روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والثامن والثلاثون 138 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة والثامن والثلاثون 138 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والثامن والثلاثون

رواية غوثهم البارت المائة والثامن والثلاثون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والثامنة والثلاثون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثالث والخمسون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
ينسى الإنسان على وهنٍ
أن طريق الله بهِ رحـيب..
فيظل يعاني من وصبٍ
ينفك قليلًا يَـؤوب..
ويشيل على كتفيه الدنيا
مأسور فيها مصلوبٌ
أتذكر في ساعة لوعٍ
“ادعوني” فإني سأجيب
لحظات والويل تلاشى
وتناءت في الليل خطوب.
_”عماد الدين خليل”
__________________________________
“كُل المُحبين في هنا إلا أنا”
أنا بمفردي هُنا لا أنم، ولا أهنأ، أنا هُنا أشعر بالتيه وأخشى الفراق، أخشى من كل شيءٍ إلا أنتِ، ففي الحقيقة أنا لم أطمئن في حياتي إلا حينما قابلتك أنتِ، وقد يكون هذا هو سبب قلقي وإضطراب ليلي، لطالما كنتُ غير مُكترثٍ بهذا العالم واليوم أنا لم أرَ غيركِ في هذا العالم، نصرٌ أنتِ وفي نفس الآن هزيمةٌ، الغياب منكِ وجعٌ والقُرب منكِ فرحةٌ، قد أكون أمامكِ أعزلًا بغير سلاحٍ لكني رأيتُ فيكِ أقوى ما يدعم المرء ويُحصنه، أنا هُنا عاشقٌ لم يعرف الهَنا، بل أنا كما الأسير في حُبٍ وقعتُ كمن هُزِمَ في حربٍ، حربٌ فرضتها عليَّ عيناكِ وكنتُ أنا أول المهزومين أمامكِ، أتدرين؟ لم تكن الحروب بشيءٍ جديدٍ على حياتي، فأنا تقريبًا أخوض كل يومٍ ألاف الحروب مع نفسي وذاتي، والحرب دومًا كان مقرها بداخلي وفي كل يومٍ أُهزم أمام نفسي وكانت تلك هي مُعاناتي، إلا حرب عينيكِ أرقت ليلي وسرقت النوم من عيني وأنا أتساءل، كيف لشخصٍ مثلي لم تهزمه الهزائم أن يُهزم أمام عينين؟ لا يَهُمني من العالم شيئًا سوىٰ أن أكون أنا معكِ وأنتِ معي ولا يَهُم متى وأين.
<“خلف الساحر ساحرًا فاق في السحر أباه”>
لم نُشبه بعضنا البعض، بل كان لكل مِنَّا قصةٌ خاصة به وحده، فنحن لم نعش نفس المُعاناة، بل لكل فردٍ فينا نسبةٌ تختلف مع الآخر لتقبل الألم والمُعاناة، لكن حينما يأتي اليوم لكي تُرَد الحقوق لأهلها فقد يفوق جرح الماضي على كل مُعاناةٍ عاشها المرء، نحن لم ننسَ، وأنتم لم تنسوا، والحقوق سترد إن أردتوا أن تنسوا.
_كدا أول حاجة تمت، تاني حاجة بقى إنك تمضي على الورق دا وقبل ما تسأل عن دا ورق إيه أحب أقولك دا تنازل منك لـ “يـوسف” و “قـمر” عن حصصك في كل حاجة، معلش دا مال يتامى وإحنا كله إلا مال اليتيم.
ألقى “أيـهم” هذا الحديث فورما حصل على الأوراق من “يـوسف” فيما توسعت عينا “سـامي” ذاهلًا وحرك رأسه نحو “يـوسف” الذي غمز له في الخفاء بخبثٍ لم يلمحه أحدٌ غيره، بالطبع هو لن يصمت ولن يسكت عن حقه، وإن كان سكت لوهلةٍ أو توقف هُنيهة عابرة فهذا فقط لأجل أن يلتقط أنفاسه ثم يُكمل طريقه من جديد، وقد أشبه كلاهما في تلك اللحظة تلك المقولة التي تقول:
“قالوا مات في القريةِ ساحرٌ فاستراح الناس من آذاه ..
خلّف الساحر ابنًا قد فاق في السحر أباه”
و”يوسف” فاق كل الحدود التي لم يعبرها حتى والده، يقتنص ويُعيد حقه كما سُلِبَ منه، يسرق الصفاء من الذهن والراحة من العينين، وإن ودَّ أيضًا سيأخذ النبضات من القلب، لكنه ليس بجاهلٍ، فهو دومًا يُحب الصمت وحديثه كان دومًا “حكيم العقل من صمته تعرفه”.
كانت النظرات بأكملها تتوجه نحوه وحينها عاد للخلف وهو يقول بثباتٍ أمام الجميع بعدما علق عينيه بعيني شقيقته:
_أنا مش عاوز غير حقي وبس، وحقي هاخده بطريقتين، يا فلوس أبويا ترجعلي أنا وأختي من تاني، يا نروح بقى نقدم بلاغ ونتهمه بصراحة إنه هو اللي قطع فرامل العربية وكان قاصد يموتنا، فأنا بقول بصراحة كدا أشيك يعني، فلوسي وحق أختي يرجعولي ووقتها “نـادر” وأمه في رقبتي ومش هخليهم محتاجين أي حاجة، أمضي يا أنكل أحسن.
قام بقلب حديثه لجهة السخرية وقد تواصلت نظرات “سـامي” مع ابنه المهزوم مُجددًا، رمق ابنه بسخطٍ ونفورٍ، بينما الآخر ناظره بعتابٍ وقهرٍ، يبدو أن الأب لم يُدرك أن ما يُجنيه في حياته ماهو إلا الثمار الفاسدة التي زرعها في قلب ابنه، وابنه الآن هُزِمَ وكُسِر وشعر أن قلبه يتفتت لوضعه في هذا الموضع السخيف، دار حديثٌ صامتٌ بين عينيهما قطعه “أيـهم” الذي وضع الأوراق بكف “سـامي”.
قبض “سـامي” على الأوراق بكفٍ هزيلٍ حيث تبددت قوته إلى ضعفٍ حاد، لكنه قرر أن يتمسك بالقوةِ كأنه لم يُهزم قط، وعلى غرار ذلك رفع رأسه وقبل أن يضع توقيعه، طاف في الأوجه كافة ثم تحدث بلامبالاةٍ كأنه لم يكترث بشيءٍ:
_أنا عامةً مش فارق معايا كل الملاليم دي، عندي غيرهم كتير وحاليًا أنا همضي وهروح أرتاح شوية من القلق دا كله، بس متطمنوش أوي كدا ليا علشان هرجع تاني أكيد، ولما أرجع هاخد كل حاجة ومعاها روحكم كان وخليكم مستنيين علشان مش هغيب كتير.
القلق ظهر على أوجه البعض، والسخرية على البعض الآخر وتلقائيًا أنزلق كف “أيـوب” الحُر يقبض على كف “قـمر” وضغط عليه برسالة دعمٍ أنه معها فلا يتوجب عليها أن تقلق، بينما “يـوسف” فقال بسخريةٍ يقلل من الآخر:
_طب ساعتها هبقى أفرشلك الشارع ورد وأرمي عليك نُقطة كمان، أمضي بقى وخلصني علشان لسه فيه نقل ملكية وتوكيلات وحوارات ورث أنتَ مالكش علاقة بيها، أمضي.
أخيرًا قام “سـامي” بالتوقيع على الأوراق أمام الجميع ثم دفع الأوراق نحو “يـوسف” ووقف برفعةٍ وشموخٍ والتقط بعينيه نظرات ابنه فتحدث بصلدةٍ أمام الجميع قائلًا له:
_أنتَ اخترتهم هما وفضلتهم عليا ودي حاجة ترجعلك أنتَ براحتك، بس صدقني لو الدنيا قامت واتقلبت أنا مش هاخد صفك ولا هفكر فيك حتى وأبقىٰ خليهم ينفعوك يا “نـادر” ووريني هتكسب منهم إيه، مع إني واثق إنك وسطهم هتبقى مذلول ومالكش لازمة وهيمنوا عليك بالصدقة زي ما طول عمرهم بيعملوا، بص لنفسك بقيت ضعيف ومكسور إزاي كأنك عيل خايب، فوق يا سيادة القبطان.
الوجه المصفوع بتوالٍ لن يتأثر من صفعة جديدة وكأنه شُلَّ عن الشعور، لكنه قد يتألم أكثر حينما يأتي أحبائه ويستغلون ألمه وجُرحه ومن ثم يتوالون بالصفع على وجهه وكأنه لا يشعر، لكن مَن مِن البشر رأى قلوب الآخرين وما بها؟ كان “نـادر” يصرخ ويبكي بداخله، أما هيئته فبرع في جعلها قوية لا تتأثر بشيءٍ، وعلى إثر ذلك اندفع “عبدالقادر” ووقف في مواجهة “سـامي” وهدر بانفعالٍ في وجهه:
_ابنك في حمايتي ليوم الدين زيه زي عيالي و”يـوسف” بالظبط، ودا مش علشانك أنتَ، لأ لا سمح الله، دا علشان صلة الرحم وحقها عليا وعلشان “مصطفى الراوي” الله يرحمه ويغفر له وإنه وصاني قبل موته على أخته وابنها، وأنا متأكد لو كان عايش وشاف اللحظة دي وأنتَ بتطلقها كان هيفرح فرحة متسيعهوش، برة وعلى الله أشوفك تاني، ولو على حق ابني هو جه منك تالت ومتلت، كفاية إنك تخرج من هنا خسران كل حاجة.
اختار “سـامي” أن يرحل من المكان وهذا أنسب الحلول لديه حاليًا، فحتمًا سيعود من المؤكد لكن يتوجب عليه أن يلتقط أنفاسه حتى يقدر على تكملة الحرب، فالحرب لديه مُقسمة لجولات، وهو الآن خسر واحدة من ضمن الكثيرين، لكنه لن يخسر الحرب بأكملها، خرج من البيت ولا يعلم سر رحيله إلا هو وحده.
بينما في الداخل كان الوضع متوترًا للغاية، حيث الجميع بدوا كأن التُخمة أصابتهم بعد تناول وجبة دسمة شهية المذاق، كان “يـوسف” في تلك اللحظة مُشتتًا في نفسه، كما عادته باغتته التقلبات المزاجية، فسعد بحصوله على حقه من جزءٍ وشعر بالحزن من الجهة الأخرىٰ ولا يعلم سببًا كافيًا لذلك، أما “عبدالقادر” فنظراته لـ “أيـهم” كانت كافيةً لتخبره أنه أجاد ما فعل، وقد لاحظ “أيـوب” كل شيءٍ لكنه آثر الصمت لكي يتأكد مما حدث، وقد ظل يمسك بكف زوجته التي ازداد تشبثها به.
__________________________________
<“إن كان العدو في أرضي، فنيرانه في قلبي”>
ويوم أن يكون العدو في أرضي أشعر كأن النيران في قلبي، فمجدنا لم يلِق بعدوٍ لم يحترمنا، ولا يلق بمن لا يكترث بمجدنا، يُقال في واحدةٍ من مُخلدات التاريخ أن الثور الناجي من حلبة المُصارعة لا يُعاد للحلبة من جديد، وهذا ليس تكريمًا لفوزه وإنما احترامًا لذاكرته، فالثور صاحب ذاكرة حادة وإذا أُعيد داخل الحلبة من المؤكد ستسعفه ذاكرته، لذا حتى المخلوقات المحرومة من العقل في بعض الأحيان تتعقل، فلا تتعجل أنتَ في حربك..
كان “نَـعيم” جالسًا بين الجميع في غرفة الاستقبال ببيته، وبجواره جلس “تَـيام” و “إيـهاب” وفي الجوار “مُـنذر” وبجواره “مُـحي” ورجال عائلة “الحُسيني” بأكملهم خوفًا من بطش “إيـهاب” عليهم، وقد دارت الأحاديث بهمهمات أقرب للهمسِ بحيرةٍ خاصةً مع غياب “عمرو” عن الأنظار حتى بدأ “نَـعيم” الحديث بقوله شامخًا مرفوع الرأس:
_أنا طول عمري راجل حقاني، وخصوصًا مع الغريب، بس لما الحق يخص اللي مني أنا مبعرفش اسكت، لأن الغريب هو اللي بيطلب مني يرجع حقه، بس اللي مني دا واجبي إن حقه يرجعله، دلوقتي أنا ليا حق ابني وعاوزه، أظن أهو قدامكم شايفين بعينكم، واللي عمل كدا المحروس ابنكم والقطيع اللي ماشيين وراه، أظن يعني أنتوا عارفين أنا مين، تحبوا آخد حقي بطريقتي؟.
كان تهديدًا صريحًا هم يعلمون جيدًا أنه لن يُكذبه، أي طريقة سيلجأ إليها من المؤكد ستقضي عليهم كعائلةٍ لها اسمها ومكانتها وسط البقية، لذا قرروا أن يرضخوا له ويسعون لمرضاته، وقد تحدث والد “عمرو” بقوله الذي رسم به الود مُتخليًا عن كبريائه:
_يا حج إحنا مش هنتغرب عن بعض، إحنا طول عمرنا ولاد كار واحد وصحاب ومعارف كمان، بلاش شوية طيش شباب يخلونا نخسر بعض، بعدين متأخذنيش يعني رجالتك وصبيانك قلوا أدبهم علينا إمبارح في بيتنا وإحنا سكتنا علشانك تقديرًا ليك بس.
حديثه استفز “إيـهاب” حتى توسعت عيناه ونفرت عروق وجهه وهو يحاول التحكم في غضبه كي لا يتحدث، لكن صوت “يـوسف” الذي أتى من عند باب الغرفة وصل الجميع بتهكمٍ حينما قال:
_برضه صبيان؟ بعدين هو إحنا قلينا أدبنا غير لما دخلنا بيت ملقيناش فيه أصول ولا رجالة محترمة بتعرف تضايف الناس؟ أومال لو مش معلم وليك وزنك وعارف إن الضيف ليه واجب بياخده ويترد لمجيته بأدب وترحيب؟ بص كدا أنتَ قاعد فين وقدامك إيه رغم إنك جاي غلطان وعليك حق؟ بص وشوف واجب الضيافة يا حج “مُسعد” وهتعرف الفرق بين بيت “الحُصري” والبيوت التانية.
كعادته هو يشبه “لَـيل” كثيرًا، نفس الشموخ والعنفوان وعزة النفس، ولد مُدللًا وعاش قويًا وتربى على العزة ولم يقبل أي إهانة أو ذُلٍ من أحدهم مهما كان الأمر، وقد ولج لهم بقوةٍ وهيبة طاغية ولم يكترث بألم قدمه، وإنما جاور “إيـهاب” بعدما صمتوا وقد تولى “نَـعيم” مهمة الحديث عنهم بقوله:
_لتاني مرة يا حج “مُسعد” دول مش صبياني، دول ولادي وولاد أخواتي كلهم، أنا معنديش صبي في بيتي، أنا كلهم عندي ولادي وزي بعض، واللي يقل منهم كأنه قل مني أنا شخصيًا، ولو كانوا جُم وعملوا حاجة تضايقكم، فأكيد معملوهاش غدر وكانت قدام عينيكم،، نرجع بقى لموضوعنا.
أهانهم هم دون أن يظهر في حديثه ذلك، دافع عن أبنائه بقوةٍ اسكتت الجميع وجعلت النظرات المُحرجة هي التي تظهر من عينيهم وقد نطق “مُسعد” يطلب حضور ابنه لعنده بعدما أكد لهم أنه سبقهم لهنا، وقد تحرك “إيـهاب” نحو الخارج لكي يأتِ بـه، بينما “يـوسف” فبعدما أنهى جولته في حارة “العطار” أتى لهنا لكي يُكمل اليوم كما بدأه.
خرج “إيـهاب” بضجرٍ يبحث عن الشاب وعن شقيقه أيضًا وأثناء تحركه أوقفته “تَـحية” حينما اعترضت طريقه وأخبرته بهمسٍ خافت كأنها تُفشي سرًا عن قادة الحروب لجيش العدو:
_لو عاوزهم هتلاقي “سـراج” و “إسماعيل” خدوه وراحوا بيه عند الاسطبل هناك والله أعلم هيعملوا فيه إيه، بس شكله ضايقهم علشان “سـراج” ضربه، أنا كنت هقولك بس لقيتك قعدت جوة، وقولت لـ “يـوسف” وهو داخلك راح قالي خليهم يفكوا عن نفسهم العيال مكبوتة، الحقهم بسرعة.
إن لم يتدخل هو في تلك اللحظة من المؤكد سيخسر كُل شيءٍ أمام العائلة الأخرى، وقد تحرك مُسرعًا نحو المكان وهو يتمنى ألا يتهور كلاهما في فعله، العُرف هنا يحترم كل من زار البيت خاصةً في وقت الحق، وهو هنا لأجل الحق، لذا أنطلق “إيـهاب” كما ينطلق السهم من القوس إليهم وقد وجد صوتهما يأتي من ساحة الركض، فعبر لهناك ووجد الاثنين جالسين فوق المقاعد؛ أما “عمرو” فكان يركض والخيل خلفه في حركاتٍ دائرية وبكل آسفٍ هذا الخيل كان الأقوى بين الجميع وهو خيل “نَـعيم” ولقبه “أدهـم”..
ولج “إيـهاب” لهم وأوقف الخيل بكلمةٍ واحدة ألقاها عليه بلهجةٍ آمرة ثم عقبها بقوله:
_قولت كفاية يا “أدهم” أرجع خلاص.
توقف الخيل العنيد على أمر مُعلمه ثم صهلل كأنه يُجادله، حينها أوقف “إيـهاب” شقيقه بحدةٍ ثم أمره بقوله:
_روح رجعه مكانه وفُك الهبل دا يا “إسماعيل”.
ضحك “إسماعيل” بمشاكسةٍ يُبدي بها استمتاعه وتلذذه بما يحدث ثم أضاف بلامبالاةٍ كأنه لم يكترث بالأمر كثيرًا:
_ليه بس؟ ما “أدهـم” بيلعب ومبسوط أوي أهو، بعدين أنا والله معملتش حاجة هو مكانش عارف إحنا مين وتايه فينا، قولت “أدهـم” يعرفه إحنا مين وأهو يلعب معاه شوية، مش كدا يا “أدهـم”؟ قول لـ “إيـهاب” علشان مش مصدقني.
صهلل الخيل ووجه رأسه للجهة الأخرى كأنه يأخذ برأي “إسماعيل” الذي توسعت ضحكته البريئة وقد ضحك “سـراج” هو الآخر فعلم “إيـهاب” أن الحديث معهما لن يُجدِ نفعًا لذا تنهد بثقلٍ ثم تحرك نحو الداخل للآخر فوجده يلهث بعنفٍ وقميصه ممتليء بالمياه نتيجة تعرق جسده، وحينها التفت يطالعهما بنظراتٍ نارية وسألهما بنبرةٍ جامدة:
_المفروض إن هو هنا علشان الحق، بس بهبلكم دا ضيعتوا الحق مننا، وأنا لو دخلت بيه كدا هبقى شيلت الحق فوق راسي، أنتوا علمتوا إيه أنتوا الجوز؟.
أقترب منه “سـراج” يهتف بصوتٍ قوي يخبره بتلك الطريقة أنه لم يقترف أي خطأٍ:
_عملنا اللي المفروض يتعمل، عيل قليل الأدب مش متربي بيبص للي مش ليه، وقبل ما تزعق أوي كدا، أنا برة كنت بركن العربية في الجراچ، وخليت مراتي و”چـودي”يسبقوني على جوة هنا ولما دخلت كلمتني في التليفون تقولي إنها هتطلع عند مراتك علطول، اسمعه بيتدخل يقولها أنا موجود يا “مُـزة”؟ هو أنا *** قدامك علشان يعاكس مراتي واسكتله؟ وبكلمه يقول أنتَ تاجر أثار ويشتم أخوك يقوله ملبوس وخدام للمشايخ؟ رد أنتَ بقى.
في كل فردٍ يوجد بداخله نقطة فاصلة بين التعقل والوحشية، فإن تلاشت تلك النقطة اختلطت الأمور ببعضها لدى الأفراد، وهو الآن لا يعرف هل يفتك بالآخر ويقتله بأرضه، أم يتريث لقليلٍ من الوقت؟ التفت لشقيقه وسأله بنبرةٍ هادرة أعربت عن نيرانه المُتقدة بداخله:
_شوف كدا “أدهـم” مبسوط ولا ياخدله جولة تانية؟.
استكانت ملامح “إسماعيل” و “سـراج” بينما الآخر فقال يسترضيه بقوله بتعبٍ منهم وهو يعلم أنه أخطأ في حق الجميع هنا:
_خلاص يا “إيـهاب” عندي أنا دي، ماكنتش أعرف إنها تخصكم، أنا مبشمش على ضهر ايدي برضه، حقك عليا يا “سـراج” حقك على راسي يا “إسماعيل” التايه مفيش لوم عليه.
سكت “إيـهاب” وقرر أن يصمت تمامًا عن أي حديثٍ ثم تحرك معهم من المكان نحو مجلس الرجال وقد ولج لهم “عمرو” بهيئته الرثة وخصلاته المُشعثة نتيجة التعرق ثم ولج وجلس في مواجهة “مُـحي” وحينها تواصلت النظرات بينهما ورغم كل شيءٍ كانت نظرات التشفي تخرج من عينيْ “عمرو” وهو يرى الآخر مُقيدًا عن الحركة، بل وعلم أن الأخرى ابتعدت عنه وعن مُحيط حياته.
لاحظ “مُـحي” نظراته المُتشفية نحوه وأقسم أن يُذيقه الويلات أمام الجميع، هو يعلم عدوه جيدًا ويعلم ما يتسبب في كسره لذلك انتظر نهاية الحديث من الطرفين وخاصةً حينما انتهى بسؤالهِ عن سبب ما حدث له، فأتىٰ جوابه بقوله:
_أظن أنتوا عارفين إن ابنكم عمل كدا وأنا مش هكدب، ومش هعيد وأزيد تاني في الكلام، بس كفاية أوي إنه مكانش راجل وعرف يقف قصادي ويكلمني وش لوش، ويوم ما فكر يعمل حاجة راح جاب شوية ***** زيه ووقف بعيد من غير ما يقرب، وكفاية برضه إني أصغر منه وواكل دماغه من وأنا عيل، ولو هو ميعرفش الرجالة بتاخد حقها إزاي أنا ممكن أعرفه عادي.
تبادلت النظرات الحاقدة بين الطرفين، وقد قرر “عمرو” أن يُثير استفزازه أمام البقية بقوله:
_وهو أنتَ هتعرف تعمل حاجة كدا؟ بعدين ما أنتَ من الأول بتيجي على سكتي واللي يخصني وأنا مكبرلك وساكت، ومتنساش دا تار قديم من أيام الكباريه و “ليلة” ولا نسيت.
ضحك “مُـحي” بثقةٍ وقال بوقاحةٍ أمام الجميع يُشير إلى ما مضىٰ عليهما معًا في فترة طيشهما:
_طب مش مكسوف؟ دا حتى الرقاصة اللي خرباها اخترتني أنا قدامك ونفضتلك، بعدين أنتَ متضايق أوي من ساعة ما رجعت هنا وبقيت راجل بجد واقف في ضهر أبويا وأخواتي، فمن الآخر أهو أنتَ مش راجل يالا، وأنا مش هحرق كتير معاك.
استقام “عمرو” واقفًا باحتجاجٍ واعتراضٍ وقد وقف “مُـحي” هو الآخر بلهفةٍ متحاملًا على جسده وقدمه المُعافاة ثم قال بصوتٍ هادرٍ أعرب عن غضبه:
_هتمشي وتقمص؟ ولا علشان دي الحقيقة يعني؟ على العموم براحتك وأمشي زي ما أنتَ عاوز، بس حقي هاخده ومش هسيبه ومش في الضهر لأ وش لوش وقدام الكل، علشان لما أقفل كل حاجة قديمة في حياتي أبقى واخد حقي وقافل عليه.
أنهى حديثه ثم رفع كفه وهوىٰ بصفعةٍ على وجـه “عمرو” أمام الجميع وقد باغت نفسه بالفعل هذا قبل البقية، أتى فعله غير متوقعٍ وترتب على ذلك تحرك الأجساد باندفاعٍ إثر الصدمة التي تلقوها لتوهم، بينما “مُـحي” قال برأسٍ مرفوعٍ وعزة نفسٍ:
_أنا كدا خدت حقي وقدام الكل، عاوز تعمل حاجة أعملها عادي بس خليك فاكر إنك مسبق بالغدر، وأنا متربي في بيت رجالة علموني مغدرش حتى لو صاحب حق، وقدام عيلتك وعيلتي أهو أنا مكتفي بالقلم دا ومش عاوز منك حاجة، لا فلوس ولا دبح ولا حتى حد يحل بينا علشان من دلوقتي طريقك غير طريقي وميشرفنيش أمشي فيه.
تسلح بقوةٍ أتت بمحلها، وفعل الفعل الذي يروقه، استبسل بشجاعةٍ وهو يرد الصفعة بأخرى صداها أكبر وأعمق، بدا كأنه صمم وأصر على قهر الآخر، وليس أي قهرٍ وإنما هذا القهر أتى أمام الغُرباء قبل المُقربين، ولن يتعرض للإيلام، فصاحب الحق يأخذ الحق كما يُريد وهو ليس ملاكًا لكي يعفو ويصفح ويترفع، وإنما هو بشرٌ تعرض للغدر وقرر أن يثأر.
__________________________________
<“سبحان الخالق الوهاب، وهب القلب من بعد العذاب”>
لم يعلم أيًا منا في الأرض هنا أين رزقه ومتى يُرزق، وإنما الخالق يُبسط الرزق لمن يشاء ويُعطي وقتما يشاء، وسبحانه دومًا يُمحي من القلب العذاب، ويزيل عن المرء تعبه ويهبه الراحة والسكينة وهو الرحمن الوهاب.
بدا الليل أكثر وضوحًا أمام الجميع وقد ظل “أيـوب” في الحديقة كما هو يقرأ القرآن بصوتٍ عذبٍ ملأ القلوب بالسكينة، ظل يقرأ القرآن بخشوعٍ وصدقٍ بعدما زهد العالم وترك الدُنيا وغاب عن من حوله، ومن كثرة خشوعه واندماجه في آيات الذكر الحكيم تألمت ضلوعه وضاق صدره لكن بالرغم من ذلك لم يجد مُتسعًا إلا في هذه اللحظة.
