روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والثالث والخمسون 153 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة والثالث والخمسون 153 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والثالث والخمسون

رواية غوثهم البارت المائة والثالث والخمسون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والثالثة والخمسون

“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثامن وستون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
أعلم أني عاصيك ولكن..
ما عصيتُك إلا بشهوةٍ سرت في نفسي
وعزتك ما أفتئت على أحكامك
ولا أتعدى حدودك
وإنما نفسٌ جاهلة، وشيطان، ودنيا، وهوىٰ
وها قد كرعت مُرّها يا سيدي
وانطرحت على بابك يا سيدي
وإنما أنا صنعتك يا سيدي
وليس لي إلا أنت يا سيدي
_”الشيخ سمير مصطفى”
__________________________________
وما ذنب الطير في حُلمه بالطيرانِ خُفافًا؟…
ومن ذا الذي يلوم الطير على طيره والطيران من الأصلِ حقه المُكتسب؟ لمَّ أقنعوا الطير أن الطيران جريمة وأن الأجنحةِ سلاحًا عليه أن يُخفيه ويضعه في سريرته؟ وما ذنب الطير إن كانت السماء مُلبدةً بالغمام وهو يود أن يٕحلق عاليًا في سماءٍ صافية تلق به، ما ذنب الطير إن كانت الطيور على أشكالها تقع، وهو لم يجد من هُم على شاكلته؟ لمَّ غفل العالم عن حُرية الطير ولما تجاوزوا عن سجن الغَير؟ ألم يكن الطير يومًا رمزًا للسلام؟ لمَّ أصبح سلاحًا في كل حربٍ؟ لقد قيل في السابق ذات مرةٍ أن الطير موضعه فوق السحاب بعناق السماء، لكن يبدو أن الخطأ لم يصلهم حيث وقع الطير في قعر قاعٍ هوى به إلى سابع أرضٍ، ومهما يحاول أن يرتفع؛ يُؤلمه جناحه فيقع..
لكن رُبما.. رُبما تسطع الشمس من جديد، فتزول الغمام، وتظهر السحاب، والطير الذي سبق ووقع، يعلو للسماء وكأنه نَجمٌ وفي سماءٍ صافيةٍ سطع، رُبما ليس اليوم، وليس غدًا، لكن الطير سيعود لطالما كان حُرًا وليس مُقيدًا..
<“فقط رنة صوتٍ صدح، فأضاء القلب بشعاعٍ من نورٍ”>
لم تنتهِ الحكاية بعد..
النور سوف يظهر، الغمام سوف تُزال، العتمة ستتلاشى، الفراشات سوف تُحلق، الزهور سوف تزدهر، الأمل سوف يعود، والألم بالطبع سيموت، فلطالما القلب لازال به النبض، فالحلم لم يمُت بعد، وليس أي حُلمٍ، وإنما هو الحُلم في الحياة، والحياة هُنا مكمنها في أملٍ لم يبلغ منتهاه..
وقف في الخارج وقلبه بالداخل، فقط حائط هو ما يفصله عن عالمه وعن حياته بأكملها، يقف ملتاعًا بشوقٍ يصرخ به قلبه، ووجهه يعكس ذلك بصلابةٍ يُجيدها، عيناه ثابتة فوق باب الغرفة، ووجهه مرفوعٌ بشموخٍ والقلق يأكله بعد غياب النصف الآخر منه بداخل تلك الغرفة، وقف يتخيل الكثير والكثير ورأسه لم يسعفه، فكيف ستكون الضمة الأولى؟ وكيف ستكون التفاتته لقطعةٍ منه، وكيف يتقبل فكرة عدم فهمه لحديثه المخبوء بسراديب قلبه بعدما حفظ لأجله كل الكلام الذي لم ينطق به في السابق..؟
أتىٰ “يـوسف” من عمله وجاور الشباب و معهم “نَـعيم” الذي لمح حيرة “إيـهاب” فاقترب منه يجاوره ضاحكًا بوجهٍ باسمٍ ثم مسح فوق كتفه بحنوٍ وأضاف:
_بطل تخلي دماغك تلعب بيك، هتخرج يا سيدي لا هي أول ولا آخر اللي بيولدوا، سلمها لله وريح قلبك علشان يطمنك عليهم وترتاح بشوفتهم قصادك، أقولك؟ فكر هتسمي إيه بدل وقفتك دي.
تنهد “إيـهاب” بثقلٍ ومسح وجهه بكفيه ثم أغصب شفتيه على نصف بسمةٍ غير مكتملة تزامنًا مع قوله:
_اتفقنا لو بنت “مُـهرة” ولو ولد “أنـس” بس عاوزها هي تقوم بالسلامة، الدكتور قالي القيصري أحسن ليها علشان هي ضعيفة على الطبيعي، ماكناش عاملين حسابنا على كدا خالص.
توسعت بسمة الآخر ثم أضاف وكفه يُربت فوق ظهر الآخر:
_الحمدلله على كل حال، ربنا أراد كدا وقدر الفعل خلاص، بعدين مش يمكن القيصري دا يكون أصعب عليها ومتتحملهوش؟ روق بقى كلها شوية والدنيا تنور في وشك، أصل إحساس أول عيل دا ميتنسيش أبدًا.
وهو مُحق، فكيف ينسى المرء تلك اللحظة التي يلتقط فيها قطعة أخرى منه بصورةٍ مُغايرة ويتلقفها بين أحضانه لمرته الأولى؟ كيف يسنى أحلامًا ظل يُمني نفسه بها كثيرًا؟ كيف ينسى رجاء من تقبع بالداخل وهي تمسك بكفهِ وتتوسله؟ عاد حديثها يتردد في سمعه قبل يومين من هذا..
كان يجلس وهي بين ذراعيه بعد نوبة قيء وتعبٍ باغتها لينقلب صفو ليلتها وتنتهي بها باكيةً بين زراعيه من فرط الألم، حينها ظل يمسح فوق ذراعها ويضمها له بحنوٍ ثم سألها بأوج اهتمامه بها:
_أنتِ كويسة؟ أكلملك الدكتور يطمنا طيب ولا ننزله؟.
نفت ذلك برأسها وهي تُشدد ضمتها له ثم قالت بصوتٍ أقرب للبكاء:
_لأ أنا مش تعبانة، أنا عاوزاك أنتَ تفضل جنبي علشان خاطري، أنا عمالة أخاف كل ما افتكر إني لوحدي في الدنيا من غير أهل ولا حد خالص، أنتَ بس اللي بعتبره أهله وعيلتي كلها، الدكتورة خوفتني من الولادة أوي، قالتلي الأنيميا مبهدلاني وجسمي ضعيف، علشان خاطري خليك معايا ومتسبنيش، مش عاوزة أولد من غيرك، أنا هتطمن وأنتَ معايا.
حينها ضمها له أكثر ودثرها بالغطاء حينما وجد جسدها يرتجف بين الفنية والأخرىٰ، ثم لثم جبينها بحنوٍ وظل يُمرر أنامله فوق خصلاتها ويقوم بفرك مؤخرة منابت رأسها حتى وجدها تستكين من التشنج والتجمد اللذان اتضحا على جسدها، ثم استغل صفو تلك اللحظة وأضاف بنبرةٍ هادئة بثتها دفئًا بالغ الأثر:
_وأنا مش هسيبك خالص ساعتها، هتلاقيني قبل الكل واقف مستني لحظة خروجكم وأول واحد هياخدكم في حضنه، حتى لو في آخر الدنيا هجيلك لحد عندك، وإن شاء الله تولدي وأنا في البيت علشان أشيلك أنا وأحطك في العربية وأطير بيكِ، بس يا رب الطريق ميبقاش واقف على حظنا الفقر وتعمليها في العربية، هتبرىٰ منك ساعتها أنتِ واللي هتجيبيه.
ضحكت رغمًا عنها من مزاحه وتبسمت رغم العبوس الذي كان يتضح فوق معالم وجهها، وقد ازدادت بسمتها توسعًا حينما سحب فرشاة الشعر من فوق الجارور المجاور لها ثم مشط خصلاتها الثائرة وقام بجمعها في جديلة كبيرة وهي تراقبه بشغفٍ حتى غفيت بين ذراعيه..
خرج من شروده في تلك اللحظة على وقوف “يـوسف” بجواره وهو يُطمئنه بنظراته وماهي إلا لحظات قليلة مرت عقبتها البُشرى بظهور الممرضة له وهي تقول بفرحةٍ حماسية:
_ألف مبروك، ربنا كرمك وقومها بالسلامة وجابت بنت زي القمر، تتربى في عزك وخيرك يا رب وتفرح بيها وينوروا حياتك هما الاتنين في خيرك وهناك، فين البشارة بقى؟.
ابتهج وجهه وتزينت ملامحه بضحكةٍ واسعة وأول ما فعله كان عناقًا ارتمى به على “نَـعيم” وضمه بقوةٍ كأنه يقاسمه الفرحة والسعادة، بينما الآخر فظل يمسح فوق ظهره ثم قال بنبرةٍ ضاحكةٍ بها من الفرح الكثير الذي فشل هو في احتوائه:
_شوفت؟ ربنا يسعدك ويبارك فيها، أفرح يا واد.
والآخر ما عليه إلا الفرح خاصةً حينما أتى “إسماعيل” وضمه وكأن النصف يلتحم بالنصف والفرح أصبح بينهما، عناقٌ كانت الحياة هي أساسه، ولم تكن أي حياةٍ، وإنما هي حياة جديدة تُضاف لأيامهم التي تحتاج لمذاقٍ حلوٍ يُنسيهما طعم المُر، حياة ظهرت في بكاءٍ أقرب لبكاء هرة صغيرة، وصوتٌ أقرب للمواءِ وكأنها تُناديه كي يقترب ويضمها، قلبه يقسم له أنها تُناديه وتخبره أن اللوحة اكتلمت بظهور القطعة المنقوصة، وتلك وعلى ما يبدو أنها القطعة الأثمن في اللوحة، تلك هي القطعة المُلونة في لوحةٍ سوادءٍ مُظلمةٍ..
__________________________________
<“لا يهم متي كانت العودة، ما يُهم حقًا أنك تعود”>
مَن مِن بني البشر لم يُخطيء ثم يقوم ثم يقع؟
ومَن مِنا هُنا ولِد بريئًا وعاش كما هو بنفس نقائه؟ لطالما اضطررت لمحاربة لوث العالم فلن تستطع فعلها بدون أن تُلوث أنتَ أيضًا، ولكي تُخرج نفسك من الجحيم عليك أن تمر به، لكن الأمر في ذنوبٍ ولوثٍ وُسِمَ بهما اسم المرء، ولازال النقاء مخبوءًا في سريرته، أنفسنا والهوى والشيطان علينا، ونحن بين الذنوب لازِلنا عالقين..
كانت الزيارة مُفاجأة بشكلٍ لم يتوقعه “أيـوب” حينما أتى له “مُـنذر” وولج المسجد على استحياءٍ كأنه يخشى أن يكون ضيفًا في بيت الرحمن، جلس أمامه وعيناه تقطر بذنبٍ عظيمٍ جعل كتفيه ينحنيا للأسفل وكأن ذنوبه وآثامه أثقل منه هو، لاحظ “أيـوب” ذلك لكنه أضطر لإقامة الصلاة، ولحيرته في الأمر تعجب من عدم اقتراب الآخر من الصف كي يُقيم فرضه، وإنما جلس منزويًا يرى نفسه بعين قُبحٍ لا يُحق له أن يُجالس المتطهرين مثل هؤلاء..
أنهى “أيـوب” فرض المغرب وأنهى فرض العشاء ولازال “مُـنذر” يجلس منزويًا كأن بيت الرحمن كان له الأثر الأكبر عليه كي يستشعر ذنوبه، لذا تمم “أيـوب” على المسجد وتأكد من رحيل البقية ثم اقترب منه وتربع في جلسته ورسم بسمته البشوشة وقال مُرحبًا به:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا مبسوط إني شوفتك هنا في بيت ربنا، أنتَ رجعت الحارة تاني علشان كدا جيت هنا؟.
حرك رأسه نفيًا ثم أطلق تنهيدة مُثقلة بهمومٍ كُثِر ثم رفع عينيه الخجولتين وحاملتين ذنبًا عظيمًا حتى نكس رأسه وقال بخزيٍ:
_أنا لقيت الفيسبوك بتاعك ظاهرلي إمبارح، دخلت بالصدفة أدور عندك عادي من باب الفضول بس حسيت إني مش زي ما بدأت، قريت كلامك كله، لقيتك كاتب إن باب المسجد عنوان لكل تايه، حتى لو تايه في نفسه، ولقيتك كاتب كتير عن التوبة، بس هل دا معناه إن اللي زيي ينفع ييجي هنا؟.
ألقى السؤال بتيهٍ بدا جليًا في عينيه ونبرته، كان السؤال يُقر قبل أن يستفسر أن مثله لا يُحق له أن يكون هُنا بين المتطهرين، وقد لمح ذلك “أيـوب” فمد ذراعه يمسك كتف الآخر وكأنه يدعمه ثم قال بنبرةٍ هادئة ولم تنفك البسمة عن وجهه:
_بيوت ربنا مش حرام على حد يدخلها، طالما جيت هنا بنفسك يبقى نفسك وصلتك، بعدين مالك مكبر الذنب على نفسك ليه كدا ليه؟ ربنا سبحانه وتعالى يحب العبد اللحوح، وبيفرح بعودة العبد من تاني وهو تائب، بعدين المفروض متيأسش من رحمة ربنا، ربنا سبحانه وتعالى ﷻ قال في كتابه العزيز:
“قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ”
_ما أنتَ مش هتكون عنيد قدام كلام ربنا، النفس أمارة بالسوء والطريق بيشد، تلاقي نفسك تايه ونفسك تقرب وتروح وتزور بيته وفي النفس الوقت نفسك عمالة توقفك وتعطلك، وأنتَ تظلم نفسك بالبُعد عن ربنا، وتتجاحد عليه وتقول إن ذنوبك كتيرة، وربنا يوجه كلامه للعباد ويأمرهم بقوله “لا تقنطوا” يعني متيأسش من رحمة ربنا وتجحد غفرانه عليك يا عبد يا ضعيف، مين إحنا في الدنيا دي علشان نتجاحد؟ دا ربنا سبحانه بيقول “إن الله يغفر الذنوب جميعًا” يعني كل الذنوب، ليه بقى؟ لأنه الغفور الرحيم.
كلمات أيقظت ثورة التوبة بداخل قلبٍ وُضِعَ أسفل ركامٍ من الذنوب والآثام، بدأ قلبه يقوم من أسفل الرُكام وقد أندفع يسأله بصوتٍ امتلأ بالقهر كونه فعل ما لم يحط به رغبةً منه:
_حتى لو قاتل؟ المفروض إن القتل دا كَبيرة من الكبائر والكبائر دي ملهاش توبة، وأنا معملتش كدا مرة أو اتنين دول كتير، كتير لدرجة إني بطلت أنام، كلامك حلو بس هيسكني شوية مش أكتر، الذنب هيفضل ينزف جوايا.
بحديثه هذا فرغ فاه “أيـوب” لوهلةٍ فلم يكن بمقدور عقله أن يستعب ما قاله الآخر، لكنه أدرك رُشدهِ سريعًا فأجبر نفسه على بسمةٍ وقال بتأكيدٍ لما سبق وقاله مُسترشدًا بكتاب الله:
“إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ”
_يغفر الذنوب جميعًا دي مش من فراغ، دي إرادة ربنا وحكمه في الخلق والخلائق، بمعنى إن المغفرة درجات، فبدأت بالذنب الأصغر وربنا يغفره، ثم الأكبر وربنا يغفره، ثم الأكبر والأكبر وربنا يغفر للعباد، حتى قال ويغفر الذنوب جميعًا، المقصود بجميعًا يعني كل الذنوب، لطالما كانت التوبة نصوحة، لطالما قلب المؤمن انفطر وبكى لعدم صلاحه، فهو صالح، ليه ماسك في الذنب بس؟ وعامي عيونك عن مغفرة رب العباد؟.
وبنفس الأسلوب يتحدث وكأن الشيطان يُزين له تفكيره ويجعله تحت وطأة العمى الأكيد عن مغفرةٍ لم يفكر هو بها:
_بس مش القتل، مش القتل أكتر من مرة وكلهم قتلتهم بنفسي، صحيح كانوا يستاهلوا القتل والحرق كمان بس أنا اللي قتلتهم مش حد غيري، مش برضه من قتل يُقتل؟ أنا أكيد هتقتل، لو مش النهاردة ولو مش بكرة هتقتل.
وبنفس الهدوء واللباقة يرد الشيخ برصانةٍ:
_وهو مين فينا ضامن عمره؟ حد فينا عارف هيموت إمتى؟ هل أنا ضامن قدامك نفسي الخارج دا هيرجع تاني ولا لأ؟ هل عارف أنا هموت إمتى أنا أو غيري حتى؟ محدش فينا ضامن عمره، ما يمكن أموت قبلك وهيبقى دا عمري وقدري برضه.
ولأن النفس طاغية على نفسها وهي أقوى سجانًا يفرض سياجه على المرء اندفع بكل يأسٍ يرد عليه في مُجابهةٍ كلامية:
_بقولك قتل، أنتَ ليه مستهون بيه وبيا وباللي عملته؟.
_خلاص، خليك مقتنع إنك قاتل وذنوبك مش هتتغفر وعاند لحد ما ربنا يسترد أمانته من تاني وتقابله من غير توبة، عاوزني أقولك إيه يعني؟ أقولك خلاص أنتَ مذنب وعاصي وربنا مش هيغفرلك وأخليك على عماك، طالما أنتَ جاي هنا بتسأل ليه؟ عاوزني أضللك عن الحق؟ فيه أقوى من كلام ربنا أرد بيه عليك؟ بقولك ويغفر الذنوب جميعًا، ودا مش كلامي، دا كلام ربنا سبحانه وتعالى.
هكذا رد عليه “أيـوب” وكأنه يقف ندًا بندٍ أمام شيطانه ويأسه ثم قال بنبرةٍ أكثر هدوءًا واتزانًا عن سالفتها:
_سبب نزول الآية دي تحديدًا إن واللي جه في تفسير “الطبري” إن قوم من أهل الشِرك ردوا لمن يدعوهم إلى الإيمان بالله، كيف نؤمن وقد أشركنا وزنينا وقتلنا النفس التي حرم الله وربنا يُعد من فعل ذلك في النار، فما ينفعنا مع قد سبق وفعلناه؟ بيسألوا إيه اللي هينفعهم وقتها وهما قتلوا وزنوا وكفروا وأشركوا في عبادة الله؟ وجت الآية الكريمة من رب العالمين تحمل فيها مغفرة الذنوب جميعًا وبحسب التفسير فهي أيضًا مغفرةً للشرك بالله، وجه التأكيد لذلك بصفتي “إنه هو الغفور الرحيم” أي غافر الذنب كله..
بدأ يرتخي جسد “مُـنذر” ويرق قلبه بعيدًا عن الصدأ الذي غلف قلبه وجعله يتصلد ويتجمد، بدأت مشاعره تُنذره بشيءٍ آخر عليه لم يكن يعلمه، فهل عاصيٌ مثله تُحق له التوبة؟ نظراته صرخت بكل خوفٍ وكمدٍ فأتاه رد “أيـوب” مُتابعًا على ما فات وأخبره به:
_وعَنْ أبي سعيد سَعْد بْن مالك بِْنِ سنان الْخذري رضي الله عنه أَن نَبِيّ الله صَلى الله عليه وسلم قَـال:
((ڪان فيمـنْ ڪانَ قَبْلڪُم رَجُل قتل تسْعةً وتسْعين نفْـسًا، فسأل عن أعلم أهْل الأرض فدُل على راهب، فأتاةُ فقال:
إنَّهُ قتَل تسْعة وتسعين نفْسًا، فهلْ له منْ توبةٍ؟
فقال لا فقتلهُ، فكمل به مائةً ثمَّ سأل عن أعلم أهل الأرض،فدُلّ على رجل عالم فقال:
إنه قتل مائة نفسٍ فهل من توبةٍ؟ فقال نعمْ ومنٰ يحُولُ بينهُ وبين التوْبة؟ انطلقْ إلى أرْض كذا وكذا، فإن بــها أُنَـاسًا يعْبدون الله تعالى أعبد الله معهـُمْ، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سُوءٍ، فانطلق حتى إذا نصف الطريقُ أتاهُ الموت فاختصمتْ فيه ملائڪةْ الرّحمة وملائڪة العذاب، فقالتْ ملائڪة الرّحْمة: جاء تائبا مُقبلًا بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائڪة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قطُّ، فأتاهم ملكٌ في صورة آدمي فجعلوهُ بينه أي حڪمًا فقال: قيسوا بين الأرضين فإلى أيتهما ڪان أدنى فهُو لهُ، فقاسوا فوجدوه أدْنى إلى الأرض التي أراد فقبضتهُ ملائڪة الرحمة)) متفقٌ عليه
وفي رواية في الصحيح:
((فڪان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر، فجُعِل من أهلها)) وفي رواية في الصحيح: فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقربي وقال: قيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى أقرب بشبر فغفر لهُ وفي رواية
((فنأى بصدره نحوها)).
سرد القصة وظل التفسير مُبهمًا عن الآخر، وقد أضاف “أيـوب” بتفسيرٍ كي يُردف له أكثر عن المقصد المُبهم:
_راجل قتل ٩٩ مرة، وسأل عن أعلم أهل الأرض وسأله ينفع أتوب؟ قاله لأ مينفعش ليك توبة، راح قتله وكمل بيه الـ ١٠٠ وسأل عن أعلم أهل الأرض، فدلوه على راجل وراحله وسأله هل ينفع له توبة، قاله آه ينفع ومين يمنع عنك التوبة؟ وأمره إنه يمشي من أرضه لأنها ظالمة وفيها سوء، وأمره يروح لأراضي معينة فيها الناس بتعبد ربنا وأمره يفضل هناك يعبد ربنا معاهم، ووهو رايح في نص الطريق مات، وحصلت خصومة بين ملائكة الرحمة، وبين ملائكة العذاب، ملايكة الرحمة شافوه جاي ليهم تايب ومقبل على طريق ربنا، وملايكة العذاب شافوه مذنب ومعملش خير أبدًا، فجه ليهم ملك في صورة ابن آدم، وساعتها خلوه الحكم بينهم، الملك دا قالهم قيسوا الأرضين، واللي كان قريب منها فهو لها، ولما قاسوا وجدوه أقرب للأرض اللي ربنا أرادها له، وساعتها قبضتها ملائكة الرحمة، يعني ربنا أراد له التوبة، وفي رواية تانية قيل إنه كان أقرب للقرية الصالحة بشبر، فأمر ربنا للأرض الصالحة أن تقترب، وأمر الأخرى أن تبتعد، وقال قيسوا ما بينهم فوجدوه أقرب بشبرٍ فغفر الله له.
هُنا وانشقع النور في قلب “مُـنذر” فشعر كأنه يتلقى صدمات كهربية لإنعاش القلب الميت من جديد، فرغ فاهه وترك لسمعه الإنصات في كل حرفٍ يُقال، وجد عَبراته تنساب فوق الوجنتين كأنها خير دليلٍ على صلاحهِ، بكى وانتحب حتى صرخ بقهرٍ وعجزٍ عن تقبل حقيقته، كان الذنب أكبر من أن يتحمله، ورحمة الخالق أعظم من أن يستوعبها، هل ستقبل توبته إن فعل وتاب؟ هل سيكون كمن غفر له الخالق لقتل مئة نفسٍ؟ كان البكاء مِدرارًا والنفس هشة ضعيفة، شلالات انفجرت وأودت بثباتٍ شخصٍ ارتكن فوق العامود الرُخامي باكيًا ولسانه يُردد متضرعًا:
_يا رب… يا رب اقبلني وريحني.
حينها ابتسم له “أيـوب” ثم ربت فوق كتفه وهُنا صدح صوت الإذاعة في الموعد الذي سبق وحدده “أيـوب” وكان الابتهال بصوت “النقشبندي” بكلماتٍ جعلته ينشده ويعود برأسه والدمع يُلطخ وجهه، وكأنه يتحدث بلسان حاله قائلًا:
_”ياربُّ وإن عَظُمَت ذنوبي كَثْرةً
‏فقد علِمت أن عفوكَ أعظمُ
‏إن كان لا يرجُوك إلا محسنٌ
‏فبِمن يلُوذُ ويستجيرُ المجرمُ
‏أدعوك ربّي كما أُمرْت تضرّعًا
‏فإذا ردَدْت يديّ فمَن ذا يرحم ُ
‏مالي إليك وسيلةٌ إلا الرّجا
‏وجميلُ عطفِك ثمّ إني مسلمُ”
وهُنا سلم القلب بالأمر، رفع العقل حجاب عجزه عن الفهم، تقبلت النفس الأمر المُسلم به، والتوبة كُتِبَت له لأنه مسلمٌ، ولأن الخالق رحيمٌ، فنحن لم نكن يومًا لأنفسنا، وإنما نحن لله، فسفننا لا تجري كما تأتِ الرياح وإنما تجري الرياح بما شاء الإلٰهُ لها، و‏لله نحنُ وموجُ البحرِ والسفُنُ.
__________________________________
<“حياة جديدة من ذهبٍ تُضاف لأيام العُمر الصديء”>
رُبما وفي وقتٍ لاحقٍ يُكتب عن الوصول من بعد الهزائم..
سوف نسرد عن الحياة التي تمنيناها وفعلنا ما بوسعنا كي نصل لها، سنكتب عن أحلامٍ وُضِعَت في كتاب المُستحيلات ومن ثم أراد الخالق لها أن تتحقق وتصبح ملموسة بين الراحتين، حينها سنصبح كأول من استطاع الوصول للسماء كي يلمس نجومها..
غُرفة وردية اللون كانت مُريحة لعين الرآي، سعادة غامرة تسكن القلوب بسبب معجزةٍ قدرها الإله برحمته، وبسمة ارتياحٍ ارتسمت فوق الأوجه، ونظرة حانية تتبادل بين المُقل وكأن كل طرفٍ يشارك الآخر في فرحته، حياة سعيدة قادمة عليهما والسبب يكمن في قلبٍ وضع بداخل جسدٍ بحجم قبضة اليد…
كانت الصغيرة فوق صدر أمها التي حملتها أولًا بعد الإفاقة ووجدت قلبها يحيا من جديدٍ كأنه عاد للحياة، قطعة صغيرة منها وضعت بين كفيها وهي عليها أن ترعاها؟ هل تحملت الأشهر الماضية وما فات عليها كله لأجل تلك الصغيرة النائمة؟ ملامح صغيرة لازالت مُبهمة، جسدٌ أحمرٌ وكأن الدماء لازالت تستوعب عملها في هذا الجسد الصغير، قبضة كفٍ صغيرة مرتخية في نومةٍ هادئة، أهداب رقيقة مُغلقة بارتخاءٍ كأنها ستارٌ خلفه تخبأت الأقمار…
نزل الدمع من عينيها يلامس قبضة الصغيرة فلمستها هي بحنوٍ ثم لثمته برقةٍ، ظلت تُلثمها مرة بعد مرة ثم أضافت بصوتٍ باكٍ:
_أوعدك إني هتكوني معايا في أمان، ولو حصل وربنا استرد أمانته فأنا سايبة ليكِ أحسن راجل في الدنيا كلها، ربنا يجعل حظك ونصيبك أحسن مني مليون مرة، ويقدرني وأكون ليكِ أم تستاهل وجودك في حياتها.
والوعد صادقٌ، هي ستفعل ما بوسعها كي تؤمن حياة ابنتها، ستحارب لأجلها إن تطلب الأمر، سوف تحفظها بين الجفن والرموش كي لا يَـمُسها ضُرٌ، وقد وقف “إيـهاب” يراقبها بعينين لامعتين وبسمة عذبة تشق وجهه، وحتى الآن لم يحتضن ابنته، لم يحملها ولم يقترب منها، وقد حدثه “يـوسف” بهدوءٍ على عكس مراوغته المعتادة:
_مش هتشيل بنتك؟.
التفت له بحيرةٍ ثم حرك رأسه بعشوائيةٍ كأنه لا يدري ماذا يفعل، وهنا تدخل “نَـعيم” يمازحه بقوله ضاحكًا:
_يا شيخ؟ مش دي اللي كنت مستني تشوفها علشان تشيلها؟ روح شيل المُهرة بتاعتك وسمي الله، أنا شيلتها قبلك وسميت الله، سمِّ الله وشيل وأحمد ربك على الرزق.
أقترب منها “إيـهاب” بخطىٰ مُترددة ثم مد كفيه بخوفٍ لزوجته التي ابتسمت له ثم وضعتها بين كفيه وهي تذكر البسملة وتُسبح باسم خالقها، أما هو فيبدو أنه لامس الكهرباء بالخطأ حتى أقشعر بدنه وارتخى جسده ما إن لامس ابنته، فأغمض عينيه ورفعها لرأسه يستنشق رائحتها التي أوقعته أسيرًا بها منذ وهلته الأولى…
رائحة طفلٍ صغيرٍ يشمها لمرته الأولى في حياته، حركة كفها بدأت تلوح كأنها تُطالب بالحريةِ، صوت مواءٍ يماثل مواء هرة حديثة الولادة، وهو يُتابعها بعجبٍ في أمره، تلك هي مرته الأولى في حمل طفلٍ صغيرٍ بهذا الحجم ولحسن حظه أن تلك المرة تكون خاصة بابنته هو، أغمض عينيه ما إن عزف صوتها أﻧدر الألحان في سمعه، وخُيلَ له الكثير والكثير…
رأى نفسه يركض لاهثًا في عمر الحاديةِ عشر ويلتفت خلفه خوفًا من الظلام حينما قتل أبيه وركض، صوت أنفاسه تكرر في مسمعه، الظلام عاد وخيم على عينيه ومن قبلها توغل لقلبه، تألمت ساقاه من الركض بغير جدوىٰ، الطيور فوق رأسه لم تصل للسماء بسبب الغمام الذي غطى السماء وطوىٰ صفائها بين ظُلمته، وفجأةً فُتِح أمامه بابٌ، بابٌ ما إن أشرأب برأسه عليه وجد الشمس تمتد بآشعتها ممسكة معها الدفء نحوه كي تُغلف صقيع أيامه، وجد نفسه يقف على أعتاب مدينةٍ يملؤها الربيع وهو لتوه هرب من عاصفةٍ دامية كانت ستهلكه حيًا، وما بين صبي الحادية عشر وبين رجلٍ تخطى عامه الثلاثين لازال القلب صغيرًا يهفو خلف الفرح، وفرحه بين يديه الآن، القلب يحتضن القلب، والعين تراقب العين، والكفين يضمان عالمًا بأكمله…
رق قلبه وهو يحملها ورفعها يُلثم جبينها بعبراتٍ رغمًا عنه وعن أنفه ترقرقت في عينيه، فوأدها في مهدها حينما رفع رأسه على سؤال “آيـات” الذي لم يفكر هو به:
_اللهم بارك وربنا يجعلها خير الذرية الصالحة، هتسموها إيـه بقى؟ علشان بس لما أشيلها أقول اسمها وأتلذذ بيه.
كاد أن يُخبرها هو بالاسم لكن صوت “سمارة” الخجول قطع عليه سُبل الحديث حينما تدخلت تهتف بلهفةٍ مصطبغة بالخجل:
_هنسميها “دهـب” على اسم حماتي.
هكذا أخبرتهم عن مفاجأةٍ كانت تكتمها في سريرتها لأجله هو بالأخص، لأجل رؤية تلك اللمعة الساحرة في عينيه وهو يُطالعها بدهشةٍ وصدمةٍ جلية فوق ملامحه، لم يُخيل له أن تفعلها هي وتدهشه بفعلٍ جعل قلبه يُحلق فوق السماء عاليًا، تواصلت المُقل معًا وهي تبتسم له بحبٍ بالغٍ بينما هو فطالعها ممتنًا لفعلها وقد نطق “إسماعيل” ممتنًا لها ولفعلها الذي يبدو أن أثره عليه لم يختلف عن أثر شقيقه:
_طول عمرك بنت أصول يا “سمارة” واللي عملتيه دا فوق راسنا كلنا، “دهـب” لو كانت عايشة أكيد كانت فرحت أوي بيكِ، كان طول عمرها كان نفسها في بنت وأكيد مكانتش هتيجي البنت دي أعز منك أنتِ عندها، ربنا يبارك فيكِ وفي “دهـب” الصغيرة.
أومأت له بصمتٍ وطالعت زوجها من جديد تستبين رد فعله الذي طال صمته فوجدته يقترب منها ثم لثم جبينها أمام الجميع مرة، وثانية، وثالثة وما إن تواصلت النظرات ببعضها شكرها بصوتٍ متباين المشاعر:
_شكرًا يا بنت الأصول، ربنا يردك ليا من تاني بخير.
لمعت العبرات في عينيها ومدت كفيها له فأعطاها صغيرته وحينها لثمت هي جبينها ثم داعبت وجنتها الناعمة وقالت بعدما تنهدت بعمقٍ:
_يا رب تبقى زي “دهـب” ويقدرني على تربيتها زي ما سبق و “دهـب” سابت رجالة وربنا عوضني بيهم، واحد كان ونعم الأخ وعمره ما قصر معايا، والتاني بقالي ليا الدنيا كلها بحالها، وهي هتكون ونسي في الدنيا كلها.
وقف “يـوسف” يراقب الصغيرة بين ذراعي أمها وهو يبتسم بحنوٍ ثم أقترب من “إيـهاب” وأشار له فأعطاها له الآخر له مبتسم الوجه، وكانت تلك مرته الثانية في حمل فتاةٍ صغيرة في عمر أيامٍ معدودات، وفي المرتين سُرِقَ قلبه والآن قام بتقبيل جبينها، وقد وقف بجواره “إسماعيل” يمسح فوق كتفه ثم قال متمنيًا لأجلهِ:
_عقبال ما ربنا يكرمك وتشيل عوضك وتفرح بعيالك.
رفع له “يـوسف” عينيه بتيهٍ ثم ردد خلفه مؤمنًا وآملًا في الوصول لتلك اللحظة التي يحمل فيها صغيرًا منه لكن هل يُعقل أن مريضًا مثله ينجب صغيرًا ويترعرع في أمانٍ؟ بالطبع هي أمنية وستظل في طور الأمنيات..
__________________________________
<“لطالما كنتِ شريكة العُمر، شاركيني الحُلم”>
لا يستطع إنسانٌ فوق الأرض أن يحما أحلامه وحده..
الرحلة تحتاج لشريكٍ كي يُقاسمها كل شيءٍ بحلوه ويواسيه في مُره، لا يوجد منا من يقدر على العيش بمفرده، حتى في تلك اللحظات التي نختارها كي نلوذ بأنفسنا بعيدًا عن العالم سوف نحتاج لمن نخبره أننا في مكانٍ ما، يبعد عن أطراف المدينة نسكن وحدنا ونحتاج لشبيهٍ يُشاركنا الحُلم…
الليل ازداد عتمةً وبدأ السكون يظهر خاصةً مع توديع الأيام الشتوية لهم، وكأنها قبل الوداع تغدقهم بلحظاتٍ كي لا تُنسى، وهي تجلس في انتظاره، “يـوسف” الغريب الذي لم تعهده هكذا فيما سبق، لقد تفاجأت به وبتغيراته وتقلباته التي تتبدل في طرفة عينٍ، ففي المساء قضى الليل بين ذراعيها حتى تململ في نومته وما إن استفاق وأدرك أنه ينام فوق الأرض وهي معه، ظل يُكرر أسفه ويُبدي ندمه ثم تركها وولج الغرفة الأخرى، التزم الصمت في الصباح، رد تحيتها بوجهٍ مقتضبٍ وذهب لعمله في صمتٍ… وهي رهينة الانتظار ولم يعد بعد.
بدأ القلق ينهش قلبها والأفكار تأخذ المنحنى الأخطر في الفكر وهي تفكر فيما قد يكون أصابه وهو بعيدٌ عنها؟ هل يمكن أن يتشاجر مع أحدهم؟ لقد عرفت صدفةً أن “سمارة” وضعت طفلتها الأولى في مهدها عن طريق “ضُـحى” التي التقطت لإصبعها صورةً بين أنامل الصغيرة، جلست تنتظره والنوم هجرها لتجلس تتابع الساعة المُعلقة وقلبها يتضرع أن يعود سالمًا، وكأن القلب رسولٌ للقلب فأتي..
ولج الشقة بهدوءٍ تامٍ فوجدها تقف أمامه تتنهد بعمقٍ كونها رآته أمامها بكل خيرٍ ثم ابتسمت له ببهوتٍ وهي تقول:
_عن إذنك أسخنلك تاكل، ولا مش هتاكل النهاردة كمان؟.
يبدو سؤالًا وفي مضمونه حمل عتابًا، وقد أومأ لها موافقًا فتحركت هي من أمامه بخطواتٍ هادئة وهو يتابعها مُتفرسًا ثم ولج خلفها بصمتٍ واستند على حافة الباب يضم ذراعيه مُربعًا أياهما عند صدره وهي تتحرك بخفةٍ في المطبخ تقوم بوضع الطعام فوق الموقد الغازي، وقد وقف خلفها ثم مال برأسه يُلثم وجنتها وما إن أجفل جسدها فجأةً ضم منكبيها بذراعيه ثم نطق بنبرةٍ رخيمة:
_حقك عليا، متزعليش مني على الكام يوم اللي فاتوا دول بس أنا ماكنتش عارف مالي، ومكانش قصدي أزعلك، ومش بخاطري أخسرك، أنا ما صدقت لقيتك يا “عـهد”.
التفتت هي له برأسها ثم أطلقت تنهيدة قوية وقالت بلهفةٍ توضح له حقيقة الأمر المخبوءة عنه ولم يكشفها هو:
_أنا مش زعلانة منك، أنا زعلانة علشانك ودي تفرق كتير، ليه كل دا يعني؟ مفيش حاجة تستاهل إنك تزعل نفسك وتتوه للدرجة دي، أنا بقالي حوالي أربع أيام قلقانة عليك، حاسة إني مش عاوزاك تنزل علشان خايفة تضر نفسك برة، متعصب علطول ومش طايق حد، عارفة إننا يمكن اتسرعنا إننا أتجوزنا من غير ما حد فينا يتعالج ويوصل للسلام النفسي، بس صدقني لو مش هنكون علاج لبعض، بلاش نكون وجع لبعض، قولي مالك وأنا معاك، مش دي كلمتك؟.
ظل يتجول بعينيه في وجهها الصبوح وما إن تلاقت عيناه بعينيها ضمها له من جديد بين ذراعيه ثم مسح فوق ظهرها ونطق بحيرةٍ وتيهٍ:
_الموجوع من نفسه ميعرفش ماله، والتايه في دماغه ملهوش سِكة توصله، بس أنا عارف سكتي وجيتلك أنتِ، متبخليش عليا بقى بساعتين حلوين عشمان فيهم من الدنيا معاكِ أنتِ، ماشي؟.
أومأت له بقلة حيلة وهي تبتسم له ثم تجرأت هي ولثمت وجنته تلك المرة بفرحٍ ثم أمرته بمزاحٍ كأنها تغاضت عن كل شيءٍ فعله أو ربما عن قصدٍ تناست ما حدث من إطرادٍ في حياتهما:
_روح غير هدومك وأنا هحضر الأكل لينا مع بعض.
وبالفعل هي دقائق وجلسا سويًا يتناولان الطعام وحقًا أجزمت أنه عاد لنفسه القديمة، عاد باسم الوجه وضاحك العينين ويهتم بها ويسألها عن ما فعلته في يومها، وهي بكل حماسٍ بدأت تتجاوب معه وتخبره وتشاركه الحديث لينتهي الأمر بها بين ذراعيه فوق الفراش وهو يضمها له بحمايةٍ والصمت يرنو بينهما…
لحظات صمت مرت عليهما قطعتها هي حينما أندفعت للأمام تقول بضجرٍ من صمته:
_كفاية سكوت بقى، قولي عملت إيه النهاردة؟.
أعادها لسيرتها الأولى بين ذراعيه ثم تنهد بقوةٍ وقال ببعض الملل يخبرها عن روتينٍ ملولٍ:
_عادي، روحت الشغل أشوف أخرتها في المشكلة اللي المفروض حد يسافر يحلها، وعملت اجتماع ممل ورخم بس خلصته، بعدها روحت الشركة علشان “عُـدي” كان محتاجني معاه، بعدها طلعت على المستشفى أقف مع “إيـهاب” وشيلت “دهـب” وبوستها كمان، بس هنروح نبارك ليهم سوا علشان نجيب ليهم هدية حلوة كدا.
أومأت له موافقةً ثم التفتت له برأسها تخبره عن حُلمها البريء في تكوين أسرةٍ كما فعل والدها:
_طول عمري كان نفسي يكون عندي أولاد ويكونوا صحابي زي ماما كدا، نكون قريبين من بعض وأنا وهما نتشارك كل اللحظات سوا، ونفسي كمان يكون عندي ولد ويكون صاحبي وأخويا وأبني، وبنوتة تكون شبهي وأفضل أدلع فيها وفي لبسها، بحب الأطفال أوي رغم إنهم مسئولية علينا.
رفع حاجبيه مُستنكرًا ثم ربت فوق رأسها بسخريةٍ تزامنًا مع قوله المتهكم على وضعٍ فُرِضَ عليهما:
_طب نامي يا عسولة، نامي وعدي ليلتك على خير دا أنا بحضنك بالعافية أصلًا، قال عيال قال، هشوفهم إمتى دول؟.
سحبت الوسادة من خلفها ثم ضربته في وجهه فجأةً دون أن تُمهد له فعلها وحينها توسعت عيناه لكنها لم ترضخ له، وإنما رسمت الشر فوق ملامحها ورفعت أحد حاجبيها فوجدته فجأةً يجذبها نحوه ثم سألها بشرٍ:
_هو سؤال واحد، أنتِ قد اللي عملتيه دا؟.
أومأت بثقةٍ وهي تضحك بغرورٍ جعله يتعجب منها ومما تفعله تلك المُذهلة التي لازالت تتلاعب به بأقل رد فعلٍ يصدر عنها وحينها ضحك رغمًا عنه ثم ضمها له وقال بقلة حيلة:
_أمري لله علشان خاطر عيونك نعديها.
ضحكت بسعادةٍ واستكانت فوق صدره ثم تنهدت بقوةٍ بينما هو مد ذراعه يضع الهاتف بجواره ثم ضمها بذراعه الآخر وفي طرفة عينٍ ودون أن تنتبه له قام بسكب المياه في ظهرها حتى صرخت هي وتلوت في جلستها بجواره فوجدته يضحك ضحكة رنانة تردد صداها في الغرفةِ شامتًا بها وهي لأجل الحرب التي بدأها هو قامت بسكب البقية فوق رأسه هو بُغتةً لتدور حرب النظرات بينهما في صمتٍ وماهي إلا ثوانٍ وأنفجرا سويًا بضحكاتٍ عالية كانت مُصادقةً لليلتهم خاصةً حينما ضمها له ولثم جبينها وكأن العالم يعهد معه هُدنة ودية لعله يُرحم من بعد ما مر عليه.
__________________________________
<“فرحٌ جديدٌ أتى كي يزيل معه كل حزنٍ سبقه”>
وفي الليل أسرارٌ مخبوءة لا تنكشف بطلوع النهار..
وإنما هي تبقى في سريرة صاحبها الذي يستأنس بها ليلّا ثم يطويها في سردابٍ مفتوحٍ بداخل العقل كي يتردد عليها بحريةٍ تسمح له بتفنيد كل ذكرىٰ ثم يعود ويُغلق عليها من جديد وفي كل ليلةٍ تمر يأخذ من الذكريات صديقًا…
البيت الذي يزره الفرح لن يزره النوم..
وتلك هي البداية فقط، فالعائلة بأكملها تجلس مع بعضها بعد ذهاب آثاث العروس لبيت زوجها واجتماعهم في مسقط رأس العائلة بأكملها، وتلك المرة “نِـهال” تجلس برأسٍ مرفوعٍ ووجهٍ ضاحكٍ للجميع، وكأنها عادت لأيام صباها، فبعدما قضت قُرابة العامين حبيسة غُرفتها منزوية عنهم، عادت تجالسهم وتضحك وتبتسم وتمازح وكأن أحدهم أتى بالحياة وزرعها في أرضها..
وفي الخارج قام “مـهدي” والد “حـور” بالتحرك من بين رجال العائلة ثم ارتكن بجسده فوق الدرج وأخرج سيجاره يدخنه خفيةً بعيدًا عنهم وقد أتى “إيـاد” وجاوره ثم قال بمللٍ:
_خرجت ليه؟ مش عارف أقعد معاهم جوة.
التفت له ثم قال بنبرةٍ ضاحكة:
_خرجت علشان أشرب سيجارة، متقولش لحد منهم جوة بقى علشان هيدوني درس في الأخلاق، خليني أشربها بمزاج.
تعجب منه “إيـاد” وسأله بنبرةٍ ضاحكة تماثل خاصته:
_طب وأنتَ بتشرب سجاير هنا ليه؟.
_علشان معنديش أخلاق.
جاوبه بتلك الجملة الممازحة التي جعلت “إيـاد” يضحك رغمًا عنه وشاركه الآخر الضحك ثم تنهد بقوةٍ وقال:
_بشربها هنا علشان دماغي صدعت منهم جوة، رغايين ودماغي وجعتني ولولا إني عندي هم زي الهم دا كان زماني مروح بيتي، بس أنا وش فقر بقى نعمل إيه، أنتَ بقى خرجت ليه؟.
حرك كتفيه ببساطةٍ ثم قال بصراحةٍ بعدما زفر بقوةٍ:
_علشان مش واخد عليهم جوة، عيال طنط “نـهاد” دول عمالين يبصولي وأنا قاعد جنب جدهم، ومامتهم كل شوية تبصلي وأنا قاعد جنب ماما، بصراحة مش حاببهم، علشان كدا جيت أقعد معاك هنا، بس أنتَ ليه مش بتحبهم؟.
ضحك له “مـهدي” ثم جاوبه بنبرةٍ هادئة:
_علشان كلهم مش بيحبوني هنا، لما جيت أتجوز “نـوال” كنت لسه مش معايا فلوس كتير زيهم وكنت بحبها أوي، كنت بتمناها هي وبس، علشان بيتي برضه صعب ولوحدي هناك، فضلت أتقدم وأترفض وأتقدم وأترفض، وجت “نِـهاد” الكبيرة دي رفضت وخلت أبوها يرفضني علشان شقتي في بيت العيلة، ومن ساعتها وأنا أفقرهم وأقلهم وكل شوية يفضلوا يسألوني عن حياتي وظروفي كأني مش لاقي آكل، فعلشان كدا مش بقعد معاهم، ودي بالذات مش بحبها.
تفهم “إيـاد” سبب حيرته ومشاعره المضطربة فتنهد بقوةٍ ثم قال بحيرةٍ من تدخل الناس بشئون غيرهم:
_هما ليه الناس بتتدخل في حياة الناس التانية؟ بابا علطول بيقولي إن الإنسان المفروض يخليه في نفسه وبس، وملهوش دعوة بحياة غيره، كل واحد فينا عنده حياة وظروف ومشاكل ومينفعش حد يتدخل ويتحكم في حاجة متخصهوش، أنا بتخنق من الناس كلهم، بابا علطلول يقولي لو كل واحد خلاه في خيبته وركز فيها مكناش سمعنا عن المواكيس.
ضحك له “مهدي” ثم قام بإلقاء سيجاره بطول ذراعه ثم التفت حوله وقال بنبرةٍ هامسة:
_بقولك إيه تعالى معايا تحت ننزل نجيب عصير لينا ونتمشى شوية بدل قعدة البيت اللي يجيب اكتئاب دا.
وبالفعل تحركا سويًا مع بعضهما من البيت وكأنهما رفيقان منذ زمنٍ بعيدٍ، علاقة وُلِدتَ بينهما وكانت الألفة هي أسمى صفاتها، قضيا وقتهم سويًا ثم عاد الصغير لأمه يستقر بين ذراعيها فوق الفراش وهي تضمه كأنه آخر الأمال لها هُنا، مسحت فوق خصلاته الناعمة وضمته لعناقها أكثر وبدأت تغفو هي الأخرىٰ بجواره وفجأة تسللت رائحة عطره لأنفها..
شعرت به يُلثم وجنتها ويُربت فوق ذراع ابنه فانتفضت من محلها وحينها ابتسم “أيـهم” بقلة حيلة ثم قال بيأسٍ:
_للأسف مش عارف أنام وأنتوا بعيد، السرير دا هيكفينا؟.
ضحكت هي مثل البلهاء رغمًا عنها ثم خرجت من الفراش وارتمت عليه وهي تضحك بسعادةٍ بالغة ثم قالت بحماسٍ لم تقو على احتوائه أمام مفاجأته لها:
_مقولتش ليه إنك هتيجي تبات هنا؟ دا وقت مفاجآت؟.
احتواها بين ذراعيه ثم لثم جبينها وتنهد بقوةٍ ثم جاوبها بقوله الهاديء:
_قولت أعملها حركة رومانسية كدا وأتشاقى، كان نفسي أطلعلك على شجرة بس خوفت بصراحة حد من العتاولة اللي تحت دول يعملها فيا وينشني طوبة، دخلت البيت من بابه بأدبي، بس إيه رأيك؟ أنفع رومانسي يا “هولا”؟.
ضحكت عليه بملء فاهها ثم ضمت جسدها له أكثر وهي تقول بنبرةٍ اغدقتها السعادة اللامتناهية:
_تنفع أحسن حد في كل حاجة عمومًا.
وبعد الحديث أهدته قُبلة بسيطة فوق وجنته جعلته يبتسم لها ثم تحرك نحو ابنه يحمله بين ذراعيه وارتكن فوق الفراش بجسده وهو يضم ابنه الذي تغيب عنه لأول مرةٍ منذ أن وُلِدَ، جاورته هي فوجدته يضمها له بالذراع الآخر ثم تنهد مطولًا وقال بثباتٍ:
_جربت إمبارح أنام من غيركم بس معرفتش، البيت كان رخم أوي والشقة متتسكنش وأنتم فيها، قولت مفرقتش النهاردة من بكرة وجيت، بس الأول عرفت والدك حاجة زي دي وإني هاجي ولقيته مرحب بيا أوي، الغريب إنه كل شوية يشكرني، ليه يعني؟.
_علشان كل شوية يشوفني بضحك وأهزر معاهم ورقصت مع البنات كمان ودي أول مرة من سنين يشوفني مبسوطة كدا، ولما سألني قولتله إن أنا مع الشخص الصح.
هكذا جاوبته وهي تستعد للنوم فوجدته يرمقها بخبثٍ وهو يسألها بعتابٍ ألبسه رداء الجدية المُفرطة:
_يعني مش عيب عليكِ؟ ترقصي هنا مع البنات وسيباني أنا آهاتي لوحدي هناك؟ طب كنتِ كلميني كنت جيت حطيت التقييم بتاعي.
لكزته في كتفه وهي تخفي وجهها في ذراعه بينما هو ضحك رغمًا عنه ثم ضمها لصدره بجوار ابنه الذي وضع بينهما وكأنه يطرد ماضيه بحاضره، هو رجلٌ ذو طابع عملي، لن يُجديه البكاء على اللبن المسكوب نفعًا وإنما عليه أن يضحك في وجه ماضيه مُغيظًا إياه بحاضره المُنعمِ وبما اكتسب من غنائمٍ أسفرت عنها حربه مع الحياة..
__________________________________
<“أهلًا بفرحٍ كان ينتظره البيت بكل شغفه”>
ولأن الانتظار يأكل في الفرد أكلًا..
فإذا أتانا ما ننتظره نستمسك فيه حينها بكل طاقتنا كأننا نراه لمرتنا الأخيرة، فلطالما كان الإنتظار قاتلًا، فإن مجيء ما ننتظر يُعيد لنا الحياة..
في اليوم التالي كان البيت يتجهز لعودة الابنة والأم معها، لحظات جديدة سوف يشهدها هذا البيت بدخول الضيفة الجديدة، التي أتت بفرحٍ وبشارة الخير كما سبق وقال “مُـحي” أن مجيئها مجيء الخير لحياتهم جميعًا، وقد عاد “إيـهاب” يحملها بين ذراعيه وزوجته بجواره تستند على “آيـات” التي كانت خير رفيقةٍ لها، حالة شجنٍ ملأت البيت وقد اقترب منهم “نَـعيم” وحمل الصغيرة فوق ذراعيه، حملها وهو يهديها البسمة العذبة فوق وجهه ويُراقب دقة الملامح الصغيرة ويُمعن عينيه في أصغر تفاصيلها…
جلس على المقعد ثم قام بعدلها فوق ذراعيها وبخفةٍ مال عليها يُلثم جبينها ثم قال بنبرةٍ ضاحكة يُغازلها بصراحةٍ:
_أنتِ هتبقي هنا حبيبة الكل، نور البيت وحبيبة قلوبنا كلنا، البيت دا كان مستنيكِ علشان الفرح يكمل بيكِ ويزوره، أنا جدك “نَـعيم” وأنتِ “دهـب” الأصيلة وأجمل ما في الدنيا.
شاهده الجميع مبتسمين وفارحين وقد أتت “چـودي” لتوها ركضًا إليه ثم قالت بنبرةٍ ضاحكة تشاكسه:
_على فكرة بقى أنا هنا أكبر منها.
رفع رأسه لها ثم فتح ذراعه الآخر فارتكنت هي عليه ثم اقتربت من الصغيرة تُلثمها ثم قالت بضحكةٍ واسعة:
_شكلها حلو أوي، جميلة زي مامتها.
ومن وسط الأحاديث انتشرت الضحكات وقد ولج “سـراج” لهم ومعه زوجته التي لازالت مشدوهةً بسبب موت “شـهد” وهذا الأمر الذي أصاب قلبها بحزنٍ بالغٍ ويبدو أنها لن تتخطاه، فمهما كان مضمون الأمر ستظل تلك رفيقتها الأولىٰ وأول من عرفت من خلالها معنى أن يملك المرء صديقًا حتى ولو كان خائنًا، ويبدو أن انتحارها هو المُفجع وليس أمر فقدانها بذاته…
في الخارج وقف “مُـنذر” يتحدث مع “بـاسم” الذي بدا عليه الغضب جليًا خاصةً وهو يصرخ فيه بقهرٍ وصوتٍ عالٍ كونه عجز عن إيجاد حلٍ في هذا الأمر:
_متقوليش أهدا دي وأنتَ عارف إنها بتعصبني، قولتلي خليك متابع وتابعت وياريتني ما عملت كدا، البنات في الملجأ بيستخدموهم لتصوير مقاطع إباحية وبيستغلوا سنهم الصغير، وواضح إن العيال اللي هناك متهددة أو حد مخوفهم، هتشوف أنتَ صرفة ولا أشوف أنا؟ بس لو أتصرفت أنا هخرب الدنيا فوق دماغ الكل.
حاول “مُـنذر” أن يُهديء من روع الآخر فأتاه بقولٍ:
_ولآخر مرة هقولك ياريت تهدا بجد، عارف إن الوضع زفت وحرج ودي حاجة تخطت كل تفكيرنا بس الهمجية دي مش حل، على الأقل عاوزين دليل، بس قولي مين مدير الدار وابعتلي تفاصيله كلها.
اندفع الآخر يهتف بحنقٍ بالغٍ ونيرانه اندلعت في صوته:
_البيه دا مسافر أسبوع وراه مؤتمر تبع حقوق الطفل، شوفت بقى البجاحة وقلة الضمير؟ فيه بت كدا مساعدة معاه هي اللي ماسكة الدار اليومين دول لحد ماهو يتنيل يرجع، ومش دا اللي معصبني، اللي معصبني الكلام اللي مكتوب عن “حمزة” إنه كان جاسوس ومتأمر على وطنه وخاين، بقى دي آخرتها يعني؟ خاين؟ دا لو عايش كان مات بقهرته، ولا اللي حصل في “رهـف”؟ دا لا يمكن يعدي، دي كانت روحه كلها، إزاي يحصل كدا؟ إزاي أفضل عايش عمري كله مقهور في مكان المفروض عليا أفديه بروحي؟.
والروح هُنا معطوبة والجرح يتوسطها،
فبأي روحٍ يفدي الإنسان وطنه،
ووطنه نفسه هو من يُغربه عنه؟
وبأي طاقةٍ يسعى كي يُطهر المدائن وهي بنفسها تقوم بطرده خارج حدودها؟وبأي روحٍ يُناضل المرء وفاهه مكتومٌ، وبأي جناحين يُرفرف الطير وقلبه مكسورٌ؟.
عجز “مُـنذر” عن الرد ولم يجد جوابًا كي يناوله للآخر ويُسكته به فسكت هو، سكت لانه يعلم أن حديثه لن يُسفر عن أي شيءٍ إلا مجرد كلماتٍ لن تُجديه نفعًا وإنما ستكون كما المادة الكحولية فوق جرحٍ لازال حيًا، وفي تلك اللحظة وصلت “فُـلة” أمامه وترجلت من سيارتها فتابعها هو بعينيه، حتى وجدها تقترب منه ببسمةٍ بشوشة فطرأت بباله فكرة جعلته يرسم الثبات فوق وجهه وما إن أتت سألها:
_تحبي تعملي خير من نوع خاص جدًا؟.
ضيقت جفونها له بريبةٍ من سؤاله وما إن وجدت نظراته تنطق بالجديةِ المُفرطة أومأت له ثم سألته كأنها انتبهت لتوها ماذا فعلت:
_الخير دا هيكون فيه أذى ليا أو ليك؟.
ابتسم بزاوية فمه ثم قال بصدقٍ لم تشبه شائبةٌ:
_ليكِ مستحيل أقبل بيها دي، ليا فيها كلام تاني.
ساورها القلق بشأنه وبشأن حديثه فتنهدت بقوةٍ ثم ردت عليه بصدقٍ أسره كما سبق وفعل هو:
_وأنا معاك المهم تكون بخير.
ولأول مرةٍ يبتسم لها بتلك البسمة الآسرة، ابتسم حتى ظهرت أسنانه من خلف شفتيه وهي رغمًا عنها أمامه ابتسمت هي الأخرى له ثم انسحبت كي تدخل وتشارك الجميع تلك المناسبة كما طلب منها “نَـعيم” وأتت هي كي تنفذ مطلبه..
لدى مقر الخيول وقف “تَـيام” بمفرده وهو يشعر بالتيه لأجل أمرٍ لا يعلم كيف يتخطاه، فهو يشعر بالأسف والحزن وفي نفس التوقيت يعجز عن الحديث والبوح، اختار الصمت طواعيةً وبداخله يتمنى ألا يختبر غيره نفس المشاعر القاسية، وقد أتت حمامة السلام الخاصة به وربتت فوق كتفه حتى التفت لها وابتسم ما إن رآها..
اقتربت هي تقطع المسافة الفاصلة بينهما ثم قالت بنبرةٍ ضاحكة ساورها الخجل وهي تُفصح له عن أمرٍ هكذا:
_نفسي في نونو صغير أنا كمان، شوفت شكلها حلو اللهم بارك إزاي؟ كان نفسي أشيلها أوي بس مكسوفة منهم كلهم، الأولاد دول رزق جميل أوي يا “تَـيام” أنا ربيت “إيـاد” وكنت مبسوطة أوي، ونفسي ربنا يكرمني بولاد حلوين ويكونوا شبهك كدا.
ضحك له رغمًا عن حزنه ثم ضم كتفيها وقال بنبرةٍ هادئة يشاركها أماله معها هي:
_وأنا والله نفسي يكون عندي ولاد خصوصًا لو أنتِ مامتهم أكيد دا هيخليني متطمن عليهم وواثق إن ربنا رزقهم بأجمل أم في الدنيا كلها، كفاية أبوهم متهني معاها من يوم بقت معاه وفي بيته.
وبخجل ضحكت له ثم اقتربت منه وهي تشير نحو ذراعه الآخر فقال هو بدلًا عنها بنبرةٍ ضاحكة:
_عارف، افتح دراعاتك.
أسبلت أهدابها بنعومةٍ ثم استقرت في عناقه في المشهد الأحب لقلبها معه، رؤية الخيل مع الزهور أسفل السماء الواسعة، بين ذراعي الحبيب والطيور فوقهما تشهد عليهما، فربما تتحقق الأحلام، وتعود الطيور لسمائها العالية..
__________________________________
<“كل الأسرار في خبيئة البشر مطوية في سردابٍ”>
بداخل السرداب المغلق فينا رَمينا الأشياء التي نهرب منها..
لكن أين المهرب من حقيقةٍ باتت واضحةً كما وضوح الشمس في الظهيرة للرآي؟ تلك الحقائق التي تجلت بوضوحٍ هي ذاتها التي طوينا عليها دفتي الكتاب كي نقوم بتخبئتها في سريرة الصفحات بين السطور..
البيت أصبح كئيبًا ومُوحشًا عليها، خاصةً بعد انتحار ابنة العم به أصبحت تخشا مؤخرًا، وناهيك عن كل ذلك، الأهم هُنا أن الجميع وضعوا أنفسهم تحت وطأة الذنب وهي وحدها أهل الذنب كله، فمن تلوم ولما تلوم وهي المُلامة الوحيدة؟ بكت “نـورهان” أثناء جلستها فوق أريكة بيتها والذنب الأعظم يفتك بها هي، هي الوحيدة المُتسببة بموت “شـهد” وهي آخر من دفعتها لذلك الفعل…
“قــبل الانـتـحار”..
كانت “شـهد” حبيسة غرفتها بعد عودتها من اللقاء الأخير مع “نـادر” وكُلما تذكّرت قسوته معها بكت، وكلما تذكّرت كرهه لها صرخت من القهر، كانت تود أن تنشق الأرض وتبتلعها بجوفها أهون عليها من قسوة نظراته وحديثه ووصفه لها بما قال، وقد تذكرت أمر ابنة عمها، فتحركت نحو غرفتها ووقفت تسألها بصوتٍ هادرٍ:
_هو أنتِ اللي كلمتي “نـادر” وعرفتيه صح؟.
ولأن الأخرى لم تكن في مزاجٍ رائق قررت أن تُنهي السُخف هذا بقولها الأكيد القاطع لأي شكوكٍ:
_آه يا “شـهد” أنا اللي قولتله، سمعتك وروحت عرفته ودا مش علشان حاجة بس علشان بقيتي مقرفة أوي، طب مش خايفة على نفسك لما الناس تتهمك في شرفك، خافي عليه هو، خافي على سمعته كراجل الناس هتقول إنه حصل علاقة بينه وبين طلقيته ويتفضح، أنتِ بقيتي بشعة ولا تُطاقي بجد، تقرفي يمكن أكتر مني، على الأقل أنا بضر نفسي بس، مبضرش اللي حواليا.
حينها هدرت “شـهد” في وجهها بصراخٍ هيستيري:
_ماكنتش هعمل كدا، ماكنتش هعمل كدا خالص، كنت هقوله وأفهمه إني محتاجاه وكنت هوافقه على كل حاجة يقولها، كنت هقوله إني محتاجاه علشان مش عارفة أعيش من غيره مع حد تاني، أنتِ خليتيه يكرهني أكتر من الأول.
وصرخت الأخرى فيها بنبرةٍ هادرة توقفها:
_هو أصلًا بيكرهك، وكلنا بنكرهك يا “شـهد” علشان أنتِ مسيبتيش حد مأذيتيهوش في حياته، أذاكِ طال الكل معاكِ ودمرتي حياة ناس كتير، حتى باباكِ بسبب غبائك شغله وقف ومبقاش طايق يشوفك، ناقص إيه تاني لسه معملتيهوش؟ طلعي “نـادر” من دماغك علشان هو قرف منك خلاص، ولو لسه في نيتك ترجعيله يبقى زيك زي أي واحدة في كويسة من الشارع، فكري مع نفسك كدا هتلاقي إن الكل خلاص كرهوا سيرتك، أنتِ بقيتي قرف..
حينها تخطت الكلمات في أثرها طعن الخناجر، كانت الكلمات قوية وحدها أصعب من نصل سكينٍ حاد حتى شعرت أن قلبها ينزف دمًا وهي تقف محلها، وبعد غياب ساعات في غرفتها أنتهى الأمر بها بعدما انتحرت وقامت بقطع الوريد وفي لحظتها فارقت الحياة بذنبٍ عظيمٍ أكبر مما سبقوه من ذنوبٍ يأس العبد من إصلاحها..
بكت “نـورهان” ما إن تذكرت أثر كلماتها وكيف أوصلتها لتلك النهاية، فربما في روايةٍ أخرىٰ كانت النهاية ستختلف بمصادقةٍ ودية وعناقٍ دافيءٍ وحديثٍ يطول، ومصارحةٍ أكيدة، لكن كل ذلك انتهى بمجرد مواجهةٍ واحدة أنتهت بعدها حياة على معصيةٍ وذنبٍ لا يُغتفر..
__________________________________
<“رُبما هي صفعة وتنتهي، لكن أثرها باقٍ”>
هي فقط لحظات فارقة ما بين الفاعل الأول والفاعل الثاني
وما بين الفعل ورد الفعل، ولأن التوقيت هو أهم العوامل في حياة المرء فقد وصفوه بالسيف، ومن لم يُقطع بسيفٍ سوف ينل ضربةً من غيره، والآن سبق السيف العزل وأتت المفاجأة..
شيء غريب من الحماس بدأ يساورها، فكل مخططاتها بشأن اليوم بدأت تأخذ المنحنى الأخطر من وجهة نظرها، وكأن كل الترتيبات المُقامة وكل ما حسبته هي يختلف مع ما ظنته ورتبته لحياتها، ارتدت ثيابها وتجهزت لأجل الرؤية الشرعية بعدما تأكدت من خداعه لها ومكره عليها، وأثناء انشغالها به والتفكير فيه، ولجت أمها لها وقالت بحماسٍ طاغٍ:
_يلا يا حبيبة قلب ماما، الناس وصلوا..
توترت وخشيت الخروج كأنها ستخرج كي تلقي حتفها، تورد وجهها خجلًا وخوفًا في آنٍ واحدٍ كأنها تُقدم على امتحانٍ به يتحدد مصيرها، وقد تبعت أمها نحو الخارج كي تُجالس العريس فوجدت والدها يشير إليها ضاحكًا ببسمةٍ عذبة جعلت رأسها ترتفع بلهفةٍ وعيناها تتسع بصدمةٍ ما إن رآته أمامها…
في الأسفل وصل أخيرًا إلى العمل وولج مبتسمًا بسبب سعادة أهل بيته وبسبب ترتيبه لمخطط حياته لكن صوت الزغاريد فاجئه عند أبواب العمل فضحك هو ثم مازح الطبيب بسؤاله:
_هو الموضوع انتشر ولا إيه؟ دي لسه مولودة إمبارح.
كان يشير إلى ابنة أخيه بقوله فضحك له الطبيب وقال بنبرةٍ بها الكثير من الحماس والفرح:
_لأ يا سيدي دي الحارة بتفرح، بكرة فرح “بـيشوي” والحارة كلها بتحضرله، ودي زغاريد الآنسة “جـنة” علشان خطوبتها النهاردة، عقبالك يا رب.
وهنا وضعت السكين في قلبه بغير رحمةٍ أو شفقةٍ حتى عجز عن الاستفسار والتأكد من الهوية، وأقصى ما فعله كان خروجه من المكان ثم رفع رأسه نحو شرفتها فوجد صوت الزغاريد يصدح بالفعل وكانت خير دليلٍ على جرحٍ لن يبرأ بمرور الأيام.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى