رواية غوثهم الفصل المائة والثالث والعشرون 123 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة والثالث والعشرون
رواية غوثهم البارت المائة والثالث والعشرون
رواية غوثهم الحلقة المائة والثالثة والعشرون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثامن والثلاثون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
مُذنبٌ أنا ولو سال دمعي
وبُعدي عنكَ جلَّ وجعي..
إلهي حطمتني نفسي
وصوت الضمير لم يصل سمعي..
عُدت من طريقي والعودة
أصعب من طريقٍ شق ضلعي
رَبيِّ عُدت لكَ أرجوك بقلبي
والقلب يبكي ولم يكفي دمعي..
_”غَــوثْ”
__________________________________
من أنتِ ولما في أرضي توغلتي؟
من أنتِ حتى أُرحب باحتلالك لفؤادي وتغدو الأناشيد لكِ كأنك وطني وبلادي؟ من أنتِ ولما أنتِ وطوال العُمر السابق أين كنتِ؟ كلما تكرر السؤال في عقلي وجدت قلبي يخبرني بما سبق وأنكرته أنا أمام سطوتكِ أنتِ، فَرُبما أنتِ بحرٌ حاولت النجاة منكِ لكني وبكامل إرادتي وطواعيةً مني أردتُ الغرق فيكِ، فتعددت الأوصاف ولازالوا متواضعين أمامكِ أنتِ، قد تكونين قمرًا سرق الزاهد من زُهده وفتنه، وقد تكونين ميثاقًا غليظًا لم يجرؤ غريبٌ على إهماله، رُبما المدينة التي آوت الغريب بين أحضانها، أو الضُحى التي ظهرت تنير العتمة من بعد ليلها، رُبما أنتِ النهار الأول من بعد القصف والحرب، وربما أنتِ النور من بعد العتمةِ في الدرب، رُبما لم تعلميني، لكن مؤكد لو جئتيني لأجلك أنتِ فقط ستجدينني، فمن دونك لا وجود لي أنا ولا لي في غيابك من الدُنيا غِنا، ولا أريد أن يُحكم بيننا بالفراق، وأغدو من بعد رحيلك المُشتاق، حينها فقط آتيني، وأعدُكِ حينها أنكِ ستجديني، وكما أعماه “يـعقوب” الفراق برحيل العزيز على القلب، سأخلُص لكِ في حُبي وأتحمل كما صبر “أيـوب” لكي يمل مني الصبر، وينتهي مطاف أملي معكِ بالجبر..
<“ضيفٌ غير عزيزٍ للعين، لما نراه؟”>
بعض الطُرقات فُرضت على سالكيها وأجبروا على خوضها، والبعض الآخر أختاره البعض طواعيةً منهم ومن أنفسهم، وفي هذا وفي ذاك على حد السواء كانت النتيجة واحدة، فما نحن إلا ضحايا طرُقاتٍ مجهولة المطاف أُجبرنا عليها وتسير بها منذ هدأة البداية حتى ضجيج وزخم النهاية..
أتقدت النيران بداخله وأرشقها بنظراتٍ نارية فيما أضافت هي من جديد تُحذره بقولها:
_وتاني مرة أنا اسمي أم “يـوسف” ولا أقولك؟ أم الباشمهندس “يـوسف” والأفضل إنك متتعاملشيغمعايا لحد ما ربنا ياخدك ويريحنا منك.
أقترب منها بغتةً يحاول صفعها وقد وجدت حصنًا منيعًا يقف في مواجهتها ولم يكن إلا “فـضل” الذي ظهرت النيران تحاوط عدستيه وهو يقبض على كف “سـامي” وقد ألتهبت النيران بصدره وكأن إنتقامه أتى له على طبقٍ من ذهبٍ وعليه أن يتناول وجبة الإنتقام المُقدمة له، وقتها قام بإمساك كف “سـامي” بإحدى يديه ثم صفعه بالأخرى مما جعل الشهقات تخرج من الأفواه وقد قبض على تلابيبه يخطفه نحوه وهدر من بين أسنانه المُطبقة بغلٍ مُتراكمٍ فوق بعضه:
_القلم دا هيفكرك ١٠٠ مرة قبل ما ترفع إيدك الـ**** دي على أختي، مبقاش غيرك يا زبالة البشر كلهم يرفع عينه في أختي؟.
أنهى استفساره بدفعه نحو الحائط وقام بخنقهِ وقد ترك نفسه للغضب الأعمىٰ المزود بنكهة القهر على سنين العمر الضائعة في ذُلٍ ومقتٍ وقهرٍ، حينها أقتربت منه شقيقته تتوسله أن يبتعد عنه وكذلك زوجته بينما هو فيكفيه مظهر “سـامي” وهو يحاول ويجاهد بين قبضتيه كغريقٍ كاد أن يقوم بلفظ آخر أنفاسه، وقتها لم يرَ إلا صورة شقيقته وهي تصول وتجول بابنتها في الشوارع، ولم يرَ إلا قهره وما أدراك ما قهر الرجال، حينما رموه في الطُرقات ليلًا بأسرته، رجلٌ مثله أنقلبت حياته رأسًا على عقبٍ ولن يقبل إلا بقلب الطوفان عليهم..
لم يخرج إلا مع إبعاد “يـوسف” له و “عُـدي” أيضًا الذي قَدُمَ لتوهِ من العمل ليرىٰ والده بتلك الحالة وقد سأل “يــوسف” بإنفعالٍ وأعصابٍ تلفت كُليًا:
_حصل إيـه؟ وإيه اللي وصلك لكدا؟ كان هيموت في إيدك ويتحسب علينا بني أدم.
وقتها صرخ “فـضل” بإنفعالٍ جـمٍ يقطع حديثه:
_لقيته رافع أيده وبيمدها عاوز يضرب أختي، قولت أعرفه إن الرجالة مبتمدش إيدها على الحريم، بس بنأدب بيها الـ ****** اللي زيه كدا، وعظيم بيمين ما هسيبه يشم نفسه طول ما أنا حي على وش الدنيا دي.
ألتفت “يـوسف” ينظر خلفه فوجد “سـامي” يسعل بأنفاسٍ مقطوعة وهو يدلك عنقه ويجاهد لسحب الهواء عنوةً داخل رئتيه، حينها حاول هو أن يُهديء نفسه ويتمالك أعصابه فألتفت لأخيه ونطق بجمودٍ:
_خُـد عمتك وأمك طلعهم يا “عُـدي” يلا.
أمتثل لأمره وأشار لهن بالحِراك وقبل أن تعترض “غَـالية” وتمتنع عن الحركة حثها “عُـدي” بقوله الذي بدا صارمًا إلى حدٍ كبيرٍ بلغ الشَدة:
_يلا علشان ميتعصبوش أديكِ شايفة حالتهم، يلا بس أطلعوا يلا يا ماما بعد إذنك، خلونا نخلص بـقى.
أنفعل رغمًا عنه حتى أجفل جسد الاثنتين وتحركتا من أمامه فيما راقبهما هو ثم عاد يجاور والده ويُكاتف أخـيه الذي مسح فوق وجهه ثم وقف بجوار “سـامي” يتوعد له بعينيه وحتى الآن وقف يجهل ما يتوجب عليه فعله لكنه أدرك أن الفصل بينه وبين خاله هو أجود الأفعال وأحسنها صُنعًا.
في وكالة “العـطار” حيث الصراع المُحتدم هُناك بين رَجُلين من عائلةٍ ترجع فروعها لشجرةٍ واحدة، وقد وقف “عـاصم” في مواجهة “عبدالقادر” الذي سبق وهتف بتحدٍ يُناطح به ابن خالته الغير مُحبب:
_لا عيشت ولا كنت ولا عمرك هتطول منه حتى حرف في اسمه، وسيرته لما تيجي على لسانك الزبالة دا تيجي بأدب، وإذا كنت ساكت عليك علشان حاجة، فأنا ساكت إحترامًا ليه هو بس، لكن قسمًا بالله يا “عـاصم” أنا لو طولت أحرقك حي مش هتأخر وهعملها، بس أنا سايبك تجيب آخرك في الدنيا دي، وهاخد الحق منك يعني هاخده، وهخليك زي كلاب الشوارع متسواش تعريفة.
الكره بينهما متساوٍ منذ صغرهما، كلاهما يكره الآخر بشكلٍ ملحوظٍ لكن دومًا لكل قصة نجد وجهات الإدراك متباينة، وهُنا أحدهما كان على صوابٍ، والآخر لا يملك حقًا من الأساس، وقتها تخلى “عـاصم” عن غضبه الخفي وكعادته استمسك بهدوئه المُستفز ولجأ للترفع بقوله:
_الكلام دا مش وقته خالص يا “عبدالقادر” أنا مش جاي أفتح في القديم تاني أنا جاي أقولك إنك راجل ابن أصول وبتفهم في الحق، والحق والأصول متقولش إن واحدة ست زي “فـاتن” تسيب بيت أهلها وجوزها وتقعد في مكان غريب عنها وتلجأ لرجالة غُـرب عنها وراجلها موجود، بذمتك يا شيخ أنتَ هتقبلها؟.
رفع “عبدالقادر” حاجبيه بغير تصديقٍ وكأنه يرى أمامه رجلًا برأسين على سبيل المثال، أيعلم هذا شيئًا عن كلمة الأصول لكي يُلقي مرافعة عنها؟ قبل أن يسخر منه ويتحدث وجد ابنه البكري يهتف بتهكمٍ دفاعي:
_وهي فين رجالتها دي يا “عـاصم” بيه؟ بعدين هي كانت لقت رجالة تقف في ضهرها ومشيت؟ الأصول دي أنتوا متعرفوش عنها حاجة وبدل ما تتشملل وتفتح صدرك أوي كدا، الأولىٰ كنت تقول لنفسك الكلام دا قبل ما ترمي مرات أخوك وبنتها في الشارع، ولا هي ازدواجية المعايير بتجري في دمك؟.
أهانه وتمادى في الإهانة حتى ألتفت له “عـاصم” بعينيه وسرعان ما أدرك هويته فبالطبع هذا هو الابن البِكري صاحب الحِمية البدائية والنُسخة المُصغرة من والده وقد أبتسم له بتهكمٍ أثناء ما شمله بعينيه وقد سأله بسخريةٍ:
_أظن يعني أنتَ عارف إننا عيلة مع بعض، فالأفضل تخرج نفسك أنتَ ووالدك وأخوك وتخلينا إحنا عيلة مع بعض تحل مشاكلها من غير ماحد مالوش علاقة يتدخل بيننا.
في تلك اللحظة كاد “أيـهم” أن يقتلع رأس الآخر لكنه تريث لوهلةٍ وما إن لمح شقيقه يتقدم منهما أرتسمت السخرية فوق ملامحه خاصةً حينما هتف “أيـوب” بصلدةٍ أعربت عن جم كرهه للماثل أمامه يوليه ظهره:
_مع إحترامي الكامل ليك ولسنك ووصفك، بس أسمع مني أنا خلاصة القول، “يوسف” و “قـمر” و معاهم الست “غالية” وعليهم “نـادر” والست “فاتن” ملزومين مني أنا وفي رقبتي أنا، يعني لما تيجي تتكلم، كلمني أنا وأعوذ بالله من كلمة أنا.
واثقٌ وقويٌ يعلم أين مربط الفرس تحديدًا وكفارسٍ يتمتع بالأصالة رفع رأسه بشموخٍ وهو يقابل “عـاصم” الذي توجه إليه برأسه يُرشقه بنظراتٍ داكنة جعلت “أيـوب” يخطو له قاطعًا ما فصل بينهما وأضاف:
_مراتي خارج كل الحسابات بتاعتكم علشان هي ملزومة مني ولو ليها حق هردلها بطريقتي، و”يـوسف” أنا في ضهره واللي هيقرب منه هيلاقيني في وشه، والباقيين أنا اللي بحميهم، لو منك أتفضل أمشي أحسن.
أبتسم “عـاصم” له بسخريةٍ وقد كره اللحظة الذي أتى فيها لأرضهم بذاته ووقف بتلك الطريقة يرى تفوق الآخرين عليه وخاصةً “أيـوب” النسخة التي جمعت في عُمقها أخلاق وترفع “مصطفى” وقوة ودهاء “عبدالقادر” ليصبح خطرًا أمام عيني “عاصم” الذي علم أن من يقف أمامه هو الخطر الأكبر عليه، لذا قرر أن يتواطأ مع نفسه قليلًا وسأله بثباتٍ:
_طب أنا عاوز أشوف “فـاتن” و “نادر” أظن دا حقي بما إنها أختي شقيقتي وملزومة مني، مش أنتَ برضه الزاهد بتاع ربنا اللي مبيحودش عن الحق يا شيخنا؟.
نبرته كانت تهكمية أو أقرب لذلك مما جعل “أيـوب” يبتسم له بسمة المنتصر في حربٍ أدرك بها خبايا خصمه ثم قرر الرضوخ بقوله:
_وماله، دا حقك وأنا مش هقدر أمنعك، أتفضل معايا.
أشار له نحو الخارج وقد أخرج هاتفه يرسل لـ “يـوسف” بلهفةٍ لكي يظل مُمسكًا بخيوط اللعبة على أطراف أنامله:
_تعالى ليا عند شقة عمتك، هستناك قدام المدخل.
أرسل الرسالة وأرفقها بطلب رقمه مما جعل “يـوسف” ينتبه على الطرف الآخر لصوت هاتفه وما إن وجد رقم صديقه ولاحظ الرسالة المُرسلة في قائمة الإشعارات أنتبه لـ “سـامي” الذي كان يتحدث مع “عـاصم” وقد قرر الذهاب له حتى تنتهي تلك السخافات وفي هذه اللحظة وصلت “عـهد” من عملها ولاحظت زوجها أثناء سيره وغريمه خلفه فركضت له تسأله بقلقٍ عليه بلغ أشده:
_أنتَ كويس؟ حصل إيه والزفت دا بيعمل هنا إيه؟.
أنتبه لصوتها وثبت عينيه عليها لتكرر هي سؤالها بلهفةٍ أكبر ساورها القلق:
_أنتَ كويس يا “يـوسف”؟.
_ لأ مش كويس، ومش نافع أكون كويس.
هكذا كان الجواب الذي ألقاه عليها فجأةً بتعبٍ وتيهٍ مما جعلها تُطالعه بآسفٍ ثم مسدت فوق كتفه برقةٍ ودعمته بقوله الذي كان له الأثر المطلوب لقلبه:
_طب خلص ليلتك دي وتعالى ليا أنا مستنياك.
رمقها للحظةٍ ثم ظهرت ضحكة يائسة فوق ملامح وجهه تُزاحم الوجوم في ملامحه المُتعبة كما روحه:
_ صدقيني معنديش حل تاني غير دا.
صدق في حديثه وكأن هذا آخر الحلول لديه وأعظمها شأنًا وقد هتف الجملة بتعبٍ أتضح عليه أكثر ثم تحرك وهو يعلم أن “سامي” يتبعه ويسير خلفه وقد قرر هو أن يستسلم للموج حوله حتى يصل لبر الأمان من وسطهم رغم استحالة الاسباب في ذلك بينما هي فتابعت أثره بقلقٍ بعدما تحدث مع خاله ورحل من المكان وهي تتمنى أن يعود لها سالمًا.
__________________________________
<“البعض للبعض منَّا يسكن الروح”>
في بعض الأوقات لا نملك إلا شيئًا واحدًا وفقط ولا نُدرك غيره مما حولنا، ومع مرور الوقت هذا الشيء يُصبح هو كل شيء، قد نراه عالمنا بالكامل، أو رُبما هو محور الكون في ناظرينا، أو قد يكون هو الدُنيا وما بها وحولها، والفكرة الأكثر حماسًا هو أننا نملكه..
العمل الشاق يؤلم جسده، كثرة المسؤليات المُلقاه عليه وفوق عاتقه خاصةً مع اقتراب موعد الزفاف تجعله يُخرج الأضعاف المُضاعفة من طاقته، لا يود أن يُخذل والده الروحي ولا يـود أن يُقصر فيما يفعل، وخاصةً مع شقيقه الذي منذ يومين وهو تغير كُليًا وشرد وصفن في عالمٍ آخر غير ذا الذي يسكنه، لذا أخذ أولى الخطوات نحو غرفته لكي يطمئن عليه..
ولج “إيـهاب” الغرفة بتروٍ فوجده يجلس في شُرفتها وهواء تبغه يُعبيء الغُرفة ويطير فيها من الشُرفة بينما شقيقه فيجلس فوق المقعد مُمدد القدمين على درابزون الشُرفة وقد عزف العالم الخارجي وزهد القرب من البشر، حينها أقترب منه يسأله بصدمةٍ من مظهره:
_إيـه يا “إسماعيل”؟ عامل في نفسك كدا ليه؟.
رفع عينيه المكسورتين بضعفٍ نحوه ثم ألقى سيجاره بطول ذراعه من الشرفة وهتف بقلة حيلة تتنافى مع جموده الظاهري:
_أنا مش عامل في نفسي حاجة أنا زي الفل، ولو فيه حاجة تبقى مش بأيدي أنا، علشان أنا بقالي يومين مبنامش ومش لاقي سبب لدا، دماغي خلاص باظت ووقفت، وكل دا أنا ماليش ذنب فيه، مات هو وسابلي همه وقرف عملته، وأديني أهو بدفع التمن تاني.
راقبه شقيقه وراقب جمود نبرته وقسوة نظراته رغم ضعف عينيه ووقتها أقترب منه يخطفه في عناقه رغم محاولة إبعاد شقيقه له للمرةِ الأولى لكن الآخر يبدو أنه تأقلم وأدرك ما يتوجب عليه فعله، لذا كبله بذراعيه في عناقه ثم ألتزم بتكرار الذِكر في أذنه وقراءة آية الكرسي حتى أرتخى جسد شقيقه واستسلم لعناقه وكأنه تبدل في طرفة عينٍ، وكاد أن يبكِ، لكن شقيقه ظل يمسح فوق ظهره وهو يُكرر العديد من الأذكار والآيات القرآنية وقد رضخ الآخر في النهاية رغم مضايقته في بدء الأمر، حينها قام “إيـهاب” بالابتعاد عنه وكوب وجهه هاتفًا باهتمامٍ يستسفسر منه:
_عاوز إيه وأنا هعملهولك؟.
أغمض شقيقه عينيه هُنيهة بسيطة ثم فتحهما بتروٍ وهتف بصوتٍ مُحشرجٍ ينم على الضياع والتيه:
_عاوز أنام يا “إيـهاب” وخايف أنام.
ما إن وصله الجواب قاده لحيث الفراش ثم وضعه وحضره لوضع النوم ثم جاوره وضمه بين ذراعيه بحمايةٍ كأنه طفله الصغير وليس رجلًا شارف على إتمام عامه الثلاثين، وقد تنهد الآخر وأغمض عينيه على أمانٍ يعلم أنه لن يتركه في حضرة شقيقه وما ازداد الأمان لديه إلا بصوت القرآن الكريم صادحًا من هاتف شقيقه فاستكان واستسلم للنوم بعدما هاجره لمدة يومين.
مر بالتقريب ساعتين وهو بجوار شقيقه حتى تأكد من نومه وأنه أضحىٰ آمنًا وحينها لثمه فوق جبينه بآسفٍ ثم تركه في الغرفة وقام بفتح التلفاز بغرفته على القرآن الكريم ثم ترك الغُرفة لكي يطمئن على زوجته، وقد خرج من البيت متوجهًا نحو بنايته وفي الخارج تقابل مع “نَـعيم” الذي سأله بثباتٍ:
_شوفت أخوك الأول؟.
أومأ له موافقًا وناوله نبذة مُبسطة عن الوضع وعن حالته وقد استأذن منه بالرحيل لكي يطمئن على زوجته وبالفعل صعد للأعلىٰ فوجدها تنام فوق الأريكة المفضلة لديها أمام التلفاز لكن أول ما سرق انتباهه هو تورم قدميها حتى أن الخُلخال الذي كانت ترتديه كاد أن ينغرز في لحم قدمها، حينها أخفض جسده يخلع ما ترتديه في قدمها ثم قام بحملها ووضعها فوق الفراش ووقف تائهًا في أمر هذا التورم لكنه قام بوضع وسادتين أسفلهما ورفعهما بنسبة بسيطة عن سطح الفراش ثم قام بتحرير خصلاتها المعقودة وكأنه يناولها حُريتها من كل القيود..
ولج المرحاض يتحمم وبدل ثيابه بأخرى بيتية ثم خرج يجاورها فوق الفراش بشرودٍ في وضع شقيقه وفي حاله الذي تبدل ثم وضع زوجته التي بدأ الألم يظهر عليها بأشكالٍ عديدة وهي أضعف من تحمل ذلك بمفردها دون عائلةٍ تُساندها وهو فقط من يقع عليه عبء العناية بمفرده، وقد شعر بها تتسلل حتى وصلت له وقامت بفرض حصارها على جسده حينما وضعت رأسها عند صدره وكتفت كتفيه بذراعيها فأبتسم هو ساخرًا ثم ضمها بأحد كفيه ومسد فوق رأسها بالكف الآخر كأنها ابنته الصغرىٰ وتندس بين ذراعيه طلبًا للأمان، وقد أخفض عينيه يتشرب عن كثبٍ ملامحها التي أكتسبت جمالًا خاصًا فوق جمالها الشرقي، وقد فتحت عينيها وهي تبتسم وتسأله بنبرةٍ ناعسة سرقت لُبه:
_إيه شكلي حلو أوي كدا هتفضل تتامل فيه؟.
أبتسم لها ثم بقلة حيلة وهتف مُرغمًا عن ثقل روحه:
_شكلك حلو علطول عامةً، هي العين بترتاح من شوية بشوفتك؟ قوليلي عاملة إيه النهاردة؟ معلش سايبك طول النهار لوحدك بس والله مش ملاحق، الدنيا مقلوبة فوق دماغي ومش عاوز الحج يقول مقصر، استحمليني بس.
كأنه يعتذر منها بطريقةٍ متوارية وقد لاحظت هي إيلامه لنفسه فرفعت نفسها قليلًا حتى أصبحت رأسها عند مقدمة صدره العريض وهتفت بصوتٍ رخيم يغلبه النعاس مما أكسبها رقة تتنافى مع تلقائيتها معه:
_يعني كنت هتعمل إيه يعني؟ ما أنتَ مخلي الست “تحية” الله يكرمها معايا وكل شوية مش سيباني، وأنا كويسة خالص، فاكرني دلوعة ولا إيه؟ عاوزة أطلب منك طلب بس ولو بتعزني مترفض الطلب، أعتبرني أخوك.
رفع حاجبه وردد خلفها مستنكرًا بجمودٍ:
_أخويا؟ عيب يا “سمارة” يا اسم ودلع وصفة، مش راكبة مع نغاشتك الكلمة دي، طب خليها أختك يمكن تيجي مع إنها مش حلوة برضه.
ضحكت على تذمره ثم هتفت بدلالٍ تعمدته حتى تأتي بثمارٍ ترغبها هي نتيجة هذا الحوار معه:
_ماهو أنتَ قولتلي إنه لما كان بيطلب منك كدا كنت بتوافق علطول علشان ينام وميخافش، عاوزاك تحكيلي حدوتة تخليني أنام يلا، شوف بقى بتعزني قد إيه وخلي بالك؟ لو رفضت وزعلتني أنا هسلط عليك اللي في بطني أخليه طالع مش طايقك، كفاية فاكر إن أبوه وغد.
ضيق جفونه وهو يرمقها بسخطٍ فأقتربت منه تُلثم وجنته بنعومة جعلته يضرب وجهه من ألاعيب تلك الخبيثة التي تملك أثرًا بلغ كل الحدود عليه حتى سحب وسادة صغيرة وضعها عند صدره ثم وضع رأسها فوقها لتحصل على راحةٍ أكبر ومسد فوق خصلاتها الطويلة وبدأ في سرد القصة بقوله شاردًا في حكايةٍ رواها له قلبه:
_مرة زمان كان فيه فارس حزين، بان للناس كلها من أول ما ظهر قدامهم إنه مهموم وتعبان، وحياته للآسف كانت صعبة أوي، أتولد لقى نفسه كبير عيلة وهو يدوبك عيل ابن ٧ سنين، ساعتها أبوه كان موجود ومعاه بس مش معاه، أتعلم وقتها إن العقل والدراع مع بعض قادرين يمشوا كل حاجة، ساعتها كان عنده العقل بس، وقلب طيب شال فيه أمه وأخوه وقفل عليهم، أما أبوه فهو مبيكرهش قده، وفي مرة الفارس دا في الطريق لمح مُهرة جامحة وفيه خَيْال جبان عاوز ياخدها ويروضها، طبعه الحُر مقبلش عليها كدا، وبما إنه خَيْال أصيل وفارس بيقدر الأصلي من الهجين، شاف عينيها وعرف إنها مُهرة تسوىٰ ملايين..
_بس من كتر ماهي عفية وشديدة عارضته وفكرته عدو ليها وعاوز يسيطر عليها وخلاص، وهو علشان فهم الدنيا كويس حواليه وعارف إن اللي زيها مطمع في عيون الناس، كان بيخاف عليها من نفسه حتى، فضل هو يقاوح ويحاول وهي تكابر وتعاند، بس أصلها الطيب غلب على قلبها وهو تقديره وحبه ليها غلبوه برضه، فاتحول من خَيْال شاطر يقدر يروض أي مُهرة لخَيْال وفي ليها هي وبس، بقت كل حاجة في حياته، أمه وأخته وصاحبته ومراته وحبيبته وساعات ممرمطاه كأنها بنته، بس بيفرح إنها بتحبه، وبيكون مبسوط علشان هي مبسوطة، ونفسه تفضل طول العمر معاه متسيبهوش زي ما كل حاجة حلوة بتسيبه، وفضل يحاول علشانها لحد ما بقت ليه ولوحده محدش غيره يقدر يرفع عينه فيها، وهي كمان مُهرة أصيلة حافظت عليه في غيابه قبل وجوده، وصانت العهد بينها وبينه، ونصفته قدام الدنيا كلها لما هو ظلم نفسه، وفي الآخر كل ليلة ميرتاحش غير وهي نايمة في حضنه تطمنه قبل ما تطمن نفسها، حلوة الحدوتة؟.
سألها بنبرةٍ هادئة جعلتها ترفع عينيها لتُلاقي عينيه الصافيتين يُغلفهما الحنو وقد أبتسمت له بوجهٍ مُشرقٍ ثم لثمت وجنته مرةً أخرى وسحبت كفه تضعه فوق بطنها المُنتفخة وحركت كفه أسفل كفها وهي تقول بنبرةٍ دافئة اقتبستها من دفء قربه:
_هي حلوة الحدوتة، بس دي أحلى حاجة فيها.
أدرك مقصدها أنها تُشير إلى الضلع الثالث لمثلث العائلة الصغيرة الخاصة بهما وحينها شدد ضمته لها بحمايةٍ مُتمنيًا قدومه لعله يُصلح ما أفسده غيره من البشر، نعم قد يواجه جل الصعوبات في تلك الصفة التي يجهل التعامل فيها، لكنه لأجله سيحارب كما خُلق مُحاربًا لأجل ذويه، للمرةٓ الثانية يستشعر نعم الخالق عليه وهو يضم كنزه بين ذراعيه فتنهد بعمقٍ ثم مسد فوق رأسها حتى شعر بأنفاسها المنتظمة فوق صدره.
__________________________________
<“لقد تمنيتُها منكَ، لكنك أنتَ الوحيد الذي خذلني”>
نأسف لكَ لبشاعة مشاعر رفضك حينما تشعر بإنتمائك لمكانٍ ثم يرفضك، ونأسف لكَ حينما تأمل وتنتظر ثم تتفاجأ بقوة الصفعة فوق وجهك، أتعلم أي شعورٍ بالخيبة هو؟ تحديدًا كمن أحضر حُلته لحضور حفل زفافٍ وظل ينتظر دعوة الحضور لكن الدعوة لم تأتيه بعد، أترىٰ هل نسوه أم تعمدوها أن يكون خارج إطار فرحتهم؟.
مكانٌ جديد يشهد على مواجهةٍ أرسلتها الأعين لبعضها، وتوقف فيها الكلام، وقد كان أول المُتحدثين هو “عـاصم” الذي وقف في مواجهة “نادر” يسأله بجمودٍ:
_بقى كدا يا “نـادر” تسيبني ومش عاوز ترجعلي تاني؟ أنتَ عارف إنك ابني اللي مخلفتوش وبعتبرك حتة مني، متدخلش حد بينا يا “نـادر” وأرجع بيتك وأوعدك لو نفسك في حاجة أنا هعملهالك، أنا بعتبرك ابني الوحيد.
حديثه يُشبه سوطًا يضرب الجلد في ليلةٍ شتوية فوق جسد “يـوسف” الذي فهم مقصده، لقد وصلته الرسالة وتألم دون أن يفهم سببًا لهذا الألم لكن حديث عمه هو السبب في ذلك، وقد زادت قوة الضربات حين أضاف الآخر مُكملًا:
_أنتَ متأكد إني بحبك ومبحبش حد غيرك، وعندي استعداد أديك عمري لو حبيت كمان بس ترجعلي، البيت وحش من غيرك وأنا مقدر صدمتك دي ودا حقك، بس أنا محتاجك، محتاج ابني معايا، وأوعدك محدش هيقرب من “فـاتن” وهتفضلوا في حِمايتي.
حانت وقتها ألتفاتة من “أيـوب” لرفيقه فرأى الألم مُتجسدًا في عينيه، لمح نظرة قهرٍ أدرك سببها سريعًا وقد شعر بالحزن لأجله، الأمر يكمن في مشاعر تتغلب على صاحبها وتظهر عليه وأول من تُعلنها هي عيناه، وقد جاب “نـادر” المكان بعينيه واستقر فوق وجه “يـوسف” ولمح هو إضطرابه وعروقه النافرة ومن المؤكد هي مسألة دقائق وسينقلب الأمر رأسًا على عقبٍ، لذا تحرك ووقف في مواجهة “يـوسف” الذي وجه نظراته له فوجده يهتف بتحدٍ لخاله:
_وأنا موافق آجي معاك.
صفعة جديدة فوق وجه “يـوسف” ممن اعتاد على الخذلان منه، لكن تلك المرة لم يتقبلها وكاد أن ينفجر وهو ينطق بسبابٍ نابٍ من بين شفتيه لكن الآخر أضاف العُقدة وسط الحبل الساحب بقوله:
_”يوسف” دلوقتي يفتح الباب ويطردني أنا وعمته من هنا ويقولي أنا مش عاوزك ومش مسئول منك، وقتها بس هاجي معاكم، يلا يا “يـوسف”.
هذا الخبيث يُلقي بالكُرة في ملعبه حتى يُصبح المُلام في نهاية الأمر؟ أم أنه صدق وأراد حقًا أن يكون “يـوسف” ملجأ الأمان له؟ تواصلت النظرات بينهما فلمح “يـوسف” الصدق في عينيه وتوسله ألا يفعلها ويتركه لهما، أراد أن يشعر بتمسك الآخرين به بدلًا من الاستغلال الذي أعتاد عليه وقد سيطر الآخر على الأمر بقوله الصارم:
_وأنا لو على رقبتي مقولهاش، عاوز تمشي براحتك بس أنا مش همشيك، عاوز تروح معاهم براحتك أنتَ مش عيل بس أنا مش هطردك، عاوز المرة دي كمان تقولي إن “مصطفى” مقدرش يزرع فيك حاجة كويسة اثبتهالي بقى.
منذ أن اشتد عوده أعتاد على رد الصفعة بعشر أمثالها، ورد الصاع اثنين، وقد لاحظه “نـادر” أنه يخبره بأمله فيه لذا تنهد بقوةٍ ثم ألتفت لهم وهتف بثباتٍ:
_وأنا مش همشي من هنا، خلاص ناويت أفضل هنا وأحس شوية إني إنسان، مش لعبة في إيدكم أنتوا الاتنين، ومش هنضحك على بعض أنتَ هنا يا “عـاصم” بيه علشان توصل رسالة لـ “يـوسف” إنه مش هيكون ليه مكان في حياتك وإنك عمرك ما هتحبه، و”سـامي” باشا هنا علشان خاطر “نـزيه” بيه اللي عاوز يرد كرامة بنته، وأولع أنا، بس خلاص أنا طهقت منكم، جو الحنية والمدادية علشان تستغلوني خلاص مبقاش جايب همه معايا.
أنفجر فيهما أمام البقية وقد أنتبه خاله لشقيقته التي ظهرت عليها السعادة بحديث ابنها فسألها بتهكمٍ:
_والهانم؟ سيادتك يا محترمة هتفضلي سايبة بيتك كتير وبتتحامي في الغُرب؟ طب وبعدين عيب حتى على شكلك وسط الناس لما يعرفوا إنك في حماية راجل تاني غير جوزك وأخوكِ، بتفضلي “عبدالقادر” عليا؟ زي ما سبق وفضلتي عليا “مصطفى” برضه؟ غاوية تقهريني؟ يلا يا “فـاتن” معايا لينا بيت نقعد فيه.
تلك المرة خشاها “يـوسف” وخشى أن تخذله كما تفعل في كل مرةٍ لذا هرب من مواجهتها بعينيه وهو يعلم أن خوفها منهما سيقودها للتحرك معهما وتترك طريقه رغم آخر الآمال التي استمسك بها، لكنها ضربت بكل شيءٍ عرض الحائط حينما هتفت بشجاعةٍ:
_وهي فين الرجالة الغُرب دي؟ أنا هنا في حماية “يـوسف” ابن أخويا و “أيـوب” اللي أبوه ابن خالتي وابني معايا، لا أنا فاتحاها على البحري ولا أنا ماشية على حل شعري ولا بعمل حاجة أصلًا، ولو فيه شُبهة ليا تبقى إني أكون معاكم أنتوا الاتنين، أنا مش هسيب “يـوسف” ومش هسيب أصلي، ولا نسيت يا “عـاصم” أنتَ و “سـامي” إن أصلكم من حارة العطار؟.
ترك “سـامي” موضعه وكاد أن يقترب منها يجذبها من خصلاتها كما أعتاد أن يفعل دون أن يشكل وجود الآخرين فارقًا معه لكنه تلك المرة وجد “أيـوب” يعترض طريقه ثم دفعه في منكبيه حتى أجلسه فوق المقعد ومال عليه يهتف بشرٍ:
_ألزم حدودك بدل ما أعدي أنا حدودي وأكسرك في أيدي وهبقى صاحب حق، وأحترم نفسك والمكان اللي أنتَ فيه بدل ما أخليك أنا تصوم وتصلي على أيدي، وهقولهالك تاني أنتَ و “عـاصم” بيه هما هنا في حمايتي، لو واحد منكم فكر بس يقل بأصله أنا هوريكم الوش التاني مني، ودا لو ظهر هتكرهوا بس اسمي يتكرر تاني قصادكم، فمتراهنوش على أخلاقي وصبري كتير علشان أنا بالعافية ماسك نفسي.
تهديده كان صريحًا وقويًا وكأنه أبٌ يُعلن فرض حمايته على أسرته وقد استقام في وقفته وتوجه نحو الباب وقام بفتحه ثم أشار للخارج يقوم بطردهما وهتف بصلدةٍ:
_برة من غير مطرود، أظن اللي عاوزينه مش هنا.
كاد “سـامي” أن يعترض لكن “عـاصم” أشار له بالتوقف ثم سحبه وجعله يتقدمه في المسير وخرجا من الشقة أخيرًا وأغلق هو خلفهما الباب ثم ألتفت ووجد “يـوسف” يسقط فوق المقعد ثم أمسك رأسه يوقف الحرب المتقدة كما النيران في المرجل وحتى يهرب من كل شيءٍ قام بخطف المزهرية وألقاها أرضًا وهو يصرخ بصوتٍ عالٍ عقبه الصمت التام في رأسه وممن حوله وقد أقترب منه “أيـوب” مُنساقًا خلف مشاعره وجلس على رُكبتيه أمامه يسأله بلهفةٍ:
_أنتَ كويس يا “يـوسف”؟.
حرك رأسه نفيًا له وهو يشعر أنه على وشك الإنفجار المُحتم، بدا كما التائه في حالة الحرب وكل من حوله يركض لكي يحمي نفسه بينما فوقف في مواجهة الحصار ولم يشعر بنفسه إلا حينما ضمه” أيـوب” بين ذراعيه يُمسد فوق ظهره ثم هتف بصوتٍ رخيم في أذنه:
_بسم الله على قلبك حتى يهدأ وبسم الله على روحك حتى تطمئن، اللهم إني استودعتك أخي ونفسه وروحه وأسألك أن تَلطف به وتسعه برحمتك الواسعة.
ظهرت عبرات “يـوسف” من عينيه الخائنتين وقد تمسك بقميص “أيـوب” وكأنما يطلب منه الحماية من نفسه، ظهر له كأنه طوق النجاة الذي سيوصله لبر الأمان في تلك اللحظة وعليه أن يتشبث به، وقد كان الآخر أكثر من مُرحبٍ به بين عناقه وكأنه نطق للآخر خفيةً يواسيه
“لا تقلق ما دُمت أنا هُنا معك..
أعدك من كل قلبي أنني بجوارك
وأسمعك، رُبما لم تقبلها أنكَ رفيقي
لكنني منذ أن رأيتكَ تمنيت أن
يصبح طريقك هو طريقي”
__________________________________
<“لم أجد في العالم بأسرهِ ما وجدته فيكِ”>
في بعض الأحيان يتملكنا الغضب ليس لأجلنا، وإنما لأجل ذوينا، حيثُ تلك النزعة القوية فينا هي التي تتحرك وتتقلب فوق النيران لأجلهم، حينها نقود المرء مشاعره ولو طالت يداه لأحرقت المُدن لأجل من تُحب، والأمر بأكمله لأجل من أختارهم القلب للحُب..
عاد للبيت مُنفعلًا بعدما أخبره شقيقه بما حدث ورفض تدخله في الأمر، بالطبع تدخله يقلب الأمور فوق بعضها وكأنها فوضىٰ تنقلب إلى اشتباكٍ لم يُفَض، وقد تصادم مع والده الذي أخبره في الأسفل بثباتٍ يوقفه:
_خلي أخوك يتصرف هو يا “أيـهم” وخليك أنتَ دلوقتي بعيد، لو لقيت الأمر بيزيد عن حده هقولك أتدخل، بس خليك بعيد علشان أبنك دول معندهمش رحمة، وصدقني محدش هيقدر يقرب من حد فيكم، أنا مخلف رجالة.
وقتها أنسحب من المكان وتوجه نحو شقته وهو يشعر بالضُجر من كل شيءٍ حوله، فمنذ أن وصله خبر زواج “آيـات” بنهاية الأسبوع ونقل أشيائها في الغد وهو يشعر بالزخم في نفسه وكأن فوضى المدينة أضحت تسكنه، الوحيدة التي تفهمه وتتعامل معه سيتوجب عليها الرحيل عنه ليعود في غيابها حائرًا وتائهًا، وقد جلس فوق الأريكة يزفر بقوةٍ وأرجع رأسه للخلف وأغمض عينيه فأتت تلك اللطيفة التي أضحت تسكن عالمه وجاورته وهي تسأله بقلقٍ من هيئته:
_مالك يا “أيـهم”؟ عامل في نفسك كدا ليه؟.
أنتبه لها من بين غيام شروده وقد ثبت عينيه عليها وعلى ملامحها الهادئة التي نطقت باللهفة عليه وقد زفر هو مُجددًا ثم هتف بضياعٍ:
_مخنوق يا “نـهال” وحاسس إني على تكة وهفرقع في وش حد، معلش خليكِ بعيد دلوقتي لحد ما أفوق بس شوية وأوزن دماغي كدا وأقدر أتكلم.
شعرت هي بالضجر منه ومن غلقه لمشاعره فهتفت بحدةٍ مفتعلة تخبره بمدى غيظها منه ومن كتمانه:
_على فكرة بقى دي أكتر حاجة بتعصبني منك، إنك مش عاوز تشركني في حاجة معاك ولا تقولي مالك، قافل على نفسك وعلى مشاعرك كأني غريبة ودي أكتر حاجة بتعمل مسافات بين المتجوزين، قولي مالك بدل ما تقفل على نفسك كدا.
أنتبه لحدتها معه في الحديث وأيقن أنها مُحقة ففي هذه النقطة تحديدًا هي معها كل الحق، وفي علاقته السابقة كان أحد الأسباب القوية التي وضعت الفروق بينهما هي عدم تصريحه بما يضمره في نفسه، لذا تنهد مُطولًا وهتف بقلة حيلة بعدما قربها منه يُلثم جبينها باعتذارٍ خفي:
_حقك على راسي من فوق، بس أنا مش فاهم مالي علشان أقولك، عامةً يعني أنا حتى لو مخنوق مش عاوز أخنقك معايا، كفاية عليكِ أوي إنك بتهتمي وفاهمة إني متضايق.
سحبت نفسًا عميقًا تُحد به من غضبها ثم هتفت تستجديه بقولها الرزين والهاديء:
_يا “أيـهم” يا حبيبي دلوقتي أنا وأنتَ بنحاول مع بعض واحدة واحدة أنا مبقيتش بثق في حد غيرك، باجي أقولك كل اللي حصلي علشان أنا فعلًا بحس براحة لما بشاركك، يبقى أنتَ كمان حسسني براحة معايا، قولي مالك وشاركني، لو قصرت يا سيدي عرفني.
حسنًا عليه أن يُصرح بمكنونات صدره لها فقرر أن يسير فوق البُساط وصولًا لقلعتها وهتف بضيقٍ خيم عليه:
_أنا من ساعة ما عرفت إن “آيـات” آخرها معانا الكام يوم دول وأنا الدنيا أتسدت في وشي، حاسس من غيرها كدا إن كل حاجة أتصلحت هتبوظ، هي اللي مفهماني أصلًا المفروض أعمل إيه وأتعامل إزاي، وهي اللي مخلياني فاهم حياتي، مش راضي عن فكرة إنها هتخرج من البيت والحارة كلها وتبقى بعيد عننا، ومش عاوز أزعلها وأزعل “تَـيام” وأبوه بس أنا متضايق، واللي زاد وغطى “أيـوب” ومشاكله وكأن الدنيا كلها بتقاوحه علشان يتكسر، وأنا مش متعود أدي ضهري لأخواتي، أنا مبرتاحش غير في راحتهم.
فهمت هي سبب تخبطه وتقلبه لذا مسحت فوق كتفه وكأنها تداوي ألم رفيقها المُفضل وأضافت بحكمةٍ تشاور من خلالها على ما يبعُد عن مرمى عينيه:
_طب أنا معاك، دلوقتي هي لو كانت أتجوزت حد تاني غير “تَـيام” وكان أكيد مش هيخليها تسكن هنا في الحارة مش هي هي؟ ولا استنى دلوقتي أنتَ أهو معايا مراعي ربنا فيا وعمرك ما زعلتني وبتحاول بكل اللي تقدر عليه تفرحني، مش دي حاجة أنتَ حاسس إنها مفرحاك؟ تخيل هي تتجوز اللي بيحبها وكل الناس بتتكلم عن قصته وهو مستنيها، سيبها تكون معاه وتجرب الحب وتشوف الحياة التانية، ولو زعلان كدا يا سيدي أنا معاك أعتبرني أختك.
حرك رأسه نحوها يرمقها بسخريةٍ وهتف يراوغها بقوله:
_يا أمي أنا بالذات مش هينفع أكون أخوكِ، من ساعة ما دخلتي هنا وأنتِ ماسكالي إنك معتبراني أخوكِ ودا في حد ذاته غريب، أحترمي مشاعري شوية الله يكرمك، دا اللي ربنا قدرك عليه؟ أخوكِ؟ أخوكِ يا “نِـهال”.
ضحكت على طريقته وسألته بقلة حيلة بعدما ظهر اليأس عليها:
_أومال أقولك إيه مش فاهمة يعني؟ بواسيك.
حرك ذراعه يضعه خلف ظهرها ثم قربها منه بعدما استقر كفه في ظهرها ونطق بمراوغةٍ ازدادت أكثر في نظراته قبل حديثه:
_كدا بتواسيني؟ كدا أنتِ بنتقطِيني، المفروض تقوليلي أنا معاك وبحبك ومش هسيبك تكتئب وتزعل، قوليلي تعالي في حضني متزعلش نفسك، أجتهدي شوية، أقولك؟ قوليلي بحبك يا “أيـهم” بالانجليزي يلا.
كتمت ضحكتها وكادت أن تنطق لكن “إيـاد” أدخل رأسه بينهما يهتف بمزاحٍ وشقاوةٍ مرحة في طبعه صاحب العشر أعوام:
_أقولهالك أنا بالروسي؟.
قاطعهما بصوته المرح فيما ضحكت هي بصوتٍ عالٍ وقد سحبه أبوه بغتةً بغيظٍ منه وأجلسه فوق فخذه وهو يسأله بسخريةٍ تهكمية:
_لأ يا شيخ؟ ولما أنتَ شاطر أوي كدا وبتلعب باللغاب تاعب أبويا ليه معاك، بعدين إيه اللي مصحيك لحد دلوقتي، ما تنام يا عم أنتَ صاحي ليه، ولا جدك اللي باعتك ياض؟.
جاهدت لكتم ضحكتها بينما أفتعل الصغير نظرات الحزن ثم نطق بيأسٍ تمثيلي برع فيه:
_ دا بدل ما تاخدني في حضنك عاوزني أنام؟ خلاص زهقت مني بدري بدري؟ ماشي بشوقك وبراحتك بكرة تندم يا عسل وهتلاقيني هاجرت برضه وساعتها مش هتطول بحبك بالصيني حتى.
من جديد يرتفع صوت ضحكاتها على طريقته فيما رفع والده طرف أنفه بتشنجٍ ثم زاحمت البسمة ملامحه وقد ضمه لعناقه بحنوٍ فاض لأجل الجزء المُصغر منه ثم ضم زوجته هي الأخرى وأحتواها بالذراع الآخر وجلس يقبض عليهما بين كلا ذراعيه وقد أبتسمت هي له ثم رفعت رأسها تهمس له بقولها:
_أهو أنا عندي استعداد أقضي عمري كله هنا وسطكم كدا ومش عاوزة حاجة تانية من الدنيا، كفاية أنتَ وهو معايا.
أبتسم لها بعينيهِ ثم ضمها أكثر ولثم رأس ابنه الذي رغمًا عنه ظل يبتسم بسعادةٍ لأجل تحقيق مشهدٍ ظنه خيالًا في أحلامه وفقط، ورُبما تحقيقه كان مُستحيلًا لكن المستحيل لأجله تحقق أخيرًا.
__________________________________
<“لُعبة سرية كانت تُساق خلف ظهر الأعمى”>
بعض الأمور تُحاك في الخلف دون علم الآخرين، ولولا الأيادي الخفية في ترتيب كل شيءٍ لما أكتملت اللُعبة ووصلت لتلك النُقطة، لكن كل شيءٍ يحدث في هدأة الليل يكشفه ضجيج الصباح..
كان يجلس في غُرفته مع الحاسوب الخاص بعمله في الخارج وقد فتحه وجلس رهن الإنتظار القاتل، وقد فتح هاتفه يهرب من لوعة الإنتظار بالتصفح الغير هام، أو عفوًا هو في غاية الأهمية، حيث تصفح حسابها في تطبيق الإنستجرام الخاص بالصور وقد شقت البسمة وجهه مع كل الصور التي تتنافى مع طبعها، هي أغرب من رأى في البشر وأعجب مما جمعه بها الزمان، فلو كان ما سبق ومر عليه كان كابوسًا، فهي الحُلم الجميل الذي مر به فوق السحاب الصيفية، رقيقة ومتعاونة ومرحة، وهادئة _بالطبع إن لزم الأمر_ ورغم قلة هدوئها ونُدرته لكنها مميزة وكأنها الفتاة الوحيدة التي رآها من بين فتيات “حـواء”.
وصلته رسالة عبر البريد الإلكتروني خاصة بالعديد من الاسماء والعلاقات الكُبرى في داخل الدولة وخارجها وما يخص تحديدًا الإتجار بالبشر، تصفح الملف المُرسل له بأنامل سريعة ونظرات متفرسة حتى صدح صوت هاتفه برقم من يعاونه فجاوبه سريعًا بلهفةٍ:
_قول اللي عندك كله.
جاء الرد من الطرف الآخر بثباتٍ:
_دي أسماء دور الأيتام اللي صدرت بنات آخر فترة، في مصر وبرة مصر كمان، الفترة الأخيرة تم توريد بنات من كذا دولة مختلفة لبرة مصر لشبكات متنوعة وطبعًا بنفس الطرق المعروفة، بس الفترة الأخيرة حصلت حاجة مختلفة، البنات في الدار بقت بتتصنف، يعني جزء بيروح لشغل الدعارة وخدمة رجال الأعمال، وجزء للأعمال المشبوهة في الاستغلال البشري زي الخدمة والمراهنات والعبودية، وجزء في تجارة الأعضاء، وفيه جزء تاني بيتاخد لبرة وأظن أنتَ فاهم إن دول ليهم معاملة خاصة.
توسعت عينا “مُـنذر” بصدمةٍ فيما أكمل من يحدثه بلهفةٍ:
_فيه مدير دار حاليًا عاوزين يخلصوا منه، لأنه من كام يوم أتغابى وأتسبب في موت بنت ورماها على الطريق، ودا الموضوع اللي سألتني عنه، الدار فعلًا ليها علاقة والبنت دي كانت في الدار ودي تاني حاجة بتتعمل من رجالة “ماكسيم” اللي في مصر، ومنهم رجل أعمال عنده قناة تليفزيونية بيستغل بنات الدار في مزاجه، ودا اللي عاوزين يخلصه منه، أديني فرصة لبكرة هبعتلك كل التفاصيل بتاعته.
ضاق به الحال جزعًا وعلم أن المسار المكتوب عليه أضحى إجباريًا له ولطواعيته، لذا أتفق مع مُحدثه على كل شيءٍ ثم أغلق الحاسوب وهو يشعر أن الغرفة ضيقت عليه الخناق فخرج منها بعدما سحب سترته السوداء وأرتداها ثم توجه لحظيرة الخيول يقف بقربها وقد حاول بكل طاقته أن يجد شيئًا يُفرغ به ما بداخله خاصةً وهو يشعر بمدى دنائة طباعه، حيث هو اليد الخفية التي ساهمت في العديد من المصائب قبل أن يكتشف حقيقته، لذا أخرج الخيل من حظيرته ثم أمتطاه وتوجه به نحو ساحة التدريب وكل ما فعله من جرائم وقتل واستغلال لعمله يمر أمام عينيه، سرق وتلصص وقتل وكان الأمهر وسط عصابةٍ تفرقت في أنحاء البُلدان حتى يتم طمس هويته وعرقه ونسبه، لكن كما يُقال الأصل غالب وقد غلبه أصله في نهاية الأمر..
والآن عليه أن يتوجه بعيدًا عن الأعين حتى يستطع أن يُفكر بعيدًا عن الزحام هنا وحتى لا تقع أدواته نصب الأعين وحتى يعود للهدوء الذي أعتاد عليه، وأول شيءٍ عليه أن يفعله هو الهرب من سطوة “فُـلة” عليه وفرض هيمنتها على أيامه رغم أن أجمل ما مر عليه هو تواجدها، لكن كلاهما لن يتحمل قبول الآخر معه.
في غرفة “مُـحي” وبكل آسفٍ سأم من استذكار دروسه بعدما تم سحب السيارة منه لحين إنتهاء الاختبارات العملية، وبالطبع صاحب الفكرة كان مالك القلب الحجري “إيـهاب” وقد شعر هو بالسخط نحوه وقرر أن يترك الدراسة وأخرج هاتفه يتصفحه ويبحث عنها وقد كان الأمر سهلًا عليه حينما ولج حساب زوجة شقيقه ورآى حساب الأخرى في إشارةٍ منها لها، وقتها شعر بالنصر وضغط على أيقونة حسابها فوجدها مُغلقًا حينها زفر بقوةٍ ثم ألقى الهاتف بعدما فشل فيما خطط وأنتوى عليه ثم نام وأغمض عينيه..
كان يهرب من كل شيءٍ بالنوم، كل المسئوليات المُلقاه فوق عاتقه كان حلها النوم، لقد خضع لفترة تهذب كُبرى منذ أن عاد لهذا البيت لكن النوم هو وسيلته الوحيدة في التمرد وقد نام بين اليقظة والغفو ورأى نفسه يستذكر دروسه بجدٍ وكانت المُكافأة منها حينما أتت في حُلمه تُلثمه فوق وجنته ثم هتفت بضحكةٍ واسعة:
_شاطر يا “مُـحي”.
أبتسم لها وقتها كطفلٍ صغير يتلقى مُكافأته وما إن ألتفت لها وجدها فرت من المكان وأختفى أثرها تمامًا وظل يركض وهو يُناديها بملء صوته وهو يذكر اسمها مُتلذذًا به كغنوةٍ لذيذة السمع في الأذن وحينها فاق من غفوته القصيرة وهو يشهق بقوةٍ وقد تذكر حلمه الغريب وضحكتها في الحُلم ثم مرر أنامله فوق وجنته يتذكر قُبلتها له ووقتها سأل نفسه ذاهلًا بغير تصديقٍ وإنكارٍ واضحٍ:
_استغفر الله العظيم يا رب، أكيد دي سفالة منها هي مش قلة أدب مني، أنا نايم مؤدب والله، من أولها كدا؟.
ألقى بجسده فوق الفراش وظل أسيرًا لحلمه الغريب ذاك وكاد أن يُجزم أن هذه هي مرته الأولى التي يرى فيها حُلمًا بهذه الرقة وهذا الجمال وحينها قرر أن يستأنف استذكاره بعد دعمها الخفي له لكن تلك المرة عزم النية على اختلاق شيءٍ جديدٍ في نفسه أولًا ولنفسه أولًا..
__________________________________
<“اثنان ملكا الأثر على قلبي، عيناكِ وصوت فيروز”>
حتى وإن أُغلِقت أبواب المُدن كافة يكفينا بابٌ يطل على قلبك ومدينةٌ أعتبرتها عينيك وأروقتها هي أهدابك، يكفيني أنا كـ”يـوسف” من غُربة العالم اللجوء والإلتحاد بكِ أنتِ..
بدأ الفجر يبزغ مُعلنًا عن قدوم اليوم الجديد وحينها كانت “عـهد” في إنتظاره بعدما علمت بكل شيءٍ قبل مجيئه وجلست في مكانهما المعتاد وقد ولج هو أخيرًا بعد صراعٍ وحربٍ دامت داخله كان يحاول إبعاد نفسه بغصبه عنها وقد شعر بتغيير حالته بعض الشيء فقرر أن يتوجه لها، أقترب منها وجلس بجوارها فوق الأريكة ثم وضع رأسه فوق كتفها بدون مقدمات أو مُزايدات وقد أتت هي بدورها ورفعت كفها تمسد فوق خصلاته وقد نطق أخيرًا بتيهٍ:
_أنا تعبت يا “عـهد” وحاسس إنها مقفلة في وشي، حاولت أعيش وأكون طبيعي بس في نفس اليوم مقدرتش أكمله لآخره زي ما أنا، النهاردة بس أكتشفت إني استنيت الحب منه ودا اللي تاعبني في عيشتي، “عـاصم” محبنيش طول عمره ومش هيقدر يحبني، إزاي كنت مستنيها منه، أنا كنت عاوزه يحبني إزاي وهو كل مرة يأكد كرهه ليا.
لاحظت هي شتات أمره وبعثرة حاله لذا أرتفعت تضمه لها وضمت رأسه فوق كتفها وهي تقول بنبرةٍ هادئة ودافئة مسحت على صقيع فؤاده:
_ودا كان طبيعي وقتها، علشان كنت صغير وهو كان عمك ومعاملته لغيرك خليتك تتمنى الحب منه، بس هو حرم نفسه من حُبك دا وخسر كتير بغيابك وبعدك عنه، أنتَ مكسب ليه عمره ما هيعرف يعوضه، وأحمد ربنا إنه ماحبكش ولا قدر يديك حاجة من مشاعره، كان ممكن تطلع نسخة منه في الجحود والقلب الجامد، بس أنتَ فيك حنية الدينا كلها، متتقارنش بحد غيرك، هو الخسران مش أنتَ، محدش يا “يـوسف” هيكرهك ويرتاح في حياته، خصوصًا لو أنتَ كنت موجود قبل كدا في حياته دي ومعاه، ريح نفسك وسكت دماغك خالص، وأفرح باللي معاك.
ألتقط جملتها الأخيرة عن بقية الحديث ثم رفع رأسه يطالع عينيها اللامعتين وهي تضحك له تلك الضحكة التي تفعل به كل الأفاعيل فأقترب منها بتروٍ وطبع القُبلة فوق وجنتها وهي تبتسم بخجلٍ له فيما هتف هو بمراوغةٍ:
_أنا بفرح أهو باللي معايا.
توسعت بسمتها أكثر وأدارت رأسها للجهة الأخرى تهرب من سطوته فوجدته يهتف بهمسٍ جملتها المُحببة:
_حبيب عيوني.
عادت له بعينيها من جديد ثم بادرت تلك المرة هي ووضعت رأسها فوق فخذه كقطة صغيرة تائهة وجدت رفيقها المُحبب بينما هو مسح فوق غطاء رأسها بحنوٍ ثم مال يهمس قُـرب أذنها بقوله الرخيم:
_أنا لقيت شقة هنا قريبة من البيت دا علشان نتجوز فيها بما إنك مش حابة فكرة إنك تبعدي عن الحارة ومش عاوزة تسيبي مامتك وأختك، وأنا الحقيقة مش حابب نتأخر أكتر من كدا، بس لو عجبتك هخلصها.
أنتفضت بلهفةٍ تواجهه بعينيها فيما أبتسم لها بعينيه وأومأ موافقًا عدة مراتٍ وحينها أرتمت عليه تحتضنه بقوةٍ وهي تُعبر عن سعادتها بتلك الطريقة وقد نطق هو بمراغةٍ ما إن شعر بتواجدها بين ذراعيه:
_طب ما إحنا حلوين أهو.
أبتعدت عنه وهي تفسر سبب فرحتها بقولها المختنق من فرط الحماس والسعادة معًا:
_علشان مبسوطة إنك حاولت علشاني، أنا والله قولتلك إني مش عاوزة أسيب الحارة هنا علشان مامتك وأختك محتاجينك هنا، وأنا ماما محتاجاني، المكان التاني مش شبهنا أو على الأقل حاليا هو مش مناسبنا، خلينا نبدأ هنا زي ما الطُرق أتلاقت هنا، وصدقني لو عاوز الفرح زي ما قولت وحددت أنا موافقة والله، بس مبلاش نبعد.
أومأ موافقًا وأضاف مُذعنًا لها:
_هعمل اللي يريحك كله، أنا يهمني راحتك معايا.
من جديد تبتسم له وقد أمسك هو كتفيها وجعل ظهرها يواجهه ثم قام بتحرير رأسها من الغطاء ثم حرر خصلاتها وأخرج مشبكًا يشبه ذا الذي جلبه لشقيقته ثم مشط خصلاتها بأنامله حتى سألته هي بتعجبٍ:
_أنتَ بتعمل إيه، مالك ومال شعري؟.
أبتسم بسخريةٍ ونطق بتهكمٍ وهو يقوم بفركه:
_بحسده علشان معنديش زيه، أتنيلي.
استشفت سخريته وضجره وقد ألتفتت تضربه فوق كتفه وقد ضحك هو رغمًا عنه ثم أكمل ما يفعله ووضع الفراشة الكرستالية فوق خصلاتها بعدما ضمها مع بعضها ثم أخرج هاتفه يلتقط لها صورة بتلك الهيئة البريئة ثم وضع الهاتف نُصب عينيها وهو يقول بنبرةٍ رخيمة:
_فراشة حلوة زيك أهيه، إيه رأيك؟.
شهقت هي بفرحةٍ ثم ألتفتت تواجهه ضاحكة العينين قبل الثُغر فوجدته يمسح فوق وجنتها الناعمة وأبتسم هو الآخر ونطق بتعجبٍ من حاله معها:
_مش عارف بصراحة مين فينا اللي ظهر للتاني يلحقه بس أنا متأكد إنك لحقتيني من نفسي، يمكن أنتَ كوابيسك كلها في نومك، بس أنا كوابيسي مبتخلصش حتى وأنا صاحي، إلا بوجودك أنتِ، عاوزك تكملي معايا وتخلي إيدك في أيدي علشان اللي جاي عليا صعب شوية، خليكِ معايا.
وضعت رأسه فوق كتفها للمرة الثالثة في نفس الدقائق المارة عليهما ثم فاجئته حينما بدأت تُدندن بصوتها الرقيق الدافيء:
_على رغم الجو المشحون..
تبعًا للظرف المرهون مطرح ما عيونك
بتكون بحلم أشوفك يومًا ما، بكرة
بيخلص هالكابوس وبدل الشمس
بتضوي شموس، على أرض الوطن المحروس
راح نتلاقى يومًا ما
_على رغم الجو المشحون..
تبعًا للظرف المرهون مطرح ما عيونك
بتكون بحلم أشوفك يومًا ما، بكرة
بيخلص هالكابوس وبدل الشمس
بتضوي شموس، على أرض الوطن
المحروس راح نتلاقى يومًا ما..
مع إن وضعك مهزوز
وأوقات بحسك نرفوز،
لازم تعقل ما بيجوز
إذا مش هلأ، يومًا ما..
ألتقط الجزء الأخير مما جعله يرفع أحد حاجبيه يسألها بتشككٍ فيما تعنيه بغنائها:
_نرفوز؟ أنتِ بترمي السم في العسل يا عسولة؟.
_بصراحة آه، أومال أغشك يعني؟ هبقى عسولة إزاي؟.
هكذا كان جوابها المندفع بكل صراحةٍ حتى ضحك مُرغمًا عن نفسه ثم استقر برأسه فوق كتفها حتى ظلت هي تُربت فوق رأسه وكتفه وكأنها تشعر بتضخم مسئوليتها نحوه خاصةً بعدما أوصتها “فُـلة” بذلك وأخبرتها أن الحل لكليهما يَكمُن في مُعالجة بعضهما بالقرب سويًا والمضي قدمًا رغمًا عن أنف الحياة ومُعارضيها.
__________________________________
<“لقد كان الغضب كامنًا أسفل رُكام المشاعر”>
الغضب ماهو إلا البركان الثائر أسفل المشاعر الأخرى المتراكمة فوق بعضها وفقط هي هزة بسيطة في قشرة تلك المشاعر ومن ثم ينفجر البركان بعدها وتنفجر فوهته وتمسك بألسنتها كل ما هو بعيد وقريب عنها..
في اليوم التالي بأوسطه ولج “بـيشوي” شقته فوجد أمـه تتجهز للنزول فوقف يسألها بتعجبٍ:
_كل يوم نزول؟ رايحة فين النهاردة؟.
ألتفتت له تجاوبه بقلة حيلة:
_هروح فين يا حسرة، رايحة أشوف “نجلاء” علشان سايباها تعبانة شوية من إمبارح ومحدش معاها و البنات هييجوا هنا وننزل مع بعض، وأوعى ترفض أنا بقولك أهو.
حرك كتفيه بلامبالاةٍ وقد صدح صوت جرس الباب فتحرك يفتحه ليجد خطيبته في مقدمته وحينها أبتسم بإعجابٍ صريح وهتف يِغازلها بقوله:
_بابنا محظوظ بقى، يومين ورا بعض؟.
ضحكت “مهرائيل” له وسألته بخجلٍ تهرب من مغازلته:
_لو سمحت فين طنط؟.
_طنط مش هنا، موجود ابنها ينفع معاكِ؟.
هكذا كان جوابه عليها مما أخجلها أكثر وقد ظهرت “آيـات” من العدم تطالعه ببسمةٍ جعلته يرفع حاجبيه لها وهو يقول بسخريةٍ:
_كدا تيجي تقطعي لحظات تاريخية زي دي؟ أومال بقول أختي الصغيرة وبتفهمي، فيه حد يعمل كدا يعني؟.
أتت أمه ودفعته للداخل ثم ألتفتت تواجهه عند مرحلة إغلاق الباب وهي تزجره بعنفٍ قائلة:
_أحترم نفسك يا واد دي أبوها واخد مننا رهن.
أغلقت الباب على صوت ضحكات الفتيات فيما نظر في أثرهن وهو يسأل بتعجبٍ:
_واخد رهن؟ إحنا حاجزين ساعة كورة ولا إيـه؟.
بعد مرور دقائق وصلن الشقة المنشودة وقد فتحت لهن “نيڤين” مما جعل “تـريز” تلوي فمها بتهكمٍ ثم ابتسمت بإصفرارٍ وهي تقول بصوتٍ مختنقٍ:
_أهلًا وسهلًا يا حبيبتي والله لو أعرف إنك هنا كنت جيت من بدري أوي من صباحية ربنا.
بادلتها الأخرى البسمة بمثيلتها وهتفت بنزقٍ كأنها تمسك أطراف الحديث وفقط:
_كلك ذوق يا حبيبتي.
أولتها ظهرها فيما هتفت الأخرى بتهكمٍ:
_لأ وأنتِ الصادقة دا علشان مفتحش ليكِ الباب.
لاحظت “آيـات” إختناق صوتها فمالت عليها تسألها بتعجبٍ:
_طنط هو حضرتك خانقة صوتك كدا ليه؟.
جاوبتها الأخرى بتهكمٍ:
_علشان دي طريقة الكلام مع اليهود.
بصعوبةٍ كتمت ضحكتها وولجت مع رفيقتها نحو موضع جلوس “نجلاء” المريضة التي تطلعت لهن بحبٍ وقد جاورتها “آيـات” تطمئن عليها برقةٍ وأدبٍ رغم حزنها منها لأجل زوجها، لكنها أتت بفعل الواجب المفروض عليها وقد رمقتها “نـيڤين” بسخطٍ وهي لازالت تراها بصورة الفتاة المُصطنعة، وقد لاحظت نظرتها “تـريز” فسألتها باستهزاءٍ:
_مالك يا حبيبتي بتبصي ليه كدا؟ بصي كويس.
أنتبهت لها الأخرىٰ وهي تشعر بالضيق والحُنق وقد تحدثت “نجلاء” في محاولةٍ منها لتلطيف الأجواء:
_هي تلاقيها متضايقة علشان عرفت إن “تَـيام” لسه مجاش من يومها كانت جاية تراضيه علشان زعلته، لكن هي مش قصدها والله، دي زعلانة أوي إنه مش بيرد عليها.
أندفعت “تـريز” تتولى الدفاع عن الغائب كأنها محامية تقف أمام الطرف الخصم وهتفت بنبرةٍ محتدة:
_علشان عنده دم يا حبيبتي، والمثل بيقولك اللي عنده دم أحسن من اللي عنده عزبة، وهو ربنا يحميه جمال وأخلاق وشهامة ومجدعة وعليهم مال أبوه كمان، هيبوصلكم على إيه؟ أنتوا أصلًا حيلتكم إيه؟ دا ديل الحصان هناك في بيت أبوه يشتري بيتكم كله، بتطرديه ليه إن شاء الله؟ كان بيتك؟ ولا كان ملكك؟؟ دا ملك “صبري” الله يرحمه ويقدس روحه، وفلوسه دي أبنه أحق بيها، مالك أنتِ ياختي؟.
أنساقت خلف غضبها وضيقها ثم نظرت لصديقتها ترمقها بسهامها الحادة وهي تقول:
_العيب مش عليهم هما يا “نجلاء” العيب عليكِ أنتِ إنك صدقتي كلام أخواتك إنه مش ابنك ولا من صلبك ومسيره يسيبك وكلامهم عشش جواكِ، بس الأم اللي ربت وحضنت ورضعت وشالت مستحيل تسمع كلام حد عن عيالها، وأنتِ بعمايلك دي أكدتيله إنك مش أمه بجد، وعلشان كدا كرمته وجعته منك، المثل بيقولك أنا أدعي على ابني وأكره اللي يقول أمين، خلاصة القول ابنك فرحه آخر الأسبوع دا عند أبوه اللي من صلبه، لو بتحبيه أتصرفي صح وسيبك من أخواتك، علشان كل واحدة مع جوزها وعيالها وأنتِ اللي من غيره لوحدك، سلام يا أم “تَـيام”.
جلدتها بسوط لسانها القاسي وما إن أنهت الحديث أشارت للفتيات بالرحيل وقد رحلن كما أتين فيما نظرت في أثرهن هي بضياعٍ وهي تشعر بالخواء في روحها متجاهلة شقيقتها عن عمدٍ، فهل اليوم الذي عاشت لأجله وثابرت لتكون فيه سينتهي قبل أن تحضره هي بنفسها؟ الآن أتت لها الفرصة وهي مالكة القرار الوحيد..
__________________________________
<“أنا والقمر سويًا مع بعضنا، والحياة تلونت لأجلنا”>
قالوا من يعشق القمر عليه بالسهر وأنا مسكينٌ فلا علمت من هو القمر ولا أدركت ساعات السهر، لكن منذ أن أحببتُكِ فأفنيت عمري لأجل نظرة واحدة منكِ يا قمري، رافقت الليل وصادقت السهر وكان لُقياك أجمل ما أدركته منذ أن ألقى فؤادك على قلبي العشق وقلبي وله كنَّ الحُب وله المودة أتدخر..
كان “أيـوب” يقف أمام المسجد بحالة حزنٍ وقهرٍ منذ أن حُرِم من رفع الآذان وإلقاء الخِطبة وتعليم الصغار أمور دينهم وأركان الإسلام، حالة استياء شملته وقد جلس على درج المسجد الأمامي ينتظر قدوم الراعي الجديد حتى يولج لصلاة المغرب لكنه لاحظ زوجته بعينيه وهي تقف بجوار المسجد تضع نقودًا في صندوق التبرع فتحرك نحوها حتى شهقت هي بقوةٍ وكادت أن تركض لكنه أمسكها من مرفقها وسألها بلهفةٍ:
_رايحة فين استني؟ بتعملي إيه؟.
وزعت عينيها في المكان بعيدًا عنه ثم هتفت بخجلٍ حتى لا يصبح ما فعلته منًا أو رياءً فآثرت أن تُخفيه:
_بتبرع علشان ربنا يفك كربك ونحسك أنتَ و “يـوسف”.
رفع حاجبيه ساخرًا على جملتها ثم ضحك رغمًا عنه وترك مرفقها وقد تبدلت نظرته للفخر وهو يقول بنبرةٍ أهدأ:
_يعني أنتِ هنا علشاني؟.
لم تجد بُدًا إلا الإيجاب فأومأت موافقةً وهي تضيف بلهفةٍ:
_أنا حاسة بيك وحاسة بعينك وهي مخبية كتير أوي ومش عاوز تتكلم وعارفة إنك واخد على إنك تشتكي لربنا بس، أنا والله عمالة أدعيلك ربنا يريح قلبك ويسعدك، كرب وهيعدي متقلقش، ولو معداش أنا معاك أهو.
أصدق ما تفوهت به في حياتها أنها معه وهو أصدق ما مر على فؤاده المُتعب أنها بجواره لذا أبتسم بحنوٍ ولولا قدسية المكان لكان ضمها بين ذراعيه يحميها في كنفه ببراءة قلبها وطيبة روحها، لكن قبل أن يبدي أي رد فعلٍ وجد الشيخ “صـالح” يولج له في البهو الرخامي الواسع قبل الدرج وهتف بودٍ:.
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا “أيـوب”.
رد التحية لمعلمه وقد وقفت هي خلفه تختفي بدلًا من أن تُخجل نفسها وقد أخرج الرجل ورقة من جيب عباءته وهتف ببسمةٍ بشوشة:
_أتفضل يا سيدي، دي ورقة مختومة وتصريح إنك في المسجد هنا مؤذن ومُحفظ قرآن وإمام المسجد، ربنا ينصرك ويقويك ويثبتك على الطريق الصحيح ويرزقك بالصراط المُستقيم.
قفز قلب “أيـوب” بين أضلعه فرحًا وهو يلتقط منه الورقة يستبينها وقد أشرأبت هي برأسها كقطةٍ تستقر في رداء صاحبها حتى بدت بمظهرٍ لطيفٍ أكسبها رقة فوق رقتها وقد ربت الرجل فوق كتفه وهتف يحثه ويدعمه بقوله:
_المغرب فاضل عليه ربع ساعة، عاوز صوتك ينور تاني في الحارة والناس كلها تسمع صوتك في الآذان بدل صوت الإذاعة، عقبال ما ربنا يكتبهالك وتصلي في الحرم.
أنهى الرجل حديثه ثم تركه ورحل بعدما شكره “أيـوب” وقد وقفت هي في مواجهته فوجدته يبتسم لها بوجهٍ مشرقٍ وهو يقول بعاطفةٍ تغلبت عليه:
_مش قولتلك الحمدلله إن ربنا رزقني بيكِ؟ أنتِ والله العظيم جاية حياتي في وقتك بالظبط، شكرًا إنك معايا “قـمر” ويا أحلى “قـمر” في الدنيا كلها.
أبتسمت هي له بعينين مغرورقتين ثم ربتت على كفه وقالت بنبرةٍ مختنقة نتيجة تخمة مشاعرها المتضخمة نحوه:
_ربنا بيرزق الناس بناس تانية في وقت محدد علشان حكمته كدا، أنتَ جيتلي بالخير والرحمة، وأنا جيتلك بالود والونس، وإحنا الاتنين مع بعض وبنشد أيد بعض، أنتَ عملت خير كتير وتستاهل يتردلك أضعاف، عن إذنك علشان هتأخر على ماما.
أوزعته ببسمةٍ هادئة ثم رحلت فيما نظر هو في أثرها يتابعها حتى رحلت من أمامه فتنهد هو بعمقٍ وهتف جملته المعتادة وهو يتوجه نحو درج المسجد:
_يا صبر “أيـوب”.
__________________________________
<“لا أتصرف بإرادتي، والطواعية لم تكن مني”>
بعض الأمور تحدث رغمًا عن أنف صاحبها وعنوة عن نفسه المُجبرة، رُبما نحن نملك فعلًا ولدينا القرار بكل طواعيةً لكن رغمًا عنَّا قُدنا لأجل أفعالٍ أخرى قد تكون لا تمتنا من الأساس، فلا الفعل صدر منَّا ولا رد الفعل يُعبر عنَّا..
قوةٌ أكبر منه قادته للتحرك من المكان وترك موضعه ثم ألزمته أن يتحرك في مكان غير هذا، وقتها لم يعلم ما يتوجب عليه فعله لكن عقله وضع تحت غطاءٍ من لم يكشفه هو، لذا سحب متعلقاته ثم خرج من مكان عمله وولج سيارته وقادها خارج الحدود المفروضة عليه..
بعد مرور نصف ساعة بالتقريب جلس”إيـهاب” في مقر عمله يتابع بالهاتف تحضيرات الزفاف وعقد قران رفيقهم “سـراج” ثم تحضير البيت وتجهيزه لأجل الليلة المنتظرة وقد ولج له “سـراج” يهتف بتعجبٍ:
_هو إيه حوار إنكم ترجعولي الفلوس دا؟ معناه إيه؟.
تطلع إليه “إيـهاب” وأغلق هاتفه ثم جاوبه بثباتٍ:
_دي طلبات الحج، أمر إنك زيك زي ابنه وقال إن الليلة دي كلها عنده وكتب الكتاب بتاعك كمان عليه، علشان كدا اسأله هو أنا ماليش فيه، هو اللي قرر.
أبتسم له “سـراج” بسعادةٍ واضحة وقد شعر بشعورٍ غريب عليه حيث أن الماء المُعكر بينه وبين الآخر عاد لصفوه، وقد تذكر أمر رفيقه فأندفع يسأله بلهفةٍ:
_صح هو أخوك رايح فين؟ كنت بكلم “نـور” لقيته مشي في وشه وركب العربية وشكله كأن رايح يحارب، إيه العروسة عصبته؟ دي بشرة مهببة على دماغكم.
كان حديثه يغلب عليه السخرية فيما ساور القلق قلب “إيـهاب” ورجح أن شقيقه رُبما يكون شعر بالتعب فذهب للبيت ينل قسطًا من الراحة لكن هاتفه صدح برقم الشخص الذي يتولى مراقبة “إسـماعيل” فسقط قلبه بخوفٍ وخطف الهاتف كمن ينتظر نتيجة الإختبار ليجد الشاب هتف بحيرةٍ في أمره:
_لامؤاخذة يا “عـمهم” بس حصل حاجة غريبة، أخوك جه عند ملجأ بنات على الطريق في أول النزلة وأنا بصراحة مش فاهم علاقته إيه، بس واقف مستنيه قولت يمكن العربية عطلت هنا، بس هو نزل منها ودخل جوة.
توسعت عينا “إيـهاب” بهلعٍ وقد تخبط حاله ولم يجد ردًا مناسبًا حتى جذبه صوت مُحدثه فهتف بلهفةٍ قلقة للغاية:
_خليك متابعه زي ما أنتَ، ولو حصل حاجة بلغني.
أغلق الهاتف ثم جلس يشعر بالضياع والخوف على شقيقه فلو كان الأمر كما يظن هو من المؤكد ستصبح كارثة حتمية فوق رؤوسهم هو كعادته سوف يُجبر على آخذ صف شقيقه لينصفه على العالم؟ لكن بماذا يفكر وماذا يفعل الآخر؟..
___________________
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)