كان المشهد أشبه بالنعيم المُعجل في الدنيا لأي فتاةٍ مثلها، حيث تجلس في الحديقة وسط الزهور والزرع، نسمات الهواء البديعة تلفح وجهها ببرودةٍ تُناقض دفء المشاعر، الهدوء التام ملأ المكان تزامنًا مع صوت “أيـوب” وهو يتلو القرآن الكريم بصدقٍ وحبٍ وإتقانٍ للآيات، وهي أمامه تتمنى في تلك اللحظة أن تكون في بيته وكل يومٍ تُنهيه بتلك النهاية معه هو، ترقرق الدمع في عينيها وابتسمت دون أن تعي لنفسها، بينما هو أكمل حتى أنهى السورة التي يتلوها ثم عاد للخلف بعدما أغلق المُصحف الشريف.
اقتربت تجاوره أكثر وسألته بلهفةٍ:
_أنتَ تعبت صح؟ وشك أصفر وشكلك مش عارف تاخد نفسك، ارفع راسك لفوق بس كدا، يلا أنا جنبك أهو، أرفع راسك.
عاونته وقد رفع هو رأسه يحاول ضبط أنفاسه وهي تحرك كفها في الخلف وتمسح على ظهره، لمسته برفقٍ وهو يتألم نتيجة كسر ضلعه والكدمات التي استوطنته وقد قام بأسر الأنفاس داخل رئتيه، الفترة التي تمر عليه تذكره بفترة مرضه وتعبه حينما تسبب في الإزعاج للآخرين، لقد وجد نفسه عبئًا عليها وعليهم أيضًا، فتنهد ونطق بصوتٍ مُتعب بعد مرور نصف ساعة بالتقريب:
_حقك على راسي على بهدلتك دي، اسمعي مني وأمشي بقى أنا خلاص بقيت كويس أوي ومفيش حاجة تعباني، والبيت مليان ناس أهو يا “قـمر” أمشي بالله عليكِ أنا حاسس إني مش مرتاح وأنتِ كل يوم هنا تاعبة نفسك.
نفس الحديث يذكره من جديد، في الأغلب هو يظنه أن هذا الحديث كما الدواء يتوجب عليه أن يتناوله بعد كل وجبةٍ، لذا لا ينفك عن لسانه ويظل يُكرره عليها، وقد تنهدت هي بثقلٍ تستغفر ربها قبل أن ترفع صوتها عليه، هي لم تكن تلك الرقيقة دومًا، بل هي في أغلب اللحظات تصرخ وترفع صوتها، لذا قالت بثباتٍ قبل أن تتهور أمامه:
_يابن الناس الله يهديك ويرضى عنك سيبني في حالي، أنا اشتكيت؟ أنا تعبت؟ أنتَ شايفني ست قليلة الأصل هسيب جوزي لوحده في أكتر وقت محتاجني فيه؟ ولا يمكن مش طايق وجودي هنا معاك؟ قولي أروح بيتنا أحسن.
ضيق جفونه حينما وجدها تنفعل عليه ثم هدر في وجهها بقوله متهكمًا هو الآخر وقد أجادت إخراج تمرده منه:
_هو أنتِ أستاذة في قلب الترابيزة عليا ليه؟ المفروض دي بتاعتي أنا قلب الترابيزة، بعدين أنا شايل همك وأنتِ هنا متكتفة وطالعة نازلة وداخلة خارجة، بس أخرتها طلعت أنا اللي غلطان كمان؟ هقول إيه؟ ربنا يشفى يا رب.
حسنًا ستخرج القطة من روحها وتتلبسها أمامه وقد فعلت ذلك حينما أشارت على نفسها وهي تقول بسخريةٍ تهكمية وقد علا صوتها بعض الشيء:
_وهو أنا في الآخر طلعت غلطانة كمان؟ قولي هسيبك لمين؟ لأختك اللي لسه عروسة جديدة ويعيني قطعت شهر عسلها علشانك؟ ولا أسيبك لـ “نهال” اللي في شغلها والبيت وعاملة زي النحلة يعيني هنا، ولا لطنط “وداد” اللي يدوبك مخلية بالها من البيت هنا؟ ولو هسيبك يعني تفتكر هكون متطمنة عليك؟ أما أنتَ قدامي أهو وبرضه قلقانة عليك.
تنهد هو بضيقٍ حينما أدرك أنه أحزنها بسبب حديثه ثم تحدث بنبرةٍ أهدأ وهو يقول مُراضيًا لها ومُفسرًا سبب حديثه:
_وأنا عارف إنك هنا علشاني ومعايا ومكدبش عليكِ وجودك فارق أوي، بس أنا برضه مش عاوزك تبدأي معايا الطريق وأنتِ قاطعة نفسك كدا، من حقك تكوني مش متكتفة هنا معايا، عارفة لو أنتِ أصلًا في بيتي وجوازنا تم كنت هقول دا واجبك، بس إحنا في حكم المخطوبين لسه، متزعليش مني بس أنا والله مش عاوز أتعبك أكتر من كدا.
تماسكت قليلًا قبل أن ترفع صوتها وبدلًا من ذلك قررت أن تنتهج نهجًا جديدًا معه حيث رفعت كلًا من سبابتها وابهامها وأمسكت ذقنه ثم قالت بصوتٍ تتقطر منه التلقائية التي لم تنفك عن طباعها:
_والله لو زعلان علشان أنا متكتفة هنا، تمم جوازنا وخليني براحتي في شقتي، هو أنا قولتلك لأ؟ أنتَ اللي مصمم الفرح يتأجل، و “يـوسف” عاوزه في ميعاده، أنا عن نفسي طالما هكون معاك عاوزة فرحنا في ميعاده عادي، متأجلش تاني بقى، أنا كدا هتقفل من الجوازة دي.
ضحك رغمًا عنه أمامها حتى تعجبت هي من ضحكاته فوجدته ينطق من بين ضحكاته مُشيرًا إلى كلماته:
_أنا نفسي تبطلي تتكلمي بعفوية، ارتاحتيلي بزيادة يا “قـمر” والله، بس أنا مش ناوي الفرح يتأجل، كدا كدا من هنا لحد ما نخلص هكون فوقت وقومت تاني بإذن الله، متقلقيش مش هأجل الفرح وأكسر فرحتك بشقتك وبيا.
انفرجت أساريرها وانبسطت ملامحها وهي تُطالعه ببراءةٍ ثم أسبلت أهدابها له بدلالٍ مُفتعلٍ حتى ضحك هو أكثر ثم رفع ذراعه يقربها منه ووضع رأسها على صدره وهو يضحك عليها ثم ربت على رأسها وهو يقول بسخريةٍ ضاحكًا عليها:
_نامي يا “قـمر” نامي شكلك مش نايمة كويس وللآسف بتهبلي، نامي هتودينا في داهية وهترسى على طردي أنا وأنتِ من هنا، نامي يا سكر شككتي البيت كله فيا الله يسامحك.
بدأ الخمول يسيطر عليها فتركت نفسه لسطوته ثم رفعت كفها تمسح على كتفه وهتفت بنبرةٍ خافتة يسيطر عليها النعاس وطغى عليها الكسل:
_طب اقرأ ليا قرآن بقى علشان أعرف أنام.
ابتسم بسعادةٍ ثم مسح على كتفها حتى انتظمت أنفاسها إبان تلاوته للقرآن الكريم في أذنها، نامت وتركت نفسها للنوم بين ذراعيه وصوت القرآن في أذنها وهي فقط تشعر بالأمان معه، لقد رأت العديد من الفتيات يتمنين رجلًا مثله، وهي حصلت عليه على قلبه، ظننته رجلًا كما غيره من الرجال، لكنها رأت به كل الرجال، الآن فقط فهمت عدم إنجذابها لغيره، وتعلقها فقط به، حتى يصبح هو أول من زار القلب وسكنه، بينما هو فكان يشكر الخالق في كل لحظةٍ على تواجدها معه حتى حينما يطلب منها الرحيل هي لم ترحل، بل تؤكد ظنونه بشأنها أنها زوجة صالحة ظفر بها من بين الأخريات.
__________________________________
<“خيبة الأمل كانت تُلاحقني دومًا
حتى أحببتها لإصرارها عليَّ”>
أنه لأمرٍ محزنٍ أن يمر عمر المرء هباءً دون تحقيق أي شيءٍ مما رغب به، يُحزننا كون أن الرياح تأتي وتُرغمنا على أشياءٍ لم نردها، وما رغبناه يهرب مننا، لما يُفنى عمر المرء وهو يتساءل فقط “لماذا؟” لكونه لم يفهم سبب ما يدور حوله؟ والسؤال الأكثر صعوبةً منه هل بالغنا نحن في الأحلام أم من البداية هي لم تكن لنا؟.
الطفل الذي تربى على العنف لم ينس أن الأذرع التي لم تُعانقه هي نفسها التي أمتدت لتصفعه، لم يأمن لأي غريبٍ يمد يده له وسيظن أن الجميع يريدون ضربه، ذاك الطفل الذي تربى وحده بين الجدران حبيسًا في غُرفةٍ مع وحدته حينما يكبر سيفر من كل جمعٍ وحشدٍ، ذاك الطفل المرفوض من الجميع لن يتقبل فكرة الحُب ممن حوله، هكذا جلس “نـادر” يشعر بالألم في روحه، وهو يشعر أن موقفه في غاية الصعوبة والمشقة..
أتت “فـاتن” تجلس بجواره وهي ترى شروده وضيق ملامحه، فقد كل شيءٍ كان يمكله، فقد بيته وأسرته وعمله وجزءًا من صحته، فقد العديد من الأشياء وأهمهم أحلامه البريئة ونفسه القديمة، ضمته لعناقها وضمت شطر وجهه بكفها وهي تقول بنبرةٍ هادئة تحاول إقصاء البكاء عنها:
_مش عاوزاك تزعل يا حبيبي، والله العظيم كدا أحسن للكل وليك أنتَ قبلنا، العيشة تاني معاه مستحيلة، أنا أتضربت منه أكتر ما كلمني بهدوء، ذلني وداس عليا بدل المرة مليون، حرمني منك وهددني بيك إني لو قربت منك ولا فكرت حتى أعاملك إنه هيهددني وياخدك مني، دمر حياة الكل وعايش يأذي الناس وبس، صدقني كدا أحسن وأفضل مليون مرة، حتى حادثتك دي أكيد هو السبب فيها، أقولك؟ قوم تعالى ننزل نتمشى مع بعض تحت ونجيب حاجات للبيت، يلا وأعملك الأكل اللي بتحبه، يلا قوم يا حبيب ماما.
دفعته معها حتى تحرك بمللٍ وأومأ لها موافقًا وسار أمامها بخنوعٍ وهو يُخفض رأسه لم يقو على رفعها للأعلىٰ، ولج وخرج لها بعد دقائق وقد بدلت هي ثيابها ثم تحركت معه من الشقة، نزلا سويًا وهو يتحرك بصورةٍ شبه طبيعية فسألته هي باهتمامٍ:
_صحيح شغلك هتعمل إيه فيه؟ قالولك هترجع؟.
تنهد بثقلٍ ما إن تذكر ذلك ثم قال بنبرةٍ هادئة يحاول طمئنتها بقوله:
_قالولي الاجازة الطبية ٦ شهور لما يعدوا هيتعملي كونسلتو طبي ولما التقارير تطلع هقدر أرجع تاني الشغل، وبصراحة كدا أحسن أنا حتى الشغل كرهته ومبقيتش حابه ولا طايقه، خلاص أتقفلت من كل حاجة هنا وقربت أحضر ورقي علشان أسيب مصر كلها وأروح أي بلد تانية وخلاص، يمكن أبدأ من تاني لو قدرت بقى.
توقفت عن السير وهي تسأله بلوعةٍ ما إن وصلها حديثه الأخير بشأن الهجرة من موطنه:
_وتسيبني؟ دا أنا ما صدقت أحس بيك معايا وأحس إني أم وأنتَ ابني وأتأكد إنك بتحبني، هتروح فين لوحدك وتسيب حياتك هنا؟ خليك معايا بلاش تمشي لوحدك، هتعمل إيه في الغُربة يا “نـادر” هناك؟.
ابتسم بزاوية فمه وبدا أمامها موجوعًا ثم قال بنبرةٍ بنبرةٍ هادئة أعربت عن ألم روحه كونه لم ينجح في الهرب مما يُعانيه بداخل نفسه:
_ومين قالك إني هنا مش لوحدي؟ ومين قالك إني هنا مش عايش في غُربة؟ أنا مبقيتش عارفني يا ماما، أنا واحد كان معمي ومش فاهم حاجة حواليه ولما شاف بقى يتمنى العمىٰ أهون من اللي أنا فيه دا، صدقيني أنا والله زهقت ومش لاقيني، خليني أمشي يمكن أقدر أفهم أنا مين هنا.
كادت أن ترد عليه لكن قدوم “حنين” نحوهما جعلها تبتسم لها ثم لوحت لها فاقتربت الأخرى منهما وهي تقول بصوتٍ هاديءٍ:
_مساء الخير، إزيك يا مدام “فـاتن” إزيك يا سيادة القبطان؟ طمني دلوقتي بقيت أحسن؟.
التفت لها يواجهها بكامل جسده ثم قال بنبرةٍ هادئة وقد وجد البسمة ترتسم على وجهه تلقائيًا ما إن رآها أمامه تبتسم هي الأخرى:
_إزيك يا “حنين” عاملة إيه؟ أنا بخير الحمدلله وأحسن دلوقتي بكتير من الأول كمان، رايحة فين دلوقتي كدا؟.
حركت كتفيها وهي تخبره بقلة حيلة تجاوبه:
_رايحة المسجد علشان الشغل التاني هناك، بس لسه فاضل نص ساعة قولت أخدها مشي في الهوا دا بدل قعدة البيت والخناق والزعيق، بس حظي حلو علشان شوفتكم هنا، صدفة حلوة أوي وأحسن من المواعيد المترتبة.
كانت تتحدث كعادتها ببشاشةٍ معهما وقد طالعها “نـادر” مبتسمًا برقيٍ وترفعٍ وهو يتعجب من القبول الموضوع في وجهها، كلما نظر لها شعر أن الطيبة ترتسم فوق ملامحها وكأنها من آخر النُسخ المتواجدة لهؤلاء الأشخاص، أو ربما هو لم يُكتب له أن يرى طيبين مثلها هي، أما هي فكانت تلحظه بطرفها ثم تستأنف الحديث مع “فـاتن” حتى اقترحت أمه عليهما:
_طب استني “نـادر” يوصلك طيب، هتمشي لوحدك بليل كدا؟ يلا يا “نـادر” روح معاها وصلها وأنا هدخل السوبر ماركت دا ولما تيجي كلمني.
كاد أن يوافق لكن “حنين” اعترضت بخجلٍ من موقفها ثم قالت بلهفةٍ توضح لها الوضع من زاويةٍ أخرى أكثر حساسية لها في وضعها وحياتها:
_صدقيني مينفعش والله، أنا ليا ظروف خاصة وهنا كله عارفين أنا مين وبنت مين فملهاش لازمة حد يرميلي كلمة كدا ولا كدا، شكرًا يا سيادة القبطان بس معلش مش هينفع، عن إذنكم، فرصة سعيدة أتمنى تتكرر تاني.
رحلت من أمامهما نحو عملها الثاني وقد تتبعها هو بعينيه ولا شك أن احترامه لها زاد عن السابق، هي رغم كل شيءٍ تحترم كل قيود والعادات وتُقدر نظرات المجتمع لها، تبدو مقارنةً بغيرها شبه مثالية، بل ولأجل الحق هي لا تُقارن، قوية كما المُحاربة لا تنتظر لمعاونة الآخرين، لم تشكو من قسوة عالمها رغم أنها دُهِست بين الأقدام، لم تبكي لكون العالم لم يرحمها، هي دومًا تفعل العكس وتبهر العالم أنها كما الزهرة الجميلة إن اقتربت منها تُفاجئك بقسوة أشواكها.
رحلت هي من أمامه وقلبها يُدمدم بفرحٍ لأجل رؤيته، لا تُدرك سبب تلك السعادة لكنها شعرت بالفرح لمجرد أنها رأته نصب عينيها، كانت تبحث في عقلها عن حُجة قوية تستغلها لكي تراه وقد أتت صُدفة واحدة تجمعها به، ابتسمت ما إن تذكرته وشردت به وهي تتجه نحو عملها، لقد كان وسيمًا ولطيفًا، وفي بعض الأحيان يبدو حنونًا وعلى الرغم من وحدته إلا أنه يُقدر آلام الآخرين.
__________________________________
<“إن قَدُم الطوفان أغث حالك أولًا ثم البقية”>
لكل مقامٍ مقال، ولذلك يتوجب على الناس أن يتريثوا في كل فعلٍ يفعلونه حتى لا تصبح النهاية غير مُرادة بل وبالإجبار أيضًا على تقبلها، فبعض الأفعال الهوجاء هي التي تقرر مصير البعض وكما قيل في السابق على لسان أحد الشعراء:
والمرءُ تَلقاهُ مِضْياعًا لفُرصتهِ
حتَّى إذا فاتَ أمرٌ عاتَبَ القدرا.
غاب “سـامي” لساعاتٍ من بعد رحيله من بيت “العطار” ولم يعلم أحدٌ إلى أين توجه، لكنه قرر أن يمر على الشركة وفي قرارة نفسه يعلم أن “عـاصم” سيكون هناك، ولج أمام الجميع كما الإعصار حتى تهافت الموظّفون بهمساتٍ وهمهماتٍ ما إن ولج بتلك الطريقة ومنهم “رهـف” نفسها التي وقفت تتبعه بعينيها ثم هرولت نحو مكتب “عُـدي” بخطى سريعة وولجت له فوجدت في مكتبه فتاة من المتدربات تجلس أمامه وهو يقوم بمراجعة الأوراق أمامه.
طالعته بنيرانٍ من عينيها ثم صفقت الباب خلفها حتى انتبه هو لها ورفع كلا حاجبيه باستنكارٍ فوجدها تقترب منهم ثم جلست فوق المقعد أمام الأخرى وهي تقول بتكهنٍ:
_شوف شغلك يا أستاذ “عُـدي” مش حابة أعطلك.
لأول مرة تتحدث معه بتلك الطريقة وقد استشف هو غيرتها تلك فقرر أن ينهي عمله مع الفتاة بقوله المُهذب العملي:
_طب يا آنسة “لمار” تقدري حضرتك تتحركي وتشوفي شغلك وأنا هراجع اللي حضرتك ترجمتيه وهبعته ليهم فورًا، ربنا يوفقك،.
ابتسمت له الفتاة برقةٍ مُفتعلة ثم قالت بصوتٍ خافتٍ تقصد جعله ناعمًا بتلك الطريقة أمامه:
_مفيش مشاكل يا أستاذ “عُــدي” عادي جدًا، وأتمنى أوصل لخبرة حضرتك دي وأكون مترجمة شاطرة زيك كدا، حقيقي بنتعلم منك والله.
زفرت “رهـف” بقوةٍ وطرقت المكتب بأظافرها فتجاهل هو حديث الفتاة احترامًا لمن تجلس أمامه وأنتظر خروجها ثم سألها باهتمامٍ عن سبب ضيقها بتلك الطريقة:
_مالك يا “رهـف”؟ أنتِ فيه حاجة مزعلاكِ؟.
باغتها بسؤاله وعلى الرغم من توقعها لذلك لكنها لم تتوقع أن يكون بهذا الاهتمام منه، وقعت أمامه في صراعٍ ولم تفهم ماذا تفعل، لكنها تجاهلت كل ذلك وقالت بنبرةٍ جامدة كأنها آلية مُدربة:
_مفيش حاجة، بس”سـامي” ظهر وكان داخل متعصب فأنا بصراحة خوفت يطلع عصبيته عليا أو حاجة ومعرفش ليه جيت على هنا، بس ماكنتش أعرف إنك مش فاضي وعندك حد، خلاص أنا همشي بقى.
كادت أن ترحل وتجهزت لذلك لكنه أوقفها حينما قال بصوتٍ عالٍ بعض الشيء حتى تعود جالسةً مرةً أخرىٰ:
_أقعدي يا “رهـف” أنا خلصت شغلي، ولو على “لمار” فهي كانت مترجمة حاجات كتيرة للشغل وعلشان كدا كانت خايفة تكون الدنيا دخلت في بعضها، بس دا مش معناه إني حتى أتجاهلك ولا أعمل نفسي مش واخد بالي منك، قوليلي بس جيتي على هنا ليه لما خوفتي؟ عارفة إني هطمنك؟.
ضحكت بيأسٍ من مراوغته وقدرته على قلب موازين الحديث لصالحه وقد سحبت نفسًا عميقًا وقالت بنبرةٍ هادئة:
_عن إذنك هروح أشوف شغلي، أنا شكلي كدا متوترة شوية ودماغي ضايعة مني النهاردة ومش مركزة، عن إذنك.
لم يوقفها بل ترك لها الحُرية وهي توليه ظهرها وأدرك من تشنجات جسدها أنها رُبما تصارع نفسها لكي تتحدث وقد عاد بظهره للخلف فوجدها تلتفت له من جديد وهي تُخبره بلهفةٍ:
_بص!! أنا بغير جدًا تمام؟ فأنا غيرت لما جيت لقيت البنت قاعدة هنا معاك لوحدها خصوصًا إن نظراتها ليك مش مريحة، مش عاوزة أكون ظالمة أو نيتي وحشة، بس مش حاسة خالص إن ترددها عليك دا شيء كويس، أنا أهو وباجيلك مرة أو مرتين لو محتاجة حاجة، غير كدا فيه حدود مينفعش نتخطاها، صـح؟.
اندفعت في حديثها تُلقيه دفعةً واحدة بينما هو ابتسم بعينيه لها بعدها انفرجت شفتاه عن بعضهما ثم استقام واقفًا وتحرك نحوها بتمهلٍ ثم سألها بدهاءٍ:
_أنتِ أهو إيه؟ قصدك إيه بيها؟.
توسعت عيناها بعدما أدركت مع من تتحدث، فهو لم يترك الفرصة لكي لا يستمتع بالحرب الكلامية بينهما عن قصدٍ منه وقد أمعن هو نظراته في وجهها فوجدها تتنفس بصوتٍ مُضطربٍ ثم تبعته بقولها المتوتر:
_مش قصدي حاجة بس، بس أقصد يعني المفروض إنك قولت فيه خطوبة بينا ودا هيكون دليل على علاقتي بيك، أقصد يعني إن رغم كدا فيه حدود مينفعش نعديها، بص لو أنا قولتلك غيرت والحركة دي ضايقتني هتعمل إيه؟.
توسعت بمسته لها ثم حمحم بصوتٍ وقال بنبرةٍ هادئة:
_هطبع ورقة على باب المكتب وأكتب عليها ممنوع دخول النساء والفتيات السيدات إلا “رهـف” وفقط، زي ما عملت كدا مع باب قلبي بالظبط.
زحفت الحُمرة في وجهها الأبيض وتوترت أمامه ولعنت غبائها لكونها جازفت وسألته وهي تعلم مقدار مراوغته في الحديث وقلب الكلمات وحينها التفتت تهرب من أمامه فأوققها عن أعتاب الباب بحديثٍ جمدها حينما قال:
_كلمة بحبك اللي خرجت مني كانت عهد على نفسي مش هقدر أخونه يا “رهـف” وأنا بوعدك أهو إني مستحيل أساويكِ بحد، أنتِ والماتشات عندي فوق الجميع.
جملته الأخيرة لم تتوقعها هي وقد التفتت هي له برأسها تضحك على حديثه فحرك كتفيه وقال بمزاحٍ معها لكي يرى ضحكة عينيها الزرقاوتين:
_لأ أنا أكيد مش هحبك أقل من حبي للكورة، أنا مش ندل يعني، أنتوا الاتنين عندي زي بعض بالظبط والله.
ناولته مراده حينما ضحكت بعينيها له وقد ابتسم هو الآخر ورأى انسحابها بعدما ودعته بحالٍ ناقض الحال السابق قبل دخولها له، لازال يحاول معها وقد ظن أن طريقه معها أمسى مستحيلًا لكن حديثها هذا معه أعطاه أملًا لكي يكمل طريقه المُتعرج معها، لم يرد لها أن تغيب من حياته، بل يود أن غيابها عن الجميع يُنير حياته.
في المكتب المجاور كان “سـامي” يقف أمام “عـاصم” الذي بدا القلق واضحًا عليه بسبب غياب رفيقه وما إن رآه أمامه أقترب منه لكن الآخر دفعه بعيدًا عنه وهدر في وجهه بقوله:
_دلوقتي بس فاكر إن ليك صاحب؟ كنت فين وأنا بقالي أسبوع في حارة العطار بتضرب بس من ابن “عبدالقادر”؟ استنيتك تيجي وتخرجني بس كالعادة برضه اللي همك أكيد الشركة والبيت وبس، وأي حاجة تانية تولع، مفارقش معاك “فـاتن” ولا “نـادر” اللي من دمك يبقى هفرق أنا معاك وأنا غريب عنك؟ إزاي بقى، دا أنا أبقى غبي لو استنينها منك.
لاحظ “عـاصم” غضبه وانفعاله بتلك الطريقة فسأله بتيهٍ:
_أنا جالي رسالة من تليفونك إنك مسافر علشان مخنوق شوية ومش عاوز إزعاج وقولتلي بالمرة إنك تحاول تشوف حل علشان “نـادر” و “فـاتن” يرجعوا ليك، ومن ساعتها وأنا ساكت علشان قولتلي إن تليفونك هتقفله، يبقى أخرتها أنا اللي مش سائل فيك؟.
استنكر “سـامي” حديث الآخر وظهر ذلك فوق ملامحه وحينها سحب “عـاصم” هاتفه ووضعه نصب عينيه ما إن فتح الرسالة وقد شعر “سـامي” بالنيران تستولى على صدره، الآن فقط يعلم أنهم لعبوا به كما كُرة القدم تتقازف بين الأقدام، وقد أخرج سبة نابية من بين شفتيه وقال بصراخٍ هادرٍ:
_البهوات لعبوا بيا، خلوني تحت إيدهم وساوموا فيا لحد ما خدوا كل حاجة، النهاردة مضيت تنازل لـ “يـوسف” و “قـمر” عن كل حاجة عندي، الفلوس والشركة وحصتي في البيت، مبقاش معايا أي حاجة، ومش بس كدا، أنا طلقت “فـاتن” كمان، يعني موت وخراب ديار ومبقاش عندي أي حاجة غير شقتي والعربية بس، “يـوسف” لعبها صح، سلمني لابن “عبدالقادر” علشان ياخد حق أخوه وابنه مني، بعدها “يـوسف” يخليه يجيب حقه وحق أخته، بس ماشي، كل حاجة أنا مرتب ليها، وهاخد حقي منهم كلهم، والأحسن ليك تختار صفي ولا صفهم يا “عـاصم”؟.
وقف “عـاصم” أمامه مشدوهًا ثم أخبره أنه معه ولن يتركه، حقده على ابن شقيقه وكرهه له تغلبا عليه حتى أخفى بصيرته عن الرؤية ونظر فقط بعينين طامعتين، أما الآخر فعلم أن الأصلح له أن يبقى بجوار “عـاصم” لكي يسترد ما سُلِبَ منه.
__________________________________
<“الدنيا تحلو لمن يجهلها ومُرها يكون لمن أهتم بها”>
“لِسانُكَ لا تَذكُرْ بِهِ عَورَةَ امرئٍ
فَكُلُّكَ عَوراتٌ وللنّاسِ ألسُنُ”
قيل هذا البيت ذات مرةٍ في السالف من الزمانِ لينبىء الناس للكف في الخوض عن الناس وحياتهم، لكن لا أحد يتعلم إلا حينما يواجه بنفسه ما تعرض إليه من الآخرين، كُل مِنَّا لم يكن صالحًا وإنما نحن فقط مستورون برحمة الخالق ونتمنى أن يُديم علينا غطاء ستره.
الرفيق دومًا يعلم معاناة رفيقه حتى لو يُفصح له هذا الصديق عن المعاناة، و”أيـهم” أبٌ بدرجة رفيقٍ رائعٍ لابنه وقد أدرك من شروده وتيهه ونظراته أنه من شيءٍ ما، لذا تحرك نحو “نِـهال” في الغُرفة التي كانت تقوم بتنظيفها وسألها بنبرةٍ خافتة:
_هو ماله ساكت ليه؟ كل ما أشوفه ألاقيه قاعد كدا سرحان ولوحده ومكشر، أنتِ فيه حاجة بينك وبينه؟ إيه قولتيله خلينا أخوات ولا إيـه؟.
ألقى جملته الأخيرة بسخريةٌ جعلتها ترشقه بنظراتٍ نارية ثم زفرت بقوةٍ وقالت بتهكمٍ ردًا عليه بنفس طريقته:
_لأ يا ظريف يا خفيف الظل، هو كان مخنوق بقاله كام يوم وأنا معرفش السبب والله، وجالي خلاني أخده في حضني، وأنا ساعتها حضنته، ولقيته بيعيط في حُضني وفضل كدا كام يوم لازم أروح أنكشه علشان يضحك ويهزر، غير كدا لأ.
تعجب من حديثها وسألها مستنكرًا بصوتٍ أعلى:
_كام يوم؟ ومعرفتنيش ليه يا “نِـهال”؟.
_دا على أساس إنك فاضي يعني؟ ما أنتَ طول اليوم في الشغل يا مع “أيـوب” يا مع باباك وأظن يعني برضه موضوع صغير زي دا مقارنة بالباقي هيكون عامل قلق وخلاص، أنا حاولت أهتم بيه ومش مزعلاه والله، وتقدر تسأله كمان وهو يقولك.
كان هذا هو ردها حينما اندفعت تخبره بهذا الحديث بينما هو قال مُهدئًا لها بنبرةٍ حنونة بعدما استعاد ثباته:
_وأسأله ليه؟ أنا واثق فيكِ ومتأكد إنك مستحيل تزعليه ولا حتى تخليه يفضل زعلان، بس أنا مستغرب علشان من بدري مقعدش كدا، على العموم هشوف “أبـانوب” يمكن يكون متخانق معاه زي عوايدهم دايمًا، أنا هنزل عاوزة حاجة مني؟.
حركت رأسها نفيًا وهي تبتسم له فاقترب هو منها يُلثم وجنتها ثم أسبل أهدابه نحو عينيها فوجدها تُطالعه بوجهٍ متوردٍ في انتظار غزله أو رُبما كلمة منه تُهديء شوقها له فوجدته ينطق اسمها بصوتٍ رخيمٍ تبعه بقوله:
_”نِـهال”… أبقي امسحي الأرض كويس.
توسعت عيناها فيما ضحك هو مُرغمًا حينما تأكد أنه قضى على أمالها في كل شيءٍ وقد ضربته هي في صدره من فرط غيظها منه وحينها ضحك رغمًا عنه من جديد ثم ضمها له ولثم قمة رأسها وقال بنبرةٍ هادئة تبعها بالوداع:
_والله وحشتيني ومش ملاحق حتى أقعد معاكِ، أخلص بس حوارات فرح “أيـوب” و “يـوسف” علشان كلها أيام بس ونخلص منهم هما الجوز، يلَّا أنا همشي بقى علشان ألحق أشوف أنا بعمل إيه، سلام يا حلويات.
ودعها ونزل للأسفل مرورًا بالرواق المفضي لباب البيت فوصله صوت شقيقته وهي تتحدث في هاتفها مع زوجها بقولها مُشفقةً على شقيقه:
_متزعلش نفسك هيكون بخير بإذن الله، أهم حاجة تخليك جنبه وتدعمه ومتنساش إن هو بقى متعلق بيك أوي، علشان كدا بقولك خليك معاه، الأخوات مع بعض وجودهم بيفرق، وكدا كدا أنا هنا مع “أيـوب” وأنتَ مع أخوك، وأشوفك على خير بقى.
يبدو أنه حدثها بشيءٍ أخجلها حتى تورد وجهها وقالت بنبرةٍ أقل في تردد وصولها من سابقتها حيث طغى عليها الخجل:
_وأنتَ كمان وحشتني أوي برضه، عامةً يعني أنا خدت عليك أوي ومش عارفة أقعد من غيرك، بس هانت يعني فترة وكل حاجة هترجع لطبيعتها، سلملي على اللي عندك كلهم وعمو بالأخص، بحبك يا سيدي.
بمجرد أن أنهت حديثها وجدت أحدهم يقبض على عنقها من الخلف فشهقت هي كفتاةٍ مراهقة تم الإمساك بها وهي تتحدث مع حبيبها السري خلسةً بينما شقيقها فقال بتهكمٍ:
_مش عارفة تقعدي من غيره ليه يا “آيـات”؟ بنجلدك؟ بنخليكِ تجيبي مياه سخنة وتقعدي تحت رجلينا تغسليها؟ بنشوكك هنا؟ آه يا قليلة الأصل، طب أقولك أنتِ هنا أسبوعين كمان، عارفة أمتى؟ لحد ما أخوكِ ربنا يكرمه يرمح زي الخيل هنا من تاني، تمام كدا؟.
ضحكت هي على طريقته ثم التفتت تُلقي بنفسها بين ذراعيه وقد استسلم هو لعناقها ومسح على ظهرها وهو حقًا يشعر أنه اشتاق لها كثيرًا، ولا شك أن أفضل النسخ منه هي وحدها من تراها به، لذا ظل يقتبس جزءًا من هدوء روحه منها هي ثم لثم جبينها ورحل بعدما دعا لها لزوجه بقوله:
_ربنا يهادي سركم ويرزقكم بالذرية الصالحة.
في مكانٍ آخرٍ بنفس الحارة كانت تجلس “أماني” فوق فراشها تتحدث مع خطيبها الذي تعرفت عليه في تلك اللعبة اللعينة ونصبت له فخًا حتى وقع به وأتى لخطبتها، لم تكترث بأي شيءٍ غير نفسها حتى وإن كان طفلها البريء الذي عاصر في عهده معها الكثير من الألم النفسي والوجع الجسدي والنفسي، لا يهمها غير نفسها وفقط، وقد جلست تُشاهد حديثه المعسول المُرسل لها عبر الهاتف، وهي تشعر بجمالها ودلالها وهو يُغدقها بالعديد من الحديث المُزيل بجرأةٍ لم تعهدها هي من قبل حتى في زواجها السابق.
باعت النفيس الذي لا يُقدر بثمنٍ وبدلته بالرخيص الذي لا يتساوىٰ بثمنٍ، الآن مُقابل كلماتٍ معسولة وحديثٍ لا يُقدر بشيءٍ تشعر أنها أنثى لمرتها الأولىٰ وهو يُثني على هيئتها وتفاصيلها بعد علاقة دامت لشهورٍ كثيرة في مواقع التواصل الإجتماعي.
ولجت أمها غرفتها ولوت فمها وهي تقول بتهكمٍ:
_أنتِ يا بت أنتِ قرفتيني، والجدع اللي أنتِ مخطوباله دا مش مريحني وإيه حكاية سفرك معاه دي؟ اسمعي يا عين أمك، أنتِ مش علشان كلمتين حلوين وكام هدية منه يبقى تنسي نفسك، الواد دا أنا مش مرتحاله، وبقولك أهو لو حكمت يبقى مفيش سفر معاه، عاوز يتجوزك يبقى يجيبلك شقة هنا، وهو يروح شغله براحته هناك.
شعرت “أمـاني” بالضجر منها فقلبت عينيها بمللٍ ثم قالت بضيقٍ استولى عليها:
_ياما ما خلاص بقى، أنا وهو متفقين على كل حاجة، بعدين خليني أسافر وأغير جو وأشم نفسي شوية برة، ولا هو أنا مكتوب على أهلي إني أفضل في الفقر والحزن دا؟ وبعدين هو جابلي كل اللي أنا عاوزاه، وقالي لو عاوزة حاجة هيجيبها ليا من غير حتى ما أطلبها منه، وأنا خلاص مبقاش ليا حاجة هنا، لو على “إيـاد” البركة في المحروسة الجديدة، بس ورحمة أبويا هوري عيلة “العطار” كلها جوازتي دي عاملة إزاي، دي حتى بنتهم مطالتش الجوازة دي.
في تلك اللحظة ولج “شكري” وهو يمسك كوب الشاي في يده ثم ابتسم باستهزاءٍ منها وقال بنبرةٍ ضاحكة يقصد التقليل من عقلها:
_قالوا زمان والعتب على اللي قال يا “أماني” ياختي، إن الغبي اللي بيعرف بس وميتعرفش عنه، علشان كدا كل الناس ربنا فتحها عليهم من وسع وأتعرف عنهم أو على الأقل يعني عرفوا، إنما أنتِ برميل طُرشي عايش معانا، لا بتعرفي ولا تتعرفي زيك زي الفكرة اللي دماغ الفقير مش مكتوبلك تتنفذي.
لاحظت هي تقليله منها فزفرت بقوةٍ بينما هو قال بصوتٍ أعلى من سابقه لكي يُعبر عن ضجره منها:
_يا أم الغباء كله، أختهم دي متجوزة “تَـيام” اللي أبوه طلع كبير السمان، راجل معلم بيتاجر في الخيول وكل منتجاتها، وعنده بدل المطرح ييجي ١٠ مطارح في الهرم بتوعه هو لوحده، يعني خطيبك دا لو أتشقلب أخره هيكون جرسون عنده، طلعيها من دماغك بقى، دي البت قايدة النار فيكِ.
هزت كتفيها بدلالٍ في نفسها وتصنعت اللامبالاة بقولها:
_دي ولا هتهز فيا شعراية حتى، مين دي اللي تخليني اقيد نار؟ “آيـات”؟!! دي عيلة صغيرة والله وعاملة فيها قال إيه ست الشيخة وكل حاجة غلط وحرام وعيب، وهي سوسة مطفشة خطيبها علشان خاطر الواد “تَـيام” كل حاجة اتكشفت يا حبيبي لما أنا أتطلقت، أنا كنت عارفة إنها بتكلمه وكنت بشوف نظراتهم لبعض.
ذمت في شرف الأخرى وخاضت في أخلاقها كذبًا لكي تُجمل نفسها ولم تعلم أنها بذلك تتسبب في كارثةٍ لنفسها قبل الآخرين، وستنل الجزاء عن قريب، لطالما كانت “آيـات” لها هي الأمر المُعقد في كل شيءٍ، تكرهها وتبغضها وتكره حُب الناس لها، تكره سيرتها بين الناس وتكره الثناء عليها، وصل بها الأمر لزرع الكره بينها وبين أخوتها الاثنين لكنهما لم يسمحا بذلك، حاولت تدمير كل شيءٍ لتكون هي الآمرة هناك وصاحبة السُلطة لكنها فشلت في ذلك، وكما يُقال أن كل ساقٍ سيسقى بما سقىٰ، وهي ستسقى مما فعلت.
__________________________________
<“قرار العنف كان وليد لحظة الغضب”>
العداوة مع شخصٍ حكيمٍ أفضل من مودة جاهلٍ لم يتناسب مع فكرك، لذا قم بانتقاء أصدقائك وأدرس جيدًا أعدائك لأن لكليهما أثرٌ عليكَ، وتريث في غضبك لأن الغضب يولد العنف، والعنف يولد الإنتقام، والسبب فيمن ترافقه أنتَ.
جُرعة زائدة من المواد المُخدرة تراشقت في الأوردة فأصابت هدفها حينما أنتشت الرأس مُباشرةً نتيجة وصول الجُرعة المُخدرة لها، حالة من التيه يغمرها ولهٌ لم تعشه من قبل وذلك لأن الجُرعة تلك المرة أشد قوةً من غيرها، تراخت أعصابها وكذلك جسدها ثم أغمضت عينيها وهي تستشعر اللذة التي أصابت جسدها بعدما تناولت تلك الجُرعة بأنفها لتهرب من واقعها الأليم..
كانت في غرفة “المعيشة” تجلس بمفردها وهي تتناول تلك الجُرعة ثم عادت للخلف تستند بجسدها على ظهر الأريكة، لم تنتظر حتى أن تدخل غرفتها، بمجرد أن وجدت حقيبتها قامت بسحب الكيس الصغير منها وتناولت ما به، وقد شارفت على الدخول في نوبة بكاءٍ حاد حينما تذكرت كل شيءٍ مر عليها، ترك أمها لها وزواجها من آخرٍ غير والدها بل وأنجبت منه غيرها، ووالدها لم يكترث حتى بها، تركها وترك لها الأموال ظنًا منه أن الحُب فقط عبارة عن الأموال، من يصدق أنها منذ ما يقرب للسبعة أعوامٍ لم تجد من يحتضنها بين ذراعيه؟ هي وحيدة، منبوذة، مُدمنة مُخدرات، بمفردها في هذا العالم ولا تعلم ماهو مصيرها..
ولجت لها “شـهد” وجلست في مواجهتها ثم قالت بسخريةٍ وهي ترى أثار ما فعلته من قليلٍ وتصنعت الحزن بقولها:
_لأ لأ، أنا بجد مصدومة فيكِ والله، حتى ياخد كل الكمية دي ويوسخ المكان حواليه كدا؟ أومال لما تتجوزي بقى هتعملي إيه بقى؟ هتجيبي جوزك يلم مكانك؟ المفروض تتعلمي إنك تتدخلي أوضتك، بدل ما تقعي تحت أيدي وأصورك كدا؟.
أنهت حديثها وهي تفتح هاتفها على مقطعٍ تصويري من هاتفها قامت هي بتصويره للأخرىٰ وهي تتناول الجُرعة المخدرة، قامت بالتقاطه كاملًا ثم قالت بسخريةٍ وهي ترى تقلب ملامح الأخرى:
_مش متخيلة يعيني “نـادر” دلوقتي بعدما وثق فيكِ وفكرك إنسانة وقرر يساعدك هيبقى العمل إيه؟ أكيد هيقرف منك أوي، ولا يمكن يعجب بيكِ ويشوفك بنت مختلفة عن غيرها وينزل هو يقضيلك؟ لا تكوني فاكرة يعني إن دا ممكن يحصل وتقربي منه، بس عمومًا أنا هكون طيبة معاكِ والفيديو دا هيفضل معايا بس لو قربتي منه تاني أنا هبعته ليه ومش بس كدا، دا لعمو كمان ومراته، وأنتِ ونصيبك بقى، إيه رأيك؟.
رفرفت “نورهان” بأهدابها وفرغ فاهها بتيهٍ وهي ترى الأخرى تتحداها بعينيها، أما هي فامتلكت قوة اكتسبتها من المواد المخدرة _ولم تعلم أنها مؤقتة_ وعلى إثر تلك القوة قامت بالتحرك نحوها مالت عليها تحاوط مقعدها وهي تطلب منها بصوتٍ خافتٍ:
_هاتي التليفون يا “شـهد” بدل ما أزعلك.
حركت الأخرى رأسها نفيًا وهي تبتسم لها بشرٍ جعل صدر الأخرى يضيق عليها وسرعان ما قامت بسحب مزهرية من جوار ذراعها الأيسر دون أن تلمحها الأخرىٰ وقبضت عليها وهي تشير لـ “شـهد” التي لم تكترث بها وتصنعت تجاهلها، وحينها قامت “نورهان” بضربها فوق رأسها بُغتةً حتى صرخت “شـهد” بصوتٍ عالٍ فتلقت الضربة الثانية أيضًا لتسكتها نهائيًا وقد سقط الهاتف من يدها فخطفته الأخرىٰ وركضت من المكان بخوفٍ حينما ظهرت دماء الأخرى ونزفت بجوار حاجبها الأيسر، ولا أحد يعلم مصير كلتيهما.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى