روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والثامن والخمسون 158 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة والثامن والخمسون 158 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والثامن والخمسون

رواية غوثهم البارت المائة والثامن والخمسون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والثامنة والخمسون

“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
ربي وإن كنتُ أنا عاصيك
فأنتَ العفو الرحيم..
وإن كنتُ أنا الضعيف
فأنتَ يا مولاي العظيم..
ربي إني والناس نُعصيك
جهرًا وأنتَ تسترنا يا كريم..
فجئت اليوم إلى بابك ولا أعرف
ما يعتريني..
لكني أتيت أرجوك الرحمة من الذنب العظيم
_”غَــوثْ”
__________________________________
لو لم تكن جناحًا لي فمُر دون أن تكسر جناحًا لي..
فإني هُنا وسط العالم والغُربة تعتريني، والكُربة هي من تُرافق أيامي، أنا هنا عالقٌ بين ماضيِّ وحاضري وبين كل ما يُطفيء نور أيامي، طيرٌ أنا ودَّ من العالم جناحيْن..
لكن العالم كسر جناحي ويوم أن توقفت عن الطير؛ لم يفعل العالم سوى إيلامي، شريدٌ أنا ولا موطن ليِّ وسائر البلاد تُنفيني، لكني وبرغم كل ذلك أملك رفاهية النظر في عينيكِ، وعيناك موطن لا يُنفيني…
فرُبما أنا من أختلقت أُلفةً بيني وبين العالم،
لكن عندكِ أنتِ كانت الأُلفة منكِ هي ما تُحييني،
فعجبًا للعالم حينما يُغرب المرء وأعود وأجد عينيك بين الأهداب تأويني، منذ مدةٍ وأنا لم أكن بأنا ولم أجدني في نفسي إلا حينما ساقتني الطُرقات إليكِ أنتِ هُنا، وأنا هُنا غريبٌ عن الديار، والجيد في الأمر أنكِ معي بالجوار
فقفي أمام العالم في صفي، إني بدونك لم أجد من يُنصفني،
وإن كنتِ لا تعلمين فالعالم قبلك أصر أن يُجحفني، ولم أجد مأوى غيرك بين حوائطه يُلحِفني..
<“أنا معك وإن لم يكن في العالم غيري معك”>
قد يفقد الطير قدرته على الطيران…
لكنه لن ينسى كل الطيور التي حاولت لأجله كي يعود لطيرهِ من جديد، لن ينسى هؤلاء الذين دعموا أجنحته كي يعود ويُحلق في الآفاق عاليًا، لن ينسى هؤلاء الطيبين الذين وقفوا في ظهره حينما خشى أن تُهاجمه عصابة الصقور الجارحة، لن ينسى الطير أنه حينما فقد أحد جناحيه؛ وجد من هم كانوا جناحًا له…
عاد بخيبة أملٍ وكتفين متهدلين حيث الصيدلية وياليته يجد بها دواءً كما يبيع هو لكل مريضٍ يسأل عن الدواء، أيعجز طبيبٌ عن مداواة جرحه وهو الذي يداوي جراح السائلين؟ أتى ابن عمها حينذاك ووقف خلفه يهتف بوقاحةٍ:
_أظن كدا تخلي عندك دم بقى وتمشي، لو راجل من ضهر راجل بجد تمشي وتسيب الحارة، متبقاش زي العيل الصغير كدا شبطان في حاجة مش ليك وعاوزها وخلاص.
رمى الكلام ولم يُبالِ وقبل أن يلتفت “مُـحي” ويرد عليه وجد النصف الآخر منه شكلًا ومضمونًا يقف أمامه وفي مواجهة الآخر ثم قال بجمودٍ قاسٍ لأول مرةٍ بحياته:
_أنا بقى هوريك تربية الراجل دا عاملة إزاي.
أنهى جملته ثم ضرب الشاب في بطنه بقدمه حتى أسقطه أرضًا ثم أقترب منه يُكمل ما بدأه وكل مافي داخله فقط أن يثأر وينتقم لأجل ذويه، وكأن هذا هو طبع الخيول، مهما ضعفت قوتها، لا يثور منها إلا الأصيل، وهو أصيل بما يكفي كي يُدافع وتثور ثورته لأجل شقيقه الأصغر الذي حتى الآن لا يفهم لما يُعامل هكذا؟ لما تحالف العالم ضده كأنه الغريم الوحيد له؟.
رفع “تَـيام” الآخر من فوق الأرض ساحبًا إياه من تلابيبه ثم دفعه يستقر فوق الحائط ثم قبض على عنقه وهدر من بين أسنانه المُطبقة فوق بعضها بحميةٍ بدائية ثارت بها الحمم لأجل ذويه:
_أسمعني أنتَ علشان شكلك متعرفش أنا مين، لو فكرت تخطي شبر واحد بس ناحيته تاني ورب الكعبة أنا هقطعلك رجلك في ساعتها، ولو فكرت بس تجيب سيرته بحاجة وحشة أنا هجيب لسانك وأقطعه، تبعد عن أخويا بدل ما أوريك أنا ممكن أعمل إيه علشانه، فـاهم يالا؟..
صرخ وهو يضغط فوق عنقه حتى أتى الطبيب وأبعده عن الشاب الذي أخذ يَسعُل ويُدلك عنقه ويمسح فوق رقبته وقد تولى “عبدالمعز” العتاب للآخر بقوله:
_ميفعش كدا يا “تَـيام” وحد الله بس متركبش نفسك الغلط.
التفت له “تَـيام” باندفاعٍ جليٍ وهدر صارخًا بحدةٍ:
_واللي هو بيعمله دا مش غلط يا دكتور؟ عمال يستقصده وواقفله في الرايحة والجاية وأخويا مبيقربش منه، بس لو أتكررت تاني والله العظيم ما هسيبه، هفصل روحه عن جسمه، وأنا قولت أهو، يا كدا يا أقلبها على دماغه ودماغ عيلته كلها، ولو هسكت فدا أحترامًا لبنت الناس وفرحتها وهعتبرها زي أختي، غير كدا والله ما هسكت.
كان “مُـحي” يقف على أعتاب المكان بملامح أقرب للتيه، لا يصدق أن اللحظة الفارقة تلك أتت وطرقت أبواب حاضره، فمهما طال خياله وأرتفع لم يُخيل له أن يأتِ يومٌ ويرى فيه شقيقًا يقف في وجه العالم لأجلهِ، أو بالأحرىٰ هو لم يُخيل له أن يعود الشقيق ويكون مقاسمًا له في الروح والحياة..
فصل الطبيب بينهما ثم أمسك مرفق الشاب وقال بنبرةٍ جامدة بعض الشيء كأنما يأمره لا يُطالبه:
_أمشي بقى يا “وائل” لو سمحت وياريت مالكش دعوة بيهم تاني، خليك بقى في حالك وسيبك من شغل العيال دا، مش علشان تعمل بطل قدام العيلة كلها هتيجي على الناس، لو سمحت ماشوفكش هنا تاني، أتفضل بقى.
دفعه دفعةً أخرىٰ جعلته يبتعد ثم رحل من أمامهما يستعيد هندمته لنفسه وثيابه ثم عاد لعائلته وقبل أن يفتعل المشكلات أوقفه عمه بنبرةٍ جامدة من بين أسنانه كأنه يحذره مما ينتوي فعله:
_لم الدور بقى علشان الفضايح، أظن سمعنا كلامك وعملنا الخطوبة أهو وبقت مُجبرة بس أكتر من كدا أنتَ هتفضحنا لو مش واخد بالك يا “وائل” لم الليلة ومش هقول تاني.
ارتكن “وائل” جانبًا بصمتٍ وعيناه تُتابع العروس المقهورة بجوار خطيبها الذي يبدو أنه تضايق من أفعال الخِطبة _نظرًا لشدة إلتزامه_ وقد تجاهله هو ثم وقف مع أفراد العائلة وبالأخص جوار أمه التي لوت فمها بتهكمٍ وهي تخبره سرًا:
_تصدق يا واد؟ البت دي برفعة مناخيرها علينا في العيلة عاوزة واحد زي دا يشكمها ويعرفها إن الله حق، بص أخواته كلهم لابسين النقاب إزاي؟ والبت “جنة” دي حلوة زي أمها المزغودة يعني هيلبسها النقاب ياكش تتكتم شوية.
ابتسم لها بسخريةٍ ثم حرك رأسه موافقًا بشرودٍ وعادت العائلة سيرًا على الأقدام نحو البيت الخاص بمسكن “جـنة” وقد كان “مُـحي” في الداخل يوليها ظهره، ولأن القلب خائن طلب منه التفاتة؛ فالتفت وياليته لم يفعلها، لقد رآها بعينيه بصحبة الآخر كي تبدأ معه الحلم الذي حلم به هو، وحققه غيره، لقد كان الأمر غريبًا عليه فوجد شقيقه وشبيهه يقطع عليه المسافة بينهما ثم قال بنبرةٍ جامدة:
_خلاص بقى، ريح نفسك وبطل تتعب قلبك على الفاضي، لو ليك نصيب فيها هتكون ليك من غير ما تعرف حتى الأسباب بتتهيأ ليك إزاي، اسأل اللي مجرب وعاش مكانك نفس الشعور دا بالظبط يا “مُـحي” اسأل أخوك اللي سبق وحس باللي أنتَ حاسس بيه، وحاسس بيك دلوقتي.
ولأن الحديث مُزايدات فقط فوق العواطف؛ ارتمى عليه أخوه يُعانقه، التحد به “مُـحي” كأنه صغيرٌ يشكوه قسوة العالم، وقد تفهم الآخر حاله فمسح عند مؤخرة خصلاته ثم ربت فوق ظهره بربتات حانية جعلت الآخر يستكن على المُلامسات لكن عيناه ظهرت من جديد وتلك المرة بقهرٍ، وأبلغ ما قيل يصف حالته كان:
_”بُليت أنا بهواكِ
والمُدن في عينيك تُغريني،
فوجدتكِ كما بلدي في آذاها وأوليتي قلبي
الدُبر وكأنكِ عن موطنكِ بذلك تُنفيني”.
__________________________________
<“ولأن الحياة لم تكن في الحياة بذاتها، وجدتها فيكِ”>
المقصد من الحياة لم يكن في الحياة بذاتها..
وإنما في هؤلاء الذين وجدنا فيهم الحياة من بعد مماتنا، ولأن الحياة نجدها فيمن أعطونا الحياة وكانوا لنا هم النجاة بذاتها، نفعل كل ما نستطع فعله وقد نُجازف بما لم نستطع فعله..
في بيت “نَـعيم” كان الأمر مختلفًا نوعًا ما
حيثُ كان هو في وادٍ غير الذي يعيش به الآخرون، كان يحمل الصغيرة على ذراعه ويقف بها عند حظيرة الخيول وكأنه يُنشيء الألفة ويختلقها بينها وبينهم، كان يشير نحوها تارة ونحو الخيول ويحدثهم تارة أخرىٰ، أراد أن يجعلها المُهرة الأصيلة وسطهم، وهي تبدو معه رائقة للغاية فلم يذكر له أنها بكت ولو مرةٍ فوق ذراعيه وبين أحضانه..
عادت ملامحه تتغضن ما إن تذكر حال صغيره وكيف سقط في بئر الحزن صريعًا، تذكر كيف نادى أمه في نومه ولم يجدها، تذكر هو أيضًا زوجته ورفيقة أيامه، وعاد بعينيه نحو الصغيرة صاحبة الأيام من عمرها ثم لثم جبينها وقال بنبرةٍ حانية وهادئة كأنه أسير الطلة بوجهها:
_صدق اللي سماكِ “دهـب” وأنتِ اسم على مسمى.
وعادت البسمة تشق وجهه وهو يُطالعها ويتذكر أول مرةٍ حمل بها صغيره، تذكر فرحته في المرةِ الأولى ولهتفه في المرة الثانية وحينها حمد ربه على عودة كلا الابنين لعناقه، لقد عادا من جديد يترعرعا بأحضانه وهو الذي أفنى عمره منتظرًا لطلةٍ واحدة في عينيهما..
أتت “سمارة” من خلفه تقف بصمتٍ ثم اقتربت أكثر وقالت بنبرةٍ ضاحكة تمازحه:
_لو كنت صغير شوية كنت جوزتهالك والله.
التفت لها يتبسم بعينيه ثم تحولت بسمته لضحكةٍ مرحة ثم قال بنبرةٍ حانية يعبر بها عن صدق مشاعره لأجل الصغيرة:
_ومين قالك بقى إني هسيبهالك أنتِ والصايع أبوها؟ أنسي وبقولك أهو، أنا عيشت العمر كله مستني ربنا يعوض البيت دا بفرحة تنسيه القهر اللي شافه وشقق حيطانه، و “دهـب” هي الفرحة اللي جت بعد رجوع الغاليين من تاني لحضني، خليها معايا، “نـدى” كانت بتحب البنات الصغيرين أوي.
ابتسمت هي لذكر الفقيدة ودعت لها بالرحمة والمغفرة ثم تابعته بعينين مليئتين بالحب وباغتته بقولها الذي لم يتوقعه منها لكن يبدو أنها حقًا صارعت نفسها كي تتحدث:
_هو ممكن لما تكبر وتسألني عن عيلتي تقولها إنك عمي؟.
عاد بعينيه لها وقد تبدلت ملامحه ونظراته فتنهدت هي بثقلٍ ثم قالت بأملٍ بات يتفاقم بداخلها منذ أن حملت الصغيرة فوق ذراعيها الحنونين لمرتها الأولىٰ:
_هتكسف أقولها أبوكِ جايبني من الشارع وأنا بتخانق مع شوية كلاب، عاوزاها تفرح بيا وتحس إني ليا قيمة، أبقى أقولها إنك عمي أو خالي وهما طلبوك مني، ينفع؟.
ابتسم لها بخفةٍ ثم وضع فتاتها بين ذراعيها وقال بنبرةٍ هادئة حينما سألته بعينيها عن مقصد فعله:
_بطلي عبط، علشان هي لو سألتني هقولها دي بنتي، وكون إنك جاية من الشارع فدا مش شيء يعيبك، بالعكس أنتِ جيتي هنا علشان كنتِ بتدافعي عن نفسك، ماكنتيش بتعملي حاجة غلط، أنتِ جيتي علشان متقبليش الحرام على نفسك ولا إنك تغضبي ربنا، بنتك لو عرفت أنتِ عملتي إيه هتحط فوق راسها العمر كله، بطلي هبل يا بت أنتِ.
ترقرق الدمع في عينيها وهي تُطالعه بحبٍ بالغٍ ثم لثمت جبين ابنتها بحنوٍ واستعدت كي تغادر موضعها لكن قبل أن ترحل أهدته جملة واحدة فقط جعلت قلبه يحلق كما الطير عاليًا:
_ياريتك كنت أنتَ أبويا بجد، بس محدش هنا بيختار أهله.
قالت ورحلت وظل هو بموضعه يُتابع أثر رحيلها ثم تنهد بقوةٍ وأومأ عدة مرات بيأسٍ وأسفٍ عليها، لقد كان الأمر لديه في غاية الصعوبة أن يجد غيره مقهورًا بهذا الشكل، وبالأخص تلك التي وضعها في مكانة ابنته الأولى، ولأنه يعلم فظاعة ما تُعانيه من مشاعر ما بعد الولادة، كان يستمع لها ويدعمها ويقوم بدور الأب لها..
في الخارج بصالة البيت عاد “مُـنذر” وجلس فوق الأريكة يتذكر الحوار الذي دار بينه وبين “جـواد” لأول مرةٍ بطابع غير الرسمي، كان الحديث ودودًا بنبرةٍ ضحوكة ووجهٍ باسمٍ حينما استدعاه لمكتبه وقال:
_جرى إيه؟ يعني لو ناوي تخلع عرفني، المفروض كتب الكتاب قرب خلاص وأنتَ حتى محددتش الوقت ووالدتي بتسأل لأن بكل أسف أعمامي بدأوا يتكلموا، لو مش مستعد أنا جاهز أبرأك وأقول إني أنا اللي مش موافق.
كان يستخدم معه سياسة الخُبث كي تثور ثورته ويفعل ما ينتظره هو منه وقد انتبه له “مُـنذر” وعلم المقصد من كلماته لكنه أراد أن يستفهم منه؛ فسأله:
_قصدك إيه؟ أنتَ عاوز تلغي الموضوع؟.
_ماهو طالما الموضوع متفتحش تاني يبقى خلاص نلغيه وأنا ألحق أتصرف بحيث سُمعة أختي متتبهدلش قُدام العيلة، لأن لو مش واخد بالك إحنا هنا في مجتمع شرقي، وفكرة إن بنت يتحدد معاد فرح ليها ويتلغي فجأة فدي عندنا صعبة شوية، صحيح أنا مش من النوع اللي بيركز في العادات والتقاليد بس أنا أخ كبير أولًا وأخيرًا ويهمني سمعة أختي.
كان ذلك الرد المدموغ بديباجة عملية طاغية جعلت “مُـنذر” يُطالعه بغرابةٍ أولية ثم ترك نفسه لبرهةٍ من التفكير وقال بثباتٍ يُحسد عليه:
_آخر الأسبوع هيكون كتب كتابنا، وزي ما عمي هو اللي جه وأتكلم معاك أنا هخليه يتواصل معاك والمكان اللي “فُـلة” تختاره لكتب كتابها أنا موافق عليه من غير نقاش، بس الأول اتأكد منها هي مستعدة للخطوة دي؟.
حينها كان الجواب بنظرة من العين قابله بها الآخر ثم أضاف مؤكدًا على الحديث المنطوق بعينيه:
_ولو هي مستعدة هل حضرتك هتكون برضه مستعد؟.
دار “مُـنذر” بعينيه يُمنةً ويُسرى ثم نطق بلهفةٍ:
_مستعد، طالما هي موافقة أنا أكيد مستعد.
ابتسم له الطبيب الوقور ثم أذن له بالرحيل وقد خرج هو من عمله إلى البيت يحاول ترتيب ديباجة عملية كي يُباشر عمه بالحديث ويخبره بموضوع زواجه وقد حاول كثيرًا لكنه فشل، كُلما حاول أن يخبره يجد نفسه ساكنًا بين أحضان نقطة الصفر، وكأنه يخجل من الحديث أو رُبما يخجل من فتح هكذا بابٍ وهو بكل تلك الآثام…
أتى “إسماعيل” من العمل بجوار شقيقه يتكاتفان كعادتهما سويًا وقد بحث الكبير بعينيه عن زوجته وابنته فأتت “تـحية” من الداخل تخبره بنبرةٍ ضاحكة قاصدة ممازحته:
_الحبايب بتوعك عند الخيول هناك، هتلاقيهم واقفين أو يمكن طلعوا الشقة متخافش عليهم أوي كدا مش هناكل منهم حتة يعني.
ابتسم هو مُرغمًا عن أنفه ثم تحرك من موضعه وقبل أن يختفي أثره تمامًا ولجت “سمارة” وهي تمسك “دهـب” فحمل الصغيرة منها ثم سألها باهتمامٍ:
_أنتِ كنتِ فين؟ مش قولتلك متتحركيش بيها كتير؟.
أخبرته هي بقلة حيلة بعدما حاولت تنظيم أنفاسها بعدما دارت أثار البكاء عن عينيها وصوتها:
_كنت زهقانة خدتها ونزلنا نتحرك شوية، إيه مش هتحرك هنا كمان؟ طب الأول كنت حامل دلوقتي إيه بقى الوضع؟.
رفع رأسه وكف عن مُداعبة ابنته ثم سألها بنبرةٍ جامدة بعض الشيء كونها تتهمه بشيءٍ من الباطل:
_هو أنا لسه نطقت يا “سمارة” ولا فتحت بوقي؟ أنا مستغرب بس إنكم برة هنا مش في الشقة، ولا هو أنا كل ما هتكلم كلمة هتقفيلي على الواحدة كدا؟.
أتى “نَـعيم” وتحدث يفصل بينهما بقوله:
_حصل خير أنتوا الأتنين خلاص، هي مخنوقة ونزلت تتمشى شوية وهو راجع من برة قلقان على أهل بيته، وحدوا الله بس أنتوا الاتنين دا شيطان ودخل بينكم.
سكتت “سمارة” وأيضًا زوجها ثم عاد يُلثم جبين ابنته فقال “نَـعيم” بنبرةٍ هادئة حينما شمل الجميع بنظراته ثم استقر فوق ملامح “مُـنذر” ليضيف قائلًا:
_عامةً آخر الأسبوع دا كتب كتاب “مُـنذر” في مسجد المُشير قولت أعرفكم وتحضروا نفسكم وتحضروا العريس، علشان بعدها هنروح بيت العروسة، يلا ربنا يفرحكم جميعًا.
حينها قامت “تـحية” برفع صوتها تُطلق زغرودة عالية صدحت في الأرجاء واهتزت القلوب فرحًا لأجلها تزامنًا معها وقد اقترب “إسماعيل” من رفيقه في عناقٍ خطفه فيه وقد شعر “مُـنذر” بالتيه وسطهم، حتى أن “إيـهاب” وقف بجواره وقال بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:
_جهز نفسك علشان هتشوف الحياة بحق.
سأله “مُـنذر” بعينيه فابتسم له “إيـهاب” ثم أشار برأسه نحو ابنته وقال بنبرةٍ ضاحكة:
_دي نتيجة الحياة يا “مُـنذر”.
في تلك اللحظة ولج “تَـيام” وخلفه شقيقه الذي كانت ملامحه حزينة بشكلٍ واضحٍ كأنه فقد الروح والحياة، وقد سارا حتى وقفوا بالمنتصف فأخبرهما والدهما بالخبر السعيد ونظرًا لتباين الأحوال بينهما قال “تَـيام” بنبرةٍ هادئة يبارك لابن عمه بقوله الفاتر الخالي من الروح:
_ربنا يسعدك يا “مُـنذر” ويتمم فرحتك بخير.
أومأ له موافقًا ببسمةٍ باهتة لم تصل لعينيه وقد تحدث “نَـعيم” يوجه حديثه لابنه الآخر كأنما يلفت نظره:
_وأنتَ يا “مُـحي” مش هتبارك لأخوك؟.
زاغت نظرات “مُـحي” بتيهٍ وبعينين مُشتعلتين كان الجواب حاضرًا بقوله الميت كأنه يجبر نفسه على المُباركة لغيره في حين أن قلبه يأنِ بوجعٍ:
_مبروك يا “مُـنذر” ربنا يسعدك، عن إذنكم علشان مصدع.
أتت في تلك اللحظة “آيـات” وطالعته بأسفٍ كأنها تخبره عن ندمها وربما أسفها لما يشعر هو فبادلها النظرة بأخرى حزينة ثم ذهب نحو غرفته مباشرةً بعدما ابتعد عن الجميع، وتسلق الدرج وأثناء مروره التقط بعينيه ذاك الحائط الخارجي من شُرفة البيت والجملة الشعرية المُدونة عليها كأن كل الأشياء تحالفت ضده حتى الجماد:
_إنْ كان مَنزِلَتي في الحبّ عندكُمُ
ما قد رأيتُ فقد ضيّعْتُ أيّامي
أُمْنِيّة ظفِرَتْ روحي بها يومًا
واليومَ أحسَبُها أضغاثَ أحلام..
ابتسم بسخريةٍ وأكمل صعوده فوق الدرج حتى وصل غرفته ثم ولجها وارتمى فوق الفراش بهزيمةٍ ساحقة كأنما قيامته لن تقوم من جديد، وقد التقط صورة أمه من فوق الجارور الموضوع بجوار الفراش وخاطبها ببكاءٍ مزق روحه:
_ياريتك كنتِ هنا، كان زماني بعيط في حضنك دلوقتي، أنا ليه كل حاجة صعبة معايا كدا؟ وليه لما مشيتي ماخدتنيش معاكِ، أنا ماشوفتكيش خالص، ياريتني ما كنت هنا…
ومن جديد ضم صورتها بين ذراعيه ونام، نام أسوأ النومات التي قد يسقط فيها المرء،
نام وهو يشعر بالحزن يبتلعه في جوفه
وهو بعدما حاول وحاول…فشل
حاول لكنه فشل بكل المحاولات، فشل حتى في عين نفسه قبل الآخرين، فشل في جعل نفسه مُنصفًا له وكأنه هو بذاته صديقه ثم أصبح لنفسه عدوه، فيا خِلي كُنت يومًا حليفًا لي،
اليوم أنا أمام العالم وحدي، وحتى أنتَ تركتني وحدي..
__________________________________
<“كانت الكارثة الأكبر في عدوٍ تخفى خلف الظل”>
مع مرور الليل تنكشف الخبايا..
وكأن الليل عدو الستر، فمن قال أن الحقائق تظهر في النهار بالطبع لم يختبر تلك التي تظهر في جُنحِ الليل وتطرق فوق رأس صاحبها، لذا تذكر جيدًا قبل أن تتمنى مرور الليل أن خباياك لم تظهر للعلنِ تزامنًا مع ظهور القمر..
لأنه وحده في هذا العالم يقدر جيدًا أهمية ذويه، يسعى بكل طاقته كي يقوم بإزالة أي عبءٍ عنهم، ولأنه يحبهما بكل ما فيه فعل لأجلهما جلَّ ما يستطع فعله، فترك عمله وكل شيءٍ لديه ثم أخذهما في نُزهة عائلية كانت زوجته في أشد الاحتياج لها، وكذلك ابنة شقيقته أيضًا، وكان قراره الأخير بداخل مدينة ثلجية وسط واحدٍ من أكبر المتاجر الضخمة تُجاريًا واقتصاديًا في مدينة القاهرة..
نزهة لم تخطر ببال أيًا منهما وكانت تلك مفاجأته في مدينة الثلج حينما رأى بأم عينيه ضحكات “نـور” تُجلجل عاليًا مع “چـودي” التي كانت تشعر أنها وسط أبٍ وأمٍ، كانت تختبر مشاعر العائلة بشكلٍ جديد جعلها ترتمي على خالها ثم قالت بضحكةٍ واسعة:
_أنا مبسوطة أوي يا “سـراج” كأني في فيلم كرتون زي ما أنتَ وعدتني، أقولك؟ أنا هقولك بابا مش خالو كمان، إيه رأيك يا بابا؟.
عاد للخلف سريعًا تزامنًا مع حركة نبضاته العالية تأثرًا بحديثها وقد لمعت عيناه بعبرات لامعة فأطلق سراح أنفاسه ثم ضمها من جديد بصمتٍ وكلمتها تتكرر في سمعه، فهو لم يسبق له ويُطالبها بنسب تلك الصفة له، وهي من فعلتها من نفسها، طال صمته وهو يُنصت لحديث قلبه وأخيرًا قال بنبرةٍ أجاد رسم الثبات بها:
_وأنا هكون مبسوط أوي لو أنتِ اعتبرتيني باباكِ، وكدا كدا أنا بعتبرك بنتي الكبيرة وأول فرحتي، وبالكلمة دي أو من غيرها أنتِ بنتي يا “چـودي”.
ضحكت له ثم أمسكت كفيه حتى استقام واقفًا ثم بدأ يدور بها وهي معه وقد أتت لهما “نَـور” التي تزلقت لتوها من الأعلى وأصبحت بجوارهما وقد انتبه لها “سـراج” فمد كفه كي تتمسك به وما إن فعلت اسقطها من جديد فوق الثلج وحينها ضحكت هي رغمًا عنها واستأنف معهما مزاحه ومرحه..
بعد قليل خرج بهما من المكان واتجه صوب المطعم وقال بنبرةٍ حماسية كأنه هو من يحتاج لتلك الطاقة وليس العكس:
_ناكل ونرتاح شوية بعدها نكمل خروج علشان نشوف الملاهي اللي الآنسة عاوزة تروحها دي، مع إني والله نفسي أروح قبلها، يلا أقعدوا يا عروسة منك ليها.
أجلس زوجته ثم صغيرته وكلتاهما تضحك عليه وقد مال على زوجته يهمس بمزاحٍ:
_خلي بالكم لحد ما أروح الحمام وآجي، أوعي أرجع ألاقيكِ تايهة بيها، بلاش حركات قرعة من بتاعتك دي، إحنا هنا في مصر يعني اللي يكلمك كشميله، واللي يقف على سكتك دوسيه، أتفقنا؟.
ضحكت على طريقته بيأسٍ ثم عادت بتركيزها مع الصغيرة التي ظهرت إمارات الفرحة فوق وجهها وبسمتها وخاصةً وهي تُراقص حاجبيها لـ “نـور” التي مسحت فوق أرنبة أنفها فوجدت “چـودي” تشهق كأنها تذكرت لتوها أمرًا ما:
_”نـور” صوريني بسرعة علشان “مُـنذر” يشوفها.
وبيأسٍ ضحكت لها ثم التقطت هاتفها وبدأت تلتقط لها الصور بالعديد من الأوضاع المختلفة التي عكست الفرحة المخبوءة بداخلها وكأن العالم يناولها كل مرادٍ تمنته..
أما هو فخرج من المرحاض ووقف يغسل كفيه وقد أتاه الصوت البغيض من خلفه يسأله بخبثٍ هاديء كحال قلبه:
_بس فرصة سعيدة جدًا إننا نتقابل هنا يا “سـراج” بعد كل الفترة اللي فاتت دي، لأ وكمان مبسوط ورايق، طب والله أنا خال طيب علشان سايبك كل دا فرحان من غير ما أنكد عليك، رغم إنك قليل الأدب أوي معايا، وروحت أتفقت مع حماك على رجالتي، وسلمت الخبير كمان، تحب أسلمك أنا كمان؟.
توسعت عينا “سـراج” واستقام بتروٍ كأنه لم يقدر على هذا الفعل بل فعلها بجسدٍ رخوٍ كأن الخلل أصاب أعصاب جسده، وقد وقف “ماكسيم” بجواره ووضع كفه فوق كتف الآخر ثم أشار للمرآة وقال بنبرةٍ ضاحكة _لم تكن حقيقية_ كأنه يثير استفزازه:
_تخيل الشبه بينا في الملامح؟ لايق إنك تكون قريبنا وفيك من دمنا، بس أنتَ غبي ومالكش انتماء لينا، لو تحسبها صح هتعرف إن البقاء لينا إحنا، البقاء للأقوى، وإحنا بكل الأوضاع أقوى، الأثار اللي هنا مفيش حد مقدر قيمتها، دي مكانها عندنا في متاحف تقدر قيمة الكنز دا، لو بتحب الحاجات دي بجد يبقى خليك معانا، وساعتها هتعرف كفة مين اللي كسبانة.
غامت عينا “سـراج” الزرقاوتان بطوفانٍ عاتٍ ثم استعاد ثباته سريعًا والتفت يواجه الآخر بنبرةٍ جامدة:
_تغور الكفة الكسبانة من وش أمك، مش عاوز أكون كسبان لو المكسب وسخ كدا زيك، واللي عملته مخليني مرتاح ومبسوط أوي، على الأقل عارف أحط عيني في عين حمايا ومراتي، تصدق أول أحس فعلًا إني راجل بجد، مش لامؤاخذة… “ماكسيم”؟.
ترك حديثه ممطوطًا ثم أكمله بتلميحٍ مبطنٍ ما إن ذكر اسم الآخر الذي احتقنت الدماء في وجهه لكنه ابتسم بفتورٍ ثم قال بغموضٍ جعل الريبة تساور عُنق من يُخاطبه:
_أنا علشان جدع وخدت كتير من شهامة المصريين هسيبك تكمل ليلتك وتفرح النهاردة، بس أوعدك قريب هاخد منك حقي كامل وساعتها متبقاش تزعل يا ابن الـ..”موافي”.
تركه كما ترك الأثر بكلماته في نفسه ثم أختفى تمامًا ولأن العقل في بعض الأحيان يتوقف عن العمل فعاد العقل لوعيه من جديد بعد بُرهةٍ عابرة فركض من موضعه بخطواتٍ شبه راكدة ومُهرولة وحينما خرج وجد زوجته تجلس بموضعها وهي تلتقط الصور برفقة صغيرته الضاحكة، وحينها عاد الفؤاد واستقر بموضعه بين الأضلع المهتزة..
كان قلبه ساقطًا في رُكبتيه كأنه شُل تمامًا عن الحِراك، وقف بتيهٍ والتفت حوله فوجد “مـاكسيم” كعادته يلتقط بعض الصور برفقة العديد من الأشياء ثم غمز له خفيةً وأشار بسهم عينيه نحو ذويه وحينها هوى قلب “سراج” من جديد واستأنف هرولته للطاولة الخاص بجلوسهما ثم أغمض عينيه بأسىٰ..
لاحظته زوجته فمدت كفها تُحرك كتفه بخفةٍ ففتح عينيها وطالعها بنظرات غائمة ثم قال بصوتٍ مبحوحٍ كأنه خرج لتوهِ من سباق العدو:
_أنا دوخت شوية بس علشان كلنا حاجة حلوة وضغطي نزل، هشرب قهوة دلوقتي وأفوق، طلبتي الأكل؟.
أومأت له بشرودٍ وقبل أن توصل عينيها بعينيه هرب هو من نظراتها قبل أن تقرأ بكل فصاحةٍ ما كُتِبَ في المُقل ولأنها أقرب له من نفسه بالتأكيد ستجيد قراءة ما يُخفيه، وهذا ما تأكدت منه حينما مد كفيه وأجلش “چـودي” فوق ساقيه وكأنه يحتمي بها من نفسه..
__________________________________
<“عودة التائب كمن لا ذنب له عند الله”>
نفس المرء خُلِقَت ضعيفة..
تتأرجح بين ذنبٍ واستقام، والنفس ضعيفة أمام الهوىٰ..
فتجد المرء ساقطًا بين الذنب والهوىٰ وكأنه يفعل كل ما كان عن بعده انتوىٰ، فاللهم ردنا إليك من جديد فإن القلب في البُعد عنك بنيران اللوعةِ اكتوىٰ..
الليل أتى عليه وازداد غسقًا وهو لتوه استيقظ من نومه، استيقظ حاضنًا صورة أمه بين ذراعه وموضع نبضه وأثر دمعة خائنة فر من بين الرموش وعَلُقَ عند مقدمة الأهداب، مسح وجهه بكلا كفيه ثم زفر بقوةٍ وتحرك بجسدٍ خاملٍ نحو المرآةِ يقف أمامها ليرى إنعكاس ملامحه، وقد تاه أمام نفسه بنظراته لتعود صورتها برفقة الآخر تتراقص أمام عينيه وكأنها تُذكره بما حدث وضاع منه…
مر شريطٌ بأكمله من حياته وتذكر كيف كان يلهو ويلعب ويضيع في الحياة وينسى نفسه حتى أنه لم يُسبق له ويتألم بمثل تلك الطريقة، وما إن انتهج ذاك الطريق وجد الحزن يحاوطه، وضياع الأحلام يُرافقه؟ كان الأمر غريبًا عليه وود أن ينسى، أراد أن يخرج من نفسه ويعود لسعادته وطيشه ولهوه حينما كان يعيش ولم يُبالِ بأي شيءٍ في العالم غير نفسه وفقط..
خرج من الغرفة بعدما سحب متعلقاته ثم أخرج السيارة البيضاء من مرآب السيارات وتحرك بها بسرعةٍ يعود بذاته لنفس المسلك القديم، يلقي بروحه في يَّمٍ من الذنوبِ ويعلم أنه سيغرق فيه، لكنها النفس العاصية ترغب في التعلق بحبال الهوىٰ، يعلم بكل يقينٍ أن ما يفعله أكبر خطأٍ يقوم به المرء، لكنه يود أن يهرب من ذاك الشعور البغيض الذي يخبره أنه قبل ذلك كان مُرتاحًا عن ذي قبل، واليوم هو يختبر أسوأ المشاعر وأكثرها قسوةً، وطوال الطريق كان شاردًا وفي وادٍ غير ذاك الذي يعيش به العالم، حتى أوقف السيارة وأصدرت صريرها المحتك بالأسفلت أسفل الإطارات..
خرج من السيارة وأطلق أنفاسه المُضطربة وهو يُطالع الملهى الليلي وخطى نحوه بخطوات واسعة حتى وقف على الدرجة الأولى من بين خمس درجات يتوجب عليه صعودهم كي يُلقي بنفسه في الدرك الأسفل، صعد الأولى ثم الثانية، وقبل الثالثة عادت صورتها أمام عينيه كأنها تلومه على نحثه بالوعود، رمش ببلاهةٍ وفرغ فاهه ولم يصدق نفسه وهو يقف أمامها، هي لم تكن هُنا وغائبة، وبرغم ذلك في قلبه كانت حاضرة، توسعت عيناه حينما وجدها تتركه وترحل بغضبٍ كأنها أمٌ تُعاقب صغيرها…
حاول أن يستدرك نفسه فكاد أن يتحرك من جديد نحو الداخل عاد حديث “أيـوب” ذات مرةٍ في مُقابلةٍ بينهما يرنو في سمعهِ كجرس إنذارٍ نبه عقله الغائب وعاد بوعيه المفقود، فكأنما نفسه تقرعه بقول الآخر:
_خليك فاكر وأنتَ رايح تعمل المعصية إن دي ممكن تكون آخر مرة ليك في الحياة وبعدها تودع وتفارق في ساعتها، وتذكر قوله ﷻ ‏”وما تدري نَفْسٌ بأي أرض تموت”
اللهم اجرنا من موت الغفلة ولا تأخذنا من الدنيا إلا وأنت راضٍ عنا يا الله، خليك فاكر يا “مُـحي” إن آخر نفس فينا محدش عارف هيخرج إمتى وفين، علشان كدا كل ما تيجي المسجد هتلاقيني، بتمنى أموت هنا وأنا ساجد وأقابل ربنا وأنا بعمل طاعة، وبدعي ربنا كل يوم ألف مرة إنه مياخدنيش وأنا بعمل معصية أو وأنا في فترة انتكاسة…
تكرر الحديث في سمع “مُـحي” كأنها إشارة تحثه على القرار الصحيح، وقف بتيهٍ ورفرف بأهدابه فوجد فتاة بملابس كاشفة تضحك ضحكة خليعة لا يفعلها إلا الساقطات بالمحرمات الفجة، لو كان بنفسه القديمة لكان اشتهى قربها، كان تودد كي يصل لها، كان سيدفع كل أمواله كي يقنعها بما يرغب ويود، أما الآن؟ يبدو أنه زهد كل ذلك حتى شهواته ما عاد يشتهيها…
وقف يتذكر حديث شقيقه وكأنها صورة سينيمائية تومض وتخبو بإضاءات تنبثق وتتمركز بالعقل مُباشرة فيهتز لها القلب:
_أنا فرحان بيك أوي يا “مُـحي” إنك الحمدلله رجعت من تاني لطريق ربنا وبقيت عارف الصح من الغلط وبتسعى إنك تبطل الحرام، عاوزك كل ما تيجي ترجع تاني للي بتعمله تفتكر إني مش هسيبك وهخليك تصلي، قولي بقى هيجيلك قلب تقف في قدام ربنا وأنتَ قبلها كنت بتعمل الحرام عادي؟ كل ما نفسك تضعف افتكر الكلام دا كويس.
هُنا ورفعت الجلسة بينه وبين نفسه، أصدر عقله الحكم مستخدمًا دليل الذكرى في مُرافعةٍ عن الحق أمام الباطل، وحينها ولى الدُبر وأعطى المكان ظهره كأنه يغلق على كل ذكرى سيئة بداخل هذا المكان؛ طاويًا كل ما فاته بداخل كتابٍ عتيقٍ من الماضي المُظلم كي يستأنس في الحاضر المُنير..
ولج سيارته وأغلق على نفسه وتلك المرة ضعف واستسلم للبكاء فبكى، بكى كأنه لم يبكِ من قبل، اهتز جسده وهو ينتحب باكيًا فضرب برأسه في تارة القيادة عدة مرات بيأسٍ، يأس وكأنه أيقن أنه فقد ماضيه وضاعت منه أيامه في اللاشيء، وكذلك تاهت منه أحلام وأمنيات الحاضر، فبأي مستقبلٍ يعيش وهو فقد كل شيءٍ؟ عمره كما الشجرة التي ترعرعت ربيعًا بزهوٍ؛ فأتاها خريفٌ أسقط أوراقها أرضًا..
قاد سيارته واستأنف عودته نحو بيته قبل أن يضعف من جديد، قاد بذات السرعة الجنونية وأثناء مروره من محيط بيته لمح والده يدخل المسجد القريب من البيت، أوقف السيارة حينها وظل يُتابع المسجد الذي بدأ يستقبل المُصليين وحينها ترجل من السيارة بجسدٍ مشدودٍ كأنه سبق وبرمج نفسه على هذا الوضع ثم اقترب وولج بيت الرحمن..
وجد والده يجلس فوق أحد المقاعد فاقترب منه بتروٍ وخطى وئيدة مترددة كأنه يخشى الفعل ثم جلس على رُكبتيه أمام مقعد “نَـعيم” الذي اندهش من وجود صغيره هُنا، وقد ابتسم له بحنينٍ فألقى “مُـحي” برأسه فوق ساق والده بتعبٍ بالغ. كأنه يخبره بطريقةٍ ما أنه حقًا هُزِمَ، وما إن مد والده كفه فوق رأسه نطق هو بتيهٍ وضياعٍ:
_أنا خسرت، وخسرت كتير أوي، أولهم نفسي.
تنهد والده ثم ربت فوق خصلاته الكثيفة ثم قال بنبرةٍ هادئة متضامنة ومُتعاطفة مع صغيره الذي هده التعب وظهر ذلك عليه:
_يبقى تدعي ربنا ينور طريقك ويعوضك بالخير، أدعي علشان أنا لما ضاع مني كل حاجة دعيت وساعتها ربنا كرمني وعوضني باللي لو سجدت عمري كله مش هقدر أوفي كرم ربنا عليا، ربنا كرمني بيك أنتَ وخليك ونس ليا طول العمر، ورد ليا أخوك من تاني وخد بأيدك لطريق ربنا، سلم أمرك لربك يا “مُـحي” إحنا لربنا مش لنفسنا..
ترقرق الدمع في عينيه من جديد وأراد أن يصرخ لكن والده المُثقف مسح فوق كتفه وهو يذكر اسم الخالق ويواسي صغيره ثم همس متضرعًا بنبرةٍ خافتة:
_”أنت المغيثُ لِمَن مَاتَت عزائمهُ
‏أنتَ الرَّحِيم بِمَنْ قَدْ هَدّهُ التعبُ!”
__________________________________
<“كان الرحيل عليَّ واجبًا لأنني لم أنتمي”>
لو لم تنتمي، عند الأبواب لا ترتمي..
فإذا لم تكن بمكانٍ يعلو بك، لا تُطيل وجودك في مكانٍ يدنو بكَ للأسفل، لا تبقى رهن الاحتجاز لهؤلاء الذين يهوون بك لأسفل قاعٍ بعدما كنت تُحلق عند السماء السابعة، لذا هذا المكان الذي إليه لا تنتمي، عند حدوده لا ترتمي..
في مساء اليوم التالي، وفي بيتٍ بدأ الحزن يظهر بملامحه المُخيفة كان يتحرك أحد أفراد البيت وهو يقوم بتحضير كل شيءٍ يخصه ويقوم بجمع ما يريد داخل حقيبة كبيرة الحجم، كان هذا هو “عُـدي” الذي بدأ يجمع متعلقاته وبعض الأشياء التي سيكون في أوج الحاجةِ إليها، وقد أتت “ضُـحى” تحمل الثياب المطوية فوق بعضها ثم ولجت له وهي تقول بصوتٍ غلبه الحزن:
_الهدوم اللي قولت لماما تكويها أهيه، اتفضل.
رفع رأسه من عند الحقيبة ثم طالعها هي بملامح تائهة ولم تخفَ عليه نبرتها الحزينة فتنهد بقوةٍ ثم تحرك نحوها يلتقطهم منها، ثم وضعهم بداخل الحقيبة وعاد لها يقربها منه ثم لثم جبينها بحنوٍ وقال بنبرةٍ هادئة:
_ممكن تضحكي شوية في وشي؟ أنتِ مكشرالي ليه يا “ضُـحى” كأني وعدتك بالجواز وخليت بيكِ؟ أنتِ النكد عندك مش مفرق بيني وبين “إسماعيل” خلاص، المهم ننكد؟.
رمقته بطرفها بنظرةٍ حادة جعلته يبتسم رغمًا عنه ثم لثم جبينها فقالت هي تعاتبه بقولها:
_عاوزني أكون عادي وأنتَ هتسافر لمدة سنتين؟ هتعيش لوحدك سنتين بعيد عننا عادي كأن الموضوع طبيعي وحاجة سهل نعديها؟ هتتغرب عننا كأنك ما هتصدق تسيبنا؟ أنتَ بتعرف تعمل حاجة لنفسك طيب؟ هتاكل وتشرب إزاي طيب؟ مين هغسلك ويكويلك الهدوم دي وأنتَ مش بتحب الهدوم مكرمشة؟.
ابتسم بحزنٍ رغمًا عنه ثم قال بقلة حيلة:
_هوديها دراي كلين يا “ضُـحى”.
_على فكرة غسيلهم مش حلو، يلا بقى.
هكذا ردت عليه تقاطعه وتُعانده وقد ضمها له بقوةٍ لأول مرةٍ منذ مدة طويلة يجمعهما قناعٌ مع بعضهما، لأول مرةٍ يبادر ويضمها بتلك الطريقة وقد استسلمت هي لدفء عناقه وبكت، بكت لأنها ستفقده وتلك المرة لأعوامٍ طوالٍ وهي تخشى عليه من قهر الغُربةِ، مسح فوق ظهرها ثم خصلاتها وقام بالتربيت فوق رأسها وقال بحنوٍ كأنه يُهدهد فتاته الصغيرة:
_متزعليش نفسك خلاص بقى، يا ستي وقت فرحك هاجي أنا مش قليل الأصل، بعدين “يـوسف” معاكم هنا أهو، خليني بقى أشوف نفسي وأحقق أي حاجة، والله لو هقدر أقعد كنت فضلت هنا، بس أنا مبقاش عند طاقة، ومش عاوز حد يلومني ولا يعاتبني، أنا عاوز حد يفهمني.
ولأنها أخته ونصف آخر من قلبه شددت ضمتها له وكورت قبضتها فوق قميصه وهو يتنهد بعمقٍ ثم مسح فوق خصلاتها وفي تلك اللحظة ولجت لهما “غـالية” وما إن لمحتهما استغفرت ربها سرًا ثم وقفت بجواره تمسح فوق كتفه وقال بلومٍ نبع من حُبها له:
_أنا جاية أقولك إني فهماك ومقدرة اللي أنتَ فيه، بس صدقني أنا ما صدقت ربنا رد ليا أخوك وتكونوا في كتف بعض عزوة وسند، تقوم تيجي أنتَ تدينا ضهرك وعاوز تمشي؟ خليك وسط أهلك وربنا يعوضك بالخير، بكرة تلاقي الأحسن ليك في كل حاجة يا حبيبي.
وكان الجواب منه قاطعًا:
_مش عاوز، ومش حابب، ومش قادر، والله لو مارتحتش هرجع تاني، مش هتعب نفسي على الفاضي في سكك مش شبهي، بس هحاول لسبب بسيط، علشان اللوم ميقعش عليا في الآخر ويكون اسمي إني أنا اللي مبحاولش، خلوني أحاول، ينفع؟ يمكن دوايا في الغربة يا عمتو.
كان يتحدث نيابةً عن حال قلبه وقد أندفعت هي ترد عليه بقولها الذي أتى مجروحًا:
_روح وأتغرب يا “عُـدي” وعيش بعيد عن أهلك وعيلتك وصحابك، بس هقولك حاجة مهمة، لو فاكر إن الغربة أكل وفلوس وشغل وعيشة حلوة بس تبقى غلطان، صحيح هتاكل وتلبس وتشرب وتمسك فلوس بس خليك فاكر إن قصاد كل دا الغُربة هتاكلك يا “عُـدي” وهتأخرك عن حياتك، سافر بس هتندم والله، إحنا هنا كلنا معاك، شوفت “يـوسف” أخوك تعب إزاي؟ شوفت حضني بالنسبة ليه إيه؟ صدقني أنتَ غلطان أوي، ولو سافرت الوحدة هتاكلك هناك…
ابتعدت عنه “ضُـحى” تطالعه بأملٍ للمرة الأخيرة وفي تلك اللحظة فُتِح الباب وولجت منه “أسماء” تخبره بنبرةٍ جامدة بدلًا من انقطاعها عن محادثته:
_فيه حد عاوزك برة ومصمم يقابلك، بيقولك مستنيك فوق السطح، هتطلع ولا في دي كمان مش هتسمع كلامي؟.
عاتبها بعينيه بسبب مقصد كلماتها ثم وزع نظراته بين البقية وأدرك أن الزائر ماهو إلا “يـوسف” حينها تنهد بقوةٍ ثم لثم جبين “ضُـحى” من جديد كي يسترضيها وتحرك نحو الأعلى، ولج السطح يستعد لجلسة تقريع وربما لضربات قوية فمن يعلم ماهي حالته المزاجية الآن؟..
وصل وبحث بعينيه عنه، لكنه لمح آخر من توقع أن يراها، كانت تجلس فوق الأريكة بقامتها القصيرة تلك كأنها فتاة تتعرض لفترة تهذيب دراسية بالمدرسةِ، أصابته التُخمة برؤيتها كأنه كان جائعًا ومن ثم تناوله وجبة شهية دسمة أثقلت جسده حدَّ الخمول، سار نحوها بخطى مترددة وحاول أن ينقي حنجرته.. وما بعد ذلك كان لقاءً بين المُقل الغائبة..
تلاقت النظرات معًا فوجد الحزن منها نظير العتاب منه فأغصبت شفتيها على بسمةٍ ثم قالت بصوتٍ مبحوحٍ بمشاعر عدة:
_أنا جيت أودعك قبل ما تسافر، خلاص ناوي كمان ٣ أيام؟.
ضم حاجبيه في لقاءٍ غريبٍ ثم أومأ لها موافقًا بتيهٍ فأومأت هي بفتورٍ وكأن اللقاء بينهما ينتهج مسلك الغرابةِ، سحب مقعدًا وجلس أمامها فوجدها تمسح وجهها ثم أخرجت علبة سوداء مخملية مربعة الشكل من حقيبتها ثم مدت يدها له وهي تخاطبه بترددٍ:
_دي هدية بسيطة مني علشان تفتكرني هناك، أنا مش أنانية علشان أفرض عليك واقع أنتَ مش هتقبله، بس أنا جاية أودعك بما إنك آخر مرة مستنيتش أودعك، ربنا يوفقك هناك ويكرمك بكل خير، عامةً أنتَ مكسب ليهم، وهما هيستفادوا كتير منك، أي حد عامةً يعرفك بيكسب كتير.
ابتسم لها بحزنٍ كأنه يعلم أن الكلام من باب المُجاملة ليس إلا، ثم تناول أطراف الحديث منها وقال بصوتٍ رخوٍ كأنه ثقيل حتى على الحديث:
_متشكر ليكِ، بس عامةً أنا مش رايح هناك بثقة أوي كدا، أنا رايح كأني شخص جديد ولسه مش هستلم الشغل غير بعد شهر، هروح بس هناك أظبط أموري وأشوف حياتي وأشوف سكن وبعدها أشتغل، بس أكيد يعني الشغل معاكم كان أفضل بكتير، بس أنا حاسس إنه مبقاش مكاني.
نظرت له بعينين ترقرق فيهما الدمع ثم تنهدت بقوةٍ وحركت رأسها بتفهمٍ فأضاف هو مُكملًا بعد برهةٍ من التفكير:
_على فكرة أنا مش زعلان منك عامةً والله، بالعكس أنا مقدر مشاعرك كويس أوي، فاهم أوي معنى إنك تكون مجبور على وضع ومفروض عليك تتقبله، فاهم إننا كأشخاص بنعاني كتير مع نفسنا ومحدش عارف يفهمنا، بس أنا تاني أهو بقولك أنا مش زعلان منك فمتشيليش نفسك فوق طاقتها، كفاية عليكِ أوي اللي أنتِ شايلاه جواكِ، وأنا للأسف فاهمه ومقدره، يمكن لو ماكنتش فاهمه ماكنتش وصلت للمرحلة دي، أدعيلي بقى ألاقي نفسي هناك وأكون مبسوط هناك.
وببسمةٍ باهتة وعينين تكوْن بهما غُلافٌ من العَبرات جاوبته:
_ربنا يوفقك وتحقق كل اللي نفسك فيه يا رب.
قالت ذلك ثم حملت حقيبته بعدما تركت العلبة المخملية ثم تنهدت بقوةٍ وقالت بنبرةٍ هادئة على عكس صراخها من الداخل:
_أنا مضطرة أمشي بقى علشان الوقت هيتأخر وعلشان تلحق ترتب حاجتك من غير ما أنا أعطلك، عن إذنك ولو احتاجت حاجة كلمني، أكيد مش هتأخر عنك، مع السلامة.
مدت كفها له بوداعٍ فمد كفه وكان ذلك هو الوداع الأخير، أنزلقا الكفان من بعضهما بوداعٍ مُتباطيءٍ وحملت هي حقيبتها فوق ظهرها ثم أولته ظهرها تسير بخطى هادئة وئيدة، وهو خلفها يلعن حظه العسر في الحُب، يندم لأنه من وهلته الأولى يُنصت للقلب، ثم يتفاجأ بما يصيبه بعد ذلك..
أما هي فكل ما حدث كان بأمرٍ من العقل، العقل الذي سيطر وتحكم لاغيًا بذلك دور القلب في حق حُريته، لتوها فقط أدركت حجم الخسارة الفادحة، أدركت أنها على مشارف خسارة لن تُعوض، فإذا كان هو عوضًا عن “حـمزة” فمن ذا الذي يعوضه هو؟ كيف تترك حُبًا أكيدًا لم تشعر به في السابق حتى مع من سبق ورحل؟ هرعت العَبرات من عينيها ثم التفتت له فجأةً تخاطبه برجاءٍ وأملٍ ألا يُخيب ظنها:
_ينفع متمشيش؟.
خرج من شروده على صوتها الباكي، وطالعها بعجبٍ في أمرها فوجد عَبراتها تزداد أكثر ثم عادت تقف في مقابلته وهي تقول بنبرةٍ باكية:
_كلهم مشيوا وسابوني، بابا، وبعدها “حمزة” حتى صحابي مشيوا وسابوني بعد اللي حصل متقبلوش التغيير اللي حصلي، حتى “يـوسف” كمان كان بيختفي كتير، وأنتَ بتعمل زيهم أهو، بتمشي، بس أنا عاوزاك جنبي هنا، مش عاوزة أكون أنانية معاك، بس ينفع متسبنيش لوحدي؟..
فرغ فاهه بانشداهٍ أمامها لكنه لن يتراجع بتلك السهولة، فتنهد مُطولًا ثم قال بنبرةٍ مبحوحة كأنه يواري مشاعره:
_طب ولما أقعد هنا وأضيع الفرصة مني وأرجع ألاقي من تاني ذنب متعلق بينَّا بيلف حوالين رقبتنا مع بعض؟ هيكون الوضع إيه؟ لما أحس إني مجرد دخيل بينكم ماليش مكان ودوري أمر مفروغ منه هيبقى الوضع إيه؟ أنا مش ماشي بمزاجي بس مش حاسس إني ليا قيمة وسط الناس هنا..
وهُنا أنفجر البكاء منها فكان مدرارًا لا يتوقف، وحينما أدركت أنها تفقد كل الخيوط من يديها، عادت تتمسك بهم وتقوم بتضفيرهم سويًا وهي تضربه في صدره بقبتضها ثم قالت ببكاءٍ لا يتوقف:
_أمشي، أمشي خلاص، بس لو هتمشي علشان فاكرني مش عاوزاك تبقى غلطان، لو حُبي هو اللي هيخليك تقعد فأنا بحبك يا “عُـدي” وللأسف أنا بضيع كل اللي بحبهم مني، بس أنتَ مش هينفع والله تمشي وتسيبني، خليك، لو أنتَ بتحبني بجد خليك.
وتلك المرة وقف أمامها هو بحيرةٍ، ولو وقف أمامها أكثر من ذلك سيفعل ما لا يُحمد عقباه، لذا تركها بموضعها ثم تحرك عند مقدمة السطح وهي تتابعه بغرابةٍ من فعله، فالتفت بنصف جسده يسألها بحيرةٍ:
_هو أنتِ كنتِ بعتالي الأنتريه كُحلي ولا زيتي؟.
تأهبت حواسها وتبدلت ملامحها فورما نطق هو، وقد جاوبته بنبرةٍ باكية مختلطة بالدمع والحزن معًا:
_أسود، إيه رأيك بقى؟.
ضحك رغمًا عنه ثم عاد ووقف أمامها من جديد وقال بنبرةٍ يائسة تزاحمها ضحكة يائسة هي الأخرى:
_أي حاجة منك حلوة.
ابتسمت هي له ثم طالعته بعينين دامعتين عاد الأمل يتوهج فيهما مُجددًا وهي تُناديه:
_”عُـدي”..؟.
تنهد بقوةٍ ثم رد عليها بما لم تتوقعه هي منه:
_يا وجع قلب “عُـدي”.
بهذا اللقب ناداها فأغمضت عينيها كي لا تنخرط في البكاء أمامه ثم قالت باستفسارٍ حتمي لا يتوجب أن يتأخر عن ذلك:
_أنتَ مش هتمشي وتسيبني صح؟.
دار بعينيه في وجهها ثم استقر في عينيها فوجدها تتوسله بنظراتها ألا يفعلها ويرحل وحينها أطلق تنهيدة قوية ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_أنتِ لو أنا قعدت هنا موافقة تكوني مراتي؟.
أومأت بلهفةٍ عدة مرات فابتسم وهو يقول بإذعانٍ لها:
_يبقى إيه اللي يخليني أسافر بقى؟.
ابتهجت ملامحها رويدًا رويدًا ثم ضحكت أمامه بسعادةٍ يراها لمرته الأولىٰ في وجهها ثم سألته بلهفةٍ ما إن تذكرت هذا الأمر:
_فين دبلتي لو سمحت؟.
تبدلت ملامحه وحمحم وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_للأسف بيعتها علشان كنت مزنوق في جواز السفر.
سحبت نفسًا عميقًا ثم قالت بطيبةٍ يعلم أنها من أسمى صفاتها رغم اتسامها بالطابع العملي:
_مش مهم، المهم إنك تكون بخير ووسطنا.
أومأ لها ثم أشار بكفه كي تنزل وتسبقه ثم توجه بها نحو شقتهم وأمام الجميع أخرج خاتمها من جيبه ثم مد يده لها به وهو يقول بنبرةٍ هادئة وارى خلفها حماسه:
_أنا مش هسافر، هقعد هنا وأكمل في الشركة مكان “يـوسف” وهخطب البت دي قدامكم أهو، وهتجوزها علشان أتوبها عن دماغها الناشفة دي، وعوضي على الله في الفلوس اللي ضاعت.
ابتهجت الأوجه فورما نطق هو وقد اقتربت منه أمه تحتضنه بقوةٍ وكذلك فعلت “ضُـحى” وهي تضم “رهـف” وتشكرها لمجيئها وإنقاذ الوضع قبل أن يتدهور أكثر من ذلك، بينما “غالية” ابتسمت بسعادةٍ ثم تذكرت حبيب عيونها كما تلقبه حينما أتى صباح اليوم ولثم جبينها وأخبرها بعزمٍ:
_متقلقيش، مش هخليه يسافر ويتغرب.
والآن أدركت أنه وفى بوعده معها ولم يُخذلها، فسحبت نفسًا عميقًا ثم اقتربت من “عُـدي” تضمه وتبارك له قراره الأخير، بينما هو نظر لـ “رهـف” التي ضحكت بعينيها له ثم اعتذرت بملامحها عن ما كانت ستتسبب فيه من أوضاعٍ لا تحتمل.
__________________________________
<“كان البيت سعيدًا بسعادة أهله والفرح ساكنه”>
في أغلب الأحايين تبدو السعادة عابرة..
كأنها مجرد وقت لحظي وسوف يمر؛ لكن في حقيقة الأمر هي حقيقة مُجردة من أي زيفٍ ألا وهي أنها ما إن تدخل بيتًا تسعد أهله وجُدرانه، كأن الجماد بذاته يقتبس من السعادة حوله ويظهرها فوق معالمه…
الأيام التي مرت برفقة زوجته كانت سعيدة بشكلٍ لا يصدقه، حياة جديدة منى نفسه به مرارًا حتى نالها في نهاية الأمر أخيرًا رغب تعبه وطيلة انتظاره وكأن الصبر يسكنه ومل منه، والآن المباركات تتوالى عليه وهو يجلس بجوارها وسط العائلة في بيته الجديد…
كان “بيـشوي” جالسًا بصمتٍ يبادلهم البسمات بأخرى هادئة، وزوجته تقدم الحلوى للجميع وتضحك لهم وكأن السعادة تسكن ملامحها هي الأخرى، كان الأمر بذاته غريبًا عليها أن تسكن ببيتٍ تحبه وتحب صاحبه لهذا الحد، وهو أمامها كان لطيفًا وهادئًا على عكس جموده وقوته، رأته بصورة أخرى مُغايرة لكل ما تظنه به، وفاجئها هو بهدوئه معها ولطفه وضحكه كأنه يُخبيء نفسه لها هي فقط..
صدح صوت جرس الباب وأيقن هو هوية القادم، فابتسم لـ “أيـهم” الذي كتم ضحكته فتحرك هو يفتح الباب لزائره وقال بضحكةٍ واسعة يثير بها استفزازه:
_حمايا بنفسه؟… إيه اللي جابك.
أرشقه “جـابر” بنظرات نارية ثم تحرك نحو الداخل فابتلع “بيشوي” الشتائم التي كان سينهال بها عليه، ثم تبعه نحو الداخل فوجده يرحب بالجميع ثم جلس بجوار ابنته وضمها له بعنادٍ في الآخر، ضمها واحتضنها ثم لثم جبينها وقد جلس “بيـشوي” بجوار “يـوساب” الذي كتم ضحكته وقال بسخريةٍ:
_عينك هتاكل الراجل، كلها ساعة ويمشي.
_أهو أنا ساكتله الساعة دي بس علشان مزعلش حد مني.
هكذا جاوبه وهو يتابع الآخر بنظراتٍ ثاقبة حتى بدأت الجلسة تصبح ودية بشكلٍ أكبر بين مزاحٍ وضحكاتٍ وقد تحركت “مهرائيل” نحو الداخل تأتي بطبقٍ من الحلوى لوالدها فأتى زوجها ووقف خلفها يسألها باهتمامٍ:
_فيه حاجة؟ شكلك متضايقة ليه يا “هيري”؟.
التفتت له ببسمةٍ كاذبة تنفي حدوث أي شيءٍ فوجدته يقول بنبرةٍ هادئة وكأنه فهم ما يدور برأسها دون أن تعلمه هي بأي شيءٍ:
_فاهم أنتِ حاسة بإيه، بصي أتعاملي عادي معاه، خليكِ طبيعية جدًا لأنه أولًا وأخيرًا أبوكِ، هو صحيح خد باله متأخر بس أهو خد باله يعني، بعدين إحنا أتفقنا طول ما أنتِ بلاش تزعلي، أنتِ جاية هنا وسايبة الزعل ليهم هناك.
أومأت له موافقةً فيما تحرك هو وعاونها فيما تفعل وخرج معها يقدم الأشياء لوالدها الذي جلس يتابعهما سويًا بعينيه كأنه يستنبط الفارق بينها وبين ما كانت تسكن معه، اليوم يراها سعيدة وملامحها أرق وكأنها وضعت بمكانها الصحيح..
بعد مرور بعض الوقت استأذن “أيـهم” ورحل بزوجته من عند رفيقه بعد تقديم هدايا الزواج والمباركات ثم نزل بها، وما إن نزلا سويًا بدأ يسيرا نحو البيت فسألها هو باهتمامٍ:
_كلمتي أختك؟.
حركت عينيها نحوه وقالت بنبرةٍ هادئة:
_لو “نـوال” فدي بكلمها في اليوم ١٠ مرات، لو التانية فأنا في حياتي دي كلها مكلمتهاش ييجي ١٠ مرات، معنديش استعداد بصراحة أروح أسمع حد ألاقيه مصمم إنه صح وكلامه مش مؤذي لغيره، زي ما برضه معنديش استعداد أروح أكلم حد حاططني في صورة وحشة ومش هيديني فرصة أدافع بيها عن نفسي، فأنا بصراحة مش مستعدة معاها لأي حاجة.
أخبرته بثباتٍ قاطعٍ لرفضها ولدهشتها أتاها بردٍ غير متوقع:
_في داهية.
التفتت له بعينين واسعتين وهي تسأله باستنكارٍ:
_بقولك إني بخسر أختي، تقولي في داهية؟.
_خلاص، ٦٠في داهية ولا تزعلي نفسك.
ضحكت رغمًا عنها بسبب طريقته فيما بدل هو الطريق بآخرٍ وسار وهي بجانبه بصمتٍ، فقال هو ردًا عليها:
_أي حد في الدنيا دي بيتعب ويعاني، فيه اللي بيعاني في صمت ومش معرف حد حاجة وفيه اللي بيشارك الناس وجعه، وفيه اللي بيقفل على نفسه ١٠٠ باب في وجعه وفيه اللي بيظهر زعله في تصرفاته، وفيه اللي حزنه جاي من ١٠٠ باب وهو مش ملاحق على واحد فيهم، كل دا بقى بيوصل لنفس النتيجة وهو إن الشخص طبيعي يتغير، طبيعي يزهق ويفقد طاقته، بس لو هاجي أزود حزنه وأدوس على جرحه بكلام صعب، يبقى بلاها، ولو مش متقبلين فكرة إن الإنسان بيعاني كدا يبقى على الأقل نحترم وجعه..
سكت هنيهة عابرة ثم أضاف مُكملًا:
_وآه على فكرة أي إنسان بيملك حق الحكم على غيره، بس لو أتحط مكان غيره بيتصرف بنفس الطريقة، نفس الأفعال تكاد تكون واحدة، زيهم زي اللي بيشجعوا الكورة، نازلين شتايم وسب في اللعيبة والفريق والمدرب، بس دول نفسهم لو نزلوا الملعب وواجهوا الضغط اللي الفريق بيواجهه وشافوا بعينهم أكيد محدش فيهم هيعمل حاجة جديدة، علشان كدا الغبي بس هو اللي يفضل يحكم ويتكلم ويحط غيره في صورة وحشة، ومع أول ضغطة من الواقع حواليه بيتحول ١٨٠ درجة.
أومأت له موافقةً تؤيده في حديثه فابتسم هو لها ثم أشار نحو الطريق الآخر وقال بضحكةٍ رزينة
_تعالي بقى علشان أنا مش غبي هعزمك على عصير.
توسعت ضحكته وسارت معه جنبًا إلى جنبٍ ولازال هو يدهشها بنفسه، لازال يُخفي الكثير خلف أقنعته أهمها المسئولية تجاه من يحبهم، معه تعهد العمر منذ بدايته كأنها لم تعشه من قبل.
فكانت الحياة قبله خرابًا وبعده أمست عمارًا..
_________________________________
<“لولا من نُحب لما كنا أكملنا طريقًا”>
عند نهاية الطريق وقبل عودتنا..
نحتاج لمن يدفعنا، نحتاج لمن يقف في صفنا ويختار أن يُنصفنا، نحتاج لمن يدفعنا فنكمل الطريق الذي قد نختار أن نبتعد عنه ونتراجع عن تكملته، نحتاج في المنتصف من يخبرنا أن الطريق يحتاجنا ويتوجب علينا أن نسير به، نحتاج لمن يمسك يدينا وينتشلنا من ظُلمتنا..
بين أحضان الكبير يتكيء الصغير..
حيث كان “إيـاد” بين ذراعي عمه “أيـوب” بشقته في الأعلى، و”أيـوب” يُلحفه بذراعيه القويين ويمسد فوق رأسه حتى نام الآخر وترك الفيلم الكرتوني المفضل له، بينما “أيـوب” فتذكر آلام الصغير ووجعه فابتسم بحزنٍ لأجله ثم لثم باطن كفه وضمه لصدره أكثر واستند على الأريكة خلفه حيث كانا يجلسا فوق الأرض..
أنهت “قـمر” فرض العشاء بوقتٍ تأخر رغمًا عنها ثم خرجت لهما وما إن رأتهما بتلك الوضعية سألت زوجها بنبرةٍ خافتة:
_ما الكراسي كتير أهيه، يا سيدي ناموا على الكنبة.
رفع رأسه لها وهو يقول بنبرةٍ أقرب للهمس:
_هو بيحب ينام كدا وبيرتاح كدا، دي قعدتنا المفضلة أنا وهو مع بعض، سواء في البيت أو الجنينة تحت أو حتى في المسجد، هو كدا بيكون مبسوط ومرتاح والأهم إنه في حضني.
أومأت له موافقةً ثم مالت على الصغير تُلثم جبينه وتمسح فوق وجنته الناعمة وهي تراقب ملامحه الهادئة إبان نومه فابتسمت برقةٍ حيث أخبرها زوجها بطلبٍ لم تتوقعه منه:
_وأنا؟.
اقترتب تُلثمه هو الآخر فوق وجنته حتى ابتسم لها ثم ضمها له هي الأخرى فأصبح يحتضن الاثنين، وحينها قالت هي بنبرةٍ ضاحكة ما إن وصل عقلها لتلك الصورة المنتظرة:
_أنتَ هتبقى أب شطور خالص، باين عليك.
رمت الكُرة بملعبه فابتسم هو لها ثم قال ببسمةٍ واسعة:
_لما حصل اللي حصلي في المعتقل بابا أقترح عليا أتجوز، قالي يمكن لما أبدأ حياة جديدة مع حد تاني يساعدني أتخطى اللي حصل فيا، ساعتها أنا قولت مستحيل أتجوز، لا يمكن أعمل كدا وأمرمط بنات الناس معايا وأعيشها في الخوف والقلق دا، وكنت مُصر على رأيي، ولما حاولوا يقنعوني بالعروسة رفضتها أكتر، لأني مستحيل كنت هقدر على الجوازة دي، بس لما شوفتك غيرت رأيي بصراحة، لقيت نفسي واحدة واحدة كدا برجع في كلامي وبقيت عاوزك أنتِ مراتي وأم عيالي، ففكرة وصولي لهنا دي فضل كبير من ربنا عليا.
ابتسمت هي له ثم ربتت فوق كتفه وقالت جملتها المعتادة:
_يا بخت ناسك بيك يا “أيـوب”.
ناولها بسمة حنونة هو الآخر ثم ضمها أكثر وقال بنبرةٍ ضاحكة يمازحها ويشير لمن تركه ونام:
_أتفرجي على الكرتون اللي الواد دا دبسني فيه، أدي آخرة اللي يسمع كلام العيال الصغيرة، يلبس في أجدعها حيطة.
وضعت رأسها فوق صدره واستكانت ببسمةٍ هادئة وهي تتابع الفيلم الكرتوني بينما هو فلم يكترث بالفيلم كثيرًا، وإنما كانت اللوحة الموجودة بين ذراعيه أكثر أهمية من أي مطالعةٍ أخرىٰ، حيث ركز عينيه عليها وعلى إنفعالات وجهها الرقيق تفاعلًا مع الفيلم الذي بدا في غاية الأهمية لديها..
في مكانٍ آخرٍ أكثر جمع حبيبين على نفس الغرار، كان يسير في الشقة و”عـهد” خلفه تمسك الورقة والقلم وتدون الأشياء التي يقوم بوضعها في الحقيبة، كانت تتابع ما يفعله وتعاونه، حتى قالت بثباتٍ دون أن تظهر حزنها:
_ممكن أنا أرص الشنطة مكانك؟.
رفع رأسه يجاوبها بنبرةٍ طبيعية كأنه وقع تحت سطوة الانشغال:
_متعود أرصها عادي متشغليش نفسك.
اقتربت منه تدفعه بعيدًا عن الحقيبة ثم قالت بنبرةٍ جامدة:
_دا قبل ما أكون أنا عندك ومعاك، بس دلوقتي أنتَ متجوز وحياتك بقت مليانة بيا، علشان كدا أنا اللي هحضرلك الشنطة، زمن غير نقاش لو سمحت، فاهم؟.
أومأ لها بقلة حيلة ثم التفت وسحب علبة السجائر وقام بإشعال واحدةً منهم وجلس بصمتٍ يتابع ما تفعله حيث وجدها تلتفت له وهي تقول بدهشةٍ مصطنعة:
_أنتَ مش هتساعدني طيب؟.
انتبه لها لثوانٍ ثم ابتسم مُرغمًا وهو يقول:
_قولي إنك مش عارفة تسلكي في الشنطة.
اقتربت منه وجلست أمامه على ركبتيها ثم قالت بنبرةٍ هادئة وحنونة كأنها أخرى غير تلك المشاكسة:
_لأ عارفة وأنتَ عارف كويس، بس أنا عاوزاك تقف معايا نرتب الشنطة مع بعض وأساعدك فيها، مش كفاية هتحرم منك كام أسبوع؟ هلاقي مين يوترني هنا ويجيبلي ربكة طيب؟ أتعودت عليك وعلى دماغك بكل اللي فيها، وبقيت عادي متقبلة قربك وأنتَ خدت بالك إني مش بخاف زي الأول، فعلشان كدا عاوزة يكون بينا مواقف حلوة وذكريات أحلى كمان، هساعدك وأنتَ بتساعدني، قولت إيه؟.
ترك سيجارته في المنفضة الزجاجية ثم ضمها له ومسح بجوار رقبتها كما يفعل دومًا حركتها المُفضلة حتى تستكين له؛ ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_المرة دي هسافر علشانك أنتِ، هسافر علشان لما أرجع تتأكدي إنك معايا في أمان، يمكن محتاجة لفترة تقدري فيها تنفذي كلام “فُـلة” وأنا بعيد عنك، بس عاوزك تتأكدي من حاجة مهمة، أنا مهما بتوه بجيلك، ومهما أتعصب بهدا جنبك، ومهما روحت ومشيت برسى عندك في الآخر، عاوزك تاخدي بالك من نفسك، زي ما أتفقنا تقعدي عند مامتك لحد ما أرجع، هناك هكون متطمن عليكِ أكتر، والفلوس هنا سايبلك كتير، اللي تحتاجيه أنتِ أو “وعـد” أو مامتك هاتيه، متنسيش أنتوا ملزومين مني زي ماما بالظبط، بلاش تقصري في حاجة وأنا مش هنا يا “عـهد”.
طالعته بحبٍ بالغٍ من حنوه الغريب الذي يغدقها به في أغرب حالاته بل في أسوأ مشاعره أيضًا، وحينها ابتسمت له ثم قالت بنبرةٍ ضاحكة حماسية:
_طب يلا ساعدني نربت الشنطة؟.
_برضه؟.
قال كلمته بنبرةٍ ضاحكة ثم تحرك معها نحو الحقيبة وبدأ يعاونها ويخبرها عن نظامه الشديد للأشياء، وهي تعجبت منه حتى ساورتها الدهشة، فكيف له أن يكون مُرتبًا ومُنظمًا لتلك الدرجة الغريبة، وقفت تعاونه وتتدلل عليه وهو معها يبتسم تارة ويضحك تارة حتى سألته هي بلهفةٍ:
_صحيح أنتَ بكرة هتمشي إمتى؟.
تنهد بقوةٍ ما إن تذكر أمر الغد ثم قال بهدوءٍ:
_بكرة بعد كتب كتاب “مُـنذر” إن شاء الله بس بليل، الأتوبيس هيتحرك الساعة واحدة كدا، فهكون هناك الساعة ١٢ علشان الكشف يتوقع باسمي.
أومأت له موافقةً ثم ارتمت عليه تضمه لها كأنه تودعه وهو بدور تشبث بها يُطمئن نفسه أن ما فاته من العمر لن يتكرر بنفس ذات البشاعة، يعلم أن بتواجدها معه كل شيءٍ أصبح في نصابه الصحيح، لذا لثم جبينها ثم أخذ الكتاب الذي سبق وأهدته هي له ووضعه بالحقيبة كي يستأنس به في غُربته، وقلبه يهتف بنفس الجملة التي بدأ منها كل شيءٍ:
_الشبيه لشبيهه يطمئن.
__________________________________
<“فهمنا المقصد والمعنى يوم أن سويًا اجتمعنا”>
كل المعاني كانت مُبهمة حتى اتضحت بوجودك..
فلا كنت أفهم من أنا ولما أتيت لعالمكم هُنا، حتى أصبحنا سويًا وفهمنا المقصد والمعنى يوم أن سويًا اجتمعنا، فأصبحت أفهم مقصد الكلمات، وأدركت أيضًا أنك أمنية من وسط الأمنيات..
لو أخبره أحدهم ذات يومٍ بوصوله لتلك المرحلة لما كان صدقها يومًا بحياته، فمن يُخيل له أن الميت قد يعود للحياة؟ اليوم يقف في بيت عمه ينتظر مجيء الشباب له كي يذهب لعقد قرانه واقتران حياته بحياةٍ أخرى، وقف يرتدي حُلة سوداء اللون وقد ولج له “إسماعيل” يمسك باقة الزهور في يده وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_الورد جيبته أنا، تحب أديه للعروسة كمان؟.
زجره “مُـنذر” بعينيه وقد أقترب منه “إسماعيل” يضمه في عناقٍ قويٍ ثم مسح فوق ظهره بربتاتٍ قوية ثم قال بنبرةٍ حانية كأخٍ يدعم أخيه:
_طب والله الفرحة مش سيعاني ليك، أخيرًا.
ابتسم “مُـنذر” له وبادله العناق بآخرٍ وفي تلك اللحظة أتى لهما “نَـعيم” فانفض العناق وانتبه كلاهما له، وقد غمز له “إسماعيل” ثم أنسحب من مكانه وترك العم مع ابن شقيقه وقد رفع الكبير كفه وضم الآخر لعناقه وحينها ارتخى جسد “مُـنذر” وسلم نفسه لعناق عمه..
أحتواه “نَـعيم” بعناقه ثم ابتعد عنه ومد يده له ببطاقته الشخصية ثم قال بنبرةٍ هادئة بها الكثير من الأسف والندم على حاله:
_دي بطاقتك، القضية خلصت وكدا اثبت نسبك لينا، رسمي رجعتوا تاني باسم “الحُصري” لو في أيدي حاجة تانية أعملهالك تخليك ترفع راسك وسط الخلق قولي، مش هبخل عليك بحاجة، والله أنتَ زيك زي ولادي كلهم.
ترقرق الدمع في عيني “مُـنذر” ونكس رأسه للأسفل يطالع البطاقة الشخصية ثم ابتلع ريقه العالق بحلقه وبحث عن حديثٍ يُقال فلم يجد، نعم ذهب بنفسه ذات يومٍ برفقة عمه لمبنى السجل لكنه لم يتوقع أن يحصل على اسمه وصفته بتلك السرعة، وجل ما استطاع أن يقوله كان حديثًا مشوشًا:
_شكرًا… شكرًا يا حج.
صفعه “نَـعيم” بخفةٍ فوق وجنته ثم قال يمازحه:
_برضه حج؟ ياض بقولك بقيت على اسمنا خلاص، بلاش حج دي منك، قولي يا عمي، أو لو تقدر قولي يا بابا.
أومأ له “مُـنذر” موافقًا فربت عمه فوق كتفه ثم أولاه ظهره وقبل أن يختفي أثره من محيط صالة البيت أوقفه “مُـنذر” بقوله الذي خرج مبحوحًا:
_ربنا يديم وجودك ليا.. يا بابا.
التفت له بعينين مغرورقتين ثم ابتسم له بحنوٍ بسمة احتوته، وبعد مرور ما يقرب الساعة رحلوا من البيت نحو المسجد كي يتم عقد القران به، بعدما أتوا بالعروس من بيتها هي وأفراد عائلتها، وبعد أن وصلوا ولجوا المسجد وقد جلس “جـواد” يضع كفه بكف “مُـنذر” لتبدأ المراسم رغم غرابة الحدث ككلٍ، كان “مُـنذر” يبحث عنها هي بعينيه حتى التقطها تقف بجوار زوجة شقيقها والفتيات حولها، ابتسمت له وبادلها البسمة بأخرىٰ وقد أتى “يـوسف” و “سـراج” كي يقوما بالتوقيع في خانة الشهود…
ولأن صداقتهما لم تخلْ من المشاكسات قال “يـوسف” بتهكمٍ له كأنه يشاكسه بقوله:
_هو أنتَ شاهد على الجوازة؟ ربنا يسترها.
_والله على الأقل راجل متقي ومتوضي، مش زيك لسه شاتم الطريق كله علشان تسلك عربيتك، أتلهي على خيبتك.
هكذا تم الحوار بينهما حتى بدأ عقد القران واختتم بحديث “مُـنذر” يقبل الزواج منها بقوله:
_قبلت زواج موكلتك وكريمتك الآنسة
“فُـلة أحمد أبوالحمد المُحمدي” على كتاب الله وعلى سنة رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام.
_بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير.
بدأت المُباركات والتهنئات تتوالى وتتكرر على العروسين وذويهم ومن بين الجميع كان “مُـنذر” يبحث عنها بعدما وقعت على عقد القران وقُرِنَ اسمها باسمه أخيرًا، تحرك وفي يده باقة الزهور التي وضعها “إسماعيل” وقد اقترب منها أخيرًا وحينما ابتسمت هي له اقترب يُلثم جبينها فقط..
كانت تلك هي مرته الأولى في حياته التي يفعلها فيها، كان الاقتراب غريبًا وفريدًا من نوعه، وهي أمامه كادت أن تنصهر وفي تلك اللحظة أتى من خلفه صوتٌ لم يتخيل هو أن يسمعه حينما بارك له بكل وقاحةٍ:
_مبروك يا “مُـنذر” صحيح أنتَ معزمتنيش بس أنا جيت علشان بفهم في الواجب، مبروك يا حبيب بابا.
التفت “مُـنذر” بفاهٍ فارغٍ ليجد “ماكسيم” أمامه وأمام الجميع يقف برأسٍ مرفوعٍ والأعين بأكملها تتربص لموضع وقوفه، بينما هو ركز بعينيه نحو “فُـلة” التي توترت من الأجواء فقال هو بنفس البرود غير مكترثٍ بمن حوله:
_إيه يا “مُـنذر” مش هتقولها أنا مين؟ مش هتعرفها على باباك اللي مربيك؟ أعرفها أنا طيب وأقولها أنا مين يعني؟.
**********************
_الفصل الجاي يوم التلات إن شاء الله.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى