رواية غوثهم الفصل المائة والثالث والثلاثون 133 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة والثالث والثلاثون
رواية غوثهم البارت المائة والثالث والثلاثون
رواية غوثهم الحلقة المائة والثالثة والثلاثون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثامن والأربعون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
واعلَم يا بُني أنّ الأَيَّام تُبسط
سَاعات والسَّاعاتُ تُبسط أنفاسًا،
وكُل نفسٍ خزانَة، فاحْذَر
أَنْ يذهَب نفسٌ بغَيرِ شَيءٍ،
فترىٰ فِي القيَّامةِ خزانة فَارغة فتَندم.
وانظُر كُل ساعةٍ مِنْ سَاعاتِك
بمَاذا تذهَبُ، فلَا تودعهَا إِلاَّ إلىٰ أشرفِ
مَا يُمكن، ولَاتهمِل نفْسَك،
وعَودها أشرفَ مَا يَكُون مِنَ العَملِ وأحْسَنه.
_”بنُ الجوزي”
__________________________________
وكيف لي أن أنساه وهو لقاءٌ ناولني الحياة؟..
فلن أنسَ لقاءً انتشلني من وسط قسوة العالم وحفظني في مأوى بعيدًا عن التشرد والغُربةِ والضياع، لن أنس لقاءً كانت بدايته رحمة من وحشة الجِياع، أما عن روحي فهي كانت ظمأى ولم ترتوي إلا من عينيكِ، أتعلمين يوم أن أتحدث أمام العالم عنكِ سأقول أنكِ أنني وجدتُ ضالتي، فكنتُ دومًا أحدث خالقي وأطلب منه أن يجمعني بضالتي، ويوم أن اجتمعتُ بكِ وجدتُكِ أنتِ مبتغاي وكأنكِ كنتِ الضالة الوحيدة التي فَقدتُها، ولا أعلم لِما في بعض الأحيان أشعر وكأن اللغة تُعاني من الفقر عند الحديثُ عنكِ، فكلما حاولت أن أُصيغ كلماتٍ اختصر بها وصفك لم أجد، فألجأ من جديد لحديثي مع الخالق وأطلب منه أن يُديمك لي بقدر كل النعم، فمن جديد أحمد ربي على نعمة وجودكِ معي، وأن قلبي بات ينبض لكِ من بين أضلعي، ولأن الخالق رحيمٌ بنا ويُعطي ويكرم من يشكره، فأنا أود طوال عمري أن ابقى ساجدًا شكرًا للخالق على رحمةٍ منه كانت على هيئتكِ أنتِ،
فالحمدلله أنكِ أنتِ البداية ومعكِ ستكون النهاية،
الحمدلله ألف مرة على تواجدكِ معي في كل مُرة،
الحمدلله على أن المُر برحمة الخالق يَمُر،
والحمدلله أن في نهاية المسارات وجدتُكِ أنتِ لآخر العُمر.
<“صديقٌ لم يُخذلني أمسىٰ خيرًا من حشدٍ يؤلمني”>
أود أيامًا بريئة تُشبه تلك التي كنت أعيشها وأنا في التاسعة من عُمري، أيام تذمري صباحًا واحتجاجي لذهابي للمدرسةِ عابس الوجهِ، تلك الأيام التي كانت بدايتها صقيعٌ في الطُرقات ونهايتها شمسٌ حارقة وفي المنتصف يمر يومٌ مُرهقٌ اتنساه بعناق رفيقي وهو يحتويني بين ذراعيه ثم يهمس لي خفيةً أنني الرفيق المُفضل له بالعالم، فهذا الرفيق المُفضل الذي أعطاني نصرًا أمام العالم في صغري هو وحده الذي لم يُخذلني بعد..
_هتلاقيه زعلان دلوقتي علشان قومت.
هتفها “أيـوب” بمزاحٍ لكي يُشاكسه فيما ابتسم “يـوسف” بسخريةٍ وبدون أي حديثٍ أو تفسيرٍ اقترب من “أيـوب” وباغته حينما عانقه أمام الجميع وكأنه يؤكد لنفسه أنه لازال حيًا، عناقه أتى فجأةً وغير متوقعٍ منه بينما هو أراد أن يُبرهن لنفسه أن مخاوفه تبددت بأكملها بعودة “أيـوب”، عانقه وحاول أن يتمسك به كما الطفل الصغير، عانقه وكأنه هذا هو العناق الأخير.
العناق الدافيء الذي تلقاه من رفيقه وتَشبث “يـوسف” به بتلك الطريقة وارتجاف جسده فوق جسد “أيـوب” جعله يتحامل على نفسه وضلوعه المُتألمة لكي يرفع ذراعيه ويُعانقه هو الآخر، فلحظة الفقد لن تُضاهيها لحظةٌ أخرىٰ في الخوف والألم، أن تفقد عزيزًا لكَ أهداه لكَ الخالق كما الرحمةِ، وقفوا البقية يراقبون عناقهم لبعضهما فيما نطق “أيـهم” بسخريةٍ أقرب للتهكم:
_طب نخرج ونيجي في وقت تاني طيب؟.
ظهرت الضحكات فوق الشفتين في أوجه الجميع، بينما “يـوسف” فنطق بصدقٍ بنبرةٍ أقرب للهمس وهو لازال بين ذراعي “أيـوب” كأنه يخشى فُقدانه ومُعايشة الألم ذاته من جديد:
_أنا خوفت عليك كأني منك وأكتر.
ارتسمت البسمة فوق شفتي “أيـوب” هو الآخر وأدرك لتوهِ أن هذا الغريب الذي ولج أرضهم بات رفيقه المُفضل، ذلك الذي مانع واعترض على تواجده في حياته الآن هو بنفسه من يُقر ويعترف أنه منه، لذا حاول أن يمسح على ظهره ونطق بحبٍ له:
_وأنتَ أخويا وأكتر كمان، والأخ للأخ طوق نجاة.
تأثر “يـوسف” كثيرًا وكاد أن يُخبره بما حدث في تلك اللحظة أسعدهم كانت “قـمر” وهي ترىٰ عزيزيْها معًا يبتسما سويًا ويتحدثان معًا كما لو كانا مُفضليْن لبعضهما، أرادت أن تركض وتعلو صوت ضحكاتها عاليًا كما طفلة صغيرة أنهت صلاة العـيد لتوها ومن ثم ركضت نحو بيتها تلتقط الحلوىٰ قبل الجميع، كانت تبتسم بسعادةٍ وهي تراقبهما وتُراقب حديثهما معًا، حتى ولج “عبدالقادر” بخطواتٍ رتيبة يواري لهفته على ابنه حتى رآه بجوار “يـوسف” فترقرق الدمع في عينيه في الحال..
رآهما معًا بجوار بعضهما فتنهد بصوتٍ مُرتجفٍ وهو يقف هكذا يتذكر رفيقه الراحل، كانت حادثة أيضًا لكنها مُفجعة وعلى أثرها فقد أخًا كان له مُنصفًا أمام العالم، لكن هذا المُنصف شاء الخالق أن يفترق عنه ويتركه في تلك الحياةِ مُحاربًا كما هو بمفرده، تلاقت نظراته بنظرات ابنه المُشتاق له فهرعت العبرات من عينيه وهو يراه أمامه باسم الوجه والعينين، وخطى نحوه خُطى وئيدة ثم مال عليه ولثم جبينه فقط!!.
كل ما فعله أنه لثم جبينه بحبٍ بالغٍ وكأنه يفتقر للحديث والكلمات فلم يملك إلا هذا الفعل وفقط، قبلة لثم بها جبينه وكاد أن يبكي مُجددًا لكنه تحكم في نفسه ثم ابتعد للخلف يتشرب ملامح ابنه الذي كاد أن يفقتده لولا رحمة الخالق عليه وأنه مَنَّ عليهم بفرصة جديدة عادت بها الحياة لهم من خلالها، أما “أيـوب” فحدث والده بمزاحٍ هزلي أمامهم لعله يُطمئن قلبه القَلِق الذي نطقت عيناه تفصح عم ألمه:
_حقك عليا يا “عـبده” تعبتك معايا.
ابتسم “عبدالقادر” له وحفظه بعينين عميقتين كأنه يضمه بين جفونه ويُضلل عليه بالأهداب:
_تعب الدنيا كلها وصحتي وعمري فداك يا صبر القلب.
أعطاه اللقب المُحبب له أمام الجميع حتى اغرورقت عينا “أيـوب” وقامت تعابيره بإظهار تلك العواطف في نظراته وملامحه المُنبسطة وسرعان ما مر عليه شريطٌ يحمل حياته وذكرياته معًا، فتذكر أيام مرضه وألمه وحياته الفائتة عليه بتعبٍ بلغ أشده وكان حينها والده يدعو الخالق أن يمنحه صبر “أيـوب” عليه السلام لكي يقوى على الشدائد ويصبر على المرض والبلاء.
لحظات هادئة مرت على الجميع بعد الإطمئنان على “أيـوب” الذي عاد لهم من جديد ببشاشة وجهه وطيفه المرح وملامحه الهادئة وراحة القلب المرسومة في عينيه، لقد عاد مُجددًا لهم يُطمئنهم وينشر الأمان بينهم كما اعتاد أن يكون غوثًا لهم، مرت دقائق عليه وهو يتلقى الترحيبات به والإطمئنان على سلامته، لكن الالم بدا واضحًا عليه ولاحظت ذلك “قـمر” التي تولت دورًا عظيمًا وكأنها أمٌ له فنطقت بأدبٍ أمام الجميع:
_معلش يا جماعة ممكن من فضلكم نسيبه يرتاح شوية علشان التعب بان عليه؟ ممكن لو سمحتوا؟ والله مش قصدي أزعل حد بس شكله تعبان وأكيد دا يهمنا إننا نتطمن عليه ويكون كويس، الحمدلله إحنا كنا فين وبقينا فين.
حرك عينيه نحوها مُبتسمًا فوجد التوتر يكسو ملامحها أو رُبما الخجل مما تفوهت به لكن “يـوسف” أيدها بقوله الهاديء حينما شمل الغُرفة بعينيه ورأى الجميع بها ثم تلحظ بنظراته وجه رفيقه:
_معاها حق خلوه لوحده شوية علشان أكيد فيه مُضاعفات كتيرة هتبان عليه وتظهر فخلوه يرتاح قبل الدكتور ما يدخل يشوفه ويشوف ماله بس، يلا خلونا نسيبه لوحده شوية لحد ما الدكتور يطمنا عليه ويقولنا بالظبط ماله.
دقائق مرت انفضت خلالها الغرفة من الجميع عداه هو وهي التي عادت له تبتسم بوجهٍ بشوشٍ له ثم اقترب ولثمت جبينه بقبلةٍ عميقة وهي تجلس في مواجهته ثم قالت بصوتٍ ظهرت به الفرحة:
_أنا الروح ردت فيا من تاني والله، نورت كل الدنيا بصوتك بس وبوجودك معانا، عارف؟ أنا نفسي أحضنك علشان اتأكد إنك قدامي بجد وإني مش بحلم ولا حتى دي تهيؤات، أنا شوفت أيام صعبة من غيرك والله، كل شوية كنت بسمع صوت حد بيصوت برة وناس عمالة تروح وتيجي وأنا خايفة أوي، كأني عيلة خايفة تتيتم وبابها يسيبها ويمشي.
رفع عينيه لها وهو يبتسم في وجهها وقد أدرك لتوهِ كم عانت هي في غيابه وشعرت بالألم يسري في روحها، وفي قوانين العشق والهوى يعلم هو أن العناق دواءٌ لقلبٍ وقع واهتوىٰ، لذا أشار لها برأسه فاقتربت منه ليزيدها قُربًا منه وهي في عناقه، لقد سمع كثيرًا عن العناق المُداوي لكنه معها يعهده ويعيشه، ترك قلبه يُهلل فرحًا بداخله وسألها بصوتٍ رخيمٍ:
_خوفتي من إيه وأنا مش هنا؟.
كان يقصد غيبوبته القصيرة فتنهدت هي وحاولت أن تتمسك به ثم نطقت بصوتٍ مختنقٍ وهي تحاول أن تُنحي البكاء بعيدًا عن حديثها حتى لا يزداد حزنه:
_خوفت من الدنيا وأنتَ مش فيها.
تراقصت البسمة العذبة فوق شفتيه ثم تنهد بقوةٍ يحاول أن يتجاهل ألم عظامه وجسده وهو يتنفس بصعوبةٍ بالغة ثم أخيرًا أغمض جفونه حتى يأخذ قسطًا من الراحة ثم تنهد وضع رأسه فوق رأسها وقال بنبرةٍ هادئة وصلت لسمعها:
_الحمدلله حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه، والحمدلله على نعمة حمدك لما أُعانيه، فاللهم إني وكلتك أمري وفوضتك نفسي وحالي، فاللهم لا تَكِلني إلى نفسي طرفة عينٍ وأدِم لي نِعمك يا أرحم الراحمين، اللهم بارك لي في زوجتي وارزقني الزُهد عن كل الفِتن إلا فتنتها هي.
ابتسمت بحبٍ وتركت عينيها تفك حصار عبراتها المُقيدة وقلبها يخبرها بضحكات واسعة عن سعادته بعودة الحبيب لها، خطر ببالها جملة أرادت أن تخبره بها لكنها تراجعت وفكرت في شيءٍ غيره تعوضه به بدلًا عن هذا الشيء لكنها حدثت نفسها بقولها:
_من الجيد إننا مُجددًا اجتمعنا
فلا يهم مادام أنت لقلبي رفيقًا
ولحديثي الغريب كنت المعنى.
__________________________________
<“من الغريب أن يروك عدوًا لهم وأنتَ لا تراهم”>
بعض القلوب تقطر سُمًا لمن حولها وتسعى لنشر كل خرابٍ في حياة الآخرين، لكن لولا رحمة الخالق ومشيئته في الرحمة بالقلوب وكشفه لحقائق العباد تجاه العباد لكان ظل البعض مخدوعين في غيرهم، فلا تحزن عند كشف أحدهم لكَ، بل اسعد وأحمد خالقك أن الغيام تحركت لتظهر شمس الحقيقة الغائبة عنك..
خرج في الرواق يتحدث معها في الهاتف ويُخبرها بسعادةٍ عن إفاقة شقيقه وعناقه له واستماعه لصوته، لم يفرق كثيرًا عن ابنه في تلك اللحظة وهو يتحدث معها ويُخبرها عن فرحته فضحكت “نِـهال” بصوتٍ عالٍ في الهاتف ومازحته بقولها:
_أخبارك قديمة أوي يا أستاذ، أنا عارفة من زمان، ابني حبيبي اتصل بيا وقالي إنه عمه فاق وقالي كمان إنه نزل المسجد في المستشفى صلى تحت، وقالي كمان إنك تعبت ومش عاوز تاكل حاجة وتاعب باباك، وصلني التقرير كله.
التفت “أيـهم” خلفه يُطالع ابنه الجالس بين ذراعي “تَـيام” ويتحدث مع “مُـنذر” والآخر يشاركه الحديث مبتسمًا ثم نطق بسخريةٍ ردًا عليها:
_ابنك دا أنا قررت اتبرع بيه لجمعية الرفق بالآباء، علشان اللي عنده ابن زي ابني دا أكيد داق الويل والمُر كمان، لما أجيلك أنتَ وهو ليكم عندي ظَبطة خصوصي، أتطمن على الواد بس، حاضر.
ضحكت هي من جديد ما إن أدركت أنه عاد لمزاحه ثم عقبت ذلك بتنهيدةٍ عميقة ثم نطقت بصوتٍ رخيمٍ:
_عمومًا أنا عملتلك الأكل اللي بتحبه، علشان لما تيجي أأكلك أنا بايدي كمان، كفاية بقالك كام يوم واقف تعبان على رجلك ومش راضي تاكل، قبل ما تيجي بس عرفني علشان أجهز الأكل ليكم ولو “أيـوب” هيخرج عرفني علشان أعمل حسابي برضه، أوضته متروقة والبيت كله جاهز ناقصه صحابه ينوروه بس.
علاقته بها أنضج مما يعهد في حياته، فهي زوجة مكتملة الأركان والثوابت في عقلها، هي لم تحبه هذا الحب المشروط بأشياءٍ أخرى نظير هذا الحُب، وإنما هي تحبه لأنه هو هو وفقط، وهو لم يَحبها لكونها أمًا لابنه وتلك النظرة السخيفة التي تتوق علاقته بها، بل لأنها محطة القرار من بعد تيهٍ طويلٍ أتىٰ لها هي في النهاية ليدرك أنه وصل لهنا، ابتسم ونطق بتقديرٍ لها:
_أنتِ عارفة طبعًا إني زيرو كلام حلو ومتزوق، بس أنا كل يوم بقدر قيمتك أكتر من اللي قبلها وبعرف إن فيه حاجات لازم نتحرم منها علشان لما ربنا يرزقنا بالحاجة الصح نعرف قيمتها ونقدرها ونحطها في عنينا.
بعد كل تلك الأيام يهديها عبارات طيبة تمسح فوق قلبها وتُطمئنها أنها هي كما هي في عينيه لن تتغير، فشردت بهيامٍ فيه وفي طلته التي تأسرها كلما ظهر أمامها كمراهقةٍ تراقب حبيبها خِلسةً فينبض قلبها بحبه، بينما هو تذكر أمر علاجها فاندفع يسألها بلهفةٍ:
_”نِـهال” أنتِ بتاخدي علاجك ولا لأ؟.
التوىٰ ثُغرها وهي تستمع لسؤاله لكنها حاولت أن تتصف بشجاعةٍ تتلقى بها ضيقه بهذا الشأن ونعته لها بمهملةٍ في نفسها:
_بص، وحد الله ومتتعصبش علشان أنتَ عارف إن علاج الهرمونات والرَحِم بيكون بالثانية، والأيام اللي فاتت كانت كلها ضغط وتوتر وتركيز مع “إيـاد” و “آيـات” فللأسف وقفته خالص وكلمت الدكتورة قالتلي أعيد الكورس من الأسبوع الجاي.
كاد أن ينفعل ويغضب عليها لكنه تراجع حينما تذكر ما مر عليهم جميعًا وكيف تولت هي مهامًا كُبرى عليها وعلى عاتقها في رعاية البيت وأهله وخاصةً ابنه الصغير الذي كان يحتاج لإهتمامٍ مُبالغٍ فيه، تنهد بقوةٍ ونطق بنبرةٍ جامدة بعض الشيء كأنه يأمرها:
_ماشي سماح الأسبوع دا، بس أكيد المرة الجاية هاجي معاكِ ونشوف آخرة إهمالك إيه يا ست “نِـهال”، يا أنا يا أنتِ وهتبقي أم عيالي غصب عنك برضه.
ضحكت هي في الهاتف وضحك هو الآخر معها ثم ودعها وأغلق معها المكالمة باسم الوجه والعينين وقد التفت بكامل جسده ليجد”آيـات” تغمز له بطرف عينها اليُسرى فأشار لها أن تتريث حتى ينتقم منها أشد الانتقام بعد أن ينتهي من تلك الفوضى التي تملأ أيامهم.
كان “إيـاد” يجلس برفقة “مُـنذر” الذي تولى الصمت بعد إطمئنانه على “أيـوب” وقد انسحب “تَـيام” يجاوب على المكالمة الهاتفية فاقترب “إيـاد” أكثر من الآخر ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_هو أنتَ مش هتيجي حارة العطار تاني؟.
رفع “مُـنذر” عينيه نحوه وأغصب شفتيه على بسمةٍ هادية رزينة ثم قال بثباتٍ كأنه يناقشه وهو في مثل عمره:
_عادي، قاعد مع عمي علشان هو مش عاوزني أمشي، بس أنتَ عاوزني معاكم في حارة العطار تاني؟.
أومأ له موافقًا وقال بنبرةٍ ضاحكة يتحدث معه بطلاقةٍ:
_أكيد عاوزك يعني، أنا بحبك على فكرة ولما تعبت قبل كدا زعلت علشانك لما جيتلك مع بابا، بس كنت فاكرك هتروح تقعد عند باباك أو مامتك، معرفش إن جدو “نَـعيم” يكون عمك، هو أنتَ بتحبه؟.
التفت “مُـنذر” يبحث عن عمه فوجده بالخارج يقف مع “عبدالقادر” فتنهد بعمقٍ وأومأ موافقًا وقال بثباتٍ:
_بحبه أوي، يمكن زي ما أنتَ بتحب “أيـوب” كدا وفضلت زعلان وبتعيط علشانه، أنا معرفش حد من عيلتي غير عمي وبس، علشان كدا بحبه أوي ومش عاوز أزعله مني خالص، أنا بعتبره أبويا كمان وأكتر وأحسن عندي.
لاحظ الصغير كلماته التي تكشف جانبًا مختلفًا عنه فسأله باهتمامٍ وهو يُراقب انفعالات وجهه باكتراثٍ:
_هو أنتَ مش عندك بابا وماما؟.
سؤالٌ قاتلٌ أتى بغير موعده وغير لحظته لكي يُصيب الآخر في منتصف الروح ويخبره أنه لم يتعافَ بعد من تلك العلاقة السامة التي كانت نتيجتها تواجده هو في تلك الحياة، أطلق تنهيدة قوية ومُطولة من جوفه ثم أفصح عن داخله بقوله:
_للأسف معنديش، أو هما اختاروا إن يكون معنديش.
رفع “إيـاد” كفه الصغير يُربت فوق كتف “مُـنذر” وشد أزرهِ بقوله الذي بدا أكبر من أعوام عمره بأعوامٍ أكبر:
_متزعلش، عارف “أيـوب” قبل كدا لما لقاني زعلان علشان مامتي سابتني ومشيت، قالي إن ربنا عاملي امتحان علشان لو نجحت فيه وقولت الحمدلله هاخد مكافأة كبيرة ولو ماخدتش هنا ممكن أخدها في الجنة كمان، ولما فضلت كتير أدعي ربنا كتير أوي وقولت الحمدلله، بابا أتجوز “نِـهال” وهي جت عندنا وبقت أحسن ماما في الدنيا كلها، أنتَ كمان قول الحمدلله علشان ربنا يديك المكافأة بتاعتك.
هذا الصغير يبدو أنه أكبر من عمره بالكامل، فهل يُعقل أنه يملك هذا العقل الكبير في ذلك الجسد الصغير؟ هل يُعقل أن “أيـوب” شكل من عقله هذا العقل الناضج لكي يتحدث بهذه الرجاحة العقلية؟ خجل “مُـنذر” من نفسه أمام الصغير وقد ازداد خجله أكثر حينما قال “إيـاد” يحثه على حمد الخالق:
_قول الحمدلله يلا، علشان ربنا يكرمك، وأنا هقول الحمدلله علشان “أيـوب” فاق من تاني وهيرجع البيت ويكون معانا.
أومأ له “مُـنذر” ثم نطق بصوتٍ هاديءٍ وكأن الرجفة لامست قلبه بحديث الصغير معه:
_الحمدلله.
ابتسم له “إيـاد” وقال بنبرةٍ ضاحكة:
_عارف لما بقولها كدا بس “أيـوب” كان بيمسكني من قفايا ويفضل يقولي هتكروت الحمد وتتعجل في طلب العطاء؟ وبعدها يخليني أقف أكررها تاني بس بقولها كلها كدا، الحمدلله حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه، متكروتش لو سمحت.
كررها “مُـنذر” معه وفي كل مرةٍ يشعر أنه وضيعٌ بينهم، كيف له أن يكون وسطهم وهو القاتل والسارق المختلس والمجرم؟ كيف يحمد خالقه ويتحدث معه بعد كل شيءٍ؟ كيف له أن يقترب وهو يعيش آثمًا بينهم في هذه الأرض؟ هل ذنوبه هذه تُغتفر من الأساس؟.
شرد في التفكير وغاص به وتعمق ولم يخرجه إلا ما إن رأى “إيـاد” يفتح المُصحف الخاص بعمته ويقرأ منه ويبدو أنه يفهم المدون أمامه، فعلم أن الحياة لم ترحمه روحيًا، فحتى أصغر أمور دينه لم يتعرف عليها، لم يعلم إلا سورة الفاتحة والإخلاص والموعوذتين فقط من كل الكتاب؟ من جديد يشعر ببعد المسافات بينه وبين خالقه وعلم أن من المستحيل مثله يتقرب من الله، لقد وُلِد آثمًا ولن يكن تائبًا.
__________________________________
<“الأخ للأخ كان عونًا وسندًا، فياليت كل العالم أخي”>
لقد خُلقت بسيطًا أؤمن أن العلاقات رحمةً للقلب، فلو لم نكن نحن لبعضنا رحمةً وغوثًا فمن يمكنه أن يفعلها؟ أنا يا سيدي أكره هؤلاء الذين يتعاملون بقسوةٍ مع أحبائهم، وأؤمن أن القلوب هدفها أولًا وأخيرًا الرحمة تجاه الآخرين والرأفة بالمخلوقين.
أخيرًا بعد أيامٍ هاجرها فيها النوم نامت بقربه وهي تتمسك به وهو رغم ألم جسده لم يتحدث ولم يتفوه بل تركها تلتصق بها فيكفيه المُعاناة التي بدت بوضوحٍ فوق تفاسيم وجهها، تنهد “أيـوب” وربت فوق ظهرها ثم ضحك بخفةٍ فهي الآن تُشابه القطة الصغيرة التي تجلس في عناق رفيقها، وقبل قليل فقط كانت كما الأم وهي تُحافظ على صغيرها، شرد وهام بها حتى طُرِق الباب فأذن للطارق بعدما دثرها وأخفى مقدمة خصلاتها الظاهرة أسفل حجابها، فولج شقيقه مبتسم الوجه وهو يقول:
_أنا جيت أتطمن عليك وأشوف المحلول خلص ولا لسه، طمني يا حبيبي عاوز حاجة أجيبهالك؟ تشرب مياه طيب؟.
تنهد “أيـوب” بثقلٍ ونطق بصوتٍ مُجهد للغاية:
_أنا مش مرتاح هنا ومش بحب المستشفيات وأنتَ عارف، روحني خليني أرتاح في البيت أحسن، أنا حتى مش عارف أصلي هنا وبالعافية صليت العِشا مكاني، بالله عليك لو عاوز تريحني بجد روحني من هنا، أنا مستحيل أرتاح في مستشفى وأنتَ عارف كدا كويس، وعلشان الغلبانة اللي شافت الويل دي معايا، حرام عليا أبهدلها كدا.
تنهد “أيـهم” ثم اقترب منه يُلثم جبينه ثم رمقها بخفةٍ وأعاد عينيه لشقيقه وهو يقول مُثنيًا عليها بصدقٍ:
_تعرف؟ بأمانة تستاهلك وتستاهل تبقى مراتك بجد، أنا كنت فاكرها بنت ضعيفة كدا وعمرها ما تسد في حاجة وإن حُبك ليها ممكن يكون سبب في تغييرها، بس هي اثبتت عكس كل دا، وقفت وسندت وماتت علشانك ألف مرة في اليوم الواحد، فضلت بينك وبين أخوها مقصرتش مع واحد فيكم، ومش بس كدا، دي كمان وقفت مع أبوك تأكله وتديله علاجه، وتطمنه، متحركتش ساعة من جنبك، بنت أصول أوي.
شعر “أيـوب” بالفخر بها رغم ضيقه بسبب بقائها في المشفى أمام الجميع لذا تملكه الإصرارا والتصميم وقال بلهفةٍ:
_طب ريحني وخرجني من هنا بقى علشان أنا مش قابل المرمطة ليها ولأختك وللكل كدا، دا حتى “مُـنذر” متبهدل هو كمان معانا، بص أنا تمام وأتحركت عادي ودخلت الحمام بس أسند على حاجة تكون جامدة شوية، فعلشان كدا روحني وخليني أمشي بيتي يمكن أرتاح بقى.
في الغرفة الثانية قامت “عـهد” بجمع أشياء زوجها داخل حقيبة صغيرة الحجم ثم تممت على كل شيءٍ يخصه واقتربت منه تجلس فوق الفراش فوجدته هو يبتسم لها ثم نطق بصوتٍ رخيم وهو يُتابع وجهها بعينيه:
_شكلك مبسوط صح؟.
حركت رأسها موافقةً وقالت بصوتٍ رقيق:
_أوي، مبسوطة علشان أخيرًا هتروح البيت تاني بعدما طلعت عيني، الحمدلله أتطمنت عليه وعلى “قـمر” وزي ما عمو “عبدالقادر” قال متقلقش هيروحه مش هيخليه هنا علشان مش بيحب قعدة المستشفيات، الحارة وحشة من غيركم وأنتوا مش فيها، وأنا كمان محتاجالك أوي معايا.
اومأ لها موافقًا ثم مسح على رأسها ثم قربها منه بحركةٍ هادئة وبطيئة ثم جعلها تتوسد كتفه برأسها وتنهد بقوةٍ ثم قال يعتذر منها على ما تسبب فيه لتدمير استقرارها:
_عارفة؟ أنا والله ما تخيلت في عمري كله إني ممكن أحب حد ويكون ليا ونيس ومعايا زي ضلي كدا، حتى في تعبي مسيبتينيش لوحدي بالعكس، أنا كل يوم كنت بتحايل عليكِ تمشي وأنتِ مش راضية تتحركي، وموقفة شغلك وحياتك، وزعقتلك وزقيت إيدك، ناقص بس اخليكِ تغسلي رجلي بشوية مياه وتبقى كملت.
ضحكت رغمًا عنها ثم ابتعدت عنه وسحبت مقدمة سترته وهي تقول بصوتٍ محتدٍ بزيفٍ لم يكن حقيقيًا بل كان مُتصنعًا:
_أنا كنت عاملة نفسي ناسية بس أنتَ فكرتني، فوقلي بقى وأصلب طولك قصادي كدا يا قمور علشان والله، ما هسيبك، هاخد حقي منك كامل وتالت ومتلت، عارف ليه؟ علشان أنتَ ولا مرة عاوز تريحني، كأني دخلت حياتي بس علشان تثبتلي إني كنت صح لما قررت أقفل باب الحب دا، علشان من ساعة ما حبيتك وأنا، أنا عاوزاك تحضني دلوقتي، ينفع؟.
تهدج صوتها وهي تطلب منه هذا الطلب بطريقةٍ تسببت في تعجبه ودهشته لكنه ضمها له فوجدها تبكي بصوتٍ وهي تضمه بذراعيها وتقول بصوتٍ مُختنقٍ:
_أنا خايفة عليك منهم، علشان خاطري كفاية كدا بقى، سيبلهم كل حاجة وخليك معايا، أنا مش عاوزة أخسرك أنتَ، يغوروا بفلوسهم بشركتهم بكل حاجة عندهم بس علشان خاطري خليك أنتَ، الدنيا مش هتسوى حاجة من غيرك.
بالطبع هي من تمزح معه، فهل يُعقل أنها تطلب منه التراجع عن اقتناص حقه بعد كل ما آل إليه؟ لم يفعلها في السابق والآن تطلبها منه بعد محاولة قتله؟ شعر بخوفها يتفاقم من خلال تمسكها به، فقرر أن يلجأ للهُدنة المؤقتة بقوله:
_خليها على الله، وبكرة ربك يسهلها.
ابتعدت عنه تمسح وجهها ثم نطقت بحنقٍ منه:
_مخلياها على الله، أومال هخليها عليك أنتَ يعني؟.
لاحظ تذمر وجهها واختناق صوتها فعلم أن فك شفرتها معه هو لذا رفع كفه يمسد جانب عُنقها حتى ارتخى جسدها أسفل لمسته فيما قال ابتسم هو بمراوغةٍ وقال بهمسٍ يعلم كيف يؤثر به عليها:
_حبيب عيوني.
فتحت عينيها له لتكشف عن لمعة سوداوتيها فرحًا بلقبها المُحبب منه، فيما وقع هو أسيرًا لضوء عينيها الذي يُضاهي لمعة أضواء المدينة في ليلة عيدٍ ينتظره الناس، علمت هي أن هذا الغريب كما يلقبونه بات أقرب لها من نفسها فبادرت هي بضمه لطالما حدثها قلبها منذ أول لقاءٍ معه أنه كان ولازال الأمان لها، ففي تلك اللحظة صرح قلبها لقلبه قائلًا “كيف حالك يا أنا، أنا بخير لأنك هُنا”.
_________________________________
<“لكنني لما وجدتُكَ معي علمت أن النصر يُحالفني”>
خيبات الأحباء لا تُنسَ ولو تجرعت المُحيط خمرًا لكي يُنسيك، فهل يعقل أن هؤلاء من وضعنا بهم الأمان والآمال هم بأنفسهم من يطعوننا في الخِفاء؟ لو كان الأمر فقط يختص بالحذر لكنا توخينا الحذر، ولو كان الأمر بالثقة لكنا وثقنا، لكن الأمر حينما يتعلق بقلبٍ أنتظر منكم الأمل فلاحقه الألم يتحول الأمر تدريجيًا لخيباتٍ لا ترحم ولا تهدأ.
في اليوم التالي بعد الظُهر عاد “بـيشوي” من شقته الفارغة بعدما أخذ منها مسكنًا له بسبب بقاء “مهرائيل” وأسرتها في بيتهم، طرق الباب وولج شقة والدته وتلقى الترحيبات وطمئنهم على “أيـوب” لكنه لاحظ جلوس “مهرائيل” في الشُرفة بمفردها وفي يدها كانت تمسك كتابًا، فاقتربت منه “مارينا” تهمس بخفوتٍ لكي لا تنتبه شقيقتها:
_شكلها زعلان أوي وعمالة تعيط من الصبح، أنا عارفة إنك مشغول عنها بس هي بجد تعبانة أوي الفترة دي ويمكن محتاجة لدعم قوي شوية، بابا للأسف مش عاوز يجيبها لبر وكل ما نقول هيلين شوية يرجع تاني يقلب علينا.
وزع نظراته بالتساوي بينهما ثم أطلق تنهيدة قوية وتحرك من موضعه وولج الشُرفة ورآها تقرأ كتابًا من كُتبه هو فسحب مقعده وجلس فوق وهو يقول بصوتٍ هاديءٍ:
_حلو إنك تقرأي في علم النفس، بس على ما أظن كدا قراءة علم النفس مش وقتها خالص وأنتِ تعبانة نفسيًا لأنها بتبقى كُرباج بيجلدك أكتر، علم النفس تقرأيه وأنتِ عندك طاقة وشغف كبار يقدروا يستوعبوا المعلومات وينظموها صح، أظن دلوقتي كدا أنتِ عاوزة تضربي نفسك ١٠٠ قلم علشان اختارتي الكتاب دا وقرأتيه.
أغلقت الكتاب وحركت عينيها الباكيتين نحوه فسحب هو نفسًا عميقًا وقال بثباتٍ رسم به القوة ببراعةٍ فوق تقاسيم وجهه الحاد في نظراته:
_بتعيطي بسببه صح؟.
انتحبت باكيةً وهرعت العبرات من عينيها وهي تقول بألمٍ تضخم في قلبها بسبب أفعال والدها الذي بيديه جنىٰ عليها:
_وعمري ما عيطت من سبب غيره، هو اللي علطول معيطني رغم إنه أبويا، كل مرة يعمل حاجة يخليني أسأل نفسي إزاي أب يخلف عيال علشان بس يخليهم يعيطوا، كل مرة عيطت فيها بلاقيه هو سبب عياطي وزعلي وقهرتي، كل حاجة أوامر ورفض وبس، عمره ما في مرة واحدة كلمني زي أب ما بيكلم عياله ولا يطلب ونتناقش، كل مرة صوت عالي وأوامر ورفض وزعيق وبس، مش فاهمة ليه من الأول جابنا في حياته، حتى لما بيعمل حاجة حلوة بيذلنا بيها، أنا تعبت منه، تعبت وأنا شايفة إن الأب اللي المفروض أروح أقوله إن الدنيا بتكسر خاطري، ألاقيه هو بنفسه مع الدنيا عليا بيكمل كسر فيا.
لأول مرةٍ يخلع عن نفسه رداء التصلد والخشونةِ وتلبسته الرقة حتى ابتسم لها بصفاءٍ ثم مد كفه نحو كفها يُمسد فوقه وقال يدعمها ويحثها على الصبر بقوله:
_أنا مش هقولك حاسس بيكِ علشان أنا مجربتش للأسف المشاعر دي، بس أنا شايف إنك زعلانة ومقهورة كمان ودا مش حل والله يا “مهرائيل” إنك تعيطي وتزعلي وتخلي القهرة تمسك في قلبك لحد ما يتهري من الحزن، هو روحنا ولا جينا أبوكِ غصب عن الكل، مش هنقدر نعمل حاجة ولا نغير حاجة زي دي، بس هقولك حاجة مهمة إنك ممكن تستغلي كل اللي بيحصل حواليكِ في إنك تطوري نفسك وحياتك أكتر، تقدري تشتغلي على نفسك وتهربي من القوقعة دي بس بطريقة تانية، سايسيه وخديه على هداوة، لما تلاقيه بيتكلم بعصبية اضحكيله وأقلبيها هزار، هتلاقيه بيقولك بصرف وأجيب وآكل قوليله أنا بنتك حبيبتك وحقي عليك تعمل كدا علشاني، هيقول كلمة تزعلك وتخليكِ تشيلي في نفسك يبقى عادي بكل هدوء وبساطة تجاهليه كأنه مقالهاش، كل دي حلول معاكِ أهيه تتباردي بيها على أبوكِ، وصدقيني إحنا كرجالة ميهدناش غير الست الباردة لأننا أصلًا صنف بارد.
ضحكت من بين عبراتها المُنسابة على جملته الأخيرة وقد ضحك هو لها ما إن أيقن أنها أخيرًا ضحكت وتخلت عن التمسك بحزنها لكنها مسحت وجهها سريعًا وقالت بحسرةٍ جلية في عينيها وصوتها:
_عمري ما هقدر أسامح أب بيدوس على مشاعر عياله علشان راحته ونفسه وبس، ولو الزمن دار عليا برضه ولقيته محتاجني أكيد هقف معاه بس علشان دا فرض عليا مش علشان بحبه، والحاجة من غير حب ماسخة ملهاش طعم، وهو هياخد مني مساعدة بس اسمى هدف فيها مش هيلاقيه موجود عندي ولا هقدر حتى أحبه، أنا بسببه بقيت بخاف من كل حاجة حتى أنتَ غصب عني بخاف منك.
تبدلت نظراته في غضون طرفة عينٍ وراقبها في انتظار المزيد منها بعطشٍ أراد أن تُطمئنه وترويه، وهي لم تُخيب ظنه بل تنهدت ونطقت بصوتٍ أقرب للإنكسار وكأن الكلمات تخشى الخروج من بين شفتيها:
_بخاف منك في يوم تكسرني زي ماهو علطول كاسرني قدام الكل، ببقى خايفة في يوم تقول إني ماليش حد يقفلك وتكون متأكد إنك هتقدر تدوس عليا وتعمل كدا فعلًا، مش هقدر والله يا “بيشوي” أحس بالخوف منك وأنا شايفاك أملي وأماني في كل الدنيا دي، أنتَ الأمان الوحيد اللي مش هينفع أخسره.
أطلق تنهيدة قوية وربت فوق كفها ثم قال بصرامةٍ يقطع بها وعدًا تعلم أنه لن يتراجع عنه ولن يُخيب ظنها فيه ويُبدد أمالها ويمحو أمانها:
_حاضر، وعد مني ليكِ ولأخر نفس فيا حتى إنك تعيشي معايا في أمان وهكون ليكِ كل حاجة نفسك فيها، زي ما برضه بوعدك إن كلها أيام وهتكوني مراتي وفي شقتي ومش عاوز منك حاجة، حتى شنطة هدومك مش عاوزها كمان، أنا عاوزك أنتِ وبس، قبل كدا شوفتك مرة بتدافعي عني وآكدتيلي إني أخترت صح وماكنتش بحارب على الفاضي، ودلوقتي هحارب برضه علشان أشجار الزيتون بتاعتي، ربك بس يكرم بالمحصول، أحسن أنا جيبت جاز خلاص.
أومأت لها موافقةً فوجدته يغمز بعينه لها ثم تركها وتحرك نحو الداخل وحينها تنهدت هي بعمقٍ ثم نظرت أمامها وهي تشعر أن كل شيءٍ حولها بات غير مقبولٍ، فمن يصدق أنها لجأت لبيت خطيبها وأسرته لكي يحميهن من بطش أبيها؟ الأمر يشبه مزحة سخيفة بكوميديا سوداء لجأ قائلها للهزل والسخريةٍ لكي يواري أوجاعه في قلبه، ازداد فكرها عُمقًا فشعرت بالقهر وهي ترى الغُرباء أحن على قلبها من أهل قلبها.
__________________________________
<“العودة القوية دومًا تكون لأجل فردٍ نال الحُب”>
كل شيءٍ في الغياب يكون باهتًا، وكأن من نحبهم هم من يعطون للمكان بهجته وألوانه، فالإنسان دومًا يزهر برفقة من يحب وفي تواجد من يُحب، وكأن الحياة في غياب الأحباب تعود من جديد بعدما فرت مَِّنا بعيد.
أتت سيارة “أيـهم” التي جلس بها “أيـوب” في الخلف بجوار زوجته وابن شقيقه وفي الأمام جلس “عبدالقادر” مبتسم الوجه ببشاشةٍ أمام الجميع بعدما أتى ابنه لبيته وللحارة من جديد، كانت لحظة تشبه العيد ووقوف الحشود معًا قبل الصلاة، لحظة تشبه فك الأسر عن المُعتقلين بأرض فلسطين الحبيبة ليعود كلٌ منهم إلى موطنه وأرضه ويحتضن تراب هذا الوطن، لحظة العودة من بعد غيابٍ سحق أرواحهم أسفل أقدامهم وهم فقط ينتظرون العودة..
بداخل البيت قامت “وداد” باستقبال الابن المُفضل لها ولصديقتها الراحلة وهو كان يستند على ذراع شقيقه، لقد اعتاد على ذلك من صغره أنه يستند على شقيقه مهما كان الأمر حتى أن يده باتت تحفظ الطريق نحو ذراع “أيـهم” وهو يعلم أنه يشدد عضده به، حاول أن يتحرك نحو الدرج وهو يستند على عصاه لكن ألم جسده وعظامه لم يحتملهم هو فخرجت تأوهٌ من بين شفتيه جعل “قـمر” تمد كفها له وهي تقول بلهفةٍ:
_حَمل عليا أنا ميهمكش.
طالعها بشرودٍ فوجدها توميء له ثم سبقته بدرجة واحدة وامسكت كفه ثم أخفضت جسدها تعاونه على رفع قدمه للأعلى بخفةٍ جعلته يتحرك معها بانسيابية وشقيقه يعاونه حتى نجح في البداية وبدأ يصعد الدرج تدريجيًا وهو يُلقي بثقل جسده على شقيقه وعليها هي أيضًا، استمرت رحلة الصعود لمدة كبيرة نظرًا لطول الدرج في البيت لكنها كانت مرحبة وأكثر وهي تعاونه، حتى ولج غرفته أخيرًا بسلامٍ..
اجلسته هي ثم فتحت شرفة غرفته لتسمح للهواء بدخولها والضوء أيضًا وقبل أن تجلس وجدت “يـوسف” على أعتاب الغُرفةِ فتحركت نحوه تسأله بلهفةٍ أعربت عن قلقها عليه:
_إيه اللي جابك بس، مش قولتلك أرتاح وأنا هاجيلك؟ بس أتطمن عليه الأول وأتأكد إنه كويس؟ كدا البيت هيبقى مستشفى بالمعنى الحرفي والله، ناقصكم بس محاليل هنا.
ضحك عليها زوجها القابع فوق الفراش فيما تنهد “يـوسف” وقال بثباتٍ وهو حقًا لا يعلم سبب مجيئه للبيت هنا، لكنه أراد أن يكون بصحبة “أيـوب”:
_أنا جيت أتطمن عليه أكيد وعليكِ، أنا سايبك من امبارح في المستشفى على أساس إنه هييجي ورايا بعد كام ساعة، بس طالما بنتطمن عليه أنا معنديش مشكلة، أخبارك إيه يا “أيـوب”؟ أنتَ كويس؟.
أومأ له موافقًا وهو يبتسم ببشاشةٍ فيما تنهد” أيـهم” ثم أشار لزوجة شقيقه وأخبرها بنبرةٍ هادئة لكي يتركهما سويًا كأنه لمح بعينيه الحديث المنطوق بنظراتهم:
_طب بقولك يا “قـمر” تعالي يلا علشان تتغدي مع البنات تحت أنتِ ماكلتيش من الصبح وعلشان هخليكِ تطلعي تغدي الأستاذ كمان ويقدر ياكل، أكيد هتفتحي نفسه طبعًا.
ابتسمت له برقةٍ ثم تبعته للخارج بعدما ودعت الاثنين، فيما اقترب “يـوسف” من الآخر متحاملًا على آلام جسده ثم جلس على طرف الفراش _تحديدًا بنهايته_ ثم سأله باهتمامٍ:
_ليه فادتني وجيبت العربية ناحيتك أنتَ؟ على فكرة لولا حركتك دي كان زماني أكيد ميت، أنتَ ضريت نفسك يا “أيـوب” ومشيلني الذنب، مش ذنب واحد دول كتير، أولهم إني خدتك معايا الشركة وخليتك تقف في وشهم والتاني حركتك دي، في ثانية قلبت العربية ناحيتك؟.
تنهد الآخر ثم نطق بصوتٍ عميقٍ ورخيمٍ:
_عملت كدا علشانك وعلشان وعدي لأختك إنك ملزوم مني تبقى في أمان، أنا قولتلها إن راحتك دين في رقبتي وهسدده، يمكن وقتها كل حاجة كانت غلط والعربية متدمرة أصلًا من قبل ما نركب، كل حاجة فيها كانت متغيرة، فيمين أو شمال دا نصيب مفيش مفر منه، بس كان لازم أعمل حاجة تخليني مخسرش صاحبي، جت فيا بقى وخلاص، اعتبرني أب يا سيدي خاف على ابنه وقال يحميه.
ابتسم “يـوسف” بحزنٍ حينما تذكر والده وسرعان ما تذكر جملة رفيقه وهو يخبره أن يترك السيارة ويهبط منها، فعاود النظر إليه وقال بنبرةٍ هادئة حاول إخفاء حزنه عنها:
_عارف؟ أنتَ شبهه بزيادة عن اللزوم، فيك منه كتير كأنك أنتَ اللي ابنه مش أنا، هو برضه كان بيعمل كل حاجة علشان أنا أكون كويس، بس أنا خسرته والحمدلله مخسرتكش أنتَ كمان، والله حسيت روحي بتتسحب بالبطيء وأنا مستنيك تخرج تاني وفيك الروح، مكانش هينفع أعيش احساس الفقد دا مرتين، كفاية لحد دلوقتي لسه منسيتش اليوم اللي صحيت فيه وكل حاجة مني متاخدة حتى نفسي خدوها مني وعمري ضايع وأنا بحاول…
سكت هُنيهة ثم نطق بتهكمٍ مرير يُعبر عن جرحه:
_تخيل عمري يضيع وأنا بدور على نفسي الضايعة مني؟.
أشار “أيـوب” على الفراش بجواره حتى اقترب “يـوسف” منه وجاوره فضمه “أيـوب” لصدره وقال بنبرةٍ هادئة يُطمئنه ويمسح على قلبه كأنه غوثٌ أتى لقلبه:
_خليك معايا هنا يمكن تلاقيها.
سكون وسكينة غمرا قلب “يـوسف” الذي أغمض عينيه في عناق رفيقه الذي أغمض عينيه هو الآخر وكأنهما عصفوران تهشمت أجنحتهم من كثرة الطير والآن يعاقبان ببتر تلك الأجنحة، هذا الرفيق الوحيد الذي تشعر معه بالأمان وينصفك أمام نفسك التي تخذلك قد يكون خيرًا لكَ من مدينةٍ تُرهقك كُليًا وتخذلك أمام نفسك قبل الآخرين.
__________________________________
<“معكم وجدنا الأمان بكل أمانٍ”>
بعض الأمان نجده كاملًا والبعض الآخر نجده ناقصًا، لكن هناك أمانٌ نجده بكل أمانٍ، حيث نجد بعض القلوب تمسح على قلوبنا وتُخبرنا أن لولا تواجدها معنا لما أكملنا الطريق وكنا انتهينا في المنتصف، تلك القلوب يوم أن أعطتنا الأمان غلفته لنا بكل أمانٍ ودفعته نحو القلب..
في منطقة نزلة السمان..
عاد “نَـعيم” لبيته واستقر أخيرًا بعدما أطمئن على “أيـوب” وعلى حالته وكان معه ويرافقه “إسماعيل” الذي أتم دوره على أكمل وجه وقد جلس أمام أبيه الروحي ثم أخرج هاتفه يُراسل زوجته ويخبرها أنه وصل أخيرًا، فوجدها تطلب رقمه وما إن جاوبها قالت هي بلهفةٍ:
_العصر هيأذن خلاص أهو، قوم صلي الضهر ومتنساش تقرأ الأذكار مش هفكرك تاني، استني قريت أذكار الصباح ولا لأ؟ قرأت القُرآن كمان ولا طنشت ونسيت؟.
ابتسم مُرغمًا بسبب طريقتها وقال بنبرةٍ هادئة:
_لأ متقلقيش صليت الضهر في مسجد المستشفى وشارب مياه في الرقية الشرعية وقاريء أذكار الصباح ومصلي الفجر جماعة مع الحج في المسجد، ويدوبك هغير هدومي وأتوضا وأجهز للعصر متقلقيش والله زي الفل، الحالة لسه مشتغلتش يعني.
تنهدت بثقلٍ ثم نطقت بخوفٍ حقيقي عليها وعلى قلبه:
_متزعلش مني بس والله أنا مش عاوزة حاجة تقلقني عليك كفاية اللي إحنا فيه يا “إسماعيل” بعدين أنتَ بتقطع في الصلاة وأنا كمان فعاوزين بس نلتزم شوية، طمني بس أخبارك إيه؟ أنتَ كويس؟.
_آه متقلقيش كويس والله، وحاسس براحة نفسية شوية خاصةً لما بكون مصلي ومتوضي، ساعات مبرضاش أصلي ولما أحط السجادة أشيلها تاني بس لما بدخل المسجد بحس إني مرتاح أوي وبخرج مرتاح، أقعد شوية يركبني عفريت وأبدأ أهبل، غالبًا كدا محتاج أعيش في زاوية وأبقى زاهد فيها علشان أحس إني مرتاح شوية.
كان هذا قوله وهو يُجاوبها بكل صراحةٍ جعلتها تبتسم بل وتضحك أيضًا في الهاتف ثم سحبت نفسًا عميقًا وقالت بلهفةٍ وهي تستأنف عملها:
_طب روح يلا أتوضا وجهز نفسك وأنا هشوف أخرة الشغل اللي مبيخلصش دا إيه، سلام وسلملي على حوكشة، شكلي حبيته أكتر منك أصلًا.
كز على أسنانه بغيظٍ منها والتقطت هي همهمات حانقة منه فضحكت عليه ثم ودعته وهي تضحك عليه حتى ضحك هو الآخر وفي تلك اللحظة خرج “مُـحي” من غرفته بملامح وجه ناعسة وهو يتثاءب ثم جاور “إسماعيل” وهو يقول بصوتٍ مبحوحٍ:
_أطمنتوا على الناس اللي عاملين حادثة دول؟.
ضحك “نَـعيم” رغمًا عنه وأومأ موافقًا له وفي تلك اللحظة ولجت “إيـمي” لهم بملامح وجه مُنبسطة والبسمة العذبة تُزين وجهها مما جعل “مُـحي” يتعجب كثيرًا من ذلك بينما هي تلقت الترحيب منهم بصدرٍ رَحب ثم جلست في مواجهة “نَـعيم” وهي تقول بأدبٍ:
_إزي حضرتك يا عمو، معلش لو كنت جيت فجأة بس أنا جيت أطلب من حضرتك علطول علشان “مُـحي” مش راضي يسمع كلامي، للأسف فيه حفلة بتاعة بنت صاحبتي بس هي بعيدة شوية، عملاها في العين السُخنة وإحنا خلصنا امتحانات أهو، وبابا قالي هيوافق لو “مُـحي” هيروح لأنه بيتطمن لما بكون معاه وبيكون واثق إن محدش هيقرب مني.
عقد “إسماعيل” حاجبيه ثم مال نحو “نَـعيم” يسأله بسخريةٍ ممازحة بصوتٍ أقرب للهمس حتى لا يصل للآخرين:
_هي تقصد “مُـحي” مين؟ “مُـحي” بتاعنا دا؟.
_تلاقي أبوها فاكره دكتور “مُـحي الدين أبو العز”.
هكذا رد عليه “نَـعيم” بسخريةٍ على الآخر الذي جاهد لكتم ضحكته ثم ابتسم لها فيما سأل الآخر ابنه بتعجبٍ وربما وصل تعجبه للدهشة من فعل ابنه:
_غريب إنك مش عاوز تروح، ما كنا بنلمك من الأماكن دي بالعافية وتزعل لما أرفض، مش عاوز تروح ولا خايف أنا أرفض فمن دلوقتي مسبق بالرفض يعني أنتَ كمان؟.
أراد والده أن يعلم ما في نفسه وقد وضع الأمل به في تلك اللحظة، أراد أن يُطمئنه الآخر أنه يفعل ما بوسعه لكي يحصل على رضاه، أراد أن يرى بابنه حبه الخفي الذي قلما يُفصح عنه، بينما “مُـحي” فلم يعلم بماذا يخبره، هو حقًا لم يستسغ الفكرةِ بعد، لم ترقه فكرة الذهاب لهذا المكان، يبدو أن العيش مع الشباب والتقرب منهم ومن شقيقه والاهتمام الذي يحصل عليه بينهم بددوا رغباته الغريبة في التقرب من تلك الأماكن، لكنه تنهد بثقلٍ وقال:
_عادي مش حابب أروح، بعدين أنا وعدتك ووعدت “تَـيام” كمان مفيش سهر برة ولا سفر وخروج غير لما أنجح وأتخرج وهيكون احتفال في اليخت بس مش أكتر، مش عاوز أخلف بوعدي معاك يعني من أولها، بعدين “إيـهاب” حاليًا سايب الشغل معايا وأنا واقف مع “سـراج” اللي قطع أجازته دا.
استحسن والده الجواب وأراد أن يُخبره أنه كان ينتظر هذا الجواب منه لكنه تراجع وأومأ له مُتفهمًا ثم تفوه بصوتٍ يغلب عليه الطابع الودي:
_طالما كدا يبقى روح وأنا واثق فيك، أهو تخلي بالك من “إيمي” طالما باباها واثق فيك أوي كدا… يا بخته.
يمازحه ويتمادي في المزاح حتى ضحك ابنه وضحكت الفتاة ثم شكرته وأكدت عليه موعد الحفل والتحرك، بينما هو فهناك رُقعة فارغة ظهرت بداخله أراد أن يتخلص منها، لا يعلم سببًا لظهورها فجأةً لكنه شعر أن هناك فراغٌ يملأ قلبه وسُرعان ما أتت صورتها بحديثها الأخير معه وهي تخبره أن هذه الدنيا فانية ومن المؤكد أننا سوف نرحل منها، حينما تذكرها أراد أن يتمرد على نفسه ويخرجها من تفكيره فوافق وأكد موافقته ولا يعلم مع من يُعاند، نفسه أم قدره؟.
في البناية المجاورة تحديدًا بشقة “إيـهاب” كان هو في شُرفة شقته يتحدث في الهاتف مع “ميكي” الذي تولى مهمة البحث والكشف عن قضية الملجأ خوفًا على رفيقه وشقيقه أن يطلهما الاذى، فأتاه الجواب المُريح والمُثلج لنيران صدره بقول الآخر مُتباهيًا:
_أنا ظبط عم “بسيوني” الأمين وهو رساني على اللي فيها، قالي إن القضية اتحفظت ضد مجهول والملجأ دا هيتسلم لحد تاني يديره علشان البنات اللي فيه، بس متقلقش “إسماعيل” محدش جاب سيرته خالص ولا اسمه مذكور أصلًا في أي حاجة، القضية أتقفلت ضد مجهول علشان مفيش أي أدلة تكفي وتقرير الطب الشرعي قال إن القتل كان بشكل احترافي رغم إنه من مسافة بعيدة، معرفش مين الفاجر دا بس عاوز أبوس دماغه المتكلفة دي.
تنهد “إيـهاب” ثم مسح وجهه بأحد كفيه وقال بصبرٍ محدودٍ وكاد أن ينفذ وتنفذ طاقته:
_ركز بس معايا، عاوزك تفضل متابع لو في أي جديد أو حتى لو القضية اتفتحت من تاني، ومن غير سؤال علشان عارفني مبجاوبش، بس ركز معايا ومع القسم، لحد ما نشوف آخرتها وأخرة الدار دي إيه، يلا سلام.
أغلق معه بعدما ألقى أوامره والتفت ليجدها تتخصر وهي ترفع أحد حاجبيها وترمقه بشرٍ ثم سألته بسخريةٍ تهكمية:
_جرى إيه يا “عمهم”؟ الساعتين اللي هتقعدهم هنا هتقضيهم همس وصوت واطي وكلام في التليفون؟ دا أنا قبل الجواز كنت بشوفك أكتر من كدا، حِـكم والله.
تنهد هو بثقلٍ ثم وضع كفًا فوق الآخر وهو يقول بسخريةٍ:
_حظك يا “سمارة” إنك متجوزة واحد مشاغله كتيرة والكل بيعتمد عليه، مش أحسن ما أبقى نطع مستني مراتي تشتغل وتيجي تديني زي أبـو “چـنى” كدا؟ احمدي ربنا وبوسي ايدي وش وضهري، بلاش تنكشي فيا أنا بحبك وأنتِ رايقة.
حركت كتفيها بدلالٍ ثم اقتربت منه ورفعت ذراعيها تحاوط عنقه بدلالٍ مُبالغٍ به كأنها فتنة تغوي تائبًا عن المعاصي:
_وأنا رايقة بس؟ يعني لو متعصبة هتقلب عليا؟.
حرك رأسه نفيًا وكاد أن يبتسم فوجدها تقترب أكثر وهي تسأله برقةٍ مفتعلة بعدما وضع كلا كفيه خلف ظهرها يدعم ثقلها بسبب حملها ودلالها المغوي له:
_طب قبل ما أتعصب وهرمونات الهبل تشتغل، ينفع تنزلني أتمشى؟ زهقت من السجن دا وبقيت بكلم نفسي هنا، أرحمني حرام عليك مخي شت وعقلي طار منك ومن قعدتي هنا لوحدي، كدا هخلف عيل متوحد.
ضحك رغمًا عنه حينما صرخت في وجهه وهي تتصنع خنقه بكلا كفيها ثم ضمها بمزاحٍ يُكبل كفيها وقال بنبرةٍ ضاحكة يُجاريها ويُطيع رغباتها رغم غرابتها:
_أدخلي ألبسي يلا هعزمك على كبدة.
ضحكت باتساعٍ ثم تركته وهرولت نحو غرفتها لكي تبدل ثيابها فيما جلس هو فوق المقعد ينتظر قدومها وهو يحاول بأقصى ما فيه أن يُطمئن جميع من حوله وحظها العسِر أن أكثر أوقاتها احتياجًا له ولتواجده أتى بنفس موعد تفاقم دوره في المسئوليات الواقعة عليه، تمامًا كمن يُصادف ربيع عمره خريف المدينة.
على بُعد مسافةٍ من بيت “نَـعيم” كان “مُـنذر” في طريقه للعودة إلى البيت سيرًا على الأقدام وهو شارد الذهن كعادته في كل شيءٍ بداخل حياته، كل شيءٍ لم يعجبه ولا أي مكانٍ يُريحه، اختنق أكثر من وحدته وفراغه وفكر بها هي من جديد، هي لا غيرها من تقفز صورتها لذهنه فتبعد عنه كل شيءٍ مريرٍ، تنهد بقوةٍ ما إن أطلق لفكره حُرية التفكير بها وتذكر تفاصيلها، وإبان ذهابه للبيت تصادم في كتف أحدهم، وقبل أن يتحدث تلاقت النظرات ببعضها فتوسعت عيناه ليجد “ماكسيم” يضحك له ونطق مُرحبًا به:
_”مُـنذر”!! مش معقول وحشتني أوي.
أكان ينقصه همًا فوق همومه لكي يظهر له هذا البغيض؟ لقد حُصرت الأنفاس بين رئتيه وهو يرى سبب تدمير حياته يقف أمامه مبتسمًا ببشاشةٍ ثم وضع كلا كفيه في جيبي بنطاله وقال بلهجته الآمرة:
_أنا معنديش وقت للأسف، مطلوب منك تخرج “سـامي” من حارة العطار افتح الإيميل بتاعك علشان تلاقي كل التفاصيل عندك وتوريني شطارتك بقى، وحسابك هيوصلك.
_وإن قولت لأ؟.
اندفع “مُـنذر” بتلك الجُملة بغير تفكيرٍ بل أراد أن يُعبر عن احتجاجه واعتراضه فوجد الآخر كعادته الباردة التي تتنافى مع أصوله البربرية، بينما “ماكسيم” فضحك ضحكات واسعة وصوته يُجلجل ويشق سكون الليل ثم أضاف ما وأد ثباته بقوله الخبيث:
_بسيطة هروح للحج “نَـعيم” وأقوله إنك مجرد واحد نصاب وترجع من تاني للشارع بس المرة دي هتبقى كبش فِدا.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)
💜