روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والثامن والأربعون 148 بقلم شمس محمد

موقع كتابك في سطور

رواية غوثهم الفصل المائة والثامن والأربعون 148 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والثامن والأربعون

رواية غوثهم البارت المائة والثامن والأربعون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والثامنة والأربعون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثالث وستون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
إلهي عبدك الضعيف ضل مسعاه
وضاع من نفسه في غُربة الحياة..
عبدك هنا ضاقت عليه السُبلِ
وفي كل مكانٍ من نفسه تاه..
ربي إني عاصيٌ وأعلم أنكَ
الرحيم الغفور، فارحمني بكرمك
وأغثني من نفسي ففي غوثك طوق النجاة.
_”غَــوث”
__________________________________
في واحدةٍ من الأساطير القديمة قيل على لسان أحد السالفين من زمان الحُكماء؛ أن الحُب لكي يبقى يتوجب أن يكون من شيءٍ باقٍ لا يزول، فلا تحبوا بألسنتكم ولا قلوبكم ولا عقولكم، بل أحبوا بما هو باقٍ حتى من بعد رحيلكم؛
ولأني أردتُكِ باقيةً فأحببتُكِ بما هو باقٍ مني..
فحبي لكِ لم يكن يومًا بالقلب لأنه لم يكن باقيًا، ولم يكن يومًا بالعقل لأنه سينسى ولو كان عاتيًا، ولأني أخشى على حُبك من الزوال، كان حُبي لكِ آتيًا من الروح، روحي الدائمة الباقية التي سيبقى حُبكِ فيها عالقًا، لا أعلم ولكنني على يقينٍ أن هذا العالم لم يبقَ وسيأتِ يومٌ تزول فيه الأقدام ويفرغ العالم من جديد، ولأننا سنتقابل أمام رب العالمين في حياةٍ أخرىٰ كانت نهايتها بالنعيم، فأنا أحبكِ من روحي التي كرمني بها مولاي ووهبها لي، في مكانٍ آخرٍ باقٍ ستشهدين على حُبي وأنا أتحدث عنكِ من وسط النِعم وأشكر عليكِ ربي، لطالما كنتُ كادحًا ومنذ مجيئكِ أصبحتُ فارحًا، ولطالما رافقت المِحنات وبمجيئكِ أتت المِنحات، ومن وسط الظلام كنتِ لي نورًا يجذبني، ومن بين التيه كنتِ عنوانًا يُرشدني، فالحمدلله مرة وألف مرة، على نعمة مجيئك من بعد كل مُرة.
<“لطالما العالم كان مشغولًا بنا، فدعنا نريه من نحن”>
لا شيء يسير وفق المُخطط، وإنما كان لكل ساحرٍ خديعة يسير على نهجها تجذب الأعين نحوه، ومن ثم ينقلب السحر على الساحر وتتحول خديعته لشيءٍ منقطع النظير باليًا، ولحظة الإنقلاب تلك هي الفيصل الذي يُجرد الحكايا من تفاصيلٍ لا تَهُم إلى أخرى هي كُل ما يُهِم، فإذا أردت أن تكون ساحرًا.. راوض سحركَ كي لا ينقلب عليكَ.
بين ذراعيه تلقفها وتلقف حماسها في رؤيته وولج معها يجلس فوق الأريكة وهي تُمدد جسدها وتستند بجذعها عليه بصمتٍ ساد بينهما قطعته هي بتنهيدةٍ قوية ثم هتفت بثباتٍ واهٍ وهي كل ما فيها يتمنى أن يقفز فرحًا:
_أنا مبسوطة أوي يا “نـادر” إنك جيتلي، متتخيلش أنا كنت بموت إزاي وأنتَ بعيد عني، ولما ماما سألت واستفسرت لقت إن في فترة العِدة عادي الست تفضل مع طليقها لحد ما العِدة تخلص، وإن طلاقنا يعتبر طلقة واحدة علشان كدا ممكن تردني من تاني، ممكن فرصة تانية اثبتلك فيها إني مش عاوزة غيرك؟.
أطلق تنهيدة قوية ثم تحرك من مكانه وجلس على عاقبيه أسفل نظراتها المُبتسمة وهو يقترب منها بهذا الشكل، بينما هو رفع كفه وقام بلف خصلة من خصلاتها فوق اصبعه وقال بهمسٍ يعلم جيدًا تأثيره عليها:
_ماهو أنا لما حسبتها لقيت إن مصلحتي أجيلك، مش عاجبني نفسي وأنا ضعيف كدا وبسمع الكلام وتحت رحمة الكل، علشان كدا آخد نصيبي تاني من أيد “يـوسف” ونسافر مع بعض أنا وأنتِ، نبدأ من جديد أحسن، إيه رأيك؟.
سعادتها أفقرتها الرد بالكلمات، لكن أغنتها بالرد من خلال عينيها ونظراتها، حيث صرخت عيناها بالقبول والموافقة وأذعنت له رضاءً، وكادت أن تتوسله أن يفعل ما يتحدث عنه، وأمام فصاحة نظراتها قربها منه أكثر حينما شدد يده على خصلاتها ثم قال بنفس النبرة لكن تلك المرة بحديثٍ فج:
_وبما إنك هتموتي ويحصل حاجة بينا علشان تفضحيني وتقولي إني ضحكت عليكِ واستغليتك، أنا عندي استعداد أردك حالًا قبل ما الكام يوم دول يخلصوا، ويحصل حاجة بينا بس ساعتها تاني يوم هصحى أطلقك وأرمي عليكِ اليمين، زيك زي أي واحدة من الشارع ملهاش أصل، وبدل بقى الفيلم الهندي الرخيص اللي كنتِ هتعمليه أنتِ وأبويا، نزود في الصرف شوية ونحبكها بشكل أحسن، رأيك إيه؟.
هاهي لحظة إنقلاب السحر عليها، لحظة أدركت فيها أن خديعتها لم تقم بدورها كما هو مطلوبٌ، لحظة جعلتها رجيف قلبها يرتفع بخوفٍ بينما نظراته قست أكثر وشدد ضمته على خصلاتها ثم هتف من بين أسنانه المتلاحمة بغيظٍ منها:
_مشكلتك إنك فكراني بريالة وعيل صغير خايب تشاوريله يجري عليكِ، بس خلاص أنا قرفت منك، مبقيتش حتى بطيق أبص في وشك، ولولا إني عارف طبعك كويس وإنك لما بتعوزي حاجة بتوصلي ليها أنا جيتلك يا “شـهد” ولسه عند عرضي، موافقة أردك ونقضي اليوم مع بعض ونصحى كل واحد يروح لحاله؟ بدل الفضايح والشوشرة؟.
إهانته لها بهذا الشكل جعلت عبراتها تتسابق فوق وجنتيها بغير هوادةٍ وهي أمامه كما فتاةٍ ساقطة تسير في الطرقات ليلًا لجذب الأعين نحوها، بينما هو فدفعها بعيدًا عنه واستقام في وقفته يرمقها بتقززٍ حتى وجدها تتوسله بهسيسٍ بالكاد وصله من بين صوتها المتقطع:
_علشان خاطري يا “نـادر”… متعملش كدا فيا، أنتَ وعدتني إنك هتديني فرصة تانية… كلامك صعب وأنتَ عمرك ما كنت كدا، أنا عيشت معاك وعارفة إنك طيب، بلاش تكون شبه حد أنتَ مش زيه…
هي تُقر وتعترف بما يضمر الحقيقة في قلبه، لذا صرخ يوقفها هادرًا باهتياجٍ لم يقدر على احتوائه ولا السيطرة عليه مُقاطعًا بذلك حديثها:
_ولما أنتِ عارفة كدا مرحمتيش الطيب دا ليه؟ كنتِ أنانية معاه ودوستي على قلبه ليه؟ لما أنا بكلامي دا بوجعك رغم إنه في من الحقيقة كتير، أنتِ بعمايلك فيا دي تخيلي حصل فيا إيه منك؟ أنتِ خلتيني ماشي بتلفت ورايا خايف في يوم القلم يجيلي من ورايا، وآخرتها رايحة لأبويا تتفقي معاه تاني، دمرتي حياة “مـادلين” وخليتيها تتطرد في الشارع زيها زي أي واحدة رخيصة ملهاش أصل، دمرتي حياتي وخسرتيني نفسي، ولسه بتحاولي تاني؟ يا شيخة دا أنا بقيت بقرف منك ومن عمايلك فيا..
رمقها وأرشقها بأبغض النظرات حتى كادت أن تبكِ أمامه من جديد لكنه عاد يجلس أمامها بخيبةِ أملٍ وقال بحزنٍ دفينٍ كتمه بين حنايا صدره لكن صوته خانه وأوضحه بقوله:
_عاوزة تضحكي عليا تاني وتخليني أصدق إني الوحش اللي هيموت عليكِ وغصبتك عليا علشان ترجعي لحياتي، طب وعرضك وسيرتك قدام الناس دي عادي؟ شرفك وكلامهم في حقك عادي؟ طب وشرفي وحقي أنا؟ هترضي الناس تتهمنا بالباطل في حاجة زي دي؟ هتقدري تواجهي الناس وأنتِ واحدة متطلقة وبيتقال في حقك كلام مش كويس زي دا؟.
بكت من جديد بوجعٍ وهو لم يترك الخنجر من يده بل ظل يُردد لها الكلمات القاسية مُعبرًا عن تقززه منها كإمرأةٍ وفتاةٍ وكأنثى كانت ذات يومًا نبضاته تحمل اسمها، لذا أخرج من جيبه حفنة أوراق مالية ثم ألقاها عليها مُكملًا بذلك سحب الروح من الجسد حينما أضاف بمنتهى القسوة لديه:
_دا حق الليلة اللي كانت المفروض تحصل، بس أنا هعتبر إن الحاجة معجبتنيش وماشي، وأنتِ بقى حاولي تغيري من نفسك شوية، يمكن تعجبي حد تاني، حد يكون شبهك كدا بيدور على قلة الأصل وغاويها كمان، يمكن أنا لو “نـادر” التاني كان زماني موافق، بس صدقيني أنا نضفت نفسي خلاص والوساخة اللي كنت عايش فيها مش هتليق بيا..
لا تعلم من يقصد تحديدًا بذلك الوصف لكنه بكل تأكيدٍ يقصدها هي بتلك النظرة التي يُطالعها بها كأنه يمر من جوار مقلب نفايات يعج بالقذورات، وقد التفت يوليها ظهره ثم قال قبل الرحيل:
_كلها أيام وعدتك تخلص خلاص، شوفي حياتك وحِلي عني علشان أنا هحل عنك وهشوف حياتي، وعلى فكرة؟ أنا هتجوز كمان، بس المرة دي هختار بنت أصول تعيش معايا وصدقيني أنا هتمنالها الرضا علشان ترضى بجد، ولو طولت حتى أركع علشان توافق، هعملها.
هرعت العَبرات من عينيها بغير هوادةٍ وهي تُطالعه بعينين تائهتين بينما هو رحل، رحل في الهدوء كما أتى في الهدوء لكن تلك المرة كان كما الإعصار الذي خلف الفوضى خلفه ولم يُبالِ بغيره، اقتلع الأشجار من جذورها ودمر كل شيءٍ، وهي خلفه تبكِ بصمتٍ وحرقة قلبٍ..
رحل وترك الصفعات فوق وجهها وهي تجلس وتضم رُكبتيها لصدرها وشهقاتها تعلو وتشق سكون الليل الصامت، بينما هو خرج من البناية وولج سيارته ثم زفر بقوةٍ وحمد ربه سرًا لإتمام الأمر كما خطط ورتب، خشى أن تنتهي الليلة بما خططت ورتبت هي، لكن يبدو أن نجدته أتته صباح اليوم حينما صدح هاتفه برقمٍ غريبٍ…
كان في عمله صباح اليوم بوكالة “العطار” وقد أتته مكالمة من رقمٍ لم يعرفه هو فأضطر أن يجاوب فوجد صوت “نـورهان” يلهث بلهفةٍ وهي تتوسله أن يُنصت لها بقولها:
_بص يا “نـادر” علشان خاطري اسمعني بس، عارفة خلاص إنك مش عاوز تكلمني ولا تسمع مني حاجة، بس أنا والله خايفة عليك، “شـهد” بتتواصل مع باباك وسمعتها بتتفق معاه عليك، المفروض إنهم هيخلوك تروح هناك وبعدها تبقى فضيحة ليك علشان ترجعلها تاني، والله مش بكدب عليك بس خلي بالك، أنتَ أكيد متستاهلش إنك تتفضح كدا تاني.
حينها اتقدت النيران به وامتدت ألسنة اللهب تتصاعد لداخل رأسه وحينها اتخذ القرار عصرًا ما إن أتته رسالة من “شـهد” تتوسله أن يأتِ لها للضرورةِ القُصوى وهو لكي لا يُصبح المُغفل في لعبتهم، أتاها الرد منه بشوقٍ رسمه في كلماته:
_أنا اللي بقيت محتاجلك أوي، شكلي هردك تاني.
وبضحكةٍ عابثة زيل كلماته المبعوثة لكي تقتنع بما أُرسِلَ لها حتى هاتفته على استحياءٍ وجاوبها هو ولم تعِ هي أنه بذلك يتولى دور السِحر حينما ينقلب على الساحر، والآن يريد أن يُجرد نفسه منها، يود أن يخلع أي مثقال ذرةٍ لها في قلبه وهي بنفسها تفعلها، هي بنفسها بأفعالها تُثير الاشمئزاز لداخله دفعًا..
__________________________________
<“وإن غيبتَ عن العين؛ فمن غيرك يسكن القلب؟”>
وفي الغِياب دومًا لا ترى العين، لكن ماذا إذا كان من غاب هو نفسه من يسكن القلب؟ الغياب لا يُعتد به إن كان غائبنا هو ذاته من يُعمر قلوبنا بكل ربيعٍ، ففي الغياب وبرغم عدم رؤية العين، فإن القلوب ترى وتُبصر الأفق إلى وهي تعلم إلى أين..
قُبيل الفجر بالقليل من السويعات وبالتحديد قبل أن يصدح المُنبه لكي يُنذر باقتراب الفجر كانت “قـمر” تتململ في نومها بقلقٍ وخيالاتٍ وهمية تذهب وتُجيء بغير هوادةٍ وإنما ظلت تأخذ حيزًا كبيرًا في عقلها وقلبها يرتفع رجيفه خوفًا، صحيح الأمر أنها قضت يومًا كاملًا بهذا البيت برفقة زوجها ولم تشهد بعينيها شيئًا مروعًا خاصةً مع تردد أهل البلدةِ على البيت وتقديم المباركات لابنهم المُفضل، وقدوة شبابهم..
لكن مع الصمت المُطبق والظلام الدامس المحاوط لهما، باتت الخيالات تعصف برأسها عصفًا، لذا حينما حاولت أن تذهب للمرحاض دبَّ الخوف في أوصالها حتى ألقت بجسدها فوق الفراش تتلحف برداءٍ غطاها بأكملها وصدرها يعلو ويهبط بخوفٍ، الآن هي عند مفترق طُرقٍ لا تعلم قسوة أيًا منهما، فالأول هو أن تلجأ لبعض الشجاعة التي لم تملكها هي وتذهب للمرحاض الكبير الواقع بوسط الدار، وإما تلجأ لمعاونة زوجها وتظهر أمامه بهيئة الفتاة المُدللة الخائفة من كل شيءٍ..
حسنًا له كما يود حتى لو سيسخر منها ويتهمها بطفولة العقل أهون عليها مما تُعانيه الآن، لذا تملمت مُجددًا حتى واجهته وهتفت بخوفٍ وترددٍ في أمرها من صحوه:
_يا “أيـوب”.. أصحى لو سمحت “أيـوب”..
هزته برفقٍ حتى أوقظته فأولاها ظهره وهتف بنبرةٍ جامدة بغير قصدٍ منه بل كان تحت وطأة النعاس وسُلطان النوم:
_وحدي ربك ونامي يا “قـمر”.
هزته من جديد بقوةٍ أكبر فزفر بقوةٍ ثم هتف بنبرةٍ أقوى:
_نامي يا بت.
تلك المرة أوقظته بغيظٍ حتى رفع رأسه بحدةٍ فوجدها تعود كما القط المُتقهقر وتسأله بتوسلٍ شارف على الاختلاط بالبكاء القوي:
_طب أنتَ واحد قطعت وعد لأمك، أنا مال أمي بقى؟ لو سمحت عاوزة أروح الحمام.. ينفع؟.
بدأ يدرك الأمر ويستعيد وعيه بأكمله، فارتفع عن ذي قبل يسألها بسخريةٍ مُبطنة لكلماتها التي ألقته بها:
_ودا إيه الأدب والذوق دا كله؟ طب ما تروحي البيت بيتك يا ستي هو أنتِ بتستأذني في ملكك يا “قـمر”؟.
_استأذن إيه أنا خايفة، تعالى وديني أنتَ.
قاطعته سريعًا بحديثها فيما توسعت عيناه بغير تصديقٍ لما تفوهت به وقبل أن يعترض أو حتى يمازحها لمح في وجهها ما جعله يتراجع عن ذلك، وتحرك من الفراش يقودها للمرحاض كأنه يُجالس فتاة صغيرة، وقبل أن يُشعل الأضواء، أيقن أن الحق معها، البيت كان كبيرًا ومُظلمًا بشكلٍ يثير الرعب في النفوس حقًا، لذا تنهد ثم أضاء البيت بأكمله وهي لازالت تتمسك بكفه ثم فتح المرحاض الكبير وأشار لها أن تدخله وأشار على الجهة الأخرى بقوله مُبتسمًا:
_أنا هقعد هناك قدامك بالظبط، براحتك ومتخافيش، البيت أمان والله، بعدين دا “إيـاد” جه مرتين هنا خرب الدنيا فيهم، يلا يا سكر ادخلي ومتخافيش جمدي قلبك وأنا قاعدلك هنا أهو.
ولجت هي بترددٍ ثم واربت الباب حتى إذا حدث شيءٌ تستطع أن تركض بسرعةٍ كبرى، أي خبالٍ هذا يا “قـمر” تتفوهين عنه؟ هكذا نهرت نفسها قبل أن تُنهي ما أرادت وما طمأنها هو ظل “أيـوب” الذي ظل بالخارج في انتظارها كما هو حتى أغلقت الصنبور وخرجت له براحةٍ بدت جلية على وجهها، بادلها هو ببسمةٍ هادئة.
عادا سويًا للفراش واستقرت بين ذراعيه توليه ظهرها وهي تحاول أن تقبض على النوم، لكنه فر منها بعيدًا عنها، لاحظ هو ذلك فمسح فوق عنقها من جهته ليُهديء حالة جسدها وسألها باهتمامٍ:
_خايفة كدا ليه؟ لو تحبي نمشي إيه رأيك نصلي الفجر ونتحرك من هنا؟ أحسن ما تفضلي خايفة كدا وتعبانة، أنا اللي يهمني راحتك أنتِ في كل دا، مش عاوزك قلقانة.
التفتت له برأسها تخبره بلهفةٍ قاطعة:
_لأ والله أنا مش عاوزة أمشي، أنا حابة البيت أوي والبلد كمان والناس هنا كلهم ذوق ودمهم خفيف ومحترمين، بس أنا بخاف من الأماكن الجديدة اللي بتكون مقفولة دي، “عُـدي” و “ضُـحى” علطول كانوا بيتفرجوا على حاجات رعب ويسمعوا الحاجات دي وأنا معاهم كنت بخاف أوي، و “عُــدي” الحيوان مخوفني قبل كدا وحكالي حاجة تخوف، من ساعة ما جينا افتكرتها ومخوفاني.
دعمها بكلا ذراعيه حتى التفتت بكامل جسدها وأصبحت في مواجهته فضمها أكثر له كأنه يخبرها بصمتٍ أنه معها، وعيناه سألت عن سبب الحديث، فقالت هي تُردف له:
_كنا صغيرين أنا وهو و”ضُـحى”واتخانقت أنا وهي مين يروق الشقق ويكنس السلم، هي رفضت وأنا رفضت كمان، وكل واحدة فينا عاندت مع التانية وكنا هنضرب بعض، ساعتها خالو وماما وخالتو “أسماء” كانوا مسافرين علشان عم خالتو “أسماء” مات وراحوا العزا، وقتها نمت من غير ترويق و “ضُـحى” كمان نامت، بس صحينا لقينا كل حاجة مترتبة والبيت متروق والإزايز مليانة كمان وكإن حد كبير مروقه، ساعتها “عُـدي” قالنا إن الجن والعفاريت بتقرف من المكان اللي مش نضيف وبتروقه هي، وقصاد كدا بتلبس الإنسان وتاخد حقها منه، ومن ساعتها بقينا نتخانق مين فينا تروق الأول، وفي الآخر هو اللي طلع مروق البيت وعمل كل حاجة علشان لما ييجوا محدش يزعقلنا…
ما لبث مرور ثوانٍ ووجدته يضحك رغمًا عنه بصوتٍ عالٍ وتلك الضحكة منه تراها هي لمرتها الأولى منه، لذا أولته ظهرها بغيظٍ من ضحكاته حتى سكت هو ثم مال عليها برأسه يهمس بمزاحٍ:
_هو أنتِ هبلة لدرجة إن حكاية زي دي تخوفك؟ طب ما الراجل كتر خيره روق البيت ووضبه علشان محدش منكم يتهزأ، وأنتِ يا بت بطلي هبل شوية، أنتِ المفروض مفيش حاجة تخوفك خلي إيمانك كبير بربنا، بعدين أنتِ بتصلي وبتقرأي قرآن ومحصنة نفسك، يبقى نثق في الله، صح ولا لأ؟.
أومأت له ببسمةٍ هادئة فيما اقترب هو يُلثم وجنتها بلثمةٍ عميقة ثم سألها بنبرةٍ هادئة بعدما التقط الساعة بعينيه وعرف الوقت بالتحديد:
_بقولك إيه لسه فاضل بتاع ساعتين على الفجر لسه، تيجي ننام دلوقتي وأحكيلك حدوتة حلوة وأصحيكِ قبل الفجر ونروح نصلي في المسجد؟، مش هسيبك لوحدك علشان متخافيش، الستات هنا بيروحوا يصلوا في المسجد عادي، رغم إنه مش مستحب بس علشان متعيطيش هنا لما أسيبك.
أغمضت عينيها بسلامٍ بعدما أومأت له بينما هو حمحم بقوةٍ ثم مال عليها أكثر يضمها له وبدأ يسرد حكايته عليها بقوله الهاديء:
_كان ياما كان يا سادة يا إكرام ولا يحلى الكلام إلا بالذكر النبي محمد ﷺ.. عليه أفضل الصلاة والسلام، كان فيه مرة ست المفروض إنها على قد حالها ومش معاها فلوس، عندها ولد وحيد بس كان شقي أوي أوي، وفي مرة الولد دا لقاها عاملة أكل حلو، وهما علشان المفروض غلابة عمره ما شاف الأكل دا عندهم قبل كدا، فأكله كله وهو عارف إنها تقدر تجيب غيره، وهي كانت عازمة ناس عندها وعمالة تحوش علشان الأكل دا، ولما شافته كل الأكل كله ضربته جامد وفضلت تصرخ فيه، وعلشان هي ست بخيلة وكله عارفها، راحت حبسته في الحمام لوحده يومين… بعدها الولد دا اختفى خالص من الحمام ومبقاش ليه أي أثر.
توسعت عيناها وبدا الذعر جليًا عليها من انكماش جسدها فيه وهي تندس به أكثر حتى وجدته يضمها إليه ووشم نبرته بالعمق قائلًا:
_ساعتها كانت هتتجنن، راحت لجارهم اسمه شيخ “سـيد” وفضلت تقوله على كل حاجة وإزاي حبست ابنها في حمام البيت وإزاي رجعت تفتح الباب ملقتهوش، خصوصًا إن جوزها مسافر ومفيش حد يخرجه، ساعتها الشيخ قالها تعمل نفس الأكل اللي كانت عملاه بالظبط وبالمناسبة كانت صينية فتة ولحمة وسلطة، وقالها تحطهم في صينية قدام الحمام، لو الجن خدهم يبقى ابنها هيرجع تاني، ماخدهمش يبقى تنسى ابنها خلاص والجن مش هيرجعه ليها، ساعتها الست سمعت كلامه وعملت الأكل وخرجت برة الشقة خالص، ورجعت بعد ساعة لقت الأكل متاخد كله، فرحت واستنت ابنها، بس مرجعش، راحت لجارها الشيخ، قالها كل يوم تعملي الأكل دا وتحطيه لحد ما الجن يوافق وابنك يرجعلك تاني، وهي سمعت كلامه وفضلت أسبوع كامل تأكل في الجن علشان ابنها يرجع… بس للأسف.
تنهد بأسفٍ جعلها ترفع رأسها تسأله بخوفٍ عن بقية الحكاية المجهولة بسؤالها الغبي:
_الجن معجبهوش أكلها ولا إيـه؟.
سألته فوجدته يُجاهد للنطق من بين ضحكاته وهو يُعطيها النهاية بقوله المرح الذي لم تتخيله هي:
_لأ الشيخ سيد طلع نصاب وهو اللي مخبي ابنها واشتغلوها علشان تعملهم فتة ولحمة كل يوم، ويربوها علشان تبطل بخل وتصرف من الفلوس اللي معاها، والشيخ عرف علشان سمعها وهي بتعاقب ابنها وبتحبسه في الحمام.
يبدو أنه استغل سذاجة فكرها، وحسنًا قهو من سيتعرض للعقاب حاليًا؛ لذا قفزت عليه تحاول أن تعض كفه وقد أنسل هو من جوارها ركضًا للخارج وضحكته العالية تُجلجل البيت وهي تتوعده في الخلف حتى عرقلت سيره حينما تصنعت الألم من الركض فعاد إليها وحينها قامت بعض ذراعه الممدود أمامها وهو يضحك عليها وقال بصوتٍ عالٍ من بين ألمه:
_خلاص، خلاص والله كان “أيـهم” اللي حكيهالي.
تركته وهي تلهث من فرط الركض خلفه بينما جاورها فوق الأريكة ضاحكًا بيأسٍ وهو يقوم بفرك موضع الألم وحينها ارتمت عليه تلتحد فيه بجسدها وهي تقول برقةٍ:
_متزعلش، وجعتك؟.
حرك رأسه نفيًا وهو يبتسم لها حتى ابتسمت هي ثم رفعت كفها تمسح فوق كتفه وحينها قبض على كفها بين أسنانه، لكن لم يكن بمقدار قوتها خوفًا عليها وهي تحاول سحب كفها منه وهي تتوسله أن يتركها حتى ضحك في النهاية وقال بزهوٍ لها:
_كدا خالصين، بس البادي أظلم.
ضحكت هي تلك المرة بعدما تبدد خوفها وقلقها وظلت بجواره ضاحكةً وهو معها يحتضنها بين ذراعيه وهو يعلم أنه بدد خوفها بأكمله بل وحول القلق إلى مرحٍ، وهي بالطبع لم تعلم أن بما فعلت أعادت له روح الصبا التي حُرِم منها منذ أن فقد رفيقة الطفولة الأولى “رقية” التي كانت تركض خلفه في كل زوايا البيت وينتهي أمره به يضحك بين ذراعيها تمامًا كما فعلت تلك الـ “قـمر” وضمته لها…
__________________________________
<“ما كان القلم يومًا بلسانٍ ساكتٍ عن الحقوق”>
ما كانت الأقلام ذات يومٌا صامتةً ولا يحق لها أن تكون، القلم هو خارطة الضال بين حقٍ مغمورٍ وباطلٍ مشهورٍ؛ فيُرشَد بقلمٍ صادقٍ لا يعرف الكذب طريقه تمامًا كما اتجاه الشمال أعلى الخرائط مُحدد الصوب والهدف، لذا القلم هو البوصلة التي تُهدي العقول، خاصةً تلك الأقلام التي أصبحت في سِنها مقصوفةً..
وما من ليلٍ أبديٍ إلا وأتت نهايته بنهارٍ مُشمسٍ آتيًا معه بحقيقةٍ واضحةً للعيانِ كما قرص شمسٍ لا تغرب ولا تخفت آشعتها، فاليوم حرك الهواء دُفتي الكتاب المُغلق على حقائق منطوية بين الصفحات وكادت أن تُكتب بين الأسطر المخبوءة، اليوم القلم يربح على السُلطان، واليوم الحُـر سيرته تُخلد أمام كل جبانٍ، اليوم عادت شمسٌ غاربة وأشرقت في الوجود بسماء الحُريةِ..
الخبر انتشر كما انتشار النيران بالهشيم والقَش، أتى الصباح ومع بداية الناس ليومهم كان الخبر هو الوحيد والأوحد بصورة بطلٍ مغمورٍ لم يعرف عنه العالم شيئًا، والآن بات العالم يعرف عنه كل شيءٍ، قصة البطل
“حـمزة التُهامي” الذي راح ضحيةً للغدرِ من عصابة صقورٍ جارحة خشت على نفسها من طيرٍ حُـرٍ فقتلوه.
“حمزة التُهامي.. قلمٌ لا يُكذب”
“حمزة التُهامي الطير الحُر في سماءٍ مُلبدة”
“شاب طلب بالحُرية من الأسر، فقُتِل بالغدر”
“القلم بداخله الحِبر، ويملأ اليابس بعمق البحر”..
عناوين مُختارة بعنايةٍ فائقة لكي تسرق الانتباه، لجنات إلكترونية قامت بتفنيد الحكايا ووضعها نصب العين التي لا تلمح إلا عن قُربٍ، قصته كاملة كُتِبتَ، ومقالاته بالحرف نُشِرَت، وسيرته بالخير ذُكِرت، كل شيءٍ عن تلك العصابات كتبه هو أُعيد نشره بدقةٍ فائقة، والسبب يعود على كلًا من “مُـنذر” و “بـاسم” دون أن يملع لهم نجمٌ في تلك السماء..
كان “مُـنذر” بغرفته يراقب هاتفه ولأول مرةٍ يقدر على التنفس بتلك الطريقة، ولأول مرةٍ يمتن لمكانه القديم الذي سهل عليه الكثير من الطُرق الملتوية، حيث اللجوء للشبكة العنبكوتية وما وراء ذلك، كما قام بدفع بعض المبالغ الزهيدة بعملةٍ أجنبية وحصل على صفحاتٍ ممولة لكي ينشر بها الحقائق، ومع معرفته بالناسِ هُنا وحبهم للسير البطولية وتلوك الحديث كما العلكةِ بالأفواهِ، قام بتجزأة الحقائق حتى لا تخمد نيرانهم في غضون يومٍ، بل تريث وقام بنشر كل شيءٍ أمام العين المُجردةِ..
تنهد بقوةٍ حينما وجد “باسم” يهاتفه وما إن تواصلت الخطوط ببعضها قال الآخر بفرحٍ وفخرٍ به:
_”حـمزة” لو كان عايش كان أكيد هيفرح أوي، عاش طول عمره بطل مغمور محدش يعرف عنه حاجة، ولما مات كل الناس حاليًا عرفت هو مين، أظن دا أكبر تكريم ليه ممكن ياخده بعدما حياته ضاعت وهو بيصرخ لحد ما صوته اتنبح.
وافقه وأيده وأذعن لحديثه، لكنه ناقض ذلك بقوله:
_ودي لسه البداية، حقه هيرجع لما الناس تفوق من اللي هي فيه دا، لما يعرفوا يعني إيه حقوق ليهم وإن اليوم مش أكل ونومة مستورة بس، ياريت فيه زيه كتير، مكناش وصلنا للي إحنا فيه دا، المهم عملت إيه في الملجأ؟ عرفت حاجة عنه؟.
وهذا هو السؤال المؤرق له، يخشى هذا المكان كثيرًا أو بالأحرىٰ هو يخشى أي مكانٍ يغتصب الطفولة، ويجعل النفوس البريئة مُدنسةً، وقد أتاه الجواب مُثلجًا لروحه:
_متقلقش، القضية خلصت ضد مجهول، والمدير اللي اتقتل دا سمعته أصلًا كانت هباب، عيلته كلها مشيت وسابوا القاهرة ورجعوا عند أهل مراته، وباعوا كل حاجة ليها علاقة بيه حتى الشركة بتاعته، بس فيه مدير تاني مسك المكان ولحد دلوقتي كل حاجة ماشية بصورة طبيعية، أو علشان مبقاش كداب دا اللي باين.
ساور الحديث القلق حول نفسه فتنهد بقوةٍ وأنهى الحديث بأكمله ثم أغلق الهاتف وأرتمى فوق الفراش وهو يحاول الخروج من تلك الهوة الساحقة، ولأجل الحق يشعر أن اليوم بدونها أمسىٰ منقوصًا، أين هي الآن وماذا تفعل؟ هل زهدت قربه؟ أم لازالت ترغبه؟ كيف حالها من بعد المواجهة؟ يا الله ماذا به الآن؟ ألم يكن هذا مُراده أن تبتعد عنه؟ لما الآن يرغب في نظرةٍ من عينيها؟..
اشتاق حدَّ الجنون، وبات ينتظر رؤيتها بكل مافيه، حتى طرأ حديث “إسماعيل” بذهنه يُذكره عن حيلته حينما يشتاق قائلًا:
_غمض عينيك وشوفها بقلبك؛ هتلاقيها.
هرب من الدنيا وأغمض عينيه ساحبًا الهواء داخل رئتيه وقد لمحها تركض أمامه ضاحكةً وخصلاتها تُزين وجهها البريء والضحكة البريئة تعلو ملامحها، وهو خلفها يحاول اللحاق بها ورغمًا عنه ضحك بعدما ناوشت قلبه بضحكتها، يهرب من واقعه للخيال، وما حيلة حزينٍ مثله غير الخيال..؟
__________________________________
<“ولأن الوتيرة الوحيدة مُملة حد الاختناق لابُد من تنوعٍ”>
الروتين المُمل والوتيرة الواحدة تُزهق النفس وقد تُزهق الروح أيضًا، ولولا الاختلاف المُنبثق من الحنايا المتنوعة لما وضحت بعض الأمور الغائبة أسفل غطاء المثالية المُفرطة، فما نحن إلا بشرٌ نرغب ونُريد، وكُلٌ منا ساعيًا نحو مُراده..
هنا حول المائدة في دفءٍ يتنافى مع برودة الطقس بالخارج، مع وجبة لذيذة معتادة من الجميع في هذا التوقيت برعت هي في صُنعها وجاورت زوجها الصامت منذ يومين، أو بالأحرى منذ أن طلبت منه مطلبها الوحيد وقابله هو بالرفض القاطع، والآن يتناول الطعام بصمتٍ قاتلٍ وهي توزع نظراتها بينه وبين صغيرها الذي لاحظ بعينيه توتر الأجواء فسأل بحيرةٍ:
_هو أنتوا متخانقين لا إيـه؟.
ولأن ذلك هو الهاجس الأكبر لديه في علاقة والده بزوجته خشيةً من تكرار صور الماضي الذي لم ينتهِ أثره؛ سأل، وقد أتاه الجواب ببسمةٍ منها تنفي ذلك، وكلمات رتيبة من والده مفداها كان حكيمًا بقوله:
_لأ متقلقش، دا مجرد اختلاف في وجهات النظر مش أكتر، بعدين متشغيلش بالك أنتَ بس، إحنا تمام أوي والست دي مخطوفة عندنا ومش هتخرج من هنا أبدًا غير على جثتي وبعد شهور العِدة كمان.
أنهى “أيـهم” حديثه بغمزةٍ لابنه الضاحك، بينما هي لم تعجبها تلك اللهجة الآمرة، لقد استشفت مقصد الكلمات لذا أنهت طعامها سريعًا وتأكدت من طعام الصغير ثم ولجت غُرفتها وهي تشعر بالضيق والضُجرِ منه، لقد بات الأمر لها يأخذ مسلكًا غير القديم وهذا ما تخشاه هي..
لن تصمت هكذا ولن تنتظر حتى يَمُن عليها بجوابٍ، لذا خرجت تصنع الشاي له ولها وتحاول معه لكي تستدرج سبب رفضه القاطع بتلك الطريقة، وقد وجدته لازال يجلس فوق المائدة يتناول طعامه برتابةٍ مملة، تجاوزت هي ضيقها ثم جاورته تسأله بثباتٍ واهٍ:
_هو أنتَ فكرت في الموضوع اللي كلمتك فيه؟.
التفت لها بحاجبين معقودين وملامح الاستنكار تغزو وجهه وهو يرد السؤال بسؤالٍ آخر مستغلًا نزول ابنه لبيت جده:
_موضوع إيـه؟.
_أنتَ بتستهبل يا “أيـهم”؟.
ألقتها عليه صارخةً بحنقٍ شديدٍ منه جعله يرفع أحد حاجبيه من طريقتها وصراخها حتى زفرت هي بقوةٍ ثم قالت بثباتٍ كاذبٍ أمامه:
_طب بص، أنا مش من النوع اللي ببصة وكلمة وحشة بسكت، وعلشان ميبقاش فيه عِناد ومُكابرة بينا ونوصل لحيطة سد، أنا بطلب منك نتناقش بالهدوء من غير ما كل واحد فينا يتمسك برأيه، دي مناسبة عائلية عندنا، فرح بنت عمي، أنا بطلب منك أروح وآخد معايا “إيـاد” هو يوم وأنتَ هتيجي في التاني تاخدني، عامل مشكلة بينا ليه؟.
زفر هو بقوةٍ ثم قال بثباتٍ أكبر من ثباتها:
_طب طالما عاوزانا نتناقش مع بعض أنا هقولك أنا رافض ليه، ابني مهما حصل هيفضل غريب عند عيلتك، مش هيكون ليه مكان وسطهم، وأنا ماعنديش استعداد أبني يحس إنه مرفوض ونرجع مع بعض لنقطة الصفر تاني، أنا ما صدقت إنه الحمدلله بدأ يتقبل الحياة واقتنع إن أنتِ أمه، مش عاوز حد يحسسه إنه مجرد شخص غريب رايح يتطفل على عيلتهم وهو ملهوش حق بينهم.
انقبض قلبها من مجرد الحديث وأحست بوجعٍ يضرب خلف رُكبتيها وسألته بصوتٍ متهدجٍ كونه لم يلمح إلا تلك الصورة فقط من الإطار بأكمله:
_يعني أنتَ مش شايف بس غير الصورة دي؟ مش شايف إنه زي ما بتقول ابني ومستحيل أقبل حد يزعله؟ أنا عاوزاه يتعرف على عيلتي ويعرف هما مين، عاوزاه ياخد على الجو علشان العمر اللي جاي علينا مع بعض وهو معايا فيه، أنتَ ليه رافض كدا؟.
حرك كتفيه ثم برر ذلك بقوله مُفسرًا بتوضيحٍ:
_يمكن علشان من البداية كان فيه اعتراضات كتير؟ بصي يا “نِـهال” أنا مش هحوشك عن أهلك، ولا هقدر أمنعك عن فرحتك مع عيلتك، ومش هكون أناني وأقولك رجلي على رجلك والكلام الخايب دا، رغم إن واحد تاني مش هيخليكِ تروحي في وجود “بـهاء” ابن عمك، بس أنا واثق فيكِ وعارف مراتي كويس، بس مش هينفع أحط “إيـاد” في صورة هو ملهوش مكان فيها.
الآن فهمت هي أن مهما طال الزمن بها معهم ستظل فقط زوجة الأب الحنونة ولا أكثر من ذلك، مهما أخبرت العالم حولها لن يصدقها أحدٌ أن هي تراه ابنًا لها وعالمًا يحتويها بعيدًا عن قسوة العالم، بينما هو فكل المُعطيات أمامه تُبرهن لنفس الشيء، لقد سبق وأخبره “تَـيام” عن معاملة أقرباء أمه له والسبب أنه لم يكن منسوبًا لدم العائلةِ، فما باله بهذا الطفل الذي وصل للعاشرةِ من أعوام عمره ويدخل بينهم؟..
تحركت هي ببكاءٍ من أمامه وقد طالع هو أثرها بتيهٍ، كلاهما يرغب في شيءٍ ولا أحدٍ منهما يفهم الصورة الآخرى، وقد ولجت “نِـهال” غرفتها وأول من طرأت بذهنها كانت رفيقتها “آيـات” لذا أخرجت الهاتف وطلبت رقمها باكيةً وما إن ردت الأخرى داهمتها بقولها:
_أنا مخنوقة وعاوزة أتكلم معاكِ، محدش غيرك هيفهمني.
رحبت الأخرىٰ بقولها واستمعت لها وأنصتت وهي تستمع لشكواها باكيةً وبصوتٍ متقطعٍ وهي تُضيف بعد السرد الطويل:
_أنا عاوزاه علشان مش عاوزة هناك أكون لوحدي وسطهم، عاوزاه يكون معايا علشان أحس إني ليا حد هناك، أخوكِ مش فاهم أنا حاسة بإيه، وبيأكدلي أني عمري ما هكون بس غير مرات الأب ومش هينفع أكون غير كدا، أنا كل مرة آجي أتعامل فيها مع الوضع إنه طبيعي بتفاجيء إنه مش هينفع، مع إن دا العادي، فين المشكلة بقى؟ عيلتي مش هيقدروا يزعلوه والله.
الأخرى دومًا تتسم برجاحة العقل والتفكير الحكيم، ولأنها على يقينٍ أن شقيقها دومًا يفشل في التواصل بالنقاش ودومًا يحتدم الأمر، فقالت برصانة عقلٍ وثباتٍ:
_أولًا بس وحدي الله واستعيذي من الشيطان، ثانيًا الموضوع مش كدا، يمكن هو مش عارف يوصلك الصورة كويس، خايف؟ أكيد خايف على ابنه بس مش منك ولا من عيلتك، خايف من التجربة لأن للأسف الموضوع مختلف شوية عنده، أظن أنتِ شايفة العلاقة بينهم كأب وابنه قوية إزاي، فأكيد هيتوتر من الفكرة ويخاف عليه، بس مش كرهًا ليكم والله، أنتِ إيه يرضيكِ ويريحك طيب؟.
تنهدت “نِـهال” بقوةٍ وقالت بصوتٍ أقرب للبكاء:
_كان هيريحني لو وافق ورضي إن “إيـاد” ييجي معايا البيت وكأن الأمور كلها عادية زي أي أم وابنها، بس أنا فجأة حسيت إننا بنرجع لنقطة البداية من تاني، على الأقل يحاول يبص للموضوع من صورة تانية بدل دي يا “آيـات”.
ابتسمت الأخرى وقد ظهر أثر التبسم على صوتها وهي تقول مُراضيةً لها بحنوٍ بالغٍ كأنها أمٌ تواسي صغيرها:
_ليكِ عليا أنا هخليه يشوف الصورة التانية دي، بس متزعليش أنتِ يا حلويات، ولسه معانا كام يوم كمان، بالهداوة نحل كل حاجة ولا نلجأ للحج “عبده” بقى يحكم بينكم ونعمل قعدة عرب؟ مبدأيًا “أيـهم” هينام في الوكالة لو الحج اتدخل.
ضحكت الأخرى بسعادةٍ ثم شكرتها كونها تأخذ بيدها من هوة الحزن الساحق إلى راحةٍ تُثلج روحها، وقد أنتهت المكالمة بينهما بوعدٍ لحل الموقف، ولأن ثقة “نِـهال” بها بلغت لأشدها فباتت تعلم أن رفيقتها ستحل العُقد بكل ثباتٍ وتعقلٍ كي تكون الأمور في نصابها الصحيح..
__________________________________
<“ولأن الماضي لا يُنسى بمرور الأيام، الجرح لم يلتأم”>
رُبما كذب من قال أن الماضي قد يُنسى، فلا الماضي يُنسى ولا جراحه تلتأم، نحن فقط نتناول جُرعات الصبر لتسكين الآلام وما إن نصطدم بشيءٍ نجد الجراح ازدادت التهابًا عن ذي قبل..
الماضي اليوم وضعها بين المطرقةِ والسندان، اليوم واجهت حقيقة مُرة كما سير العلقم بحقل المرء، اليوم علمت أن الحبيب الأول قُتِلَ غدرًا، اليوم أصبح بطلًا والجميع يتغنىٰ بسيرته وهي من بين الجميع سعت لكي تنسى ذكراه؟ أي خبالٍ هذا الذي تعايشه هي وهي ترى صوره ومقالاته وبطولاته المغمورة تُكشف أمام العالم بأكمله؟.
شردت “رهـف” بعيدًا عن الجميع وانزوت أمام النيل تراقب حركة المياه وتذكرت أحد اللقاءات من بين لقاءٍ آخيرٍ بينهما كانت تعاتبه بقولها حانقةً لكونه لم يتراجع عن شيءٍ يفعله:
_اسمع مني، أنتَ كدا بتضر نفسك وبس، إحنا مش هنغير العالم دا ولا هنقدر حتى نقف قدام الحيتان دي، خليك بعيد وأرحم نفسك وأرحم حبايبك من الوجع دا، يا “حـمزة” مفيش حاجة بتتغير، ولا فيه صوت بيوصل حتى.
ضاق الحال به ذرعًا من حديثها فهتف بضيقٍ كان يحمله بداخله ولم يجد متسعًا لكي يفصح عنه:
_يا “رهـف” اسمعيني، أنا مش هقدر أسكت ولا أبطل، أنا واحد صاحب قلم وقلمي حُر ودي أمانة في رقبتي، لما أنا أعمل زيك وغيري يعمل زيي وغيرنا يعمل زينا، مين هيرجع حقنا منهم؟ مين هيتكلم ويوصل صوتنا للعالم؟ إحنا بيتاجروا بأيامنا كلها، الماضي والتاريخ بيبعوا أثاره للي يدفع ويشيل، والمستقبل بيقضوا عليه بخطفهم للعيال ومتاجرتهم بيهم، واللي إحنا عايشينه ضايع مع شباب مش شايف غير الرقص والغُنا والمخدرات وبس من غير مباديء فيهم، إحنا بنغرق ومش حاسين، إحنا بقينا بنكره هويتنا وأرضنا، رغم إننا المفروض أحرار، يا شيخة دا المحتل مبيكرهش أرضه وبيدافع عنها لحد ما روحه تخلص فيها، يبقى إحنا المفروض نسكت عادي؟.
ولأن الحديث وقتها كان من القلب توقفت عن الجدال، توقفت وهي تتمنى له أن يُكلل مسعاه بالنجاح ولم تكن تعلم أن صوته أزعجهم حتى أخرسوه تمامًا وكأن السماء فرغت من الطيور الحُرة، طافت بعينيها فوق عبارةٍ بالهاتف سبق وقيلت على لسانه وكانت هي جُملته الوحيدة وهي الرد الكفيل والكافي للتعبير عنه أن:
“القلم لسانٌ لا يُكمم له فاهٌ، وبحرٌ لن يتوقف له مدٌ”
ولم يعلم ذات يومٍ أن لسانه سوف يُبتر، وبحر حبره سوف يَجف عن المد، بل وأوراق حريته سوف تُمزق وتُقطع لأشلاءٍ ويصبح في طيات الذكرى فقط، اليوم هي عالقةٌ بين ماضٍ وحاضرٍ كلاهما أشد عليها قسوةً مما سبق، فما بين ماضٍ كان هو كل شيءٍ وما بين حاضرٍ رحل بكل شيءٍ هي هُنا علقُت في المنتصف بتيهٍ في نفسها ومن نفسها..
أتى “عُـدي” من مكتبه ووقف في الخلف يُراقبها وهو يعلم ما تمر به جيدًا، الأخبار المتداولة منذ باكورة الصباح كان لها نفس الوقع عليه كما كان الوقع على الجميع، وقد وقف يمعن نظراته فيها فوجدها تمسك الهاتف بكفٍ وتزيل العَبرات بالأخرىٰ وحينها وقف بتيهٍ، فأي مشاعر تلك التي يملكها لكي يذهب إلى حبيبته ويواسيها في موت حبيبها السابق؟ أي خبالٍ قد يجعله يفعلها وهو ينتهج هذا السبيل، الأمر قد يحتاج لبعض المثالية المُفرطة، ولأنه من بني أدم ومن جنس البشر ولم يكن بملاكٍ.. لذا التفت وعاد.
عاد إلى مكتبه وولجه متخفيًا بداخله وهو يفكر في حاله الغريب معها، هو يُقدر مشاعرها ويفهم الأمر، لكن هناك النقيض في كبرياء رجولته يرفض هذا وبشدةٍ، وما بين كلا الأمرين المُتعبين له تنهد بقوةٍ وشخص ببصره نحو الخاتم الموضوع ببنصرهِ.. وبكل آسفٍ وفرحٍ يعود لها هي كما كان وقع اسمها على القلب بات محفورًا..
__________________________________
<“لأنكَ حبيبٌ لروحٍ خامدة، فالقلب يُقاسمك الألم”>
سبق وقالوا أن من حضر القسمة فليقتسم..
لكن ماذا عن من لم يكن حاضرًا ويُقاسم الروح في وجعها ويشاطر القلب في ألمه؟ ماذا عن من لم يكن حاضرًا في الماضي وتلقى صفعاته في الحاضر بقسوةٍ أشد مما سبق وكأن الألم عالقًا في كلا الزمنين؟ ماذا عن الغائب حين يُحكم عليه بالعودةِ لزمانٍ قاسٍ فيتلقى الألم في كل زمانٍ وحينٍ..
منذ اللقاء الأخير الذي تم بغير وداعٍ بينهما وهي حبيسة غرفتها بعيدًا عن الجميع في حصارٍ فرضته على نفسها، لازالت صورته مأسورة في ذاكرتها وكل شيءٍ خصه في تلك الليلة البعيدة، فلو كذبت حديثه، لن تكذب نبرة الصوت المقهورة، ولو كذبت كليهما لن تُكذب نظرة العين الحزينة، ولو تغاضت عن كل هذا؛ فكيف ستتغاضى عن المعلومات والنتائج المحصول عليها في محركات البحث الإلكتروني عبر صفحات التواصل الاجتماعي والشبكات العالمية، كيف تُكذب كل ذلك وهي بصدد جريمة عالمية يغفل عنها البشر تُسمى “الإتـجار بالبـشر”..!!.
لقد حسبت أن الأمر وصل بالقسوة للإتجار بأجساد البشر الذين غاب عنهم العقل وفقدوا أهليتهم، فترتب على ذلك سرقة الأعضاء منهم واستباحة أجسادهم، لكنها لم تظن أبدًا أن القسوة وصلت للإتجار بالأحياء وهم على قيد الحياة، يشعرون ويدركون بكل شيءٍ؟ هل القسوة وصلت لاستباحة الأرواح بذاك الشكل المروع دون رحمةٍ لصغارٍ ونساءٍ أو حتى شفقةٍ بشبابٍ حُكِمَ عليهم بالعجز والقهر؟..
هل القسوة وصلت لكي تكون هناك فئات من البشر يعاملون كما البضائع المُخزنة في مخازن تجارية ويوم أن يظمأ السوق يتم عرض البضائع المنوعة؟ أي عالمٍ هذا الذي نعيش به وهي ترى بعينيها الأرقام المسجلة لعدد هائلٍ من البشر، وأي عبثٍ هذا الذي يحدث لكي ترى أسماء الدول المختلفة التي لمع نجمها في سماء هذا النوع من التجارة كأنها فخرٌ نالت عليه؟ أي عالمٍ هذا الذي نعيش به والعالم لم يكن على إدراكٍ كافٍ بما حوله…
تُرى بماذا يشعر هو إذا كانت هي من مجرد قراءات عابرة للموضوع دون أن تُعايشه وهي تشعر بالألم في منتصف روحها؟ بماذا يشعر هو بعدما كان طفلًا حُكمَ عليه أن يُجرد من طفولته وكرجلٍ أُجبرَ على أن يكون مقهورًا لهذا الحد؟ بما يشعر هو بعد الوداع الآخير لروحه المعطوبة، وآلامه النازفة وهو وحده في هذا العالم؟ بكت.. بكت لأجله ولأجل قلبه الذي تشعر به مُكملًا لقلبها هي، وسرعان ما تذكرت جملةً له ألقاها عليها بقهرٍ:
_”طـب داويـني”
والدواء حينها لم تعلم هي أن المقصود به كانت روحه وما يعتمل به قلبه، بكت من جديد وهي لا تفعل شيئًا سوى البكاء على فرحةٍ لم تكتمل وبكل آسفٍ فرحتها لم تكن بحاجةٍ لغيره هو، سحبت هاتفها وقررت أن تخرج من معزلها وما إن فتحت الهاتف ورأت بعينيها الحديث المنشور عن “حـمزة” جحظت عيناها للخارج وهي تُقلب في الصفحات والأخبار وتصول وتجول بين العديد من الصفحات الممولة التي انتشرت بشكلٍ غريبٍ والعديد من الحسابات الموثق منها وما دون ذلك قاموا بنشر الخبر وكأن كل شيءٍ كان مُرتبًا..
بدأ عقلها يستعيد عمله من جديد وقام بربط الخطوط ببعضها لكي تتضافر معًا؛ وقد تذكرت أمره يوم أن ذكرت اسم الشاب الحُـر أمامه وتذكرت كيف اندفع وقاطعها مُكملًا الاسم بدلًا عنها وحينها أنكر معرفته به، فهل يُعقل أن الأمر يكون محض الصدفة، أم أن هو له يدٌ طالت روح الشاب وساهم في قتله..!! وعند تلك النقطة صرفت تفكيرها بعيدًا عن الغائب وعن المزيد من الأفكار فيكفيها عقلها الذي لم يرحمها من الفراق الآخير..
__________________________________
<“لعل ما رغبته ذات يومٍ أصبح على مرأى العينين”>
رُبما نزهد شيئًا ونتركه ونبتعد عنه لكن بالرغم من ذلك لا مفر من أنه المصير المحتوم لنا، ورُبما ذاك الشيء الذي نهرب منه بكامل طاقتنا ونُطالب بدفعه عنا هو ذاته الذي نستنزف طاقتنا لأجل التحصل عليه، ورُبما ما كُنا نخشاه أمسًا؛ يصبح اليوم هو أماننا الوحيد..
الأمس مر حلوًا والصباح أتى مُرًا..
لقد مرت عليها ليلة شتوية قضتها بين أحلامها وواقعها وقد تطلب الأمر المزيد من التهور فقامت بفتح النافذة وأخرجت رأسها منها لكي تسقط عليها قطرات المطر حتى تبللت كُليًا و “يـوسف” بجوارها يضحك عليها وهو يعهد معها جنونها الغريب الذي فاجأته به تلك المُذهلة، وقد أنتهى الأمر بها بين ذراعيه في الشرفةِ حينما ألحت عليه بالنوم بها، والآن هي وحدها من تتحمل عواقب إلحاحها…
فما إن استفاقت صباحًا وجدت حلقها يؤلمها وحرارتها ارتفعت بشكلٍ ملحوظٍ وباتت تسعل للحدِ الذي ألم صدرها وحلقها أكثر، والآن هي فوق الفراش ترتعش وترتجف ووجها تغزوه الحُمرة بسبب ارتفاع درجة حرارتها، ولج لها “يـوسف” ورآها على حالتها تلك فكتم ضحكته ثم وقف يتحسس جبينها ثم نزل بكفه يتحسس بطنها فضربته بكفها حتى قال بحنقٍ يردع فعلها:
_يا بت بطلي افترا بشوف درجة الحرارة.
ضيقت جفونها بريبةٍ منه وهي ترمقه بشكٍ، فيما تنهد هو بقوةٍ ثم قال بقلة حيلة كون حرارتها لم تنخفض منذ باكورة الصباح:
_كدا مش هينفع لازم الحرارة تنزل علشان متروحيش مني فيها وتنكدي عليا في أروق أسبوع في حياتي، مفيش حل غير دش ساقع يجيب من الآخر.
منذ الصباح وهو يخلو من أي أدبٍ وذوقٍ وهي تتحمل، لكن عند تلك النقطة بدأت تتحول كُليًا وسألته بنفاذ صبرٍ:
_دش ساقع في الجو دا؟ حرام عليك هتموتني.
حرك كتفيه بلامبالاةٍ ثم أولاها ظهره وخرج وتركها هي بمفردها، تركها غارقة في التفكير بشأنه، أهذا هو اليوم المستحق لكي يتخلى عن حنوه وشهامته معها؟ اليوم يُعاني من التقلّبات المزاجية بشكلٍ غريبٍ وهي حتى لم تُجادله، بل هي تجلس فوق الفراش وتتعجب من صمته وتغيرات حاله ما بين الصمت والشرود وإنعزاله عن العالم وابتسامة باهتة فقط يعطيها لها كأنها تُجالس غريبًا عنها، أيفعل هذا اليوم وفي الأمس كانت ضحكته رفيقتها ومؤنستها؟، أهذا هو الإضطراب اللعين الذي يُعاني منه؟…
شردت فيه وفي حاله وللحظةٍ كادت أن تبكي مُشفقةً على حالها وظنته لم يكترث بها وبتعبها، ويبدو أنه يندمج في الخارج مع أحد أفلام الحركة والإثارة وهذا ما استشفته من صوت التلفاز، وقبل أن تذهب في عمق الطريق ردها هو حينما ولج لها يحمل صينية كبيرة الحجم ثم سألها بسخريةٍ:
_أمك اللي مخبية الحاجة في المطبخ؟ ساعة علشان ألاقي صينية أحط عليها الأكل؟ الحاجات دي على مين في القايمة علشان أعرف أزعق بقلب جامد بس.
ضحكت رغمًا عنها بينما هو أقترب يضع الأشياء ثم أشار بزهوٍ نحو ما صنع مُردفًا ببساطةٍ تعجبت هي منها:
_دي شوربة لسان عصفور عمايل ايدي علشان خاطر عيونك، ودي نص فرخة مسلوقة وحمرت النص التاني علشاني أنا؛ أصلي مش مجبر آكل أكل الناس العيانة دا، وعملتلك كوباية عصير ترد روحك، وخدي حباية من الدوا دا، بيهد الجبل نفسه، “إيـهاب” بياخده ينام يوم كامل، شوفي أنتِ برقتك دي فيها كام يوم؟.
ابتسمت له من بين عبراتها المُنسابة فيما مال عليها هو يُلثم جبينها ثم قال بنبرةٍ هادئة وهو يجاورها بهدوءٍ:
_يلا هأكلك أنا، بس متاخديش على كدا.
أومأت موافقةً ومدت له رأسها وهو يُطعمها بكفه كأنها صغيرته المُدللة، يجالسها بحنوٍ أبويٍ كأنه الأب وليس الزوج والحبيب، كان يبتسم لها وصورة مرضه في الصغر حاضرةً لديه حينما كان وحيدًا ومُتعبًا بينهم ولم يجد من يحنو عليه، لذا تشتت وتضاربت مشاعره وشعر بشيءٍ من التيه وهو يرى نفسه فيها هي، وأول ما بدر لذهنه كان اللجوء لمداواة مرضها ورعايتها، كل شيءٍ يقدمه لها يراه يُقدم لنفسه هو..
أنهت تناول الطعام بأكمله رغمًا عنها بسبب فرضه لها حتى تناولت كوب العصير بأكمله فقال وهو يتحرك بالأشياء من جوارها حتى يزيل أثر الطعام عن كفيه:
_أنا هدخل أغسل أيدي وأغير هدومي علشان هنزل وأعدي على “مادلين” عند “فـاتن” وأشوف حل ليها، وبالمرة هجيبلك علاج تاني يكون أشد شوية، وعلى ما العصير يهدا شوية في جسمك هديكِ العلاج علشان مفعوله ميبطلش، ماشي؟.
أهو لم يملك خط المنتصف كما بقية البشر؟ إما الإهمال والعزوف المفرط عنها، وإما الإهتمام المفرط لهذا الحد؟ هل لو توسلته ألا يتأخر عنها ستكون منطقية؟ أم هي مجرد تراهات لفتاةٍ مُدللة ببزخٍ؟ خرجت من تفكيرها ببسمةٍ له وقبل أن يخرج من الغرفة أوقفته بمطلبها المندفع:
_ينفع متتأخرش برة؟ مش عاوزة أقعد لوحدي.
أومأ لها مُبتسمًا وبعد مرور دقائق تأكد من نومها بعدما تناولت منه الحبة الطبية وقد راقبها هو في رقودها ثم مسح فوق جسدها ودثرها بالغطاء جيدًا وقام بغلق الأضواء إلا من مصباحٍ خافتٍ تركه لها كي لا تخاف المكان عند صحوها..
__________________________________
<“البدايات الجديدة هي الأصدق للشيء المُراد”>
كل شيءٍ في تلك الحياة يحتاج للبدء من جديد كي نعهد منه مُرادنا المرغوب، ولأن كل النهايات يتبعها بدايات جديدة، لا ضيرٍ من بدايات جديدة تذهب بنا نحو النهاية التي كانت هي غاية مسعانا..
قرر أن يبدأ هو من جديد مُتخليًا عن كل ما سبق وخطط له، سيفعل ما يحلو له رغمًا عن العالم بأكمله وعن الجميع وعن أنف أبيها الساخط صاحب الملامح الواجمة كأنه يقف مع مُحتلٍ يسرق أرضه، فهاهي شقته تجهزت بالكامل وأمست في انتظار اللمسات الأخيرة كي تستقبله هو وزوجته، قرر الموعد أن يكون بعد مرور أسبوعٍ من اليوم ولن يقبل المفاوضات وهكذا تم الأمر…
وقف مع خطيبته وأسرتها بالكامل ومعهم “يـوساب” وخطيبته التي جاورت شقيقتها، وبعد رؤيتهم للمكان نطق “بـيشوي” بزهوٍ وخيلاءٍ في النفس:
_كدا الشقة خلصت، كلها أسبوع بس والفرح يتم.
ألقى الكلمة ولم يُلقِ لها بالًا ولا يهتم بأثر ما تفوه به على البقية، وقد أكفهر وجـه “جـابر” وسأل مُستنكرًا باندفاعٍ أهوج:
_نـعم يا حيلة أمك؟ أسبوع دا إيه إن شاء الله اللي هيتم فيه الفرح؟ أنتَ مهبوش في عقلك ياض أنتَ ولا بترفع إيـه أنتَ علشان تهب منك على الآخر كدا؟.
كما المعتاد هو يقف ندًا له ويعرقل سير خططه، لكن ليس بعد الآن، لذا وقف أمامه “بـيشوي” ورفع أحد حاجبيه يقول بجمودٍ قاسٍ قصده متعمدًا:
_لسه مرفعتش، بس صدقني ساعة ما هرفع هتبقى الروح اللي معصباني وهخليها تطلع للي خلقها، الشقة وخلصت وكل حاجة وجت، ولو على اللي كنت هتجيبه أنا مش عاوز منك حاجة ومش هقعد في بيت أنتَ صارف فيه جنيه واحد حتى، كفي نفسك وشوف شغلك، وسيبني أجهز بيتي ليا ولمراتي بمزاجي.
احتدم النقاش بينهما وكاد أن يصل للصوت المرتفع فتدخل “يـوساب” يهتف بعقلانيةٍ وحمكةٍ لاقت به كثيرًا:
_ثواني يا جماعة الأمور مبتتاخدش كدا، واحدة واحدة بس هنحلها، يا عمي “بـيشوي” تاجر وابن سوق ومش هيقبل إن مراته تدفع مليم واحد في بيته وأنتَ عارف كدا كويس، كل اللي هو عمله أولًا وأخيرًا علشان هو باقي على بنتك وعاوزها، كتر خيره مش عاوز منك حاجة خالص.
وزع “جـابر” نظراته بينهم جميعًا فلم يجد غير نفسه يتمسك بقراره القاطع في الرفض وحينها لوح بكفه لهم ثم أولاهم ظهره ورحل، رحل وهو يتحدث ويدمدم غضبًا جعل “مهرائيل” تنسحب نحو الشرفةِ باكيةً بصوتٍ ونحيبٍ متقطعٍ بسبب أفعال والدها التي أفسدت عليها كل فرحةٍ، هي تسمع دومًا عن سعادة الوالدين في مثل هذا اليوم؛ لكن يبدو أن والدها هو عدو فرحتها الأول في تلك الحياة..
أتى “بـيشوي” من خلفها وحمحم بصوتٍ جعلها تمسح وجهها سريعًا بينما هو تحرك ووقف في مواجهتها ثم قال باهتمامٍ لموضع ألمها الذي يحفظه هو ويعلم أنه يؤلمه هو الآخر:
_حقك عليا أنا متزعليش نفسك، الغلطة كانت غلطتي أنا علشان مصمم على حاجة وكل الطرق بتبعدني عنها، بس أنا عاوزك أنتِ من الدنيا كلها وبس، أنا مش صغير ولا لسه شاب بكون نفسي أنا كبير ومحتاج اللي بحبها في حياتي، متزعليش بكرة لما تنوري الشقة دي أنا هخليكِ تحبي كل شبر فيها هنا، هخليكِ تكرهي تخرجي منها، بس تعالي أنتِ.
جملته الأخيرة خرجت شبه متوسلةٍ لها كي تطأ بقدميها أرضه القاحلة فتزهرها فرحًا، تمناها كقاريءٍ أنهى مكتبته وبات في إنتظار الكثير من الكتب كي يبدأ الرحلة الجديدة، أما هي فتعلم أن الأمر فقط يكمن في أيامٍ لكي تأمن في حياتها معه، وجل ما تفوهت به أمامه تشاركه أحلامه به:
_صدقني أنا مش هقدر أكره بيتي معاك أنتَ، كفاية أنا جاية ليك هربانة من بيتنا ومتأملة فيك خير إنك عمرك ما هتكسفني قدام نفسي، حاول على قد ما تقدر تخليني آمن ليك ولبيتنا مع بعض علشان مفكرش في يوم وأنا معاك أرجعه وألاقيه شمتان فيا، مش عاوزة ناره تكون أرحم من جنة بعيد عنه، توعدني؟.
وهو لأجل الحب الصادق منذ الطفولة ولأجل العشق الساكن بين جنبات صدره سيفعلها لأجلها، سيكون صادقًا في وعده، ومؤكدًا للإلتزام بعهده، فلم يمنع نفسه من هذا الفعل وهو يمسك كفها بين كفيه وهتف بثباتٍ، وقد أثر خضراوتيها الذابلتين ببنيتيه الدافئتين في مزيجٍ هائلٍ:
_وعد عليا إني أخليكِ هنا تتمني إن أيام عمرك تطول علشان متخرجيش من بيتي، ووعد إني أخليكِ ترفعي راسك قدام الكل بجوازك مني، أنا مش مستني العمر دا كله علشان لما تكوني ليا أقهرك، زي ما قولتلك تعالي علشان اللي ناويه مش هينفع يتقال…بيتعمل من سكات.
استشفت وقاحته وهو يتصنع البراءة فضحكت رغمًا عنها وهي تسحب كفها من بين كفه فيما ضحك هو تأثرًا بضحكتها الخافتة التي لم تطل بسبب هجوم “مارينا” تسألهما باستفزازٍ وهي تتعمد التطفل بينهما:
_هي دي بقى البلكونة اللي هتعمل فيها مكتبة؟.
ضيق جفونه عليها بسبب قطعها للحظته معها قبل أن يُشبع عينيه من ضحكتها ونضوج خضراوتيها من جديد وأتى حديثه بكل وقاحةٍ وتجرأ:
_لأ، دي البلكونة اللي هرمي منها جثة أبوكِ وأنتِ وراه إن شاء الله، وبعدها أخد أختك في حضني ونسهر هنا وسط الكتب براحتنا، وقريب إن شاء الله هنفذ، نفسك معانا.
رفعت له طرف أنفها بسخطٍ ثم أمسكت كف أختها ورحلت بها نحو الخارج بينما هو وجد خطيبته تلتفت له برأسها ثم همست له بما فهمه من حركة شفتيها:
_أنا بحبك.
ضحك رغمًا عنه وما إن خرجت خلف أمها وشقيقتها زفر بقوةٍ ثم أنب نفسه قائلًا بضيقٍ من حاله:
_ما كنت قولتله الفرح الليلة دي وخلاص.
سحب الهواء داخل رئتيه ثم أكمل إتمامه ومروره على الشقة التي تتطلب لثلاثة أيامٍ كي تنتهي كُليًا وهو الآن في خِضم الليلة الأولى وجلس في انتظار أمه وشقيقته بعدما رفض “جـابر” مُسبقًا قدوم أسرته دون سببٍ يُذكر، معتوهٌ هذا الرجل؟ هل يُعقل أن يكرهه لتلك الدرجة كي لا يعاونه بأي شيءٍ في فرحته؛ حتى ولو بكلمة مُباركة..
__________________________________
<“نهاية الطريق كانت معلومة من بدايةٍ خاطئة”>
النهاية الوحيدة المعلومة في أغلب الأحيان هي تلك التي تبدأ من مسارٍ خاطيءٍ، حينها ومع الاستمرار الخاطيء في هذا الطريق لن يُسفر المرء إلا أسفًا على حاله ونفسه، نحن وإن اخترنا فالأمر في النهاية يعود علينا…
خير الأمور دومًا أوسطها..
لذا اختار ساعات الليل المتوسطة من بعد البداية وقبل بدء النهاية، ساعات تمتليء فيها الشوارع بالتكدس والأصوات العالية وبالطبع هذا سيكون كافيًا ليغطي على صوت الجرائم، لذا تحرك “سـراج” نحو البيت بخطى رتيبة ورأسٍ مرفوعٍ دون أن يظهر عليه أي ارتباكٍ أو خوفٍ..
هو لم يقم بالأمر لمرته الأولىٰ، هو اللص المُخضرم في تحويل صفحات التاريخ لحق من لا يستحق، وهل يعقل لأجل عدة تماثيل دُفِنت في باطن الأرض؛ أن يخسر عائلته لأجلها؟ هل لأجل أشياءٍ تظل مركومة أسفل التُراب أن يتذوق مرارة الفقد من جديد؟ هل لأجل ماضيه عليه أن يخسر حاضره ومستقبله أيضًا؟… الغبي وحده هو من يتمسك بالفائت ويهمل القادم وهو لم يكن ذاك الغبي.
ولج لأصحاب البيت وجلس برفقتهم بعد حفرٍ استمر لمدة ليلتين بوسط الدار وما نتج عن ذلك كان ظهورًا أوليًا لمقبرةٍ يبدو من حجمها أنها ليست بهينةٍ، من المؤكد ستعطي الكثير والأكثر منه بما يزيد عنه، ومع استمرار الحفر في وجود خبيرٍ يتفحص القطعة الأولى، تم اقتحام المكان في طرفة عينٍ وانتشار رجال الشرطة في موضع جريمة تلبس مكتملة الأركان…
تجارة غير مشروعة بما يعود ملكًا للدولةِ، وأصحاب بيتٍ لم يشكل الأمر معهم فارقًا، وشابٌ باع كل شيءٍ لأجل لحظة طيش لم يحسب لها حسابًا كاملًا… أو هكذا بدا الأمر، ومن ثم تم إلقاء القبض عليهم ببلاغٍ سبق وتم تقديمه ويبدو أن من فعلها هو “عـادل أبو الحسن” الحما المُبجل لـ “سـراج الموافي” وهذا ما اتضح من وقفته وهو يراقبه مُباشرةً حتى تقابلت الأعين في حديثٍ صامتٍ ثقلت الألسن عن التفوه بـه..

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى