روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والتاسع والخمسون 159 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة والتاسع والخمسون 159 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والتاسع والخمسون

رواية غوثهم البارت المائة والتاسع والخمسون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والتاسعة والخمسون

“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الرابع وسبعون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
أنت المغيثُ لِمَن مَاتَت عزائمهُ
‏أنتَ الرَّحِيم بِمَنْ قَدْ هَدّهُ التعبُ..
وأنتَ الرحيم بمن تاه من نفسه
وأنتَ الرؤوف بمن تركه قلبه وذهب..
نحن العباد الضُعفاء في حضرتك
والنيران في غيابنا عن سُبلك
تمتليء باللهب
وأنتَ يا مولاي الرحيمُ
بمَنْ قد هدَّهُ التعبُ..
_”غَــوثْ”
__________________________________
مررتَ أنتَ صُدفةً على قلبٍ كانت أيامه سبعًا عُجافًا..
ومن أن أتيت إليه أنتَ أصبحت أثقاله تمرُ خُفافًا..
فكان الحال قبل مجيئك غريبًا والمولىٰ وحده بحالنا كان عليمًا، لقد مررت صُدفة من حيينا، فأصبح لكَ ما في الفؤاد ما لم يراه في السابق غيرنا، فكان الحُب فيكَ سرًا وجهرًا، حتى افتضح أمر الشوق في عيننا..
جئت إلينا وكانت الأيام ثقالًا، وبك مرت كأن القلب لم يرَ ذات يومٍ أحمالًا، فكفى علينا أنتَ وقلبك دلالًا، أنا إني أنا جفوتك سيخبرك قلبك أنني عليك أتعالى، وأنا وربي أقطع لكَ سائر بلاد المسلمين من مشرقها لمغربها ذهابًا وإيابًا..
فالعالم بأسره يعلم أنني المُتيم في هواكَ،
ولا يُمرضني في قلبي النقي إلا أن أرىٰ جفاكَ،
فيا ساعيًا نحو دربي.. تعال، ولا أقصد بذلك
أن تتعال، وإنما أقصد أن تُزين طريقنا بمجيئك، فمن غيرك أتى والقلب أيامه سبعًا عُجافًا، فحول كل ثقلٍ إلى هباءً منثورًا كما الرياح الصيفية تمر خُفافًا..؟
<“وإن القلب يحيا معكم ما لم يحياه سابقًا”>
إن القلب قد هدهُ التعب وآن له موعدٌ..
فالقلب يحيا الآن كل فرحٍ لم يسبق له أن يوعده،
زتلك الفرحة في عينينا رآها الناس بأكملهم، وأنتَ وحدك من كان سببًا في فرحٍ بوعدٍ أنتَ قاطعه، فالآن يا وطني أخبرني هل سأبقى في حدودك آمنًا، أم أنكَ مع أول رياحٍ تطيء أرضك ستهجر هوايَّ وتترك للقلب ساعده؟.
_”بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير”.
اُختتِم عقد القران بتلك العبارة ومن ثم بدأت المُباركات والتهنئات تتوالى وتتكرر على العروسين وذويهم ومن بين الجميع كان “مُـنذر” يبحث عنها بعدما وقعت على عقد القران وقُرِنَ اسمها باسمه أخيرًا، تحرك وفي يده باقة الزهور التي وضعها “إسماعيل” وقد اقترب منها أخيرًا وحينما ابتسمت هي له اقترب يُلثم جبينها فقط..
كانت تلك هي مرته الأولى في حياته التي يفعلها فيها، كان الاقتراب غريبًا وفريدًا من نوعه، وهي أمامه كادت أن تنصهر وفي تلك اللحظة أتى من خلفه صوتٌ لم يتخيل هو أن يسمعه حينما بارك له بكل وقاحةٍ:
_مبروك يا “مُـنذر” صحيح أنتَ معزمتنيش بس أنا جيت علشان بفهم في الواجب، مبروك يا حبيب بابا.
التفت “مُـنذر” بفاهٍ فارغٍ ليجد “ماكسيم” أمامه وأمام الجميع يقف برأسٍ مرفوعٍ والأعين بأكملها تتربص لموضع وقوفه، بينما هو ركز بعينيه نحو “فُـلة” التي توترت من الأجواء فقال هو بنفس البرود غير مكترثٍ بمن حوله:
_إيه يا “مُـنذر” مش هتقولها أنا مين؟ مش هتعرفها على باباك اللي مربيك؟ أعرفها أنا طيب وأقولها أنا مين يعني؟.
بالله كيف كان يصدق أن فرحته ستمر هكذا؟.
فهو والفرح لا يقترنا سويًا، وكأن الدنيا بناسها يتربصون لفرحته كي يفسدونها، ولأنه يعلم ذلك جيدًا رسم الثبات فوق وجهه كأنه يدعي صلابةً غير متواجدة، هكذا فعل لكن القلب تاقضه في خوفه حينما تحركت يده خفيةً تتمسك بيد زوجته..
لم يدرك ما يفعله هو لكن يبدو أن قلبه خانه كما فعلها سابقًا وأوقعه في فخ عشقها، وقد ثبتت هي عينيها على الأوجه أولًا وما إن لمس كفها وقبض عليه واستشعرت رجفة يده، عادت تُطالعه هو وتقرأ الذُعر في عينيه بكل فصاحةٍ رغم ما تظهر عينيه من جمودٍ قاسٍ، وفي تلك اللحظة كان “سـراج” يقف بصدمةٍ وفاهٍ مفتوحٍ حتى اقترب منه “يـوسف” وقال بنبرةٍ جامدة من بين أسنانه:
_قدامك خمس دقايق تلم فيهم الملون ابن **** دا، بدل ما ورب الكعبة أتصرف أنا وساعتها مفيش جهة حكومية واحدة هتخلينا نشوف الشمس تاني، أعمل حاجة.
رفع “سـراج” أحد حاجبيه بسخريةٍ ثم زفر بقوةٍ وغمغم بما لا يُفهم من الكلام ثم تحرك نحو “ماكسيم” ووقف بجواره وهو يقول ببسمةٍ سمجة في أوجه من يحدثهم:
_دا يبقى خالي، وهو اللي مربي “مُـنذر” ولأنه كان مسافر برة “مُـنذر” أنشغل ونسي يعزمه، بس أنا قومت بالواجب أهو وعزمته، خش بارك للعريس يا خالو.
هتفها بسخريةٍ لم يلتقطها سوى من يعلمون الأمر بأكمله وقد مال “سـراج” على أذن من يحدثه وتفوه هامسًا بتحذيرٍ لم يصل للبقية حولهم:
_ورب الكعبة لو فكرت تعمل حاجة لأكون مبلغ عن رجالتك اللي في بيت “المنياوي” وبيحفروا بقالهم أسبوعين، لم ليلتك بدل ما أضيعلك اللي بتعمله، وكدا كدا مش هيلاقوا حاجة، علشان العِب دا فاضي كله مش هتطلع منه بأي مصلحة، أصله ناحية اليمين والفراعنة كانوا بيحبوا يستخدموا الناحية الشمال، بالشفا بقى.
بانت إمارات الخوف على وجه “ماكسيم” بينما “سـراج” فبدا مستمتعًا بما يفعل، كانت ملامحه سعيدة ومُبتسمة كأنه يرد له الصفعة باثنتين مثلها، ولأن “جـواد” على علمٍ مُسبق بما يدور ويُدرك جيدًا هوية من يقف أمامه، تحرك يقف أمامه ثم خاطبه بشكلٍ مُباشرٍ:
_أظن وجودك وسطنا مش مرحب بيه، أنتَ مجرد شخص دخيل وإحنا هنا أهل في بعض كلنا فالأفضل إنك تمشي، بدل ما أوريك جدعنة الشباب المصريين بحق، ولا هيفرق معايا بقى حصانة ولا سفارة ولا أي كلام من دا، تحب تجرب؟.
كان “نَـعيم” على درايةٍ كافية بما يحدث ويقال بينهما، ولأن “ماكسيم” غايته لم تكن بائنة للعيان، وإنما مضمورة فقط في نفسه تجاهل كل ذلك ثم اقترب من “مُـنذر” وباغته بعناقٍ غير متوقعٍ أمام الجميع ثم همس له بخفوتٍ:
_قلبك مات خلاص وبقيت بتخرج عن طوعي، تفتكر فيه حاجة هتخليني مقدرش أوصلك؟ نسيت العمر اللي ضاع عليك علشان توصل للي وصلتله دا كله؟ بتحلم.
توسعت عينا “مُـنذر” بغير تصديقٍ وظهر الألم باديًا في مُقلتيه خاصةً حينما تلاقت الأعين ببعضها بينهما وفي تلك أنطلق “نَـعيم” كما السهم من القوس وقطع المسافة على الآخر ثم فصل وحال بينهما وتحدث بجمودٍ دونما يتضح عن أي شيءٍ يتحدث:
_أظن أنتَ كتر خيرك أوي لحد كدا، ابن أخويا وأنا أولى بيه، نورتنا، وياريت بقى تتفضل بقى علشان زي ما أنتَ شايف كدا دا مكان طاهر، ماظنش أمثالك ليهم مكان فيه.
ابتسم الآخر بسخريةٍ ثم التفت يُطالع “إسماعيل” فوجده يقف متحصنًا خلف درعٍ يدعى أخيه “إيـهاب” وحينها رفع “إيـهاب” إحد حاجبيه كأنه يخبره بعينيه:
_”جرب تقرب”
التقط الحديث من النظرات وكما ولج؛ خرج، خرج بهدوءٍ تام أسفل نظرات الجميع وهي تتبعه وأكثرهم تتبعًا له كان “مُـنذر” الذي وإن لم ينطقها بطرف لسانه نطقها بطرف عينه؛ أنه وبكل أسفٍ هُزمَ أمامه وكأنه بظهوره عاد ساحبًا معه ماضي الآخر وحياته بأكملها في يده، ولأن الماضي أكبر الأعداء لحاضر الإنسان؛ في بعض الأحيان يُجيد قتله ببراعةٍ، وفي طرفة عينٍ تبدل الحال للحزن كأن هناك سُحب من الغمام غطت فوق شمس الربيع الساطعة…
كان “أيـوب” حاضرًا ومُتابعًا لكل ذلك وراقب انسحاب “ماكسيم” بعينيه أولًا ثم تتبعه وسار خلفه بصمتٍ بعدما أنسحب من المكان وقبل أن يهرب الآخر داخل سيارته عرقل حركة سيره “أيـوب” الذي مد كفه وأغلق باب سيارته ثم هتف بنبرةٍ جامدة:
_اسمعني بس في الكلمتين دول، أخرك هنا خلاص أنتَ جيبته، عملت كل اللي في نفسك وخدت كتير أوي، وعلشان إحنا عارفين اللي فيها فبكل بساطة كدا أمشي أنتَ، علشان قعادك مش هيفيد بحاجة غير موتك، مستعد تموت هنا؟.
ناوله الآخر بسمة باردة استفزازية ثم ربت فوق كتفه بحركتين جامدتين بدتا رتيبتين وكأن الغل منبعهما وقد حرك “أيـوب” طرف عينه وراقب كتفه بنظرةٍ حادة فأتاه الآخر بقولٍ أكثر برودًا مما سبق:
_لو على إيديك الطاهرة معنديش مانع.
في تلك اللحظة أتى “يـوسف” ووقف بمحاذاة رفيقه ثم أبعد كف “ماكسيم” وهتف بنزقٍ كأنما يرى أمامه سلة من المهملات مُلقاة بوسط الطُرقات:
_أيدك عن الحاجة النضيفة اللي عندنا؛ هتوسخها.
شملهما “ماكسيم” بنظرةٍ واحدة ثم فتح باب سيارته وولجها وغادر بصمتٍ كأنه لم يفعل أي شيءٍ بحياته قط، رحل كأنه أتى يُبارك ويرحل في صمتٍ، فمن يراه من على بُعدٍ يظنه بأطيب الناس في الأرض، وقفا الاثنان سويًا ينظرا في أثره ثم نظرا لبعضهما بيأسٍ وعادا من جديد للداخل.
__________________________________
<“كان تمني المستحيل معكم ممكنًا”>
يُقال دومًا أن التمني مستحيل التحقيق..
ولا يوجد من يُحقق الأمنيات، لكن ثمة بعض البشر ما إن يظهرون بحياتنا يحققون تلك الأمنيات التي ظنها العقل مستحيلة التحقيق، فنحن نظل نتمنى وياليت التمني لنا كان ممكنًا، وإنما قد يكون في بعض الأحايين مستحيلًا..
لأن السعادة مجرد لحظات وقتية مؤقتة، قرر أن يسعد ويتخلى عن خوفه، وكأن بظهور شبح الماضي تبددت مخاوفه، فمن ماذا يخاف إن كان مُحصنًا؟ أو بمنظورٍ آخر بعقلية “أيـوب” كل شيءٍ يُصيب الإنسان فهو المكتوب ولا مفر منه، وإنما علينا أن نسلم الأمر للخالق ونُهذب أنفسنا في استقبال إرادته في مصير الخلائق…
عادوا لبيت العروس المُزين من جديد يكملون الاحتفال الذي بدأ من بعد عقد القران، وبعملٍ مُسبقٍ كان “جـواد” قام بتجهيز البيت وتركه في انتظار مراسم الاحتفال بشقيقته، وإشهار عقد قرانها بالمنطقة، وحينما عادوا وجدوا عائلة والدها بأكلمهم في الإنتظار، بمن فيهم أيضًا ذاك الطبيب الذي كان سببًا في الزج بـ “يـوسف” داخل المصحة بصفته أحد الأقارب للعائلة..
ولجوا الطابق الأول المُزين ووجدوا مقعدين مخصصين للعروسين، جلست أولًا “فُـلة” وبعد مرور خمس دقائق أتاها “مُـنذر” وجلس بجوارها بصمتٍ كعادته، لكن تلك المرة حانت منه التفاتة نحوها يُطالعها بصمتٍ ويتشرب دقة ملامحها الرقيقة، غُرتها استقرت فوق جبينها، خصلاتها السوداء كانت مسترسلة بشكلٍ رقيق، وفستانها الأبيض الكريمي لائم منحنيات جسدها الرقيق، كانت جميلة ورقيقة وكل ما فيها يدعوه للإنبهار بها كأنها لوحة جذبته من عالمه كي يستقر بعالمها هي، أمعن نظراته بها بشرودٍ فوجدها تسأله بعجبٍ من تحديقه بها:
_هتفضلي تبصلي كتير كدا؟.
خرج من شروده بها على صوتها فانتبه لها وسألها بعينيه عن المقصد من الكلمات التي تفوهت بها، فقالت هي بنبرةٍ بدت ضاحكةً له:
_أول مرة أحس إنك بتبصلي أوي بتركيز كدا.
كان صوتها مزيجًا بين الضحكة السعيدة والخجل، لأول مرةٍ تشعر أنه حقًا يود قربها بل ويرغبها ويطالعها بشغفٍ كأنها لوحته الآسرة بينما هو فتنهد بقوةٍ ثم قال بصدقٍ وقد تكون تلك هي مرته الأولىٰ التي يتحدث فيها بمشاعره حينما قال:
_يمكن علشان المرة دي حاسس إن من حقي أبصلك؟.
باغتها بالقول الذي لم تتوقعه هي؛ فرفرت بأهدابها كدليلٍ على خجلها منه فيما تنهد هو مطولًا ثم قال بتيهٍ حقيقي أمامها كأنه تاه في عُمق عينيها البُنيتين:
_يعني بعد كل حاجة قولتها ليكِ وحكيتلك عن حياتي عادي متوقعتش إنك هتكملي معايا ونوصل للمرحلة دي، فعلشان كدا حاسس إن المرة دي بالذات من حقي أبصلك براحتي، يعني مش كادب عليكِ في حاجة ومش مخبي حقيقتي، ومش مداري اللي فيا، وقدام ربنا والناس كلها بقيتي مراتي، فكدا حقي أوي كمان يا “فُـلة”..
أنزلت رأسها المرفوع تهرب من خجلها بسبب حديثه بينما هو أمسك كفها ثم لثمه برقةٍ وغادر نحو مجلس الرجال، بدت أفعاله كأنه يهرب من نفسه وليس منها، مشاعره تأججت نحوها وكأنها أوقد النيران أسفلها وتركها فوق مرجلٍ تلتهب، تركها وتحرك وما إن فعل ذلك أقتربن الفتيات منها…
خرج “مُـنذر” نحو الشباب ووقف وسطهم في الشُرفة الواسعة المُزينة بإضاءات ذهبية، كانوا يضحكون برفقة بعضهم ويبتسمون ويتسامرون، فيما وقف هو بعيدًا عنهم بتيهٍ يُطالعهم بغرابةٍ أو ربما مجرد اندهاش عابر بسبب وقوفهم هكذا برفقة بعضهم وهو الذي اعتاد أن يكون بمفرده وسط العالم، وقف وابتسم لهم هو الآخر فأتى “إسماعيل” ووقف بجواره ثم قال بنبرةٍ هادئة كأنه أكثرهم فهمًا له:
_بقولك إيه؟ عاوزك تفك كدا وتضحك معانا علشان ربنا يفتحها في وشك، دا أنتَ بقيت عريس الليلة وربنا كرمك وجبر بخاطرك، أضحك ياض يا بومة.
ابتسم رغمًا عنه فأحتضنه الآخر ثم شدد ضمته له كأنه يدعمه ويحثه على الحياة وليست فقط مجرد ضمة عابرة لأجل المُباركة، ومن ثم اجتمعوا حول “مُـنذر” وهم يبتسمون ويباركون له ثم يحتضونه ويباركون له وهو بينهم يشعر بالتيه بعض الشيء…
كان “سراج” واقفًا بجوار “إيـهاب” حتى أتى “يـوسف” ووقف بجواره ثم قال يمازحه بنبرةٍ كان بها الكثير من السُخريةِ:
_حاسس إن أنتَ اللي عملتها فينا وعزمت “ماكسيم” على كتب الكتاب، مش عارف أزاي بس مأمنين على نفسنا وأنتَ وسطنا إزاي وأمك بنت عمه.
رفع “سـراج” أحد حاجبيه بسخريةٍ بشرٍ ثم جاوبه بتهكمٍ بحنكةٍ بلاغية في الكلامِ كأنه يجابهه بالكلمات:
_والله زي ما إحنا آمنا على نفسنا معاك وعمك
“عاصم الراوي” وجوز عمتك يبقى ابن رقاصة يا “چـو”.
وكما يُقال أن القوي يحتاج لمن هم بنفس قوته كي يدرك مشاعر الآخرين، و”يـوسف” لتوهِ كاد أن يهجم على “سـراج” لكن الآخر عاد للخلف وضحك بدلًا من المشاكسة، وقد أتت “چـودي” ركضًا لهما تسألهما بلهفةٍ:
_هو أنتوا بتتخانقوا مع بعض؟.
انتبه كلاهما لها فتدخل “إيـهاب” ووقف بينهما ثم مسح فوق رأسها وقال بنبرةٍ ضاحكة يمازحها:
_ميقدروش وأنا واقف، دا أنا أجيب رقبة الاتنين وقتي، قوليلي بس أنتِ عاوزة إيه؟.
حركت كتفيها له ثم حركت رأسها للجهة الأخرى فوجدت “أيـوب” يجلس بجوار والده و “نَـعيم” فحركت كفها تلوح له لكنه لم ينتبه عليها، لكزه والده في مرفقه وأشار برأسه نحو الصغيرة التي ضحكت له وتوسعت ضحكتها تدريجيًا ما إن طالعها هو، وحينها ترك موضعه ثم تحرك نحوها وجلس على عاقبيه ثم سألها باهتمامٍ:
_كنتِ بتكلميني أنا صح؟.
أومأت له بخجلٍ ثم قالت بصوتٍ أقرب للغمغمة كأنه لا يُفهم:
_كنت بشاورلك علشان أنا عرفاك، أنتَ مش عارفني صح؟.
ابتسم هو لها ثم قال بنبرةٍ ضاحكة كأنه عاد طفلًا بنفس عمرها أو رُبما أصابته بعدوىٰ جمال روحها الآخذة:
_لأ طبعًا عارفك يا “چـودي” هو فيه حد ميعرفكيش؟.
_وأنا كمان عرفاك، “أيـوب” اللي بيحب “قـمر”.
توسعت عيناه بغير تصديقٍ وارتسمت البسمة فوق شفتيه رويدًا رويدًا ثم مسح فوق وجنتها وقال ضاحكًا بإحراجٍ سرعان ما بدا جليًا فوق وجهه:
_عامةً أنا هو آه، بس هي مراتي وعلشان كدا أنا بحبها، بس هو مين اللي قالك كدا؟ حد عارفني ولا إيه؟.
أومأت هي من جديد ثم قالت تمازحه:
_”يـوسف” هو اللي قالي.
لثم وجنتها بعدما ضحك بقلة حيلة ثم ربت فوق وجنتها واستقام واقفًا، وبعد مرور ثوانٍ قليلة أتوا الشباب ووقفوا بجوارهما فهتف “يـوسف” لخالها يمازحه ويشاكسه بقوله:
_ما تشوف بنت أختك يا عم، البت مش عاتقة ولا راجل غير لما بتتصاحب عليه، إيه الحكاية؟.
ضحك “سـراج” ثم تحرك نحوهم ووقف معها تزامنًا مع قدوم “أيـهم” الذي ترك كف ابنه ثم جلس على رُكبتيه أمامها وقال بنبرةٍ ضاحكة:
_أنا جاي أنكشك وأضحك معاكِ، قوليلي توافقي تتجوزيني لو أنا أتقدمتلك؟.
دارت بعينيها في المكان سريعًا ثم قالت بنبرةٍ ضاحكة تمازحه وترفض بخجلٍ:
_بس حضرتك كبير أوي يا عمو.
أمسك كلا كفيها بكفيه ثم قال بنبرةٍ ظهرت بها سعادته بالحديث معها:
_أصغرلك يا ستي، بس أهم حاجة أنتِ موافقة عليا، أقولك سر؟ أنا مهندس ديكور.
شهقت بلهفةٍ مفتعلة ثم قالت بضحكةٍ واسعة:
_بس أنا كنت عاوزة اتجوز دكتور.
في تلك اللحظة اقترب منها “مُـنذر” ثم جلس على رُكبتيه أمامها ومازحها بقوله بعدما لثم وجنتها:
_الدكتور جالك أهو لحد عندك، موافقة أنتِ عليا؟.
أومأت له بقوةٍ فحملها بكلا ذراعيه ثم لثم وجنتها بقوةٍ وبدأت الممازحات تزداد بتدخل البقية بينهما، وخاصةً “إسماعيل” الذي حمل ابنة شقيقه ثم وقف يُلثم جبينها وكفها المضموم برقةٍ تتناسب مع صغر عمرها وفي تلك اللحظة ركض نحوه “إيـاد” ثم سأله بنبرةٍ ضاحكة:
_هو ينفع أشيلها؟ علشان أنا بحب الصغيرين أوي.
أعطاها له “إسماعيل” بوجهٍ مُبتسمٍ وفي تلك اللحظة أقتربت منه “چـودي” ثم وقفت بجواره وقالت تعرفه على الصغيرة:
_دي “دهـب” بنت “إيـهاب” بص عسولة إزاي؟.
أومأ لها موافقًا ثم عاد يُلثم جبين الصغيرة بين ذراعيه وأمعن عينيه في ملامحها الرقيقة ونمنة أنفها الصغير المُدقق وبشرتها اللامعة، كان يبتسم ثم تحرك بها للداخل نحو “نِـهال” ثم قال بسعادةٍ جلية فوق ملامحه:
_بصي شكلها حلو أوي واسمها “دهـب”.
توسعت عينا “نِـهال” بغير تصديقٍ ثم حملت منه الصغيرة بمشاعر مختلفة كُليًا عن السابق، تلك المرة ظلت تذكر ربها وهي تمسك بتلك الهِبة التي كان اسمها هو ذاته وصفها، ترقرق الدمع في عينيها تزامنًا مع دقة قلبها فابتسمت بوجهٍ بشوشٍ ثم لثمت جبين الصغيرة بحبٍ بالغٍ وضمتها لعناقها وفي تلك اللحظة ضمها “إيـاد” من منطقة الكتف ووضع رأسه بجوار رأسها ثم قال بنبرةٍ هامسة:
_أنتِ أحلى ماما في كل الدنيا، متزعليش.
حركت رأسها نحوه تسأله بدهشةٍ عن سبب حديثه فوجدته يقول بخجلٍ لكونه يفهم سبب حزنها وما دل على ذلك كانت طريقة حديثه بذاتها:
_بصراحة سمعت بابا وهو بيكلمك مرة وأنتوا رايحين للدكتورة وعرفت إنك زعلانة علشان عاوزة نونو صغير، والله لو كنت صغير شوية، كنت هقولك أنا النونو بتاعك.
ابتسمت هي وضمته بقوةٍ لعناقها مع الصغيرة ثم مسحت فوق ظهره عدة مرات وهمست له بنبرةٍ مماثلة لنبرته:
_أنا محظوظة بيك علشان أنا عندي ابن زيك.
في تلك اللحظة لاحظت “ضُـحى” الصمت المطبق على المكان وجلوس العروس بجوار أمها بصمتٍ فاقتربت من “حبيبة” زوجة “جـواد” تسألها باهتمامٍ وهي تتفحص المكان حولها بعينيها:
_بقولك إيه هو المكان هنا ضد الفرحة؟ ومين البِوم اللي قاعدين في الوش دول؟.
حركت الأخرى عينيها نحو موضع الإشارة ثم عادت لها تجاوبها بنبرةٍ هامسة حتى لا يصل الحديث للبقية:
_دول عيلة باباهم، وفيه مشاكل عائلية بينهم، و “فُـلة” للأسف معندهاش صحاب كتير لأنها كانت عايشة برة طول عمرها ولسه جاية هنا من فترة صغيرة جدًا، البركة فيكم.
أومأت لها “ضُـحى” ثم اقتربت من “قـمر” و “عـهد” وهمست لهما بشرٍ أو رُبما تلك هي نيتها الصريحة:
_عاوزة البت دي تقوم تهيص دي وترقص حالًا، بدل ما أخلكيم أنتوا ترقصوا ويتنكد عليكم، يلا يا عسل منك ليها.
دقائق مرت وصدحت بعدها الموسيقى العالية في المكان واقتربن الفتيات من “فُـلة” التي ضحكت لهن بدهشةٍ وتوسعت عيناها بحيرةٍ وسرعان ما سحبتها “ضُـحى” من يديها ورقصت معها وفي تلك اللحظة صدحت الأصوات العالية من الداخل، وفي تلك اللحظة نظر كلًا من “يـوسف” و”إسماعيل” لبعضهما فقال الثاني بيأسٍ:
_أقطع دراعي من عند الكتف إن ما كانت السبب في الهيصة دي مراتي المطرقعة اللي عاوزة جنازة تشبع فيها لطم دي.
ضحك له “يـوسف” رغمًا عنه ثم تحرك وجاور “أيـوب” ووقف ينطق بسخريةٍ أقرب للتهكم:
_عاوزك لما تروح تقيم الحد على البت “قـمر” شكلها بترقص جوة، لو منك ماسكتش ليها يا شيخنا خالص.
رفع “أيـوب” كلا حاجبيه ثم ابتسم له وتشدق بسخريةٍ:
_أولًا مراتي براحتها وعلى كيفها، ثانيًا تعمل اللي هي عاوزاه طالما مراتي، ثالثًا سيبك منها وخليها في حالها، خليك في سفرك اللي كمان شوية دا.
ضيق الآخر جفنيه ثم أومأ موافقًا وظل واقفًا بجواره حتى أشار لهم “جـواد” واقتربوا نحو طاولة الطعام الذي سبق وأعدها لهم، وفعلت زوجته المثل مع النساء أيضًا ووسط كل ذلك بحث “مُـنذر” بعينيه وسط الجميع فتعجب من الدفء الذي تسرب للقلب واستوطنه وهو وسطهم يشعر بالأُلفةِ..
هو الذي سبق ومات قبل ذلك؛ الآن يحيا ربيع العمر بعدما دمر الخريف أيامه وجرف أراضيه فأصبحت لا تصلح لأي شيءٍ إلا فقط استقبال أوراق الخريف الجافة فوق سطحها..
__________________________________
<“أخبروا الشمس أن تتأخر في الذهاب فالحبيب راحلًا”>
لو نعلم أن من نحبهم سوف يرحلون بتلك السهولة..
من المؤكد كنا خلدنا كل الثواني المارة علينا برفقتهم، كنا حفظنا أصغر التفاصيل بداخل سراديب العقل كي لا نغفل عنهم، فمن قال أن البقاء دائمٌ؟ لعل أكثر ما يُداهم حياة المرء هو أن يُفاجأ برحيل من يُحب في الوقت الذي لا يُحب..
كانت تبغض الأمر لكنها تفعل النقيض، تكره رحيله عنها لكنها تحثه كي يذهب للعمل ويقوم من جديد ويعود كما كان قويًا في سابق عهده، كانت تدعمه بحديثٍ هي في أشد الاحتياج إليه، كانت تخبره أنها فخورة به وبما يفعل، وفي الداخل تخشى عليه سوء التجارب، كانت كما الأم مجبورة على رحيل صغيرها من بين ذراعيها، لكن يتوجب عليها أن تتركه كي لا يُعاقب بجحيم الجهل، وفي كل الأحوال تتركه وحده يتألم حتى يتعلم..
كان “يـوسف” في شقته وحده يقوم بإحضار حوائجه منها بعدما أصر على ترك زوجته في شقة والدتها، وتحرك هو بنظامٍ دقيق يُتمم على كل إنشٍ بالمكان قبل أن يغلقه، ثم أخرج حقائبه وحقيبة زوجته وولج المصعد، وما إن خرج منه وجد “أيـوب” أمامه فابتسم له وقال بيأسٍ من قدرته على فهم الأمر بتلك السهولة:
_مش هستغرب علشان كنت واثق إني هنزل وهلاقيك هنا، جيت ليه يا سيدي؟ لسه فاضل بتاع ٣ ساعات كمان لحد ما أمشي من هنا.
أقترب “أيـوب” ثم مال بجسده للأمام يحمل عنه الحقائب ثم قال بنبرةٍ هادئة رافقت ملامحه البشوشة ووجهه المبتسم:
_هوصلك لحد والدتك علشان تقعد معاهم شوية قبل ما تمشي، والعربية هنا هعملها صيانة لحد ما أنتَ ترجع إن شاء الله، يلا بس هنقف نرغي كدا؟ هتضيع الساعات؟.
رحلا سويًا نحو بيت والدته وصعدا فوق سطح البيت وجلس هو بجوار أمه التي ضمته لعناقها وظلت تمسح فوق ظهره كأنها تبثه بجرعة أمانٍ سوف يفتقدها هناك، استكان هو بجوارها فوجدها تمسح فوق رأسه ثم قالت بنبرةٍ هادئة حاولت خلالها أن تتغلب على حُزنها:
_بص بقى تخلص شغلك بدري بدري وترجعلي تاني، مالكش دعوة بحد هناك خالص ولا تعصب نفسك حتى، يولعوا كمان فوق بعض كلهم، أهم حاجة صحتك، وياريت تخلي بالك الجو لسه برد هناك، واخد هدوم تقيلة؟.
أومأ فوق صدرها موافقًا فلثمت هي جبينه ومساويء الماضي تتراقص أمام عينيها، ذكرى الراحل عادت أمام عينيها، ووجع الغياب عاد وتمسك بالقلب، ومُعاناة الفقد عَلُقَت بالذهن، كل شيءٍ كان صعبًا عليها واستشعره هو، فرفع رأسه وبدل وضعه كي يضمها هو ثم قال بصوتٍ دافيءٍ تغلغل لسمعها:
_متقلقيش هرجعلك وأكون بخير هناك كمان، بعدين مش أنا اللي هسوق، أنا رايح مع سواق وأتوبيس كامل، وهكلمك كل شوية في الطريق كمان، خليكِ صاحية يا “غَـالية” أوعي تنامي بقى.
ضحكت هي ونزلت دموعها في نفس اللحظة فعاود ضمها له بقوةٍ أكبر ثم لثم كفها ورأسها، وقد أتت “قـمر” وجاورته وهي تضحك له كي لا يزداد حزنه وفي تلك اللحظة ضمها هي الأخرى له ثم خاطبها بعقلانية ورصانة عقلٍ:
_عاوزك تخلي بالك من نفسك وجوزك وبيتك، عاوز أرجع بعد الشهر اللي هغيبه دا ألاقيكِ عقلتي إزاي بقى معرفش، بس بيتهيألي كدا محتاجة تقطعي علاقتك بـ “ضُـحى” يمكن ربك يكرم وتعقلوا شوية أنتوا الاتنين.
ضحكوا على سخريته فيما انتبهت له “ضُـحى” فسألته بسخريةٍ عن سبب رحيله:
_لما أنتَ حلو وبتحلو أوي كدا عليا، رايح هناك تعمل إيه بقى يا عم القمور أنتَ؟.
حرك رأسه نحوها وجاوبها بسخريةٍ مماثلة لسخريتها:
_بجيب جاز، رايح أجيب جاز يا عسل.
ضحكوا على مشاكستهما لبعضهما وفي تلك اللحظة أتت “عـهد” من شقة والدتها وفي يدها كانت تمسك أختها التي ركضت نحوه تودعه بعناقٍ قوي فضم هو الصغيرة له ثم قال بنبرةٍ ضاحكة:
_خلي بالك من نفسك ومن ماما وأختك، وعاوزك كمان متسكتيش لحد يتريق عليكِ تاني، اللي يقرب منك أو من السماعة حُطيها في عينيه، وأنا هاجي بعدها أتنمر عليه، اتفقنا؟!.
حركت رأسها موافقةً وهي تضحك له بينما زوجته اقتربت من شقيقتها ثم ضمتها لها ومسحت فوق خصلاتها الناعمة وفي تلك اللحظة لاحظ هو غياب حماته فتعجب من ذلك ثم استقام واقفًا وقال بثباتٍ:
_أنا نازل الحمام وجاي عن إذنكم.
ترك الجلسة وتحرك بسرعةٍ كبرى ثم مر على شقة حماته، وقف يُهديء أنفاسه ثم ضرب مقبس الجرس ففتحت له وهي تسأله بعينيها عن سبب مجيئه فإذ به يقول بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم لها:
_لقيتك مجيتيش تسلمي قولت أجيلك أنا.
ابتسمت له ثم أشارت نحو الداخل وهي تقول بنبرةٍ ظهرت بها لهفتها في تبريء نفسها مما يتهمها به:
_لأ والله دي “عـهد” وصتني أعملك ورق عنب علشان تاكله في الطريق وتتسلى بيه، يدوب طفيت عليه وبحطه في العلبة أهو وكنت هطلع أسلم عليك، إحنا مالناش غيرك دلوقتي.
توسعت بسمته أكثر ثم مد يده في جيب سترته ثم أخرج الظرف الأبيض وأعطاه لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة تمامًا:
_تسلمي يا ست أم “عـهد” بس أنا جايلك من وراها علشان متتعصبش وتقلب قطة مخربشة عليا أنا، خدي دول وقبل ما تعارضي دي فلوسك أنتِ و”وعـد” خليهم معاكِ اللي تحتاجيه هاتيه ومن غير طلب أو كسوف، ومتعرفيش “عـهد” الله يكرمك، خديهم بس علشان هي هتنزل دلوقتي حالًا، يلَّا.
قام بدسهم بيدها وضغط بقوةٍ فوق كفها وفي تلك اللحظة أتت “عـهد” من الأعلى ووقفت تسأله بنظراتها عن سبب وقوفه هكذا؛ فأتاها بالجواب باسم الوجه بعدما حذر أمها بعينيه:
_كنت جاي أشوفها مطلعتش تسلم عليا ليه، طلعت ظالمها والست بتعملي ورق عنب كتر خيرها، أطلعي أنتِ وأنا هدخل الحمام وهاجيلك تاني.
في تلك اللحظة تدخلت “مـي” وقالت بلهفةٍ كي توقف تحرك أيًا منهما قبل الصعود:
_استنى بس، أنا خلاص هطلع أهو علشان خلصت، أدخل الحمام هنا، وأنتِ شوفيه لو محتاج حاجة وتعالي، عن إذنكم.
تركت موضعها لهما بعد حديثها وأغلقت الباب وفي تلك اللحظة أقترب “يـوسف” من زوجته ثم همس لها بمراوغةٍ عبثية تعلم هي أنه يُجيد اللعب بها:
_تصدقي “ميوش” دي بتفهم؟.
كتمت ضحكتها على حديثه تزامنًا مع رفع اصبعها في وجهه تهدر بقولٍ تصنعت به الحِدة المُفتعلة:
_اسمها “مـي” محدش يدلع ماما غيري.
ضيق جفونه لوهلةٍ ثم قربها له أكثر وتفوه بمراوغةٍ أكبر:
_يعني “مـي” تدلع وأنا أولع؟.
تلاقت تلك المرة الأعين ببعضها فتنهدت هي بقوةٍ ولمعت عيناها بوميضٍ خاص به وحده كأنه لا يُنافس في نظرتها له التي تخصه هو وحده:
_بعد الشر عنك، عارف؟ أنا من آخر مرة بابا سافر فيها وقعد شهر برة في شغل أول مرة أحس الإحساس دا، حاسة إني بتساب لوحدي وسط الكل، أنا خلاص اتعودت عليك، يومي كله بقى أنتَ وبس، هفتقدك أوي وهتوحشني أوي…
تهدج صوتها وهي تبكي أمامه فضمها لصدره ومسح فوق كتفها ثم لثم قمة رأسها وهو يقول بنبرةٍ ظهر بها أثر تبسمه:
_وأنتِ هتوحشيني أوي، بصي مش عاوزك تزعلي اعتبريني ببعد عنك علشان نقدر قيمة بعض، أبويا علطول كان يقولي “أبعد حبة تزيد المحبة” وأنا غاوي محبتي تزيد عندك، عاوزك تتأكدي إني قدام الدنيا كلها علشانك أنتِ..
ابتسمت هي له برقةٍ أصبح أسيرًا لها وقد اقتربت منه تُلثم وجنته بقوةٍ ثم عادت توصل المُقل ببعضها في حديثٍ كانت القلوب أدرى الناس به؛ وزايدت هي بقولها الشقي:
_دي تصبيرة لحد ما تيجي وربك يكرم.
توسعت تلك المرة ضحكته هو ثم ضمها لصدره بقوةٍ أكبر كأنه يودعها قبل الرحيل الغير مرغوب به، لكن صار فرض عينٍ عليه، وبــعد مـرور ساعتين في موقف الحافلات توقفت سيارة “أيـوب” أولًا بها الفتيات معه ثم سيارة “نـادر” خلفه يقودها وبها “يـوسف” و “عُـدي” معًا..
لأول مرةٍ يترك المدينة بوداعٍ من الأحباب، أو رُبما تلك هي مرته الأولى التي يقف بها برفقة الأحباب، وقف يبتسم لهم جميعًا ويتحدث معهم ويودعهم بنفسه حتى أتى دور “نـادر” ولأول مرةٍ يحتضن كلاهما الآخر في وداعٍ رافقته جملة متبادلة بين الطرفين بحبٍ صادقٍ:
_خلي بالك من نفسك.
_وأنتَ كمان خلي بالك من نفسك وحرس من أبوك.
تم الوداع بين الجميع حتى أتى دور “قـمر” التي تعلقت به بحبٍ وظلت توصيه على نفسه وتوصيه ببعض الطاعات وهو يُنصت لها بصمتٍ ثم عاد وضمها من جديد، وتكررت الكرة مع “أيـوب” ثم مسك الختام “ضُـحى” وبعدها المأوى الألطف له “عـهد” تدس في يده ورقة بُنية كخطابٍ قديم مر عليه الزمن وظهر أثره وقالت:
_أبقى أفتحه في الأتوبيس بقى.
وهنا تم الوداع وأنتهى اللقاء..
وحان للغريب أن يترك المدينة ويرحل ويعود غريبًا لكن تلك المرة سيكون لأطراف مدينته هو المُشتاق، وتلك المرة يختلف الأمر كثيرًا، فربما هو ذاته نفس الطريق،
ورُبما هي نفسها لحظات الغُربة، وقد يكون نفس الليل، لكن المؤكد أنها ليست نفسها المشاعر، ولا هو نفسه بنفس القلب، وإنما تلك المرة عُولج القلب والدواء كان في الحب.
__________________________________
<“الفجر الجديد أتى وأنتَ لازلت عني غائبًا”>
اليوم لم أتذكرك في يومي إطلاقًا..
لم أفعلها سوى وأنا أراقب الطيور الحُرة فتذكرت وأنتَ حبيسًا بين السياج العتية، ولم أفعلها سوى وأنا أراقب المارين طوال الأربع وعشرين ساعة فلم ألمح وجهك بينهم، ولم أفعلها سوى وأنا أشعر بالظمأ؛ فتذكرت كيف كنت أنتَ ترويني، لم أفعلها ولن أفعلها سوى وأنا أُفتش عنك كي أتذكرك؛ فوجدتني لم أنساك..
أتى الفجر عليه وهو لازال ساهرًا بغرفته، بداخله حمم بركانية تصول وتجول وهو لازال حبيسًا بغرفته يخرج تلك البراكين على هيئة ألعاب رياضية، كان يقفز ويمط جسده، ثم يعود ويتسطح الأرض ويقوم بأداء رياضة الضغط، وصورتها في خطبتها لم تنفك عن حنايا عقله، لقد أصبح حبيسًا لتلك الصورة كأنها غُرفة مُربعة الأضلاع أُغلِقت عليه..
تعرق جسده وارتخت أعصابه نتيجة الإفراط في استخدام الرياضة بشكلٍ عنيفٍ وقبل أن يزداد اندماجه طُرق باب غرفته فوقف وهو يلهث بأنفاسٍ مُتقطعة وتحرك نحو الباب يفتحه فوجد أمامه “مُـنذر” وفي يده سيجاره كأنه مُشتتٌ بين المجيء إليه وبين الرحيل، وقد تحدث بضياعٍ بعض الشيء أمامه:
_بقولك إيه أنا مخنوق مش عارف أنام، وأنتَ مش عاجبني كدا تعالى نقعد مع بعض زي ما اتفقنا، ولا أنتَ بتخلع مني؟.
لم تعجب “مُـحي” نظرات الشفقة في عيني الآخر فابتسم بسخريةٍ وقرر أن ينتهج سبيل الوقاحة بقوله:
_إيه هي العروسة مقصرة معاك من ليلتها جايلي أنا أعوضك عن الحنان يعني؟ عمومًا حضني واسع هيحتويك.
أنهى حديثه بغمزة أتت في الخفاء جعلت الآخر يضحك بيأسٍ ثم أخرج دخان سيجاره تزامنًا مع قوله الضاحك بمزاحٍ:
_كدا أنا أتطمنت إنك بخير، لسه سافل ودماغك زبالة زي ما أنتَ، مع إن ميبانش عليك بوش النكد اللي مصدره لينا دا بس أهو أحسن من قلبة بوزك علينا، مش خسارة العيون الرمادي دي تزعل؟.
ابتسم “مُـحي” بغلبٍ على أمره ثم سحب سترته وأرتداها وتحرك مع الآخر خارج البيت، بالأخص ذهبا نحو حظيرة الخيول فبادر “مُـحي” بقوله التائه كأنه يسأل:
_ليه من الأول بنتعشم في الحاجة ونحط فيها الأمل وهي مش لينا؟ أو ليه أصلًا الإنسان يسلم نفسه لأحلامه ويحط في دماغه إن كل حاجة بتتعدل خلاص وصفحات اللي فات من حياته بتتقفل وهي يدوب مع أقل لسعة هوا بتتحرك وكل اللي مكتوب بيبان؟.
بدا حديثه فلسفيًا وديناميكيًا كأنه ديباجة رسمية تُذاع في واحدةٍ من مقدمات المحطات الإذاعية، وحينها انتبه له ابن العم وضيق جفونه يسأله بعينيه عن مقصد كلماته، فقال الآخر بوجعٍ تفاقم بداخل روحه:
_أقصد ليه عشمت نفسي من الأول وكان ممكن عادي يعني أعدي اللي حصل؟ ياريتني ما كنت شوفتها وخدت بالي منها، من أول مرة عيني جت في عينها كنت متأكد إني هحبها، أول مرة بصتلي فيهم عمري ما هنساها، كانت أول بنت أحفظ اسمها، وأول واحدة حسيت إني مش بشوفها بعيني اللي يتدب فيها رصاصة، مرة قالتلي محدش علمك تغض بصرك؟ ساعتها قولتلها طب والبصيرة هغضها إزاي؟ ودي كانت آخر مرة نتكلم فيها ولو أعرف إنها آخر مرة كنت طولت في الكلام، أهو أي ذكرى ليا منها.
اتضح الألم في عينيه ونبرته وقد أدرك الآخر حجم الألم الكامن بين جنبات صدره فمد كفه يمسح فوق قلبه وابتسم بسخريةٍ وهو يقول بضياعٍ:
_لو حد من ٢٠ سنة كان قالي إني هوصل لمرحلة زي اللي أنا فيها دي كنت هقول عليه مجنون، أصل تخيل معايا كدا من عيل اتباع لعصابة مسلحة وتاجروا بأيام عمره وسافر على عبارة اسمها الطريق للموت، لواحد تاني كتب كتابه النهاردة وواقف في بيت المفروض إنه ليه فيه، ومش بس كدا واقف كمان مع ابن عمي بواسيه، مين فينا عارف الحكاية بتوصل فين؟ محدش خالص، بس الفكرة كلها بتكون في النصيب، كل واحد فينا ميعرفش نصيبه فين، بس هي إرادة ربنا، وإحنا هنا بشر على الأرض مش ملايكة يا “مُـحي” وطبيعي نغلط ونجاهد نفسنا، على الأقل يبقى اسمنا حاولنا.
طالعه “مُـحي” بغرابةٍ وكأنه يستنكر تفوه ابن عمه بتلك الكلمات فابتسم له الآخر وأضاف بوجهٍ باسمٍ:
_متستغربش علشان أنا أهو بحاول ونفسي حياتي تتعدل.
في تلك اللحظة صدح صوت هاتفه برقم زوجته فأخرجه وتعجب من مكالمتها فوجدها ترسل له عبر تطبيق “واتساب” للمراسلات:
_لو صاحي رد عليا يا جوز الندامة.
ابتسم هو رغمًا عن أنف جموده وصلابته وقرر أن يُراسلها فكتب لها ردًا عليه بما يُشابه حديثها:
_صاحي، صاحي يا بومة.
لاحظه “مُـحي” فابتسم بسخريةٍ ثم دفعه في كتفه وقال بنبرةٍ ضاحكة يمازحه بها ويزيل عن كليهما التيه والضياع المُطبقين فوق رأسهما:
_روح كلمها يلَّا بس خليك فاكر إنك لما هتموت أنا اللي هعملك العزا مش هي، وأنا بنفسي اللي هوزع المياه على الناس اللي هتيجي تعزي فيك.
انتبه له “مُـنذر” فلكمه في فكه ثم جاوبه ضاحكًا وهو يستعد للرحيل من مكانه:
_أبقى وزعها معدنية بقى يا “مـوهي”.
ابتعد وهاتفها هو تلك المرة وقد جاوبته هي بلهفةٍ عقبها الصمت من كليهما، ونتيجة الصمت الاستماع لصوت الأنفاس لمدة ثوانٍ وبادر هو بسؤالها الذي بدا حائرًا من تلك اللحظة بينهما:
_ساكتة ليه طيب؟.
خجلت هي من سؤاله لكنها قررت أن تتجاوز كل هذا وتجاوبه فقالت بنبرةٍ طغى عليها الخجل:
_مش عارفة، يمكن لسه مش متعودة على فكرة أني من حقي أكلمك عادي وإننا وصلنا لهنا يعني، شوفت الصور بتاعتنا شكلها كان حلو إزاي؟ حسيت إننا لايقين على بعض شوية، أو كتير، أو مش عارفة بصراحة.
ضحكت بخجلٍ وهي ترد عليه وقد ضحك هو بصوتٍ عالٍ وهو يتخيل هيئتها وهي تحتار في أمر ردها عليه، ثم قال بنبرةٍ بها أثر ضحكاته:
_عامةً الصور حلوة علشان أنتِ فيها.
وتلك هي مرته الثانية أو رُبما تكون الثالثة التي يُغازلها فيها بكل صراحةٍ وحينها سألته باندفاعٍ كأنها لا تصدق نفسها:
_دا بجد؟.
_آه والله بجد، كل الصور الحلوة كانت علشان أنتِ فيها معايا وجنبي، بصي أنا مش بتاع كلام حلو وعمري ما عاملت بنت في حياتي، فأنتِ أول واحدة أحس إني قابل وجودها في حياتي، فشكرًا إنك أديتيني فرصة للحياة في وجودك بعدما كنت ميت.
وهُنا سكتت الألسنة وتفوهت القلوب..
قرر أن يختم ليلته السعيدة بهذا الخطاب لها، قرر أن يُملي عليها ما قاله قلبه له، وهي لأجل الحديث المعسول منه كانت لأول مرةٍ بحياتها تختبر شعور طوفان الفراشات فوق معدتها بتلك الطريقة، بدا الأمر وكأن كتاب العُاشقين فُتِح لأجل استقبالهما بين الصفحات كما سبق وخُلدت القصص الكثيرة من قبلهما..
__________________________________
<“شروق الشمس من بعد الليل كان أمل الكادحين”>
رُبما في قصةٍ ما لشخصٍ مجهولٍ لم تعرفه المدينة كانت كل حكاياه أنه فقد الأمل في كل شيءٍ حتى بات الليل رفيقًا له، رُبما يكون صادق الوحدة، وآلف الغُربة، واعتاد مُر الكُربة، لكنه لم ينسَ فقد كل الأحبة، فالآن وبعد عناقٍ في أحضان الليل بدأت الشمس تشرق من جديد؛ وكان هذا هو أمل الكادحين..
في الحافلة وبعد بزوغ الفجر الجديد كان “يـوسف” جالسًا فوق المقعد المجاور لقائد الحافلة كعادته التي لم تتغير، وقد أمسك الحقيبة الصغيرة التي أعطتها له زوجته ثم فتحها وتفحصها فوجد طعامه المفضل، ومعها زجاجة مياه مُثلجة، ومعها زجاجة عصير له، أخرج العُلبة وتناول منها ببسمةٍ زينت ملامحه كأنه صغيرٌ حاز على مُكافأةٍ لم يتلقاها من قبل..
تذكر أمر الخطاب المتروك له من زوجته فترك الطعام ثم أمسك الورقة وفتحها بأنامل متروية كأنه يخشى لقاء الكلمات، وما إن فتحه وجد بداخله مرساه من كل غرقٍ، وطريقه من كل تيهٍ على هيئة كلماتٍ كانت:
_المرة دي وداعنا مختلف وغير كل مرة..
المرة دي أنتَ ماشي بعدما خلتني أحس إني طير حُر معاك، الأيام في وجودك هادية وجميلة والحلو في كل دا إنها معاك أنتَ وبس، عاوزة أقولك حاجة مهمة جدًا، وهي إني كل يوم معاك بحبك أكتر من اللي قبله يا “يـوسف” وبحس إني طايرة أكتر في السما، مفيش راجل يتحمل واحدة ست بعد جوازهم كل دا ويصبر عليها غير لو كان فعلًا شهم ومتربي كويس، ومفيش واحد يقف في وش الدنيا لواحدة ميعرفهاش ويشوف نفسه فيها غير لو كان فعلًا طيب من جواه، في كل دا أنا كل يوم معاك كنت بشوف “يـوسف” جديد عليا ومن حظي الحلو إني لقيتك ليا دنيا تانية، خلي بالك من نفسك وأرجعلي بسرعة علشان بصراحة هبهرك لما تيجي، بحبك يا قمور.
توسعت بسمته تلقائيًا وظل يقرأ الخطاب مرة والثانية والثالثة حتى توقفت الحافلة عند استراحة في الطريق فنزل منها أول فردٍ ثم جلس فوق صخرة ملتصقة بالأرض وأخرج سيجاره وأشعله ثم رفع رأسه للسماء يطالعها بقمرها ونجومها وزينتها ولمعتها، راقب كل شيءٍ فيها وابتسم وهو يتخيل ذويه موضع تلك النجوم حول القمر..
مرت بعض الدقائق عليه وهو بنفس موضعه، وقد شعر بكف أحدهم يوضع فوق كتفه ثم تلى ذلك صوتٌ يستفسر بسخريةٍ:
_إيه أنتَ عاشق ولا إيـه؟.
التفت لصاحب الصوت وسرعان ما توسعت عيناه فجاوره المتحدث ثم قلد طريقته في الحديث ونبرة الصوت بذاتها بقوله:
_وياترى بقى اللي بتحبها دي حبيبتك ولا خطيبتك ولا متعرفش إنك عايش أصلًا؟.
ضحك “يـوسف” رغمًا عنه بصوتٍ عالٍ ثم تنهد وقال بنبرة ولهٍ من فم عاشقٍ غرق في بحور الهوى وترك نفسه بغير نجدةٍ ممن يسرقه ويسحبه نحو الأعمق:
_مراتي، اللي بحبها دي مراتي.
رفع الآخر حاجبه بسخريةٍ ثم قال مقلدًا طريقته:
_لأ جديدة دي، هو فيه حد بيحب مراته في الزمن دا؟.
وهنا تكرر اللقاء من جديد بينهما بنفس الطريقة فضحكا سويًا وقد عانق “يـوسف” صديقه بقوةٍ وقال باطمئنانٍ سكن صوته ونبرته:
_ليك وحشة يا “ياسين” والله ظهورك طمني.
ابتسم له رفيقه ثم ربت فوق ظهره وقال بسخريةٍ:
_الزمن بيعيد نفسه من تاني، بس المرة دي غير، أهم حاجة متعملش زي الناس اللي هنا علشان قلالاة الأدب ومش متربيين.
قال حديثه ثم نزل بعينيه نحو السيجار واخطتفه وألقاه بعيدًا وتفوه متابعًا حديثه بقوله:
_أيوة زي كدا، بيشربوا سجاير.
تكررت ضحكات “يـوسف” وشعر لتوهِ أنه أصبح آمنًا هُنا، فظهور الصديق القديم في وسط الطريق الجديد هذا يُعني أن الأمور وإن عادت لمستقرها فلن تصبح كما العهد القديم..
**********

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى