رواية غوثهم الفصل المائة والتاسع والثلاثون 139 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة والتاسع والثلاثون
رواية غوثهم البارت المائة والتاسع والثلاثون
رواية غوثهم الحلقة المائة والتاسعة والثلاثون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الرابع والخمسون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
مالي وما للأغنياء وأنت يا
رب الغني ولا يحد غناكَ
مالي وما للأقوياء وأنت يا
ربي ورب الناس ما أقواكَ
مالي وأبواب الملوك وأنت من
خلق الملوك وقسم الأملاكَ
_”مقتبس”
__________________________________
يقولون أن في الحُب يعيش المرء في شقاءٍ،
وأنا أتساءل هل يُشقى المرء مع من يُحب؟ فلولا الحُب لما حيينا ولا حيا وعاش القلب، لقد جنوا على الحُب وظلموه، ولم أجد منهم من يقول أن الحُب شفاءٌ بل دومًا كان في نظر الجميع أنه شقاءٌ، لكنني لم أكترث بحديثهم لطالما كنتُ زاهدًا في الطُرقات فلم أبالِ بهم وبحديثهم، لكن يشهد ربي على ما في قلبي أنني يوم أن عانيت من الشقاء وسألت من الخالق الرحمة والعطاء، لم أجد في الحُبِ مشقةً وإنما لم أجد إلا الشفاء، فأنا من كنتُ أسير وحدي في الطرقات بمفردي وقلبي ولا يبالي وجدتُكِ أنتِ تسكنين القلب الخالي، لقد بدا كل شيءٍ قبل مجيئك مُبهمًا ولم أفهم منه المقصد أو المعنى، لكن بعد رؤياكِ ظهر لكي شيءٍ معنىٰ، وكأن الدنيا لم تحلو لي إلا بعدما اجتمعنا، فسبحانكَ ربي أنتَ الخالق، وحينما أردت سارت مشيئتك على كل الخلائق، فسبحانك ربي بمشيئتك جعلت قلبًا يزهد عن الناس والهوىٰ أن يقع في هواها صريعًا وكأنه فيها أهتوىٰ، وأردت له أن يأتِ عند عينيها وهوىٰ وراح القلب يسأل عن نفسه وعن ما سبق وله أنتوىٰ، لكن عيناها سلبتني مني والقلب ماله بالهوىٰ، لكنكَ وحدك من تعلم أن الحُب في عينيها كان شفاءً لقلبٍ تعذب وبنيران الشوق اكتوىٰ.
<“مرة واحدة كان الفعل الأجرأ هو الذي أحيانا”>
مرة واحدة في العمر نفعل شيئًا واحدًا لم نكن نظنه أو نحسبه لكن عواقبه من المؤكد ستساهم في تغيير كل شيءٍ حولنا، نحن هنا نخضع دومًا للتجربة بدون سابق إنذارٍ ومن ثم نتفاجأ بالنتائج الغير المتوقعة، وفي بعض الأحيان لا يمكننا استنباط شيئًا مجهولًا ولا يُمكننا استنتاج شيئًا معلومًا، هي تُجربة نخضع إليها والنتائج تُبهرنا جميعًا..
تائهة، ساهية على وجهها، هائمة بدون فعلٍ مُحددٍ، تركض بخوفٍ وفي يدها هاتف “شـهد” وصوت أنفاسها هو المسوع فقط، تندى جبينها تعرقًا وتشعثت خصلاتها أكثر، وعضلة القلب توقفت لثوانٍ حتى تألم وضع نبضها ووقفت تلتقط أنفاسها المهدورة، نزلت دموعها وطالعت ساعة الهاتف في يدها ثم بكت وهي تقف خارج البيت وسط الطريق، ارتمت موضعها وما إن أدركت فعلتها ازداد بكاؤها ثم أخرجت هاتفها من جيب بنطالها ثم حاولت التقاط أنفاسها واستجماع شجاعتها وطلبت رقم “نـادر”، جاوبها هو في المرةِ الثانية فنطقت بلهفةٍ تستنجد به:
_”نـادر”!! علشان خاطري أنا في ورطة ألحقني، أنا ضربت “شـهد” وفتحت دماغها ومش عارفة هي حصلها إيه جوة، وأنا في الشارع خايفة أدخل.. ممكن تيجي علشان لو بابا كلمته مضمنش رد فعله إيه؟.
على الجهة الأخرىٰ وقف هو مُشتتًا ولا يعلم ماذا يفعل، فتاة وحيدة تستنجد به قُرابة منتصف الليل، وهو لا يعلم ماذا يفعل، رُبما هي تراه طوق النجاة لها ولو تخلى عنها سيحدث ما لم يُحمد عقباه، لذلك طلب منها أن تُرسل له العنوان وهو سيقوم بتصريف الأمور، أما هي فبكت بخوفٍ بدأ يدب في أوصالها ونبست بخوفٍ تستجديه:
_أنا معرفش حد غيرك أثق فيه، علشان خاطري يا “نـادر” أنا مفيش حد ممكن يخليني أتطمن أو أقدر حتى أحس بأمان وأنا بقوله، لو مش هتيجي عرفني.
أصابته بالتخمة حتى عارضه لسانه في بدء الأمر لكنه قرر أن يتحدث معها باللين وقال بصوتٍ هاديءٍ رغمًا عنه ظهر فيه الإضطراب الذي وقع هو به لكي يأخذ قرارًا أخيرًا حاسمًا:
_متقلقيش يا “نورهان” هاجي بس الأول هبعتلك دكتور لحد ما آجي علشان المسافة بعيدة، أدخلي البيت بس علشان لما الدكتور ييجي، وياريت متعمليش أي حاجة وأنا هفهمه الوضع لحد ما أوصل لعندك.
استطاع أن يُطمئنها بحديثه وهي من الأساس تثق به لذلك ازدادت ثقتها به كثيرًا وكأنه طوق النجاة الذي من المؤكد سينقذها ويُخرجها للشاطيء بكل سلامٍ، أما هو فبالرغم من اتخاذه للقرار لكنه خشى من أخذ تلك الخطوة وكأنه يُقدم على النيران ويُلقي بنفسه في جوفها، قرارٌ أصابه بصراعٍ حتى كاد أن يتراجع عنه، لكن وعده لها هو الشيء الوحيد الذي دفعه للتكملة.
خرج من غرفته يبحث عن أمه فوجدها نائمة بغرفتها قريرة العين فتنهد مُطولًا ثم تحرك من الشقة وأغلق عليها وقصد وجهته، بينما الأخرى فتحركت نحو الحديقة في بيتها تستقر بها خوفًا من الدخول وقد مر بالتقريب ما يُعادل ساعة كاملة حتى ظنت أن الأخرى من المؤكد أنها لقت حتفها، مر بعض الوقت وقد أتى الطبيب وأخبرها أنه أتى بطلبٍ من “نـادر” وهي ولجت معه بصمتٍ وترددٍ..
ولج يفحص “شـهد” فحصًا طبيًا ثم تعامل مع جرحها الذي لم يكن غائرًا وقد سبق وأخبره “نـادر” بكل شيءٍ وأتى هو بما يعاونه في ذلك، بينما “نـورهان” فكانت تود الركض من البيت خوفًا من الطبيب ومن استيقاظ “شهد” ما إن تفيق وتُدرك ما حدث لها، لكن مجيء “نـادر” أنقذها من ظُلمة تفكيرها حتى التقطت أنفاسها ما إن حضر للبيت وولج يقف بجوارها.
استعادت “شـهد” وعيها وهي تتأوه بألم بعدما فعل ذلك الطبيب بينما هي فتحت عينيها بنظراتٍ مشوشة وهي تحاول الاعتياد على الضوء فتنهد الطبيب ثم قال بصوتٍ عملي:
_كويس إنك بخير، ألف سلامة عليكِ ومتقلقيش الجرح مش كبير أوي حاجة بسيطة وياريت بكرة تروحي المستشفى تعملي آشعة علشان لو فيه أي تبعيات مكان الخبطة نقدر نتفادها، لكن أنتِ بخير لحد دلوقتي.
أومأت له بضعفٍ وهي تشعر بالخمول يسري في جسدها، وقد تلاقت عيناها بعيني “نـادر” الذي أشاح بوجهه بعيدًا عنها ثم قال بنبرةٍ رسم بها الجمود لتبدو حادة بعض الشيء حينما وجه حديثه للطبيب:
_تمام يا دكتور “مـنير” تقدر تتفضل حضرتك ومعلش تعبتك وأزعجتك بليل كدا، متشكر جدًا على تعب حضرتك في موضوع بسيط زي دا ميستاهلش، أتفضل.
تحرك مع الطبيب يرشده للخارج ويدفع له ثمن الكشف الطبي ثم أخذ منه الروشتة الطبية وعاد لهما بعدما رسم الجمود فوق ملامحه وولج لعندهما ليجد “نـورهان” منكمشة على نفسها فوق أحد المقاعد بينما الأخرى ما إن رآته ابتسمت له بأملٍ كأنه أعاد لها أحلامها من جديد واندفعت تسأله بلهفةٍ:
_”نـادر”!! أنتَ جيت علشاني؟.
حرك رأسه نحوها ليستقر بعينيه عليها وقد رأى الأمل مرسومًا فيهما فابتسم بزاوية فمه ثم قال بتهكمٍ لاذعٍ فتت كل الأمال التي بَنتها برؤيتها بل ودهس هذا الألم أيضًا:
_لأ لأ متسرحيش بخيالك لبعيد كدا، أنا لو جيت فجيت علشان الأمور متكبرش عن كدا ويحصلكم مصيبة أنتوا الاتنين، لكن متوصلش إني آجي علشانك بعد كل اللي حصل، أصلي عندي مشاعر وماظنش أنتِ مهتمة بحاجة سطحية زي دي، عمومًا أنا هنا علشان “نـورهان” كلمتني وقالتلي اللي حصل وإنها هتخاف تكلم حد تاني غيري، ماكنتيش في الحِسبة خالص.
توسعت عيناها وفرغ فاهها من صدمتها بجوابه بينما “نـورهان” فتوقعت أن يكون حديثه على الأقل به نوعًا من القلق عليها لكنه ضرب بتلك التوقعات عرض الحائط، ثم التفت يُطالع الأخرى وقال بحدةٍ طفيفة:
_ياريت تتحمكمي في ردود أفعالك بعد كدا يا “نورهان” مش كل حاجة عنف وضرب حتى لو اللي قدامك إنسان مستفز يستاهل الضرب فوق راسه، بس علشان في الآخر ميتحسبش عليكِ إنسان وتودي نفسك في داهية، أصل الدواهي دي حاجة تقرف.
شعرت “شـهد” بالنيران تتقد في قلبها وأن خسارتها باتت فادحةً أمامه فهتفت باندفاعٍ وغير تعقلٍ تثأر لنفسها من الأخرى التي بدت كما الطير المكسور جناحه وكأنها تتدعي البراءة فوق وجهها:
_اللي أنتَ متعرفهوش بقى إن هي ضربتني علشان ماكنتش واعية لنفسها، يا حرام شدت السطر من الهباب اللي بتتعطاه وأتسطلت وقامت خبطاني على راسي، بدل ما أنتَ شايفها الملاك البريء كدا، أحب أقولك إنها شمامة.
تهاوت العبرات فوق وجنتي “نورهان” في الحال ولم تقو حتى على إنكار هذا الشيء، بل حركت رأسها بحركاتٍ عشوائية غير مُرتبة حينما وجدت نظرات “نـادر” المصدومة ترمقها فقالت هي بصوتٍ باكٍ تستجديه ألا يُسيء الظن بها:
_استنى بس هفهمك والله، هي صورتني وهددتني إنها هتفضحني قدام الكل، والله أنا ماكنتش عاوزة حد يعرف، وأنتَ، قالتلي إنها هتبعتلك الفيديو والله وتخليك تعرف كل حاجة وتشوفها، أنا والله.. كنت خايفة حد يعرف وهي من ساعة ما جت عمالة تهددني وأنا مش قادرة أعيش معاها.
حديثها بدا عشوائيًا غير منطقي بالمرةِ وكأنها تُبرر لنفسها بينما هو فشعر بالتيه أمامها ولم يستطع أن يرد بشيءٍ على حديثها على عكس “شـهد” التي أنطفأت نيرانها برؤيتها للأخرى تُذل بهذا الوضع، وحينها زفر “نـادر” بقوةٍ ثم قال بنبرةٍ هادرة:
_أنا للأسف مش هقدر أتدخل في أي حاجة متخصنيش، بس الأحسن للكل إنكم تبعدوا عني وعن حياتي أنتوا الاتنين، وأنتِ يا “نـورهان” لو عاوزة بجد تعتبريني زي أخوكِ الكبير يبقى تسمعي الكلام وتتعالجي، السكة دي أخرتها موت بس ملهاش سكة تانية، ولو مموتيش يبقى هتتسجني، فوقي لنفسك قبل ما العمر يجري بيكِ وتفوقي متأخر تلاقي كل حاجة ضاعت منك وأولهم نفسك.
رمىٰ كلماته الحادة ثم التفت مُغادرًا بضياعٍ، لازال يُصدم في الناس ولازال يكره سلبيته، يكره كل شيءٍ حوله حتى نفسه، العالم لم يرقهُ وهو لم يألف العالم من حوله، تمامًا كما السيارة التي تسير في كريقٍ عكسي مُغاير لكل الإتجاهات الأخرىٰ فأصبحت عالقةً في المُنتصف، لا تقدر على التقدم للأمام ولا حتى تملك رفاهية العودة للخلف.
__________________________________
<“لولا الحُب منكم لكان ضاع أملنا في الحُب”>
في الأغلب يُصيبنا الفتور تجاه كل شيءٍ حتى الأمل نفسه، ولولا الأمل الذي يأتينا من هذا الشيء لِيُعيد لنا أملنا من جديد قد نفقد كل أملٍ وكل شيءٍ، ونفس الشيء في الحُب، فلو لم يأتينا الحُب ممن نُحب من المؤكد أننا سنفقد معنى الحب والأمل فيه.
عاد وعودته دومًا تختلف عن قدومه، صديق الليل الغريب كما يصفه البعض، أرضٌ هو يجذب الجميع نحوه حتى لو لم يفعل أي شيءٍ، يملك من الوقار ما يجعله مهيبًا في الأعين، حتى نيران خصمه تنطفيء أمامه، أما هو ففي هذا التوقيت هو الأسعد من بين كل الخلائق، باله أصبح رائقًا بشكلٍ لا يُصدق من بعد عودته من عند “نَـعيم” وقد أرسلت هي له رسالةً مفداها:
_لو رجعت وهتقدر تطلع قولي علشان مستنياك.
كانت رسالتها أملًا له في نهاية اليوم لكي يجلس معها ويُصادقها ليلًا ويُرافق قلبها ويأخذ منه خليلًا له، ولج السطح وفتحه بمفتاحه ثم ولج لها فوجدها تنطق من الداخل بنبرةٍ عالية:
_غمض عينيك بسرعة.
عقد “يـوسف” ما بين حاجبيه كرد فعلٍ على حديثُها ثم فعل ما طلبت منه حتى أذنت هي وسمحت له فاقترب منها يجلس بجوارها وهو يبتسم لها فوجدها هي الأخرى تبتسم له فوجدته ينطق بمرحٍ يُمازحها:
_إزيك يا بت يا “عـهد”؟.
ضحكت على طريقته الغريبة ثم قالت بنبرةٍ ضاحكة مُرغمة عليها بعدما أنفرج فمها ذاهلًا من طريقته:
_دا إيه البال الرايق دا؟ غريبة يعني منك دي، مش جاي مكشر ولا مخنوق ولا متضايق يا رب دايمًا يا سيدي، كنت فين طول اليوم كدا؟ حتى لما كلمتك مرديتش عليا، لعل المانع خير إن شاء الله.
عاد بظهره للخلف ثم قام بشدها له حتى استقرت فوق صدره بحركةٍ مُباغتةٍ منه وقد استكانت هي وسكتت بينما هو فمسح على رأسها ثم قال بنبرةٍ هادئة تمامًا:
_والله يا ستي أنا جاي مبسوط ورايق أوي فوق ما تتخيلي، تقدري تقولي كدا أتطمنت شوية عن الأول، ورجعت جزء من حقي عقبال الباقي، وكلمت “أيـوب” خلاص علشان الشقة بتاعتي وبتاعته يخلصوا وبعدها نحدد الفرح في ميعاده، أنا هبقى مرتاح على الأقل لما نستقر شوية بدل التنطيط فوق السطح وخلاص، بيتنا أولى بينا يا “عـهد”.
في تلك اللحظة تسرب الخوف إليها خشيةً من موضوع الزواج الذي يبدو أنه تنساه أو نساه، بينما هو لم ينس من الأصل، وإنما أراد بطريقته أن يُطمئنها فحرك أنامله صعودًا لعنقها يقوم بتدليك أوتاره حتى تنبسط أوردتها وقال بصوتٍ رخيمٍ:
_أنا مش ناسي كلامك ومش بتجاهله ومش هخوفك مني، المفروض يكون فيه شوية ثقة فيا أكتر، أنا بس عاوز أتطمن إنك معايا علطول، غير كدا مش فارقلي حاجة، وسبق ووعدتك إني مفرضش نفسي عليكِ، بس لو ينفع تشاركيني وتقوليلي إيه مخوفك أنا هسمعك عادي، ووعد مش هاخد رد فعل أو أتكلم، بس خرجي اللي جواكِ متخليهوش حاجز بينا، ممكن؟.
أومأت له موافقةً وأحس هو بموافقتها حينما حركت رأسها موافقةً فوق صدره ثم حاولت أن تتشبث به أكثر وكأنها تتحدى مخاوفها به هو، أرادت أن تُخرج كل ما تشحنه في صدرها من ذكريات مريرة سجنتها في حصارٍ لم ينفك عنها:
_ساعتها أنا كنت بخاف منه أوي، وكنت لوحدي قدامه علطول وهو ولا مرة سابني في حالي، كل مرة نظراته مكانتش مُريحة ولا حتى قربه بيكون من غير قصد، كان عاملي هاجس إن قربه دا جحيم، خلاني كرهت شكلي ونفسي وجسمي، كرهت حتى صوتي اللي سمعه وبقى يقولي إنه حلو، كل دا أنا كنت بقول إنه وهم مني علشان أنا مش متقبلاه، إنما لما حاول يعتدي عليا فعلًا…
توقفت لثوانٍ وسكتت هُنيهة تلتقط أنفاسها ثم استطردت حديثها بصوتٍ أقرب للبكاء وفي تلك اللحظة مسح على رأسها بصمتٍ لكي يَحثُها على التكملةِ فأضافت هي:
_ساعتها لما حاول فعلًا وكتم نفسي وفضل يحرك ايده عليا أنا حسيت إن فيه نار بتحرقني، حاولت أصرخ معرفتش، وحاولت أجري مقدرتش علشان كان مكتفني، حتى حاولت أرمي نفسي من فوق السور كمان وقولت الموت أكرملي من إن الكلب دا يقرب مني، بس كل دا فشلت فيه لحد زقني على الترابيزة ولقيت السكينة محطوطة ساعتها خدتها وعورته في دراعه، بعدها طلعت أجري زي المجنونة وهدومي متقطعة، لحد دلوقتي أنا لسه متخطتش خوفي، وبخاف حد يقرب مني إلا أنتَ.
جملتها الأخيرة كانت الدواء لداءٍ أصابه من حديثها السابق، أنطفأت نيران قلبه فورما خاصته هو بتلك الجملة وقد بكت هي حينما داهتمها الذكريات المريرة فوجدته يُشدد ضمته لها ثم قام بطبع قبلة عميقة فوق رأسها ومسح على وجنتها قائلًا بحقدٍ ونقمٍ على الآخر:
_والله العظيم لو مكانش في السجن كان زماني مموته في أيدي بعدما أذله وأخليه يترجاني علشان أرحمه وأنا حتى مش هناولهاله غير بمزاجي، بس الحمدلله إنه غار في ستين داهية تاخده، أنسيه وخليكِ معايا أنا، أنا مستحيل أقبل بزعلك أو حتى أقلل منك، أنا راضي بأي حاجة منك طول ما أنتِ موجودة معايا مش عاوز غير كدا يا “عـهد”.
هدأت قليلًا من الحالة التي انتابتها بينما هو رفع ابهامه ومسح على كلتا عينيها بتساوٍ ثم قرر أن يُصرفها من هذا الطريق فسألها بلهفةٍ كأنه تذكر لتوهِ:
_صحيح أنتِ ليه خلتيني أغمض عيني وأنا داخل؟.
تذكرت هي ما إن ألقى سؤاله عليها وقد اعتدلت وابتعدت عنه ثم قالت بصوتٍ به أثر البكاء وكذلك كانت عينيها الحمراوتين:
_كنت محضرالك مفاجأة وكنت بتفرج عليها، غمض عينك علشان أخليك تشوفها، ومتغشش لو سمحت، قولت غمض.
اقترب منها يراوغها بقوله الوقح:
_لو عاوزة تحضنيني أحضني يا “عـهد” علطول أنا مش هقولك لأ هو حد يقول للرزق لأ غير الأهبل؟.
دفعته بكفها حينما كاد أن يقترب منها بينما هو كتم ضحكته على حُنقها ووجدها تميل بجسدها للأسفل ثم اعتدلت وهي تمسك شيئًا مُغلفًا ثم أعطته له وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_دي مكافأة علشانك بس قبل ما تفتحها، أنا اللي عملاها بنفسي وبايدي ودي أول حاجة أعملها من النوع دا، فأتمنى تعجبك، ولو هتسألني عملتها ليه؟ هقولك علشان حبيتك وحبيت أول هدية مني ليك تكون عبارة عن حبي كله ليك وعن الحاجات المشتركة ما بينا وخليتنا نقرب من بعض أكتر، وحاجة كمان، أنا بشكرك علشان في وقت من الأوقات جيت هنا تدور على حاجة معينة بس متخليتش عني، أنا عرفت كلمة الأمان بيك يا “يـوسف”.
أنهت الحديث وهي تمد يدها بالهدية وقد خرج هو من طور التأثر المفروض عليه ثم التقط الهدية منها وقام بفك غلافها البُني وأول شيءٍ واجهه كان كتابًا يدويًا صنعته هي بنفسها باللون الأسود ووضعت على الغلاف صورته “لـيل” ثم صورته مع الخيول وكتبت فوق الغلاف باللون الذهبي:
_لولا الحُب منكَ لكنا فقدنا الأمان.
حرك رأسه نحوها فوجدها تبتسم له ثم أشارت له أن يُكمل تصفح الكتاب، وقبل أن يفتح الصفحة الأولى داهمهم المطر فجأةً فعلا صوت شهقاتها ثم عقبه ضحكاتها الفرحة بقهقاتٍ كأنها طفلة صغيرة وتركته وركضت من جواره، وقفت تحت الأمطار تفتح ذراعيها ثم حررت خصلاتها ودارت حول نفسها والمطر يزداد هطولًا فوق رأسها..
كانت تُشبه لوحة نادرة الوجود أبدع فيها فنانٌ فسبحان الخالق الذي خلق وأبدع وصور هذا الجمال أمام عيني عبدٍ يدهوه ويرجوه أن تبقى دومًا آمنة، تشبه رقصة صقلية التي تسرد رقص عصفورين وقعا بالحب، تحرك هو دون أن ينتبه لنفسه ووقف يراقبها مُبتسمًا حتى تبلل هو الآخر لكنه لم يكترث إلا برؤيتها هي وفقط.
شعرت هي بمراقبته لها فالتفتت تمد كفها له وهي تضحك بسعادةٍ انتقلت له تلقائيًا فاقترب بتؤدةٍ وأمسك كفها ثم أدارها في يده حول نفسها وهي تضحك بصوتٍ عالٍ حتى قربها منه والتصقت به حينما وضع كفه في خصرها وسألها بصوتٍ هامسٍ في أذنها:
_مش عاوزة تقوليلي أي حاجة تخلي اليوم دا مميز؟.
ابتسمت هي بخجلٍ وخاصةً حينما عاد للخلف وتلاقت المُقل ببعضها لترى نظراته الصافية لها وعينيه المُبتسمتين فاقتربت من أذنه تخبره بنبرةٍ خافتة لتصله من بين صوت المطر الذي أخذ يزداد أكثر:
_لو ماكنتش حبيتك مستحيل كنت هحب حد غيرك أنتَ، يا “يـوسف الراوي” يا مفيش حد تاني غيره يملا عيني، أنتَ الوحيد اللي عندي استعداد أحارب خوفي علشانه وأسلمه نفسي وأنا متطمنة، وأنتَ بس اللي أتمنيته يكون أب ليا قبل ما يكون أب لعيالي.
توسعت عيناه مصدومًا، وانفرجت شفتاه بفرحةِ، اِفتر ثغره ببسمةٍ مذهولة غير مُصدقٍ لما تفوهت به بينما هي فغمزت له بشقاوةٍ من عينها الواسعة السوداء بلمعةٍ خاطفة فضمها له ضاحكًا وهو يمازحها بقوله:
_روحي يا شيخة ربنا يجعل أيامك كلها شتا ومطر.
ضحكت بصوتٍ عالٍ على جملته الساخرة بينما هو شدد ضمته لها وشعر أن العالم يقوم بفك الخصومة بينهما، الآن يسامح الجميع ويعفو ويصفح ويرق قلبه ويكفيه فقط بعض اللحظات الهادئةِ معها هي، لذا دار بها بسعادةٍ حتى ارتفع صوت ضحكاتها أكثر وما إن توقف وصوت أنفاسهما يعلو بسبب فرط الحركة ضمها من جديد وقال جملتها المُحببة لها:
_حبيب عيوني.
ضحكت بسعادةٍ أكبر ومن جديد تستقر بين ذراعيه وتلك المرة رأسه هو وضعت فوق كتفها، يعيدان اللقاءات المُحببة القديمة بينهما سرقةً من الزمان الذي بخل عليهما في السابق بالوصالِ، الآن لا يريد أيًا منهما أن يترك الآخر أو حتى يشهد غيابه، وإنما يريدان أن يغيبا مع بعضهما عن العالم بأكمله.
__________________________________
<“لم أدرك ما يحدث لي، أتمنى ألا يكون حُبًا”>
“الحُب والبُغض لا تأمن خِداعِهما
فكم هما أخذا قومًا علىٰ غرَرٍ”
هذا البيت رُبما يصادفك وأنتَ تتجاهله حتى تعيشه أنتَ ويصبح حقيقةً لكَ، فالحب يأتِ غفلةً لنا ولا نشعر به، تمامًا كما يتسرب الإحتلال وينتشر في البُلدان ويستولى على الأراضي لتصبح له، هكذا هو الحب، يتسرب نحو القلب ومن ثم يصبح كل شيءٍ مملوكًا له، يستولى على القلب لأجلهِ، ويُخضع العقل لسطوه، ونحن مع الوقت سوف نفتح أذرعتنا ونرحب بالاحتلال.
في اليوم التالي كان “مُـنذر” في عمله يتابعه كعادته وقد لاحظ تغيبها عن المكان أو ربما هي قصدت ألا تظهر أمامه، منذ أن قام بعرض خطبته وهي تمتنع عن الحديث معه أو حتى الرد على رسائله كلما أراد أن يطمئن عليها، لا يعلم لما شعر بالقلق عليها بسبب غيابها وغياب أخبارها كل تلك المُدة، لقد حان موعد إنصرافه من العمل وأثناء تحركه أتت له “تمارا” ركضًا وهي تقول بلهفةٍ:
_إزيك يا “مُـنذر” وحشتني.
التفت لها وجلس على رُكبتيه أمامها مُبتسمًا ثم صافحها ورحب بها وكأن بظهورها حاله تبدل كُليًا بينما هي فتحت حقيبتها ثم أخرجت منها مظروفًا باللون الأسود وأعطته له وهي تقول بصوتٍ هاديءٍ:
_دا “فُـلة” بعتاه ليك وبتقولك ضروري تقرأه، باي علشان ماما هنا وأنا وهي وبابا خارجين مع بعض.
أومأ لها موافقًا وقبل أن ترحل هي أوقفها يسألها عن “فُـلة” فأتاه جوابها أنها بالبيت ولم تأتِ لهنا لأنها تتابع عملها في العيادة الخاصة بها، قرر وقتها أن يرحل إلى بيت عمه خاصةً أن “مُـحي” يجلس في حاجته هناك وأخبره أنه يود التحدث معه، قاد دراجته مُسرعًا وما إن وصل للبيت ولج غرفته مُباشرةً ثم قام بفتح المظروف ليقرأ خطابها حينما كتبت له:
_مساء الخير يا دكتور “مُـنذر” أنا آسفة أولًا على كل حاجة حصلت بسببي وورطك فيها معايا، كلامك كان صح إن فيه حدود بينا مينفعش نتخطاها وأنا للأسف أتغابيت وتجاهلت نقطة زي دي، أنا بشكرك على موقفك معايا وحفاظك على سمعتي ودفاعك عني بالشكل دا، وبشكرك على موقف الخطوبة لأنه أكيد هيحل الموقف قبل ما عيلة بابا يصمموا إني أتجوز منهم، بس أنا آسفة ليك، إن شاء الله هنعمل فترة خطوبة بسيطة بعدها نفشكلها ونقول إننا مش متفاهمين مع بعض، علشان أنا مش هقبل أفرض نفسي عليك تاني، وآسفة لكل حاجة حصلت وإني مش برد عليك، بس أنا وعدت “جـواد” و ماما إني هلتزم بالحدود بينا ودا الوضع بينا، أكيد حاجة غلط وحرام ربنا مش هيبارك فيها يعني، وأتمنى ربنا يوفقك وتكون مش زعلان مني.
خطابها هذا لغيره قد يكون سببًا للحياة وإنما هو رآه سُحقًا لروحه، فهدمت هي كل الآمال فوق رأسه وبخرت الأحلام حتى تلاشت للأبد، شعر بقبضة خفية تمتد ومن ثم تستولى على أنفاسه فأخرج هاتفه يطلب رقمها لكي يعلم سبب خطابها، ولم يأتيه الرد إلا في المرة الثالثة حينما جاوبت هي بهدوءٍ فوجدته يتحدث بحدةٍ طفيفة:
_أنا مش هسألك عن سبب الكلام المكتوب، ولا حتى هقولك إنه كلام صخ بس هو برضه غلط، أنتِ مش فارضة نفسك عليا يا “فُـلة” ولا أنا عملت كدا علشان أحل موقف بس، أنا خدت القرار دا وأنا واثق منه ومتأكد إنه صح، ولو مش كدا كنت مشيت ولا دورت على حجة تخليني أخرج من الموضوع كله، أما بقى بالنسبة للخصوبة دي خليها للنصيب مش لينا إحنا.
تنهدت هي بعمقٍ ثم قالت تشير له إلى ما تغيب عنه فكره:
_وأنا برضه مش هنسي إنك خدت الخطوة دي حل للموقف مش أكتر، ببساطة أنتَ جيتلي علشان أنا الطريق الوحيد المعروف، بس لو كان فيه طريق تاني غير دا أكيد كنت هتكمله لأني مش من أولوياتك ولا في الحِسبة عندك، لولا موقف عمي أكيد ماكنتش هتاخد خطوة، وأنا مش بلومك، بس أنا في حياتي دي كلها أتعرضت للرفض كتير، ومعنديش استعداد أحس إني بفرض نفسي على حد، عن إذن حضرتك.
أغلقت الهاتف دون الإنتظار للرد منه بينما هو فشعر بالضيق والوجوم يحل عليه وعلى وجهه، حزنه من حديثها أسكته ولم يعد ينطق وكأنه هو نفسه أصيب بالشتات والضياع من نفسه، كلماتها كانت في غير محلها لكي تؤثر عليه سلبًا، جلس أسيرًا في وقع التفكير، فانسحب لغرفة ابن عمه لعله يهرب من نفسه، ولج له وجلس بجواره فتحدث “مُـحي” بسخريةٍ:
_ يعني كان لازم أطلب منك تيجي تقعد معايا بعدما كلهم راحوا أشغالهم؟ بعدين تعالى هنا، أغيب عنك يومين بليلة أرجع ألاقيك بتخطب؟ أومال لو كملت الأسبوع كنت هرجع ألاقيك معاك عيل؟ بعدين خطبت إزاي وإيه السبب؟.
تنهد “مُنذر” بثقلٍ وقرر أن يشاركه كل شيءٍ، أخبره سبب خطبته لها وعن سبب تمسكه بموقفه وعن حتى خطابها وامتناعها عن محادثته والآخر يستمع له بتعجبٍ ثم سأله بحيرةٍ عن سبب حزنه:
_طب وأنتَ إيه اللي مضايقك كدا إنها مش بتكلمك، مش أنتَ من البداية زعلان علشان حاسس إنك بدأت تهتم بيها؟ مستغرب ليه يعني؟ وهي معاها حق برضه إن هي تحس بكدا يا “مُـنذر” علشان ببساطة أنتَ حسستها إنها مفروضة عليك وإنك رافض وجودها في حياتك، طبيعي إن دا يكون تفكيرها، بعدين اسمع من واحد خبرة في الستات، البنت دي شكلها قوية، يعني مشاعرها لو سيطرت عليها هي هتصدها وتوقفها، فالحل إنك تديها جرعة مشاعر.
عقد المُتلقي حاجبيه فيما قام “مُـحي” بسحب الهاتف منه ثم قال بلهفةٍ وكأنه يتوسله أو يطلب منه طلب حياةٍ أو موتٍ:
_افتح تليفونك بسرعة، يلَّا.
فتح الآخر الهاتف له ولازال مدهوشًا مما يفعل الآخر لكن “مُـحي” توقف عما يفعل وسأله باهتمامٍ جليٍ:
_هو أنتَ عندك استعداد تكمل معاها؟ يعني أقصد العلاقة دي ممكن تستمر فيها ولا أنتَ أصلًا مش حاببها لسه؟.
تنهد “مُـنذر” بعمقٍ وبدا مُضطربًا أمام ابن عمه ثم قال بتيهٍ كأنه ضل كل السُبل وكل ما أمامه فقط طُرقات ظلماء لم ترشده لشيءٍ ورغم ذلك حديثه كان صادقًا:
_مش عارف يا “مُـحي” بس أنا مش عاوزها تكون بعيد عني وفي نفس الوقت خايف تقرب مني، عارف لما تحس إن فيه حد من غيره أنتَ تايه وخايف ولما تشوفه تطمن؟ تحس إنك مش فاهم أي حاجة بس لما تشوفه هو كأنه بيقولك أنا هفهمك متقلقش، لما بشوفها بحس كأني واحد هربان من حرب في غابة ضلمة وفضلت أجري لحد ما نفسي أتقطع ومرة واحدة كأني وصلت للشمس والنور، أنا حياتي مش ملكي علشان أدخل فيها حد، وفي نفس الوقت أنا إنسان وفيه مشاعر حسيت بيها نفسي أديها حقها، أنا مش فاهم بروحلها ليه حتى وأنا ببعدها عني، كأن مبقاش ينفع مروحلهاش.
ابتسم “مُـحي” مُرغمًا وسرعان ما تذكر “جـنة” وظهرت أمامه وتذكر رؤيته لها في نومه فقال بنبرةٍ هادئة وقعت تحت أثر المشاعر المتأججة بنيران الشوق:
_عارف؟ دلوقتي بس أنا حاسس باللي بتقوله بالظبط، ولو أنا بتفكيري القديم كنت هقولك سيبك منها وأتسلى شوية وخلاص، بس دلوقتي هقولك أعمل اللي تقدر عليه علشانها، العمر مفاضلش فيه كتير علشان تضيعه في التفكير والخوف، خد الخطوة وسيبك من اللي جاي، أهو يبقى اسمك مقصرتش في حاجة ولا إيه؟.
أومأ له “مُـنذر” موافقًا بينما “مُـحي” فقام بسحب هاتفه هو وقال بصوتٍ ضاحك كأنه يقصد السخرية من الآخر:
_فيه أغنية فكرتني بيك دلوقتي، أبقى اسمعها وابعتها ليها هتلاقي لايقة على قصتكم مع بعض، صدقني بتمنى ربنا يهنيك ويعوضك بيها عن كل حاجة شوفتها في حياتك، علشان أنتَ تستاهل تفرح، ولسه طيب وجواك خير بدليل إنك مخسرتش أصلك وحاربت علشان متبقاش زيهم، يبقى أكيد هتفرح بيها وبوجودها في حياتك، وأهي الخطوبة دي خطوة تقربكم من بعض.
أومأ له “مُـنذر” موافقًا ثم تنهد بعمقٍ بينما “مُـحي” أشار له حتى اقترب منه وقد ضمه لعناقه ثم مسح فوق ظهره، في تلك اللحظة هو أكثر الناس علمًا بمشاعره، صعوبة المنال لما يود كلاهما اختبرها والآن كلاهما يود الحصول على ما يريد، فآهٍ لو نال كلاهما رغبته،
وآهٍ لو أصبح ما يرغب هو له.
__________________________________
<“قول الحق يحتاج قوة لا تُرد”>
الإصرار على الحق من شيم الرجال ومن يُصر على قول الحق هو أكثر الناس قوةً، لذا يتوجب على كل فردٍ أن يقيس قوته بمقدار نصرته للحق حتى ولو بصوتٍ منخفض؛ فهو أفضل من الصياح عاليًا خلف باطلٍ، لذا دافع عن الحق أولًا، ثم أنظر لقوتك ثانيًا..
بعد صلاة العشاء خرج “أيـهم” من المسجد ليجد “بـيشوي” في انتظاره ومعهما “يـوساب” فتنهد هو بثقلٍ ثم التفت لصغيره يخبره بنبرةٍ هادئة حينما أدرك سبب المجيء له:
_روح أنتَ البيت يلَّا وأنا هروح مع عمامك أشوف المشكلة دي أخرتها إيه، بس عرفهم إني هنا، وأقعد مع “أيـوب” بس عرف ماما الأول أنتَ فين علشان متقلقش عليك، تمام يا حبيبي؟.
أومأ له “إيـاد” موافقًا ثم تحرك نحو البيت بعدما ودعهم وقد خرج “عبدالقادر” خلفه بعدما وقفوا الرجال يطمئنون على ابنه إمام المسجد الذي تغيب صوته عنهم وتواجده في المسجد، وحينما خرج ووجد الشابيْن أمامه قال بتحذيرٍ لهما:
_أنا عاصر على نفسي ٢٠٠ لمونة علشان أروح أقعد مع “جـابر” فأنا رايح مغصوب على القعدة دي، اللي يتقال يتنفذ يا “بـيشوي” أنتَ و “يـوساب” هو قالك هات كبيرك وأنا رايح معاك أهو تقديرًا إنك مكبرني، بس طلباته مُجابة ومتنساش إنك غلطان علشان اللي عملته كان تهور منك، تمام؟ تمام يا “يـوساب”؟.
أومأ له الآخر موافقًا ثم أضاف بتهذيبٍ وأدبٍ:
_اللي حضرتك تؤمر بيه يا حج “عبدالقادر” سيف على رقبتي وأنا غرضي أحل والدنيا تكون أحسن وأفضل، ومش من مصلحتي ولا حتى مصلحة “بـيشوي” إن الخلاف دا يدوم بينهم.
حديثه نال استحسان البقية وقد تحركوا من مكانهم نحو شقة “جـابر” و”عبدالقادر” يتقدمهم حتى وصلوا ورحب بهم “ملاك” الذي فرح بمجيئهم، كان رغم سنه إلا أن الهيبة لازالت واضحة عليه، جسده كان قويًا نتيجة عمله الشاق في الصعيد بالجبل والمحاجر، ورغم ذلك كان بشوشًا ضحوك الوجه، ومع ترحيبه بهم تحركت المياه الراكدة وسارت المراكب قليلًا بحديثٍ ودي أنهاه “مـلاك” بقوله:
_أنا يدوبك جيت إمبارح، بس والله وبأمانة ربنا أنا جاي علشان أتطمن على ابنك وابن “مصطفى” لما عرفت اللي فيها، ونخلص الموضوع دا بس ونِخلص علشان أروح أشوف “أيـوب” وأتطمن عليه.
شكره “عبدالقادر” ثم بادر هو في التحدث في الموضوع بشأن ما حدث وقد استمع لهم “جـابر” بصمتٍ ونظراته تنطق بسخطٍ لما يدور حوله وكأنه لم يفعل أي شيءٍ حتى سأله خاله يُلقي اللوم عليه فتحدث هو بضجرٍ:
_وهو الأستاذ “بـيشوي” المحترم ينفع ياخد مراتي وبناتي ويجبرهم ويجبرني يمشوا معاه؟ اللي بيعمله دا يخوفني على بنتي منه، ماهو طالما قبلها دلوقتي هيقبلها بعدين عادي، ياترى بقى لما بنتي تغضب وهي معاه هتروح فين؟ بعدين أنا أب ودول بناتي هو مال أهله بيا وبيهم؟ ما يخليه في حاله.
لقد ضغط على مقبس الخطر لدى “بـيشوي” الذي اندفع بغير تعقلٍ وقال بصوتٍ هادرٍ أقرب للعنف:
_وهو أنتَ مديني فرصة تخليني في حالي؟ كل ما أكلمها ألاقيك منكد عليهم وممرر عيشتهم كأنهم خدامين عندك، رافضني فوق العشر مرات ولسه مصمم أتجوزها مش عندًا فيك بس علشانها هي وعلشان متأكد إنها معايا هتكون في أمان ومحدش يقدر يجبرها على حاجة، ومتقلقش بنتك مش هتغضب معايا، بنتك لو دخلت بيتي هتبقى الكل في الكل ومستحيل أزعلها حتى، بس أنتَ بقى عاوز تحطلي العقدة في المُنشار وبس، كل ما نمشيها بهداوة مع بعضنا ترجع في الآخر تقلبها علينا، أظن كدا العيب عداني أهو.
تحدث “ملاك” يوجه سؤاله إلى “بـيشوي” بثباتٍ حتى يواري إنفعاله وغضبه من إنفعال الاثنين بقوله:
_أنتَ عاوز إيه يا “بـيشوي”؟ يرضيك إيه؟.
التفت له الآخر ورفع رأسه لتتقابل المُقل مع بعضها وحينها قال بنبرةٍ جامدة بعض الشيء:
_اللي أنا عاوزه إنه من هنا لمدة شهر ملهوش دعوة بيا ولا بأي حاجة تخصني لحد ما بس أخلص شقتي وأجيب فيها عفش جديد وأتجوز فيها، وهو مش من حقه يرفض حتى، كفاية رفض وقلة قيمة لحد كدا، واليوم اللي هتمم فرحي فيه “يـوساب” و “مـارينا” يكتبوا عقد علشان لو هتعوز تكمل في الجامعة وهو يساعدها يبقى دا حقه من غير ما حد يتكلم، وكدا عداني العيب، أما بقى حتة ضربه ليهم والاستهزاء بيهم دي أنا مش قابلها، مفيش أب بيعاير عياله بواجبات مفروضة عليه، هو مش بيشفق عليهم، دا حقهم منه وهو مُلزم يديه ليهم.
أرشقه “جـابر” بنظرات نارية جعلت “بـيشوي” يُزيد تحديه له بعينيه بينما “يـوساب” فلجأ للتعقل حينما قال بثباتٍ:
_بص يا عم “مَـلاك” أنا معنديش مشكلة إن أي أب يدير بيته بالطريقة اللي هو عاوزها، بس أهم حاجة يحترم رغبة الناس اللي عايشين معاه، يحترم إنهم ليهم طلبات ورغبات هما كمان ومحدش يقدر يقلل منهم، عم “جابر” بيحبهم ودي حاجة مفروغ منها محدش هيقدر يكدبها، بس حبه ليهم بيظهر غلط، وأنا بوعده والله بنته أمانة في رقبتي ومستحيل أقبل أن مراتي تقاطع أبوها، فأنا بقوله يقبل مساعدتي والحال دا يتصلح بشوية حنية منه على أهل بيته، يتكلم معاهم بالهدوء ويعرض عليهم اللي هو عاوزه وهما يناقشوه، مش صعبة والله، وممكن يجرب النهاردة وهما جوة أهم، خليه يفاتحهم في الكلام ويشوف رد فعلهم.
وافقه الجميع في الحديث ولجئوا إلى هُدنةٍ بينهم ووافق “جـابر” على شروط “بيشوي” لكنه شرط أن طوال هذا الشهر بناته وأسرته يخضعن له وحده، ونظرًا لتواجد “مـلاك” معهن وافق البقية على حديثه، أما “يـوساب” فقرر أن يحاول هو معه في مرةٍ غير هذه تكون أكثر هدوءًا..
نزلوا من البيت بعد الاتفاق على كل شيءٍ وحينها ودعهم “يـوساب” ورحل ورحل خلفه “عبدالقادر” بينما ظل الرفيقين مع بعضهما يسيران معًا حتى وصل “بـيشوي” لبنايته فقال بنبرةٍ هادئة بعدما زفر بقوةٍ:
_تسلم يا “أيـهم” معلش تعبك معايا بس يا رب المرة دي يلتزم ويحترم نفسه ويصدق في كلامه، علشان أنا حاسس إنه أكيد هيقرفني طول الشهر دا، على العموم روح أنتَ شوف حالك وشوف اللي وراك إيه علشان فرح “أيـوب” دا اللي هيتم في معاده.
أومأ له رفيقه وكاد أن يتحرك لكن “أبـانوب” خرج من البناية ورحب بهما وصافحهما وما إن سأله خاله عن سبب نزوله جاوبه بنبرةٍ ضاحكة:
_تيتة أدتني فلوس وقالت أنزل أجيب لينا كلنا أيس كريم وعصير كوكتيل، أجيبلك معانا يا خالو؟.
عض “بـيشوي” فوق شفته غيظًا منهم جميعًا فيما ضحك “أيـهم” ثم تحرك مع الصغير نحو محل البقالة وحينها قرر أن يسأله باهتمامٍ عن سبب حزن ابنه حيث يعلم أن هو أقرب الناس إليه وقد أتاه الجواب صريحًا بقوله:
_بصراحة هو مكانش عاوز يقولك، بس أنا شوفته يومها وهو زعلان أوي ولما بنقعد مع بعض بيكون زعلان كأنه واحد كبير حتى مش عاوز يلعب معايا وأنا بطلت ألعب أنا كمان، بس هو وأنا كنا بنلعب بالعجل وعدينا من شارع طنط “أمـاني” وساعتها لقينا ستات بتزغرط وهي لابسة فستان ودي خطوبتها، هو وقف زعلان ساعتها علشان شافها فرحانة عادي وهي علطول كانت بتخليه زعلان، وقالي كمان إن أنتَ علطول بتخليه مبسوط وطنط “نهال” كمان بس هي كانت علطول بتخليه زعلان، ومش عاوزها تكون مامته.
تنهد “أيـهم” بثقلٍ ثم أومأ موافقًا وقد أرتاح عن السابق لمعرفته سبب حزن ابنه، فهو حاليًا فهم وأدرك سبب هذا الحزن والوجوم الذي حل على وجه الصغير، هي لها كامل الحق والحرية أن تفعل ما تشاء لكن كزوجةٍ، وإنما كأمٍ على الأقل كانت تحاول لأجل ابنها ولو مراتٍ قليلة لكي تثبت له أنها أمه، وقع في صراعٍ من التفكير وقد حسم أمره أن يتحدث مع ابنه في هذا الشأن قبل أن يتركه للأفكار تبتلعه.
__________________________________
<“لا أحد يعلم أين هو الخير تحديدًا، وفر طاقة البحث”>
لا أحد في البشر يعلم أين يكون الخير تحديدًا لكننا دومًا نسعى لكي نكون آمنين غير خائفين، نسير على العمى دون التطلع للأمام وخاصةً لما ينتظرنا، نحن دومًا نسير فقط بغير هوادة لأجل أشياءٍ لم تُكتب لنا منذ البداية لكننا نحاول.
بعد مرور سبع أيامٍ..
بدأت الأوضاع تهدأ عن السابق قليلًا للجميع وكأنها هُدنة ودية من الأيام، وأكثر الأشياء بها فرحًا هو خروج “أيـوب” للمسجد حتى يأم بالمصليين منذ يومين، كانت حالته رغم صعوبتها جسديًا وعضويًا إلا أنه استعاد عافيته النفسية بعودته للمسجد ورفع الآذان من جديد، وكما المعتاد لم تتركه “قـمر” بل أكملت رعايته وظلت معه وكانت هي أول الداعمين له ولخروجه من البيت..
في الصباح تجهزت “آيـات” للرحيل من البيت بعد إطمئنانها على شقيقها وعلى الجميع وخاصةً أن “أيـوب” هو من ألح عليها بالرحيل من هنا لكي تكون مع زوجها الذي لم يتحدث عن غيابها من بيته قرابة العشر أيام، وقد أتى “تَـيام” بسيارته وأخذها من بيتها وحينها شكره “أيـوب” ممتنًا بقوله:
_كتر ألف خيرك إنك صبرت كل دا، بس أنا عارف إنك ابن أصول ومستحيل تتكلم ولا تضايق، أمانتك رجعتلك أهيه بس خلي بالك منها وحطها في عينك مش عاوزك تزعلها، مع أني متأكد إنك مستحيل تزعلها ولا تضايقها حتى، شكرًا.
ابتسم له “تَـيام” ثم ضمه وطمئنه بحديثه على شقيقته التي أقتربت من “أيـوب” وعانقته ثم قالت بنبرةٍ هادئة وهي تمسح على ظهره:
_خلي بالك من نفسك بالله عليك، بلاش تتحرك كتير وكفاية عليك المسجد والبيت بس، سيب الشغل وكل حاجة لوقت تاني، وكفاية مناقرة مع “قـمر” بقيتوا قط وفار أنتوا الاتنين.
ضحك مُرغمًا حينما تذكر القطة المشاكسة التي جعلت البيت يشهد على شخصٍ جديدٍ به بعدما عاش طوال عمره هادئًا ومهذبًا أمام الجميع، وما إن خرج من شروده أومأ لها موافقًا ثم أكد على تنفيذ كل شيءٍ طلبته منه، بينما هي تحركت مع زوجها الذي قبض على كفها وما إن تحرك “أيـوب” التفت لها يخبرها بنبرةٍ ضاحكة:
_حلو شهر العسل اللي قضيناه مع أهالينا دا، وحشتيني يا “آيـات” وشقتنا مش حلوة وأنتِ مش فيها، ضلمة ومملة أوي، أنا عرفت قيمتك بدري بدري أوي.
ضحكت هي على طريقته ثم قامت بضمه فجأةً حتى تيبس جسده لوهلةٍ بينما هي قالت بنبرةٍ خافتة في أذنه:
_وأنتَ كمان وحشتني أوي.
شدد ضمته لها يمسح فوق ظهرها ثم أبتعد عنها وأشار له أن تسير معه، بينما في وكالة “عبدالقادر” جلس “مُـحي” في إنتظار شقيقه لكي يعود معهما للبيت بعدما وهب لنفسه نزهة قصيرة ليخرج من الأجواء المرضية التي يعيش بها، وقد صدح صوت هاتفه برقم “إسماعيل” فتحرك لكي يجاوب على المكالمة خارج الوكالة، كان يضع لاصقًا طبيًا فوق جبينه من جهة اليسار ووضع ذراعه الأيسر في الحامل الطبي حتى لا يتورم كفه، أما قدمه فحررها من قيدها الطبي..
وقف يتحدث مع رفيقه حتى ظهرت “جـنة” أمامه بعدما حاول طوال الأسبوع المنصرم صرفها عن رأسهِ وحاول أن يُبعدها عن تفكيره لكنها أتت لتوها تفاجئه وتضرب كل شيءٍ بعرض الحائط بظهورها أمام عينيه، وقد دمدم قلبه فرحًا كأنه والد أحد الأسرىٰ ورأى حريته نصب عينيه وحينها تحرك دونًا عن رغبته ووقف أمامها حتى تراجعت هي بخوفٍ فوجدته يهتف بثباتٍ:
_أنا آسف بس مش قصدي أخضك.
رفعت عينيها الخضراوتين وياليتها ما فعلت هذا، بنظرةٍ واحدة فقط نسىٰ كل شيءٍ كان يُفكر به، طوال أيام عمره يسمع عن خطر السحر الأسود لكن لما يذكر أحدهم خطر السحر الأخضر على القلوب؟ عيناها تطيح بعقله بعيدًا فيصبح أمامها مجذوبًا، ثم تسرق قلبه فيصبح أسيرًا لها، ثبت رُماديتيه عليها حتى شعرت هي بخطورة وقوفها أمامه فطفقت أن تتحرك لكنه أوقفها حينما أخرج الحديث بصراحةٍ لم تعدها طوال حياتها من أحدٍ:
_أنا كلامك الأخير كله فهمته وأتاكدت منه، وفهمت قصدك كان إيه ساعتها كمان، وعلشان كدا أنا بحاول أهو أغير كل حاجة فيا، مش هقبل غير إني أكون واحدة على الأقل مبطل كل حاجة تخليه يقرف من نفسه، والأهم إني أكون واحدة يستاهلك يا “جـنة” ومن دلوقتي بقولك استنيني علشان قريب هاجيلك أنتِ بالذات وتكملي معايا طريقي وتشدي بايدي قبل ما أضيع، ويوم ما أنجح وأتخرج السنة دي أنا هكافيء نفسي بيكِ.
جحظت عيناها للخارج وتثبت بؤبؤاها عن الحركة وشعرت أن الطير يُحلق فوق رأسها، لقد تلقت جُرعة كبيرة من الصراحة المُفرطة منه لكنها لم ترضخ، فهي من الأساس مُتمردة، لذلك شعرت بالإنفعال أمامه وقالت بحدةٍ أصابها التوتر:
_لو سمحت كدا ميصحش، وعيب أوي لا دينيًا ولا أخلاقيًا ينفع كلام حضرتك معايا، ولو حصل وجيت تتقدم مستحيل أوافق عليك، أنا أصلًا غلطانة علشان وجهت ليك كلام من الأول، عن إذنك يا دكتور “مُـحي” شكلك للأسف غلطان.
قبل أن تتحرك أوقفها حينما اعترض طريقها ثم قال بتأكيدٍ يتكيء به على أحرف كلماته وقد تعمد ذلك لكي يُصيب هدفه من كلماته:
_ودي أول مرة أكون مش غلطان في حاجة عاوزها وهاويها، مش أول درجات الحب هو الهوىٰ؟ اعتبريني هاويكِ أنتِ وأوعدك هييجي يوم وأكون الراجل اللي يستاهلك ويستاهل وجودك في حياته، أنا عاوز أكون واحد يرضيكِ ويخليكِ تقبليه في حياتك يا “جـنة”، عاوز أبقى الراجل اللي يستاهل يبقى ليكِ.
لا تعلم هل هو يُتقن التمثيل لتلك الدرجة أم أنه كان صادقًا بشكلٍ لم تعهده في السابق، قرع قلبها بعنفٍ وتورد وجهها أمامه لكنها حسمت أمرها وقالت بثباتٍ بعدما أشاحت بعينيها بعيدًا عنه:
_الأهم من إنك ترضيني سواء أنا أو غيري من البشر إنك ترضي ربنا وتقرب منه، في النهاية كلنا هنقف لوحدنا قدام ربنا محدش بيروح مع حد، عن إذنك وياريت اللي حصل دا ميتكررش تاني، عن إذنك.
تركته محله ثم تحركت من أمامه عنوةً عن جسدها العنيد الذى أبى التحرك وعنوةً عن قلبها الخائن الذي ييدو أنه مال له وكاد أن يسعد بالمزيد من كلماته، بينما العقل لطالما كان قويًا وصاحب سُلطة حُرة وإرادة فلن يتحكم أحدهم في أفعاله غيره هو وفقط، أما هو فوقف خلفها يشعر الأمل يقل تدريجيًا لكنه لن ييأس لطالما أصر أن يُقيم الحرب، سيقيمها لأجلها هي حتى وإن كانت الحرب ضد نفسه.
__________________________________
<“لولا أشباه الروح لكانت الروح فقدت روحها”>
لولا من يشبهوننا من المؤكد ستأكلنا الوحدة حتى تجعلنا فُتاتًا لم نعد ننفع بشيءٍ، فالروح إذا وجدت من يُشبهها في نقائها وأحياها من بعد إنطفائها من المؤكد ستترمم كما البناء وتصبح كما الملجأ لكل من أراد أن يحتمي بها.
كُلما تقدم الوقت بها تزايد التعب أكثر عن السابق ولولا وجود داعمها الأول معها من المؤكد كانت ستُجن، الألم العضوي أصبح لا يُحتمل وجسدها بأكمله يعاني من الألم وهي تنتظر إنتهاء فترة وهنٍ على وهنٍ، شعرت بالتقيؤ يداهم معدتها وقد ازداد تورم قدميها وولجت المرحاض ترتمي فيه بتعبٍ وقد تحرك “إيـهاب” خلفها ركضًا للمرحاض فوجدها تبكي بضعفٍ وهي تستند على الحوض الرُخامي وهتفت بصوتٍ واهنٍ:
_أخرج يا “إيـهاب” وروح كمل لبسك.
تحرك هو نحوها ثم وقف خلفها يدعم ثقل جسدها ثم ملأ إحدىٰ راحتيه بالمياه ثم مسح على وجهها ومقدمة خصلاتها وهي تتنفس بصوتٍ مُتقطعٍ وتشهق بتقطعٍ بين الحين والآخر، وقد حملها هو على ذراعيه ثم وضعها فوق الفراش وابتعد عنها ثم لثم جبينها وسألها باهتمامٍ:
_أنتِ كويسة يا “سـمارة”؟ ننزل نروح للدكتور.
حركت رأسها نفيًا ثم حاولت أن ترفع ذراعيها لكي تقوم بجمع خصلاتها وحينها تحرك هو ثم أمسك فرشاة الشعر وقام بجمع خصلاتها وبدأ يقوم بتمشيطهم لها وهي تجلس بصمتٍ ثم قالت بصوتٍ خافتٍ بعدما استعادت جزءًا من ثباتها:
_خلاص أنا بقيت كويسة، روح كمل لبسك أنا كاوية البدلة السودا ليك وجاهزة، روح يلا علشان الحج ميزعلش و متتأخرش على “مُـنذر” دول مستنيينك تروح معاهم.
لاحظ هو شحوب وجهها واصفرار ملامحها وكأنها زهرة ذبلت وتوقف راعيها عن السقايةِ لها فقرر أن يكمل دوره في رعايتها لذا تحرك وجلس بجوارها ثم ضمها له وقال بصوتٍ عميقٍ تغلغل لسمعها وتوغل لقلبها:
_مش مهم، المهم أنتِ أتطمن عليكِ وأتأكد إنك بخير، هما هيروحوا يتقدموا ويقعدوا مع قرايبها والحج معاه، ومعاهم “إسماعيل” و “تَـيام” و “مُـحي” يعني يسدوا عين الشمس، بعدين مش هييجوا أهم منك عندي يعني يا عمنا.
ابتسمت هي له وسألته بمزاحٍ اصطبغ بدلالها عليه:
_يعني هتسيبهم علشاني؟.
ابتسم بعينيه لها ثم مسح على ذراعها كأنها طفلته المُدللة ثم قال بنبرةٍ هادئة أعربت عن صدقه:؟
_وأسيب الدنيا كلها علشانك كمان يا “سـمارة” هما يعني دلوقتي أهم منك ومن صحتك؟ هعتبرها أجازة مرضي علشان وحشتيني بصراحة ووحشني كلامك العشوائي الغير مرتب وغير مهذب، ولا إيـه؟.
ضحكت هي رغمًا عنها ثم مسحت على كتفه وقالت بنبرةٍ ضاحكة يتقطر منها الدلال الذي لم ينفك عنها ولا حتى تتخلى هي عنه رغم تعبها:
_طب والله وحشتني أيام سي “إيـهاب” قبل ما يكون وغـد، بس أقولك؟ برضه أنتَ أحسن في الدنيا كلها يا “إيـهاب”، خلاص أنا فوقت وممكن أنام شوية روح معاهم علشان ميكونوش لوحدهم من غيرك.
رفض وأصر على الرفض ثم قرر أن يبقى بجوارها وضمها له وظل برفقتها بعدما أخبر” نَـعيم” عن عدم قدرته على المجيء له والآخر أخبره أنه أحسن صُنعًا ببقاءه مع زوجته، أما “إيـهاب” فرآها فُرصةً لكي يبقى بجوارها ويُطمئن نفسه عليها، وهي كانت تشعر أنها كما المُهرة الصغيرة التي مرضت وقرر خَيْالها أن يجلس بقربها ولا يكترث بغيرها في هذا العالم.
في الأسفل تجهز “إسماعيل” واستعد للذهاب معهم وقد كان يتحدث مع زوجته عبر الهاتف والأخرىٰ كعادتها تتحدث وتُشاكس وما إن أرسل لها صورته بالحُلة الرُمادية السوداء وجدها ترسل لها رسالة مفداها:
_متأكد إن مفيش بنات وستات هناك؟.
ضحك رغمًا عنه ثم فتح الرسائل الصوتية وأرسل لها رسالةً صوتية بنبرةٍ ضاحكة تعبر عن السعادة ومفداها:
_لو فيه أنا رايح وشايل عيوني من مكانهم علشان ميشوفوش غيرك يا “ضُـحى” بعدين خلاص أنتِ مكتوبة على اسمي وأنا على اسمك يبقى ليه بقى تشغلي بالك بحد؟ يلا سلام عقبال ما أشوفك بالفستان الأبيض كدا يا رب.
أغلق معها ثم ودعها وخرج من غرفته وذهب مع البقية بعدما أنقسموا في سيارتين ومعهم “يـوسف” أيضًا الذي أتى ورافق البقية لكي يكون كما الوسيط بين الطرفين، ورغم ذلك لم يُفصح عن تعجبه أو دهشته أو حيرته من تلك الخِطبة، وإنما قرر أن يساعد الطرفين إن تطلب الأمر ذلك.
وصلوا لمنطقة وسط البلد ثم نزلوا بوقارٍ وهيبةٍ و”نَـعيم” كان يتقدمهم وبجانبه سار “مُـنذر” وبجواره من الجهة الأخرى أتت “آيـات” مع زوجها بعدما أصر على قدومها “نَـعيم” بذاته مُقررًا أنها ابنته وأكثر ويتوجب عليها أن تكون معهم ولولا حالة “سمـارة” من المؤكد كانت ستحضر هي الأخرىٰ.
ولجوا البيت يتبادلون الترحيب والمُصافحات مع بعضهم بوقارٍ وأدبٍ دون مُبالغةٍ وقد تلاقى بها “مُـنذر” بعد غياب دام لأيامٍ أنقطعت فيها عنه تمامًا، واليوم السُبل تجمعه بها في لقاءٍ تمنى أن يتكرر أو يبقى كثيرًا بغير انقطاعٍ عنه، أما هي فوقفت أمامه بخجلٍ وتوترٍ، كانت غُرتها ساقطة فوق جبينها وحررت خصلاتها السوداء، وارتدت فستانًا باللون الأسود يتناسب مع جسدها الممشوق ووصل لنهاية قدميها، كانت رقيقة في طلتها وبريئة في هيئتها حتى تمنى أن يكون شخصًا كما غيره يحق له أن يمازح ويغازل ويضحك لكنه لم يعلم كيف السبيل ولم يجد من يدله.
جلسوا مع بعضهم ومعهم أفراد عائلتها الذين بدوا غير مُرحبين بتلك الخطبة وكأنهم يقفون بالمرصاد لهم حتى تحدث ابن عمها يُلقي حديثه الذي شابه قُنبلة وقتية:
_أنا كنت خاطب “فُـلة” قبل كدا وحاليًا هي بنت عمي وزي أختي تمام، يعني مش أي حد والسلام نسلمهاله، وأظن دي أصول محدش يقدر يعديها ولا يغلط فيها، مش كدا يا حج؟.
تضايقت هي وشعرت أن النيران تستولى على قلبها وهي تجلس على المقعد المجاور لـ “مُـنذر” فمال عليها يسألها بنبرةٍ أقرب للهمس حتى لا ينتبه له أحدهم:
_هو مين الكلب اللي بيتكلم دا؟.
كتمت ضحكتها وهتفت بنبرةٍ خافتة تجاوبه:
_دا “إسلام” ابن عمي بس عيل غلس زي اللي خلفه، كدا أنتَ بتظلم الكلب لأن الكلب مش غدار ودا دمه كله غدر وإنسان مقرف وخاين، ولو عاوز تعرف حاجة كنا قاريين فاتحة بس البيه كان عارف عليا كتير، وأنا أصلًا كنت موافقة علشان بابا.
جاوبته هي وأرضت فضوله وقد أومأ لها موافقًا فانتبه على صوت عمه وهو يقول بنبرةٍ جامدة كأنه يعبر عن استياءه:
_وأنا هعتبرك لسه بتتعرف أنا مين وعيالي مين، إحنا مش أي حـد ولو متعرفناش تقدر تنزل نزلة السمان واسألهم هناك مين هو الحج “نَـعيم الحُصري” وهتلاقي ألف مين يدلك، وكونك كنت خاطبها فدي نقطة ملهاش أي لازمة وكلام مفروغ منه أصلًا، تمام؟ نرجع بقى لموضوعنا، ها يا دكتور “جـواد”؟ موافق على “مُـنذر” ابن أخويا؟.
قصد شقيقها بحديثه وقد وزع “جـواد” نظراته بين الجميع ثم انتبه للآخر ونطق مُرحبًا بهذا العرض كثيرًا:
_شرف ليا يا حج وأنا بعتبرك في مقام والدي ربنا يرحمه ويبارك في عمرك وصحتك، وهي بنتك أكيد وأنا واثق إنك لو هتختار لبنتك أكيد مش هتختار ليها حاجة تتعبها، أنا موافق ومتأكد إنها موافقة كمان.
رد عليه بذلك وقد أتى رد “نَـعيم” بثباتٍ:
_تمام، النهاردة هيلبسها الدبلة وبعد شهر من دلوقتي يكتبوا الكتاب ويعملوا الفرح علشان الخطوبة لما بتطول بتمسخ وأنا راجل دُغري مبحبش الحاجة اللي بتمسخ.
حديثه صدم الجميع لكنه أصدر القرار كمن يصدر الفرمان أمام الجميع وحينها تواصلت المُقل مع بعضها بين “فُـلة” و “مُـنذر” وكلاهما يُطالع الآخر بصمتٍ لكن الأعين كان لها رأيًا غير هذا حيثُ فاضت بكل حديثٍ بين الرجاء والأمل والحياة وما بين الخوف والقلق والإضطراب وفي تلك اللحظة كان ذنب كليهما للآخر مغفورًا في عيني الآخر وكأن بيت الشعر هذا كُتب لأجلهما في سابق الزمن لتنطقه العين:
“وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ
جاءت محاسنه بألفِ شفيع”
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)
تم
ألف شكر