأ، بعدين كدا “نـهال” تزعل منك، مش هي معاك؟ زعلان ليه بقى؟.
ثبت عينيه على وجهها بعدما كان يخفيهما وهتف بصوتٍ أقرب للبكاء:
_علشان أنتِ مشيتي، مش كنتِ هتسكني جنبنا وكنت هجيلك كل يوم؟ المكان بعيد عليا أوي ومش هعرف آجي لوحدي ليكِ، وبابا مش هيرضى يجيبني هنا كل يوم أشوفك، وخايف “نـهال” تمشي هي كمان زيك، مش عاوز أرجع لوحدي تاني.
بالطبع ما عاشه من ألمٍ بسبب أمه جعله أكبر من أمثال عمره حتى أن الخوف لديه أمسى أضعافًا، لذا كانت هي الأحن حينما لثمت جبينه ومسحت على خصلاته الموضوعة فوق جبينه وهتفت بعينين مغرورقتين وصوتٍ مبحوحٍ:
_لا يمكن هي تسيبك، علشان هي بتحبك وبتحب بابا ومش عاوزة غيرك أنتَ، أنا مشيت علشان دي إرادة ربنا إني أكون هنا، بس ماما مش هتسيبك متخافش، وحاجة كمان مهمة، أنا أتفقت معاهم إن الأجازة اللي هتاخدها هتيجي تقعد هنا معانا وتتعلم تركب خيل، إيـه رأيك؟.
حسنًا هي كما هي لن تتغير بكل ما فيها حتى حنو كلماتها التي تُطيب أقوى الجراح لذا ضمها الصغير بذراعيه الدافئين وهي تحفظه في كنفها بين جناحيها ثم سحبته معها لتجد “تَـيام” أتى وحمله فوق كتفيه لكي يشاركهما الصورة.
بجوارهم وقف “سـراج” يُمعن نظراته بها لا يُصدق أنها هُنا، أحقًا بعد تلك الصراعات والهجر والفراق هي بين ذراعيه لأجل صور الزفاف؟ أحلمٌ هذا أم حيلة من عقلٍ خشى على القلب من علة العشق فقام بخداعه برسم صورة كاذبة لها؟ لم ينس أنه كان شتيتًا بتلك الدُنيا وهي من تغربت عنه، لكن سرعان من جال بذهنه قول “قيس بن الملوح” عن شتيتين أمسيا سويًا كحالهما معًا بعدما تغربت عنه
“وَقَد يجمعُ الله الشّتيتينِ بعدَما
يظنّانِ كلّ الظنِّ أَن لا تَلاقِيا”
وقف أمامها مدهوشًا ثم مال على أذنها يهمس بصدقٍ آسرًا بحركته تلك نظراتها بعينيه الزرقاوتين:
_صدق اللي قال إن اللي أوله شرط أخره نور، أتشرطتي عليا أفوق لنفسي وحياتي علشان تبقى أخرتها أنتِ، وعدتي ووفيتي يا “نـور”.
ابتسمت برقةٍ ثم وضعت رأسها فوق كتفه بأمانٍ تعلم أنها تعيشه معه هو، تعلم أن برغم هجرها له وبُعدها عنه وتركها لحياته وقساوتها عليه إلا أن قلبها لازال خاضعًا لسطوته هو، وقد أتت “چـودي” لهما ركضًا لتلتقط صورًا لها برفقتهما وقد وقفت مثل الملاك الصغير بينهما وهي تضحك بسعادةٍ لأجل خالها الحبيب ثم تركتهما وركضت لـ “مُـنذر” الذي حملها بين ذراعيه وسألها باهتمامٍ:
_أنتِ زعلانة صح؟.
فاجئها حينما داهمها بسؤاله حتى استقرت بعينيها فوق وجهه وحينها أومأت موافقةً وبكت فضمها هو بلهفةٍ ووضع رأسها فوق كتفه _رغم أنه استنكر هذا الفعل_ ومسح فوق خصلاتها الشقراء فوجدها تهتفت باكيةً:
_أنا مش عندي بابا وماما و “سـراج” بس هو اللي أعرفه خايفة يسيبني ويكون مش عاوزني تاني، أنا بحبه أوي.
شعر بارتجافتها فوق كتفه فمسح فوق ظهرها وهو يُهدهدها بلطفٍ ثم أخرج الطبيب المحبوس في روحهِ وهاتفها برقةٍ تتناسب مع عمرها وتمسح فوق جرحها:
_عارفة؟ هو لو سمعك هيزعل منك، لأن أصلًا “سـراج” متجوز علشانك أنتِ، علشان يكون عندك بيت زي صحابك وعندك ماما وبابا، وهتعيشي معاهم علطول کمان، هو بيحبك أوي وكل شوية ييجي يتطمن عليكِ، متزعليش ويلا بطلي عياط، ومش هقولك على المفاجأة اللي هعملهالك.
عادت برأسها للخلف تسأله بعينيها الباكيتين فوجدته يمسح على أرنبة أنفها بحركةٍ خاطفة يُداعبها ثم قال بصوتٍ خافت:
_لما الفرح يخلص خالص والناس دي تمشي هاخدك على الموتوسيكل ونروح نجيب حاجة ليكِ، أجيبلك حاجة حلوة ولا عروسة تلعبي بيها؟.
ضحكت هي بسعادةٍ ثم أشارت بكفها الصغير برقم اثنين لتجده يضحك عليها ثم مرر أنامله بصفعةٍ كاذبة فوق وجنتها هاتفًا بمزاحٍ أصبح يخرج لها فقط:
_يا استغلالية، شكلك زي خالك.
_مش إحنا صحاب برضه؟ الله.
هكذا جاوبته ضاحكةً بيأسٍ حتى ضمها هو ثم مسح على خصلاتها وهو يود حقًا أن يحميها، يرى نفسه فيها وسط العالم وهي بدون أبوين مثله، يعلم خطورة مشاعرها وحاجتها لهم، وهو أيضًا مثلها يدرك خطورة العالم على من مثلها، لكنه يخشى عليها أن تُسرق من بينهم ويحدث لها ما حدث معه، لذا قرر أن يُكرس وقته لها، هكذا برر لنفسه لكن الجزء الخفي منه يعشق طفولته معها هي، يعشق الأحاديث التي تثرثر بها ويعشق ألعابها التي تشاركه فيها ويعشق براءة قلبها وضحكتها حينما تمازحه أو تصفعه ثم تركض لكي يركض خلفها، وهي الوحيدة حتى الآن من استطاعت التغلب على شيطانه لتقف مرصادًا بالبراءةِ..
تمامًا تبدو كدمية صغيرة شقراء الملامح والوجه يُشهر في وجهها السلاح فيجدها تركض نحوه تضع زهرة فوق رأس سلاحه وكأنها لا تخشاه، لذا وقف وسط البقية وهي بجواره تضحك بسعادةٍ بعدما أفشى لها عن خطته لاسعادها حتى ينل ضحكتها الراضية ونظراتها المُطمئنة بعدما بدد خوفها بلطف كلماته.
__________________________________
<“اجتمع الشتيتان سويًا في نهاية المطاف”>
النصر، تلك الكلمة التي قد يقضي المرء عمره كاملًا نظير لحظة يشعر فيها بالنصر على العالم بأسره، تحديدًا بعد أن يُخذلك العالم ويقسو عليك ويُحاربك سكانه، ثم تجد شخصًا غير البقية يقف في الحرب أمامك يواجه العالم لأجلك ويوم أن تسأله عن السبب تجده فقط راغبًا في قُربك..
دقائق مرت عقبها صوت الصيحات والمُباركات والزغاريد العالية بتحرك “تَـيام” نحو البيت وفي يده زوجته وتحرك “سـراج” للسيارة وأيضًا معه زوجته، أما البقية فوقفوا يقومون بتوديعهم، وقد اقتربت “تـريز” من “تَـيام” تحذره أمام الجميع بدون خجلٍ:
_ولا!! أوعى تزعل البت ولا تضايقها، بالراحة يا روح أمك بدل ما أجي أجيبك من شعرك مش هيفرق معايا الهيلمان دا كله، دي الغالية بنت الغالية، لو زعلتها مش هيكفيني فيك السمان كلها بحواريها.
انتشرت الضحكات عبر تهديدها له وقد خجل “تَـيام” من حديثها وهتف بضجرٍ متحليًا بشجاعةٍ زائفة أمامها:
_خلاص يا خالتي، روحي وبنت الغالية في الحفظ والصون.
ضحكت له ثم اقتربت تحتضن ابنة رفيقتها وهي تبكي والأخرى أيضًا تشاركها البكاء، وقد ودعتها أسرتها وعائلتها وصديقاتها أيضًا وآخرهم كانت “جـنة” التي ضمتها بقوةٍ وهمست لها بامتنانٍ:
_أنا هوعدك أفضل زي ما أنا ومش هخذلك، شكرًا إنك لحقتيني من نفسي قبل ما أضيع الحلو اللي كان جوايا، أنا بحبك أوي وهتفضلي أحسن أخت كسبتها في حياتي.
ضمتها الآخرى بحبٍ خالصٍ وهي توصيها على نفسها وحالها حتى ابتعدت عنها الأخرى وأتى دور الشقيقين وخاصةً “أيـهم” الذي ضمها بقوةٍ بوداعٍ صامتٍ لم ترافقه الكلمات بل أعربت عنه النظرات..
تمامًا كعصفورٍ كنت ترعاه وتأويه ثم تفتح له القفص طواعيةً منك ليخرج منه بكامل إرادته، حينها فقط ما يُريح العين ويُبهج القلب هو منظره أثناء التحليق، لكن عند العودة للبيت وتدرك أنه فرغ من صوته ومواساته وتغريده ستدرك فداحة الخطأ المُرتكب، لكن هل يعقل أن تركض خلف طيرٍ نال حُريته في حقلٍ أحبه لكي تُكبله مُجددًا؟ هكذا شعر وهي بين تنسلت من بين ذراعيه وتقترب من “أيـوب” الذي يبدو أنه يخفي وجعًا لم يعلمه غيره، أما هي فلوحت بكفها للجميع والتفتت لكي تغادرهم لكن صوت والدها المُرتجف أوقفها بقوله:
_هو خير الأيام مش هيحضني قبل ما يمشي؟.
هذه هي النقطة الفيصلية كما يقال لتنفجر باكية وهي تركض نحوه تُلقي بنفسها بين ذراعيه، عروس البيت تغادره وتغادر أصحابه للمرةِ الأولى منذ أن وُلِدت وتركتها أمها صغيرة تولوا هم تربيتها، وقد ضمها هو بقوةٍ ومسح فوق رأسها ثم لثم جبينها وضحك يمازحها بقوله:
_متعيطيش بقى وتزعلي نفسك، يلا خلي بالك من بيتك وجوزك ومتنسيش “رُقـية” ووصيتها اللي سابتهالي ليكِ علشان يوم زي دا، ربنا يسعدك يا حبيبة قلب بابا.
تم التوديع لها وأخر المودعين كانت “نـهال” التي ظهرت عليها الفرحة بقدر حزنها على رحيل الرفيقة الأحن لها في هذا العالم، لكن الأمر لا مفر منه، هذه هي سُنة الحياة التي خُلقنا لأجلها، فكل الأماكن في حياتنا عابرة حتى نصل للمقر الآخير، وفي مثل تلك اللحظات نتمنى أن تصبح تلك الأماكن هي المقر الأخير بغير رجعة..
وقف “مُـحي” بجوار سيارته لكي يرحل خلف “سـراج” بها يوصله حتى بيته الجديد الخاص بسكنه، وقد أتت “إيـمي” له وهي تقف بجواره كما الصغير الذي خشى أن يتوه في الزحام ثم طلبت منه بصوتٍ يغلب عليه الطابع الرقيق:
_نتصور مع بعض بقى، يلا.
انتبه لها وخرج من شروده مُبتسمًا ثم وقف بجوارها وهي تلتقط الصور لهما بالكاميرا الأمامية فهي لازالت صديقة الطفولة التي منذ بداية حياته وهي معه حتى الآن، وقد عاد لسيارته يقوم بتحضيرها فلمح تلك الجِنية التي تقصده هو حتى تسحره خلف قوتها، كُلما أراد صرفها عن ذاكرته، تظهر له لكي تنتشل منه قلبه وتركض بعيدًا، اليوم؟ اليوم هي على غير المُعتاد، فهي ارتدت فستانًا باللون الأبيض وكان فضفاضًا فوق جسدها به نقوش حمراء صغيرة من حبات الكرز، وقد ارتدت الخمار بنفس لون النقوش الحمراء ليتناسب مع وجهها الأبيض البريء وهي تتحدث في هاتفها..
وقف يراقبها من على بُعدٍ بعدما وارى جسده خلف السيارة حتى لا تلمحه هي وقد ضحكت “إيـمي” بصوتٍ عالٍ وهي تتفحص الصور لينتبه هو لها وكذلك “جـنة” أيضًا التي ركزت معهما بغير قصدٍ فوجدت تلك الفتاة تلتصق به وهي تُوريه الصور وتشير على شيءٍ جعله يبتسم بخفةٍ ثم حرك عينيه نحو “جـنة” ليرى نظرتها الآسفة عليهما، حقًا آخر ما كان يوده أن تراه بجوار تلك المعتوهة التي تتعمد أن تلتصق به أما الأخرى فقد أولته ظهرها تستغفر ربها بشيءٍ من الضيق دون أن تعلم السبب الكافي لذلك…
حينها عض فوق شفته يكظم غيظه فوجد “إيمي” تفتح باب السيارة الخاصة به وولجت بجوار مقعد القيادة دون أن تخبره وقد أتى له “يـوسف” يُنبهه بقوله:
_هنتحرك ورا “سـراج” دلوقتي يلا، هنزفه عند البيت ونعمل الإشهار وكل واحد يشوف حاله بعدها، مالك أﻧتَ متضايق؟.
سأله بعدما لاحظ وجوم وجهه فيما نفى الآخر ذلك متجاهلًا الضيق الذي تخلل لصدره يغلقه عليه بعد أن رمقته هي بتلك النظرة التي وإن صدق حدسه كان بها شيئًا من الاستحقار، وقد لمح “يـوسف” تواجد الفتاة بداخل السيارة فابتسم بخفةٍ ثم ربت فوق كتفه وهمس له:
_هي مزعلاك ولا إيه؟.
في تلك اللحظة أراد أن يقطع علاقته بها نهائيًا لكنه خشى أن يتسبب في جرح مشاعرها لذا حرك رأسه نفيًا وكذب عليه بقوله:
_أنا عاوز أنام بس بقالنا يومين صاحيين، يلا.
تحرك “يـوسف” من أمامه على إشارة “إيـهاب” وتوجهت السيارات خلف بعضها يتبعون “سـراج” الذي قاد سياؤته وزوجته بجواره وهي تضحك بسعادةٍ، أما هو فقام بتشغيل أغنيته المفضلة وفتح لها ذراعه لتقترب منه وتضع رأسها فوقه وهو يضمها مُبتسمًا:
_دا كان لي فين ومين كان يقول
أنا أعيش لحد طول حياته مقابلنيش
ولسه عارفه من مفيش..
أوام أوام لقيت نفسي يومها جريت عليه
وليه يوميها روحت حكيت كلام كتير
ميتحكيش؟…
ضحكت هي له فيما لثم هو جبينها حينما وجدها تبدأ مع الأغنية وهي تشير عليه بعدما تخلت أخيرًا عن الخجل وشاركته جنون لحظته:
_أنا اللي ياما قولت أنا وأنا وأنا
نسيت في يوم اللي قولته في كام سنة
وأنا اللي يعرفني من بعيد شافني
يومها معرفنيش..
أخيرًا أوقف السيارة أمام بيته الجديد ونزل منها ونزلت هي لتجده يمسك كفها ثم أشار لها برأسه نحو البيت المُزين بإضاءة ذهبية ترحيبًا بها وقد ودعت الجميع ووقفت أمام البيت فيما أنسحب هو يطمئن على ابنة شقيقته وقد ضمها لعناقه بقوةٍ وهتف بصوتٍ ملأه الحنان:
_خلي بالك من نفسك لحد ما آجي أخدك، ولحد ما أوضتك هنا تخلص وتجهز ليكِ، ومش عاوزك تزعلي مني، أنا بحبك وماليش غيرك أنتِ، بنتي وأختي وصاحبتي وكل حاجة كل حاجة عندي.
ضحكت الصغيرة وربتت فوق ظهره بكفيها الصغيرين ثم لثمت وجنته وودعته ليرحل هو وتعود هي بجانب رفيقها، وقد أنفض الحشد أخيرًا، حيث عاد كل فردٍ لموطنه أخيرًا بعد توصيل الشباب لبيوتهم، أخيرًا الراحة والدواء يكتبوا للبعض حتى يتم شفاؤهم من جراحٍ تسببت في شقائهم..
وقد وقف “تَـيام” في ركن الصلاة بغرفته وخلفه “آيات” بعدما بدلا ثيابهما ليقيم بها الصلاة كما تمنت ودعت، اليوم يتحقق حُلمها وهي تقف خلف زوجها يأم بها للصلاة للمرةِ الأولى وهو يقطع العهد مع الخالق أن يتق معاملته معها ويحافظ عليها ويصون وصية الرسول الكريم، حينها اجتاحته مشاعر غريبة عليه ليدرك أنه حصل على أكثر مما تمنى بكثيرٍ فحمد الخالق أثناء سجوده خاشعًا وهي خلفه تُكرر ما يفعله هو بسعادة طيرٍ يحلق فوق الأغصان في فصل ربيعٍ زار العمر..
وقد وقف “سـراج” في بيته يتجهز لهذا الموقف أيضًا مستشعرًا حلاوة الحلال وطيبه في القلب، لم يصدق أنها وقفت خلفه ترتدي اسدال الصلاة وهي تُصر على هذا كثيرًا فرفع كفيه مُكبرًا بتيهٍ وخجلٍ من الخالق لكن سرعان ما تدارك نفسه وهو يقرأ ما تيسر من آيات الذكر الحكيم بعد فاتحة الكتاب وقد شعر بالامتنان وهو يقف هكذا مستورًا رغم كل الآثام التي وقع بها، بل كُتِبَت له فرصة جديدة يحياها بحلالٍ طيبٍ تمنى من الخالق أن يباركه له، وقد اغرورقت عينا “نـور” في الخلف وهي تتمنى أن تحصل على السلام من بعد الحروب التي خاضتها في هذا العالم، وقد أنهى الصلاة ثم التفت لها يُلثم جبينها ضاحكًا حتى سحبته هي نحوها وقامت بضمه كطفلٍ صغيرٍ يحتمي بأمه من العالم الموحش.
__________________________________
<“لكل لقبٍ قويٍ يُعطى ستجد السبب أقوى”>
من لم يتجهز لكل شيءٍ سيندهش حينما تُقام الحرب عليه وتُقرع الطبول وهو يقف في ساحة العِراك تائهًا يخشى مضارب كل عدوٍ، فَكُن على استعدادٍ دائمٍ أن الحرب ستُقام لا شك في ذلك لكن يجب عليك أن تخرج منها بأقل الخسائر، حتى لا يضيع عُمرك في نزالٍ أهوج لكونك لم تتجهز بما يكفي لحربٍ لم تَحسب لها حسابًا..
في صبيحة اليوم الموالي، وتحديدًا قُبيل الظهر كان “نَـعيم” يجلس على رأس الطاولة وحولها التفوا الشباب الخاصين بالبيت وقد أتت “تـحية” تضع بقية الصحون وهي تقول بودٍ له:
_ألف مبروك يا حج عقبال الباقي خلينا نخلص.
ضحكوا عليها وعلى ضُجرها منهم فيما لاحظت هي فضول “نَـعيم” البائن في نظراته فابتسمت تُطمئنه بلطفٍ:
_كل اللي أمرت بيه حصل، الفطار فوق عند العِرسان والست “نجلاء” جوة في المطبخ بتفطر مع “سمارة” و “چـودي” وكل حاجة زي ما وصيت، وإن شاء الله بعد الضهر كدا تطلعوا تباركوا للعرسان وهي معاكم.
كانت تقصد “نجلاء” بعدما أوصاها هو أن تبقى تحت نظراتها وألا تجعلها تتحرك لشقته بمفردها فهو لازال يخشاها ويخشى قُربها من ابنه، لكن كما يُقال أن لكل مقامٍ مقال، وقد أعطى هو الشباب بأكملهم هذا اليوم عُطلة لكي ينالوا قسطًا من الراحة بعد يومين كاملين كرسوهم لأجل فرحة ابنه.
بعد مرور دقائق استقر “نَـعيم” برفقة “إيهاب” في جلوسهما بداخل غرفة المعيشة سويًا قد ولج لهما حارس البيت من خارجه وهتف بقلقٍ جعل صوته مُضطربًا إلى حدٍ ما:
_يا حج، فيه اتنين برة من المباحث عاوزين يقابلوكم.
ساورهم التعجب وقررا الخروج لمقابلة هؤلاء الذين أتوا لهم في وقتٍ غريب حتى قبل صلاة الظُهر، وقد وقفا أمام الاثنين الآخرين ورحب بهما “نَـعيم” قائلًا:
_أهلًا وسهلًا يا باشا، خير إن شاء الله؟.
انتبه له الآخر ببسمةٍ تخفي خلفها الكثير والكثير وكأنه أتى ينتوي لهم بكل شـرٍ لكنه تغاضى عن كل هذا ونطق بثباتٍ يرد له تحيته وأضاف بعدها بودٍ غلب على حديثه:
_خير إن شاء الله يا حج، أنا جاي بس أقابل أستاذ “إسماعيل” عاوزه في كلمتين بشكل ودي مش أكتر من كدا، ومبروك فرح ابنك معلش جت متأخر.
رفع “إيـهاب” كلا حاجبيه بسخريةٍ طفيفة أجاد اخفائها من ملامحه، بالطبع هو ورجال الشرطة لن يتدخل بينهما الحب، فهو يكرههم جميعًا وهم أيضًا يكرهون أمثاله أصحاب الصوت القوي الذين لا يُخضعهم أي فردٍ مهما بلغت قوته، وقد ولج بهما “نَـعيم” لداخل غرفة المعيشة مُرحبًا بهما وأمر بحضور “إسماعيل” إليه، أما “إيهاب” فغاب لمدة ثوانٍ توجه فيهم للمطبخ واقترب من زوجته يخاطبها بثباتٍ:
_دقايق وتجيبي أنتِ الشاي يا “سمارة”.
طلبه عجيبٌ في هذا التوقيت تحديدًا، فهذا الذي يسعى لكي يُخفيها عن كل الأعين هو من يطلب منها الخروج والظهور؟ لقد تعجبن النسوة من طلبه وسألته “تـحية” تُبدي اعتراضها بخصوص حملها لتجده يهتف بحنقٍ طفيف:
_اسمعيني بس يا ست “تحية” ونفذي كلامي.
هكذا أخبرها ثم خرج من المطبخ نحو الداخل يلحق بشقيقه الذي توقف على أعتاب الغرفة بتلجلُجٍ يفكر بجديةٍ ماذا فعل لكي تحضر الشرطة منزله وتطلب مقابلته؟ يخشى أن يكون فعل أي شيءٍ يتسبب في تعب الآخرين وقبل أن يهرب من المواجهة وجد في الخلف حصنه المنيع يهتف بثباتٍ يحثه:
_كمل، أرفع راسك وخُد نفسك وأدخل، أنا معاك.
الجملة الأخيرة هي أصدق ما تفوه به للآخر في تلك اللحظة؛ فهو حقًا معه وهُنا لأجله وقد حضر “مُـحي” هو الآخر وولج خلفهما وتولى “نَـعيم” مهمة التعريف عن الثلاثة رغم القلق الذي اختص قلبه بشأن “إسماعيل” الذي أجاد رسم اللامبالاة فوق وجهه ليجد مسئول التحريات والتحقيقات يسأله بتركيزٍ في أصغر تفاصيله:
_قولي يا “إسماعيل” أنتَ روحت زيارة لدار ***** من كام يوم كدا تقريبًا، حضرتك عندك علم بوفاة مدير الدار مقتول ؟.
هذه ليست كلمات بل هي حجارة قام برجمه بها مُباشرةً فوق قشرة ثباته لكي تتصدع وتتشقق وتكشف عن الخوف المتواجد خلفها، لكن الآخر حرك عينيه نحو شقيقه ليستمد منه القوة وهذا ما حدث بالفعل، ففي غمضة عينٍ أعاد رأسه وهتف بثباتٍ يُحسد عليه:
_البقاء لله وحده، مظبوط يا باشا روحت الدار.
_والسبب؟.
كلمة اندفاعية خرجت من الآخر بشكلٍ أقرب لاتهامٍ غير مباشرٍ مما جعل “إيـهاب” يبتسم بتهكمٍ، فبالطبع كلمة “ودٍ” لن تصلح مع رجال الشُرطة وسيغلب عليهم الطابع البوليسي مهما فعل لكي يواريها، وقد جاوب شقيقه بثباتٍ أيضًا:
_”إيـهاب” أخويا اللي طلب مني كدا.
حسنًا لقد حرك دُفة الحديث لهذا الشخص صاحب العينين الحادتين كصقرٍ جارحٍ يتربص لعدوٍ يُهاجم بيته، وقد حرك له المسئول عينيه يبادله نظراته الحادة بأخرى قوية لم تؤثر بـ “إيـهاب” بل تضاعفت قوته أكثر والآخر يسأله بتعجبٍ:
_أنتَ فعلًا بعتته هناك؟ ممكن أعرف السبب؟.
أومأ موافقًا له وجاوبه بقوةٍ وشموخٍ غريبين في مثل هذا الموقف الذي يوتر أعتى الرجال ويُصيب مركز قوتهم:
_حصل، أنا طلبت منه يروح هناك يسأل عن التبرعات علشان كنت عاوز أتبرع للدار بمبلغ بطلعه كل شهر لصحاب النصيب، والمرة دي بعته الملجأ دا يسأل عن رقم التبرع بعدما عرفت إنه مبيخرجش برة الدار.
طاف المسئول بينهما بنظراته يحاول أن يستكشف أي شيءٍ غريبٍ لكنه لم يجد إلا قوة وثباتٍ غريبين فتنهد بعمقٍ وسأله بنفس الطابع الذي غلب عليه في كلماته:
_طب معلش، اشمعنا المكان دا بالتحديد؟
_المدام.
هكذا كان جوابه سريعًا بتلك الكلمة مما أدى إلى استنكار الجميع وخاصةً المسئول الذي نطق مُستنكرًا باندفاعٍ:
_أفـندم؟.
_المدام عندي هي اللي طلبت نتبرع للمكان دا، هي عقبال عندك كدا حامل وعلى وش ولادة وطلبت نطلع مبلغ بسيط علشان ربنا يكرمنا وتقوم بألف سلامة، حتى وصل التبرع أهو معايا، ثانية واحدة.
هكذا جاوبه ثم أخرج من جيب قميصه وصل التبرع الذي كان باليوم التالي من زيارة “إسماعيل” لدار الرعاية وهذا ما يؤكد صدق حديثهم خاصةً أن عملية التبرع تمت من خلال ماكينة معروفة بالخدمات المصرفية، وفي تلك اللحظة وصلت “سـمارة” بالشاي فقام “إيهاب” مُسرعًا قبل أن تنخفض وتميل بجسدها ووضع هو الشاي وقبل أن تختفي باغتها المسئول بسؤاله:
_ألف شكر يا مدام، حضرتك اللي طلبتي من جوزك يتبرع للدار؟ ممكن أعرف ليه المكان دا تحديدًا؟.
حسنًا كما توقع “إيهاب” حدث، لكن الأمر الآن بات يتعلق بها وبرد فعلها هي، لذا سحب نفسًا عميقًا يُهديء من توتره فوجدها تنطق بثباتٍ على عكس غيرها في مثل هذا الموقف:
_آه يا فندم أنا، واخترت المكان دا علشان زي ما حضرتك شايف كدا أنا حامل وعلى وش ولادة بعدما ربنا كرمني براجل زي “إيهاب” حضرتك مش غريب يعني بس أنا يتيمة الأب والام وماليش حد غيره، يعني أنا أدرى بمشاعر البنات وإحساسهم، فطلبت منه يتبرع ليهم، قولت أهي حاجة تفرحهم شوية.
أهذا البيت جميع سكانه يتصفون بهذا القدر من الثبات الانفعالي؟ هكذا فكر الجالس وسطهم يتعجب من تحول الموضوع لمحاورة نسائية مع فتاةٍ ليست بهينة كما زوجها صاحب النظرات القوية الحادة وكأنه عدوٌ بأرضه؟.
أما هي فرفعت رأسها بثباتٍ وشموخٍ أمامه، فإن كان هو يحسب نفسه أسدًا فهي مُهرة وفية تربت على يد فارسٍ أصيل لم تتعلم الخيانة أو حتى الجُبن، بل تُجيد المُجابهة وقيادة الحرب إن تطلب الأمر لذلك، وهذا تحديدًا ما جعل “إيهاب” يُجاهد لإخفاء فرحته بها وما إن وقف المسئول وقام بتوديعهم بعد نظرة تفحصية أخيرة لهم وخروج الجميع معه من الغرفة لتلفظ هي أنفاسها المحبوسة فوجدته يهمس من خلفها مُثنيًا على فعلها بقوله:
_دا أنتِ عمي وعم قلبي وعم الدنيا كلها كمان.
أهذه هي الكلمات العاطفية التي يتحدث بها؟ حسنًا على الأقل يتحدث وقد ابتسمت له فوجدت قبلة تُطبع حينما مال أكثر من الخلف ولثم جانب فمها ثم تركها وكأن التُخمة أصابتها بعد تناول وجبةٍ دسمة ليخرج هو خلفهم ثم أوقف المسئول قائلًا بقوةٍ:
_نورت يا باشا وإحنا تحت أمرك في أي وقت، ربنا يعلم إننا عاوزين نساعد باللي نقدر عليه وأنا تحت أمرك في اللي تطلبه وتؤمر بيه، رجالة، معلومات، مساعدات بأي نوع، ضيافة ليك ولرجالتك كله في الخدمة.
حقًا في تلك اللحظة كاد “نَـعيم” أن يبتسم أو رُبما يضحك أيضًا لكنه تراجع قبل أن يتسبب في أي شيءٍ يزيد توتر الموقف، أما “إيهاب” ففقط أرسل حديثًا بعينيه الحادتين على لسان “المُتنبي”:
_أنَا اللّذِي نَظَرَ الأَعْمَى إِلَى أَدَبِي،
وَأَسْمَعَتْ كَلِمَاتِي مَنْ بِهِ صَمَمُ
الخَيْلُ وَاللّيْلُ وَالبَيْداءُ تَعرِفُني،
وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَم.
رحل المسئول من البيت بعدما باءت محاولته بالفشل في معرفة ما يدور حوله بامساك طرف الخيط وقد تنهد “إيهاب” والتفت لشقيقه مُبتسمًا فوجد الآخر يرتمي عليه وهو يُعانقه قائلًا بلهفةٍ:
_كل مرة بتأكد إني هضيع من غيرك.
_أنتَ فاكر عمهم دا جه من فراغ يعني؟.
في الأعلى تعجب “مُـنذر” من رسالة “إيـهاب” الذي طالبه فيها بعدم الظهور أو الحضور بهذا التوقيت مما اثار حفيظته والريبة بداخله ليجلس هكذا فوق فراشه تائهًا و “چـودي” تجلس أمامه تلعب بما جلبه لها أمسًا وقد قرر صرف تفكيره بعيدًا واقترب يجلس بقربها وهو يلعب معها.
__________________________________
<“كنت أظنهم مجرد عابرين فتفاجئت بهم حياتي بأكملها”>
في قوانين الاعتياد الأخيرة عُرِفَ أن قيمة الشيء تُعرف بعد رحيله من بين أيدينا، ففي بعض الأحوال قد نحسب الاشياء دائمة ونضمن استمرارية وجودها وسُرعان ما نكتشف أن هذه المشاعر كاذبة، فبمجرد اختفاء ما ظنناه مِلكًا لنا نكتشف الفراغ الساحق الذي يبتلعنا في بعض الأحيان..
بداخل بيت “العطار” كان استيقظ “أيـهم” أخيرًا قبل صلاة الظُهر على عكس المعتاد منه، لكن يبدو أنه يهرب من شيءٍ ما ويواجهه بالنوم، فبقدر فرحته لأجلها بقدر حزنه على رحيلها، الآن فقط علم أن أمه توفت حقًا، بعدما كانت هي تقوم بهذا الدور العظيم في حياته وتديرها له، وقف يغسل وجهه وأسنانه ليصدح الهاتف في جيبه برقمها فضحك بلهفةٍ واغتسل سريعًا لكي يجاوبها فوجدها تضحك وهي تقول بمرحٍ:
_قولت أصحيك تصلي، شوفت الوضع زي ماهو أهو.
ابتسم بحنوٍ وحدثها بنبرةٍ هادئة:
_أنا صحيت فعلًا بس متضايق، قوليلي أنتِ عاملة إيه؟ أوعي يكون الواد دا زعلك ولا حاجة، هاجي أطربق السمان كلها فوق دماغ أهله مش هيفرق معايا حاجة أصلًا.
حانت منها التفاتة نحو النائم أمامها ببراءةٍ ونطقت بصوتٍ ملأه الصدق والحُب معًا خاصةً بعد حديثه واحتوائه لها أمسًا:
_والله طيب أوي وغلبان، بعدين حرام عليك من أول يوم كدا هنسوء الظن في الناس؟ لو سمحت متضيعش مجهودي، ويلا جهز نفسك علشان تصلي لحد ما أصحي “تَـيام”.
حتى في غيابها تتسبب في فرحته وهكذا فكر هو حينما أغلقت معه وقد أكمل هو ما يفعل ثم خرج من المرحاض ليجد زوجته أمامه تقوم بصلاة الضُحى وتذكر كيف تغير معها في آخر يومين حتى حك فروة رأسه بإحراجٍ منها وتذكر أن ترك الشيء لحين اشعارٍ آخر قد يتسبب في انفجاره لذا انتظرها حتى أنهت الصلاة وأنهت الذكر ثم اقترب منها يُلثم جبينها لتتعجب هي من فعله الغريب..
أما هو فحمحم بخشونةٍ ثم نطق كمن يُقر بذنبٍ أمامها:
_دا علشان كنت بجم معاكِ بقالي يومين، معلش مشيانها من البيت والحارة مزعلني ومش بايدي والله، بس مش عاوزك تزعلي مني، عمومًا أنا بشكرك على وقفتك معايا ومعاها وإنك عملتي اللي عليكِ وزيادة كمان.
التقدير هو ما يجعل المرء مستمرًا في العطاء ببذخٍ حتى لو لم يجد المقابل لكن يكفيه أن يتم تقديره وتقدير تواجده وقد ابتسمت له هي ونطقت بنبرةٍ معتادة منها بغير مجاملات:
_لا شكر ولا حاجة يا “أيـهم” مفيش بينا الرسميات دي أنا وأنتَ واحد وهي أختي زي ما هي أختك برضه، بعدين أنتَ مكتئب وعاوز تعزل نفسك عني براحتك مش هضغط عليك أكيد، أنا مقدرة زعلك.
يبدو أنها أصبحت بارعة في المكر الأنثوي لذا تبدلت طريقتها في التحدث أمامه وهي تُلقي عليه باللوم فيما خطفها هو بحركةٍ مُباغتة حتى الصقها بصدره ووضع كفه خلف خصرها يهتف بمراوغةٍ بعدما ثبت عينيه على عينيها ليترك فرصة للمُقلِ حتى تتواصل مع بعضها:
_بقيتي سوسة يا “نـهال” وبتعرفي تلعبي كويس، اثبتي بقى على كدا علشان أنا خارج من دور اكتئاب وعاوز احتواء، هتحتويني يا ست ولا نروح نبص برة؟.
كتمت ضحكتها على طريقته ثم قامت بدفع كتفه بكتفها وهي تراوغه هي الأخرى بجرأةٍ لم يعهدها منها:
_طب ركز أنتَ مع اللي جوة الأول بعدين بص برة.
توسعت عيناه وكاد أن يضحك لكنها بمخيلته عرض الحائط وهي تزداد منه قُربًا ثم لثمت وجنته بقبلةٍ خاطفة وهي تنسلت من بين يديه، وقد وقف هو مدهوشًا يُطالع أثرها بصدمةٍ، هل قاموا بتبديلها بأخرى غيرها امتلكت قاموسًا للتعامل معه؟ على كلٍ هي دومًا تملك التأثير على قلبه وبأقل فعلٍ منها تمحي أي ندبةٍ أو ألمٍ، والآن هو فقط يود أن يرتمي بين ذراعيها مثل صغيره، لكنه اعتاد على الجمود دون أن يقوى على الإفصاح بما داخله..
في الأسفل كان “أيـوب” يتجهز للذهاب للمسجد بعدما هاتفته شقيقته ومازحته بخفةٍ وظلت تتهرب من الحديث حتى لا تخجل منه في شيءٍ وهو يسألها عن زوجها، وقد ضحك حينما تهربت من الجواب عن أسباب نومه لهذا التوقيت بقولها:
_نايم علشان بقاله يومين صاحي علشان الفرح.
_شقيان يا حبة عيني الراجل، عقبالنا لما نشوف الشقا دا.
هكذا كان جوابه عليها حتى ضحكت هي ثم ودعته لتترك البسمة فوق وجهه كلما تذكر أن وصية “رُقـية” بشأن ابنتها تمت كما تمنت، وقد خرج له “عبدالقادر” برفقة “إيـاد” الذي وقف بجواره يمازحه بقوله:
_ناوي إمتى أنتَ كمان؟ الشمس مشيت من البيت عاوزين القمر ييجي بقى، ولا ناويين تسيبوا لنا السما فاضية كدا؟.
ضحك “عبدالقادر” على حديثه فيما قام “أيـوب” ببعثرة خصلات الصغير وهو يهتف بضجرٍ من بين اسنانه:
_لما تسكت خالص وتبعد عنها هبقى أجيبها، بعدين أنتَ مالك أنا اللي هتجوز بتتدخل ليه يلا بينا؟ تكونش هتشاركني فيها زي ما شاركت أبوك كدا؟ أعرف بس بيحبوك ليه؟.
سأله بشيءٍ من الحقد الزائف ليجد الجواب مُشابهًا لجوابٍ يعلم مدى حب صاحبه لنفسه جيدًا:
_علشان أنا أتحب أصلًا، أنا رزق في حياة الناس.
رفع كلا حاجبيه فوجد صوتًا يأتيه من منتصف الدرج يهندم حُلته الرمادية وهو يعاتبه بقوله ممازحًا له:
_أنتَ بس؟ أومال أنا إيه؟.
التفت “إيـاد” لوالده يخبره بنبرةٍ ضاحكة:
_خلاص متزعلش أنت‌َ الحتة الكبيرة وأنا الحتة الصغيرة.
ضحك له والده ثم التفت لـ “عبدالقادر” يسأله بضحكةٍ واسعة ملأت وجهه:
_إيه رأيك في تربيتي؟ شوفت عنده ولاء ليا برضه.
سخر الآخر منهما وهتف بتهكمٍ طفيفٍ:
_أنا رأيي إنكم الحتتين اللي متربوش بأمانة، وقريب حاضر أفوق بس وهظبطك أنتَ وابنك علشان مبقاش قصرت معاكم وأهو أعرف بالمرة بتحبوا نفسكم كدا ليه.
_علشان إحنا نتحب.
كانت تلك الجملة صادرةً منهما سويًا مما جعل الضحكات تُزاحم لتظهر فوق الأوجه حتى ظهرت “نِـهال” تدعوهم لتناول الفطور فاجتمعوا حول الطاولة سويًا رغم أن مقعدها كان فارغًا بجوار “أيـوب” الذي نظر للمقعد بتعجبٍ حتى نطق الصغير بمرحٍ:
_متزعلش متزعلش، كلها أيام و “قـمر” تيجي تقعد عليه.
يبدو أن تواجده أصبح دواءً لهم في هذا البيت فقبل أن يتأثروا بغيابها عنهم للمرةِ الأولى أتت كلماته لتضحكهم جميعًا وأولهم “أيـوب” الذي كاد أن يركض خلفه لكن يد والده منعته لتعود الضحكات لهم من جديد بيأسٍ على صغيرٍ لم يترك لهم فرصة واحدة حتى يتمسكون بموقفهم.
__________________________________
<“المدينة بأكملها تعرف الغريب، وأنتِ تسكنيه”>
لما لم نكتب في دفترنا اليومي عن تلك الإنجازات الخفية التي نُحدثها بقوةٍ نتحدى من خلالها أنفسنا أمام العالم بأكمله، لما لم نكتب عن انتصارنا على أنفسنا ولما لم نكتب عن مهارتنا ولما لم نكتب عن صدق مشاعرنا، هل اعتادت دفاترنا أن ترى الخيبات فقط، أم أننا من الأساس نتوهم بكل ما سبق؟.
منذ يومين وهو لم يعهد تلك الراحة فوق الفراش بعدما تغيب عن أعماله الثلاثة، حقًا كان يحتاج لتلك الراحة لكي يهرب من ضجيجٍ وغوغاءٍ يسكناه، لقد شعر بالتعب يبلغ أشده عليه جسديًا ونفسيًا وتم ارهاقه عقليًا لكنه تحامل على نفسه تاركًا كل شيءٍ لحين اشعار الأفاقة من عقله، ووسط كل ذلك أيقن أنه أهمل “عـهد” لقرابة الخمس أيام، حتى بالأمس لم يجد متسعًا من الوقت لكي يكون معها، بل واجباته حتمت عليه أن يكون برفقة “نَـعيم”..
تذكر أمر زيارة “جـواد” فقام وتجهز لكي يذهب له لحضور الجلسة الثانية التي تأجلت بشكلٍ كبيرٍ حتى انتهاء زفاف الشباب وانشغاله معهما، وقد خرج من البيت وقصد وجهته بعد صلاة الظهر بعدما قام الآخر بتفريغ نفسه له، وبداخل العيادة استقر “يـوسف” فوق المقعد وفرد جسده باسترخاءٍ ليجد السؤال المتوقع:
_ها جربت العلاج اللي قولتلك عليه؟.
أومأ موافقًا ثم تنفس بعمقٍ وأخبره بشتاتٍ عن ما يُعانيه من ضياعٍ:
_للآسف جربته، بس على قد ما فرحني على قد ما حسيت نفسي مخنوق ومتضايق، كالعادة يعني أي إحساس بحس بيه لازم أحس بعكسه جوايا كأني متقسم لكذا حد بيكرهوا بعض، لازم أسمع صوت بيعاندني في كل حاجة ومش صوت واحد دول كتير بيعصبوني كلهم وساعات بتصرف بهبل لولا إني بتحكم في نفسي كويس وبختفي كان زماني فعلًا بقيت في مصحة من تاني.
تنهد “جـواد” بعمقٍ وهو يسير معه في طريقٍ شائكٍ فسأله بثباتٍ بعدما عدل وضع نظارته الطبية فوق وجهه:
_طب من البداية عاوز أعرف إحساسك وقتها كان إيه بالظبط، أو مجمل المشاعر الحسية وقتها كان إيه، مثلًا كل صوت جواك كان إيه سبب ظهوره وكلامه؟.
اغمض عينيه لوهلةٍ يتجهز خلالها لحربٍ كلامية مع نفسه ثم نطق أخيرًا يعبر عن كل شيءٍ بداخله:
_ساعتها لما عملت مع “قـمر” اللي كنت بعمله وأنا صغير فرحت أوي وحسيت ساعتها أني مبسوط خصوصًا وأنا بعمل حاجة بحبها أوي وهي إني علطول كنت بحب أسرح ليها شعرها وأغنيلها، بس وقتها أنا فاكر كويس لقيت صوت جوايا متضايق إننا كنا محرومين من كل دا، وإن هي كانت عايشة عادي وأنا عايش وكل دا مش معانا، ولقيت صوت تالت جوايا متضايق من اللي بعمله لمجرد إني بفتحله في جروح هو مش قدها، وكالعادة رد فعله كان عنيف ويومها مع ظهور “سـامي” و “عـاصم” في الحارة وهروبي من “عـهد” وزعلي علشان أمي آخر اليوم انفجرت وكنت هكسر شقة “فـاتن” بقيت بحس نفسي مؤخرًا ززي قنبلة هتفنجر يعني هتنفجر، الفكرة بس إني بحاول أنفجر في مكان صح علشان مخسرش أهلي.
تفهم الآخر حالة شتاته وتيهه بداخل نفسه فاعتدل في جلسته ناطقًا بعمليةٍ اصطبغ بها حديثه:
_دا كان أكتر شيء متوقع لأنك في العلاج دا بتحارب عقل عنده معتقدات مترسخة لسنين طويلة، بس الفكرة إننا عاوزين التحكم يكون ليك أنتَ في الآخر، أنا قولتلك مش عاوزك ضعيف، بالعكس أنا عاوزك قوي وتكون أقوى واحد فيهم كلهم، بس معلش هتضطر تتحملني شوية وأنا بسألك عن “شـهد”.
تهجمت ملامحه وتشنجت عضلاته فور سماعه لاسمها وكأنها شيءٌ مُقزز يُلقى على سمعه فيما اكمل الآخر ما يود طارقًا فوق الحديد الساخن:
_حبيتها ليه يا “يـوسف”.
ارشقه بنظرة نارية كارهة وكأنه تبدل عن ذاك الذي ولج لهنا وقد تنهد “جـواد” بثقلٍ وأضاف يقنعه برزانةٍ:
_أنتَ هنا علشان تخلص من الندوب دي، وأنا دوري أكتشفها وأشاورلك عليها علشان نمحي جرحها كله، فأول جرح نقفله هو جرح “شـهد” قولي حبيتها ليه واحكيلي كل حاجة حاسس بيها ناحيتها، وقبل ما تقولي ماحبيتهاش هقولك مفيش واحد هيسيب محافظة كاملة لمدة سنتين يهرب من واحدة إلا إذا كانت صدمته فيها كبيرة، الأفضل تتكلم.
تعجب من رد فعل الآخر لكنه رضخ أخيرًا وتنفس بعنفٍ كأنه يُصارع بأنفاسه وهتف بجمودٍ اتضحت بها القسوة:
_علشان كنت عيل خايب وأهبل ما صدقت حد يديني اهتمام في الدنيا دي، ساعتها كان عيد ميلاد “رهـف” في النادي و”حمزة” الله يرحمه عزمني علشان أكون معاهم، روحت العيد ميلاد وهناك شوفتها، مكدبش إن شكلها كان حلو أوي، وهي شاطرة بتعرف ترسم الرقة كويس، ساعتها كنت فاضي من جوة خصوصًا بعد خروجي من المصحة واكتشافي إني محتاج لعلاج نفسي، جت سلمت عليا وقالت إنها عرفاني وعارفة عمتي، ساعتها مهتمش بس بعد كدا لقيتها بتملا كل وقتي، قضيت شهر أجازة هي مسابتنيش فيه، بقيت بروح النادي علشان أشوفها، وموبايلي علطول مفتوح علشان لما تتصل أرد بسرعة، خلتني أحس إني عادي أتحب ويكون مرغوب في وجودي خصوصًا وعيلتي رفضاني..
أطلق تنهيدة قوية من جوفه ثم أكمل مُستطردًا بضيقٍ وهو يشعر بالخيانة لكونه يتذكرها مُجددًا:
_بدأت هي تكون معايا علطول وفي حياتي لدرجة إن اليوم كله بنقضيه مع بعض وبسيبها عند النوم بس، كانت حالة غريبة لواحد تايه وسط الكل، صحيح كنت ساعات بحس إني مش متطمن كفاية بس كنت بكدب احساسي دا بيها هي، يمكن حبيتها زي ما بتقول بس كل دا كان خلاص، هي حاليًا صفحة كانت في كتاب وأنا قطعته، وعمومًا أنا مش فاكر ليها أي حاجة كأنها اتخبرت من جوايا.
في هذه الحالة كان الأفضل له أن يلعب على أوتار عقله لذا هاجمه بسؤالٍ غير متوقعٍ أو ربما توقعه وانتظره بلهفةٍ:
_طب و”عـهد” مثلًا؟.
حقًا شتان ما بين الحالتين عند اسم كلتيهما، فهنا استكان جسده وارتخت عضلاته المُتشنجة وصفت ملامحه وهو يستمع لحروف اسمها متسائلًا كيف فقط لعدة حروف بجوار بعضها شكلت اسمًا تلك كل هذا الأثر عليه، وقد نطق أخيرًا يتصنع الجمود:
_مالها بقى؟.
_حبيتها هي كمان ولا مجرد ظرف قاسي جمعك بيها قررت تتصرف فيه بالشكل دا؟ مع الأخذ بعين اعتبار إن جوازكم ليه ظروف خاصة بيه بسبب وضعها اللي قررت أنتَ إنك تلحقه بشهامتك.
لا يعلم لما الحديث عنها بتلك الطريقة ازعجه، حتى أنه لوهلةٍ فكر أن يقوم للآخر ويبرحه ضربًا لكنه تراجع وزفر بقوةٍ ونطق أخيرًا بصوتٍ مُغلف بالجمود المُشابه لطبقةٍ من الصدأ فوق قطعة من الحديد:
_بس هي عمرها ما كانت أنا بحل ليها موقف وخلاص، أنا من أول مرة سمعت فيها صوتها عرفت إني مش هتقوملي قومة قدامها، كنت متأكد إني هخسر قصادها وفعلًا خسرت، بس كسبتها هي، لو بتسأل علشان تقارن بين وجودها وبين وجود “شـهد” فهقولك إن فيه حد يعرف إزاي يخليك تحبه وحد يوهمك إنك بتحبه، “عـهد” عرفت تخليني أحبها بجد، علشان على طبيعتها أوي، مبترسمش حاجة مش فيها، أدتني الحاجة اللي كنت عايش من غيرها وهي إني أتطمن، هي رغم مصايبها دي كلها طمنتني ومسكت أيدي، فصعب أظلمها بمقارنة غبية هتبقى من وجهة نظري خيانة ليها..
سكت هُنيهة يلتقط أنفاسه وأضاف بتيهٍ حينما شرد فيها:
_ساعات ببقى عاوز أعتذر ليها إني اتغابيت وحبيت حد قبلها، وساعات ببقى عاوز أعتذر ليها إني جيت متأخر وسيبتها للدنيا تخبط فيها، وساعات ببقى عاوز اتأسف ليها على ربطتها بيا وهي متستاهلش البهدلة مع واحد زيي، بس مش بمزاجي ولا بمزاجها خلاص، مبقاش ينفع هي تبعد عني، هي تحديدًا من وسط الدنيا كلها مش هينفع تبعد، علشان للآسف أنا معتبرها الأمان الوحيد ليا، تعرف؟ أنا ساعات برضه بفكر أشكر “شـهد” على قلة أصلها معايا علشان بسببها سابت فرصة لـ “عهد” تدخل على نضافة.
ابتسم له “جـواد” ثم اعتدل في جلسته يواجهه أكثر وأضاف بعمليةٍ يوضح بها للآخر ما أصبح عليه الآن:
_حاليًا بقى أنا مبسوط جدًا إنك قدرت تميز بين مشاعرك كلها وتقدر تحدد مين اللي يستاهل غضبك ومين يستاهل حُبك، فعلشان كدا أنتَ بدأت تخرج رجلك من الدوامة اللي كنت فيها دي، بس استمر اسبوع كمان على العلاج دا وخليه مع والدتك أكتر وباقي أفراد العيلة، خصوصًا “عُـدي” لأنه في طفولتك كان واخد حيز كبير، يعني تقعد معاهم أكتر، تتكلم وتسمع وتديهم مكان في حياتك، كل دا بيعزز دورهم جواك، قولي سجلت مشاعرك في ورق زي ما طلبت منك؟.
أومأ له موافقًا ثم أخرج الدفتر الصغير ومد يده له به فالتقطه الآخر منه يتفحصه بعينيه سريعًا ثم اعاده له ونطق يستحسن فعله قائلًا:
_حلو جدًا يا “يـوسف” أنا شايف إنك بتحاول بكل طاقتك ودا في حد ذاته هيساعدنا، هطلب منك بس الأسبوع دا مهمة جديدة وهي إنك تسجل لحظات العنف كلها وسرعة استجابتها، وحاجة كمان، كل المشاعر الغريبة عليك اللي هتحسها لأول مرة كمان تسجلها وتسجل الموقف، بالتوفيق يا بطل.
ابتسم له وأتفق معه كل شيءٍ بحالة خضوعٍ غريبة على شخصه المتمرد صاحب الخصال العنيدة، حقًا ما يحدث هو نفسه لم يتخيله لكن تواجده هنا هو أصح ما قام بفعله لأجل أحبائه قبل نفسه، ولأجل واحدةٍ يخشى عليها من نفسه خاصةً مع اقتراب المسافات بينهما لدرجة أن هناك بيتٌ سوف يجمعهما سويًا من بعد شتاتٍ في النفس وغُربة في المدينة، فإن كان هو بتلك المدينة غريبًا فهي المدينة التي سكنت هذا الغريب.
__________________________________
<“الذنب ليس ذنبي وإنما ذنب العالم”>
من منَّا صاحب الذنب المُلام في كل ما يُصيبنا؟ فهل يعقل أن أصحاب الذنب بأنفسهم هم من يقفون على أعتابنا يتهموننا بفعل أشياءٍ لم نفعلها قط؟ ويلقون باللوم علينا يزعمون في طريقهم أننا أقترفنا مالم تفعله أيادينا؟ فحتى وإن اقترفنا الفعل، فالذنب ذنب الآخرين..
نزل “مُـنذر” من غرفته أخيرًا وذهب مع الشباب للمباركة للعروسين في شقة “تَـيام” الذي ضحك لهم ما إن تذكر موقف التعارف بينهم فيما مازحوه هم قليلًا برفقة والده ثم نزلوا وتركوا له الحرية برفقة زوجته التي قدمت لهم واجب الضيافة وتحركت نحو الداخل بأدبٍ أجبر الجميع على الإنحناء أمامها..
في الأسفل تحرك “مُـنذر” خلف “إيـهاب” بعدما علم بأمر قدوم رجال الشُرطة لهنا بحثًا عن شقيقه مما جعل الذنب يتفاقم بداخله أكثر وما إن وقف خلفه تحدث بثباتٍ يعتذر منه:
_أنا آسف يا “إيـهاب” على اللي حصل بسببي، لو أخوك هيبقى في خطر أنا ممكن أروح أسلم نفسي وأقولهم إن أنا اللي عملتها، أكيد مش هتضحي بأخوك علشاني، كلنا عارفين أخوك عندك إيه، واللي حصل دا أنا سببع وأكـ…
قبل أن يُكمل حديثه التفت له “إيـهاب” يهدر بغضبٍ وانفعالٍ في وجهه:
_اسـكت!! مش عاوز اسمعلك صوت علشان أنتَ غبي، إزاي أنتَ دكتور نفساني ومش قادر تعالج نفسك من الغباء دا؟ آخرتها تتهمني إني مش هضحي بأخويا علشانك وأنا ١٠٠ مرة أقولك أنتَ في رقبتي وأنتَ أخويا وأنتَ زيك زيه، بس مفيش كأني بكلم حيطة!! مستني مني كمان أروح أبلغ عنك، طالما أنا ابن ستين *** كدا متربتيش في نظرك.
لما لم يفهمون عليه؟ هل لأنه امتلك شهادة الطب النفسي هذا يعطيه المُبرر ليكون بلا مشاعر؟ هل الأطباء النفسيين أصبحوا كما الآلات المُبرمجة مجردين من الأحاسيس الخارجية والمشاعر الداخلية أيضًا؟ هل لأنه حصل على شهادة كتب فيها أنه يدرس الطب النفسي هذا يجعله فولاذيًا خارق القوى؟ بالطبع لا، هو يتألم بقدر كل العالم ويحزن بقدر كل الناس، يشعر بالوحدة تملأه، وبالظلام يبتلعه..
انتبه له “إيهاب” وللحالة التي تاه بها فهتف بقوةٍ يحذره من تماديه أكثر بقوله:
_اسمعني علشان كلامي مبقولوش مرتين، اللي حصل دا مش هتيكرر تاني، خلاص كدا شطبنا، اللي هنا قدامي “مُـنذر الحُصري” الدكتور النفسي، التاني دا هو أولى تقتله جواك قبل ما يكون سبب في قتلك بجد، ومن الليلة دي أنتَ تحت عينيا وربنا يكفيك قلبتي.
تركه وتوجه ليأمن على نفسه بداخل شقته بعيدًا عن الجميع وعن الفوضى العارمة التي يتسببون بها له وقد جلس “مُـنذر” على عاقبيه يشعر بالتخبط والضياع وهو وحده كالعادة، حتى ولو انتصر على العالم بأكمله سيظل وحده
أما في الداخل فكان “مُـحي” يشبه شخصًا جلس فوق مرجلٍ من نيرانٍ ألهبتها الأحطاب كلما تذكر نظرتها والأخرى تلتصق به، عيناها اللاتي قامتا بسرقة فؤاده وسلبه هي نفسها التي رمقته آسفةٍ بشيءٍ من الاحتقار وكأنه خائن، رُبما هو كان كذلك لكنه ليس بخائنٍ، فهو كما رباه والده أن يكون وفيًا وفقط لمن حوله، وقد فتح هاتفه ووجد “إيـمي” قامت بنشر صورها معه وأشارت له فوق الصور وحينها أراد أن يذهب إليها ويقتلع رأسها من موضعها بعدما تسبّبت في حالته تلك لكنه خشى أن تلومه ويصبح هو صاحب الذنب..
__________________________________
<“نيابةً عني وعن العالم وعن ساكنيه، أنا آسف”>
جميعنا مُصابون بمرضٍ اسمه الذكرى، لا نعلم إن كانت هي سعيدة أم حزينة لكنها ذكرى نود أن نهرب منها لكن لا مفر مش شيءٍ يسكنَّا، فالذكرى دومًا ساكنة في جدار العقل تُشن حروبها في كل موقفٍ يُدعى لذلك وتؤلم صاحبه أيضًا لكن بدل الألم يكونا اثنين، مرةٍ لكونها ذكرى ومرت، ومرة لكونها ليست ذكرى عابرة…
كان “بـيشوي” جالسًا في بيت “عبدالقادر” برفقة “أيـهم” في حديقة البيت بعدما تحدثا مع رفيقهما وأطمئنا عليه ثم عادا لسير العمل مُجددًا وقد صدح صوت هاتف “أيـهم” برقم أحد التجار فتحرك لكي يتناقش معه بخصوص العمل المؤجل، وقد شعر “بـيشوي” برائحتها المميزة تسري لأنفه، نعم هي وهو لن يُخطيء فيها، لذا التفت برأسهِ فوجدها تبتسم له ثم أتت ووضعت الصندوق المغلف الذي كانت تمسكه وهتفت بثباتٍ:
_مساء الخير يا “بيشوي”.
رفع عينيه نحوها يخبرها بكل هدوءٍ:
_مساء النور، رايحة فين كدا؟.
حركت كتفيها بقلة حيلة ثم جاوبته بلمحة حزنٍ:
_هروح فين، اللي كنت باجي هنا علشانها خلاص مبقيتش هنا ولا حتى في الحارة كلها، أنا جيت بس عبشان بنحضر هدية حلوة ليها لما نروح نبارك ليها بكرة، عارف؟ أنا من غيرها بجد هتلغبط أوي، هي اللي كانت كل مرة تلحقني.
شعر هو بمدى حزنها مهما حاولت أن تخفيه فقام بمد يده بها بكوبٍ من الماء ثم اعتذر منها بقوله:
_متزعليش نفسك هي بخير وأنتٓ بخير وعمومًا كلها أيام وتحصليها وتدخلي ييتك أنتِ كمان، شكلك زعلانة أوي وأنا بصراحة نقطة ضعفي زعل الأنثى، خصوصًا لو عينيها حلوين كدا زيك، من الآخر كدا حضني أولى بيكِ.
توسعت عيناها بخجلٍ مما يتفوه به فيما رماها هو بغمزةٍ ثم استقر في جلسته باسترخاءٍ كأنه لم يفعل أي شيئٍ وتركها تفكر في حيرةٍ لما دومًا هو يتواقح هكذا وقد استجمعت شجاعتها لتركض من أمامه فهتف بمراوغةٍ ازدادت بها وقاحته:
_اهربي براحتك، برضه مسيرك لحضني في الآخر.
دمدمت فوق الأرض بخجلٍ وغيظٍ منه توجهت للأعلى حيث شقة”أيـهم” التي تجلس بها زوجته في انتظارها وانتظار “جـنة” أيضًا لتحضير الصندوق للعروس.
بداخل غرفة “أيـوب” تحديدًا في ذاك الجزء المخصص لصناعة الأواني الفُخارية جلس وهو يندمج فيما يفعل بيديه شاردًا فيها هي وحدها، تلك التي تشبه كل ما هو غريبٌ، حيث الحُرية المُقيدة، الطير الحبيس، القطة الشرسة بوداعةٍ لطيفة، خفة الظل بهمومٍ كثيرة، الضحك وقت البكاء، البراءة برفقة التلقائية، بها كل ما يتمناه المرء، وقد أغمض عينيه متذكرًا قربه منها يُلثم عينيها حينما بكت وسرعان ما ازدادت نبضاته أكثر بعنفٍ وصخبٍ..
أراد أن يعتذر منها وأراد أن يحفظها في كنفه بعيدًا عن الناس وبعيدًا عن الماضي بألمه وذكرياته المريرة التي لم تنسها أو تتخطاها، وقد وجد نفسه يبتسم وأمسك الآلة الحادة ينقش فوق الفخار:
_لا أعلم أكانت عيناك
هي الغريبة عن عالمنا وأنتِ من عالمٍ
يبعد عننا بمسافات، أم أنتِ صاحبة الأعين
البريئة أندلسية الفؤاد؟.
ابتسم بخفةٍ حينما تذكر شكلها بالثياب العربية وفوقها الوشاح لتبدو حقًا مثل نسوة الأندلس بجمالهن الساحر كبيوت الأشعار الخاطفة للذهن منذ الإلقاء الأول فيسكن العقل دون أن يُبرحه وهكذا كانت صورتها التي عرفت مكانها في القلب والعقل ليعشقها هو بالروح، وتصبح للروح روحًا..
__________________________________
<“كل شيءْ هنا بحسابٍ قُمنا بدفعهِ مُسبقًا”>
دومًا ستجد الحساب نظير كل شيءٍ تم دفعه مُقدمًا وقد يكون ثمنه أكبر من المستطاع لكنه دُفِع على كلٍ، لذا بقدر ما قدمت من حسابٍ تصرف وخُذ خطواتك لطالما كنت قدمت ما عليك مُسبقًا، والآن تحصل على ما لديك..
في صبيحة اليوم الموالي وسط حركة المياه الهادئة بنهر النيل حول مقر العمل بشركة “الراوي” وقف “يـوسف” يُدخن سيجاره وهو يُطالع المكان بنظراتٍ ثاقبة تاركًا خلفه اثنين في غاية الأهمية بعدما أعدوا لكارثةٍ ستقلب الموازين هُنا، وكعادةٍ لديه منذ طفولته البريئة وقف يُعد بهمسٍ لنفسه حتى رقم خمسة وما إن طُرِقَ الباب ارتسمت بسمة بريئة فوق شفتيه لكون ما فكر فيه تحقق وهذه هي العادة الثانية..
وقد التفت على فتح الباب ليجد “عـاصم” ثائرًا بغضبٍ أعمى وصوتٍ أقرب للغيظ المنفعل:
_هو إيه اللي بيحصل هنا بالظبط؟.
واجهه “يـوسف” بعينيه وهو يدخن سيجاره دون أن يعيره أي انتباهٍ أو يقوم حتى بإطفائها بل ترك المهمة للطرف الأقوى هنا وهو “أيـوب” الذي وقف بوقارٍ يبتسم له باستفزازٍ وقد جاوره “عُـدي” أيضًا بوجهٍ مُكفهرٍ، لينطق “أيـوب” ببرودٍ:
_مش تباركلي يا “عـاصم” بيه؟ ولا لأ هقولك عمي أحسن، أنا بقيت شريك هنا في الشركة وهدير أملاك مراتي و”نـادر” مع بعض، إن شاء الله ربنا يرزقنا بالحلال ويجعلها فتحة خير علينا، وبارك الله فيما رزق..
“أيـوب العطار” الغوث كما يُلقب والغيث كما يصفوه، لكنه أيضًا سيولٌ من أنهارٍ جارفة تبتلع كل من تسول له نفسه التمادي على حقوق الآخرين، لا يسترد الحقوق بالذراع ولا بالشر، وإنما ما تم أخذه ببند الحق، يسترده هو من باب الحق، والحق دومًا معه، فما كان وزال حديثه إلا جُرف هاويةٍ تبتلع كل من يسلب مالم يخصه..
_____________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى