رواية غوثهم الفصل المائة والثالث والأربعون 143 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة والثالث والأربعون
رواية غوثهم البارت المائة والثالث والأربعون
رواية غوثهم الحلقة المائة والثالثة والأربعون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثامن والخمسون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
أتيت وفي الحشا ألم ثقيل
ومن عيني أنهـار تسيـل..
أنا الموجوع من ألم الخطايا
بكيت فهل سينقذني الدليـل..
إلـهي قد أتيـتك في رجاء
وجفني دمعه سكب هطيل..
فقير لست أدري ما جزائي
أأمضي في سكوني أم أمييل..
_”مقتبس”
__________________________________
ولو أُقيمت الحرب أنا لن أتخاذل عن مكاني بها لأجل عينيكِ أنتِ وفقط، فما الرجل إلا محاربٌ لأجل موطنه وما في عينيكِ إلا وطنٍ وأنا أسكنه؟ فرُبما تُفرض علينا الحروب، ورُبما تُملأ قلوبنا بالندوب، وقد تحول بيننا الطُرقات لكني وبرغم ذلك سأحافظ على حُبك وسأسلك له نفس الطُرقات التي أوصلتني لحبك، رجلٌ أنا والهزيمة لم تكن يومًا بقاموسي، بل كل معاركي تم خوضها بنزاهةٍ وانتهت لي بنصرٍ، إلا تلك الحرب الوحيدة التي فرضها قلبك على عاشقٍ مثلي وكان السلاح فيها سهامًا من كلا عينيكِ، عينان أرى بهما موطنًا سكن فيه الغريب، وفُتِن بهما الزاهد، ولان لأجلهما الصلب، وانتبه لهما الشريد، واستأنس بهما الوحيد، وانتصر لأجلهما الفاتح، بل ورأى فيهما الأعمى نورًا، وأبصر فيهما العاصي توبةً، ووجد فيهما الخاطيء صوابه، ونال عندهما السائل على مُراده، أما ذاك المُتألم الذي عاش وسط الحرب، رأى فيهما للنجاة الدرب، فهل تُرىٰ تلك الأعين لأجلها يتخاذل المرء عن إقامة الحروب؟ أم يكون النصر له لأجلهما هو المكتوب؟.
<“لا تأمن خديعة ماكرٍ، فالثعالب لن تخلو من مكرها”>
النفس دومًا تميل لكل ممنوعٍ عنها وترغبه؛ ليس لشيءٍ بعينيه وإنما لأن الممنوع الذي لم تطلهُ الأيادي هو ذاك الشيء الذي ترغبه النفس وتتطلع إليه الأعين وكأنه بالشيء النفيس الغير مُدرك من قبل، وفي الممنوع قد نجد الخطأ الأكبر والخسائر الفادحة، لكن لطالما كان هو البعيد الغير مُنال بين الأيدي إذًا فلنرغبه نحن..
كانا سويًا برفقة بعضهما وقبل أن ينطق أيًا منهما أتاهما من الخلف الصوت البغيض يهتف بخيلاءٍ واستعلاءٍ كأنه يملك الأرض بإرادة ساكنيها:
_آخر حاجة كنت أتوقعها إن ييجي يوم ويكون فيه قدامي “أيوب العطار” مع “يـوسف الراوي” مع بعض، والغريب أكتر هو إن الموت والحياة هيجمعوكم مع بعض.
التفت له كلاهما مع بعضهما في نفس اللحظة فابتسم “ماكسيم” ثم دس كفيه في جيبي بنطاله وقال برأسٍ مرفوعٍ وأنفٍ شامخة:
_أنا آسف طبعًا إني جيت أتطمن عليكم متأخر بس بصراحة من بعد ما قطعت ليكم فرامل العربية واتسببت في اللي حصل ليكم وأنا بفكر آجي وأجيب معايا إيه بس مش لاقي حاجة تليق باتنين زيكم، كان نفسي “نـادر” يكون موجود معاكم علشان أتطمن عليه بعدما خبطته بالعربية هو كمان، بس يا حرام دلوقتي زمانه مخطوف وفي إيد رجالتي أو يمكن يكون هرب منهم، هو وشطارته بقى، صحيح مبروك على الفرح، عرفت إن فرحكم بعد بكرة.
اتقدت نيران الأعين وتوسعت المُقل جاحظةً وكأنما هناك ألسنة من اللهب المُتصاعد تقف أمام كُتلٍ من ثليجٍ لم يذب بل حاول إضفاء برودته للنيران، تبادلت النظرات بينهما حتى اقترب هو الخطوات الفاصلة بينه وبينهما وقال بذات الشموخ:
_أنا كان نفسي نجتمع في ظروف أحسن من دي بس بصراحة مش باين يعني، المهم علشان معطلش حد فيكم أنا مبسوط أوي إنكم شباب قوي أوي كدا وتخطيتوا المحنة وقادرين تتجاوزوا كل دا، وكمان هتفرحوا عادي، يلا هسيبكم تفرحوا وبعدين نتقابل تاني على خير، ولا إيه يا شيخ “أيـوب”؟.
قرر المذكور أن يخرج من طور الصمت ورفع رأسه بشموخٍ هو الآخر ثم نطق بثباتٍ خرج من خلف جدارٍ قوي يقبع خلف القلب:
_والله أنا مش عاوز أرد عليك لأني معود نفسي أتجاهل الوضاعة وأمثالها، بس أنا راجل صاحب واجب برضه، عاوز تيجي تتفضل تاخد واجبك أنا معنديش أي مانع بس مترجعش تزعل من ضيافتي ليك، ولو عاوز تبجح وتقل أدبك برضه أهلًا وسهلًا بس وريني هتخرج من هنا إزاي؟.
ضحك “ماكسيم” بخفةٍ وأومأ بحركاتٍ مُفتعلة ثم قال بنبرةٍ أدعى بها اللامبالاة وعدم الاكتراث بما يحكِ به وعنه:
_أنا من رأيي إنكم تروحوا تلحقوا “نـادر” علشان فرحكم ميبوظش حرام كدا، وبعدين يعني مش عيب يكون عندك مركز صيانة زي دا وتسيب عربيتي عطلانة من غير ما تساعدني أصلحها؟ أخطفلك القمر بتاعك يعني علشان أخليك تصلحها؟.
انتفض تلك المرة “يـوسف” انتفاضة ثائرٍ ثم قبض فوق تلابيب الآخر بعدما قطع المسافة الفاصلة بينهما وقال بصوتٍ جهورٍ أقرب في وتيرته لهتاف الثوار:
_لو فكرت تقرب من حد يخصني أنا مش هسمي عليك، مش هعمل حساب حاجة وأنتَ عارفني كويس وعارف دماغي ومش أول مرة نقع مع بعض، فأحسنلك خليك بعيد علشان نهايتك متكونش على أيدي أنا، غور في ستين داهية مطرح ما جيت.
دفعه بكلا كفيه كما يدفع القازورات من طريقه فهندم الآخر ثيابه وقبل أن يٕثير استفزاز أيًا منهما مرة أخرىٰ صاح صوت “أيـوب” عاليًا باسم مساعده بنبرةٍ اهتزت لأجلها الأرجاء حتى هرول الشاب وقال بطاعةٍ وودٍ:
_أؤمر يا “أيـوب” محتاج حاجة؟.
طافت نظرات “أيـوب” بينه وبين “ماكسيم” الماثل بكل برودٍ أشبه ببرود المحتل الجبان في أرض عربيٍ وهو يقف بعقر داره، وسرعان ما بغض النظر إليه فالتفت للشاب يخاطبه بهدوءٍ:
_روح طلع الأستاذ برة علشان تايه في السكة، وأبقى خلي بالك بعد كدا مش أي حد يدخل هنا خصوصًا لو ملهمش أصل زي البيه كدا، وأبقى أحكيله عن حكمة التيران اللي بتحب تلعب في الطين، وأحكيله برضه إن الواعي مبيركزش مع كلام التور علشان عادةً التور بيعمل اللي هو عاوزه وبس حتى لو بيحب يوسخ نفسه في الطين.
ابتسم “ماكسيم” بنفس البرود وعلم أن قوة “أيـوب” هي التي تليق بذائقته في البشر، قويٌ مثله بالطبع سيفيده في كل شيءٍ وسيكون الصورة الأمثل لفعل أي شيءٍ يوضع تحت وطأة الدين؛ قرر في لحظته تلك أن الهروب هو الحل الأمثل له خاصةً أن الطريق أمامه لازال مليئًا بالكثير من التعرجات وهو ينتهج التؤدة لكي يستهدى في سيره قبل أن ينقلب في الطريق..
رحل وترك الاثنين مع بعضهما يتلظيان بنيرانٍ وكأنهما يجلسان فوق موقدٍ من نارٍ وخاصةً “يـوسف” الذي أخرج هاتفه يطلب رقم “نـادر” بأعصابٍ تالفة حتى أتاه الرد من الآخر بهدوءٍ تامٍ لم يوحِ بحدوث أي شيءٍ من قبيل حديث الآخر:
_إيه يا “يـوسف” فيه حاجة ولا إيه؟.
وباندفاعٍ من الآخر كان الرد مُهتاجًا بقوله:
_خير إيه وبتاع إيه؟ أنتَ فين بالظبط ومع مين؟.
تعجب “نـادر” من حديثه واندفاعه ثم قال بثباتٍ برع في رسمه وهو يجاوب على حديث الآخر:
_أنا في عربيتي رايح الشقة بتاعتي أجيب منها ورق مهم علشان الشركة عاوزاه لزوم أجازتي والتفاصيل الطبية لحالتي، بس هو فيه إيه؟ أنتَ متعصب كدا ليه هو حد جه جنبك؟.
تنهد “يـوسف” يلتقط أنفاسه الهاربة بذلك ثم قال بصوتٍ مبحوحٍ إثر تقطع أنفاسه وتفرق حروف الكلمات التي تضافرت بعد كدٍ:
_محدش جه جنبي، المهم حاول متتأخرش برة شوف بتعمل إيه وتعالى بسرعة يا “نـادر” ولو فيه حاجة كلمني أو كلم “عُـدي” وحد فينا يكون معاك، ومتتأخرش عن عمتي وهي لوحدها كتير كدا.
تعجب “نـادر” من نبرة القلق البادية وسط كلمات الآخر وخاصةً ذكر صفة “العمة” من بين شفتيه لأول مرةٍ منذ سنين مرت، وجراء ذلك أتى بقوله الهاديء الرصين:
_حاضر، بس عمتك عند حماتك أنا وديتها هناك علشان تساعدهم في حاجة الحِنة، وأنا مخلص هعدي أجيبها من هناك متقلقش، وشكرًا لقلقك عليا أنا بخير يا “يـوسف”.
أغلقت المكالمة ومعهما ضُمت دَّفات الحديث أيضًا وكأن الكتاب طوىٰ صفحاته ولم يتواجد به ما تتم قراءته، وقد أقترب “أيـوب” من رفيقه وحاوط كتفيه تزامنًا مع نطقه بقوله الهاديء:
_قولتلك جاي يشتغلنا ويبوظ فرحتنا مش أكتر، سيبك منه ويلا خلينا نشوف بنعمل إيه لسه ورانا يوم طويل بكرة وأكيد محتاجين نرتاح ولسه هروح المسجد، ولو على “نـادر” متقلقش أكيد مش هيحصله حاجة، نخلص اللي ورانا الأول بعدين نفوق للي جاي، الراجل دا شكله مش ناويها على بر.
أومأ له “يـوسف” بشرودٍ وقد قرر أن يصمت؛ هذا الصمت الذي لم يعرفه رأسه أبدًا ولم يُدركه هو مع نفسه، قرر أن يَكُف عن حديثٍ لن يُفيد بشيءٍ وإنما كثرته قد تؤلمه بكل بشيءٍ، قرر أن يصمت ويُجاري مجرى المياه بدلًا من ركودٍ يُسفر عن عطبٍ في قلبه وفقط…
__________________________________
<“وأين المفر من أيامي والحرب أساسها في عمري؟”>
بين مطرقةٍ وسندان قد يوضع رأس المرء لحين تنزل الضربة القاضية فوق رأسه لعلها تُنهي حربًا بداخله لم يقوَ على الهرب منها، لكن تلك اللحظات التي تمر بين الضربة وانتظارها أشد فتكًا للنفسِ من تلقي الضربة بذاتها..
في مكانٍ آخرٍ حيث الثراء البائن في المظهر الخارجي من بناياتٍ شاهقة ومظاهر توحي أن من يسكن هُنا يجني أموالًا طائلة ويُبذرها في طرفة عينٍ وصل ذاك الشاب المتألم، وصل أسفل بنايته وومضات الماضي تلوح بكفها له لكي ينتبه لها ومن ثم تصفعه فوق وجهه بغير تحذيرٍ، داس بقدمه فوق الأرض الرُخامية في مدخل البناية ووقف أمام المرآة وحينها أنقبض قلبه ما إن تذكر جملتها في ذكرى أرقته:
_”استنى بس نتصور مع بعض هنا، قرب يلَّا”.
وقتها أقترب بقلة حيلة وجاورها والتقطت هي الصورة لهما سويًا وهي تضحك بسعادةٍ وهو كما الطفل الذي بدأ يخطو ويكتشف العالم من حوله ظنًا منه أن الوقوع ماهو إلا التدريب لسيرٍ ناجحٍ، هرب من تلك الذكرىٰ ثم توجه نحو شقته بسرعةٍ كُبرى هربًا من جيش ذكرياتٍ يركض خلفه رافعًا سيوفه ليدمي قلبه..
فتح باب شقته ولم يعلم أنه بذلك يفتح أبواب الجحيم لقلبه، ولج الشقة المُظلمة كما ظُلمة روحه وسحب نفسًا عميقًا يحاول به أن يُهديء من روع قلبه المُلتاع من ماضٍ أليمٍ وصوت ضحكاته الرنانة يدنو من سمعه بصدىٰ ليس ببعيدٍ عنه، لمح بوميضٍ ذكرى مُحببة لقلبه حينما ركضت وهي تضحك بغنجٍ مقصودٍ جعله يلحق بها ثم حملها فوق كفيه يُدللها وهو يُثني على جمالها الآخاذ..
هنا فوق الأريكة كانت تجلس ذات مرةٍ وأتى هو يُلقي بنفسه فوق فخذيها فضمته هي لها وظلت تستمع له وهي تُجيد الإنصات له، تلك التي لم يبخل عليها بأي شيءٍ حتى قلبه سلمه لها بين راحتيها وطلب منها فقط أن تحميه له، كانت هي أول من ألقته أرضًا لكي تدهسه الأقدام أسفلها، نزلت عبراته أمام الذكريات المؤرقة لراحته وقبل أن يلتفت صوب الرواق وجدها تخرج منه هي…
توسعت عيناه بغير تصديقٍ أمامها ووقف يراقب قدومها منه وهو يتمنى أن تلك تكون مجرد ذكرى عابرة أهون لقلبه من أن تكون حقيقة مفروغٍ منها، لكن هيهات، هي لم تستحِ يومًا لذا تفعل ما تشاء، اقتربت منه وهي تقول بلهفةٍ تستجديه بها رافقها بكاءٌ لا يعلم هو مدى صدقه:
_أديني فرصة بس، أنا محتاجالك والله، لسه قدامنا فرصة ونرجع لبعض فيها، العِدة لسه مخلصتش وطلاقنا لسه ليه فرصة، أنا والله بضيع من غيرك، ولجأت لباباك يساعدني وهو قالي لو قدرت يبقى دي خطوة لينا مع بعض، فكر من غير ما حد يأثر عليك منهم، فكر في أي حاجة كانت بينا في يوم بس، أنا مش مرتاحة من غيرك.
تهدج صوتها وتحول للبكاء أمامه فاقترب هو منها يقف أمامها ثم قال بنبرةٍ جامدة أقرب للصراخ الهادر من أسفل رُكامٍ يجثم فوق روحه:
_بس أنا مرتاح، أنا مرتاح من غيرك حتى لو مش لاقي غير الوجع منك بس سايباهولي، مرتاح علشان أنتِ مش سايبالي حاجة واحدة تخليني أشفعلك، حتى لو فيه حاجة واحدة حلوة بس أنا متأكد إنها كانت كدب منك عليا، أنتِ مش مخلياني حتى قادر أشوف حاجة من اللي فات حلوة، سيبني وخرجيني من حساباتك أحسن، أنا حاليًا معنديش أي طاقة ليكِ، ولما عدتك تخلص شوفي حد غيري وانسيني.
فرغ فاهها واقتربت منه تسأله بصوتٍ خافتٍ كأنها تخشى أن تتفوه بهذا الشيء أمامه:
_هو أنتَ عادي تسيبني لحد غيرك؟.
سؤالها لم يتوقعه هو منها لكنه ابتسم بزاوية فمه ولاح الوجع فوق قسمات وجهه المتغضن وأضاف بقسوةٍ:
_عادي، هسيبك لغيري علشان متلزمنيش تاني، أنتِ مجرد واحدة عدت في حياتي خدت منها درس يفوقني وشكرًا لحد كدا، خدتي مني كتير أوي مقابل الدرس دا، يبقى المرة دي الدور عليا أختار نفسي وبس، أنا معملتش ليكِ حاجة وحشة، أنا أكتر واحد أداكِ كل حاجة عنده، مبخلتش عليكِ بنفسي وأنتِ حتى إيدك استخسرتيها تمسكني، ليه يا “شـهد”؟ ليه مفيش مرة اخترتيني قدام نفسك؟ ليه وأنا قايلك….؟
تهدج صوته وفرت عبرة خائنة من عينٍ وأبت الأخرى الركوع أمام سطوة القهر وهو يُكمل بوجعٍ لم يقدر على إحجامه:
_قولتلك أنا معرفش يعني إيه عيلة وأب ممكن يحضن ابنه علشان بيحبه، قولتلك نفسي يكون عندي بيت بعيد عن الكل ويكون فيه عيالي محاوطيني حواليهم، قولتلك نفسي حد ياخد بايدي ويخليني بعيد عن كل حاجة بس أنتِ في نص السكة توهتيني، لا فضلتي ماسكة ايدي، ولا حتى عان عليكِ تقوليلي على الطريق، فضلتي مكملة معايا وأنا أملي معاكِ يزيد، ومرة واحدة تدوسيني؟ قولتلك قبل كدا لو”يـوسف” كان معايا يمكن كان زماني جربت حب الأخوات، قولتيلي دا كلب حاول يعتدي عليا، ساعتها قولتلك أكلمه وأفهم منه، كان جوابك إيه؟ قولتيلي لو هتقبل ليا الوجع دا كلمه…
_وأنا الحمار الأهبل، صدقتك وصعب عليا وجعك ومنظرك قدامه، صدقت إنك طيبة وهو اللي وحش ومفتري، اتغابيت وصدقتك علشان فرحت إن حد بيلجأ ليا وعاوزني أساعده وأنا عايش عمري كله لوحدي مقفول عليا من الناس، شوفتيني بكرهه كل يوم وكنتِ فرحانة وأنا بكرهه، بس أقولك؟ المرة دي العكس هيحصل، لو روحي فيكِ يا “شـهد” مش عاوزها، متلزمنيش تاني، ولو أنتِ وهو في كفة واحدة أنا هختار كفة “يـوسف” ولو أبويا نفسه قدامي مش هختاره، علشان اللي يقبل ابنه يكون *** كدا ميستاهلش إني اختاره.
ازداد الدمع تدفقًا منها، وتحرك القلب هلعًا يتخبط في ضلعها، ومر اللُعاب كما العلقم في حلقها وهي أمامه تبكي تلك المرة بقهرٍ، بينما هو فأخذ الفعل الأخير الذي يترتب على إثره إغلاق الكتاب للأبد ومن المؤكد أنه سيقوم بإحراقه؛ حيث قام بسحبها من رسغها وهي في الخلف تقاوم وتحاول إفلات يدها من بين قبضته لكنه قام بفتح الباب ثم دفعها نحو الخارج وقال بلهجةٍ صلدة وحادة:
_برة، أنتِ مالكيش مكان غير برة من كل حساباتي وحياتي كمان، برة علشان أنا كرهتك وحتى كُرهي ليكِ خسارة فيكِ، ولآخر مرة هقولهالك لو أنا شوفتك تاني صدقيني أنا هدوسك يا “شـهد” ومش هسمي عليكِ.
أغلق الباب في وجهها كما سبق وأغلقت في وجهه سُبل النجاة من قاعٍ ظالمٍ، تركها تنوح وتبكي وتتوسله وهو في الداخل يقوم بدهس قدميه ومشاعره ثم قام بإغلاق أذنيه حتى لا يصله صوت بكائها وتوسلها له، جلست في الخارج أمام الباب ترجوه أن يعود بينما هو في الداخل كان يحارب لكي لا يسقط كما البيت المقصوف من أساسه؛ لسان حاله ردد عليه بقهرٍ ينعي قلبه:
“أنا الذي لم يعرفني غيري في هذا العالم..
أنا هنا التائه ولم أجد الطريق بعد،
أنا هنا الضائع ولازِلت، طُرقاتي مُظلمة،
وأضواء شمسي غاربة، سمائي وحيدة بغير قمرٍ،
أيامي تمضِ بدون عُمرٍ، أنا أسير والعالم يسير وبين جنبات العالم المُجحف أنا الأسير، طُرقاتي بأكملها علىَّ مفروضة، وحُرية الاختيار مني مرفوضة، لم يُنصفني بالعالم شيء، ولم اختر في حياتي شيئًا بعد،
وأما بعد ليس من بعد أيامي بعد”
__________________________________
<“مالك الشيء يثأر لأجل اقتناص حقه”>
جميعنا خُلقنا بتلك النزعة البدائية التي تثور وتموج فينا لكي نثأر لأنفسنا ولما يخصنا، نحن المالكون لأشياءٍ أحبها القلب وهوت رؤيتها العين لن نقبل بمن يعتدِ على حُرمة ما يعود لنا، رُبما يرانا العالم آثمين في الثأر؛ لكن من لم يثأر من المؤكد أنه فقد نزعة الحُرية بداخله..
كانت البداية غامضة، والكلمات مُبعثرة، شخصٌ أبله طمع في النور فنادى يُطالب بـ “نـور” ولم يعلم أن تلك النور تنير حياة غيره، زوجٌ يقف أمام غريبٍ يشد عوده ويباشره في الحديث بقوله الرصين اللامع في سماء أعين حالكة:
_أنا سألت وجيت بصراحة آخد الخطوة الصح منك، طالب منك إيد الآنسة “نـور” وشوف الميعاد اللي حضرتك تحبه وتكون فاضي فيه وأنا هاجي وأجيب الوالد والدة معايا، أنا حكيت للوالدة عنها وعن أخلاقها وبرائتها وهي مرحبة جدًا..
قبل أن يُكمل الطريق الذي بدأه وجد من يُقيد عنقه لكي يمنع عنه التنفس تزامنًا مع نطقه من بين أسنانه المُطبقة فوق بعضها:
_نـعم يا روح أمك !! بتقول إيه يا حيلتها؟.
هو من الأساس يفتقر للتهذب والتعقل؛ فما العمل أمام من يتجرأ على ما وضع عليه صك ملكيته؟ بالطبع لن يترك أي سبيلٍ للعقل أن يأتِ ويحضر أمامه، لذا انتهج العنف والآخر يُنازع ويحاول أن يتنفس حتى أتت “نـور” ركضًا له وهي تصرخ باسمه وتحاول ابعاده عن الشاب، وعلى إثر ذلك أتوا أفراد الحراسة وخلفهم “مُـنذر” الذي سعى لفصل الاثنين عن بعضهما وسحب “سـراج” الذي رفع صوته يهين المُدرب ويسبه بقبح الكلمات ثم التفت لزوجته يسألها بغضبٍ أعمى:
_أنا عاوز أفهم هو في إيـه بالظبط؟ كل ما أسيبك في مكان ألاقيكِ بتتعاكسي؟ والمرة دي واحد جاي يطلبك من جوزك؟ المرة الجاية لو اتأخرت هرجع ألاقيكِ بتكتبي كتابك ولا إيه؟.
شهقت هي بتلقائيةٍ ونظرت للشاب الذي حارب لأجل التنفس لكنه ترك محاولته ونطق مستنكرًا بدهشةٍ فرغ لأجلها الفاه:
_جوزها؟ هو أنتَ مش أخوها؟.
التفت له “سـراج” يرشقه شزرًا بنيرانٍ حادة من عينيه ثم رفع صوته وقال بصوتٍ غاضبٍ كمن نفذت طاقته للتكملة:
_أنتَ عبيط يالا؟ أخوها إزاي ومنين وإن شاء الله؟ بعدين هو إيه اللي كلمت والدتي ومرحبة دي؟ طب راعي مشاعر الراجل المتنيل قدامك مبتقاش بغل كدا في كلامك، طب تصدق أنا هخلي أمك تلبس عليك الأسود علشان تبقى تجيب سيرتها تاني كويس.
كاد أن يندفع للأمام لكن “مُـنذر” حال دون ذلك ودفعه للخلف يُعيده مكانه ثم قال بطاقةٍ نافذة كأنه لم يعلم أي شيءٍ:
_خلاص بقى يا “سـراج” أهدا يا أخي هو أكيد ميعرفش يعني إنك جوزها وإلا مكانش جه يطلبها منك أنتَ، وأنتَ يا كابتن أتفضل روح شوف شغلك وشوف الأطفال اللي أنتَ مسئول عنهم دول، ولا هنسيب شغلنا ونفضل ندور على عروسة ونرجع نلوم على العيال؟ يلَّا ولا أنا بتكلم غلط؟ أنا بقول ترجع تشوف شغلك قبل ما النادي يفصلك وتبقى مطولتش حاجة خالص.
انتبه له الشاب وقرر أن يُخرج حاله من هذا الشيء بأقل الخسائر؛ لكن نظرة عينيه نحوها كادت أن تُلحق به أكبر الخسائر أمام زوجها الذي سبه وكاد أن يقترب منه ليكمل ما بدأه من عقابٍ لكن الآخر رمى كلماته الآسفة ثم رحل..
رحل يجر أذيال خيبة الأمل معه، أسبوعٌ رآها فيه تعامل الصغيرة برفقٍ واهتمامٍ وهي لم تكن أمًا لها، فتاة رقيقة وبريئة تضحك فتأسر، وتتحدث فتصدق، وتعطي فتُكرم؛ تلك الصفات استشفها من تعاملها مع من هم حولها ولم ينتبه يومًا للخاتم الذي يتوسط خنصرها ليكون صكًا لملكية غيره لها، تركهم بعدما شعر بالحرج خاصةً أنه كان يحاول اختلاق الأحاديث معها منذ أيامٍ ولمح تحفظها الشديد في التحدث مع الغُرباء..
خرجت “نـور” من شرودها في الموقف وهي الآن تفسر سبب تعامله معها ونظراته لها التي تجاهلتها هي بغير قصدٍ منها؛ وقد أتت صورة “نورهان” تُعيد لها المشهد فأنقبضت فوهة معدتها وكادت أن تتقيأ لكن ولوج “سـراج” بتلك الملامح الحادة جعلتها تستقر فوق الفراش من جديد وهي تقوم بشد الغطاء فوق نصف جسدها؛ فأتاها قوله الساخر بتهكمٍ:
_يا شيخة؟ بتتداري مني والغُرب عادي يعني؟ وترجعي تعيبي على لساني وملافظي، المفروض أعمل إيه لما أشوف واحد جاي يشكر في مراتي ويقولي حكيت لأمي عنها؟ أقوله وماله هات الحجة وتعالى علشان تعاين بنفسها؟.
طريقته وإلقاء اللوم عليها لم تعجبها لذا اندفعت بنصف جسدها العلوي تواجهه بقولها الحاد في دفع التُهم عنها:
_هو كلامك دا معناه إيه يعني؟ بتتهمني إني قاصدة ولا تكون شايفني فرحانة بكل دا؟ لو سمحت يا “سـراج” خلي بالك من كلامك أنا مبحبش الطريقة دي في الكلام.
التفت هو الآخر لها بانفعالٍ تفاقم عن السابق وهدر بانفعالٍ في وجهها بعدما ضيقت عليه منفس الخروج عن الغضب:
_وهو أنا جيت جنبك؟ قولتلك حاجة ولا سكت وبلعت لساني في بوقي وأتخرست خالص عن الكلام؟ أنتِ اللي غريبة من ساعة ما خرجنا من هناك وأنتِ مش طايقة حد كأني قاتلك قتيل؟ وآخرتها أبقى همجي وزبالة كمان؟.
لا تعلم لما بكت أمامه بتلك الطريقة، هل بسبب نبرته، أم بسبب غلظته في الحديث، أم أن هناك ما يؤرق هدوئها ويُعكر صفوها، وجدها تبكِ أمامه وهي تجلس فوق طرف الفراش فاقترب منها بهدوءٍ ثم حاوط كتفها وقال بنبرةٍ دافئة تنافت مع صقيع كلماته السابقة:
_مالك يا بس يا “نـور”؟ أنتِ إيه اللي مزعلك؟.
بسؤاله ضغط فوق زر الإنفجار حيث تمسكت به باكيةً بينما هو ضمها له أكثر ثم قام بإبعاد الخُصلات العالقة بكفه للخلف ثم تحدث بعمقٍ وحنوٍ:
_حقك عليا لو زعلتك بس أنا معذور برضه، ماهو مش طبيعي بعد كل الغُلب والشقا دا هلاقي حد باصصلي في حياتي معاكِ، ياستي خليكِ في بيتك ومتخرجيش برة أحسن، بدل ما كل شوية دمي يتحرق كدا، ألبسك شوال طيب؟.
ضحكت رغمًا عنها وهي تبتعد عن ذراعيه وقد ضحك معها هو الآخر ثم أعادها من جديد لعناقه وتلك المرة تشبث بها أكثر وهو يقول بصدقٍ:
_أنا مش غاوي أشوفك زعلانة بس برضه أنا كراجل مش هيعجبني إنك كل شوية حد يبصلك ويعاكسك، أنتِ طيبة ورقيقة وعليكِ براءة في التفكير تخلي أي حد يفكر إنك بتتصنعي بس أنا متأكد إنك مش كدا، اللي تحبني باللي كان فيا وتساعدني أنضف وترجع تقبلني تاني يبقى أكيد طيبة وقلبها كبير، بس علشان قلبها كبير أكيد مش هيشيل حد غيري يعني، ولو على العطف أعطفي عليا، أنا يتيم محدش حضني من تانية ثانوي.
كان يقصد ممازحتها بتلك الكلمات لكنها ابتعدت عنه تسأله بدهشة وقد أحمرت أرنبة أنفها حينما بدا سؤالها باكيًا:
_دا بجد!!.
انبسطت ملامحه بعض الشيء ورد عليها ببراءةٍ صادقة:
_تصدقي باين بجد؟ والله من بدري محدش حضني، حتى من ساعة ما اتجوزنا أنا بس اللي بحضن، وأنتِ شكلك حابة الموضوع أوي وأنا مطنش بمزاجي خدي بالك، ولا هو أنا علشان معنديش أم بقى أحكيلها عنك وعن برائتك مش هتحضن؟.
تناست حزنها ثم مسحت وجهها براحة كفها ثم أفسحت له المجال فوق الفراش لكي يجاورها وما إن اقترب منها فتحت له ذراعيها بدعوةٍ صريحة منها أن يقترب بين ذراعيها وحينها أقترب يضع رأسه فوق موضع نبضها وهي تضم رأسه بكفٍ وتمسد فوق ظهره بالآخر، لحظة صادقة مرت عليهما سكتا فيها وتركا للقلوب الحديث، هي تحاول صرف تفكيرها والصورة العالقة بذهنها، وهو يحاول الابتعاد عن التهديدات التي تلاحقه من مجهولٍ ليس بمجهولٍ..
__________________________________
<“أخبروا المدائن أن ترفع رايات الفرح أمام المارين”>
في مدائن الفرح يتوجب علينا أن نمر قبلها من ممرات الحُزن لكي نصل لتلك اللحظات الفيصلية، لحظات وصلنا إليها بشق الروح، وألم الجسد، وضعف القلب، وانعدام العزيمة، ومن ثم وصلنا إليها أخيرًا، وصلنا لنرفع رايات الفرح في المدائن ونخبر العالم أننا وصلنا..
الأضواء زينت الحارة بأكملها، الناس يتحركون بها كأنهم في عشية العيد والبهجة تسكن وجوههم، الملامح كانت مُنبسطة والأمل طفق يعلن نفسه فوق الوجوه أثناء الدعوة لأصحاب المُناسبة السعيدة بالتوفيق وصلاح الأحوال، الناس يترددون على بيت “العطار” يأخذون الخير الذي قاموا أهل البيت بتحضير للزائرين والوافدين، تم تحضير الطعام والوجبات وتوزيع الكثير والكثير من أطباق الحلوىٰ الشهية، كانت لحظات سعيدة عادت للبيت من بعد فرح الابنة الصُغرىٰ به ليتلوها زفاف عروس الابن الثاني في البيت..
كان “أيـهم” هو القائم على الإشراف بذاته ومتابعة كل شيءٍ حوله لتنظيم حفل عُرس شقيقه بسعادةٍ أنسته كل ما حوله، حيث كان مع والده يقف مُكاتفًا له وينفذ كل طلبٍ يُطلَّب منه بغير مناقشةٍ، ومعه ابنه الذي كان يملأ البيت ببهجته، وعلى غرار أوامر “أيـوب” كان القرآن الكريم هو ما يصدح من مكبرات الصوت، لم يرد أن تبدأ حياته بالمعاصي بل أراد أن تُبارك برضا الخالق عنه وعن زيجته..
جلس في محل الفُخار الخاص به يُنهي الأعمال المطلوبة منه قبل أن تتراكم خلال فترة عطلته التي ستبدأ من الغد، كان يُتابع انتقال الآواني الفُخارية من المحل للسيارة ثم اعتدل واقفًا يضع كلا كفيه في جيبي بنطاله على أعتاب المحل وكلما مر عليه أحدٌ يبارك له قولًا ثم يرفع كفه فعلًا وهو يرد عليهم جميعًا بشكرٍ وودٍ، حرك عينيه على المدد البعيد يلمح أضواء الحارة فتبسم براحةٍ وهو يراها كما لو كانت قطعة من الأندلس في عيدهم…
في مكانٍ آخرٍ عكس ما سبقه تحديدًا في بناية الفتيات، تم تزيينها بالضوء كُليًا، فبدأت من الطابق العلوي بسطح البيت وحتى الحواف السُفلية للطابق الأول، تلك هي الوسيلة الأفضل لإشهار الزيجات أمام الجميع، وفي أحد الطوابق كانت حنة الفتيات والنساء فقط، ليلة وافق عليها “أيـوب” لزوجته ومنحها حُرية التصرف بها كيفما تشاء دون أن يفرض أي شيءٍ عليها، أرادت وحلمت بشيءٍ وهو وافق وأذعن لها..
وفي شقة “غَـالية” والشقة التي تجاورها الخاصة بشقيقها كانت الأغاني العالية تصدح من السماعات الكُبرى ورافقها في الداخل صوت الفتيات ورقصاتهن بدلالٍ حول كلًا من “قـمر” و “عـهد” اللتان عرفت الفرحة الطريق لوجهيهما، خصلات الاثنتين مفرودة أمام الجميع، كل فتاةٍ فيهما تملك جمالًا خاصًا بها وحدها، وخفة الروح هي التي ساعدت في إبراز هذا الجمال، وكأنهما فراشتان تتراقصان فوق حقل الزهورِ، كانت الأعين تتطلع فتُسبح الخالق لجمالهما سويًا..
في الأسفل ولج “أيـوب” محله ينتظر موعد صلاة المغرب لكي يأم بالمُصليين فوجد “يـوسف” يدخل له وهو يقول بسخريةٍ مرحة:
_طب مش عيب نبقى عرسان زي القمر كدا ومروحناش حتى لحلاق يضرب ماكنة في وشنا؟ دول قلبينها كباريه فوق يا شيخنا، أنا لو منك تاخدني من ايدي ونطلع نوقف المردغة اللي فوق دي.
ضيق “أيـوب” جفنيه العلويين وسأله بدهاء المختلسِ:
_يا راجل؟ عاوزني آخدك ونطلع نوقف المردغة، ولا نطلع وتتفرج أنتَ على المردغة ؟ اتق الله يا أخ “يـوسف” دا أنتَ بتبدأ حياتك أهو من أول وجديد وكلنا بنسعى لرضا ربنا علينا.
رفع “يـوسف” حاجبيه وسأله بضجرٍ ما إن تذكر كيف أثر عليه الماثل أمامه وجعله ينجرف وراء أفكاره:
_مش كفاية سمعت كلامك ووافقت على حوار الفرح السُكيتي؟ يا عم خليني ساكت بقى أحسنلك، أنا مش فاهم مشيت وراك إزاي وأنا كنت هأجل الفرح أصلًا، أقولك؟ أنا مش هسمع كلامك تاني، علشان بعمل حاجات أنا مش واعي ليها، أنا ماكنتش كدا الله يخربيتك.
_وهو البيت عِمر علشان تخربه؟ متقولش كدا تاني علشان غلط وحرام، ربك رحيم وعظيم ولا يُخرب، استغفر ربك وبدلها بحاجة تانية أحسن، قول ربنا يهديك، ربنا يعمر بيتك، ربنا يرزقك صلاح الأحوال، ربنا يزيدك حبًا للطاعات والعبادات، أهو شوفت؟ كلام حلو أهو وطيب، ولا هو لازم نطول لساننا وخلاص؟ بعدين أنا خايف عليك، الفرح دا باب معاصي وذنوب إحنا مش قدها، اختلاط ومعازف وتبرج ولبس ضيق، والناس كلها عمالة تتبع غيرها ويفصصوا بعض، يبقى ليه أبدأ حياتي كدا؟ وأنتَ بكرة هتحس براحة كبيرة إنك خالفت كل دا.
لم يجد “يـوسف” بُدًا من الاعتراض أو المناقشة لذا عض فوق شفته السُفلى ثم قال بغيظٍ حاول أن يكظمه أمام من يُخاطبه وجهًا لوجهٍ:
_يا أخي ربنا يهديك عليا، تعبتني معاك.
ضحك “أيـوب” مُرغمًا بعدما التقط ملامح الآخر الفاقة لكل الحيل ثم ترك موضعه وسحب زجاجة العصير الطازج يسكب لهما منها في الكؤوس الفارغة ثم مد كفه له وهو يسأله بهدوءٍ ورتابةٍ:
_مالك؟ ومتقولش مفيش علشان شكلك زعلان حتى لو كنت بتكدب علشان توضح عكس كدا بس عينك بتقولها.
تنهد “يـوسف” بثقلٍ يخرج به تضارب المشاعر المخزونة بداخله ثم مسح وجهه بكلا كفيه وطالع وجه “أيـوب” عن قُربٍ وحينها يبدو أنه اتخذ قراره، قرر أن يستشير حكيمًا له نظرة أخرى في الأمور دومًا تكون في نصابها الصحيح، أراد أن يلحظ حكمة الأب لكي يستشيره وهو لن يجد أفضل منه لكي يسأله عما يريد، لذا عاد للخلف يشد ظهره ثم أخبره عن القشور السطحية بشأن زواجه، أخبره عن الأساس بغير التطرق لتفاصيلٍ مُرهقة، أراد أن يُشارك من يُعينه على فعلٍ قد يكون تغيب عن العقل، حكىٰ له وهو يأمل أن يكون بُصلةً له يوجهه ويُعينه للطريق الصحيح…
كان الآخر يستمع له بصمتٍ، يُنصت بكل إهتمامٍ، يشارك بكل جوارحهِ، يعاون بالنظرات أيضًا، ينتظر منه المزيد مما أعطى للآخر مساحة من حُرية التعبير، وقد أتاه الرد الحكيم من الآخر بقوله:
_أنا أول حاجة بوعدك إن الكلام دا سر بينا، وأمانة في رقبتي ليوم الدين مش هقدر أخالفها وربنا يقدرني ويعيني عليها، وفرحان إنك قررت تسأل وتستفسر عن حاجة زي دي علشان الغرض من سؤالك هو إنك بتسأل تراعي ربنا إزاي معاها، وأنا هجاوبك كراجل زيي زيك، راعي ربنا فيها وخليها تطمن ليك ومعاك، أنتَ قولت إنها خايفة وهي عرفتك بصراحة إن دا أكتر كابوس بيخوفها وساعات بتشوفه وهي صاحية كمان، يعني غصب عنها فيه ضغط نفسي عليها، مش هقولك بقى إن دا حقك الشرعي وبراحتك أنتَ الراجل وهي ملعونة من الملايكة علشان بتحرمك من حقك وأخليك عندك جنون عظمة وأنا بشاورلك على الدين غلط، بس هقولك نفذ وصية الرسول ﷺ علشان وصانا عليهم نعاملهم بالحُسنى والخير، خليك معاها وساعدها تعدي المِحنة دي لحد ما هي تثق فيك، وتكون متأكدة إنك جدير بيها للدرجة دي إنها تتحدى خوفها، بكرة تقف تصلي وهي وراك وتبدأوا حياتكم صح، وتعاهد ربنا إنك تراعي ربنا فيها وتساعدها، ياعم أعتبرها اختبار للحياة تحت سقف واحد.
اِفتر ثغر “يـوسف” ببسمةٍ أقرب للسخرية وأتى رده هزليًا:
_لو دا اختبار يبقى هخسر فيه بالجامد.
ضحك معه “أيـوب” ثم ربت فوق كفه وأشار له برأسه أن يتبعه تزامنًا مع قوله الهاديء من وجهه البشوش:
_أشرب العصير وتعالى ورايا علشان نلحق المسجد خلي ربنا يرضى عننا يلَّا ويباركلنا في حياتنا وزوجاتنا، قوم علشان تشيل الصلدة اللي فوق قلبك دي، وادعي ربنا يباركلك فيها ويبعد عن حياتكم الشيطان وفتنه، صدقني أكتر وقت الشيطان بيلعب بيه في دماغ الإنسان هو الوقت اللي بتكون بتعمل فيه حاجة تقفل عليك باب الفتن، مهما حاولت هو بيلاقي مداخل يجيلك منها، وأنا متأكد إنه سلطك تخرب الدنيا بكرة وفهمك إن دا حقك ولازم تاخده صح؟.
توسعت عينا “يـوسف” بصدمةٍ وقد كره كونه كتابًا مفتوحًا أمام الآخر بتلك الطريقة لكن “أيـوب” ابتسم ببشاشةٍ وشاكسه بطيبةٍ:
_متقلقش، هو سلطني أنا كمان برضه، بس أنا شاطر وبضحك عليه بسرعة، قوم بقى صلي معايا علشان تقفل أنتَ كمان في وشه الباب، ومن هنا لبكرة تدعي ربنا يبعد عنك وعن حياتك الشيطان واستعذ بالله منه ومن نفسك الأمارة بالسوء، بلاش تخسر كل حاجة بلحظة شهوة تضيع عليك رضا الدنيا ونعيم الآخرة.
حديثه كان مُشابهًا لحديث أبٍ يعظ ابنه الطائش في بداية مشوار حياته وهو يقف بتيهٍ عند مفترق الطُرق، كان كما الراشد لتائهٍ والغوثٍ لغارقٍ، والضوء لمن لا يبصر، في تلك اللحظة ابتسم له “يـوسف” وما إن وقف “أيـوب” وتجهز للذهاب للمسجد أتاه حديث الآخر بصدقٍ يرتكز في منتصف القلب:
_أنا بديلك أختي وهسلمهالك وأنا متأكد إنها في أمان أنا نفسي مش هقدر أديهولها في يوم من الأيام، ربنا يوفقك ويباركلكم أنتَ وهي مع بعض، ويجعل ليلتكم مع بعض أحسن من ليلتي كمان.
ابتسم وردد الدعاء له هو الآخر ثم تحرك معه للخارج نحو المسجد، كانت الخطوات تصاحبها النصائح الودودة الخيرة كأنه يغيثه من نفسه ومن أفكاره والآخر بجواره كان يسير مُنصتًا له ومستمعًا بكل إنصاتٍ وهو يوميء له ويوافقه في كل ما يُقال وقد وضعه في صورة الأب ووضع نفسه بصورة الابن وهو يسير مهتديًا على خُطاه.
__________________________________
<“رُبما كان المسلك خاطئًا لكن الهدف كان صحيحًا”>
رُبما الشيء البعيد عنَّا هو ذاك الشيء الذي يتوجب علينا أن نذهب إليه مهما صعبت الطرقات علينا، ورُبما نسلك الطريق الخاطيء منذ البداية لكن الهدف المرغوب قد يجعله صحيحًا، نحن نسير ظنًا منَّا أننا الأناس المُخيرين؛ لكننا في الحقيقة مسيرين وفقًا لإرادة الخالق لنا..
كعادته الصبيانية حينما يحزن يبتعد عن الجميع، يعزف العالم من حوله حتى نفسه يتركها للزُهدِ كأنه لم يرغب أي شيءٍ، عاد من عمله مع الشباب وقرر أن يذهب لـ “ورد” يعتني بها بنفسه، تلك المُهرة البيضاء اللامعة التي أحبها هو منذ أن ولِدت أمام عينيه واختار لها الاسم بنفسه، قضى وقته معها ثم مسح فوق خصلاتها الآسرة وقال بتعبٍ:
_أعمل إيه؟ أبعتك أنتِ ليها تقنعيها طيب ولا أروح أخطفها وأكتب عليها ولا أهبب إيه في حياتي؟ دي محترمة وأنا عمري ما اتعاملت مع حد متربي، أقنعها إزاي؟ ولا أروح أعمل إيه طيب؟ أصلي الفروض اللي عليا كلها، ولا أصوم اتنين وكان خميس باين؟ طب أروح الحُسين طيب؟ أعمل إيه؟.
حائر، تائه، مُشتت، نفسه لم تُنصفه، عَلُقَ بالمنتصف فقط، لا يملك تلك الراحة التي كانت معه في نعيم الجعل، ولا يملك رفاهية العودة من ذاك الطريق، حتى اختياره للنهاية لم يكن بيديه، رُبما أحبها دون أن يعي لذلك ورُبما هي أشارت له على عالمٍ لم يلحظه فيما سبق، ظل بجوار مُهرته ولم يبرح مكانه حتى يبلغ طريقه…
في الخارج عاد “تَـيام” من حارة “العطار” بعدما عاون حماه في العمل والتحضيرات وقضى واجبه على أكمل وجهٍ تشريفًا لزوجته أمام عائلتها، وقد قضت هي يومها مع العروستين ومن ثم سوف تنتقل للمبيت في بيت أبيها لتعاون في تحضيرات الزفاف وتجهيز الشقة للعروسين، وقد ولج وهو يتحدث معها ويخبرها عن عودته للبيت فتحدثت هي بلهفةٍ:
_متنساش تصالح أخوك الليلة دي، شوفه عاوز إيه وساعده ومتتخلاش عنه، وخليك متأكد إن لو طريقتك معاه عنيفة عمره ما هيقبلها حتى لو كلامك صح، وأنا لو عليا سألتها كدا بالهدوء ملقيتش عندها إصرار على الرفض، بالعكس هي كلامها عقلاني أوي، يمكن تكون هي السبب إنه يحاول مع نفسه، صدقني الحل في إيدك أنتَ.
تنهد هو بتيهٍ ثم قال بحيرةٍ كأن الأمر اتضح له مؤخرًا:
_عارفة؟ أنا نفسي هو من نفسه يحاول علشان نفسه قبل أي حد، أنا شوفت كتير زيه قبل كدا أول ما يوصلوا للي عاوزينه بعدها بتقلب معاهم بفُجر وأنا مش عاوزه يكون كدا، عاوزه يكون حابب طاعة ربنا مش بس علشان يوصلها ويليق بيها، هو مش فاهم حاجة.
_يبقى دورك كأخ كبير تفهمه صح، تمد إيدك ليه وتقوله أنا أهو معاك ومش هسيبك لوحدك تتوه، لو كل حد فينا يأس من البداية مش هنكمل أي طريق، مش هتقوملنا قومة من تاني، علشان كدا أهو بقولك أنتَ أخوه الكبير ودورك في حياته كبير زي وجودك.
رضخ لها ولقولها، ثم قطع وعدًا لها أن يقوم بتنفيذ ما طلبت، أخبرها أنه سيقوم بحل العُقد اليوم، وقد سأل وبحث عنه حتى وجده عند حظيرة الخيول وقد أطلق سراح مُهرته
تدور في المكان الواسع بحريةٍ وهو يقف أمامها يمسك لُفافة تبغه يدخنها بشراهةٍ ومن ثم انتبه لظل شقيقه فزفر بقوةٍ وأدار وجهه بعيدًا عنه..
اقترب منه الآخر وحاوط كتفيه بذراعٍ ثم ضمه له وهو يسأله بحنوٍ صبغ به كلماته الهادئة:
_حبيتها إمتى دي؟ دا أنا معرفتش أني بحبها غير لما اتخطبت لغيري وساعتها مقدرتش حتى أدخل البيت عندهم، وقتها حسيت إن كل الطرق بتبعدني عنها، هي بنت ملتزمة ومتدينة، وأنا بصلي فروضي بالعافية، هي خريجة ألسن ومعاها شهادة كبيرة، وأنا خريج حقوق كلية الشعب، هي بنت مالك الحارة وأنا يدوبك ابن حارس في الحارة دي، كانت حب العمر والطفولة وكل الأيام كمان، فضلت أدعي ربنا وأطلب منه إن لو هي مش من نصيبي يشيل حبها من قلبي، طلبت منه ميعذبنيش بحبها، وأتمنيت إني لو مش أنا اللي هكون الراجل اللي هي تستاهله يبقى الأحسن ربنا يرزقها بالأحسن مني.
حديثه كان نذرًا للآخر الذي نطق بلهفةٍ أعرب بها عن خوفه ولهفته في ضياع الجنة منه فوق الأرض:
_بس أنا عاوزها هي مش عاوز غيرها، عاوز أكون أنا الراجل اللي هي تستاهله ويليق بيها، أنا مش عاوز حاجة صعبة، أنا عاوزك تقولي أمشي إزاي علشان أوصل، أنا توهت كتير قبل ما أنتَ وهي تيجوا بس لما ظهرتوا أنا بقيت ببص وبحس أني بعيد عنكم، مش لايق عليك أكون أخوك، صحيح أنا شبهك بالشكل بس الشخصيات لأ، علشان كدا بقولك ساعدني، حتى لو مش علشانها وعلشان نفسي زي ما بتقول؟ ساعد أخوك وهو تايه، أنا ما صدقت لقيت حد أقوله إني بتوه ومش لاقي السِكة لسه.
كلماته كانت كما السوط ألهب موضع الضمير لدى شقيقه الذي أدرك جُرمه في حق أخيه، رُبما الحديث أمسًا كان خاطئًا من كليهما لكن اليوم هو أكثر هدوءًا وتوضيحًا، وعلى إثر ذلك ضمه “تَـيام” لعناقه وظل يُردد أسفه المُكرر حتى بادله الآخر العناق ونطق بصوتٍ مُتهدجٍ:
_أنا محتاجلك أوي، لو تقدر ألحقني من نفسي.
ترجاه وتوسله بعدما ظلت الأفكار الشيطانية تدور برأسه، لقد جلس هنا حتى لا يخرج ويفعل مالم يُحمد عقباه كما كان يفعل فيما سبق، جلس هنا حتى يهرب من وساوس نفسه أن يعود لملاذاته ويركض خلف شهواته، وهو الذي أراد أن يتحدى نفسه ويُخالف هواه، ولم يعلم أن مُحاربة النفس كانت أصعب عليه من مُحاربة الشياطين الخارجية..
مر “مُـنذر” من مكانهما بخفةٍ وما إن لمحهما سويًا ساورت البسمة شفتيه بحنينٍ فاض من عينيه، ابتسم بصفاءٍ وهو يرى “مُـحي” يتكيء بثقل رأسه وروحه على جسد النصف الآخر منه، وهذا النصف يمسح فوق رأسه وظهره بحنوٍ، وقتذاك ساورته ذكرىٰ بائسة جعلت عينيه تدمع لذا أولاهما ظهره وهو يعود بأدراجه نحو غرفته، جلس فوق طرف الفراش بعدما أحكم الحِصار على نفسه بغرفته ورافق الذكرىٰ فقط…
كان في عمر التاسعة ولم يتم العقد الأول من عمره، كان إبان ذلك وسط قاربٍ في المياه الباردة التي وصلت برودتها لحد القتل، كان يرتدي معطفًا صوفيًا يلتحف به وهو يرتعش ويرتجف من قسوة البرد القارص لجسده، رحلة أطلق عليها “رحلة الموت” بعد إبحارٍ دام لكثيرٍ من الأيام شارفت على شهورٍ، الليل يمتد للأفق البعيد ومهما طال مداد البصر لم يلمح نورًا، المياه تحاوط القارب الصغير لتمتد أيادي الخوف تعتصر القلب بين الضلوع وتجبر الأعين على هَطلِ الدموع..
حينها جاوره فتى صغير العمر أو رُبما يماثله في سنين عمره ثم رفع الغطاء الخَشِن ودثر به جسديهما معًا وقال بصوتٍ مليءٍ ببهجةٍ كاذبة:
_ياعم أدينا أتدفينا أهو بيقولوا كلها كام يوم ونوصل لحد إيطاليا وهناك بقى كل واحد فينا هيروح مكان تاني، بيني وبينك أنا عاوز أروح هناك علشان أشوف البنات الحلوة اللي بشوفهم في التليفزيون، هما حلوين كدا برضه؟.
ضيق حينها “مُـنذر” المسافة الواقعة بين حاجبيه فتحدث الآخر بزهوٍ غريبٍ يشق به الصوت المخيف وظُلمة الليل ويحارب صوت المياه لكي يصل:
_نسيت أقولك صح، أنا اسمي “مُصعب” عندي عشر سنين، أبويا مات وأمي أتجوزت واحد تاني وهو ابن *** اللي جابني هنا، قالها هيروح ويضمن أكل وشرب وعيشة حلوة، وأمي وافقت وقالت أهو أوفر لُقمتي وتترحم من شقاوتي بس ماخدتش بالها أن الغُربة هتاكلني هناك، وأنتَ؟.
حينها تحدث “مُـنذر” بملامح خشنة يخبره بحديثٍ كان يحسبه هو الحقيقة الصادقة بذاتها حتى أن صوته تألم وقتذاك:
_أبويا، اللي جابني هنا أبويا لما شاف عمي بيكسب من ورا ابنه كتير أوي أوي، واحد قاله هيسفرني وياخد فلوس كتير ومالهوش دعوة بيا تاني، وافق زي جوز أمك كدا وقالي أنتَ بقيت راجل خلاص سافر وشيل نفسك، بس إحنا بقالنا كتير أوي، ومش بنوصل ومش قادرين نكمل.
حينها ضحك الصغير ببشاشةٍ وقال بمرحٍ لم يتناسب مع الأجواء المحاوطة لهم:
_ياض خليها على الله، ولو موصلناش يعني؟ كدا هنموت وكدا هنموت وفي أي مكان هنموت، أقولك؟ لو حصلي وموصلتش أبقى أتغطى بالبتاع دا كويس، ووعد لو وصلنا مع بعض رجلي على رجلك.
أومأ له موافقًا بفرحةٍ، وجد به الأمان المفقود فوق هذا القارب بمنتصف البحر، استأنس به من بين جميع الغُرباء الذي يجالسهم هو، هنا حيثُ فوق قاربٍ وصفوه بقارب النجاة ولم ينتبه أحدهم أن هذا هو قارب الموت بذاته، قارب الهجرة الغير شرعية التي فتح ذراعيه يضم القادمين بترحابٍ شديد لكي يُلقيهم في اليَّمِ، كانا رفيقين لمدة أسبوعٍ فوق هذا القارب حتى اشتدت قسوة الجو وزادت البرودة حدةً واستسلم جسد “مُصعب” لحالتي الضعف والهوان فلفظ أنفاسه الأخيرة بأحضان “مُـنذر” الذي صرخ باسمه وتوسلهم أن ينقذوه وكان الجواب بكل قسوةٍ…
خرج من شروده وكانت آخر ذكرى له حينما تم إلقاء جسمان الصغير من القارب لوسط المياه، كانت صرخات الرفيق فوق القارب باسمه لم تنفع بشيءٍ، هنا حيثُ الجسد فوق المياه والروح صعدت لبارئها، تحركت المياه بجسد الصغير حتى سقط للأسفل وغاب عن الأعين وظلت نظرات “مُـنذر” مُلتاعة بقهرٍ والروح بداخله مقسومة لنصفين، نصفٌ غادر مع رفيقه ونصفٌ ظل مكانه يتمنى أن يصل لبر أمانٍ..
تُرى من السبب في هذا؟ هل الفقر رُبما،
أم قسوة الأهالي يجوز، ورُبما الأساس قلة الحيل،
وقد تكون أهواء النفس، ورُبما وألف رُبما بينهما يجوز…
والنتيجة يُباع الماضي، والغاية تكمن في مستقبلٍ أفضل،
أما الحاضر فهو مجرد يومٍ وفي الغد سيصبح أمسًا ومَـرَّ.
__________________________________
<“جاءت اللحظات المرجوة من الحياة أخيرًا”>
هي لحظة واحدة فقط حينما تأتِ ننس لأجلها كل شيءٍ مررنا به، لحظة فارقة نقف أمامها ونتأكد أن كل ما مررنا به يستحق أن يُنسَ إن كانت النتيجة مثل هذه، نتيجة ليست كغيرها من النتائج، وإنما هي النتيجة التي تخبرك أن النصر حالفك أخيرًا…
اليوم الموعود أتى للجميع، كان العمل على قدمٍ وساقٍ من كل الأفراد، من الفتيات والعروستين، ومن شباب العائلات، ومن الرجال الكبار يتحضرون للحظةٍ هامة، ومن الصغار في اليوم الأحب، ومن شابين عاهدا ربهما أمسًا أن يكون اليوم هو الفيصل لهما في حياةٍ أهم هدفٍ بها رضا الخالق عليهما..
في غرفة “قـمر” كانت الفرحة تصل لجميع البناية بالتقريب وهي ترتدي الفستان الأبيض وتتراقص وتغني مع الصوت الآتي من خلفها وقد أتت “ضُـحي” من خلفها تضم كتفيها وهي تشاركها الفرحة برقصة خفيفة ومن ثم بدأت العواطف تنشج شباكها حيث ظهر البكاء على وجه الاثنتين فقالت “ضُحى” ببكاءٍ وهي تضم أختها:
_زعلانة أوي إنك هتمشي، عارفة إنك مش هتبعدي للدرجة بس فكرة إني أكون نايمة وأنتِ مش في الحيطة اللي جنبي دي مزعلاني أوي، عمر المسافات ما فرقت بينا كدا في يوم، طول عمرك معايا وجنبي وعمري ما غيبت عنك، أنا مش عاوزة أكون هنا من غيرك، أنتِ صاحبة الليل والنهار وكل وقتي يا “قـمر” سمايا.
بكت “قـمر” بين ذراعيها ورفعت كفيها تضم بهما ذراعي أختها وهي تقول بصوتٍ باكٍ هي الأخرىٰ:
_وأنتِ يا أحلى “ضُـحى” في النهار كله هتوحشيني أوي، أنا معنديش غيرك أخت وصاحبة ومهما عاشرت مش هييجي عندي أعز منك على قلبي، أنا بحبك أوي وبتمنى أشوفك مبسوطة ومحققة كل أحلامك ويارب أشوف فرحك قريب مع “إسماعيل” علشان بجد تستاهلوا كل خير.
ازداد العناق قوةً والدمع تدفقًا، القلوب ضمت بعضها كما تلاحمت الأجساد والأعين تنطق وتعبر عن فرحها وفخرها بتوأم روحها.
في شقة “عـهد” كانت في الغرفة تحاول أن تصرف عن عقلها كل خوفٍ وقلقٍ واضطرابٍ وهي تُجبر عقلها أن يُصرف كل المساويء عنه، الآن هي فتاة وحيدة بغير العائلة، ولا أب يقف معها، ولا حتى تجد غير أمها التي تتصرف بكل شيءٍ وحدها، أمها كانت بمقام جيشٍ كاملٍ لم تدخر جُهدًا لأجل إسعاد ابنتها، ولجت “مَـي” الغرفة وهي تُطلق الزغاريد العالية وقد رأت وجه ابنتها التي ارتدت الفستان الأبيض وأنتهت من مهمة التزيين…
بكت الأم بسعادةٍ وضحكت رغمًا عنها فوجدت ابنتها تلتفت لها وهي تسألها بأملٍ ألا تبكي وتضفي المرح في الأجواء:
_شكلي حلو يا ماما؟.
_ومفيش أحلى من كدا تشوفه العين يا روح ماما، على عيني غيابك يا نور عيني بس الله يكرمه جوزك يا رب وعدني إنك مش هتغيبي عني، طلع عارف أني أم خايبة وبنتي أقوى وأشطر مني بكتير، ليا مين غيرك أنا علشان أدي الدنيا ضهري وأنا متطمنة إني بخير؟.
ارتمت عليها تشاركها البكاء ثم مسحت فوق ظهرها وهي تقول بصوتٍ باكٍ لكي تُشدد به من أزرها:
_أنتِ اللي مفيش منك اتنين في الدنيا دي كلها، أنتِ أم تخلي أي حد يرفع راسه، ضحيتي بكل حاجة علشاننا وحاربتي علشان تحافظي على سيرة بابا ورفعتي راسه بتربيتك لينا وبوفائك ليه ولسيرته واسمه، أنا طول عمري هفضل رافعة بيكِ يا “ميوش”.
ضمتها الأم ببكاءٍ وفرحٍ، تلك المشاعر المُتباينة التي ينتج عنها خلل في ردود الأفعال قد تكون هي اللحظات الأحب للقلب، وقد استقرت “عـهد” فوق المقعد لتكملة التزيين الخاص بها بعد أن تركت العبرات أثرها على وجهها.
لم تكن تغيرات مزاجية فحسب، وإنما هي تغيرات جسدية أيضًا تسببت في إفساد مزاجها حتى وقفت أمامه تخبره بكل ضجرٍ وعنفوانٍ أنها لن تذهب للزفاف، حينها تحامل “إيـهاب” على أعصابه ومشاعره ثم قال بنبرةٍ هادئة وقد اتخذ من السياسة سبيلًا معها:
_مفيش مشاكل، أدخلي ألبسي هدومك ولو تحبي نقعد هنا هقعد معاكِ برضه مفيش مشاكل، عاوزة تنزلي هنزل معاكِ برضه، شوف اللي يريحك يا عمنا، يرضيكِ إيه؟.
حينها لم تقدر على إفساد مزاجه الرائق بل تحركت لكي تتجهز من نفسها دون أن يُزايد هو بحديثٍ آخر، تحركت وغابت لفترةٍ لا بأس بها أنهى هو خلالها ارتداء بذلته السوداء ووقف يطالع نفسه بزهوٍ وهو يُصفف خصلاته الكثيفة وقد أتت هي تضحك بسعادةٍ ثم قالت بحماسٍ له:
_الفستان حلو أوي أوي، واسع وجميل ومش مبين الجريمة اللي أنا شايلاها دي، يا رب أخلص بقى أنا تعبت ورجلي تعبت من كتر الورم، فاضل كتير في الشهرين ولا إيه؟..
كانت تقصد الفستان الذي جلبه هو لها لكي يتناسب مع حملها ولأجل الحق هي لم تجد أفضل منه يناسبها بأي شكلٍ كان، أنهت حديثها ثم جلست فوق المقعد القصير تحاول انتعال حذائها ونظرًا لكبر حجم بطنها فشلت بشكلٍ ملحوظٍ فعادت للخلف تتأوه وتأنِ بصمتٍ، حينها هرول نحوها ثم جلس على عاقبيه ورفع قدمها وعاونها في انتعال الحذاء..
كرر الفعل مع القدم الأخرىٰ وهي تبتسم له بوجهٍ بشوشٍ وقد استقام في وقفته ثم أسندها وقال بمزاحٍ وهو يشير نحو بطنها:
_علشان لما الجريمة دي تنزل وتنور الدنيا أبقى قولي بذمة أنا كنت بعمل إيه، بلاش تقولي إني كنت وغد أوي كدا وخلاص، مش كدا يا اسم ولقب وصفة؟.
التفتت له تطوق عنقه بكلا ذراعيها ثم رفعت جسدها لكي تواكب طوله وألصقت جبينها على جبينه وهي تقول بصدق:
_هقولهم إن أبوهم كان أب شاطر أوي قبل ما هما ييجوا، وهقولهم إنه كان أب وأخ وصاحب لكل الناس اللي في حياته لدرجة خليتهم كلهم معتمدين عليه، هقولهم إني لما في يوم قولت أرمي نفسي في النار علشان محدش يقرب مني، كان هو جنة الأيام ودنيتي كلها كمان، هقولهم إني عيشت معاك أحلى أيام العمر كله.
تعجب من حالتها ومن كلماتها، خالفت كل التوقعات حينما تفوهت بتلك الكلمات الآسرة وما ترتب على ذلك كانت ضمة منها له وهي تتشبث به وقد أيقن أن تلك هي مجرد نوبة من مشاعرٍ اجتاحتها وهي انجرفت خلفها؛ لذا ضمها ومسح فوق ذراعها ومازحها بقوله:
_يلا بس قبل ما الهرمونات تطفح في وشي ويحصل اللي مينفعش يحصل، أبوس ايدك يلا ننزل ولا نقعد؟.
حذرها بخبثٍ وهو يشدد ضمته لها وقد دفعته هي بعيدًا عنها وهي تُتمتم بنبرةٍ خفيضة بالتأكيد وصلته:
_دا أنتَ وغد بصحيح.
وهذا الوغد لم يسعه إلا أن يضحك ويسعد بكل ما تفعله هي، لقد عاش معها في عالمٍ يخصها ووجد معها مالم يجده مع كل العالم، فلو كانت أمه توفت في صغره قبل أن يقضِ معها ما تبقى من عمره، هو الآن في عناقها يجد دفء الأم التي رحلت وتركته صغيرًا في الجسد وينافي ذلك قلبه الكبير.
__________________________________
<“في حين أنني كنت أهرب منك لم أجد سبيلًا إلاك”>
كل الطُرقات التي قصدتها لكي أهرب منكِ..
هي بذاتها التي قادتني إليكِ، كل الطرق
وبالأخص تلك التي في نهايتها وجدتُ ضوء عينيكِ..
لا أنا عنكِ بغريبٍ ولا أنا منكِ بقريبٍ ولا يسعني
من العالم مكانٌ إلا هذا الذي أسكنه أنا بين ذراعيكِ..
كل الطُرقات الآن أصبحت تجمعه بها بغير إرادةٍ منه، الآن هو يختبر تلك الحياة التي عاشها غيره من البشر والشباب، وقف “مُـنذر” أسفل بناية “فُـلة” بسيارة “إسماعيل” وانتظر ظهورها بفارغ صبره حتى سرى طيفها من داخل البناية وهي تبتسم ببشاشةٍ وخصلاتها الناعمة تتطاير خلفها إثر حركات الهواء، أهدته بسمة هادئة بينما هو تفحص فستانها الكريمي المُغلق على كامل جسدها بانسيابية رافقتها الرقة، واجهته تبتسم له وهي تقول بضحكةٍ واسعة:
_عقبالك يا “مُـنذر”.
ابتسم فقط دون أن يملك ردًا مفيدًا عليها، ثم تحرك يفتح لها السيارة فوجدت بداخلها “چـودي” التي ضحكت باتساعٍ وقالت ترحب بها:
_أنتِ “فُـلة” صح؟ شكلك حلو أوي.
ضحكت هي لها ثم ضمتها ترحب بها وهي تُثني على جمالها بينما هو جلس فوق مقعد القيادة ثم قال بنبرةٍ هادئة يفسر سبب مجيء الصغيرة معه:
_أنا جيبتها علشان “سـراج” ومراته هيتحركوا مع حماه، وهي للأسف بتتخنق من الجو دا وكانت عاوزة تشوفك علشان كدا جيبتها، بما إن “جـواد” لسه هييجي من عند أهل مراته.
ضحكت له ثم لثمت كف الصغيرة وقالت بحنوٍ:
_دي أحلى حاجة عملتها والله، أنا كان نفسي أقعد معاها.
تبادلت النظرات بينه وبينها بصمتٍ وهي تحاول أن تهرب من سلطة عينيه، تلك الأعين التي لم تجد منها مفرًا إلا أن تُجابهها بالآخر، تواصلت عيناها بعينيه في مرآة السيارة لكنها ضمت الصغيرة أخيرًا وتجاهلت نظراته التي لم تتركها بل تعلق بها كأنها آخر أماله وقد أتى حديثه بغتةً كأنه تحدى نفسه لكي يتفوه بهذا:
_الفستان دا شكله حلو أوي بس صاحبته أحلى.
رغمًا عنها ابتسمت بخجلٍ وأخفضت رأسها تراقب الفستان من جديد وتلك المرة أيقنت أنها برعت في اختياره، لقد اختارت شيئًا لفت نظره حتى تخلى عن صمته وأطرأ عليها، سرعان ما عادت الأعين تتلاقى ببعضها في حديثٍ دار بين المُقلِ وابتسامة تتراقص فوق الشفاه ولم يقطع تلك اللحظة إلا صوت هاتفه…
كان المُتصل هو “باسم” المعاون له ونظرًا لأهمية المكالمة سحب هاتفه سريعًا وجاوبه وقد أتاه الرد بخيلاءٍ وزهوٍ:
_زي ما طلبت، “ماكسيم” مع المزة في الفندق وحطيتله حباية مش هتخليه يفوق قبل بكرة الصبح، قضي ليلتك وفرحك ونتقابل أسلمك اللي وصلتله، باي يا رايق.
تراقصت البسمة فوق شفتي “مُـنذر” بثقةٍ ثم أغلق المكالمة بدون ردٍ وإنما رد عليه برسالةٍ كتابية قرأها الآخر وجاوب عليها يُطمئنه أن ما يوده ويريده سيحدث بالفعل.
في حارة العطار أتت سيارة “يـوسف” ومعه بها “أيـوب” وكلاهما بجوار بعضهما حتى توقفت السيارة وفي مواجهتها سيارة أخرى تنافسها في الوقوف، ابتسم “يـوسف” ما إن لمح السيارة وقائدها ثم فتح النافذة وأخرج رأسه منها وهو يقول بنبرةٍ امتلكت كل الزهو وحُب الذات وخيلاء النفس:
_ أرجع أنتَ أحسنلك، أظن أنتَ جربت مرة قبل كدا وعارف إن ابن “الراوي” مبيتعاندش.
خرج له الآخر بنفس الطريقة ورفع صوته وقد كان صديقًا قديمًا له ولـ “أيـوب” الذي ضحك وتجهز للنزول من السيارة؛ وقد ازداد الضحك مع قول الآخر بنفس الزهو على غرار قول “يـوسف” المغتر:
_وهو حد كان قالك إن “وليد الرشيد” بيسمع كلام حد برضه؟ كان غيرك أشطر يا سكر.
الصديق القديم الذي تلاقى به صدفةً في موقفٍ مشابهٍ لذاك يأتِ له من جديد وتلك المرة تنافي سابقتها، حيث هنا في تلك المرة الجميع يرحبون بالفرحِ، فلا يسعنا إلا فتح الأبواب له بقول “أهلًا وسهلًا بكَ أيها الفرح”.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)
💛