روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والثالث عشر 113 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة والثالث عشر 113 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والثالث عشر

رواية غوثهم البارت المائة والثالث عشر

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والثالثة عشر

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثامن وعشرون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
“رَبِّ أعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ
وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ
وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ
وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الهُدَى إلَيَّ
وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ ..
رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا
لَكَ ذَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا
لَكَ مِطْوَاعًا ، إلَيْكَ مُخْبِتًا
لَكَ أوَّاهًا مُنِيبًا .. رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي
وَاغْسِلْ حَوْبَتِي ، وَأجِبْ دَعْوَتِي
وَثَبِّتْ حُجَّتِي ،
وَاهْدِ قَلْبِي وَسَدِّدْ لِسَانِي ،
وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبِي”.
_”ابن عباس رضي الله عنه”
__________________________________
حروبٌ وقصفٌ وغربةٌ وشتاتٌ..
وقاموسي لازال مُمتلئًا لم يفرغ بعد، فكل ما تحمله اللغة من كلماتٍ واصفة لكل الألم والضياع هؤلاء هم أنا، فلم يسعني القول سوىٰ أنني أشبه حياة الحرب وما بها من كربٍ حتى غدوت نازحًا في كل الإتجاهات من الشمال للغرب، ومن وسط كل الغُربةِ لم أنعم يومًا للأوطان بالقربِ، بل كنتُ وحيدًا وبعيدًا وحُكِم عليَّ أن أكون شريدًا، مثلي وُلِدَ عزيزًا في موطنه ولم يذله إلا من أفسد مسكنه، وأنا لم أظنها قريبة بذلك الحد أن أكون أنا ما غدوت عليه هُنا، فتلك النُسخة الحالمة الآملة مني أضحت بعيدة وغريبة عنى..
فأنا بنفسي أصبحت أرفض ما ركضتُ أبدًا للحصول عليه وأصبحت يداي تُفلت ما كانت تسعى للوصول إليه..
غدوت آخرًا مُسالمًا تُحركني أمواج السَّلام وتوقفني تيارات الآلام، وكأنني أنا لستُ بأنا، وذاك الذي كان يأمل لتغيير الكون غادرني ولم يكن هُنا.. أفنيْتُ عُمري لأصبح أنا..
وذاك الأنا بدلني بغيره وأطاح بِحُلمي ولازِلتُ أجري البحث عني أنا.. أأنا ذاك الذي حَلُم أن يكون محبوبًا بين الناس والجميع يعرف قلبه هُنا؟، أم أنا ذاك الذي يقف بين الناس خائفًا يرتجف وكأن نظراتهم تحتاج للقوي المُغادر مني وبكل آسفٍ ذاك البعيد لم يَكن معي، أو بالأحرىٰ لم يكن هنا..
<“وقتما تظهر لك الحقائق، تمهل قبل أن تفضحها”>
سأله “سـراج” بإهتمامٍ عن سبب وصوله لتلك الحالة فقد أناب “إسماعيل” نفسه وجاوب بدلًا عن رفيقه “يـوسف” وهو يتحسر عليه وعلى حاله فضحك “سـراج” رغمًا عنه بنبرةٍ عالية جعلت “يـوسف” يغتاظ أكثر وهتف بنبرةٍ جامدة وهو على وشك التشابك معه:
_أنا مش ناقص عبط أمك دا على المِسا يا “سـراج” بتضحك على إيه هو أنا ناقص هبلك؟ ما تريح شوية بقى.
أوقف “سـراج” ضحكاته وجاوبه بقلة حيلة وهي يحاول أن يبدو جادًا فيما يتحدث عنه:
_أصل البت دي فاجرة، عدت مرحلة البجاحة وبقت في مرحلة الفُجر والقدُر، اللي مخلياك تاكل في نفسك كدا وواقف تفكر إزاي تشفي غليلك، هي اللي مسقطة نفسها وهي اللي راحت برجليها للدكتورة تعملها إجهاض، مش قولتلك أنتَ غلبان وسط الجبابرة دول يا غريب؟.
حديثه كان كما السلاح ذو حدين، حيث جزءٌ منه أصاب الهدف وقام بإخماد نيران “يـوسف” والجزء الثاني ألهبها أكثر ليؤكد له أن قهر المظلوم دومًا يَفتك بقلب صاحبه كما تأكل النيران في نفسها، وقد اِفتر ثُغر “يـوسف” بذهولٍ جلي وهو يلتفت لرفيقه يسأله بعينيه وأضاف مُستفسرًا:
_أنتَ بتقول إيـه؟ مين دي اللي مسقطة نفسها؟.
توسعت بسمة “سـراج” وهو يرى حقه يأتي إليه فوق طبقٍ من الفِضة فتنهد بأريحية وأضاف مُكملًا بثباتٍ:
_”شـهد” هتكون مين يعني، هي اللي مسقطة نفسها وهي اللي سعت لحد ما وصلت للدكتورة اللي عملت ليها إجهاض وكانت مش طايقة نفسها لما عرفت إنها حامل، أقسملك بالله دا حصل ومش بكدب عليك.
ألقى حديثه الذي أصاب الجميع في مقتلٍ ونبش بمخالبه في جُب ثباتهم حتى وقف “إيـهاب” يقترب منهما وهو يسأله بنبرةٍ قوية بعض الشيء وكأنه يحذره:
_”سـراج” أوعى تكون بتهزر ولا بتفض مجالس وعاوزها تولع وخلاص، كلامك دا هيقوم الدنيا حريقة والدنيا هتولع أكتر ماهي والعة، عرفت منين اللي حصل أصلًا؟.
كعادته لا يبدأ باستخدام المُعطيات قبل أن يجد البراهين القوية، لذا كان حديثه عمليًا حتى أيده “سـراج” بنفسه ثم أخرج هاتفه أسفل نظراتهم المُتتبعة لما يفعل بينما هو هتف للجميع بثباتٍ:
_أظن قدامكم أهو أنا جاي من برة معرفش حاجة، دلوقتي هتسمعوا بنفسكم اللي حصل وهتعرفوا إني مبكدبش ولا حاجة وهتسمعوا بنفسكم اللي قولته صح ولا لأ.
أنهى حديثه بينما كانت أصابعه تعبث في الهاتف وقد فتح هو مكبر الصوت حتى أجابت عليه “نـور” بنبرةٍ هادئة فوجدته يسألها أمام الجميع بثباتٍ وقد رصدت عيناه ملامح “يـوسف”:
_معلش يا “نـور” لو ضايقتك دلوقتي بس أنا هسألك عن حاجة مهمة، “شـهد نزيه” سقطت إزاي؟.
فاجئها بسؤاله الغير متوقع حاليًا منه لها وقد سألته هي بصوتٍ مختنقٍ فـور تذكرها ماحدث من الأخرىٰ لها:
_أنتَ بتفكرني ليه بالحيوانة دي؟ ما قولتلك مش عاوزة أعرف أي حاجة ليها علاقة بيها دي مش بني أدمة أصلًا، واللي تعمل اللي هي بتعمله دا تبقى واحدة مريضة.
أنتبه “يـوسف” لغضبها الذي قلما يظهر عليها لذا تدخل بهدوءٍ يسأل من جديد بدلًا عن “سـراج” حيث هتف مُستفسرًا:
_”نـور” أنا “يـوسف الراوي” بصي أنا عارف إنك مش بتاعة مشاكل ولا حوارات بس صدقيني أنا المرة دي بجد محتاج إنك تقوليلي إيه اللي حصل، “شـهد” و “سـامي” بيقولوا إني السبب في إجهاضها، أظن أنتِ عارفة إني معملش حاجة زي دي حتى لو كانوا أعدائي.
تفاجئت هي بحديثه وكأنهما أتفقا على صدمتها هذه الليلة فأندفعت خلف نزعة الدفاع عن الحق الموروثة عن أبيها وهتفت بإندفاعٍ:
_إيـه التخلف دا؟ هي اللي مسقطة نفسها وهي اللي أنهارت لما عرفت إنها حامل وأنا بنفسي اللي جايباها من العيادة المشبوهة دي في نص الليل كأنها واحدة مش كويسة، ومعايا العنوان واسم الدكتورة كمان لو هتحتاجه، طالما وصلت البجاحة لكدا يبقى تبطل قلة أدب وكله يعرف حقيقة قلة أدبها هي وحماها القذر اللي بيساعدها.
أثلجت روحه بحديثها وقد أضحى أكثر من ممتنٍ لها بينما “سـراج” أغلق المُكالمة معها ثم أنتبه لـ “يـوسف” الذي سأله بإجهادٍ واضحٍ:
_أنتَ عرفت منين باللي حصل دا؟ وحد يعرف إنك عارفه؟.
حرك رأسه نفيًا ثم هتف برأسٍ مرفوعٍ:
_عارف علشان “نـور” قالتلي وشاركتني معاها في اللي حصل كله، وأنا وعدتها محدش هيعرف حاجة وسرها معايا في أمان طالما قررت تشاركني فيه، وأتطمن محدش يعرف إني عارف حاجة.
أنهى حديثه بكل بساطةٍ ليضيف “يـوسف” مستفسرًا:
_طب وخرجت السر أهو وقدام الكل علني، السبب؟.
أبتسم له الآخر وجلس بجوار “مُـحي” ثم أضاف بصراحةٍ حتى لا يُصبح حديثه مُجملًا أو عاطفيًا:
_علشانك أنتَ، ماهو مش هسكت وأنا شايفك بتاكل في نفسك كدا بسببهم، أكيد باقي عليك يعني رغـم إني مش بطيق خلقتك ولا بتيجي معايا سِكة.
سكت “يـوسف” عن الرد وطالعه بنظراتٍ مُتباينة بين الغضب والحيرة وبين الإمتنان والشكر ثم أغمض عينيه وهتف بصوتٍ أجش خشن:
_أنا كدا مُضطر أسكت وأبلع لساني بس وقتها لما الأمور تزيد عن حدها أنا مش هسكت أكيد، مش هقبل يتقال عليا كمان بقتل عيال صغيرة كدا كتير عليا وعلى سُمعتي اللي كل شوية تتلط منهم دي.
أيده البقية في الحديث وعلى رأسهم “نَـعيم” الذي رأى أن هذا هو الحل الأفضل والأحسن صُنعًا حتى لا يتهور كعادته ثم تلاحقه الهزائم، بينما “يـوسف” فأنزوىٰ بعيدًا عنهم يولج لرفيقه الوفي “لَـيل” ثم بقىٰ بجواره حتى واساه الآخر حينما مسح برأسهِ فوق كف “يـوسف” الذي كان يُمسد عليه شاعرًا بالألم ينخر في نحرهِ وكأنه سكينٌ بارد النصل يتمتع فقط بتعذيبه..
__________________________________
<“بعض المشاعر تنفجر رغمًا عنا وليس بوعينا”>
بعض الكلمات تكون عاصية..
فكلما أردت كتمانها وإخفاء أثرها أنشقعت مثل بزوغ الفجر لتخون ذاك اللسان وتقف على طَرفه ثم تنفلت كما الخيل الحُر حينما يركض في الساحة غير سامحٍ أن يُقيد سراحه، ورُبما أثر تلك الكلمات يحمل كلا الشعورين، فربما الإرتياح ورُبما الهرب من الإجتياح..
في مقر شركة “الراوي”..
تخطى الوقت وقت العمل بكثيرٍ، على الرغم أن الشركة تعيش في أزهر أوقاتها خاصةً من بعد ذاك المؤتمر الذي أكسبها أهميةٍ كُبرىٰ وأضفى لنجاحها امتيازًا جعل سيطها يُِذاع أكثر وسط بقية الشركات من هذا القبيل..
وقد خرج “عُـدي” من مكتبه أخيرًا بعدما أنهى كافة الأعمال الموضوعة فوق كتفيه وقد مـر من أمام غرفة مكتبها وعلم من الإضاءة أنها لازالت هُنا في الشركة، حينها وقف بين مفترق الطُرق وهو يفكر إلى أي صوتٍ بداخله ينصاع؟ أيسير خلف قلبه الذي يُطالبه بالإهتمام على تلك البعيدة عنه بُعد السماوات عن الأرض؟ أم يُنصت لصوت العقل المتبوع بصوت الكرامة ألا يفرض نفسه عليها ويرحل قبل أن تفعلها هي؟ زادت حيرته أكثر ليربح ذاك اللئيم المُدعى “قلبًا” والحُجة القوية أنه صاحب السُلطة على البقية..
وقد طرق فوق بابها حتى وصله صوتها الهاديء تأمره بالدخول وقد ولج هو لها يرسم إبتسامة هادئة فوق شفتيه عند رؤيته لها تنكب بعينيها فوق الأوراق الموضوعة أمامها وسألها بلباقةٍ تميل أكثر للعملية:
_مساء الخير؟؟ إحنا داخلين على نص الليل خلاص وأنتِ هنا هتروحي إزاي متأخر كدا وتسوقي بليل؟ يلا مفيش غيرنا هنا وكام موظف مع “عـاصم”.
كانت تعلم أنه يهتم وإهتمامه يزداد لذا قررت أن تقوم بوضع الحدود قبل أن تزداد الأمور سوءًا لديها لذا أضافت بجفاءٍ دون أن ترفَّع زرقاوتيها وتتقابل مع عينيه المُشتاقتين للقاء بين المُقل:
_متقلقش نفسك يا أستاذ “عُــدي” أنا مش صغيرة وهتوه يعني حضرتك تقدر تتفضل علشان متتأخرش عن كدا وأنا ورايا حاجات مُهمة هخلصها وأتحرك، شكرًا لإهتمامك.
توسعت عيناه بذهولٍ من جفائها وخاصةً حينما تجاهلته وأنتبهت لحاسوبها كأنها لا تراه رغم خيانة عينيها لها وهي تميل بطرفها لكي تلمحه وتلمح قبضتيه القويتين وهو يُشدد ضمته عليهما وحينها قررت أن تُزيد من قسوتها لعله يفعلها هو ويتركها وشأنها، فأضافت بنفس الأسلوب:
_أتفضل حضرتك هتتأخر، وشكرًا لإهتمامك بس أنا واعية وكبيرة كفاية علشان أقدر أتخطى أي حاجة، الطريق مش بعيد عليا.
حقًا يكفيه ما تفعل منذ الصباح بل منذ عودتهما من السفر لذا خطى نحوها يقف مقابلًا لها ولم يفصل بينهما سوى مكتبها الذي تمسكت بحوافه بكلا كفيها المُرتجفين من قُربه حينما وجدته يميل عليها وهو يهتف بنبرةٍ جامدة بعض الشيء رغم محاولة تمسكه بالتعقل:
_أنتِ عاوزة تجننيني يا “رهـف”؟ عاوزة تخليني أكلم نفسي علشان ترتاحي طيب؟ إهتمام إيـه وزفت إيه اللي بتشكريني عليه؟ هي النضارات دي غطت على البصيرة كمان زي ما مخلياكِ تغطي البصر؟.
كان يسخر منها ويستهزيء بها حتى توسعت عيناها بصدمةٍ من طريقته الغريبة وقبل أن ينفلت لسانها وتعاقبه على ما تفوه به وجدته يُضيف بمرارةٍ كأنه يخبرها عن خُذلانها له خفيةً:
_مش حاسة إني بحبك يا “رهـف”؟.
في الحقيقة الحديث خانه هو ذات نفسه وكأنه لم يشعر بنفسه وهو يتفوه به، فلم يعد يعرف صوابه من الخطأ بينما هي أرتجفت محلها وأهتزت حدقتاها بصدمةٍ وهي تستمع لما كانت تخشاه وتخشى أن يحدث، لكن كما قيل من يخاف من شيءٍ ويهابه لم يُلاقي غيره وهذا ما حدث لها، وقد أنتصب هو واقفًا يُغمض عينيه ثم هتف بصوتٍ مبحوحٍ متألمٍ:
_ماكُنتش حاببها تتقال كدا، بس غصب عني أنتِ مش سايبالي فرصة واحدة بس ألحق أعمل بيها أي حاجة، يمكن كان غصب عني أحبك بس كنت هبقى غبي أوي لو أنتِ قدامي ومحبتكيش، علشان مفيش حد في الدنيا دي كلها هيلاقي أحلامه قدامه ويجيله قلب يفرط فيها، بس وعد إنك مش هتتعرضي مني لأي مُضايقات بعد كدا.
لم يعلم كيف ألقى بقية الحديث وفَرَّ من أمامها ليتركها خلفه مدهوشةً مما حدث ومن إعترافه الغير متوقع لكنها بكت بمجرد أن أغلق الباب وهي تشعر كأنها سجينة بداخل غُرفة تُضيق عليها الخِناق، تشعر بالرغم من حُريتها أن هناك سياجٌ وهمية فُرضت عليها لا يُحق لها الخروج عن إطارها، أهي عَصفورٌ حُـرٌ لن يقبل الحِصار المُحكم؟ أم هي طيرٌ سجينٌ يخشى الخروج من القفص حتى وإن كان سجانهُ هو من أعطاه حريته تلك؟..
أستمر بكاؤها الحاد وهي تشعر كأنها واحدة غير التي تعرفها، تارة ترى نفسها خائنة وهي تتخلى عن حُبٍ كان كل الحياة لأجلها، وتارة ترى نفسها قاسية وهي توهم غيرها بالحُب وتُناوله أملًا تعلم أنه أعاد عليه بناء حياته ثم أنسحبت كُليًا لتُهدم تلك الآمال فوق أحلامه التي أخذت تزداد لتصبح حياته كما الرُكام فوق رأسه؟.
في الخارج لعن “عُـدي” غبائه وتهوره وما آل إليه حيث كان وعد نفسه بالتريث قليلًا ليقف فوق أرضٍ صلبة ومن ثم يُدلي صراحةً بمشاعره لها حتى تُصبح هي بنفسها مؤمنةً به وبِحُبه لها، لكن يبدو أن الحديث بداخلهِ حُرًا لذا أنفرط من عُقاده أمامها لترمقه هي بتلك النظرة القاتلة التي لو رفضته بطرف لسانها لكان أرحم من أن يراها في عَينها..
__________________________________
<“لا تلومني على ماضٍ كان يقتلني كل ليلةٍ”>
تظن أنكَ قد تكون نجوت لكن في الحقيقة أنتَ لم تنجو بعد، ورُبما ذاك الهدوء كان عبارة عن هُدنة وهمية لجأ إليها عقلك المسكين هربًا من ذكرياتٍ تفتك به فتقاتله بضراوةٍ كل ليلةٍ، وإلى هؤلاء المساكين المُحاصرين داخل سجون الذكريات، لعل أسركم يَنفك قريبًا..
عاد “يـوسف” من بيت “نَـعيم” بعد منتصف الليل بعدما قضى جلسته وسطهم هُناك وأنتهز فرصة تواجدهم في إصراف تلك الرغبة المُلحة بداخلهِ لقتل “سـامي” وقد ولج بيته ليجد أمـه تنتظره بينما شقيقته فجلست بقربها تتصفح هاتفها فجلس بينهن بعدما ألقى التحية ليجد أمه تسحبه لداخل عناقها وهي تبتسم له وتمسح فوق رأسه مبتسمة الوجه ما إن عاد إليها حبيب الأعين..
بينما في الأعلى ورغمًا عنها استسلمت للنوم وهي تشعر بالتعب بلغ أشده عليها ووصل لمبلغه بعد يومٍ عصيبٍ في العمل، ودون أن تعي لنفسها نامت تلك المسكينة هربًا من تعبٍ لمواجهة غيره الأشد تعبًا وقتلًا للنفس، حيث داهمها خلال نومها كابوسٌ مروعٌ جعل أنفاسها تنحبس بداخل رئتيها وجبينها يتندىٰ عرقًا وتلهث بأنفاسٍ مقطوعة وصوت ذاك المدعو “سـعد” يتخلل أُذنيها وأمـه تركض خلفها وتحاول طعنها، ثم “يـوسف” الساقط بحفرةٍ يصرخ باسمها لكي تمسك بكفهِ وكأنه يتوسلها ألا تفعلها وتهرب وتتركه..
أصواتٌ أقرب للطنين يُخالطها صوت أنفاسها العالية، أشباح الأشخاص يمرون أمام عينيها وهي تبحث عن النجاةِ بينهم، عتمةٌ موحشة سكنتها وتوغلت لداخل قلبها ولم يكن أمامها سِوىٰ أن تصرخ عاليًا صرخة مدوية شقت روحها وأمتد تصدعها لداخل جوفها، فلم يكن أمام أمـها التي وصلها صوت الصراخ سوى الركض إليها لِتُخرجها من ذاك الكابوس وهي تضمها بين ذراعيها وقد أجفلت “عـهد” من لمستها وحاولت الإبتعاد عنها وأختلطت الأصوات ببعضها عليها وظلت “عـهد” تُنبس بنبرةٍ خافتة:
_أمشوا.. أمشوا.. أمشوا بقى.
ظلت تُرددها بين ذراعي أمها التي بكت لأجلها وهي تمسح فوق عينيها مرورًا بموضع نبضها وقد استطردت ببكاءٍ تُطمئنها بقولها:
_مشيوا خلاص مش هنا، محدش هنا غيري يا حبيبة ماما، علشان خاطري فوقي وبُصيلي، أنا ماما يا حبيبتي بُصيلي.
كانت تتوسلها باكيةً وفي تلك اللحظة وصلتها طُرقاتٌ قوية فوق باب الشقة جعلتها تترك ابنتها التي انتابتها الحالة وضمت نفسها بوضع الجنين وكأن ذاك الإضطراب اللعين يشبه الإعصار المُدمر لكل شيءٍ من جذوره، وقد ركض “يـوسف” نحو غُرفتها ليراها بذلك الوضع فسحبها فجأةً رغم محاولة دفعها له لكنه كبلها بكلا ذراعيه وهتف في أذنها كما كان يفعل دومًا:
_أنا هنا، أنا هنا معاكِ وأنتِ جنبي أهو.
تسلل كفه لكفها المقبوض يُحرره من عقدته ثم مسد فوق أوردته بلمساتٍ لطيفة وهو يتنفس بحدةٍ لأجل هيئتها الرثة ووضعها المُزري وهي تشهق بأنفاسٍ متقطعة بين البُرهة والأخرىٰ وحينها رفع كفه لخصلاتها يُمسدها بأنامله وهو يقول بنبرةٍ رخيمة يحاول أن يتوغل بنبرته تلك لأذنيها ويُرشد عقلها الضال:
_أيًا كان اللي شوفتيه مش موجود أصلًا، أفتحي عيونك وشوفي بنفسك إنك معايا وفي حضني ومفيش حاجة ممكن تقرب منك وأنا هنا يا “عـهد” أفتحي يلا ومتخافيش.
كان يَحثُها بقوةٍ وإقدامٍ حتى فتحت عينيها على مضضٍ وكأنها تخشى من رؤية ما سبق وتحقق في كابوسها وقد أبتسم هو لها حينما وجدها تُمشط الغُرفة بعينيها بحثًا عن أي شيءٍ مما تخشاه حتى تلاقت الأعين ببعضها وتواصلت المُقل فأرتسم العتاب في عينيها وهي تقول مستفسرةً بغير تصديقٍ:
_أنتَ هنا بجد؟.
أومأ لها موافقًا وعيناه تصرخ بالآسف فأراحت رأسها فوق صدره تُغمض عينيها وتُسدل جفونها وهي تقول بشكوىٰ صريحة له منه هو نفسه ومما فعل بها:
_خايفة تمشي تاني، خايفة ألاقيك زي المرة اللي فاتت مش موجود بعدما أتعود عليك تكون هنا، لو هتمشي أمشي دلوقتي علشان متعودش تاني عليك وأرجع لوحدي.
لا يعلم إن كانت تقصد قتله بتلك الطريقة أم إنها مقتولة من الأساس وتخبره بذلك لكن ما يعلمه حقًا أنه تسبب في آذاها كما فعل البقية لذا شدد ضمته لها أكثر يمسح فوق خصلاتها الثائرة يُعيدها لسيرتها الأولىٰ وهو يقول بندمٍ جليٍ في نبرته:
_حقك تخافي مني وتزعلي كمان، بس أنا والله العظيم المرة دي مستحيل أمشي قبل ما أحقق اللي أنا عاوزه وهو إنك تكوني قوية وتتخطي كل دا، أهو كان درس ليا أتعلم منه إني أمسك فيكِ ومسابكيش، كفاية يا “عـهد” لوم ومُعاتبة وزعل، أنا ماسك إيدك أهو ووعد مش هسيبها لو لآخر نفس فيا، واللي مش عارف أعمله لنفسي هعمله علشانك أنتِ..
تلاقت عيناها بعينيه من جديد حينما أسبل أهدابه نحوها يُطالعها بنظراتٍ صافية فوجدها تلك المرة تبتسم له وهي تقول بنبرةٍ ناعمة مخملية كأنها أعتادت على لمسته وإقترابه أخيرًا رغم مخاوفها تلك:
_أول مرة من شهرين يجيلي الكابوس دا وأفوق منه بسرعة، كل مرة كنت بفضل بالساعات جواه وبخرج وأنا خايفة، أنا بخاف حد يلمسني علشان كل مرة بيكونوا عاوزين يأذوني، بس أنا بتطمن لما بلاقيك أنتَ…
الحرب المُقامة بينهما توقفت بهدنةٍ بدأتها عيناها وختمها حديثها ليعلم أن أثر تواجده لازال كما هو عليها وتلك الشوائب بدأت تذهب عن علاقتهما بعيدًا وقد أقترب يُلثم جبينها ثم هتف بصوتٍ هاديءٍ:
_وكل مرة هتلاقيني أنا، وهترجعي تكملي علاجك ومش هتوقفيه حتى لو أنا موتت قدام عينيكِ كمان مش مشيت بس، وعلى فكرة أنا خدتلك معاد مع “فُـلة” من تاني.
أبتعدت عنه ترمقه بتعجبٍ ثم سألته بصوتٍ مكتومٍ:
_وهتاخد معاد علشانك أنتَ إمتى؟ ليه عاوزني دايمًا أعمل الحاجة اللي أنتَ مش عاوز تعملها، ليه بتعاند رغم إن عنادك بيتعب اللي بيحبوك وأنتَ بتخاف عليهم، ليه مصمم تتعب الكل معاك والحلول في إيدك.
كانت على مشارف البكاء وشفا حُفرةٍ من الإنفجار فيه بسبب معاندته تلك فوجدته يتنهد بقوةٍ وأضاف بتعبٍ تجلىٰ في نبرته حين قال:
_مش يمكن أنا أصلًا مُتعب بطبعي ومينفعش حد يتحمل إنه يفضل معايا؟ أو يمكن أنا أضعف من إني أقول اللي واجعني واللي كسرني فعامل نفسي مش فارقلي حاجة، بس والله أنا مش أناني، أنا بشوف نفسي فيكِ أنتِ وعاوزك تكوني أحسن مني، متسيبيش نفسك للدنيا تديكِ كل شوية ضربة متقوملكيش قومة من بعدها، يمكن أنا محدش نصحني بس أنا هنصحك أنتِ..
تنهدت بقوةٍ تبتلع الغِصة من حلقها وهي تُضيف بنبرةٍ مُتعَبة وكأن كل شيءٍ أصبح يضغط عليها حتى هي نفسها:
_معاك حق، بس أنا بعمل كل حاجة زيك، حبيتك علشان أنتَ حبتني، وبقيت بطمنك وأشجعك علشان أنتَ علطول بتعمل كدا معايا، بقف في وش الكل علشان شوفتك بتعمل كدا ومش بتسمح لحد يقرب من اللي يخصوك، بقيت بعمل زيك علشان محدش علمني أعمل إيه وسط الناس، بس المرة دي أنا برضه هعمل زيك، وعلاجي قصاد إنك تروح تتعالج وتكمل اللي وقفته، ولو أنتَ مش واثق في نفسك إنك ممكن تكمل الطريق معايا، أنا واثقة إني عمري ما هسيب أيدك وهكمل معاك الطريق لآخر نفس، المرة دي بقى هكون نسختك بجد يا “يـوسف”.
من جديد عادت روح التمرد لها، عاد عنادها يتربص له أمام تخبطه وقوتها تترصد أمام ضعفه فكان أول الضحايا هو حينما وجد نفسه في عينيها وهي ترجوه أن يفعل الخطوة المُرادة منه، وقد تنهد بعمقٍ ثم هتف بنبرةٍ مُرتخية كُليًا:
_رقم “جـواد” معاكِ كلميه وأسأليه هيقولك ميعادي معاه آخر الأسبوع علشان أبدأ العلاج، وأسأليه عن السبب برضه هيقوله ليكِ، قولتلك مش غواية عندي أخسرك بعدما لقيتك.
كان صادقًا كعادته وهادئًا حتى وجدها تبتسم له كمكافأةٍ على قراره ثم سألته بشقاوةٍ لا يعلم كيف أتتها بتلك السهولة:
_بس أنا عاوزة أسمع منك أنتَ..
أتتحداه؟ هل تقيس قدرة تحمله على الصمت أمام ما تفعله وهي تتحول بتلك الطريقة بين روح التمرد والشراسة كما قطةٍ قوية، ثم كفتاةٍ صغيرة تتدلل عليه بتلك الطريقة وهي تخاطبه بنبرةٍ ناعمة؟ إذا كانت تقصدها فعليها تحمل العواقب، لذا أعتدل وترك الفراش ولازالت هي تجلس عليه ثم مال على أذنها يُسيطر عليها بطلتهِ وهتف بنبرةٍ رخيمة:
_معنديش مانع أقولك دلوقتي، بس أوعدك أول ما يتقفل علينا باب واحد هشرحلك وأفسرلك كمان، وقريب هيحصل.
الوقح!! من يملك طبعًا من المؤكد لن يغيره وذاك لم يملك سوى الوقاحة التي تُسكتها وتوقف لسانها عن العمل المطلوب وقد تورد وجهها خجلًا من حديثه لكنه أقترب أكثر يُلثم وجنتها بعمقٍ حتى أجفل جسدها من جديد فأبتسم لها ثم هتف بمراوغةٍ:
_أهي تصبيرة لحد ما تتعودي.
أنهى حديثه وخرج وهي تنصهر خجلًا خلفه، لا تعلم كيف سيأتي اليوم الذي تسكن معه بنفس البيت مع إنعدام الأخلاق الذي يُعاني منه وقد أرتفعت نبضاتها بشكلٍ غير مسبوقٍ ثم ألقت بجسدها فوق الفراش تزفر بقوةٍ وكادت أن تصرخ غيظًا منه لكنها لم تنس فضله في تبديل وضعها خلال طرفة عينٍ لكنها ولجت المرحاض الموجود بغرفتها أخيرًا بعدما دعمت ساقيها على الحِراك..
في الخارج كانت أمها تقف في إنتظار خروجه ولم تخفى عنها معاملته لها وكأنها أضحت عدوًا له رغم أنها لم تكن يومًا بذلك، وما إن أغلق باب الغرفة ووجدها أمامه تبدلت تعابيره فوجدها تقترب منه وهي تقول بنبرة صوتٍ ضعيفة:
_طمني هي بقت كويسة؟.
رفع عينيه نحوها وهو يرى القلق بلغ أشده عليها وكأنها ورقة في مهب الريح حتى أغمض عينيه وهتف بجمودٍ:
_كويسة الحمدلله وأدخلي بنفسك هتشوفي بقت عاملة إزاي، على فكرة أنا لولا خوفي إني أخسرها ماكنتش مشيت، بس بوضعنا الأخير اللي حطتينا فيه أنا مرضيتش أقف في وشك، وقررت إن أنا أمشي قبل ما نبقى نِد بند لبعض، بصراحة موقفك مكانش في وقته خالص معايا..
تنهدت بثقلٍ وهتفت بغلظةٍ تتحدى بها عناده رغم لين ملامحها وهي تُناظره:
_بكرة تخلف وتعرف قيمة الضنا وغلاوته، حط نفسك مكاني واحدة زيي معندهاش غير بناتها الاتنين في الدنيا دي، حياتي كلها هما وبس يبقى إزاي مخافش عليهم؟ خصوصًا لو زي بنتي كدا مستعدة تموت نفسها علشان اللي بتحبهم، يبقى كان لازم على الأقل ألفت نظرك إنك بتأذيها.
أبتسم لها بسخريةٍ وهتف يثير استفزازها بقوله المُغاير لحديثها تمامًا:
_أنا لو مكانك فعلًا يدوبك تلحقي تجهزي بنتك وأنا معاكِ في اللي تحتاجيه علشان كلها شهر وهتبقى في بيتي، أظن كفاية أوي داخلين في تسع شهور كاتبين كتاب، دي الحامل ولدت وزمانها ربعنت كمان، لوعاوزة تساعديني وتساعديها يبقى تقنعيها نبقى مع بعض.
تنهدت هي مُرغمة على ذلك وحركت رأسها موافقةً فوجدته يتحرك من المكان ويبدو أنه جاهد كثيرًا لكي يبقى بذلك القدر من الثبات أمامها بينما هي فولجت غرفة أبنتها لتطمئن عليها فوجدتها فوق سجادة الصلاة تَقوم بأداء ركعتي في جوف الليل تشكو بثها وحزنها للخالق أرحم الراحمين..
__________________________________
<“صباحٌ جديد أرسلته الحياة لناسٍ فقدت الأمل”>
هل سبق لكَ ورأيت ليلًا دام لأكثر من وقته؟..
أو هل سبق لكَ ورأيتَ شمسًا لم تظهر في السماء وتركت العتمة بمحلها؟ من المؤكد لا، فالليل لن يَدُم طويلًا والشمس لن تتأخر كَثيرًا، ومهما طال الليل المُعتم ستظهر الشمس وتنير الدرب المُظلم، فقط تفائل بما تهوىٰ يكن..
بـعـد مـرور يـومـين..
وقف “أيـوب” في شقته الفارغة بالطابق الثالث ببيت “العـطار” يتابع عمل العُمال الذين رحلوا أمسًا بعدما أتى بهم شقيقه لتكملة الأجزاء المُتبقية في الشقة تجهيزًا لعرس ابن العائلة الثاني، وقد وقف “أيـوب” يتابع المكان بحالة إنبهارٍ بعدما قام “أيـهم” بفعل كل شيءٍ على حسب ذوقه الرفيع وعلمه في قسم هندسة الديكورات..
كانت الشقة أرضها رُخامية لامعة، حوائطها باللون الأبيض الكريمي ويقابلها اللون الأخضر الزُمردي بأحدث الخامات لإطلاء الحوائط، كل شيءٍ فيها صممه شقيقه بمحبةٍ وإبداعٍ جعل “أيـوب” يشعر بالسعادةِ وهو يقف في بهو شقته ثم هتف بتأملٍ يُبارك المكان بقوله:
_بسم الله ما شاء الله، تبارك الله، اللهم بارك في هذا البيت وأهله، وأسعد أهل البيت ومن زاره، سبحان الله وبحمده.
من الأساس لم يكترث بشقتهِ أو يبالي بها لكن منذ أن وطأت “قـمر” حياته بقدميها وهو يشعر أن تلك الشقة أضحت مكانه هُنا، وقد تملكه الحماس حتى يرى خواتيم تلك البداية يوم أن تدلف معه هذا البيت بصفةٍ رسمية وقد خرج من تأمله على صوت شقيقه يهتف بنبرةٍ ضاحكة:
_مبهور من شغلي صح؟ إيـه رأيك في ذوقي؟.
ألتفت له يهتف بإعجابٍ صريحٍ:
_اللهم بارك، واضح كدا إنك خسارة في الشغلانة دي، تصدق أبوك كان معاه حق لما قال يشغلك لحسابه، ماهو بصراحة الشغل دا ميتعملش عند حد غريب، إحنا أولى.
ضحك له “أيـهم” وجاوره وهو يقول بمحبةٍ لأجل شقيقه:
_الشغل دا مبيطلعش لأي حد، دا للغاليين بس خد بالك، والشقة دي بصراحة أنا عملتها بمزاج ومحبة علشان دي شقتك أنتَ، ربنا يسعدك ويكمل فرحتك على خير ويجعلها عتبة الخير ويكرمكم فيها، ويجعل أول بختك آخر حظك.
ضحك له شقيقه وقد أخرجهما من حالة الشجن تلك صوت “قَـمر” التي وقفت في الخلف تُحمحم بطريقةٍ مُصطنعة وبجوارها “إيـاد” يمسك بكفها بعدما دعاها زوجها إلى هُنا وحينها تحدث الشقيق الأكبر بعبثٍ لهما هما الإثنين:
_طب أنا مبحبش أكون عزول في النص، عن إذنكم ولو فيه حاجة عاوزين تغيروها عرفوني قبل ما نجيب العفش والشقة تتقَـفل خالص، ربنا يباركلم فيها.
أنهى حديثه بعدما وصله الرد من الإثنين على حديثه وقد ولجت “قَـمر” تجاور زوجها وهي تبتسم له وحينها قالت بنبرةٍ خافتة ولازال الصغير يمسك كفها:
_الشقة بقت حلوة أوي، ما شاء الله واضح إنكم عاملين مجهود بزيادة فيها، الله ينور يا أسطى “أيـوب”.
كانت تمازحه بذاك الحديث حتى ضحك هو لها ثم أقترب منها يُلثم جبينها وهتف بنبرةٍ رخيمة وهو يُطالع عمق عينيها الصافيتين:
_بقت حلوة بوجودك فيها، ولسه هتحلو أكتر وأنتِ معايا هنا وربنا يرزقنا بالمودة والرحمة بين قلوبنا ويألف بينا، صدقيني والله دي أحلام كبيرة أوي متحققتش غير بيكِ وبوجودك معايا، ربنا يباركلي فيكِ يا كُل ناسي.
أخجلها بكلماته المعسولة وبنبرته الصادقة كما أن نظراته فعلت الشيء ذاته وحينها هتفت بصوتٍ مكتومٍ من خجلها أمامه:
_ويبارك فيك، أنا جيت علشان أشوفها زي ما قولتلي بس ساعة الفرش بقى نشوف كل حاجة مع بعض، عن إذنك علشان سايبة “آيـات” و “نِـهال” ومقولتش إني هطلع.
تبدلت ملامحه للإحباط حيث كان ينتظر بكل حماسه أن يُريها كل شيءٍ هنا ويشاركها مُخططاته لكنها لم تملك الجُرأة لكي تفعلها بمفردها، أو رُبما تخشى أن تكون أحلامها مرئية أكثر من اللازم لذا أصرت على الرحيل وأكتفت بالهيئة الخارجية، بينما هو زفر بقوةٍ فوجـد “إيـاد” يقف بقربهِ وهو يقول بخبثٍ:
_لو زعلان فرجني أنا على الشقة، يمكن أفيدك.
أنتبه له “أيـوب” بتعجبٍ فوجده يراقص حاجبيه له وحينها حمله فوق كتفه كما يفعل دومًا ليصرخ الآخر مستغيثًا بينما عمه فدار بـه بالمكان وهو يضحك بصوتٍ عالٍ كما عادتهما سويًا كلما أثار الصغير ثباته ومازحه بتلك الطريقة الخبيثة..
بينما في الأسفل فنزلت “قـمر” على الدرج وهي تُهين نفسها الغبية على رفضها لمشاركته، لكن بنفس الوقت كانت تخشى أن يفلت لسانها وتهتف ما يجعلها وقحة في عينيهِ لكونها فتاة مُندفعة تلقائية لا تعرف كيف تُحجم كلماتها لكنها لم تنس هيئة شقتها منذ أن وقعت عيناها عليها من الطرفة الأولى..
نزلت للأسفل تجلس في الحديقة فوجدت الفتيات برفقة بعضهن معهن “مهرائيل” التي كانت تتحدث مع شقيقتها في الهاتف تطمئن عليها والأخرىٰ جاوبتها بحماسٍ:
_حليت أوي وجاوبت كمان كويس، مش هو اللي إمتحني كان دكتور زميله وأنا جاوبت كويس جدًا وفرحانة أوي علشان بكرة هييجي يتقدم، يا رب الدكتور يقوله إني أمتحنت وحليت كويس، تفتكري هيعرف؟.
أغتاظت شقيقتها منها فأندفعت تسألها بنبرةٍ جامدة:
_وأنتِ مالك بقى يعرف ولا لأ؟ مش عملتي اللي عليكِ وجاوبتي كويس؟ يبقى خلاص الإمتحان دا علشانك أنتِ بطلي طيش وأركزي شويـة بقى.
تنهدت “مـارينا” بقوةٍ ثم أغلقت الهاتف معها وهي تولج الممر المُفضي إلى المدرج لتجده يقف في مواجهتها وحينها توسعت عيناها فأقترب منها أكثر وهو يضيف بنبرةٍ هادئة:
_بكرة الساعة ٨ جهزي نفسك، وياريت تبقي تقفي ورا الستارة اللي على اليمين علشان أعرف أشوفك كويس وأنتِ بتراقبينا، دكتور “ممدوح” قال إنك حليتي كويس، لو أعرف كدا كنت جيت أتقدم كل حد وأربع…
لمحت السخرية في حديثه فرفعت رأسها كما تفعل دومًا وناطحته بقولها المغتر في نفسها:
_على فكرة أنا شاطرة جدًا بس بمزاجي وبغزالة مش أكتر، بعدين مش علشان حضرتك ناوي تيجي تتقدم أو حاجة، فيه ناس كتير جت أتقدمت وأنا رفضتهم، ممكن بكرة تترفض عادي.
رفع “يـوساب” حاجبيه ساخرًا على طريقتها فوجدها ترفع رأسها وتسير أمامه بخيلاءٍ وعزة نفسٍ ناهيك عن تضرج وجهها بحمرة الخجل وأرتفاع ضربات قلبها وهي تتصارع معًا وقد ضرب كفيه ببعضهما وهو يقول بحيرةٍ في أمره:
_يعني دونًا عن بنات مصر كلها يا ربي دي اللي تعجبني؟ وياريتها بتبل ريقي بكلمة حلوة، دي دبش ومدب.
سكت هُنيهة يتابع إختفاء أثرها ثم أبتسم بحنوٍ وهو يقول بعاطفةٍ مخملية وناعمة كقوة مشاعره قائلًا:
_بس حلوة وتستاهل المُعافرة.
تنهد “يـوساب” ثم أخرج هاتفه يطلب رقم “بـيشوي” ليؤكد عليه موعد الغد وقد أتفق كلاهما على كل شيءٍ تجهيزًا للغد ولما هو قادمٌ خاصةً الحديث الذي يتوجب عليهما أن يخبرا “جـابر” به حتى لا يوقف سير الأمور ويعرقل خطواتهم..
__________________________________
<“لقد أخذنا القرار الصحيح، لا تقلق بشأننا”>
من يُحبك لن يقول أنا أُحبك..
سيفعل كل شيءٍ لأجل إثبات حُبه، ستنطق أنفعاله عوضًا عن لسانه، ستراها في سعيه لأجل توهجك بأكثر أيام إنطفائك ورحيل النور عن أيامك فإذا كان الكلام من ذهبٍ فالأفعال من الماس..
جلس “نَـعيم” بشقة “نـجلاء” برفقة كلا صغيريه وقد شعرت هي بالخجل من تواجدهم أمامها وهي بمفردها وقد بادر “نَـعيم” بقولهِ الدبلوماسي:
_أنا هنا يا مدام “نـجلاء” بصفتي والد “تَـيام” وجاي أقابل حضرتك بصفتك والدته، طبعًا الظروف حضرتك عرفاها كلها ومش هزايد وأتكلم تاني، بس كل مافي الموضوع إني عاوز ابني يكون معايا، كفاية اللي فات عليا من غيره وكفاية أوي حرماني منه كل الأيام اللي فاتت دي، بس أنا برضه مش ظالم، ومقدر إنك أمـه.
أهتزت حدقتاها وطالعته بذهولٍ فـوجدته يتنهد بعمقٍ ثم أضاف بعدما ألقى نظرة خاطفة فوق ملامح “تَـيام” الذي بدا أمامه كأنه يجهل كل شيءٍ:
_أنا جاي وبقول لحضرتك إن “تَـيام” هيتنقل هو ومراته يقعدوا معايا هناك في بيتي في السمان، ليه شقته هناك ومن يومها على اسمه، بس أنا مش عامي عن تربيتك ليه، وواخد بالي إنه ابن أصول مش أناني، بالعكس دا شال هم الكل قبل همه وعاوز يفرح الكل قبل نفسه، وأنا مش هرضاله يزعل، البيت التاني اللي فيه “إسماعيل” و “إيـهاب” فيه شقة في الدور الأرضي فاضية شقة كاملة وأمرت تتشطب وتجهز علشانك أنتِ، وقدامك شقة الست “تحية” ودي زي أختي تمام، معايا من أيام المرحومة مراتي، اللي تؤمري بيه هيحصل، بس أظن طالما قاعدة هنا لوحدك يبقى هناك أفضل وتكوني مع ابنك، ولو رفضتي هعرف إنه مش غالي عندك.
تصرف كما يفعل دومًا فتصبح كلماته ناهية وجازمة لكل شيءٍ وقد توترت هي أمامه ووقعت في صراعٍ جليٍ أفصحته ملامحها المهتزة وهي تحاول الوصول لأي نقطةٍ معنية وقد أبتسم له “تَـيام” وهو يسأله بلهفةٍ وكأنه لا يُصدق نفسه:
_بجد؟ عملت كدا بجد يا بابا؟.
ضحك له والده وأومأ موافقًا بحركةٍ خافتة ثم أضاف وهو يرمق الأخرى بطرف عينه:
_عملت كدا علشانك وعلشان مش هاين عليا تبدأ حياتك وأنتَ زعلان إنك سايب والدتك لوحدها، فبقرب المسافات بينكم على قد ما أقدر أهو، علشان متبقاش منافسة بينا، مش كدا يا ست “نـجلاء”؟.
يتحدث وكأنه يخبرها أنه يعلم بما تُفكر هي، يعلم أنها تملك السيطرة على ابنه وتقدر على تبديل وجهات نظره وتقدر أيضًا على التحكم فيما تود، لذا جعلها تتنهد بقوةٍ ثم هتفت بثباتٍ:
_وأنا على عيني وراسي يا حج اللي بتعمله كله، بس دا بيت المرحوم جوزي، ومش هقدر أسيبه ولا حتى أخرج منه وأظن يعني كدا ولا كدا كنت هجوزه وأفرح بيه وكان هيغيب عني، فمش فارقة أنا اللي يهمني إنه يكون مبسوط وراضي وكفاية إنه هيفرحني بفرحته دي.
تبدو كأنها مُرافعة في المحكمة وليست جلسة ودية بين طرفين عاديين، يبدوان كأنهما خصمان في محكمةٍ وكلاهما يتولي دورًا في غاية الأهمية وقد هتف “تَـيام” يستجديها بقوله:
_يا ماما ماهو أنا مش هيجيلي قلب أكون هناك وسايبك هنا لوحدك في الشقة والحارة كلها، أقولك إحنا نقسم البلد نُصين، لما تيجي هناك تقعدي في الشقة وتيجي تزورينا، وأنا كدا كدا مش هغيب عنك، كل نهاية أسبوع هتلاقيني هنا أنا و “آيـات” عندك.
طالعه “نَـعيم” بتمعنٍ ثم أومأ لها موافقًا وهتف من جديد بتهكنٍ:
_بالظبط كدا هو طول الأسبوع هيكون عندي، وييجي ليكِ آخر الأسبوع، فإيه رأيك تيجي تقضي الأسبوع كله معانا هناك وتكوني جنبه؟ عمومًا أنا هسيب لحضرتك مُهلة تفكري في الموضوع وهستنى القرار تبلغيه لابني وهو هيقولي إن شاء الله.
حركت رأسها موافقةً فيما استأذن هو منها وأشار لكلا ابنيه بالرحيل وقد زفرت هي ما إن أنسحب من أمامها وقد أخرجت هاتفها تجاوب على مكالمة شقيقتها التي كانت تعلم بزيارة “نَـعيم” لها والآن ستناولها الأخرى كافة التفاصيل كما تفعل دومًا ولا تخفي عنها شيئًا.
في الأسفل نزل “مُـحي” بجوار شقيقه خلف والدهما الذي تقدمهما في المسير وقد رآها من جديد تقف أمامه وكأنه جِنية بحرٍ تلتقط تواجده لكي تظهر له، لكن هل يُعقل أن تبكي جنية البحر أمام الناس؟ هي حقًا تبكي؟؟ ترك والده وشقيقه وتحرك نحوها وهي تقف تبحث بعينيها عن شيءٍ ما فأقترب منها يسألها بتعجبٍ من بكائها:
_بتعيطي ليه؟ حد ضربك وجري؟.
سألها بسخريةٍ حتى يُخفف عنها حِدة بكائها لكن “جـنة” رفعت عينيها له وبكت من جديد تلك المرة بشهقاتٍ مُتقطعة وهي تقول بنبرةٍ مُختنقةٍ:
_لأ بس أنا أتسرقت، حد خطف شنطتي وطلع يجري.
تبدلت تعابيره بشفقةٍ لأجلها ثم هتف بحزنٍ يواسيها:
_طب متزعليش نفسك، عاوزة فلوس طيب تروحي؟.
حركت رأسها نفيًا وبكت من جديد وهي تقول بإختناقٍ:
_لأ معايا موبايلي وكلمت ماما تيجي تاخدني، بس أنا زعلانة علشان كارنيه الجامعة والبطاقة والفيزا بتاعة الجامعة فيها المصروف لسه، الحاجات دي هتبهدلني.
لاحظ شدة حزنها والبؤس الذي لازمها فهتف بحنوٍ ولُطفٍ على عكس عادته معها كلما يراها وكأنها أضحى طفلًا يواسي رفيقته:
_لأ خالص، الحاجات دي مش هتاخد وقت، الفيزا ممكن تروحي البنك توقفيها وهتاخدي واحدة غيرها، والبطاقة وكارنيه الجامعة برضه مقدور عليهم، أهم حاجة متزعليش نفسك، كل حاجة تتعوض يا.. يا “جـنة”.
تعجب من نفسه أنه لازال يتذكر اسمها ولازالت عالقة في رأسه حتى رفعت عينيها الباكيتين نحوه وهي تحرك رأسها وقد أتت أمها في تلك اللحظة وأقتربت منها بلهفةٍ وهي تحتضنها وقد وقف بجوارها “مُـحي” مُشتتًا لا يفقه أي شيءٍ لكن يبدو أنها محظوظة فهي تملك أمًا، وقد رأى الخوف في عينيها والأخرى تنتحب فوق صدرها فخاطبها نيابةً عن الأخرى بقولهِ:
_هي كويسة متقلقيش عليها، أتسرقت.
طالعته أمها بعينين مُتسعتين فيما أتى شقيقه ووالده يقفان بجواره وقد سأل “تَـيام” عن سبب بكاء الأخرىٰ فأخبره شقيقه عن ما حدث وحينها هتف هو بذهولٍ:
_طب مصرختيش ليه وقولتي اللي حصل والناس جريت وراه؟ بعدين كنتي فين علشان تتسرقي كدا، دي الحارة كلها ناس طاهرة ونضيفة.
هتفت “جنة” بصوتٍ مختنقٍ من فرط البكاء:
_أتسرقت وأنا نازلة من العربية قبل ما أدخل الحارة هنا، كنت بكلم زميلتي علشان إمتحان بكرة وحد نتش الشنطة وجري، الحمدلله التليفون معايا علشان أعرف أذاكر منه.
مسحت أمها فوق رأسها وكتفها وهتفت بعاطفةٍ خالصة:
_فداكِ كل حاجة، المهم إنك بخير والحمدلله جت في حاجة صغيرة، أحسن ما حاجة تحصلك وتوجع قلبي عليكِ يا “جـنة” الحمدلله يا حبيبتي وشكرًا يا جماعة عن إذنكم.
شكرتهم وتحركت بابنتها بينما “مُـحي” فوقف يُتابع أثر الأخرى الراحلة وهي تمسك بكف أمها وقد لاحظ أن عيناه تتبعها هي وفقط حتى حانت منها إلتفاتة نحوه تودعه بعينيها قبل أن يختفي أثرها تمامًا تزامنًا مع إنتفاضة قلبه لأجل تلك النظرة حتى سأله والده بحيرةٍ ويأسٍ:
_أنتَ تعرفها دي كمان؟ تبقى مصيبة سودا.
أنتبه له وحرك كتفيه بحيرةٍ فيما أجاب شقيقه عوضًا عنه هاتفًا بتلقائيةٍ:
_هي تبقى صاحبة “آيـات” وجارتنا هنا ووالدها صاحب الحج “عبدالقادر” وكذا مرة أتقابل معاها بس عادي معرفة سطحية مش جامدة يعني وهي ملتزمة زي ما أنتَ شايف كدا وعندها حدود، حتى والدها راجل طيب أوي كان صاحب أبويا الله يرحمه.
ألتفت له “نَـعيم” بعينين مُتسعتين فأضاف الآخر مُعدلًا بلهفةٍ وكأنه أدرك كارثة ما تفوه به لتوهِ:
_أقصد اللي كان المفروض يكون…
يــوه ما أنا مش متعود لسه يا بابا.
صرخ بتيهٍ وهو يضحك رغمًا عنه من بلاهة الموقف حتى ضمه “نَـعيم” لعناقهِ يمسح فوق رأس ابنه وهتف بتفهمٍ وتقديرٍ لحجم مشاعره التائهة:
_ولا يهمك يا حبيب بابا، هو برضه كان والدك ورباك والله يرحمه ربى كويس، ربنا يرحمه ويديمك ليا ويقدرني وأعوضك عن غيابي وغيابه.
كان حديثه يسير بالتزامن مع موقفه وكأنه يفعل كل شيءٍ لأجل إسعاد صغيره الذي ضحك له بينما الآخر فظل يبحث بعينيه عنها لعلها تظهر من جديد ولم يتجاهله والده بل تتبع نظراته حتى تواصلت المُقل مَعًا فأبتسم بإحراجٍ من نظرات والده له رغم علمه أن والده بقدرٍ كافٍ من الدهاء..
__________________________________
<“بكل منا مالم يراه أحدٌ، هل تظن أنك تراني؟”>
لم يكن مجرد غريبٍ مـر من الطريق ذاته
وإنما هو فردٌ رآه القلب بعينيه وتتبعه لحين موضع وصوله لعند أبواب مدائنا وطرق أبوابنا ففتحنا له كل بابٍ موصد، ذاك يشبه الإحتلال الذي يتوغل في الأرض وتفترش ذراتها بجنوده، وقد جلست “فُـلة” في مكتبها تفكر فيه هو ذاته لا غيره، الحالة الغريبة وسط الجميع هنا، ذاك الذي يملك الداء ومعه الدواء…
زفرت بقوةٍ ثم بحثت بعينيها عن ابنة شقيقها فلم تجدها وحينها سقط قلبه من موضعه وهي تبتعد عن المكتب وتركض بلهفةٍ بحثًا عنها وتنادي باسمها عاليًا وهي على مشارف البكاء، خاصةً أن المكان بأكمله حالات خاصة يتوجب على من يعاملهم أن يدرس كافة خطواته..
بينما في الحديقة كان “مُـنذر” جالسًا يفتح حاسوبه الخاص وهو يدون في دفتره بعض الملاحظات الطبية لحالةٍ من ضمن الحالات بالمكان وقد وصله هسيسٌ خافتٌ يأتي من على بُعدٍ جعله يلتفت برأسهِ نحو تلك الصغيرة التي كانت تمسك في يدها علبة الطعام الخاصة بها، حينها سألها بعينيه لعدم قدرته في التعامل مع الصغار فوجدها تجلس أمامه وتَهُم بفتح العُلبة وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة لطيفة مثل ملامحها المتوردة:
_ممكن ناكل مع بعض؟ أنا سمعت “فُـلة” بتقول إنك مش بتاكل مع حد خالص، إيه رأيك ناكل مع بعض؟.
توسعت عيناه ما إن ذُكِـر اسم الأخرىٰ أمامه وقد راقب ملامح الصغيرة التي قامت برفع الشطيرة نحوه وهي تقول بأدبٍ:
_دي نانا اللي عملاها، أمسك كدا.
مدت يدها الصغيرة بشطيرة جعلته يعجز عن التصرف، فلا يعرف هل يأخذها منها فينهي طعامها، أم يتركها لها فيتسبب في إحراجها؟ من المؤكد هي طفلة صغيرة ولن تدرك حجم ما يصدر منه من أفعالٍ غريبة لم تتفاعل مع مواقف البشر، وحينما طال رد الفعل من جهته هتفت تستجديه بقولها:
_مش هتاخدها مني؟ المفروض لما حد يديك حاجة تاخدها منه وتقوله شكرًا، ماما قالتلي كدا.
توتر هو أمامها وقد هتف بصدقٍ كونها لم تستعب ما يتحدث عنه:
_هتصدقيني لو قولتلك محدش أداني حاجة قبل كدا وعمري ما أديت حد حاجة؟ علشان كدا معرفش المفروض نعمل إيه.
توسعت ضحكتها ومدت كفها أكثر وهي تقول بمرحٍ:
_طب أنا بديك أهو وهعلمك، أتفضل دي.
تلك اللطيفة ستعلمه كيف يحيا؟ لم لا أحيانًا يكمن السر في أصغر العقول وقد تفاعل معها ضاحكًا بلطفٍ تراه لمرتها الأولىٰ وحينها آخذها منها وزاد لُطفه بقوله مُبتسمًا:
_شكرًا ليكِ.
أخذها منها وبدأ في تناولها وهي تتناول طعامها بصمتٍ ثم أخرجت قطع الخضراوات تناولها له حتى أخذها منها وشكرها وقد وقفت “فُـلة” تراقبهما سويًا بعينين لامعتين بوميضٍ قلما يظهر في عينيها، تبدو كأنها لوحة مرسومة لأجل راحة عينيها وحينها وقفت تتابعهما بعدما قررت ألا تقترب وتفسد متعتهما خاصةً حينما وجدته يبتسم للصغيرة بذاك الصفاء وكأنه بدا صغيرًا أمامها هو الآخر، الآن هي ترى فيه الجانب الآخر وتتمنى أن يزداد عُمق رؤيتها
__________________________________
<“من يُريد الضُحى لن تُغريه لمعة الظلام”>
ذات يومٍ سوف يلاحق الإنسان أحلامه ويلتقطها بين يديه وحينها لن يُشكل المقابل معه فارقًا، بل سيدفع عمره بأكملهِ مقابل لمحة بسيطة نظير ما يُحب من أعين من يُحب..
كان “يـوسف” في شقة خاله برفقة “ضُـحى” ومعهما “قـمر” أيضًا وقد جلس هو بينهما ينتظر “أيـوب” الذي أتىٰ بعد دقائق من الموعد المحدد بعد خروجه من المسجد، وقد وصل هناك بأدبٍ وهدوءٍ وجلس معهم حتى قرب “يـوسف” منه الأوراق والأقلام الملونة وهتف بتسليةٍ واضحة:
_الورق أهو والأقلام أهيه، وريني القايمة بتتكتب إزاي.
رفع “أيـوب” كلا حاجبيه وأضاف بسخريةٍ وهو يلتقط الأشياء منه ويذكره بما تفوه به:
_مش سيادتك قولتلي إنك مالكش خُلق تكملها؟ بعدين جايب أقلام ملونة ليه؟ لو كتباها بلون أزرق مشاعر القايمة هتتجرح يعني؟.
رمقه “يـوسف” بغيظٍ لكنه سكت عن الرد وقد خرجت “قـمر” بالعصير لهما سويًا وحينها كان “أيـوب” يركز بصره فوق الأوراق وقد هتف “يـوسف” بخبثٍ يمازح الآخر خفيةً:
_جايباله عصير ليه؟ لو شرب شاي مشاعره هتتجرح؟.
أنتبه لهما “أيـوب” الذي ضحك رغمًا عنه ثم ألتقط الكوب منها وهتف بنبرةٍ ناعمة وصادقة:
_أسقاكِ الله من أحواض الجنة وشربة ماءٍ من كف الحبيب المُصطفى ﷺ.
ترقرق الدمع في عينيها وأنتفض قلبها من دعائه لها بينما “يـوسف” فحمل كوبه هو الآخر ومد يده لرفيقه يهتف بضحكةٍ أقرب لضحكات الأطفال:
_خُد دي وأدعيلي زيها.
ضحك لهما “أيـوب” ثم هتف بنفس الأسلوب:
_أسقاك الله من أحواض الجنة، ورزقك بشربة ماءٍ من كف الحبيب المصطفى ﷺ ربنا يرزقك بحبه وحب جناته ثم حب عباده الصالحين، ويرزقك بالهدى وينور بصيرتك.
رق قلب “يـوسف” أمامه وتذكر دعاء والده له حينما كان يقف بجواره تجهزًا للنزول إلى المسجد تحديدًا بيوم الجمعة وقد أخرج نفسًا قويًا ثم أنتبه لسؤال “أيـوب” الذي هتف مستفسرًا:
_هو المفروض “إيـهاب” و “إسماعيل” ييجوا إمتى؟.
جاوبه الآخر بعدما أنتبه له:
_جايين في الطريق علشان القايمة، بص هو المفروض كل دا مش فارق معاهم أصلًا بس علشان خالي يرتاح وضميره يسكت شوية، هتشوف العجب بعد نص ساعة، أستنى على رزقك.
في الداخل كانت “ضُـحى” تجلس بجوار شقيقها البائس الذي لم تكتمل له فرحة واحدة، حيث تهربت “رهـف” من العمل منذ يومين وظلت ببيتها وأضحى يلوم نفسه على تهوره لكنه لم يرد إفساد فرحة شقيقته فخرج يجلس برفقة البقية مع والده الذي أتى وخلفه أتى الشابان..
بعد مرور خمسة عشر دقيقة من الجلوس والترحاب والمُصافحات قام “فـضل” بتولي الحديث قائلًا:
_أنا الحمدلله ربنا قدرني وجهزت بنتي رغم إنها ساعدت كتير وجهزت نفسها، وقدام “أيـوب” أهو كل حاجة بما يرضي الله يا بني عاوزين تقوموا تراجعوا دا حق ربنا مبيزعلش حد، وأنا هبقى مرتاح لو دا حصل، القايمة مكتوبة بـ ٤٠٠ ألف جنيه بكل حاجة عندك أهيه..
نظر “إسماعيل” لشقيقه أن يتحدث هو نيابةً عنه حتى لا يُفسد الأمور وقد تحدث شقيقه بمعاتبةٍ طفيفة قائلًا:
_هو كدا بقى أنتَ معتبرنا عيالك؟ مش زي “يـوسف” و “عُـدي” إحنا ولا إيه طيب؟ على العموم حط اللي تحطه وأكتب اللي نفسك فيه، كفاية إنكم مأمنين على بنتكم معانا، والرجالة تمنها أصول يا أستاذ “فـضل” مش فلوس، وإحنا واخدين بنت أصول من بيت رجالة، تحت أمرك فاللي تعوزه وعنينا ليك.
يبدو أن “إسماعيل” أجاد ووفِقَ في إختياره لينوب عنه وقد نال موقفه وحديثه إعجاب الجميع حتى أضاف “فضل” مُستفسرًا بنبرةٍ ضاحكة للآخر:
_طب رأيك إيه يا “إسماعيل”؟ بحب هدوئك أنا أوي.
ضحك له الآخر ثم أضاف بدون مزايدة فوق حديث شقيقه:
_شرف ليا يا عمي، بس زي ما أخويا الكبير قالك، إحنا اللي بينا أكبر من الفلوس خلاص بقينا عيلة واحدة وحضرتك في مقام والدي وأعز كمان وشرف ليا أكون ابنك، أنا اللي يهمني “ضُـحى” في كل دا، والله لو فلوس الدنيا كلها مش كفاية عليها، كفاية إنها هتبقى مراتي وفي بيتي، أنا مش عاوز في الدنيا غيرها هي، أدوني “ضُـحى” يا جماعة..
ضحكوا على جملته الأخيرة حينما هتفها بعفويةٍ وتلقائية جعلت “ضُـحى” تضحك بخجلٍ في الداخل بينما هو أمسك القلم ثم قام بالتوقيع فوق الورقة دون أن ينظر ما تم تدوينه فيها كأنه يثبت صدق قوله عمليًا، وقد ضحك “فـضل” وهتف يمازحه بقوله:
_حاضر يا سيدي، يوم الخميس الجاي زي بكرة كتب الكتاب وربنا يسعدكم ويتمم بخير، أشربوا العصير بقى.
فور إنتهاء جملته أنتشرت المُباركات والمُصافحات بينهم ثم صوت زغرودة عالية من “أسماء” تعبيرًا عن فرحتها ملأت الأرجاء بأكملها وأنتشر صداها بالبيت ثم ضمت ابنتها وهي تبارك لها وكذلك فعلت “غالية” التي أرادت أن يتوقف بها الزمن هنا في تلك اللحظة السعيدة، بينما “ضُـحى” فشرأبت برأسها بحثًا عنه لتجده أول الناظرين إليها وما إن طالعته مبتسمة الوجه بادلها البسمة بمثيلتها ثم استمع لصوت قلبه حين هتف يذكره بقول “فؤاد حداد”:
” ‏وأشيل الدُّنيا بجناحي، أنا وهيَّ”
في تلك اللحظة شعر أن الدنيا بأكملها حُيزت له وهو يرى القبول منها له بل وبالأحرى هي تُطالعه هو من بين الجميع وكأنها نورٌ اصطفاه لينير عتمة ليله..
__________________________________
<“كل شيءٍ أرغمني أن أكون هنا”>
حينما يصبح كل شيءٍ ضدك..
تأمل في إنصافٍ حتى من الحجارة المُلقاة فوق الطُرقات بالشوارع عوضًا عن قلوب البشر الغليظين، فهل من منصفٍ لنا ولكم بهذه الأرض؟..
كان “نادر” جالسًا فوق فراشه لكن تلك المرة كان مُرتاحًا بشكلٍ أكبر حيث استعاد حركة إحدى قدميه وأضحت الأخرىٰ تحتاج لقلة صغيرة من الجلسات الطبيعية ومنها ستعود حياته لطبيعتها فيكفيه أن يبقى حبيسًا هنا يستند على عصا أزادت عمره أعمارًا، وقد ولجت له أمه وهي تقول بنبرةٍ حماسية:
_الدكتور كلمني يا حبيبي وطمني، كلها كام جلسة كمان مع التمرينات اللي “حنين” بتعملها هنا وكله هيكون تمام متقلقش، أهم حاجة حقن الوريد والأعصاب والدوا بتاع الأوعية علشان تقدر تاني تتحرك، أنا مبسوطة علشانك أوي يا “نـادر” نفسي بقى أشوفك تاني واقف على رجلك زي الأول..
لا يعلم لما الآن يشعر بإمتنانه لها وأنها فعلت الكثير لأجلهِ لذا أقترب منها يُلثم جبينها ثم هتف بصدقٍ وكفه يتحرك نحو كفها يقبض عليه حين قال:
_أنا عاوز أشكرك وأبوس راسك وإيدك على كل حاجة عملتيها علشاني، لحد دلوقتي مش مصدق إنك عملتي كدا ولسه مكملة ومستحملة تاني علشاني أنا، أنا بحبك أوي يا ماما، بحبك ونفسي أنا وأنتِ نفضل مع بعض من غير أي حاجة تانية ونفسي متزعليش مني، مش زعلانة صح؟.
حركت رأسها نفيًا وقد نزلت عبراتها وهي تُضم شطر وجهه بكفها الرقيق ثم هتفت بعاطفةٍ خالصة من أي شوائب:
_مش زعلانة ومش هقدر أزعل منك طول ما أنتَ حر نفسك برة دايرة أبوك وعمايله، مش عاوزاك تبقى زيه ونسخة منه يا “نـادر” صدقني أنا ضيعت من عمري كتير في السكوت عليه وعلى عمايله بس خلاص بقى فاض بيا، وفاض بيك أنتَ كمان، عاوزاك تصلح كل حاجة بوقوفك على رجلك من تاني.
ولجت في تلك اللحظة “حنين” لهما وهي تبتسم بتوترٍ ثم وضعت الطعام فوق الفراش وهي تقول بأدبٍ:
_الأكل أهو علشان فيه علاج كمان شوية، أنا خلصت كل حاجة وهنزل أروح المستشفى دلوقتي قبل ما اليوم يتخصملي ولو حضرتك محتاجة حاجة كلميني وهفيدك إن شاء الله يا مدام “فـاتن” وبابا مش هيقدر ييجي النهاردة.
أومأت لها موافقةً فيما طالعها “نـادر” بعينيه وهو يشملها بنظراتهِ وقبل أن تخرج أوقفها بقوله الصارم الذي بدا جامدًا أو ربما نتيجةً لصراعه الداخلي بدا هكذا:
_أنا عاوز أعتذرلك عن طريقة “شـهد” معاكِ وآسف لو كانت ضايقتك بس هي مندفعة شويتين ومش بتقدر تتحكم في عصبيتها خصوصًا الفترة دي وضعنا مش متظبط، أظن أنتِ طيبة يعني وقلبك أبيض.
ألتفتت له تهتف بوجعٍ وكأنه ضغط فوق زرٍ يؤلمها:
_على فكرة بقى أنا طيبة بصحيح وقلبي أبيض بس دا مش سبب لحد إنه يزعلني وييجي عليا، أنا كان ممكن أجرحها بس مبعرفش والله، بخاف أتكلم اللي قدامي ميقبلش كلامي ويتوجع، كل مرة حد ييجي عليا يقولي قلبك أبيض، لو دا سبب التعب هدهنه سواد يمكن الناس تخلي بالها بعد كدا.
تفاجيء بإنفجارها في وجهه وقد ضيق جفونه بإرتيابية وهو يراها تنسحب من المكان وحينها زفرت والدته بحنقٍ بينما هو صدح صوت هاتفه برسالةٍ من رقم والده جعلته يتردد في أمرها قبل أن يفتحها ليجدها رسالة صوتية منه مفداها:
_أنتَ علطول مش بتصدقني ولما بكلمك بلاقيك محتاج دليل بس أنا المرة دي جيبتلك الدليل واسمعه بنفسك أهو..
رافق رسالته تلك تسجيلٌ صوتي جعل “نـادر” يقوم بفتحهِ حائرًا ورُبما خائفًا ليجد ما خشى أن يجده حيث كانت الرسالة الصوتية راجعة لـ “يـوسف” وهو يقول بإنفعالٍ:
_عاوز إيه يا “سـامي”؟ زعلان أوي على حفيدك؟ آه يا سيدي سقطتها وآه زقيتها حِل عن دماغي بقى وشوفلك حد تاني ترازي فيه غيري.
توسعت عينا “نـادر” بصدمة جلية فوق ملامحه وكأن هناك يدٌ أمتدت لقلبه تعتصره وهو يستمع للآخر يُدين نفسه بتلك التُهمة وحينها شعر كأن الأرض تميد به، فبالطبع “يـوسف” لن يفعلها ويتسبب في إيذاء طفله؟ لكن هل يُعقل أن يكون إنتقامه أعماه لذلك الحد حتى ينتقم من طفلٍ صغيرٍ لازال برحم أمـه؟.
______________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى