رواية غوثهم الفصل المائة والثامن عشر 118 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة والثامن عشر
رواية غوثهم البارت المائة والثامن عشر
رواية غوثهم الحلقة المائة والثامنة عشر
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثالث والثلاثون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
____________________
ويبلغ من عفوه أن تصبر
ذنوب بني آدم لذهابِ..
إذا مُثقل بالديون يُنادي
مسحت مع الدَين كل حسابٍ..
وسعت برحمة ربٍ غفورٍ
خطايا الألىٰ مرغوا برغابِ..
فيا رب جل السخاء الكبير
وجلت تصاريف يوم الإيابِ..
_”عماد الدين خليل”
“ابتهالات في زمن الغُربة”
__________________________________
يُقال دومًا أن المرء يُشبه ما يُحب..
وأنا أُحبك رغم كوننا لسنا بمتشابهين، لكننا مُتكاملين، فكلٌ منا يُكمل الآخر وهذا هو سر التناغم بيننا، فتخيل معي لو أن آلات العزف بها لونٌ واحدٌ فقط فهل يُعقل أنها تُعطي لنا أجمل الألحان وأكثرها نُدرةً، رُبما تَظنني مُخطئة لكن دع لعقلك فرصة للتفكير فإذا كان كل شيءٍ في عالمنا هذا يحتوي فقط على شيءٍ واحدٍ كيف ستظهر قيمة الأشياء الأخرىٰ بجوارهِ؟ فالأبيض يحتاج للون الأسود حتى تظهر قيمته، والفرح يحتاج للحظاتٍ مُحزنة حتى نستشعر أهميته، أما قُربك فلا أريد منه غيابًا فالقلب أضعف من تحمل كُربته..
أريدك دومًا أن تكون هُنا، بجواري ومعي حيثُ تواجدي أنا، أنا تلك التي لازالت تائهة وتحاول بك أن تنجو بنفسها، أنا التي يوم أن أجتمعت بِكَ عرفت معك معنى الحياة بوصفها، رجلٌ أنتَ يحمل الصبر في قلبه كما صبر “أيـوب” وعاش مؤمنًا بقدر الخالق كما آمن “يـوسف” ودعا “يـعقوب”، رجلٌ هيبته فارضة ومن الجميع مُهاب كما يهابون “إيـهاب” ورضيت بأمر الخالق كما رضىٰ “إسماعيل” وتحملت أن تكون “مُـنذر” بكل شيءٍ حتى دق العشق أبواب فؤادك وأصبحت به متيمًا و “تَـيام”، أما عن وجهك الجميل فهو وجهٌ “أيـهم” شديد الحُسن والجمال، وفي وصفك أصيلٌ أنتَ كما “عُـدي” المُجاهد الأمين، أنتَ الذي يوم أن تاب عن الإثم محىٰ الزمان أخطائه وغدوت “مُـحي” الأمير، أنتَ القائد في كل العصور كما قاد “بـيشوي” وحصنت القلاع بالأبواب كما حصنها الوفي “يـوساب”..
<“رُبَّ صُدفة خيرٌ من ألف ميعادٍ”>
هي صُدفة تجمع بين الطرفين حتى وإن كانوا غير راغبين في ذلك، ففي قوانين علم الفيزياء يُقال أن الأطراف المُتشابهة تتنافر والمتخلفة تتجاذب، فهل نحنا أصبحنا مُختلفين لتلك الدرجة حتى تجمع بيننا الصُدف في أوج لحظات الإبتعاد؟.
البهجة أنتشرت بالمكان مع نزول العروس من سيارتها والفتيات خلفها ثم بدأوا بالتحرك نحو الداخل حيث المكان المخصص للنساء والآخر المقرر للرجال، وفي الخارج وقف “مُـحي” يتحدث في هاتفه بكامل تركيزه وقد ظهرت الجنية نفسها أمامه وهي تبحث عن الفتيات وحينها ردد مُستنكرًا:
_”جـنة”؟!.
أنتبه له “مُـنذر” الذي سلط عينيه على الفتاة وقد أبتسم بسخريةٍ ما إن أدرك أن هذه هي الفتاة التي جعلت ابن عمه يفكر فيها دومًا، وقد تلاشت بسمته حينما وجد سيارةٍ ما تصف بالمكان وترجلت منها برفقة “تـمارا” فهتف مستنكرًا تواجدها هنا حتى ظنها خيالات وهمية:
_”فُـلة”؟!.
حقًا من حفر حُفرةً لأخيه وقع فيها، فهو الذي سخر منذ ثوانٍ من ابن عمه الآن يصبح الحال هو نفسه حينما وجدها أمام عينيه برفقة ابنة شقيقها وكأنها تتعمد أن تؤرق راحته أينما كان وأينما حلت خُطاه، والأدهى أنها حقيقة وليست خيالات وهمية، وجدها تقترب منه ووقتها تعجبت هي من تواجده حتى عجز عقلها عن استيعاب حضوره تزامنًا مع إقترابها منه وهي تسأله باستنكارٍ:
_دكتور “مُـنذر”!! حضرتك هنا بتعمل إيـه؟.
من الأساس هو الذي يُحق له أن يسألها عن سبب حضورها لكنه فسر تواجده بقوله الذي لازال مدهوشًا برؤيتها:
_أنا هنا في كتب كتاب صاحبي وابن عمي، أنتِ هنا ليه؟.
ازداد تعجبها وعجزت عن التوصل للحلقة المفقودة في الحوار لكنها هتفت بتيهٍ بعض الشيء وفقدٍ لأسس الموضوع:
_”يـوسف” عزم “جـواد” وعزمني بس “جـواد” سافر مع ماما عند عمتها تزورها وجيت أنا ومعايا “تـمارا” بس معنى كلامك إن “ضُـحى” أخت “يـوسف” هي مرات ابن عمك؟.
سألته أخيرًا عن حلقة الوصل وقد أومأ لها موافقًا يؤكد صدق ما تحدثت هي عنه وقد أبتسمت له بوجهٍ مُشرقٍ وهتفت بنبرةٍ ودية:
_ألف مبروك لابن عمك، وعقبالك يا دكتور.
كاد أن يبتسم ويسخر لها ومنه لكنه تذكر أمر خطبتها فاستعاد جموده مُجددًا وهتف بنبرةٍ صلدة وجامدة:
_للأسف مش ناويها.
تعجبت هي من طريقته وجموده لكنها سكتت وتحركت بالصغيرة بعد أن رحب هو بها وحياها لتتدخل لدى مجلس النساء بعد أن أشار لها أن تدخل لهن ثم عاد بتركيزه إلى ابن عمه الذي راقب “جـنة” ويكاد يُجزم أنها جنية خُلقت لكي تجذبه على ضفاف نهرها خاصةً وهي ترتدي فستانًا باللون المُشابه لزهور اللاڤندر وفوق الخمار باللونين الأبيض ولون الفستان ذاته، وقد بدت رقيقة وجميلة بملابسها الفضفاضة حتى أثارت تعجبه ودهشته، فقلما يرى مثلها فتاة جميلة تخفي هذا الجمال، لقد أعتاد على رؤية جمالهن الصارخ صراحةً بكل وضوحٍ، أما هذه فهي تفتنه من أقل شيءٍ خاصةً بجمال عينيها الخضراوتين..
وقف يراقبها حتى أتت صديقةٌ ما وتوجهت معها نحو الداخل وحينها وقف يتابع أثر تحركها ولم يُخرجه من فُقاعة شروده وثبوت بؤبؤيه إلا صوت ابن عمه الذي نطق بتهكمٍ:
_شكلها محترمة للآسف، مش سكتك.
أنتبه له بعينين تائهتين لكنه سكت عن الحديث ولم يرد عليه فهي حقًا لم تُشبهه، هي تتنافى مع كل صفاته، تبدو بريئة بقدر جُرأته وتبدو نقية بقدر آثامه، رقيقة بقدر عنفوانه، متواضعة بقدر تكبره، مترفعة بقدر عدم تهذبه، أبيضٌ هي وناصعة البياض وهو لونه أسودٌ حالك السواد، فهل يُعقل أن يتم الجمع بين النقيضين؟.
في الداخل جلس المأذون في المنتصف وعلى يمينه “فـضل” وعلى يساره “إسماعيل” بينما قام هو بمراجعة الأوراق والأختام وسط الهمهمات واللغطات الغير مفهومة من الحاضرين وهم يتهامسون بضحكاتٍ واسعة وأبتسامة مُشرقة في لحظاتٍ مثل هذه يجتمع فيها غريبان معًا، وقد أمسك مُكبر الصوت ثم وضع المنديل فوق كفيهما وشرع في الحديث بقوله:
_إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ويقول الخالق جلَّ وعلا في كتابه العزيز:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ”
ويقول أيضٕا:
“يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا”
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا”
استدل بآيات الذكر الحكيم في بدء عقد القران ثم أملا على “فضل” الحديث الموجب عليه قوله والآخر يُردد خلفه ببسمةٍ هادئة وهو يطالع وجه “إسـماعيل” الذي كان مُبتسمًا وهو يتلقى عرض حماه برحابة صدرٍ بينما “مُـنذر” فشرد في تلك اللحظة التي يحضرها لمرته الثانية بعد عقد قران ابن عمه وقد تعجب من المشاعر المُضطربة التي داهمته حتى أتى الدور لـ “إسماعيل” فتفوه يخبرهم بموافقتهِ قائلًا:
_قبلت الزواج من موكلتك وابنتك البكر الرشيد الآنسة “ضُـحى فضل عبدالفضيل” على كتاب الله وسُنة رسوله والله على ما أقول شهيد.
تم التوقيع من كلا الطرفين حيث “عُـدي” و “إيـهاب” كشهودٍ على عقد القران ثم صعد لها شقيقها يأخذ توقيعها وبصمتها وحينها وجد “رهـف” بين الفتيات فأبتسم ثم عاد بتركيزه لشقيقته وقد أدلت بتوقيعها بسعادةٍ وهي تضحك بوجهٍ مُشرقٍ فضحك شقيقها وهتف يُمازحها بقوله:
_طب أتقلي شوية متبقيش خايبة كدا.
أخجلها بحديثه وتضرج وجهها بحمرة الخجل الفطري وحينها ضمها شقيقها بفرحةٍ ثم لثم جبينها يُهنئها حتى كادت أن تبكي بين ذراعيه لكنه مسح فوق جفونها حتى لا يتلطخ وجهها ثم هتف بشرٍ زائفٍ يُخرجها من حالتها تلك:
_الليلة دي تخلص وربنا لأعيد تربيتك من تاني، علشان وشك اللي مليان دا، مش قولت خففي زفت؟ ماشي.
ضحكت رغمًا عنها من بين عبراتها فيما أحتضنها هو من جديد ولم يتفوه بل ترك لعناقه تلك المُهمة فكان أبلغ ما يُقال وصفه في عناقه لها يبثها كل هذا الدفء وقد شعرت هي بحجم مشاعره التي قلما تظهر عليه لها، وما إن خرج بالأوراق الموقع عليها أنتشرت أصوات النساء يُطلقن الزغاريد كعادة مصرية أصيلة، بينما في الأسفل تمت المُباركات بين الرجال حتى هتف المأذون بنبرةٍ ضاحكة يمازحهم قائلًا:
_ربنا معاك يا عريس، مش عاوز أشوف وشك تاني بقى، لا تيجي تلعب بديلك ولا تتجوز عليها ولا تيجي بعد الشر تطلق، أنا بحب أشوف العريس مرة واحدة مشوفوش مرتين في حياتي.
أنتشرت الضحكات على حديثه حتى رد عليه “إسماعيل” بنبرةٍ ضاحكة وسعادةٍ بالغة وغامرة:
_والله أنا مش ناوي أخليك تشوفني تاني، دا أنا شوفت الغُلب علشان أقعد قعدتي دي، إن شاء الله مش هتشوفني تاني خالص.
وقف “إيـهاب” خلف شقيقه يبتسم بخفةٍ تتنافى مع تهليل قلبه السعيد لأجل شقيقه حتى ألتفت له “إسـماعيل” وأحتضنه بُغتةً أمام الجميع وحينها بادله الآخر العناق بمثيله وأعمق ثم هتف بصوتٍ مبحوحٍ:
_مبروك يا واد عقبال ليلتك الكبيرة، ربنا يديم عليك الفرح ويكتبلك الهنا والسعد في حياتك كلها، أنا دلوقتي كدا أقدر أشم نفسي إنك أخيرًا فرحان بجد من قلبك.
كاد شقيقه أن يبكي لكنه ردع عبراته وأخفى تأثره لحين إشعارٍ آخر وبعد مرور دقائق خرجوا من المكان وقد قابلها “إسماعيل” أسفل الدرج وهو يرتدي حلته السوداء التي أضفت جاذبية فوق وسامته البريئة وحينها توقفت هي بإرتباكٍ فلم تعلم ماذا تفعل حتى تولى هو الفعل وأقترب منها يضمها بين ذراعيه حتى بادلته هي العناق وكأنه يضم السماء بنجومها بين ذراعيه..
لقاءٌ أشبه بلقاء التائه لعودته إلى مسكنه بين أحضان أهله، أو رُبما عودة الأسير المُحرر من أسرهِ الطويل، لقاءٌ كان يتمناه العليل حتى كاد يصدق أنه مستحيل، اليوم يخرج من الظلام للنور ولن يقبل أن يكون لغير ضُحاها ووهجها البديل، اليوم سكنت الجراح وشُفيت الآلام والقلب لم يعُد هو العليل.
__________________________________
<“تلقفوا مما صنعت أياديهم أولًا”>
لكل شيءٍ تتواجد النهاية، لكن هناك بعض الحالات تُكتب فيها النهايات قبل البدايات، حينها يكون الأمر معلومًا والمصير محتومًا، فمن كانت بدايته بإشعال النيران من الؤكد نهايته ستكون بإحتراقه هو بها، فكلٌ منا هُنا يتلقف ما صنعت يداه أولًا، والعِبرة بالخواتيم..
تلقت صفعة فوق وجهها بعد أن وصلتها أشياؤها إلى بيتها بشكلٍ مُهينٍ وكأنها تشبه سلة تم إفراغ المُهملات بها، كانت كارثة لابنة طبقة مخملية ذوات نفوذٍ أرستقراطية وأموال طائلة، وقد تحركت من بيتها اليوم لكي تذهب إلى شقتها وسط الطبقات المخملية بمنطقةٍ يسكنها علية القوم، وقد وصلت لهناك تحاول فتح الشقة لكن المفتاح توقف وعجز عن إتمام دوره ففي فتح الباب الموصود…
أغتاظت وهي تحاول فتح الباب صارخةً بغلٍ دفينٍ نُشِب كما النيران بقفصها الصدري وحينها أخرجت هاتفه تطلب رقمه وما إن جاوب عليها صرخت فيه بإهتياجٍ جم:
_أنتَ غيرت كالون الشقة يا “نـادر”؟.
لاحظ إنفعالها وغيظها فتملكه آنذاك البرود أكثر من السابق وهتف بتشفٍ صريحٍ بها وكأنه يتلذذ بتعذيبها النفسي كما فعلت هي ووضعت السكين فوق نحره:
_هو أنتِ معرفتيش؟ غيرته وكتبت عقد جديد لماما والشقة بقت باسمها خلاص وقولت أفضيهالها من الزبالة علشان كدا رميت الحاجات اللي ملهاش لازمة، زيك كدا بالظبط، بعدين رايحة تعملي إيـه؟ مفيش دم ولا إحساس خالص كدا؟ نصيحة مني بقى متروحيش حتة تانية علشان أنا لغيت التوكيل بتاعك يعني لا ليكِ شُغلة ولا مَشغلة، فعلشان محدش يكسفك يعني، بعدين أكيد مش هتقدري تعتبي هناك بعد ما أتطلقتي كدا قدامهم، عمومًا أنا لسه محافظ على شكلك لحد دلوقتي، واللي بيسألني بقوله دي رغبتها، أصل مكسوف بصراحة أقول إنها سقطت ابني، كدا أفضل يعني حفاظًا على شكل الكل.
تأججت النيرانُ فيها ولم تُكظم غيظها بل صرخت في الهاتف تثأر لنفسها بقولها المُرتفع صرخًا وألمًا على ضياع كل ما تملك من يديها:
_مش هسيبك يا “نـادر” هرفع عليك قضية وأطالب بكل حقوقي وهفضحك، نسيت نفسك صح؟ أفـكرك لما كنت بتخاف من باباك وبتيجي تتحامىٰ فيا وتسمع كلامي علشان بس يرضى عليك، خلاص كبرت وهتفوق عليا؟ شكلك نسيت أنا مين، بس هفكرك أنتَ و “نـور” ومش هسيبكم.
كعادتها لا تعرف الرحمة ولا الشفقة، قلبها أشد قسوةً من حجرٍ صوان وهي التي تُلقي بثقل هذا الحجر فوق قلبه، فتاة مُدللة أعتادت أن تأخذ وفقط دون أن تُعطي أي مُقابل، أينما تجد راحتها ومافي صالحها تستقر فيه، وقد أغلق الهاتف في وجهها وهو يسبها بسبابٍ بذيء وشتائم حادة جعلت “حنين” التي وقفت على أبواب غرفته تشهق بقوةٍ فأنتبه لها بصدمةٍ وهتف مُبررًا:
_مش أنتِ والله، دي **** “شـهد”.
حركت رأسها موافقةً ثم أقتربت منه وهي تقول بنبرةٍ هادئة بعدما خرجت من طور صدمتها ودهشتها:
_حصل خير، المهم أنا جاية علشان فيه حقنة دلوقتي بتاعة الأعصاب علشان تقدر تتحرك كويس، وبالنسبة للألم اللي شد عليك دا طبيعي علشان أتحركت كتير وعملت مجهود وحضرتك بقالك فترة مش بتتحرك، بس كدا أفضل طبعًا العضلات لازم تتمرن وتتحرك علشان متقفش.
تعجب من كلمتها الأخيرة وجعد ملامحه وهو يسألها مستنكرًا مقصد الكلمة بملحة مزاحٍ:
_متقفش؟؟ متقلقش يا أسطي المكن سليم.
زاحمت الضحكة ملامحها المُقتضبة وأبتسمت له ثم عاتبته بخفةٍ بقولها المرح بعض الشيء:
_الله يسامحك، بتتريق عليا، تسلم يا سيادة القبطان.
لاحظ معاتبتها له فحمحم هو بخشونةٍ ثم استعاد ثباته وسألها بحيرةٍ نبعت عن فضوله نحوها:
_هو ليه علطول بشوفك مكشرة؟ يعني حاسس إنك مش طيقاني، هو معاكِ حق بصراحة أنا محدش بيطيقني بس مش في وشي كدا، داريها شوية عني الله يكرمك.
أندفعت هي بلهفةٍ تُبريء نفسها بمرافعةٍ دفاعية:
_أنا!! والله أبدًا بس هو الشغل فيه حدود ولولا والدة حضرتك صممت أكون هنا معاها وأساعد الدكتور اللي بيجي كان زماني مشيت والله، بس هي الظروف بقى، بتحكم بحاجات غريبة بس أكيد يعني مش لدرجة إني مش طيقاك، أنا مشوفتش منك حاجة وحشة علشان أكرهك.
تعجب هو من ردها البريء وهي تُدافع عن نفسها أمامه وقد أبتسم بسخريةٍ وتفوه بمرارة الألم النابع من الروح المُتعبة بسبب الإنكسار والفقد:
_طب لو قولتلك إني أكتر واحد هتكرهيه في حياتك وأوحش واحد تقابليه كمان؟ ومش بس كدا دا فيه ناس مشافتش مني غير كل حاجة وحشة، شكلك طيبة وبتصدقي أي حاجة قدامك، حاولي بقى تتغيري شوية علشان متاخديش فوق دماغك، بس عارفة؟ أنا بقالي كتير مشوفتش ناس طيبة كدا زيك، لسه فيه أمل أهو في الدنيا يا “حنين”.
تأثرت بحديثه وكادت تخبره أنها تُشفق عليه منذ أن وطأت بقدميها لهُنا لكنها أهدته بسمة هادئة ثم قامت بحقنه بالإبرة الطبية ثم تحركت من الغرفة وتركته يُتابع أثرها بعينين صافيتين بعض الشيء وكأنه يستعيد توازن روحه شيئًا فشيءٍ، وقد أمسك هاتفه وفتح تطبيق”إنستجرام” ليجد “يـوسف” أضاف صورته عبر تحديث القصص برفقة “قـمر” وكتب فوق الصورة شرحًا تعبيريًا:
_سنون من العمر ضاعت في الظلام،
والنور أخيرًا كان على يد “قـمر”.
هرعت عيناه بعبراتٍ واضحة حينما تذكرها في صغرها حينما كانت خصلاتها كثيفة بشكلٍ ملحوظٍ وكانت دائمة الضحك قلما تبكي وخاصةً حينما يقوم الإثنان بالركض خلفها كانت تصرخ وتقهقه عاليًا بضحكاتٍ رنانة مرمرية، لكن الآن من المستحيل حتى أن تُطالع وجهه مُباشرةً.
__________________________________
<“ولما ذكرتك في عقلي خِلسةً، رقص الفؤاد صراحةً”>
الفرح هو الزائر المُرحب به دومًا وأبدًا، لذا تجدنا في لحظات الفرح مُستمسكين بها ونقوم بتعظيمها، الفرح خصوصًا هو ما يجعل المرء مُحلقًا مثل الفراشات الحُرة والطيور المُحررة..
تم الإنتقال للبيت لإتمام الحفل كاملًا وقد ولج العروسان معًا نحو مكانهما المُخصص والبقية خلفهما وقد جلسا سويًا وبدأت مراسم الإحتفال المتواضع وخلفهم وقفت الفتيات الكثيرات أصدقاء العروس، بينما “قـمر” فكانت تتحرك وتُتم على الزائرين وتُرحب بهم بمسئوليةٍ كبرى وقعت على عاتقها لكن حُبها لأختها جعل تفانيها يتفاقم حتى لم تعد تشعر بالتعب بل كانت تتحرك مثل الفراشة فوق أغصان الزهور..
في الجهةِ جلسوا الرجال مع بعضهم بعيدًا عن مجلس النساء والفتيات ولم يُزعج “أيـوب” إلا صوت الموسيقى العالية وكلما حاول أن ينسحب يجد المُعاتبة من الجميع، الأمر أضحى سائدًا وهو يُجاهد نفسه، وتمنى أن تتم تلك الليلة وتمر مرور الكِرام فيكفيه شعوره بالذنب المُتفاقم نحو نفسه، وقد لاحظ خروج “قـمر” من السطح فتحرك خلفها حتى خرج من السطح وسألها بإهتمامٍ:
_رايحة فين؟.
ألتفتت له تُخبره بتعبٍ وأنفاسٍ مُتقطعة من فرط تحركها:
_تيتة “لواحظ” عاوزة مياه ساقعة.
_”لـواحظ”!!!
كررها خلفها مُستنكرًا حتى ضحكت هي على استنكاره وهتفت بنبرةٍ ضاحكة:
_دي تبقى عمة خالتو “أسـماء” عاوزة مياه تشرب عن إذنك هروح أجيبها ليها خليك جوة علشان خاطري بلاش تمشي بعدين شوية والعريس هيمشي والليلة دي تتفض.
كاد أن يرد عليها لكن خرجت إمرأة من السطح جعلته يتنحى جانبًا ويغض بصره وهي تقترب من زوجته التي أبتسمت لها وهتفت بنبرةٍ ودية مرحة:
_خير يا طنط “عـايدة” فيه حاجة؟.
هذه هي ابنة “لـواحظ” الكُبرى التي تتمنى الحصول على “قـمر” لأجل ابنها الذي يعمل بإحدى الدول الخليجية وقد خاطبتها مُباشرةً بقولها:
_أنا قولت أسألك أنتِ قبل ما أكلم “فـضل” إيه رأيك في “عبدالواحد” ابني؟ أنا بصراحة كنت منمرة عليكِ من زمان أصل هلاقيله “قـمر” تاني زيك فين؟ بس دلوقتي بقيتي اسم على مسمى، أدب وأخلاق وذوق وجمال، مش هلاقي أحسن من كدا، شقته اتبنت بالدور كامل ووضبها إيـه مقولكيش نظام تركي، موافقة؟.
تعجب “أيـوب” من الحديث وشعر بنيران الغيرة تفتك به، أكان يتوجب عليه أن يخفيها عن أعين النساء أيضًا؟ حتى الغائب الذي لم يحضر أفتتنت له أمه؟ كظم غيظه في إنتظار ردها فوجدها تضحك بصوتٍ عالٍ وراقصت حاجبيها له خِلسةً وحينها لم يأمن لها لذا تدخل يهتف بأدبٍ ولازال غاضضًا بصره:
_أنا متأسف لحضرتك واضح إن فيه سوء تفاهم، هي خلاص ربنا كرمها ولقت نصيبها وبقت مراتي وفرحنا كمان أسبوعين بالكتير، وهنتشرف بوجود حضرتك طبعًا، وربنا يكرم “عبدالواحد” بـ “قـمر” تانية غيرها بقى.
أنهى جملته ثم أمسك كفها يوقفها بجوارهِ حتى أومأت هي موافقةً للمرأة التي باركت لهما ودعت الخالق أن يحفظهما لبعضهما وأنسحبت بينما “قـمر” فضحكت أكثر وهي ترى نيران نظراته ترمقها ووقتها أمسك وجهها ثم لـثم وجنتها بعمقٍ وبغيظٍ منها ثم تركها تنزل من أمامه قبل أن تثير استفزازه أكثر..
أما في الداخل فوقف “مُـنذر” بجوار “سـراج” وبجوراهما “چـودي” التي ظلت معهما سويًا وبجوارهما “إيـهاب” وقد وقف “مُـنذر” بقرب الفاصل القماشي يُتابعها وهي تجلس بجوار “عـهد” وتضحك معها، ولقد لاحظ براءة ملامحها من على بُعدٍ حيث كانت خصلاتها السوداء تطاير بفعل الهواء، وقد أرتدت فستانًا باللون الأسود يُزين أكمامه زهور وردية اللون ورقيقة مثل إطلالتها، وقد كانت ملامحها الخالية من أي شيءٍ كما هي صافية ولامعة، غرق في نظره إليها حتى لمحته بطرف عينها لكنها لم تُظهر ذلك بل عادت للحديث مع رفيقتها لكن عقلها لازال مشغولًا بهذا الذي يشبه أصعب الألغاز وأعتاها عُقدًا وتركيبًا.
بعد مرور بعض الوقت من الإحتفال قام “إسماعيل” بإلباس زوجته طاقم الذهب وخاتم الخِطبة وكذلك فعلت هي وقامت بإلباسه خاتمه الفضي وحينها مال على أذنها يهتف بنبرةٍ ناعمة يُغازلها:
_ماكنتش أعرف إن حُضن كتب الكتاب حلو كدا، سبحان الله الحلال طعمه حلو برضه، يستاهل إننا نستحمل علشانه.
أخجلها بكلماته بشأن عناقه الأول لها وقد ضحكت بوجهٍ مُشرقٍ وهي تراقب ملامحه البريئة وعينيه اللاتي نطقتا بالحب لأجلها، لقد تمنتها أن يأتيها هاربًا من دنياه لتصبح له الدُنيا بضحاها، وهو الذي لبى النداء وترك الدنيا بعالمها وأضحاها، وجد لحظاتٍ هادئة مرت عليهما فأخرج السلسال الذي أحضره خصيصًا لها ثم أقترب منها يُضعه في رقبتها وهي تبتسم بنفس الخجل فوجدته وقد عاد لجلسته الأولىٰ وحينها ومضت عيناها ببريقٍ خاطفٍ ففسر هو بقولهِ مُشيرًا بقوله:
_دا مفتاح الحياة عند الفراعنة، كان اسمه “عنخ” والمقصود بيه الحياة، والمصريين زمان كانوا مؤمنين بفكرة الحياة الأبدية علشان كدا المفتاح دا رمز الحياة وأنتِ الحياة يا “ضُـحى” واسمك مكتوب عليها بالهيروغليفي علشان الأبواب اللي كانت مقفولة كلها فتحت ليكِ أنتِ وبس.
شهقت بفرحةٍ وفرغ فاهها من هول الصدمة وكأنها ترى أحلامها حقيقة نصب عينيها فلقد أتى أحدهم ليحبها بطريقته الخاصة وبكل شغفه وحُبه لها وحينها مالت على أذنه تهتف بشقاوةٍ:
_أنا بحبك يا “إسـماعيل” بحبك أوي.
تلك المرة كان الإعتراف مُميزًا ويملك مذاقًا خاصًا وكأن الكلمة خاصة بملكه هو وهي ملكيته بكل ما فيها، لأول مرة يشعر أن فرحته مُكتملة ويُحق له أن يسعد بمثل تلك الطريقة.
في الخارج وقف “مُـحي” يتحدث مع زميله بالكُلية لكي يخبره بموعد الامتحان القادم وقد وقف يُدخن سيجاره وقتما أندمج في المكالمة وحينها خرجت هي من الداخل تجاوب على المكالمة الواردة من أمها فسرقه صوتها وجعله يُحيد برأسه وألتفت نحوها كما حانت ألتفاتة من قلبه يُنادي قلبها لكي تلتفت له وما إن أنتهت من المكالمة لبت النداء لقلبه وطالعته بعينيها الخاطفتين وحينها تواصلت المُقل بصمتٍ..
لاحظته هو نفسه ذاك المُتطفل على عالمها الهاديء وقد أنتفض قلبها بشدةٍ حينما تذكرت موقفه السابق معها حينما ساوره القلق بشأنها وقد أقترب هو منها يسألها بثباتٍ أجاد رسمه:
_عاملة إيه؟ رجعتي حاجتك تاني؟.
كان يقصد بطاقاتها الشخصية والإئتمانية وحينها أومأت له بموافقةٍ وهتفت بصوتٍ هاديءٍ حينما أخفت عينيها عن وجهه وكَفت عن النظر إليه:
_آه الحمدلله، رجعتهم، وشكرًا لإهتمامك.
كادت أن تتحرك لكنه سألها بلهفةٍ يوقفها:
_طب أنتِ بقيتي كويسة دلوقتي؟.
سؤاله الغريب لا يعلم مصدره حتى ينفلت من بين شفتيه بتلك الطريقة لكنه خرج وهرب من محبسه وقد أومأت هي له موافقةً وحمدت ربها ثم أولته ظهرها وولجت من جديد للداخل تهرب من التيه الذي أصابها بحضرته وتواجده وظهوره أمامها.
__________________________________
<“حدثت سرقة في أرجاء المدينة، سُرِقَ قلب الغريب”>
إذا أتتك الفرحة تنقل بها في كل العالم وأجعله شاهدًا على لحظاتك السعيدة، فالحياة لن تهديك السعادة مرتين، وإن حدث وأعطتك من المؤكد أنك تستحقها وبجدارةٍ، أو قد تكون دفعت المُقابل من شقوق روحك وأوردة دمائك..
نزل “يـوسف” يقف بالأسفل لكي يتم تحضير السيارات لكي يتم تنقلهم من الحارة إلى منطقة السمان وقد وقف يُدخن سيجاره حتى ينهون المجلس بالأعلى لكي يتم إشهار عقد القران وقد وقف “إيـهاب” يتحدث في الهاتف مع عاملي البيت يُتمم معهم لحين وصلهم وفي تلك اللحظة ظهرت فتاة مُذهلة ترتدي فستانًا يشبه لون البحر بدرجاته المختلفة لائم وجهها المُستدير وقد كان واسعًا يتسع من منطقة الخصر بتنورةٍ مُدرجة في ألوانها وقد بدا الفستان مذهلًا عليها، والأشد خطورة هي عيناها المزودة بسحرٍ أسودٍ استقر فوق الجفون..
حسنًا سيضيف لها وصفًا جديدًا وهو أنها سارقة ماهرة، عيناها أكبر لصة رآها في حياته، وهو أكبر ساذج يقبل السرقة بل يقدمها بكامل طاعته لها وكأنه يأمن على قلبه بين كفيها، وقف يُتابعها بعينيه وتمنى لو كان فصيحًا في الحديث لكي يخبرها ما يُفكر به لكنه ألتزم الصمت حتى وقفت في مواجهته مُباشرةً وهي تبتسم له وسألته بدلالٍ عن رأيه في إطلالتها:
_معرفتش رأيك يعني، فاجئتني بالفستان وخلاص.
أعتدل في وقفته بعدما كان يستند على سيارته ثم سلل كفه لخصرها وقربها منه يُتابع عينيها البريئتين الكحيلتين وهتف بخدرٍ قصد إظهاره:
_يمين بالله perfect.
تضرج وجهها بحمرة الخجل وحاولت الإبتعاد عنه خاصةً مع إقتراب “إيـهاب” الذي هتف بتهكمٍ:
_أتهد يا عمنا، أتهد شوية.
نجحت وأبتعدت عنه “عـهد” بخجلٍ فيما أبتلع “يـوسف” السُباب والشتائم قبل أن يُهين رفيقه وحينها بدأوا الناس يتوافدون نحو الأسفل بأصواتٍ عالية ومُباركات وتهنئات وزغاريد مُرتفعة من أفواه النساء خلف العروسين ثم تم إنتقال الجميع في السيارات خلف بعضهم خارجين من حارة “العطار” ذاهبين إلى نزلة السمان..
الفرحة نفسها أنتقلت لمكانٍ آخر هنا في أرض الخيول..
وقد تم تجهيز البيت وتحضيره لأجل تلك المُناسبة وكذلك إحضار الخيول ويرافقها دمدمة الطبول، ليلة هنا في البيت تشهد لها رمال الأرض بذاتها، فالفتي الذي حظى بالحب من الجميع الآن يشهد فرحته وهم معه، وقد رقص الفُرسان بالخيول يُكملون العزف فوق الأرض بحوافر الخيول فوق الأسفلت..
في الخارج وقرب البيت توافدت السيارات خلف بعضها يصفون صفًا واحدًا وفي المقدمة “مُـنذر” يقود دراجته البخارية وخلفه “مُـحي” الذي أشار للشباب فقاموا بإشعال النيران والألعاب النارية ترحيبًا بفتى البيت الأطيب، ليلة رائعة أقرب للخيال قاموا بالتحضير لها أمام البيت الكبير وقد ترجل العروسان من السيارة وهو يمسكها بيده يقبض على كفها وحينها حضرت الخيول يلتفون في دائرةٍ حولهما وحينما خشيت “ضُـحى” إقترابهم ضمها له وهمس في أذنها:
_متخافيش، كلهم صحابي وأنا وأنتِ واحد.
عبارة بسيطة أعربت لها عن الكثير مما جعلها تبتسم بحبٍ له وقد بدأت الفقرة الثانية وهي امتطاط الشباب فوقها وقد تحرك “إيـهاب” بفرسه نحو شقيقه يهتف بمزاحٍ:
_قدها ولا هتفضل جنبها؟.
ضحك شقيقه ثم لثم جبينها وتركها وامتطى خيله لتبدأ التهليلات الفرحة والصيحات الحماسية خاصةً من الشباب وقد تحرك “إسماعيل” يسحب “مُـنذر” نحوه حتى امتطى فوق الفرس وبدأت الرقصة ذاتها مع أرتفاع دمدمة الطبول والخيول تتحرك بخطواتٍ مدروسة، فقد كان كلٌ منهم يمتطي خيله حتى “سـراج” معهم أيضًا، كان المشهد رائعًا وقد وقف “تَـيام” بجوار والده يتشابهان في كل شيءٍ حتى الوقار ذاته وبجواره وقفت “آيـات” تبتسم بسعادةٍ وهي ترى هذه الأجواء لمرتها الأولى وقد ألتفت لها “نَـعيم” يهتف بحبٍ خالصٍ لها:
_بكرة لما تيجي تنوري البيت دا إن شاء الله هعلمك تتعاملي مع الخيول وتتكلمي معاهم وهخليهم كلهم يصاحبوكِ ويحبوكِ، مع إني متأكد إني مش محتاج، أنتِ تتحبي من غير أي حاجة، شكله صياد شاطر.
أشار لابنه بعينيه فضحك له ثم مال على أذنه يهتف بخبثٍ مرح:
_هجيبه من برة يعني؟ ما أنتَ أصطدت قبل كدا.
ضحك “نَـعيم” بقوةٍ ثم ربت فوق ظهره وعاد بعينيه يُتابع الشباب وتحركهم بالخيول أمام الناس بمهارة فُرسانٍ يقودون الحرب بساحتها ومعركتها، ولوحتهم تكتمل فنيًا وحسيًا وكلٌ منهم كان يبحث بعينيه عن إمرأةٍ تخصه ليرى الإنبهار في عينيها بمهارة بطلها المغوار.
وقف “أيـهم” بجوار زوجته التي كانت تشعر بالحماس والفرح حتى مال على أذنها يهتف بمرحٍ يمازحها:
_أنا قررت آجي أزور “آيـات” لما تتجوز يوم آه ويوم لأ، تيجي معايا؟.
سألته بعينيها عن مقصده فأشار على الخيول وهتف:
_بصي الخيول عاملين إزاي؟ لو أعرف إن دا أصل الواد “تَـيام” كنت طلبت مهرها ١٠ خيول وحِفنة من الدولارات بالمرة، الحياة أصلها فُرص برضه.
ضحكت على طريقته وسألته بتعجبٍ:
_هي مش كانت حفنة من الدنانير؟
_لأ الحالة بقت صعبة، حاليًا دولارات وكتير كمان.
هكذا جاوبها على عُجالةٍ وقد ضحكت أكثر على مزاحه حتى ضحك هو الآخر ثم هتف يتغزل فيها صراحةً وبصدقٍ:
_بس مش كل الفرص فلوس، ساعات بتكون نفوس حلوة وراضية تسند الواحد برضه وتعوضه، علشان كدا أنتِ أحلى عندي من مليون دولار على بعض، عارفة لو مليون ونص هفكر فيها دي.
ضحكت مُجددًا له وحينها وضع كفه يطوق كتفها ويمسح فوقه وهو يعلم أنها في أصعب فترات حياتها وهي تحاول للمرة التي لم تعلم عددها في شيءٍ أرهقها كُليًا واستنزف طاقتها الجسدية والنفسية وهو يحاول أن يدعمها قبل موعد الجلسة القادمة للكشف عن التحاليل الطبية وما يتواجد بها، وقد شعرت هي بالفرح حينما وجدت “يـوسف” حمل “إيـاد” وأجلسه أمامه فوق الخيل وحينها شعرت بالفرح أكثر لأجل ابنها الذي توسعت ضحكته أكثر.
وقفت “مارينا” بجانب “يـوساب” وهي تراقب الخيول وقد عادت لها ذكرى أليمة جعلتها تتنهد بعمقٍ حتى لاحظها هو وسألها بتعجبٍ:
_أنتِ فيه حاجة مضايقاكِ؟.
أنتبهت لصوته ورفعت عينيها نحوه تهتف بضحكةٍ مكتومة:
_أفتكرت حاجة ضحكتني وزعلتني، كنت في أولى ثانوي والسنتر عمل رحلة للطلاب بمناسبة نهاية السنة، بابا مكانش موافق ورفض علشان الولاد اللي في السنتر وأنا صممت وصحابي زنوا عليا، ساعتها أقنعت ماما وروحنا الأهرامات، كان نفسي أوي أركب خيل وفعلًا ركبته وكنت فرحانة أوي، بس السنتر ساعتها خدولنا صور كتير فوق الخيول وكنا مبسوطين ساعتها، وحطوها على بوستر السنة الجديدة وصورتي فيها منورة بالخيل.
ضحكت وهي تخبره بموقفها وقد ضحك هو الآخر على موقفها الساذج فوجدها تُكمل بنبرةٍ ضاحكة:
_ساعتها كان معدي من هناك شاف الصور متعلقة وأنا فوق الخيل مبسوطة جه البيت ضربني علقة محترمة ومنعنا كلنا من النزول وأولنا ماما لمدة أسبوع وجدو “مـلاك” جـه خرجنا وفك الحصار، بس ساعتها كنت متكسرة، هو معاه حق بس برضه مسابليش فرصة أعرف سبب رفضه إيه، لما شوفت الخيول أفتكرت اللي حصل وضحكت وزعلت.
أشفق عليها لوهلةٍ وقد أبتسم بوقارٍ وهتف بصدقٍ:
_الغلط على الطرفين بصراحة، مش هاخد صفك علشان تخصيني بس المفروض هو رفض يبقى أكيد ليه وجهة نظر مختلفة، بس رد فعله كان غلط، بصي أوعدك تخلصي السنة دي وهدية تخرجك هوديكِ الأهرامات وأركبك خيول كمان، تمام؟.
قطع الوعد لها صراحةً وقد ضحكت هي له وحركت رأسها موافقةً بحماسٍ وشغفٍ تجددا للحياة مُجددًا وهي تعلم أن وعده سيكون صادقًا، لقد خلف والدها في نفسها عُقدة لم تنفك حتى الآن لكن وحده هو من يستطع التعامل معها.
وقفت “بـيشوي” بجوار “مهرائيل” يُركز بعينيه عليها هي وحدها ونفسه شعوره معها لم يختلف، تبدو كمكتبةٍ تملؤها الكُتب العتيقة بُنية الأوراق وهي تُضاهي للعين رونقًا براقًا وهو القاريء المُتيم بحب الكُتب والخطاطة، تبدو كعبارةٍ برع في كتابتها فوق الورق العتيق وما إن تلاقت عيناه بأشجار الزيتون خاصتها أبتسم لها ومال يهتف في أذنها:
_تصدقي الفرح حلو علشان أبوكِ مش فيه؟.
أنزعجت من طريقته وأرشقته بنظراتٍ نارية وهي تُعاتبه فضحك أخيرًا لها ثم هتف بنبرةٍ ضاحكة يسترضيها بقوله:
_خلاص بهزر، الفرح حلو علشان أنتِ هنا فيه معايا وواقفة جنبي بصفة رسمية وهي إنك خطيبتي، بس هانت خلاص، صدقيني هانت أوي فوق ما تتخيلي.
أربكها بحديثه وشردت بعينيها بعيدًا عن بخجلٍ فتنهد هو بثقلٍ ووجدها تحارب نفسها وهي تقول بصوتٍ مهتزٍ:
_أنا برضه هنا علشان أنتَ خطيبي وجاية معاك علشان.. علشان بابا مش هنا وعلشان أكون معاك بصراحة.
فاجئته بحديثها حتى رفع هو عينيه لها وطالعها بصدمةٍ فتلك القطة الجبانة قلما تتحدث معه ويبدو أنها لم تدخر جُهدًا في المُحاربة لأجله حتى تتحدث معه وتعبر عن مشاعرها لكنها فعلت ما لم يتوقعه هو بل فعلت الأكبر من ذلك حينما أهدته ضحكة واسعة ثم رفعت كفيها تتمسك بذراعه وهتفت تقضي على آخر ذرات تعقله:
_خليني كدا بقى علشان أكون متطمنة.
فعلت العديد والعديد بعد قولها وهو الذي يقف مصدومًا ومدهوشًا أمامها لا يُصدق عينيه ولا أُذنيه بما يصلهما لكن يبدو أنها أخيرًا تكرمت عليه وهي تُهديه مفتاحًا لقلبها بعدما كاد أن يفقد الأمل في الوصول لها.
استمرت الأمسية الرائعة بين بشر وخيول ووجبات إطعام للناس والفقراء هم أصحاب الحق وقد ظلت الليلة جميلة ورائعة وهادئة حتى أمتطى “نَـعيم” الخيل وسط الشباب الذين صرخوا مُهللين وكذلك أهل المكان بكل من فيه، وكأنه أبٌ يشارك أبنائه الذين تربوا وترعرعوا بجوار فؤاده وحفظهم في كنفهِ..
وقف “أيـوب” بجوار شقيقه مُبتسم الوجه يُتابع الجميع بعينيه وخاصةً الفُرسان فوق الخيول وقد جاورته “قـمر” التي تسللت من بين الجميع وجاورته فوجدته يقبض على كفها، وقد تتبعها “يـوسف” بعينيه ثم بحث عن زوجته التي وقفت بجوار حماتها وحينها أرسل لها غمزة لعوبة جعلتها تبتسم بخجلٍ له، وفي هذه اللحظة حصل الغريب على سعادته.
__________________________________
<“حدثٌ واحدٌ غير متوقع ذهب بالعقول”>
حالة هياج حادة وصرخات عالية وضجيج مُزعج، وزحام ملأ المكان، وفتاة تصرخ بصوتٍ عالٍ تطلب قدوم أي فردٍ مسئولٍ هنا من بعد غياب اثنتين من رفيقاتها، ظلت تصرخ وتُدمدم فوق الأرض وهي تطلب المساعدة وحينها ولجت إمرأة بدينة الجسد تتحرك بثقلٍ بقدر ما سمح لها جسدها السمين وهتفت وجلجلت المكان بصوتها الحاد:
_جرى إيه منك ليها؟ بتصرخي ليه يا بت أنتِ؟.
أقتربت الفتاة التي كانت تصرخ وأمسكت كفها وهي تقول بلهفةٍ وتبكي وقد بح صوتها تمامًا بسبب كثرة العويل:
_أبلة “فـايزة” الله يرضى عليكِ قولي إن كلامهم محصلش، بيقولوا إن “هدية” ماتت والله كانت كويسة، هو كل شوية بنت تختفي من هنا يقولوا ماتت؟ أنا عاوزة “هـدية” الله يرضى عنك يا رب تروحي تحجي، والله ما مماتتش.
ظلت تصرخ بفزعٍ على فاجعة موت رفيقتها بالدار وقد تذكرت أمـر السيارة التي أتت بالأمس ورآتها هي من نافذة المكان وما أثار تعجبها هو شحن السيارة بحقائب غريبة ومن المفترض أن سيارة المُهملات تأتي كل يومين، وقد تذكرت حديث رفيقتها الخائفة وهي تخبرها ذات مرةٍ بخوفٍ وإرتجافٍ:
_مش عارفة يا بت يا “عـزة” موضوع إني أتعب مرة واحدة دا خوفني، اللي بيتعب هنا مبيقومش تاني وبيختفي والراجل اللي اسمه “شـفيق” مدير الدار دا مش سهل خالص، ونظراته كدا تخوف، حتى وهو بيقولي على التحاليل اللي هعملها أنا كنت خايفة وعينه كانت بتاكل فيا.
وقتها عقدت حاجبيها وكررت باستنكارٍ ثم تلاه الإندفاع:
_بتاكل فيكِ إزاي يعني؟ بت أوعي يكون قرب ولا أيده أتمدت أقسم بالله أقطعهاله، عامل فيها بيه وهو حيوان عينه مبترحمش، لو فيه حاجة عرفيني.
تنهدت حينها رفيقتها وأعربت عن الخوف الكامن بداخلها:
_مش عارفة يا “عـزة” بس الوضع ميطمنش خالص، كل شوية تحاليل وحاجات غريبة وبعدها البنات يدخلوا العمليات منشوفش حد منهم تاني، واللي يقولوا ماتت في العمليات واللي يقولوا سافرت واللي يتقال فيه ناس خدوها، لو حصلي حاجة خلي بالك من نفسك يا “عـزة” إحنا في غابة مبترحمش حد، وأديكِ شايفة لا أهل بيسألوا ولا حد يعرفنا، ربك وحده اللي عالم بينا، ربك يسترها.
نزلت دموع “عـزة” وهرعت عيناها بكاءً على فقيدتها وعزيزة روحها الوحيدة الصديقة الوحيدة المُهداة لها في هذه الدنيا وقد أيقنت أنها فقدتها كما تم فقد غيرها الكثيرات ووقتها صرخت بملء صوتها باسم رفيقتها وهي متيقنة أن خبر وفاتها هذا تم تدبيره بطرقٍ ملتوية وحينها ظلت تُكرر بصراخٍ يُخالطه البُكاء:
_قتلتوها هي كمان، قتلتوها وخدتوها مني هي كمان، أنا ماليش غيرها، قــتلتوها لــيه.
ظلت تصرخ وتُكرر كلماتها حتى أنسحبت المُشرفة من المكان وهرولت لمكتب “شفيق” مدير المكان تخبره بما حدث من الفتاة وكررت عليه كلمات الفتاة وحينها اتقدت عيناها بشرٍ وأمرها أن تنصرف وتتولى أمر اسكاتها حتى يتصرف هو في هذا الشأن ويتولى المُهمة، فهذه ليست مرته الأولىٰ ولا حتى الأخيرة وإنما هو اعتاد على التصرف في مثل تلك الأمور بأفج الأفعال وأكثرها قسوةً.
__________________________________
<“الغبي دومًا يترك إنطفاء الذهب ويختار لمعة الرمال”>
في قديم الزمان وخصيصًا لدى العرب كان يتم وصف الذكي المحظوظ بعبارة غريبة “إذا أمسك الرمال تحول لذهبٍ” لكن لم يتواجد وصفٌ يُفسر الغبي الذي يترك الذهب ويختار الرمال بدلًا عنها، فحتى الغباء لم تكن الكلمة الكافية في مثل تلك الحالات…
ليلة هادئة وشُرفة واسعة وإمرأة بعقلٍ صغير تجلس فوق المقعد بشرفة شقتها وهي تمسك هاتفها الذي كاد أن يذهب بعقلها ونظرها من كثرة تركيزها معه وهي تقوم بالدور ذاته في تلك الألعاب الإلكترونية بداخل وكالات تواصل إجتماعية عبر التطبيقات المشبوهة وهي الآن تعيش حالة حُبٍ مع أحد الأفراد في اللُعبة بعدما أنضم لغرفتهم الإلكترونية يُعطيها الهدايا بكثرةٍ مما يُزيد من شأنها وسط بقية أفراد اللُعبة ويزداد أجرها وسطهن، وهو يُغدقها بهدايا إلكترونية تُصاحبها أموالٌ طائلة، ثم هدايا رمزية عبر التحويلات الهاتفية..
كانت هي نفسها الساذجة “أمـاني” التي قامت باستبدال كل ماهو غالي ونفيس بغيره الزهيد والرخيص، والآن تعيش حالة مُراهقة جديدة عليها وهي تستمع للكلمات المعسولة من رجلٍ يكبرها بخمسة أعوامٍ، والحجة القوية أنها كانت تفتقر لتلك الكلمات والمشاعر في زيجتها السابقة، والآن تختبر تحليق الفراشات فوق معدتها حينما رآته أرسل لها:
_أنا حبيتك يا “أمـاني” ومستعد آجي أقابل أخوكِ وأطلبك منه وأول ما الكفيل يديني أجازة هاجي أطلبك أكيد ونسافر مع بعض، صدقيني أنا حاسس إني بعيش لأول مرة حياتي.
أبتسمت بزهوٍ في نفسها وهي تُبصر نفسها بالماهرة حينما ألقت شباكها عليه وهو أكثر الشباب وسامةً ومالًا ومنذ دخوله معهم والفتيات والنساء أيضًا منهن المتزوجات يتهافتن عليه، بينما هي فأمتنعت ثم تعالت ثم تدللت ثم رضخت ليهرول هو لها وقد كتبت له بتريثٍ:
_وأنا برضه حاسة بحاجة ناحيتك، بس لسه بتأكد منها مش أكيد يعني، بعدين المفروض يعني إنك متعرفش عني حاجة، أنا مُطلقة وعندي ابن بس جوزي واخده مني وقهرني عليه، نفسي أقهره وأرجع ابني تاني ليا، لو هتساعدني أنا هكون معاك علطول.
تكذب وتتمادى في الكذب وتختبر حبه لها ورغبته فيها وهو لأجل الحب وبـ اسم الحُب سيفعل أي شيءٍ حتى ينالها وتصبح له وقد أرسل لها رسالة صوتية يُطمئنها بقوله:
_من الناحية دي أتطمني ابنك هو ابني وأنا أقدر آخده وأجيبه لحد عندك تاني، وعلشان كدا أنا معاكِ مش هسيبك وبكرة تاخديه وتسافري ومحدش هيوصله حتى لو أبـوه نفسه، أهم حاجة رضاكِ عليا يا كل الأماني.
من جديد يصلها الحديث المعسول وتُحلق بأجنحةٍ وهمية رسمها خيالها الحالم في سحابةٍ صيفية مُحملة بأحلام الربيع، وقد استخدمت نفسها أسلحتها وهي تتمنع وتتدلل وتناوله القليل من الكلمات ثم تنسحب من المعركة وتجعل المُحارب يبحث عنها كأنها خصمه الخائن، وقد مررت كفها فوق خصلاتها وعنقها تُمسده وهي تشعر بأنوثتها من جديد، رغم أنها كانت تحصل على الإحترام سابقًا قبل كل شيءٍ، لكنها بدلت النفيس بالزهيد وغدًا ستحقق ذاتها وغايتها.
__________________________________
<“لقد سبق وأخبرناك ألا تؤمن لثعلبٍ ماكر”>
عليك أن تُصدق أن هذه الدُنيا تمر على الأفواه كما الكؤوس، وما صببته أنتَ بداخل كأس غيرك ستتجرع منه، فهل يُعقل أن من أذاق غيره الحلو يتساوى بمن سممه المُـر؟ بالتأكيد لا يستاويا سويًا، فأحرص على ما تسكبه في حياة غيرك حتى لا تتجرع من المُـر وتتعجب لما لم يحلو لك المذاق..
كان يجلس في شرفة غُرفته بمنطقة التجمع بمفرده يحاول أن يستهدى في مسيره ويجد الصواب من الخطأ، لكن ثمة أصواتٍ عالية ريثما أثارت حفيظته وحاوطت أنفاسه بالضيق وهو يستمع لأصوات جلبة بالخارج وقد استند فوق عصاه. خرج من الشُرفة ليجد مجموعة رجال أقوياء البنية يقفون في صالة الشقة وقد أقترب رجلٌ منه يتحدث بثباتٍ:
_أستاذ “نـادر” ياريت حضرتك بالهدوء تتفضل معانا علشان “نَـزيه” بيه في إنتظارك، وياريت بالهدوء ونخلي الشباب بعيد أحسن عن التعامل، أظن حضرتك عارف إيـه اللي ممكن يحصل لو رفضت.
كان تهديده متواريًا خلف بسمة صفراء ينبئه بما يتوجب عليه فعله وقد قرر “نـادر” أن يذهب معه ومن وسط إحتجاجات أمه وخوفها عليه ألتفت لها يهتف بقوةٍ تنافت مع خوفه:
_متقلقيش هنزل وهرجع تاني، خلي بالك بس من نفسك وأقفلي الباب، لازم أروح علشان النقط تتحط على الحروف كلها واللي حق ياخده، وأكيد العيلة اللي كلها حسب ونسب زي دول مبياكلوش حق حد، وإلا بقى نفضحهم.
طمئنها أنه أيضًا يقدر على رد الصفعات ثم لثم جبينها كأنه يودعها ورحل من الشقة مع الرجال بعدما أغلق الباب على أمـه حتى لا يستغل والده غيابه ويحضر لها وكأنه أمسىٰ مُشككًا في أقل ردود الأفعال الصادرة ممن هُم حوله وعلى رأسهم والده، وقد ولج السيارة معهم حتى وصلوا لڤيلا “نَـزيه الـزاهي” واستند على عصاه المعدني حتى وقف في بهو البيت الفارغ..
نزل والدها من فوق الدرج يهتف بقوةٍ وتحدٍ:
_الحقيقة أنا مبسوط إنك جيت هنا، علشان أكيد ماكنتش أحب إني أروحلك بنفسي، زي ما سيادتك أهنت بنتي قدام اللي شغالين عندها في الشركة، أنا قولت أجيبك هنا لحد عندي، بنتي مش شوية علشان أنتَ تعمل فيها كدا، وكمان بتغير مفتاح شقتها، قولي كدا أتصرف معاك إزاي؟.
زفر “نـادر” بقوةٍ ثم نطق بصلدةٍ وفظاظةٍ ما إن لمحها فوق الدرج تستند على الدرابزون الخشبي:
_لا تتصرف ولا تعمل حاجة، بنتك عندك أهيه متخصنيش خلاص ولو على النفقة والمُتعة هدفعهم الطاق طاقين، بس أخلص نفسي منها، وقبل ما تفرد نفسك أوي كدا، أحب أقولك إنك معرفتش تربي، علشان حتى وأنا فيا كل العُبر المهببة عمري ما كنت خاين وهي عندك تشهد أهيه، بس كفاية بقى لحد كدا.
هبط والدها الدرج نزولًا حتى وقف في مواجهة الآخر وحينها نطق بنظراتٍ نارية:
_أحترم نفسك بدل ما أدفنك هنا، بنتي مش خاينة، أنتَ اللي مالكش لازمة وضعيف ولولاها كان زمانك لسه بتاخد الإذن من باباك، عملتلك قيمة وخليتك راجل قدام الناس، بس دي آخرتها يوم ما تحب تحس بقيمتك، تخرجها على بنتي، أكيد علشان “نـور” حبيبة القلب، بس صدقني أنتَ هتخسر كتير أوي.
لم يهمه كل ما قيل لكن ما إن ذكر اسم رفيقة طفولته أمامه صرخ فيه هادرًا بقوله:
_أحـترم نفسك ومالكش دعوة بيها، متجيبش سيرتها على لسانك دا وطالما زعلان أوي كدا ربي بنتك وعلمها يعني إيه ست تصون بيتها وجوزها، ولا ليه هسألها أنا، أهيه عندك أهيه قولي لبابي يا بنت الذوات يا متربية سقطتي ابنك مني ليه؟ إيه السبب غير لو إنك شايفة شوفة تانية؟ قولي لأبوكِ إنك سيبتيني بين الحيا والموت عاجز وروحتي شرم الشيخ علشان الشغل، ولا قوليله إنك بدل ما تيجي تهوني عليا عجزي تعبي روحتي تسقطي نفسك كأنك جايباه في الحرام، عرفي أبوكِ إنه معرفش يربي كويس، يمكن يكون مش شايف.
في تلك اللحظة أنفعل وصرخ بقهرٍ وهو يراهم يغتصبون حقوقه ويسلبونها منه وحينها أخرج والدها سلاحه من جيب بنطاله وأشهره في وجه “نـادر” الذي توسعت عيناه بهلعٍ وقد هرولت “شـهد” نحوه بخطواتٍ راكضة تترجى والدها أن يبتعد عنه لكنه أقترب أكثر من “نـادر” لكي يقوم بقتلهِ وحينها قام “نـادر” بدفع كفه ليسقط السلاح أرضًا ثم كرد فعلٍ تلقائي قام بصفع “نَـزيه” ثأرًا لنفسه وإخراجًا لغيظه حتى عم الصمت في المكان…
وحينها قامت “شـهد” بسحب السلاح وأشهرته في وجه “نـادر” وهي تصرخ فيه بأعصابٍ تالفة:
_هقتلك يا “نـادر” والله العظيم هقتلك.
ظهر الوجع في عينيه وأبتسم ساخرًا وهو يتفوه بحديثٍ لم تمسه الروح بل خرج من صوتٍ مقتولٍ خرج من وسط غِصة ممتدة من القلب للحَلق:
_أنتِ أصلًا دبحتيني يا “شـهد” أعملي كدا وريحيني.
أرتجف كفها وهي تقف أمامه وهو يُطالعها بتلك النظرة التي جعلت قلبها ينتفض لأجل تلك النظرة لكن سرعان ما أبىٰ عقلها كل ذلك وذكرها بإهانتها أمام العاملين في المكان وحينها قامت بالضغط فوق زناد السلاح لتُحرر العيار الناري من محجره ويُصيب “نـادر” الذي لم يظنها أن تفعلها، لكنها كما عادتها تأتي بما لم يتم توقعه منها وتفعله..
_________________________
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)