روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والتاسع والعشرون 129 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة والتاسع والعشرون 129 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والتاسع والعشرون

رواية غوثهم البارت المائة والتاسع والعشرون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والتاسعة والعشرون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الرابع والأربعون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
جل الإله، أقول أُمتي
أي سلوي، أنت في عين قلبي
يارب دموعنا، حشودنا تدعوك
بدر الكبرى، ربنا، ليلة القدر
أيها الساهر، سبحانك يا رب
رسولك المختار، مولاي
أغيب، يارب إن عظمت ذنوبي
النفس تشكو، ربّ هب لى هدىٰ.
_”النقشبندي”
__________________________________
قالت لي إمرأة عجوز في عمر جدتي
“مَلَّاكَ الله حَبيبَك ” وكان المقصد حينها أي متّعك به وأعَاشَك معهُ طَويلًا، وقتها كنتُ في غُربةٍ تحديدًا في أقصى المدينة التي تسكنينها، ولم أملك وقتها حبيبًا، فرفعت عيني لها أخبرها بحسرةٍ “لم أملك حبيبًا يا سيدة” فقالت هي بحكمة عجوزٍ داهية في جُب الأيام “ستحصل عليها فقط تحرك لها” حينها تأكدت أنها حمقاء لا شك في ذلك، وتركتها لكنها ألقت عليَّ لعنة حديثُها، فلم تبرح كلماتها عقلي ولم ينفك صداها عن موضع قلبي، ثم شاء الخالق وغربني بين الخلائق في غُربةٍ شكلت في نفسي كل العوائق، وأصبحتُ في الأرجاء والأطراف زاهدًا وغريبًا، ثم قررت أن أعود لموطني فكفاني من العيش وحيدًا، وقتها أول مكان قررت أن أزرهُ كان وسط المدينة، حيث وسط البحر حينما رست السفينة، وقفتُ هناك اشتم عبير مدينتي، لكن قبل أن أخبرك بما ساورني من شعورٍ أولًا أغمضي جفونك ودعي نفسك لي لثوان أسرد لكِ نفسي حينها، حيث أنا الغريب العائد لموطنه ثم وقف في وسط البلدةِ يتابعها بعينيه، ليأتيني من الخلف صوت كوكب الشرق “أم كُلثوم” فيسرقني مني حينما يصدح في واحدةٍ من المقاهي العامة، ثم يعقب ذلك صوت صرخات من الناس مُهللين بسقوط الأمطار وهي تتراقص قبل أن تدنو من وريقات الزروع الخضراء، أداهمك ذاك الشعور؟ هكذا كنتُ أنا حينما أغمضت أجفاني أتناسى في مدينتي صوت أحزاني والبقية خلفي يركضون ضاحكين بأمطارٍ عانقت الزهور وأوراق الكُتب البُنية القديمة، ليفوح العطر مُتغلغلًا في الصدور، وما إن فتحت عيني وجدتني أمام مُقلتين دافئتين قامتا بضمي داخل الجفون، لأعلم أنني هنا وصلت لمدينتي ووجدت خليل الروح من بعد غُربتي.
<“على صبرك تؤجر وعلى نواياك تُرزق”>
مسكينٌ ذاك الذي ظن بهم الخير ونظر لهم بفخرٍ وهم يبتسمون له ظنًا منهم أنهم يحبوه ولم يدرك أنهم فقط يستدرجونه لكي يقومون بقتله وسلب الروح منه، فهو لم يعلم أنهم ينتون له الشر، وهم لم يدركوا أنه آمل فقط في قربهم لكي يأمن..
في صبيحة اليوم الموالي وسط حركة المياه الهادئة بنهر النيل حول مقر العمل بشركة “الراوي” وقف “يـوسف” يُدخن سيجاره وهو يُطالع المكان بنظراتٍ ثاقبة تاركًا خلفه اثنين في غاية الأهمية بعدما أعدوا لكارثةٍ ستقلب الموازين هُنا، وكعادةٍ لديه منذ طفولته البريئة وقف يُعد بهمسٍ لنفسه حتى رقم خمسة وما إن طُرِقَ الباب ارتسمت بسمة بريئة فوق شفتيه لكون ما فكر فيه تحقق وهذه هي العادة الثانية..
وقد التفت على فتح الباب ليجد “عـاصم” ثائرًا بغضبٍ أعمى وصوتٍ أقرب للغيظ المنفعل:
_هو إيه اللي بيحصل هنا بالظبط؟.
واجهه “يـوسف” بعينيه وهو يدخن سيجاره دون أن يعيره أي انتباهٍ أو يقوم حتى بإطفائها بل ترك المهمة للطرف الأقوى هنا وهو “أيـوب” الذي وقف بوقارٍ يبتسم له باستفزازٍ وقد جاوره “عُـدي” أيضًا بوجهٍ مُكفهرٍ، لينطق “أيـوب” ببرودٍ:
_مش تباركلي يا “عـاصم” بيه؟ ولا لأ هقولك عمي أحسن، أنا بقيت شريك هنا في الشركة وهدير أملاك مراتي و”نـادر” مع بعض، إن شاء الله ربنا يرزقنا بالحلال ويجعلها فتحة خير علينا، وبارك الله فيما رزق..
“أيـوب العطار” الغوث كما يُلقب والغيث كما يصفوه، لكنه أيضًا سيولٌ من أنهارٍ جارفة تبتلع كل من تسول له نفسه التمادي على حقوق الآخرين، لا يسترد الحقوق بالذراع ولا بالشر، وإنما ما تم أخذه ببند الحق، يسترده هو من باب الحق، والحق دومًا معه، فما كان وزال حديثه إلا جُرف هاويةٍ تبتلع كل من يسلب مالم يخصه، وقد تشدق الآخر بانفعالٍ:
_”نَــعم”!! أنتوا اتهبلتوا ولا إيه؟.
ابدى اعتراضه بتلك الطريقة فلم يكن لدى الآخرين إلا التواصل بينهم نظريًا وقد زفر “يـوسف” بقوةٍ فوجد “عـاصم” يرشقه بنظراتٍ حادة وقد ولج “سـامي” بتيهٍ يطالع الغرفة فوجد التحدي السافر بين الأعين فلم وحينها تحدث “عاصم” بغضبٍ عارمٍ أحدث فوضى بداخل العقول:
_لم الهبل دا يا “يـوسف” أنا لحد دلوقتي ماسك نفسي.
في تلك اللحظة تدخل “أيـوب” يهتف بحدةٍ:
_دا مش هبل، دا شغل وأنا هنا مشاركه وهشتغل بنفسي كمان، مش برضه دي شركة محترمة بتاعة الخامات اليدوية؟ أنا يا سيدي هزود شغل الشركة، معترض ليه؟.
شفنه “عـاصم” بحقدٍ جليٍ وتشدق بنزقٍ مُستفسرًا:
_والبيه بقى بيفهم في إيه ولا بيشتغل إيه علشان تيجي بالثقة دي وتقف هنا وكمان تبقى شريك معانا؟.
_بتاع قُـلل، محسوبك أسطى قُلل على أبوه زي ما بيقولوا.
هكذا جاوبه بثباتٍ خفى منه السخرية رغم أن مُجمل الكلمات أوحى بذلك فزفر “عـاصم” في محاولةٍ منه للتمسك بثباته حتى وجد “يـوسف” يترك موضعه ثم وقف في مواجهته يخاطبه بصوتٍ هادرٍ:
_تاني مرة تتكلم معاه بأدب، وياريت تختشي شوية متبقاش حرامي وبجح كدا بتدافع عن حاجة مش ملكك، أنا أعرف اللي يتحمق دا يكون محموق على ملكه، بس هقول إيه؟ خليني ساكت علشان لما بكلمك بزعلك.
كلماته دومًا تُشبه المقود حينما يقترب من النيران فتنفجر منها الزوبعات غضبًا، وهكذا بدا عمه أمامه فلم يكن لديه سبيلًا إلا أن يضغط فوق جُرحه الذي لم يلتأم بعد بقوله:
_بلاش أنتَ تتكلم أحسنلك، أنتَ شكلك مُخك فَوت خلاص ومحتاج ترجع المصحة من تاني علشان تفوق من الجنان اللي أنتَ فيه دا يا “يـوسف”، ولا كنت عاوزني أسلم الليلة كلها لواحد مجنون يضيع كله حاجة مننا؟.
طعنات وجروح هي أدق الوصف لتلك الكلمات الخارقة للصدور تشق فيها موضع الروح الساكنة، وقد تشنجت ملامح “يوسف” وانتابته الحالة الجنونية فقبض بكلا كفيه على تلابيب عمه بغير تعقل وأضاف من بين اسنانه المطبوقة فوق بعضها:
_المجنون دا لو ساب نفسه عليك الله في سماه ما هتفوق تاني ولا تشم نفسك حتى، متخلينيش أتغابى عليك وأزعلك بالقوي مني يا “عـاصم” وأخرج جناني بجد، ولا تحب نعرف الناس على البيه وطريقته مع ابن أخوه اليتيم اللي كان خاطفه من أمه؟ بذمتك مش مكسوف وأنتَ ماشي وراه زي خيبتها كدا؟.
أشار برأسه نحو “سـامي” قبل أن يدفعه بكلا كفيه ثم هدر مُجددًا يُهدده بصراحةٍ الجميع يعهدها منه جيدًا حيث أضحت ثمة واضحة يمتاز بها:
_اسمع!! أنا مش فاضي للهبل دا، “أيـوب” هنا مكاني وهيدير الشغل بالنيابة عني وعن “نـادر” وعن “قـمر” كمان وهو عارف اللي المفروض يحصل لو حد داسله على طرف بس، فبراحتكم بقى واعملوا اللي عاوزينه، علشان ساعتها هعمل اللي أنا عاوزه أنا كمان ومحدش يزعل، وخليك فاكر إن البادي أظلم.
في المعتاد هو ليس من هؤلاء الجُبناء الذين يخضعون لغيرهم ويقفون طوع سُلطانهم وإنما هو “يـوسف الراوي” الذي يعلم جيدًا كيف يُدير ساحة الحرب ليخرج منها بأقل الخسائر ويرغم عدوه على الوقوف أمامه لافظًا أنفاسه الأخيرة جاعلًا من خيالاته مقبرةً لأحلامهم، وقد أغلق الباب في وجه الاثنين الآخرين بدفعةٍ قوية عنيفة عقبها بدفع المقعد بقدمه حتى التصق في الحائط نتيجة دفعته التي أجفلت نتيجتها الأجساد بعدما سببت ضجيجًا يُنافس ضجيج رأسه التي لم تصمت…
__________________________________
<“الأمر ليس بيدينا، اجتمعت الطُرقات وتلاقينا”>
الطير ليس جريمة لكي يُعاقب عليها والحُلم ليس وسيلة لنهرب إليها، فالطير من ثوابت الأحرار والحُلم كُتِبَ للأخيار، ونحن في طريقنا نسعى نحو الأهداف لا ننس أننا في نهاية المطاف طائعين للأقدار، ولو كانت كل الجرائم نتيجة الحُرية يعاقب عليها، لما كان ترك الطير موضعه وطار..
المكان تعود له بهجته من جديد بعدما كاد أن يكرهه، حياته التي حلم بها في حلالٍ طيبٍ يطولها الآن، صوتها الهاديء الرقيق معه بنفس البيت، وظلها يؤنسه وقلبه يخبره
“بها تأنست” وقد نزل “سـراج” الدرجات الرُخامية بخطواتٍ رتيبة ليجدها بالمطبخ تقوم بتحضير الطعام لهما سويًا، حينها ابتسم ووقف يضم كلا ذراعيه ويستند على حافة المطبخ ليجدها تسأل عمتها بحنقٍ في الهاتف:
_يا عمتو أيوة بتتعمل إزاي برضه؟ أنا فاكرة إنك كنتِ بتحطي الأول باين سمنة بعد كدا البيض ولا الجبنة، أنا نسيت باين كنا بناكل إيه، متوترة كأني عمري ما دخلت مطبخ.
جاهد لكتم ضحكته حتى استمرت هي على خطوات عمتها وهو خلفها يراقبها بعينين سكنتهما البسمة الصافية فيما أكملت هي تحضير الفطور لهما وما إن أغلقت المُخابرة الهاتفية أتى هو من خلفها وضم خصرها بكلا كفيه هاتفًا بصوتٍ رخيم:
_طب ما تطلبي مساعدتي، هقولك لأ؟.
ابتسمت هي برقةٍ ثم التفتت له تحدثه بكل صراحةٍ عما انتوت فعله لأجله:
_كنت عاوزة أعمل حركة رومانسية كدا وأطلع بالفطار فوق لحد عندك وأفطرك بايدي، بس معرفش ليه اتوترت ونسيت كنت بعمل الفطار إزاي، أنا عاوزة أهرب يا “سـراج”.
رفع كلا حاجبيه ساخرًا منها ثم أرخى كفيه من فوق ظهرها بطريقةٍ أقرب للدفع بعيدًا حتى وجدها تلتفت له بحنقٍ وحينها تجاوزها ثم اقترب من الطاولة وهو ينطق بسخريةٍ تهكمية:
_عاوزة تهربي تاني؟ مش كفاية هروب بقى يا “نـور” ولا هو أنا مكتوب على أهلي إني أفضل أدور عليكِ وخلاص؟ “نور” أنتِ بقيتي مراتي مستوعبة دا؟ ولا المخ بعافية؟.
أشار على رأسه يلفت نظرها بهجومٍ حاد ويبدو من الأمر أن لازالت تلك السيرة هي النقطة التي لم يتخطاها هو، لذا تبدلت ملامحه حينما ذكرته هي بهذا فيما تعجبت هي من طريقته ثم اقتربت منه تحدثه بنبرةٍ يغلب عليها التيه:
_أنا لسه كنت هكمل واقولك أهرب على حضنك وأناكفك بس واضح إنك مش قابل هزاري كمان، ههرب أروح فين بس؟ أنا معاك أهو ومبقاش ينفع اسيبك.
التفت لها يتوضحها بعينيه فوجد ملامحها حزينة وقد تغضنت ملامحها ولم تعد بصافيةٍ كما كانت، فاقترب منها بهدوء وضمها له وهو يخلل كفه بداخل خصلاتها وقال بآسفٍ يُبدي ندمه لها:
_أنا آسف والله، بس أنا الكلمة دي بتعفرتني وخصوصًا لو منك أنتِ، أنا مبحبش الجُبن ومبحبش الهروب، بحب اللي يقف يواجه علشان في كل الأحوال المواجهة أفضل، ولو ماكنتش واجهت نفسي مكانش زمانك رجعتي تاني لحضني وبقيتي مراتي وأتقفل علينا باب واحد، متزعليش نفسك.
عادت للخلف وهي تمسح وجهها حتى لا تُبدي حُزنها بتبدلها أمامه فيما تنهد هو بثقلٍ ثم أضاف بعدما ابتسم لها يُراضيها بقوله:
_طب أقولك أنا محضرلك مفاجأة حلوة، نفطر ويلا.
عقدت حاجبيها معًا أمامه فاقترب أكثر بوجهه منها يخبرها بمراغةٍ وقحة كعادته حينما يتحدث معها:
_هاخدك شقة اسكندرية اللي كنت هموت وآخدك فيها من أول ما شوفتك، تعالى بقى نروح وأنتِ مراتي حلالي ونقضي يوم هناك ونرجع تاني، إيه رأيك؟.
شهقت بنعومةٍ وتعلقت بذراعيها في عنقه تُغمغم بفرحةٍ جعلته يبتسم أخيرًا بصفاءٍ ثم حملها فجأةً على ذراعيه وهي ترفرف بقدميها لكي يُنزلها فشدد مسكته لها هاتفًا بثباتٍ:
_استني بس هحكيلك حاجة مهمة، مش كان نفسك تعرفي حبيت مين قبلك تعالي بس هقولك كل حاجة ومش هخبي عليكِ خالص، دي كانت ست ونعم، عمر العيبة ما طلعت من بوقها.
استكانت من حركاتها الهوجاء على كفيه وهي تُرشقه بنظراتٍ نارية غيظًا منه وغيرةً عليه وهي تستفسر باندفاعٍ:
_أومال كانت بتطلع إيه إن شاء الله.
_صحيح عمر بوقها ما طلع العيبة، بس كان بيطلع موس عمره ما فارقها كدا ولا سابها لحظة.
هكذا جاوبها بجديةٍ زائفة حتى دوت ضحكتها عاليًا وتردد صداها بالبيت وهو يحملها ويمازحها بكلماته التي لم تخلو من الغزل بكلا نوعيه بعدما لجأ لفترة تهذيبٍ عُقِبَ خلالها بحرمانه منها ومن النظر في وجهها، وهاهي تعود له بين ذراعيه ليسكن كلاهما الآخر باعثًا في نفسه السكينة وبانيًا لقلبه المسكن.
__________________________________
<“الخطوات الغير مُرتب لها، تُصيب في الأغلب”>
لا يُعقل أن كل الخطوات تكون مُرتبة، بل هناك خطوات فُجائية تأت بغير حسابٍ أو ترتيبٍ لتُفاجيء الجميع بنتائجها التي تُثمر وتُجني كما لو أضاع المرء عُمرًا في الحساب والتخطيط لها..
لقد كان مسكينًا بين البشر يفتح ذراعيه لهم لكي يحتضونه وهم يركضون خوفًا منه حاسبين أنه يود خنقهم، وحينما يحتج عليهم يتهمونه بالجنون، الحالة التي انتابته كانت غريبة شعر خلالها أن هموم الأرض تجثم فوقه وكأنه هو من يحمل الأرض بين ضلوعه ويسقي قلبه من ماء دموعه، وسرعان ما سقط في هاوية التفكير لتبتلعه الذكرى داخل حُفرة سوداء غاص في غياهبها..
شرد “يـوسف” في ماضيه خاصةً في أول أسبوعٍ مر عليه داخل المصحة النفسية يتلقى بها العلاج أو عفوًا هكذا زعموا هم، ففي الحقيقة هو كان يُساق للتدمير، حينها جلس القرفصاء فوق الأرض يضم جسده بكلا كفيه معًا، نظراته زائغة في اللاشيء أمامه، عيناه ثابتة في النظر من النافذة، عبراته تسيل كمدًا وقهرًا على نفسه وعلى سنين عمره..
حينها كان يود أن يصرخ ويبكي وينفجر في وجه الجميع لكن هناك شيءٌ أوقفه عن كل شيءٍ، لا يعلم لما رضخ لهم حتى أضحى في هذا الحال وقد ولج له أحد الأطباء برفقة الطاقم بأكمله يتحدثون مع بعضهم ليصرخ هو بانفعالٍ لا يعلم بسبب ضجيجهم أم سبب ضجيج رأسه:
_بــس بقى، أخرسوا كلكم.
حينها اقترب منه الطبيب لكي يتفحصه فدفعه بعيدًا عنه بحركةٍ عنيفة غير محسوبة جعلت الطبيب يترنح للخلف وقبل أن يسقط اسنده أحد مساعديه، وحينها أمرهم بتكبيل “يـوسف” الذي حاول أن ينجو بنفسه فوجدهم يقومون بتكتيف أطرافه وفمه أيضًا، تزامنًا مع غرس إبرة طبية في أحد أوردته وهو يحاول أن يصرخ ويبكي لكنهم تكالبوا عليه حتى سكنت حركته وخمدت نيرانه..
وقع في جوف الذكرى كمن يقع في غياهب الظلام وقد خرج من شروده على لمسة من كف “أيـوب” لكتفه حينما وقف أمام النافذة الزجاجية يُطالع المكان وحركة المياه، فتنهد بعمقٍ يخرج ثُقل همومه ونطق بجمودٍ:
_أنا عاوزة أخرج من هنا.
خرجا سويًا من المكتب وهو يود أن يُغادر ويهجر كل شيءٍ يتعلق بهم حتى اسمه نفسه، بينما لاحظ “أيـوب” حالته تلك وقبل أن يتدخل صدح صوت هاتفه برقم والده فاستأذن منه ثم تحرك من موضعه وقد تحرك “يـوسف” نحو المبرد يلتقط منه كوبًا من الماء المُثلج لكنه لاحظ حركة الظل في المكتب المجاور له فتحرك لهناك بخطواتٍ رتيبة..
وقف في الخارج يتفرس الغرفة بعينيه من خلال زجاج النافذة ليجد “عاصم” يزرع الغرفة ذهابًا وإيابًا بخطواتٍ واسعة والمحامي بالداخل يشرح لهما الوضع قانونيًا وحينذاك ضرب عمه المكتب بكلا كفيه وصرخ بانفعالٍ:
_يعني إيه؟ عيشت العمر دا كله بحافظ على الشركة والفلوس وييجي هو وابن “عبدالقادر” على الجاهز يحطوا راسهم براسي؟ كنت ببعده عن “عبدالقادر” كل دا علشان في الآخر ألاقي بدل الواحد اتنين في وشي؟ شوف صِرفة يا “نـاجي” مش حتة العيلين دول مع بعض اللي هيهدوا شقا السنين دي.
صرخ بنبرةٍ هادرة وهو يضرب سطح المكتب حتى وقف المحامي أمامه يهتف بلباقةٍ واعتيادية في الأسلوب:
_يا “عـاصم” بيه الشركة دي ملك بين الكل، الست والدتك الله يرحمها اتنازلت عن النصيب بتاعها كله لـ “يـوسف” والجزء بتاع مدام “فـاتن” اللي كان باسم “نـادر” حاليًا “يـوسف” بالتوكيل دا يقدر يدير كل حاجة، و “أيـوب” بقى شريكه في الجزء بتاعه و”يـوسف” مخليه ينوب عنه في كل حاجة، يعني قانونًا مش هتقدر تعمل حاجة طالما العقود سليمة والتوكيلات كمان.
اتقدت النيران بصدر “عـاصم” واهتاجت ثورته غضبًا فقام بدفع المقعد للخلف وارتمى عليه بتعبٍ بلغ أشده حينما تمركزت تلك الفكرة برأسه ألا وهي أن كلًا من “يـوسف” و “أيـوب” أصبحا يدًا واحدة معًا أمامه، ولو شاء كلاهما سوف يقضي عليه، أما بالخارج فشعر “يـوسف” بحالة رضا تسري في عروقه ما إن رأى عمه مقهورًا بتلك الطريقة التي جعلت البسمة الرزينة ترتسم فوق شفتيه وصوته الداخلي يصدح بثباتٍ يؤيد كل الأفعال:
_شوفت؟ أنا كدا مَرضي أوي أوي كفاية إنه مقهور وهو شايفك من تاني واقف على رجلك بترجع حقك واحدة واحدة، “أيـوب” كان صح لما حط أيده في إيدك، عليك بس دلوقتي إنك تكمل ومترجعش.
ولأول مرةٍ يؤيده الصوت الثاني بقوله:
_عارف لأول مرة أشوفك بتتكلم صح، “عـاصم” دا كلب ولا يسوى حتى زعلك عليه، استنيته قد إيه يحس بيك كأنك ابنه؟ كام مرة كنت بتقف تبصله يمكن ياخد باله منك ويحبك؟ كام مرة كنت بتروح تضحك جنبه علشان تكسبه وهو طول عمره يبصلك بحقد؟ اللي زي دا تفرح فيه وهو مقهور زي دلوقتي، خلي اسمك كابوس ليه.
أغمض عينيه وهو يلفظ أنفاسه المحبوسة بين رئتيه بحصارٍ وهمي ليجد ذاك الصوت الحزين الذي دومًا يُنافيِّ السابقين له:
_عارف أنا موجوع منه ليه؟ علشان كان المفروض هو اللي يقف في ضهري لقيته أو واحد بيقف في وشي، سؤال بجد لما هما كلهم في وشك مين هيقف في ضهرك؟.
تهجمت ملامحه واشتدت قبضة فكه وأطبق اسنانه فوق بعضها ليصدر منهما صوت الاصطكاك ببعضهما وقد أتى له الجواب يقف بجواره وينتشله من نفسه قائلًا بثباتٍ:
_يلا علشان نتحرك ونلحق نشوف ورانا إيـه.
انتبه له “يـوسف” وتطلع إليه بقوةٍ يقرأ تعابيره وكأن الجواب بذاته حضر له فتنهد براحةٍ ثم أومأ موافقًا ليجد صوت “عـاصم” من الداخل يصدح عاليًا من جديد بعنفٍ وغضبٍ سكنا فؤاده الأسود، فتنهد مُجددًا لكونه حقق هذا النصر عليه ورد له صفعته باثنين فوق وجهه.
__________________________________
<“لقد تأجل اللقاء بيننا لحين وقتٍ آخر سنظل ننتظره”>
في معظم الأوقات أنتَ تخوض حروبًا لا تعلم عنها شيئًا، تلك الحروب الخفية التي تظهر في أيامك وتلطمك بهزيمةٍ فوق وجهك لتصبح مهزومًا من العالم بأسره، لكن الهزيمة الأكبر إنك في داخل حربك بمفردك، وعند تلك اللحظة تعلم أن الهزيمة تُقترن بغيرها أشد قسوة، والأقسى من ذلك يوم أن تنتصر ولم تجد لكَ وليًا ولا داعمًا..
لازال حبيسًا في غرفته بعدما تبعثر ثبات أيامه الأخيرة، فمنذ أن عاد للقتل وقام بسلب تلك الروح العفنة التي دنست أجساد الفتيات بقذارتها وهو لم يعد كما هو، هناك شيءٌ به فقد كل المعاني لتصبح ورقة أيامه مُبهمة دون كلماتٍ تشرحه، وما زاد من تدهور الأمور هي صورة “شـوقي” التي كانت كما القشة التي قسمت ظهر البعير، فتنهد بثقلٍ وأغمض عينيه هربًا من عقله..
دقائق مرت عليه إبان سكونه عقبها صوت الباب يُطرَق من الخارج فتحرك نحو الباب يفتحه فهي عادة لديه أن يغلق على نفسه بمفرده، وقد وجد عمه يبتسم له وهو يسأله بودٍ:
_من إمبارح مشوفتكش، قولت آجي أتطمن عليك.
وقف يتطلع إليه بعينين زائغتين فسأله “نَـعيم” بهدوءٍ بعدما ابتسم له بصفاءٍ وشمله بعطفه:
_ينفع أدخل أقعد معاك شوية؟.
استأذنه ليجد الآخر يفسح له مكانًا ثم أشار نحو الداخل يهتف بثباتٍ واهٍ:
_البيت بيتك طبعًا، أنا هنا ضيف.
جلس عمه حينما أنهى الآخر جملته وقد جاوره “مُـنذر” بحيرةٍ وهو يحاول استنباط أي شيءٍ من ملامحه لكنه فشل بشكلٍ ملحوظ فوجد عمه يسأله باهتمامٍ:
_قولي أنتَ حاسس إنك مرتاح دلوقتي؟.
باغته بهذا السؤال الغير متوقع أو ربما كان وقعهُ جديدًا عليه وعلى سمعه وحينها أومأ موافقًا ليلحظ عمه الانكسار البادي عليه وفي عينيه، لم يكن كغيره من ابناء عمره، بل نظرته دومًا منكسرة، عيناه مُنطفأة من وهجها، ملامحه مقتضبة، جبينه عابسٌ، يجلس بعيدًا عن الناس كما لو كان منبوذًا من العالم، وحينها أمسك وجهه بأحد كفيه وسأله باهتمامٍ ازداد عن سابقه:
_ها؟ قولي مالك؟ شكلك زي المهزوم وخسران كل حاجة.
في الحقيقة هو أمسى الاثنين معًا، فهو المهزوم والخاسر كل شيءٍ حتى نفسه لم يعد يعلمها من هي وكيف كانت، لذا أطلق تنهيدة من جوفه عقبها بقوله المُتألم ليرسل نبذة صغيرة عن وجعه لعمه:
_بتدخل مليون حرب في يومك وبتطلع في كل مرة خسران، ولو كسبت مبتلاقيش حد يسقفلك فبتخسر فرحتك إنك كسبت، أنتَ في كل الحالات خسران ولوحدك.
تنهد بثقلٍ وأضاف مُشيرًا إلى نفسهِ:
_دا بالظبط أنا، خسران ولوحدي.
تنهد عمه وقبل أن يتحدث باغته هو بسؤالٍ غريبٍ يبدو أنه شغله كثيرًا ولم يجد الوقت المناسب لكي يستفسر منه:
_أنتَ ليه محتفظ بصوره معاك بعد كل حاجة حصلت؟.
كان السؤال مفاجيءٍ بشكل بعثر ثبات “نَـعيم” الذي طالعه باستنكارٍ لم يدم طويلًا حيث تنهد بقوةٍ وكأن هناك حالة أخرى احتلته ليكون رد فعله غلظًا بقوله:
_عارف إنك مستغرب حاجة زي دي، بس دي مش محبة فيه علشان مش بطيقه أصلًا، بس لولا الصور دي كان زماني كاتم جوايا كتير وميت من الوجع، كنت بحطها قدامي وأكلمه وأهينه بعدما الموت خدته قبل ما آخد حقي منه، فكرك أنا شوفت منه شوية؟ أنا محدش دمرني زيه ولا كسرني زيه، قطم ضهري واللي وجعني بجد إن أخويا اللي استهتر بلحم ابني ووجع قلبي عليه، كنت بكلمه واسأله عمل كل دا ليه، علشان الفلوس؟ والله العظيم كان عندي أديله عمري كله وروحي بس يرجعلي ابني احضنه مرة واحدة بس…
احتلت الغصة حلقه وحُصرت انفاسه ولم يقوَ على اخراجها لكنه أخيرًا تنهد تلك التنهيدة التي تتغلب في بعض الأحيان على قوة الكلمات وتصف ما تعجز الأبجديات عن وصفه، ثم أخرج من جيب سترته مجموعة صور خاصة بـ “شـوقي” ثم مد يده بها له وأضاف بصوتٍ مقهورٍ:
_أنا قولتله كتير أوي، بس دورك أنتَ كمان تقوله وتخرج اللي جواك أنتَ كمان علشان ترتاح شوية، متكتمش جواك يا “مُـنذر” وخرجه منك، الصور معاك أهيه، أنا كنت ناوي أحرقهم لما ابني يرجعلي علشان مفيش حاجة تفكرني باللي هو عمله وعلشان حتى مفتكرش أصفاله ولينا حساب قدام رب العالمين، أمسك.
وضع الصور بيده ثم لثم جبينه بحركةٍ أبوية خالصة جعلت الآخر يقشعر بدنه كمن مسته الكهرباء وراقب عمه وهو ينسحب من الغرفة وما إن أغلق الباب عليه اخفض عينيه نحو الصور يُطالعها بحزنٍ لكنه قرر أن يواجهه حتى لو كانت مواجهة وهمية فابتسم بسخريةٍ خالطها الألم، حاول اخفاء تأثره لكنه فشل فتنهد بثقلٍ وسأله بصوتٍ مُرتجفٍ كمن يركض من حربٍ دامية وقد وقف يبكي في منتصف ركضه:
_ليه طيب؟ محسيتش ولا مرة بحاجة ناحيتي أو حتى فكرت مثلًا تديني فرصة يمكن تحبني؟ على فكرة أنا ممكن أبان كدا بس أتحب، أكيد فيا حاجة حلوة تتحب، بس أنتَ ليه محبتنيش، ليه حكمت عليا بالموت وهي حكمت عليا بالبيع وبقيت كدا؟ أنا كان نفسي أكون عادي، شوفت “تَـيام” بريء إزاي؟ كان نفسي أكون زيه كدا، لما بشوف أخوك بحس إني عاوز أمشي من هنا، وإني قليل أوي، أنا والله ممكن يكون فيا حاجات كتير وحشة بس فيه حلو برضه، بس أنا مش بشوفه، عارف؟ قالتلي إني أتكره فعلًا ومقدرتش ألومها علشان أنا كرهتها فيا برضه، بس أنا ليه كلهم عملوا فيا كدا؟ أنتَ المفروض كنت أول واحد يحبني ويحميني…
انتحب باكيًا بقدر السنوات التي كتم فيها هذه العبرات حتى توقف عن الحديث ثم استطرد باكيًا بقهرٍ:
_أنتَ كرهتني والعالم كله من بعدك كرهني، كنت عيل صغير وبصحى بكهربا في جسمي ونار حواليا وصوت ضرب نار، اتربيت طول عمري في سجن بتعلم فيه كل حاجة حرام وغلط، بقيت زيهم وأنا مش منهم، بس مهما عملوا فيا مفيش حاجة هتغطي على عمايلك وكرهي ليك، بكرهك وبكره سيرتك حتى، حتى وشي كرهته علشان فيه شبه منك، ولو فيه فرصة واحدة بس أشوفك فيها حي هتبقى أكيد فرصتي علشان آخد روحك اللي استكترتها عليا، ومهما حصل عمري ما هسامحك ولا حتى أدعيلك، هفضل أكرهك طول عمري وادعي عليك لو اللي زيي بيتقبله دعاء أصلًا، سلام يا اللي المفروض أبويا..
أنهى حديثه ثم توجه نحو نحاوية القمامة وقام بإحراق الصور ليرى النار تأكلها وتأكل وجه أبيه وحينها تنفس بقوةٍ وصوت التنهيدة المُرتجفة هي كل ما يصدر عنه فقط، ثم ترك لظيظ النيران يزداد أمام عينيه لعله يُطفيء نيرانه تلك ويُخمدها، لكنه نجى من الحرب وصوت القصف، لكن رجفة قلبه ظلت عالقة في جسده.
__________________________________
<“مجرد لحظات سعيدة أحيت قلوبًا أدماها الزمن”>
يعيش المرء بين طريقين واحدٌ منهما اختاره طواعيةً والآخر فُرِضَ عليه؛ وهو يسير في كليهما لا يعلم نهاية أيًا منهما لكن الإجبار هو الوسيلة الوحيدة التي قادته للطريقين، فسلك أحدهما مُجبرًا بدافع الشغف، وسار في الآخر بدافع الاكتشاف، وفي هذا وذاك قد تتوه منه نفسه..
جلسوا في شقة “تَـيام” الجديدة وهو أيضًا معهم بينما زوجته فجلست بجوار صديقاتها الفتيات وأخوتها ووالدها بلحظةٍ عائلية مرحة مع بعضهم، حتى تحدثت “مهرائيل” بحنقٍ:
_هو خلاص كدا فاكر نفسه خدك مننا؟.
انتبه لها “تَـيام” ضاحكًا بخبثٍ جعلها تطالعه بحقدٍ لكونه حرمها من أحلامها برفقة صديقتها وقد تدخلت “مارينا” تهتف بحنقٍ منه هي الأخرى:
_روح يا شيخ ربنا يسامحك، فسدت أحلامنا كلها ودمرتها تصدق أنا معايا حق من الأول أكرهك ومقبلكش، طلعت رخم كمان وخدتها من الحارة كلها، باصينلك فيها على فكرة.
ضحك الموجودن عليها وعلى نظراته الساخرة خاصةً حينما استهزأ بها قائلًا:
_هي القطة اللي بتتكلم دي خلصت امتحانات؟ ولا جاية تصدعنا وخلاص؟ كلكم عينكم فيها؟ طب ما أنا طفحت الدم علشان أوصلها، ولا خلاص أتعميتوا فجأة.
حرك “أيـهم” رأسه نحوه ونطق متوعدًا له:
_أقسملك بربي أنا محضرلك حبة شغل!! هخليك تلف من اسكندرية لأسوان كعب داير خلص وتعلالي بقى.
ازدرد “تَـيام” لُعابه ثم مال عليه يهمس بقوله:
_لو عاوزها تاني هلفهالك لفة هدايا وأنتَ ماشي بس بلاش سفر أنا بكره السفر والتجار، خليني هنا جنب مراتي.
كان “بيشوي” جالسًا بينهما فنطق بخبثٍ جعلهما يضحكان ضحكة مكتومة في محاولةٍ لإخفائها:
_عارف أنا لو أتجوزت اللي بحبها زيك كدا والله لو هشحت ما هخرج من بيتي قبل شهر، هخلي “جـابر” يبوس ايدي علشان بس يعرف بنته في شقتها ولا في حتة تانية، صبره عليا ابن “سميحة” دا أنا مرقدله.
ضحك الاثنان عليه بصوتٍ عالٍ فيما حرك “عبدالقادر” رأسه نحو عصفورته البريئة التي تجلس بين الفتيات و “إياد” في حضنها وهي تمسح فوق خصلاته حينها وجد البسمة تزين وجهها المتورد ويبدو أنها حقًا سعيدة، فمن مجرد النظر في عينيها الخجولتين وهي تُطالعه ببسمةٍ صافية وقد تلاقت عيناه بعينيها فأرسل لها قبلة خفيةً جعلتها تضحك له حتى صدح صوت الباب فتحركت تفتحه لتجد “نَـعيم” أمامها يهتف بحماسٍ:
_شاطرة إنك فتحتي أنتِ، كل مرة خليني أشوفك أنتِ.
ضحكت له وهي ترحب به فيما لثم هو جبينها برضا وحُب جعلها تطالعه بخجلٍ لكنها تعلم أن مشاعره لها كبيرة ولم يقوَ على احجامها، وفي الخلف وقف “مُـحي” بمللٍ وهو يكره تلك الطقوس الغريبة مُبررًا في السابق لوالده بقوله:
_عريس وعروسة ربنا كرمهم وأتقفل عليهم باب واحد، نروح إحنا نرخم عليهم ليه؟ ما تخلوهم في حالهم.
كان يمسك في يده عُلبة حلويات وقد رحبت هي به وأشارت له بالدخول ليسبقها هو نحو الداخل وقد صافح الجميع وجلس على المقعد المخملي الكُحلي فوجدها في وجهه، حينها توسعت عيناه بغير تصديقٍ فيما توترت هي حينما وجدته هو نفسه فأخفت عينيها عنه وهي تفكر بحيرةٍ لما هو في كل مرةٍ تراه؟.
أما هو فشرد بها كعادته وهي تخفي عينيها عنه كأنها تخشى الالتقاء به وسُرعان ما تذكر موقف “إيـمي” فتنهد بثقلٍ وحرك عينيه للجهة الأخرى ليجد والده يُطالعه بنظراتٍ مُتفرسة لكنه هرب ببراعةٍ من حصار نظراته، لتتحول الجلسة لأخرى ودية في مناقشات وتعارف ومزاحٍ حتى انقضت ورحلوا وتركوا الشقة بعدما نزل “تَـيام” معهم يقوم بتوصيلهم…
حينها تحررت “آيـات” من ثيابها لتظهر بهذا الثوب الرقيق حيث كانت ترتدي عباءة بشكل الفراشات لونها أبيض أوضحت معالم جسدها الذي كانت تخفيه خلف ملابسها الفضفاضة والمحتشمة، ثم تركت العنان لخصلاتها تتحرر خلف ظهرها وبعد مرور دقائق عاد هو لها فوجدها تقف بالمطبخ تُلملم الأشياء به فوقف يُتابعها مُتعجبًا من هيئتها تلك، مُفكرًا بحيرةٍ منذ متى وهي تملك كل هذا الجمال؟..
أدرك حينها أنه أحب الجوهر ولم يكترث كثيرًا بالمظهر وياليته فعلها منذ وقتٍ طويلٍ بدلًا من تعجبه من هيئتها تلك، وقد شعرت هي به فالتفتت له تسأله بنبرةٍ ضاحكة:
_هتفضل كتير واقف تبص عليا؟.
حرك كتفيه ثم اقترب منها يسألها بعبثٍ مراوغٍ:
_ماهو بصراحة يعني أنتِ طلعتي حلوة تستاهلي الواحد يقف مبهور بيكِ، مقولتليش إنك حلوة كدا يعني، أنا كـ “تَـيام” بقيت مُتيم والله بكِ.
ضحكت هي بوجهٍ بشوشٍ ثم اقتربت منه تقف أمامه تستبين ملامحه وقد ابتسمت باتساعٍ أكثر وهي تمازحه بقولها:
_هو بصراحة أنا اللي بحب ملامحك أوي، شكلك حلو وعيونك شكلهم حلو ماكنتش أعرف إنهم العيون الرمادي حلوين كدا، تصدق أنا حبيتك أكتر.
_لأ يا شيخة؟.
سألها بدهشةٍ كاذبة جعلتها توميء له فيما امسكت كفه وهي تطلب منه برقةٍ بعدما ابتسمت له:
_ممكن بقى تيجي تساعدني وتقف معايا؟.
أومأ موافقًا لها ثم دلف معها المطبخ وهي تضحك له بسعادةٍ ثم قررت أن تشاركه في كل شيءٍ تفعله وهو معها يندمج بالتدريج حتى تحولت صوت ضحكاتها لأخرى عالية صدحت بالمكان، وهو يقف بمحاذاتها يشاركها الضحكات تارة ويستبب فيها تارة أخرىٰ..
في الأسفل وقف “نَـعيم” يودعهم ويعرض عليهم الجلوس برفقتهم لمزيدٍ من الوقت لكنهم أصروا على الرحيل وقد التقت عينا “جـنة” بعيني “مُـحي” الذي ثبت نظراته عليها ليجدها تُطالعه بآسفٍ أو رُبما بكرهٍ حتى وجدهم يرحلون خلف بعضهم وهي خلفهم فأوقفها بسؤاله مندفعًا:
_هو أنتِ عمالة تبصيلي كدا ليه؟ قتلتلك قتيل؟.
تجمدت محلها وهي تفكر كيف له أن يتجرأ ويُحدثها بتلك الطريقة وحينها التفتت له فاقترب منها خطوتين يسألها باهتمامٍ:
_من أول مرة شوفتك دي أول مرة تبصيلي فيها كدا كأنك كرهاني، فبسأل أعرف سبب النظرة دي إيه.
في الحقيقة هي دومًا تثير استفزازه ببرائتها وصمتها وسكوتها عن أي فعلٍ وقد تنهدت هي بقوةٍ ثم خاطبته بشيءٍ من التهذب:
_مش من حقك أصلًا تبصلي وترفع عينك فيا، المفروض إنك راجل ومأمور تغض بصرك، وأنا كبنت مينفعش أصلًا أبصلك، بس واضح إن حضرتك متعود تتخطى الحدود عادي وكل شيء ليك مُتاح، عن إذنك يا أستاذ.
تعجب من طريقتها ورآها شيئًا من الهجوم عليه وقد تواصلت النظرات ليجد الأسف جليًا في عينيها عليه فيما هربت هي من أمامه وهي تحاول السيطرة على ضربات قلبها التي دوت بعنفٍ وكأنها تخبره باستحالة التقاء الطُرق بينهما.
__________________________________
<“فُرصة ثانية نتركها للقلب حتى يحيا مُجددًا”>
خُلقت الحياة لتتجدد بها الفُرص للمرء لكن تحتمه في بعض الأوقات يُضيع عليه لتقاءه بالفرص، فنعم قد يموت القلب في حياةٍ فائتة ولولا الفرصة الثانية لما حيا ولا عاش مُجددًا، فأحرص جيدًا عند مجيء الفرصة الثانية لكَ وتمسك بها إن أردت لقلبك أن يحيا..
لم تصدق أنها تفعلها بنفسها وتقوم ببتر هذا الجزء من حياتها، الآن بدت كما الحبيسة التي أخرجوها من القفص الحديدي لتنل حُريتها بعيدًا عن سياجٍ كبلت حياتها، تنفست بعمقٍ وهي ترى هذا المكان فارغًا من ذكرياته التي كانت تحتل جزءًا كبيرًا في حياتها وقد حملت “رهـف” الصندوق الكبير ونزلت الدرج لتقابل “حـازم” زوج شقيقتها..
ابتسمت له بلُطفٍ وجلست بقربه بعدما وضعت الصندوق أمامه وحاولت بشتى الطُرق أن تجد الحديث المُناسب لكي تُخاطبه مباشرةً حتى بدأت تتصنع الثبات في قولها:
_الحاجات دي كلها كانت بتاعة “حـمزة” الله يرحمه وأنتَ طلبتها مني، بس أنا مقدرتش وقتها أخرجهم من حياتي زي ماهو فضل معايا، أنا دلوقتي بقولك أنتَ أحق مني بيهم يا “حـازم” مش عاوزاك تزعل مني بس أنا كل حاجة بتحصل غصب عني، مش قادرة أفهم كل حاجة بتحصلي امتى وإزاي بس…بس أنا بحاول والله أفهم وأدي نفسي فرصة، يمكن ألحق أي حاجة من اللي فاتت أو حتى أخرج من اللي أنا فيه دا، فيه شاب زميلي هو…
كادت أن تُكمل حديثها لكنه أوقفها ببسمةٍ هادئة حينما قال:
_عارف ومش محتاجة تبرري حاجة ليا، أنا أكتر واحد هفرحلك وأشجعك كمان لأنه موصيني عليكِ يا “رهـف” وقالي إنك في رقبتي لحد ما أسلمك للي أتطمن عليكِ معاه وقالي كمان لو لقيتها متطمنة معاه وحاسة بالأمان يبقى هو دا، الكلام دا قالهولي في الرعاية المُركزة قبل ما يموت على ايدي، وأنا حفظته بالحرف علشانك، أنتِ متطمنة؟.
تهاوت عبراتها فوق وجنتيها وهي تشعر بألمٍ في قلبها لكونها مالت للآخر ووقتها تحدثت باكيةً بصوتٍ مختنقٍ:
_دي مشكلتي إني متطمنة معاه، بحس نفسي زي العيلة الصغيرة عاوزة أفضل جنبه وأتحامى فيه، هو كمان محسسني إني علطول أهم اهتماماته ومحسسني إنه زي بابا وكل همه بس أكون قدامه بخير، معرفش أنا حسيت بكدا إمتى ناحيته بس أنا بقيت بحس إني من غيره هتوه.
ابتسم لها بحنوٍ ثم سحب نفسًا عميقًا وحدثها بطيبةٍ متجاوزًا تلك الغصة التي علُقَت بحلقه بسبب شقيقه الراحل:
_وأنا معاكِ وزي ما أنتِ وصيته هسلمك ليه لو لقيته يستاهلك بجد، وصدقيني أنا هفرحلك علشان متأكد إنه لو كان عايش كان هيفرحلك أوي أوي طالما أنتِ فرحانة، يمكن ماكنتيش نصيبه من الأول بس طول عمرك أخته وصاحبته وأقرب حد ليه، ربنا يرحمه ويسعدك يا “رهـف” عن إذنك بقى علشان متأخرش أكتر من كدا.
أومأت له موافقةً وهي تراه ينسحب من أمامها بعدما حمل الصندوق وخرج من البيت تمامًا فأتت أمها تجلس بقربها ووقتها ارتمت عليها تتنفس بعمقٍ لكونها اختارت ما تود دون أن تشعر بالخيانة للآخر، كان عليها أن تمهل نفسها فرصة جديدة وها هي نالتها وبدأت في طور استغلالها.
__________________________________
<“لطالما كنتُ كبيرًا فأصبحتُ مسئولًا”>
كُلما كبر المرء كُلما ازدادت المسئوليات فوق عاتقه، ولطالما كنتُ كبيرًا من المؤكد إنك المسئول عنك أولًا ثم عن من هم حولك ثانيًا، لذا عليك أن تتقن رعاية نفسك قبل الآخرين..
جلس “إيـهاب” في عمله وهو يفكر في “مُـنذر” الذي يشبه القنبلة الموقوتة بينهم وكادت أن تنفجر لا شك، لذا استهدى عقله لفكرةٍ أخرى من المؤكد هي الأفضل في حماية الآخر وإلحاقه من آذى نفسه وهي أن يجد رفيقًا له، لذا طلب قدوم “إسماعيل” لديه فولج له الآخر يسأله بحيرةٍ:
_خير يا “إيـهاب” خلتني اسيب الكافيه ليه حصل حاجة؟ بسرعة بس علشان نصاية وماشي مش عاوز اتأخر.
أنهى حديثه تزامنًا مع جلوسه فوق المقعد وقد استقر بعينيه على وجه شقيقه الذي هتف بنبرةٍ هادئة يستفسر منه:
_رايح فين دلوقتي؟.
_رايح عند “ضُـحى” علشان أجيبها من الشغل وهنخرج مع بعض شوية أنا وهي بس يدوبك هتحرك بعدما تخلص وتقولي عاوز إيه.
هكذا كان رده فيما تنهد “إيـهاب” وابتسم له حينما استشف الراحة البادية فوق ملامحه وحينها تحدث بشكلٍ مُباشر:
_طب زي ما ربنا كرمك باللي تخرجك من وحدتك عاوزك تشد حيلك شوية مع “مُـنذر” وتخلي بالك منه، متنساش إنه من صغره معانا وفي رقبتنا، ومن يومه عيل مكسور حتى لما كان “إبراهيم الموجي” أبوه وإحنا منعرفش، ممكن؟ ينفع تسيب المطرقعة شوية وتركز مع الموكوس اللي عندنا؟.
رمقه “إسماعيل” بسخطٍ زائفٍ وأضاف قائلًا:
_اسيبني منها؟ على فكرة بقى هي الوحيدة اللي بتقدر تبدل حالي في ثواني، وبتقدر تخليني متطمن ومش بفكر في اللي جاي، لو عاوزني أساعد “مُـنذر” يبقى خليني أروح أشوفها علشان هي بتجدد فيا الروح من تاني.
أنهى حديثه بعجالةٍ فيمل عاد “إيـهاب” للخلف وشمله بنظرةٍ ساخرة وهو يسأله بتهكمٍ:
_أنهي روح بالظبط حدد يا عمنا.
ضحك الآخر عليه ونطق بسخريةٍ يُجاريه:
_روحي اللي هي خدتها عندها تداويها من كل حاجة، “ضُـحى” دي علاج ليا من الدنيا كلها وأظن أنتَ سيد العارفين كلهم يا “إيـهاب” اللي مننا لو أتحب بجد يشيل الدنيا كلها فوق كتافه، هات فلوس بقى علشان مش معايا فكة.
كانت كلماته متباينة ما بين السخرية والجد والحب وآخرها الطلب وقد تنهد شقيقه ثم أخرج له النقود وأعطاها له فمال “إسماعيل” عليه يُلثم وجنته ليوقفه “إيـهاب” بسخريةٍ:
_لابس الجاكيت بتاعي وواخد فلوسي، تاخد كِليتي بالمرة؟
_لأ خليها وقت عوزة يا “عـمهم”.
كان ذلك جوابه حينما استقام بوقفته وخرج من مكتب شقيقه الذي ضرب كلا كفيه معًا لكنه لم يمنع نفسه من الضحك لأجل شقيقه خاصةً بعد مرور الأيام المنقضية عليه بتعبٍ وإنكسارٍ وكأنه يحتاج للتحصين مرتين باليوم لكي يكون على طبيعته..
بعد مرور بعض الوقت أوقف” إسماعيل” سيارته أمام مقر عملها ليجدها أمامه بعد مرور ثوانٍ وقد أخرج كفه من خلف ظهره يقدم لها زهرة حمراء اللون مُغلفة بأوراقٍ بُنية وقد وقفت هي في مواجهته تسأله بعينيها عما يود ففسر لها قائلًا:
_يعني قولت أجيبلك وردة حلوة علشان أشجعك تكملي.
كان يتحدث بوجهٍ مبتسمٍ فوجدها تتحدث بحنقٍ وهي تُعلق على فعله:
_ورد؟ يا “إسماعيل” أنا ميتة من الجوع كنت جيبت سندوتشين ولا علبة عصير حتى، هعمل إيه بالوردة هتدبل يا بابا وتبوظ.
هذا هو المعتاد بالطبع منها، فهي ماهرة في إفساد أسعد اللحظات لذا تنهد بعمقٍ ثم القى الورد بداخل سيارته ثم أدراها لتوليه ظهرها ودفعها للأمام قائلًا بضجرٍ:
_قدامي بقى علشان أأكلك، يلا يا مطرقعة يا معدومة الرومانسية، بس الغلط عليا محدش رباني.
التفتت له تُشهر بسبابتها في وجهه وهي تنطق بضجرٍ:
_بس يا سمج، جعانة الله؟ أكلني علشان أقدر أرتقي لمستوى مشاعرك وأقدر أتكلم معاك في المنطقة دي.
عض على شفته السُفلى وهو يحاول أن يتمالك نفسه ثم رحل بها لتقوده هي لأحد المحال الخاصة بالطعام المُفضل لديها وقد جلس معها هو الآخر يتناول طعامه وهي تضحك معه وتمازحه وتتمرد بين الحين والآخر عليه لتجره في ساحتها وتجعله حُرًا من أي قيدٍ يوقفه، والعجيب كل العجب أنه معها يشعر بالدفء بعدما كان الصقيع يغمر أيامه.
تناولا طعامهما سويًا وما إن شعرت هي بامتلاء معدتها واستعادة طاقتها مالت عليه تهمس له بنبرةٍ خافتة:
_وحشتني.
حرك رأسه نحوها بحيرةٍ فوجدها تدعي البراءة أو هكذا بدت وحينها ضحك مُرغمًا على طريقتها التي مازال يفشل في فهمها لكنه يسعد في سبيل المحاولة، لذا بدأ يندمج معها وهي تمازحه وتغازله وهو يراوغها بكلماته وكأن العلاقة بينهما لن تكتمل بغير مناواشات كلامية.
__________________________________
<“دفء كفيكم وصل لقلبي وأغدقه حنانًا”>
شخصٌ واحد فقط يجعلك منتصرًا على العالم بأكمله وفي الوقت يحمل رقة العالم بأسره، فربما تكون الفراشة الرقيقة صاحبة الجناحين الملونين هي ذاتها الجيش الوحيد الذي ينصفك في حربك خلف حصنين منيعين، فتقف أمام الناس بعدها وتقول أن تلك الفراشة الرقيقة جيشٌ كامل العدة والعتاد…
حل الليل تمامًا وأنقضى اليوم بعدما عاد “أيـوب” برفقة “يـوسف” للحارة وتوجه كلًا منهما إلى بيته، لكن “أيـوب” ترك نفسه للعمل المُتبقي الخاص بوالده وشقيقه لحين مجيئهما، ثم تحرك نحو المسجد ليرعاه كما يفعل مؤخرًا من بعد العودة لما يُحب، وقد تنهد بتعبٍ ثم أخرج هاتفه يطلب رقم زوجته وما إن جاوبت عليه نطق بثباتٍ:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا متذنب هنا لحد ما يرجعوا، ما تيجي تقعدي معايا وهجيبلك حاجة حلوة زيك.
ضحكت هي بخفةٍ وقالت بصوتٍ رقيق:
_”يـوسف” جاي تعبان وبسخنله ياكل، أجيبلك تاكل أنتَ كمان وأجيلك أقعد معاك؟.
قلب عينيه مُفكرًا ثم قال بلهفةٍ يوافقها اقتراحها:
_خلاص الأكل عليكم والحلو عليا أنا، هستناكِ.
خرجت هي تضع الطعام فوق الطاولة وقد خرج لها “يـوسف” بعدما بدل ثيابه وجاور أمه ليجد شقيقته لازالت واقفةً فسألها بتعجبٍ:
_مش هتاكلي؟ هتفضلي واقفة كدا؟.
حركت رأسها نفيًا وأضافت بعجالةٍ من أمرها:
_ينفع أنزل عند “أيـوب” المحل؟ هاخدله أكل علشان هو ماكلش وهقعد معاه شوية بس مش هتأخر والله، هاجي بسرعة بسرعة.
ضحكت أمها عليها فيما ابتسم “يـوسف” بعينيه لها ثم قال بقلة حيلة كأنه فقد زمام الأمور من يده:
_روحي يا “قـمر” بس متتأخريش.
ضحكت بسعادةٍ ثم ركضت نحو المطبخ بلهفةٍ لرؤية الحبيب، وبعد مرور دقائق ارتدت ثيابها ونزلت له تقف على أعتاب المحل فوجدته شاردًا في دفترٍ تجاري أمامه وخصلاته تتحرك بسبب هواء المروحة، فابتسمت هي برقةٍ ثم اقتربت منه تُلقي عليه السلام…
وقف أمامها مبتسمًا ثم جلب المقعد لها يُجلسها عليه فوجدها تحذره بقولها:
_كُل بسرعة علشان مش هينفع أتأخر، أنا وعدتهم.
لاحظ توترها فتحولت بسمته لأخرى عابثة وهو يقول:
_طب ووعدك ليا؟ ما تركزي معايا يا “قـمر”.
تنهدت هي بضجرٍ زائفٍ وهي تكتم بسمتها حتى لا تنجرف خلف مشاعرها فوجدته هو يخبرها بما لم تتوقعه منه:
_النهاردة كان يوم غريب ومليان حاجات كتير أوي وللأسف كلها حاجات عاوزة طاقة ولولا كرم ربنا مكانش زماني قدرت أعدي، فحبيت أختمه بيكِ أنتِ، علشان يبقى ختامها مسك.
حركت عينيها الخجولتين نحوه وبكل تلقائية حركت كفها نحو كفه تحتضنه وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_وأنا معاك أهو يا “أيـوب” وجنبك ومش هسيبك.
ابتسم لها بحنوٍ ثم امسك كفها ودلك راحته بنعومةٍ جعلتها تغمض جفونها وهي تبتسم كهرةٍ صغيرة يُداعبها رفيقها فتحولت بسمته لأخرى ممازحة حينما قال:
_أنا دلوقتي بس أتأكدت إنك قطة، القطط بتحب الحركة دي.
فتحت عينيها وهي تمازحه بقولها:
_أنا هِرة صغيرة قدام كل الناس، ومعاك أنتَ قطة شقية شوية صغيرين أو كتار بصراحة، بص أنتَ ربنا يعينك عليا.
ضحك لها بيأسٍ فيما ظلت الأحاديث بينهما تتحرك بخفةٍ وهو يطلب منها أن تشاركه في يومه وقد أنصت لها بكامل تركيزه وهو يتناول الطعام مستشعرًا لذة الشعور اللذيذ الذي ساوره في قربها متعجبًا كيف لها وهي بذلك الضعف أن تصبح مصدر قوته؟ اندمج معها وأطعمها بيده وحنوٍ وهي تبتسم له بسعادةٍ متمنية له أن يبقى معها طوال العمر..
فوق سطح البناية جلست وهي تمسك في يديها كتابًا تقرأ منه بتركيزٍ بعدما أغلقت بابه على نفسه وقد كشفت خصلات رأسها لتتحرر والهواء يُراقصها وهي تندمج مع كتابها الذي أحضره هو لها، فيما قرر هو أن يهرب إليها هي، هي وحدها من تملك حلول كل العُقد لذا قرر أن يتوجه إليها ووقف يراقبها من على بُعدٍ وهو يبتسم بعينيه أثناء مُطالعته وجهها الغارق في صفحات الكتاب…
شعرت هي به فأغلقت الكتاب سريعًا حينما وجدته يقترب منها وقد جاورها “يـوسف” ليجدها تلقي بنفسها بين ذراعيه وهي تقول بصوتٍ غلفه الشوق له:
_وحشتني أوي الكام يوم اللي فاتوا دول.
رفع ذراعيه يضمها بهما في عناقه ثم رفع كفه يربت فوق رأسها ونطق بصدقٍ:
_وأنتِ كمان وحشتيني أوي، كام يوم كانوا كرب من غيرك والله، بس إيه السكر دا؟ شكلك عسول أول النهاردة.
ابتسمت “عـهد” باتساعٍ وهي تشدد ذراعيها حوله حتى عاد هو للخلف يستند على ظهر الأريكة وهي بقربه يُمسد فوق خصلاتها وفي حضرتها تسكت كل الأصوات ولم يبقى إلا صوت نبضاته في حضورها، وقد تنهد بعمقٍ وسألها باهتمامٍ:
_عملتي إيه الكام يوم اللي فاتوا بقى؟.
سألها باهتمامٍ فيما بدأت هي تسرد عليه تفاصيل الأيام بدونه حيث العمل والبيت وكيف خططت لكل شيءٍ وكيف استطاعت أن تُكمل كل ذلك بدون أي تقصيرٍ فابتسم هو وغرق معها ليجدها تضيف بصوتٍ ناعس:
_بس الكوابيس جاتلي كتير الأسبوع دا وكلمت “فُـلة” قالتلي من الضغط على أعصابي أو يمكن بفكر في حاجات موتراني علشان كدا الكوابيس بتظهرلي، معرفتش أنام خالص الأسبوع دا، نفسي أنام أوي.
شعر بالشفقة عليها فتنهد بثقلٍ ثم مسح على وجنتها بنعومةٍ وأضاف بنبرةٍ رخيمة يحثها على النوم:
_أنا معاكِ أهو، نامي يلا.
ضحكت بصوتٍ خافتٍ وانصتت له واغمضت عينيها فيما قام هو بسحب الوشاح وألقاه عليها يُدثرها به ليحميها من نسمات الهواء ساخرًا من نفسه وهو يهتم بتلك التفاصيل التي لم يكترث بها في السابق، نامت هي بين ذراعيه وهي تتمسك بسترته الشتوية ولأول مرةٍ منذ عدة أيامٍ تشعر بهذا الكم من الأمان والدفء..
غاصت في النوم بقربه وهو يجلس بصمتٍ مكتفيًا بها بين ذراعيه وفقط حتى مرت تقريبًا ساعة أو رُبما أكثر وقد أرسلت له شقيقته رسالة تخبره أنها عادت للبيت بعدما اوصلها زوجها، وقد اخفض عينيه نحو تلك النائمة ليبتسم بتعجبٍ على وضعه الغريب وهو يشعر بالأمان لمجرد أنها هُنا، وبعد مرور ساعة أخرى وصلته همهمات متقطعة منها جعلته يُنصت لها فعلم أن كابوسها عاد مُجددًا لها وهي تحاول أن تتملص من بين يديه وتدفعه بعيدًا عنها..
حاول أن يفرض حصاره عليها وبالفعل نجح فيما يود ومال على أذنها يهتف بصوتٍ ذي بحة أجشة تغلغلت في سمعها:
_أنا معاكِ يا “عـهد” هنا فوقي وبصيلي متخافيش من حاجة، افتحي عينك وأخرجي من كابوسك، أخرجي يا “عـهد” وبصيلي أنا “يـوسف” حبيبك أهو معاكِ.
حاول فرد كفها المقبوض ومرر يده فوق موضع نبضها يدلكه لها حينما دوى صوت نبضاته عاليًا وظل يحدثها بخفوتٍ ليجدها تصرخ بخوفٍ وهي تتوسلهم أن يتركوها فأغمض عينيه هو بأسى ثم شدد ضمته لها بين ذراعيه وقام بالتربيت فوق وجنتها بحدةٍ طفيفة جعلتها تشهق بأنفاسٍ مقطوعة حينما رفع صوته:
_فــوقي يا “عــهد”.
انتفضت بعيدًا عنه بخوفٍ منه ظنًا منها أنه شخصٌ غيره فيما تقدم هو بحسده للأمام يسألها باهتمامٍ:
_أنتِ كويسة؟ “عـهد” أنتِ معايا؟.
زاغ بصرها بعيدًا عنه وهي تحاول تهدئة نفسها بعدما خرجت من حربها بأقل الخسائر وقد اجتاحت البرودة جسدها فنطقت بصوتٍ متقطعٍ:
_احضني يا “يـوسف”.
رغم تعجبه من مطلبها إلا أنه نفذه في الحال وقد أخفاها بين ذراعيه وهو يمسح فوق رأسها وقد نطق أخيرًا بعدما خرج من قوقعة حزنه لأجلها:
_حقك عليا من الدنيا كلها، أنا آسف والله حتى من قبل ما أجيلك وأكون معاكِ، يمكن جيتلك متأخر بس مكانش بايدي والله، آسف على كل حاجة زعلتك حتى من قبل ما أجيلك وأشوفك كمان، متزعليش نفسك.
زفرت بقوةٍ ثم استقرت برأسها فوق صدره وهي تتنهد بعمقٍ فيما فرض هو حمايته لها ثم لثم قمة رأسها بقبلةٍ عميقة وهو حقًا يود أن تُشفى هي ولا يهمه إن ظل هو عليلًا، فرؤيتها بتلك الحالة وهي تصارع أثناء نومها الذي يُفترض أنه وقت راحتها فلا يَهُمه الآن غيرها هي وفقط..
__________________________________
<“عليلٌ أطلب منكم الدواء، لا تبخلوا به”>
لا أعلم أين العِلة بالتحديد لكنها بداخلي، فوجودي في ذاته داء وعلتي ليس تلك لها الدواء، فجئتُ إليكم أطلب منكم الدواء وأتمنى في قُربكم الشفاء، أنا العليل بنفسي وذاتي، أنا الوحيد الذي أهلكني العيش ولم أجد الراحة إلا بمماتي..
في صبيحة اليوم الموالي…
قرر”مُـنذر” أن يخرج من تلك الحالة التي فرضها على نفسه وقرر أن يعود لعمله وأول شيءٍ سيفعله هو انقطاعه عنها وعن مُحادثتها، وألا يفرض نفسه عليها، يكفيه حتى الآن ما تسبب فيه لأجلها، وكُلما تذكر ما فعله شعر بالألم يسري في قلبه…
خرج من بيت عمه وقصد التوجه إلى المشفى مُستأنفًا عمله من جديد، وقد ابتسم بسخريةٍ على حاله فهل يُعقل أن المريض النفسي الذي يُعاني من الثقوب في روحه أن يذهب ويُرمم ثقوب الآخرين؟ في المعتاد لا، لكن كطبيبٍ في المجال النفسي عليه أن يفعلها وأن يُنحي آلامه جانبًا لكي يُنقذ الآخرين…
أوقف الدراجة أمام المشفى أخيرًا وقد حمد ربه أنها لم تحضر في هذا التوقيت وقد ترك الدراجة وتوجه للداخل ليجدها هي أمام عينيه تقف مع طبيبة بالمشفى وقد تلاقت النظرات ببعضها، العتاب واللوم منها، والشوق والندم منه، نظرات واضحة وصريحة يسهل على أي ناظرٍ أن يقرأها، لكنها هي الأقوي دومًا حيثُ هربت بعينيها بعيدًا عنه وعادت بنظراتها لمن تُحدثها..
حينها زفر هو بقوةٍ ثم ولج نحو مكتبه مُباشرةً وهو يقصد أن يتجاهلها لكنها لأول مرة تشعر بهذه المشاعر نحو أي رجلٍ، فهي حتى الآن لا تُصدق أنه فعل بها كل ذلك وهي تنتظر منه التبرير فقط أو رُبما الآسف، وسرعان ما تذكرت ما فعلته فلوت فمها بتهكمٍ تستهجن فعلها ثم توجهت نحو الداخل تندمج في عملها تاركة أمره لحين اشعارٍ آخر..
مرت ساعات عليهم في العمل كلًا منهما يتابع من على بُعدٍ دون أن يقترب من حدود الآخر كما سبق وأخبرها حتى ولجت مكتبها من جديد ترتاح به قليلًا وقد طُرق باب مكتبها فأذنت للطارق لتجد آخر من توقعت تواجده أمامها، حيث كان “هـاني” ابن عمها..
انتفضت من مقعدها وهي تسأله بتعجبٍ:
_خير يا “هـاني”؟ جاي هنا ليه؟ أظن يعني الكلام أنتهى خلاص وأخويا مش موجود علشان يكلمك في حاجة ولا حد هنا هيتناقش معاك، اتفضل روح مكان ما جيت.
أشارت نحو الباب وهي تقوم بطرده فيما جلس هو فوق أحد المقاعد ببرودٍ يضع ساقًا فوق الأخرى ونطق بلهجةٍ باردة يتكيء من خلالها على كلماته:
_أقعدي بس وخدي نفسك، أنا جاي أكلمك أنتِ، أنتِ عاقلة وواعية كفاية ويهمك سمعة باباكِ، أظن يعني الموضوع آه اتقفل خلاص بس منتهاش، فأنا ممكن من تاني أفتحه وأروح أشوف كام عيل من بتوع اللجان الإلكترونية وأخليهم ينشروا ملفات المستشفى من تاني واسم والدك يتلطخ من تاني، وسيرتكم تبقى على كل لسان، طالما أنا اللي بقيت ابن *** في الآخر، فسيادتك هتمضي ليا على ورقة صغيرة خالص تخليني هنا زيي زيكم، ولا نضحي بسمعة عمو بقى؟.
ازدردت لُعابها وهي تقف أمامه بغير تصديقٍ، فمن يُصدق أن هذا الحقير الأحمق يساومها بسيرة والدها وشرفه؟ حينها شعرت بالدماء تتدفق لوجهها الذي سخن بقوةٍ فضربت سطح المكتب وهي تصرخ فيه بانهيارٍ:
_أنتَ بني أدم حيوان وزبالة، بتخوض في سيرة عمك الميت بالظلم علشان الفلوس؟ وياريتها فلوس عدلة، دي فلوس حرام أبوك شفطها من دم الغلابة والمرضى اللي أمنوه على حياتهم، لو منك أدفن راسي في الأرض إنك ابن واحد زي دا، مش تيجي تبجح وتطلب حاجة مش من حقك، غور برة.
طردته بنبرةٍ أقرب للصراخ وقد أقترب منها بُغتةً وقام بخنقها والصقها في الحائط ونظرًا لفارق القوى بينهما استطاع أن يتغلب عليها ثم ضرب رأسها بالحائط وهو ينطق من بين أسنانه بغلٍ:
_عاوزاني أسامح في ١٠ مليون جنيه؟ أنتِ هبلة يا بت ولا فكراني أهبل ولا إيه بالظبط؟ هي المستشفى دي هترجع ببلاش ولا أنتم هترجعوها علشان القيم والكلام الفارغ دا؟ أنا فاهم إنكم بلعتوا الفلوس أنتِ وأخوكِ وكمان رجعتوا المستشفى من تاني، يعني بتلعبوا على كل لون، وأنا مش هسيب حقي، هاخده منكم وأرجع ورث أبويا.
حاولت أن تتنفس أسفل قبضته وقد ضغط هو أكثر عليها ليجد صفعة اتته من الخلف فوق عنقه كان صاحبها “مُـنذر” الذي ولج لها المكتب ثم ابعده عنه ووقف يسألها بلهفةٍ وقلقٍ بلغا أشدهما عليها:
_أنتِ كويسة يا “فُـلة”؟ أنطقي فيكِ حاجة؟.
حاولت أن تلتقط أنفاسها فاقترب منها يرفع رأسها وهو يساعدها على التنفس بعدما وجد وجهها لونه وصل للمرحلة القُرمزية وقد استندت فوق ساعده بعدما ارتجف جسدها وفي تلك اللحظة أتته ضربه في ذراعه من الخلف من مديةٍ صغيرة الحجم جعلته ينزف في تلك اللحظة فشهقت هي بقوةٍ حينما وجدت الدماء ظهرت فوق معطفه الأبيض..
حينها فقد انسانيته وأدميته وهجم على الآخر يقبض على عنقه بكلا كفيه وقد عزم على قتله لتصبح الجريمة الثانية خلال هذا الأسبوع الذي ارتكبها هو، يبدو وكأن القتل هو شهوته الذي لم يتحكم في التأثر بها، أو رُبما هي أمهر ما يُجيد فعله..
_____________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى