روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والتاسع والأربعون 149 بقلم شمس محمد

موقع كتابك في سطور

رواية غوثهم الفصل المائة والتاسع والأربعون 149 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والتاسع والأربعون

رواية غوثهم البارت المائة والتاسع والأربعون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والتاسعة والأربعون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الرابع وستون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
لا إله إلا الله .. لا إله إلا الله ..
لا إله إلا الله ربُ العالمين ..
لا إله إلا الله الملك الحق المبين ..
لا إله إلا الله لا نعبدُ إلا إياه ..
و لا نرجو في الكونِ ربًا سواه ..
لا مُعطيَ لما منع و لا مانع لما أعطى
ندعوه مؤمنين مخلصين له الدين
_”نصر الدين طوبار”
__________________________________
والروح للروح سُقيا من بعد ظمأٍ..
فالروح إذا أحبت سقت من عطشٍ، وإذا آوت داوت من بعد مرضٍ، وإذا صفت؛ رأت من بعد عمىٰ، وكأن الروح عينٌ والروح لها بصيرة، أما أنا فأخشى أن أفقد روحي التي وجدتُها فيكم، أخشى أن أعود كما كُنت حائرًا وأخشى أن أفقد نفسي التي لم أجدها إلا بين أيديكم، رُبما أتيت مُتأخرًا لكني ما إن عُدت لم أجد نفسي الغائبة إلا في عينيكم أنتِ وقلبك، رُبما كنتُ في الغيابِ عليلًا، لكن في حضوركم وجدتُ الشفاء، فمن غيركم أنا لم أكن أنا، وفي حضوركم لم أجد غيري أنا، أنا أنتم وأنتم أنا، وكل العالم لا يسعني لو لم يكن بجواركم هنا، قبل رؤياكم كل المدائن طردتني، وكل البُلدان غربتني، ولم أشعر بالأُلفة إلا حينما وطأت بقدمي أرضكم، وحلقت بجناحيي في سماكم، رُبما عيني لم تسبق لها الرؤية؛ لكن قلبي قد سبق ورآكم، فلأجلكم القلب قد صفا، وعن مساويء العالم قد عفا، ولأجل الحياة بجواركم هفا، وأنا… أنا بكلي ما في لا أرغب سِوى في ذلك الذي وجدته معكم يوم أن أتيت إليكم في موطنكم هُنا.
<“رُبما كانت بدايتي خاطئة، لكني أنهيتها بما يتوجب”>
نقطة البدء رُبما منذ الأول كانت خاطئةً..
لكن هل كل خطأٍ غير مقبولٍ إصلاحه؟ رُبما هي النسب المتفارقة ولكل شيءٍ نظيره في خطٍ موازٍ يتوجب على المرء أن ينتقل إليه، فلا ضير من خطأ يُمكن إصلاحه لأجل تحويل المسار إلى الخط الصحيح..
في طرفة عينٍ صار كل شيءٍ، أنقلبت الأوضاع وتغيرت المسارات وأصبح كل شيءٍ على غير عُقابه، هجم أفراد الشُرطة على المقر الذي تم الإبلاغ عنه سلفًا ومن وسط الجمع المُلقى عليه القبض كان “سـراج” الذي واجه عيني حماه بخزيٍ وهو يقف بمثل تلك الطريقة المُخزية ويوضع بنفس السيارة ذاتها مع المُجرمين الذين سعوا لبيع الماضي والقضاء على المستقبل خلال لحظة طمعٍ في حاضرهم..
وقف “عـادل” يراقبه ويراقب التحصل على القطع الأثرية من قِبل رجال الشرطة ومحاوطة المكان بحراسةٍ فائقة غطت على كل شبرٍ في طرفة عينٍ، وهذا هو الأمر الذي استرعى سخرية ملامح “عـادل” بحزنٍ دفينٍ؛ فهل لكي يرعى المرء حقه كان يتوجب أن يتعرض لسرقته؟ لمَّ لا تتم الحماية منذ البداية قبل أن يحدث مالم يُحمد عقباه؟.
تابع بعينيه السيارة التي تحركت بالرجال ومعهم “سـراج” أيضًا وفي تلك اللحظة أتى أحد الضُباط المسئوليين عن القضية ووقف خلف “عـادل” يسأله باهتمامٍ:
_ها يا “عـادل” باشا اتطمنت بنفسك إن كل حاجة تمام؟.
التفت له الآخر يشمله بنظرةٍ واحدة فقط لكن أثرها لا يُمح وكأنه يتهمه بالتقصير أو شيءٍ من هذا القبيل، وما أن استدرك الوضع تنهد بثقلٍ ثم قال بثباتٍ تلبس وشاحه في طرفة عينٍ:
_أنا مش هتأكد إن كل حاجة تمام غير لما أتطمن على “سـراج” يا “حكيم” وزي ما أكدت عليك ياريت ميتحطش معاهم في نفس المكان، خليهم بعيد عنه أحسن علشان محدش يقرب منه، خلوه بعيد ومحدش ليه علاقة بيه.
تعجب الآخر من طريقته واندفاعه فسأله بنبرةٍ شبه تهكمية يجيد دومًا أصحاب المناصب التفوه بها جيدًا في مثل ذي الأوضاع:
_متقلقش، البيه هيتحط في عينينا، بعدين سيادتك مش طايقنا كدا ليه كأننا لينا يد؟ لو مش واخد جوز بنتك هو اللي ليه يد في الليلة دي كلها، مش إحنا خالص على فكرة، ومع ذلك بنسمع كلامك في كل حاجة سيادتك عاوزها.
استشاط “عـادل” بغيظٍ تفاقم بداخله بسبب طريقة تحدث الآخر معه ثم أشار بإصبعه نحو البيت ورفع صوته لعله يعبر عن صوت الكرامة المهدورة في صورة بعض القطع الأثرية:
_مــين هـنا مش مـقصر يا “حـكيم” !! فين إحنا من البداية، فين شغل الحكومة؟ فين المسئولين اللي ساكتين وهما شايفين تاريخهم وأصلهم بيتباع علشان بكرة ييجي اللي ملهوش أصل يقولك دا ملكي، وأنتَ وأنا وغيرنا وقتها هنسكت ونحط جزمة قديمة في جوفنا علشان هو اللي هيكون معاه الدليل، أنتَ واللي زيك وغيركم بتتحركوا بس يوم ما الفاس تقع في الراس، غير كدا الدنيا زي الفل، كلنا مقصرين يا بني، مقصرين ويا رب تعدي على خير…
أنهى حديثه ثم أولاه ظهره يُغلق عينيه بقهرٍ وكمدٍ، ليس قهرًا على أيامهِ، وإنما القهر على أيامٍ مجهولة لم تُشيء بشيءٍ غير كل سيءٍ؛ والأمل وحده في الخالق الرحيم أن يرأف بنا قبل أن يأتِ الطوفان ويبتلع معه الكل على حد سواءٍ بغير رحمةٍ…
مرت ساعة بالتقريب وصل خلالها “سـراج” قسم الشرطة مرفوع الرأسِ بشموخٍ بما يتنافى مع هيئة قدومه حيث الأصفاد الحديدية التي كبلته ومحاذاته لبعض المُجرمين، ووقوفه في صفٍ خلف وأمام رجالٍ معدومي الضمير، وقد ومض وميضٌ وخبأ ثم عاد يلتمع في ذاكرته وصوت حماه يتردد في آخر لقاءٍ:
_متقلقش، أنا مش هسيبك، بس لازم يتقبض عليك معاهم علشان محدش منهم يأذيك ويفتكر إنك أنتَ اللي مبلغ عنهم، وبمجرد مرواحهم على النيابة أنتَ هتخرج برة، هي ليلة واحدة بس هتباتها هناك وهتخرج تاني، مش هضرك أكيد.
حينها ولأول مرةٍ يساوره هذا الكم من الخوف فازدرد لُعابه ثم سأله بتيهٍ وكأنه فقد نفسه من نفسه ولم يعد بقادرٍ أن يركض خلفها للبحث عنها:
_طب و “نـور”؟ أنا مش عاوز أشوف في عينيها قهرة مني ولا حتى تفهمني غلط، بنتك لو شافت حاجة عليا المرة دي مش هتصدقني ولا هتثق فيا تاني، أنا ما صدقت أعيش حياة هادية شوية من غير وجع دماغ وصداع.
حينها ربت فوق كتفه وقال يطمئنه بما يمسح فوق فؤاده المُتعب بألمٍ بالغٍ استشفه هو من خلال عينيه الغائرتين:
_سيب موضوع مراتك ليا أنا، دي مفيش أطيب منها ولا في سذاجتها عامةً وأنا هفهمها كل حاجة، عاوزك بس تخلي بالك من كل خطواتك يا “سـراج” علشان مفيش حاجة تأذيك وأنتَ وسطهم، وصدقني أنتَ بتعمل أصح حاجة في حياتك، أعتبر دا تكفير ذنوب عن اللي عملته قبل كدا، متقلقش، أنا معاك.
حينها بان القلق في النظرات والملامح، ظهر الضعف عليه كأنه فتى صغير العُمر يختبر وفاة والديه لتوهِ فلم يكن أمام الآخر إلا أن أقترب منه ثم عانقه بكلا ذراعيه يبث نفسه أمانًا بعدما عاث بها الفساد، وحينها ضمه هو بكل قوته وألقى نفسه بين ذراعيه بصمتٍ تام، وفقط تشبث بلحظة الأمان..
خرج “سـراج” على صوت رجال الشُرطة يأمرون بنقلهم لغرفة الحجز الأسمنتية، وقد أتى واحدٌ يقف بمحاذاته ثم أقترب منه يهمس في أذنه بصوتٍ خافتٍ:
_أوضة البكايتة محجوزة علشانك، مش أنتَ “سـراج”؟.
أومأ له موافقًا بلهفةٍ فأشار له الآخر أن يتريث ثم وقف بجواره حتى تم نقل البقية لداخل الحجز وقبل أن يتبعهم “سـراج” تم نقله هو لمكانٍ آخر _سبق وأخبر عنه حماه_ كان يتناسب معه ومع المشاعر المتضاربة التي تملأ قلبه ووجده حتى ظمأت روحه للحظة أمانٍ..
__________________________________
<“منذ البداية التي لم تلِق بك كان يتوجب عليك الرحيل”>
كل شيءٍ يتضح من طرفة العين الأولى…
فماذا لو لم يتضح لنا إلا أن هذا الشيء لم يلق بنا، وماذا لو ظهر لنا أننا نفني الوقت في الطريق الخاطيء، وماذا لو كانت البدايات ذاتها تُخبرنا أن الرحيل هو أسمى الحلول وأعلاها قدرًا لشأننا؟ رُبما كان يتوجب أن نرحل منذ لمحة الظلام الأولى، لكن يبدو أننا أملنا في ظهور شمسٍ لم تُشرق بعد..
أتى وجلس ونال على الترحيب به مع كلتيهما وحصل على المُباركات والتهنئات من عمته وزوجة عمه التي لم ترد أن تشغله هو بما يُحزنها هي، لكنه لم يكن “يـوسف” لو لم يحمل همومًا أكبر من طاقته فقط لكونه مسئولًا عن ذويه وطباعه وخصاله بأكملها تملؤها الشهامة والمروءة، وقد ارتشف من قهوته رشفة قوية عقبها بسؤاله لها ممعنًا بنظراته في عينيها:
_وأخرتها يا “مادلين” طيب؟ ناوية على إيـه تاني؟.
تنهدت هي بثقلٍ ثم فركت كفيها معًا وهتفت بتيهٍ وهي حقًا لا تعلم ما يتوجب عليها فعله في خطواتها القادمة التي أنذرتها بالتعثر في المنتصف:
_صدقني مش عارفة، أنا بقيت زي المضروبة فوق راسي ومش عارفة أبدأ منين ولا المفروض أعمل إيه، معقول كل اللي بينا دا هو مقدروش ولا حتى أفتكرلي الحلو؟ شاف الوحش بس علشان هو أناني ومهما حصل مش هيتغير، بعد كل دا يرميني برة بيته كأني واحدة من الشارع؟.
تهدج صوتها بمرافقةٍ لحالها، وأتضحت العَبرات بمواساةٍ في عينيها؛ فكان بكاؤها مِدرارًا جعل “يـوسف” يترك موضعه ثم تحرك نحوها وجلس فوق الطاولة المقابلة لها وهتف بنبرةٍ هادئة تتنافى مع خصاله القوية العصيبة:
_طب أنتِ في حِسبتك ترجعيله تاني؟.
داهمها بسؤاله الغير متوقع خاصةً مع رقة نبرته التي تتنافى مع مشاعره تجاه هوية من يستفسر عن مصيرهما معًا، فكان الرد منها بتوسعٍ في عينيها وحركة رأسها التي استقرت عليه ثم أخبرته بإصرارٍ بالغٍ:
_مستحيل، مش هقدر أرجع لواحد هان كرامتي ومد ايده عليا وطردني في نص الليل في الشارع وياريته حتى سابلي العربية أتحرك بيها، دا خد مني كل حاجة، ومفرقتش معاه بعدها، مش هكدب ولا أكون قليلة أصل بس في وقت من الأوقات كان هو كل حاجة ليا ومشوفتش حد حنين عليا زيه، بس لأ؛ هو راح ولا جيه ميتأمنش، غدار وطول ماهو مسلم لـ “سـامي” هيغرقوا بعض هما الاتنين، وآخر حاجة هكون باقية عليها في حياتي هي إني أرجع لواحد مش مقدرني كدا.
تنهد هو براحةٍ ثم اِفتر ثغره ببسمةٍ هادئة عقبها بقوله الذي استأنف القوة المرتبطة بحنكة عقلٍ لا يتوقف عن الفِكر:
_أنتِ صح طول عمرك، كنت واثق إنك عمرك ما تقبلي الضعف أو الذل حتى لو بتحبيه، علشان كدا بما إنك اخترتي تكوني قوية يبقى تكملي للآخر، أنتِ هترجعي الشركة من تاني تمسكيها أنتِ وتديري نصيبي، “عُـدي” و “رهـف” محتاجينك معاهم، والشركة من غيرك هتضيع، وجوزك شوكته محتاجة تتكسر بجد، ومش هيكسره غير قوتك ووقوفك على رجلك من تاني قدامه، متخليهوش يفتكر إنك كدا خلاص راحت عليكِ، لازم تقفي على رجلك من تاني، هو دا الحل الوحيد ومفيش غيره.
قام بعرقلة سير أفكارها بهجومه بافكاره عليها مما جعلها تتشتت في أمرها وقبل أن تسمح هي للإعتراض أن يهجم عليها، تدخل بقوةٍ عن ذي قبلٍ يقف بها بالمرصاد العتيد:
_مش هترفضي يا “مادلين” ومش هينفع ترفضي، لازم حقك يرجع وأنتِ بنفسك اللي ترجعيه، عاوزة هو وبنت “نزيه” يفتكروا إنك خسرتي خلاص؟ اسمعي مني، “عـاصم” ميكرهش قد اللي يشوف نفسه ويقويها بعيد عنه، وأنتِ برجوعك للشركة هو مش هيقدر يتكلم معاكِ، هترجعي وترفعي راسك من تاني وهعملك توكيل تتصرفي بيه زي ما أنتِ عاوزة هناك، وأكيد بخبرتك اللي أكتر مننا بكتير أنتِ هتقدري تسدي هناك، ومش عاوز رد منك دلوقتي، عاوزك تفكري وتحسيبيها براحتك، بس مصلحتك لازم تبقى رقم واحد على الكل، وأولهم اللي غدروا بيكِ.
حديثه كان مطرقةً هوت فوق رأسها بغير حسابٍ من جهتها حتى أصبحت كما الشريد العالق بين طريقين، ترغب كأنثى أصيبت بالطعن في كرامتها وعامود كبريائها بالضرب الغليظ لمن صفعها؛ حتى ازداد لهيب الانتقام في صدرها وأصبح حقها المسلوب هو أكثر ما تسعى لكي تسترده، وبين طريقٍ آخر تحتاج فيه السلام والهدوء بدلًا من أصوات الحروب القائمة في أيامها التي شهدت بأكملها خريفًا بدلًا من الربيع..
انتشلها من شرودها دخول “نـادر” الشقة بعدما قلقل المفتاح في مجراه، وقد ولج يحمل في يديه الحقائب المُعبأة بالحاجةِ التي يحتاجها البيت، وما إن وقع بصره على “يـوسف” ابتهج وجهه وسأله بتعجبٍ لذيذ:
_الباشمهندس بنفسه عندنا؟ طب وأسبوع العسل؟.
التفت له الآخر وهتف بشقاوةٍ لم تنفك عن طباعه:
_نفسي جزعت وقولت آجي أحدق عندكم، بس إيه دا بقينا ندخل شايلين طلبات البيت عادي كدا زي باقي الناس؟.
_متستعجلش يا حبيبي، كلها أيام ونلاقيك واقف تجيب فينو ولبن وأنتَ طالع، هنروح بعيد ليه، مش بعيد تكون هتجيب وأنتَ راجع دلوقتي.
هكذا ضحك له “نـادر” وهو يرد عليه، ثم اقترب يرحب به في عناقٍ دافيءٍ تفاجأ به “يـوسف” لكنه بادله إياه بحرارةٍ مماثلة وكأنه خجل أن يرده خائبًا خاوٍ للوفاضِ، وقد جلسوا سويًا وأتت “فـاتن” تُرحب بقدوم ابنها وهي تُلثم جبينه فسألها “يـوسف” بسخريةٍ:
_ما خلاص يا “فـاتن” هو عيل صغير؟ دا شحط قد الحيطة خليه يشتغل علشان عوده ينشف، وأنتَ سيبك منها علشان أمك دي هتضيعك وترجع تقول ياريت اللي جرى ما كان.
ضحكوا معًا على حديثه وهو أيضًا ودارت عدة أسئلة في إطار الإطمئنان والتأكد من سلامتهم جميعًا وقبل أن يرحل أشار لزوجة عمه يُذكرها بحديثه قائلًا:
_مش هفكرك تاني بكلامي، مستني منك رد علشان يأكد رد فعلك وزي ما قولتلك حقك لو هتجيبيه يبقى إنك تردي القلم عشرة ليه، ولبنت “نَزيه” اللي فاكرة إنها خسرتك كل حاجة وخليتك ضعيفة، دي بالذات لازم تخليها تتحسر على اللي فاتها كله.
تذكر “نـادر” ما قام بفعله وهيئتها وهي تبكي بقهرٍ وتتوسله بعينيها أن يرحمها من عذاب النظرات التي سلطها عليها لكي تطعنها في كبرياء أنوثتها ولوهلةٍ شعر بالانتصار لكونه رأى جزءًا مما سبق وتلقاه هو منها، الآن أصبحت خارج إطار كل الصور، وقام بطرد ذكرياتها من حساباته، بل وجرد قعر قلبه من أي أثرٍ لها وكأن سيرتها ما أن تُذكر أمامه يصيبه التقزز منها…
تابع رحيل “يـوسف” وأوصله للخارج حيث المصعد وقد أوقفه الآخر بلهفةٍ ما إن تذكر الأمر المتداول في كل مكانٍ:
_صح أنتَ شوفت الأخبار اللي تخص “حمزة” الله يرحمه؟ الناس كلها ملهاش سيرة غيره وبقى تريند من إمبارح، وكل مقالاته انتشرت وكل الأسماء اللي قالها اتذكرت كمان، حتى موضوع المستشفى اللي كنت فيها اتفتح، الدنيا كلها بتتكلم عنه وبيمجدوا في سيرته.
تبدلت ملامح “يـوسف” في طرفة عينٍ وعلا صوت أنفاسه المُضطربة خلف بعضها بحركاتٍ راكضة وبحث عن كلماتٍ ينطقها لكنه لم يجد، فرت الأبجديات وافتقر الكلمات ولم يكن أمام الآخر إلا أن يُخرج هاتفه ويضعه نصب عينيه ثم قال مُشيرًا لكل ما تم تدوينه:
_بص، الموضوع غريب وكأن حد مرتبله، بس الغريب بقى إن معقول بعد ٣ سنين حقه يرجع والناس كلها تعرف عنه بعدما عاش عمره كله وسط الناس مغمور بيدافع عن حقوقهم من سُكات؟ أنا قولت أنتَ عارف اللي فيها.
رفع عينيه من الهاتف وثبتهما على وجه “نـادر” وحرك رأسه نفيًا كدليلٍ على عدم إدراكه للأمر_ سابقًا_ بينما “نـادر” فتنهد بقوةٍ ثم قال بأسىٰ يشفق به على الجميع:
_ربنا يصبر “رهـف” ويقوي “عُـدي” علشان اللي حصل دا أكيد صعب عليهم، أنا كلمته وكنت هقابله بس لقيته مخنوق وقالي هيرتاح شوية وننزل، يمكن أفهم ماله.
كالعادة الصمت هو كل ما ينتج عنه، فقط صمت وخيبة أملٍ أصابته من جديد وكأن الموقف ركض نحو الذاكرة وأتى من عُمقها بكل ذكرىٰ فائتة عليه بشأن هذا الأمر، رحل وترك المكان وصورة “حـمزة” تومض وتخبو في عينيه؛ كأنه شبحٌ يساوره، وقف أسفل بنايته يطلق تنهيدة قوية، وقد أصابته رجفة في سائر الجسد تُنذره بنوبة غضبٍ على مشارف الإندلاع…
ولج شقته المُظلمة بهدوءٍ وأدرك من الصمت الدائر أن زوجته لم تفق بعد، لذا ولج المرحاض يتحمم لعل المياه تعبر داخله وتُطفيء النيران الموقدة فيه كأن جسده أصبح مرجلًا لكي تُضرم به نيرانٌ موصدة، أغمض عينيه أسفل المياه فوجد صورة “حـمزة” ضاحكًا وصورته حينما كان في خِطبته بجوار “رهـف” وتذكر كيف كانت أحلامه بأكملها بسيطة والعالم هو من استعصاها عليه..
قام بلف خصره بمنشفةٍ ثم وقف أمام المرآة يبحث بعينيه عن شخصٍ يعرفه ولم يجده، سأل بنظراته عن الماثل أمامه فلم يعرفه، حالة اعتراضية تعرض لها العقل كأنه يُنكر كل شيءٍ حوله حتى تلك الملامح التي يراها، وقد أخذته الذكرى معها لآخر المواقف الحية التي كانت بها روح الغائب حاضرةً حينما لامه في تقريعٍ بداخل المشفى الخاصة بالأمراض العقلية:
_”هو أنتَ مجنون بجد مش كلام بقى يا “يـوسف” وكل كلامك دا بيأكد إنك فقدت عقلك بجد، عاوز تسكت عن حقك وترضى بعمايلهم؟ شاب زيك في كل مؤهلاتك دي وذكائك اللي وصل في دراستك لمرحلة العبقرية عاوز يبقى مصيره الجنون؟ مينفعش تسكت، مينفعش تسيب حقك ليهم، علشان خاطر حتى تربية الحج “نَـعيم” ليك لما علمك إن الخيول الأصيلة هي اللي بتقف بعد الضربة وتعاند، خلاص كدا سلمت ليهم بدري”؟.
حينها صرخ به “يـوسف” بقهرٍ امتدت وتشعب كمرضٍ خبيثٍ لكل إنشٍ بجسده:
_أنتَ مش فاهم حاجة أصلًا، هجيب حقي من مين أنا؟ من عمي ولا من “سـامي” ولا من اللي رموني هنا وهما عارفين إني عاقل ولا من الدنيا اللي غدرت بيا من صغري وحرمتني من أبسط حقوقي حتى كعيل صغير؟ هـا؟! هجيب حقي من مين؟ أنا بقعة موجودة حوالين الكل ولازم يخلصوا مني، وبأي شكل من الأشكال أنا نفسي قصير وهموت لوحدي، ماليش حد في الدنيا دي حتى يفتكرني بعد موتي، يبقى خليهم يخلصوني من الهم دا، بدل ما أعملها أنا وأموت كافر.
حينها اندفع الآخر بصراخ الحُر في ميدانٍ مفتوحٍ لأجل استعادة الحُريات المُغتصبة عنوةً عن الأحرار:
_ومين قالك اللي أنتَ فيه دا مش كُفر؟ اللي ييأس من رحمة ربنا ويقفلها في وش نفسه يبقى إيه؟ اللي يسلم بالأمر من غير ما يحاول يبقى إيه؟ واللي يسكت عن حقه يبقى إيه؟ أقولك؟ اسكت أنتَ كمان، وخلي غيرك يسكت، وسكت الكُل معاك بس مترجعش بعد كدا تسأل عن حقك وكرامتك وأنتَ أول واحد بتدوس عليهم، اللي بيعيش همه يومه وبس هيموت من غير ما يلمح شمس اليوم الجديد، لو اللي قبلنا سلموا بالأمر وإحنا فقدنا الحيل، على الأقل نِوعي جيل جاي يكون فاهم أي حاجة، العقول بتضيع يا “يـوسف” وبقينا أجيال بتستلم الخيبة من بعضها وبس، إزاي مش قادرين حتى نرفع عينينا نشوف النور، إحنا بقينا مذلولين باللقمة اللي بتسد جوع يومنا، دي مش عيشة بني آدم حُر في أرضه، دي عيشة بهايم كل همهم قوت يومهم وبس…
وفقط، كانت تلك هي الكلمات التي تردد صداها بعقل “يـوسف” قبل أن يُغلق عينيه في واقعه طاويًا تلك الصفحة في كتابٍ للذكريات، وقبل أن يفتح أخرىٰ؛ كان لكتاب الواقع أثرًا حيث صوت زوجته وهي تُهمهم باعتراضٍ في كابوسها مما جعله يفيق مما هو فيه وارتدى ثيابه بعجالةٍ من أمره وهرع ركضًا إليها كما الدمع المتدفق من العينين..
اقترب منها وواساها وضمها وفعل كل ما يفعله لكن تلك المرة بذهنٍ شاردٍ عنها، وكأنه تلك المرة سلم لقلبه مفاتيح القيادة لكي يتحرك هو كيفما يُريد، وهي يبدو أنها رأفت به فخرجت من تلك الهوة سريعًا وشملته بعينيها لتلحظ تيه نظراته وغيابه عنها فهمست باسمه وهي تمسك بنصف وجهه فانتبه لها وهتف يستجديها بقوله المتعب:
_ينفع تاخديني أنتِ في حضنك النهاردة؟.
أومأت له موافقةً بتيهٍ فيما تنهد هو بثقلٍ ثم وضع رأسه فوق صدرها وتشبث بها، وهي بدورها طوقت جذعه بذراعيها ثم مررت أناملها في خصلاته الرطبة حتى وجدته يغط في نومٍ عميقٍ وكأنه يتمسك بنجدته حيث بر الأمان، تلك الليلة كانت البديل للأدوار؛ حيث قامت هي بما يفعله معها والوطأة التي كانوا أسفلها هي المودة والرحمة..
__________________________________
<“العين لا تراكم، والقلب لا يرى سواكم”>
الرؤية لا تُحسب فقط بما تلتقطه العين..
وإنما بما يراه القلب، فالقلب دومًا أصدق وأدق، ففي بعض الأحيان العين قد تتوقف ولا ترى، والقلب يُبصر ويصطفي خليله من بين كل الورىٰ، فحتى وإن غِبتم عن العين وأضحت لا تراكم، فالقلب يحفظ لكم النصيب من الرؤية ولا يُبصر سواكم..
“آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ* لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ”.
كانت تلك الآيات هي خواتيم سورة البقرة بعد أن وقف”أيـوب” وقرأ ما تيسر من القرآن الكريم عند قبر والدته الراحلة عن دنياه ووارى جسدها التُراب، ففي صباح اليوم الموالي اقتبس جزءًا من قوته وأتى بزوجته لكي يزور قبر الحبيبة الغائبة، ولأنه لم يملك من الأمر شيئًا يعلم أن تلك اللحظة تقسم ثباته لنصفين يحتاجا للكثير من الوقت كي يلتحما سويًا..
وقفت “قـمر” بجواره أمام لحد أمه الغائبة وعيناها لم تُبرح ملامحه، وقفت تُراقبه وتراقب أسى نظراته التائهة، ولتوها لم تلمح ذاك الرجل الصبور اليافع، لم تجد ذاك القوي البشوش الحنون، لم تلمح به الرجل الراشد، بل وجدت آخرًا غيره، وجدت فيه طفلًا مُشتت العينين، وتائه بالسُبلِ، لمحت الماضي بأثره مُتجليًا في عينيه فما كان منه إلا أن يحيد برأسه إليها ويبتسم مُرغمًا على ذلك..
بادلته البسمة بأخرى يرافقها الدمع الذي هدد بالنزول، لكنها عادت تُراقب القبر الذي لوهلةٍ تمنت أن عند موتها تتمنى أن تجد مكانها الدائم بهذا الشكل، رائحة البخور تملأ المكان، القبر محاوط بالزرع الأخضر ذي الرائحة القوية، والورد الأبيض الناصع يصافح الورد الأحمر القاني في لوحةٍ كان الأخضر له فيها نصيبٌ لكي يظهر بقوةٍ ويخطف كل الحواس، وهناك لوحة رُخامية تحمل اسمها المحفور عليها بعد الآية الكريمة التي تؤكد ما تغفل عنه العقول البشرية وهي أن كل نفسٍ ذائقة الموت، فماذا قدمت تلك النفس بأرضها..؟
تنهدت بقوةٍ تزامنًا مع نزول العَبرات من عينيها وهي تحاول أن تتنفس بعمقٍ لكي تترتب أنفاسها المُبعثرة، لكنها بكت ولا تعلم أهي تبكي على دُنيا فانية أغرت المرء لسُبلها، أم تبكي على آخرةٍ لا تعلم هل ما قدمته كافيًا أم ستتفاجيء في النهاية بما لم تضعه في حُسبان العقل..
لاحظت كفه الذي تسلل لكفها يقبض عليه ثم سحب الهواء داخل رئتيه وهتف يوجه حديثه لقبر أمه ويالها من لحظةٍ يخشاها وهو يعلم أن عودته خلالها للماضي لم ترحمه، لكنه يتسلح بالصبر وقوة الإيمان لعله يسترشد في أفعاله:
_دي “قـمر” أهيه يا “رُقـية” طيبة وبنت حلال أوي وغلبانة زيي في الدنيا دي، صحيح تبان هطلة شوية ودماغها لسه بتستوي، بس على قلبي زي العسل، حكيتلها كتير عنك على فكرة، وهي كمان بقت بتحبك زيي وبتقعد معايا بليل نفضل ندعي ليكِ ولكل أموات المُسلمين، وربنا يجمعنا بيكِ في الجنة، نفسي لما أشوفك تاني ألاقيكِ مبسوطة بيا أني مخيبتش أملك فيا، رغم إنها دنيا صعبة أوي، أوي ومش بترحم العبد المؤمن، بس الحمدلله إنها دنيا ومش دايمة، أنا حابب أقولك أني مبسوط أوي الحمدلله، وعلى قد التعب شوفت جبران لخاطري من رب العالمين، الحمدلله ربنا جبر خاطري بوجود “قـمر” معايا.
وتلك الـ “قـمر” تبكي بجواره بصمتٍ وهي تراقبه وتُنصت لكلماته فوجدته يمسح عنها عبراتها ببنان أنامله ثم مسح فوق ظهرها بأسفٍ كونه تسبب في بكائها، ثم شرع في توديع المكان، تعلقت عيناه أكثر حينها بقبرها وتذكر صوتها الضاحك حينما كان يعود للبيت ركضًا فيجدها تحمله وتدور به وحينما يصل لها “أيـهم” كانت تتركه هو ثم تميل على شقيقه تُلثم جبينه وكفيه وتخبره مازحةً حتى لا يحزن:
_أنتَ قربت تبقى طولي يا “أيـهم” لو شيلتك هنقع مع بعض، ممكن تيجي في حضني علشان وحشتني يا كبيري.
كان حينها يندفع نحو عناقها ومعه “أيـوب” أيضًا الذي يضحك وهو يغيظ شقيقه كونها حملته بين ذراعيه، وفي تلك اللحظة كان يظهر “عبدالقادر” لهم فتبتعد هي عنهما باسمة الوجه ومتلألأة العينين لرؤية الحبيب، وحينها كان يحمحم متصنعًا الصرامة ثم يقول بثباتٍ لهما دونها:
_أدخلوا غيروا هدومكم وأغسلوا إيديكم يلا.
يُلقي أمره ثم يقف ويراقب انسحاب الاثنين بينما يقترب منها يطبع لثمته فوق جبينها كعادةٍ منه يفعلها في الذهاب وعند الإياب وهي تضحك له بوجهٍ بشوشٍ يُضيء البيت عليهم جميعًا، وبعد مرور بعض الوقت كانت المائدة تُحاوط بهم جميعًا هم الخمس، هو يترأس الطاولة وبين يديه “آيـات” وعلى يساره “أيـهم” وعلى يمينه “رقية” بجوارها “أيـوب” وكانت تلك هي اللوحة الأدفأ على الإطلاق وآخر ما يحفظه في صندوق الذكرى..
خرج من شروده على دمعتين رفرف بأهدابه لكي يواريهما خلف ستائر الجفون فمسحت زوجته فوق قلبه وابتسمت تذكره بحديثه هو الذي سبق وأخبرها به:
_هي هنا جواك، مبننساهمش يا “أيـوب” ولا بيغيبوا عننا، العمر كله بيفضلوا جوانا وصورتهم مش بتفارقنا حتى، مع كل موقف حلو نتمنى وجودهم معانا فيه، ومع كل موقف وحش نتمنى حضنهم نترمي عليه، “رُقـية” هتفضل جواك ومش هتخرج من قلبك، وأنا بحبك وبحبها علشان ربت راجل زيك.
ابتسم لها بامتنانٍ يشكرها على موقفها معه فوجدها تبتسم باتساعٍ أكبر ثم مسحت فوق صدره تُكرر فعله الذي سبق وفعله معها كثيرًا:
_بسم الله على قلبك حتى يهدأ..
بسم الله على روحك حتى تستكين وتطمئن،
بسم الله على جروحك حتى تطيب،
اللهم إني استودعتك زوجي وحبيبي ورفيقي
وأنتَ الحافظ الكريم الذي لا تضيع ودائعه..
وقف بانشداهٍ يُراقبها وهي تمسح فوق قلبه بحديثها قبل كفها وقد ابتسمت هي له بعينيها ثم اقتربت منه تضع رأسها فوق موضع نبضه وهي تتنهد بعمقٍ جعله يطوقها بكلا ذراعيه ضاممًا إياها بقوةٍ ثم هتف بصدقٍ لها مُعبرًا بصدقٍ عن مشاعره:
_ربنا يباركلي فيكِ يا كل ناسي وخيرهم.
هكذا أُسدل الستار على حزنه بمجاورتها له، لقد وقفت معه وساندته ودعمته بقوةٍ قد تكون لا تَملُكها من الأساس، لكنها لم تبخل عليه بها وكأنها فتشت في سراديب روحها لكي تمده بمددٍ توقف عنه قلبه له، الآن هو يضم حبيبةً يراها بعينيه، ويُعانق أخرى ساكنة في قلبه، اليوم العين أيدت القلب وكلاهما أضحى رآيًا ومُبصرًا..
اليوم العين ترى.. والقلب يُبصر.
__________________________________
<“رُبما هي ليلة طويلة ثم ينتهي الأمر”>
مهما طال الليل بكل تأكيدٍ سينتهي مع أول خيطٍ للشمس..
فنحن بطوال أيام عمرنا لم نسمع عن ليلٍ طال هكذا واستمر أبدًا، وإنما ضوء الشمس دومًا يكون ندًا لتلك النفوس الغابرةٍ بسوادٍ تظنه سرمديًا لا يعرف نقطة البداية، ولا يدرك موضع النهاية، كل ليلٍ حتمًا ينتهي، وبالأخص ذاك الذي لم نحسبه يمر..
ليلة أمسٍ كانت هي الأصعب عليه، أول ليلٍ من بعد زواجه يأتيه بتلك الصعوبة، هنا يجلس حبيسًا في غُرفة تلق بمقامه وكأنه “بـيك” من بين عِلية القوم ورغم ذلك هو يشعر بالضجر يملأ خلاياه ولم يجد مفرًا من نفسه، يجلس والقلق يفتك به كلما تذكر أمر زوجته و “چـودي” أيضًا وهو هنا يغفل عن الخارج وما يدور به، لمح بعينيه الوقت فوجد الساعة لازالت لم تتخط السابعةِ والنصف صباحًا فزفر بمللٍ ثم ارتمى فوق الفراش الحديدي ويكاد يُجزم أن تلك هي الليلة الأصعب عليه من بعد وفاة والديه ومن بعدهما شقيقته..
فتح هاتفه من جديد على صورة “نـور” تحتضن “چـودي” بجوار الخيل الخاص به في بيت “نَـعيم” وحينها ابتسم بشوقٍ ثم رفع الهاتف يُلثم الصورة لحين ينتهي الأمر ويخرج من موضعه لهما، لقد أدرك لتوهِ معنى الأمان والسلام بعدما افتقدهما لليلةٍ واحدة كانت الأكثر صعوبةً عليه، فلم يكن أمامه إلا أن يُمدد جسده بأريحيةٍ كاذبة ثم رفع ساعده يضعه فوق عينيه حتى يهرب من واقعه..
لا يعلم كم مر عليه من وقتٍ حتى فُتِح الباب وطل منه الثلاثي معـًا، حيث كان أولهم “إيـهاب” وخلفه “يـوسف” و خلفهما “إسماعيل” وقد ولج له الأول يسأله بلهفةٍ قلقة:
_أنتَ كويس؟ إيه حوار إنك مقبوض عليك دا؟.
تنهد هو ما إن رآهم أمامه ثم اعتدل جالسًا بانحناءٍ ثم طأطأ برأسه يمنةً ويُسرىٰ وسأل بصوتٍ أجش به بحة مكتومة:
_مين قالكم؟ وجايين بدري كدا ليه؟.
تدخل “يـوسف” ينطق بجمودٍ أمام برود الآخر الذي يُنافي الأحوال حولهم:
_جايين بدري نتنيل نتطمن على سيادتك، بعدين إيه اللي حصل وخلاك تبات هنا، وإيه الأوضة الغريبة دي؟ متأكد إنك مقبوض عليك؟ على أيامنا القبض كان مختلف خالص.
تنهد “سـراج” بثقلٍ ثم قال بتهكمٍ كانت أساسًا به السخرية:
_سيادتك بصياعتك دي كلها متعرفش أوضة البكايتة؟ مسمعتش قبل كدا عن بشاوات القسم اللي مبيدخلوش الحجز؟ لما حمايا قالي إني هبات الليلة في الحجز، قولتله يشوفلي أوضة البكايتة علشان أقعد فيها، يا كدا يا هو مع نفسه منه ليهم.
تعجب “يـوسف” من الحديث وتلقائيًا ارتفعا حاجباه بسخريةٍ وهو يستنكر الحديث الذي قيل لتوهِ، فحتى عند لحظات تحقيق العدالة تتم التفرقة بهذا الشكل العُنصري؟ وبالتأكيد غرفة مثل هذه تحتاج للدفع المُسبق من الأموال الكثيرة، تنهد بتيهٍ وأول من طرق أبواب الذاكرة لديه كان “حـمزة” الذي سبق وتنبأ بما يحدث وأخبر العالم أن هناك يومٌ سيأتِ على الناس يرون فيه الظُلم ولن يتجرأ أحدهم على أن يشير نحوه، بل العالم سيقومون ببتر أصابعهم قبل أن تخونهم وترتفع من تلقاء نفسها..
جلسوا بجوار الرفيق ومعهم الطعام وبعض المشروبات التي تعطيه الطاقة النافذة من خلايا جسده، لكنه تذكر أمر زوجته فسألهم بلهفةٍ عنها وعن الصغيرة قبل أن يتناول أي شيءٍ وحينها طمأنه “إسماعيل” بقوله وهو يمد يده له بالشطيرة:
_متقلقش عليهم، “مُـنذر” راح جابهم البيت عندنا وهما هناك مع البنات والحج كمان، وحماك برة هو اللي دخلنا هنا، وقال إنك هتروح النيابة معاهم علشان كل حاجة تمشي طبيعي وعلى العصر كدا ترجع تاني، متقلقش، بس كُل علشان تقدر تقف وتسد في اللي جاي دا يلا.
أومأ له بتيهٍ وقبل أن يتناول الطعام انتابه القلق، فطلب منهم بلهفةٍ صادقة لن تخمد إلا بتحقيق مُراده:
_طب ممكن حد فيكم يطلبهم علشان أكلمهم وأتطمن عليهم؟ معلش على الأقل بالي يرتاح شوية عليهم، وعلشان تليفوني مينفعش أشغله دلوقتي لحد ما أخلص وأخرج من النيابة.
تطوع له “يـوسف” بذلك ومد يده بالهاتف إليه بعدما طلب رقم “نـور” التي جاوبت بلهفةٍ توغلت لمسمعه فطيبت كل جرحٍ في طريقها بغير قصدٍ:
_ها يا “يـوسف” طمني عليه هو كويس؟ شوفته طيب ولا لسه؟ حد فيكم عرف يدخل عنده جـو…
بتر حديثها حينما تنهد بقوةٍ وتفوه أخيرًا بثباتٍ واهٍ:
_أنا هو اللي بكلمك يا “نـور”.
تلك المرة هي الأهدأ والأكثر تهذيبًا في حديثه معها، تلك المرة هي تشعر أن روحه مكلومة من خلال جملته البسيطة، لذا سحبت نفسًا عميقًا ثم قالت بصوتٍ باكٍ لأجل مصادقة القلب للقلب:
_طمني عليك طيب أنتَ كويس؟ بابا قالي إنك هتخرج آخر النهار بس أنا خايفة يكون بيقولي كدا علشان بس يطمني وخلاص، أنتَ بجد هتخرج النهاردة وهشوفك؟.
وزع نظراته بين الجالسين ثم تحرك يبتعد عنهم ووقف عند النافذة الحديدية المغلقة ورسم العبث في نبرته وتخيلت شكل ملامحه إبان قوله:
_قولي يا رب، بس بقولك إيه متاخدنيش بالشويتين دول، أنا راجل بطل قومي ويحق ليا إحتفال قومي برضه، فأخلص اللي أنا فيه دا بس وعاوزين نرجع أيام شهر العسل، فكراها ولا أرجع أفكرك طيب؟ ماعنديش مانع خالص على فكرة.
بالله لو قامت بالبحث عن أوقح الرجال لن تجد مثيلًا له حتى في أكثر الأوقات حزنًا وصعوبةً، وقد ابتسمت هي رغمًا عنها ثم قالت بقلة حيلة تُسايره فيما يود:
_بالله أنتَ مفيش في وقاحتك ولا انحدار أخلاقك، بس أمري لله، تعالى ليا ونور بيتك من تاني وصدقني أنا اللي هخاف أسيبك تبعد عني، أنا ما صدقت لقيتك تاني جوايا ومش عاوزاك تتغرب عني يا “سـراج” ولا عاوزاني حتى أبعد عنك.
أطلق زفيرًا قويًا ثم قال بثباتٍ أجاد الاتصاف به في طريقته وكلماته وحديثه بذاته:
_ربنا ما يحكم بينا بغياب ولا فراق، هرجعلك.
وهكذا وعدها وهو يتمنى أن يصدق بوعده بقدر المستطاع، يتمنى أن تندثر أفعاله السابقة أسفل صفحات الماضي وتبقى بين طيات النسيان، يتمنى أن لا يُفتح كتاب أيامه الفائتة عليه ويُكشف عمله السابق؛ خاصةً بعدما وصل لتلك المرحلة مع نفسه قبل الآخرين، عاد يجلس بين الشباب وتناول الطعام وخاصةً بعدما طمئنته على صغيرته التي أصبحت ابنة له قبل حتى أن يعرف كيف تكون مشاعر الأبوة..
طاف بعينيه في وجه الجالسين وأراد أن يمتن لهم بحديثه لكونهم معه في تلك اللحظة ولم يتركوه بمفرده كما اليتيم حينما يقف وسط العالم في حربٍ عتية على أمثاله من الضعفاء، لكنه يفتقر للتعبير شفهيًا بلسانه، فقرر أن يكون الامتنان بالخارج حينما ينل حُريته المشروطة بقيدٍ من الوهم..
__________________________________
<“رُبما نُرغم على ما نرغب نحن، لكننا سنفعل”>
قد تُرغمنا الطُرقات على مسارات لم نرغبها..
لكننا وبكامل طواعيتنا سنضطر لخوضها، سنضطر آسفين أن نفعل ما لم نرد فعله، ورُبما سنجبر أنفسنا على الفعل وعلى القيام به وبنفس ذات الطواعيةِ سنقبل ما لم نتخيل ذات يومٍ أن نقبله..
انتصف النهار عليه بدون رؤياها، منذ أن رحلت أمسًا باكيةً وفرت من المكان بهروبٍ لاذت به وهو لم يعلم عنها أي شيءٍ، وقف في الشركة بتيهٍ كأنه طفلٌ فُـقِد من والديه بداخل ميدانٍ عامٍ ولم يعلم جهة العودة، وقف يبحث عنها بعينيه ولأول مرةٍ يستشعر كآبة المكان في غيابها، يبدو أن وهج عينيها هو ما كان يُِضيء المكان وليست الأضواء..
وقف مشتتًا بتيهٍ أكبر ما إن التقط مقعدها المفضل فارغًا من جلوسها عليه، أول ما بدر لذهنه كان اللجوء لشقيقته هي تعاونه فيما يحدث معه، كان عليه أن يستشير شخصًا يعاونه، لم يجد أمامه إلا باب الخروج من المكان؛ فهرب..
وقف أسفل مقر عمل شقيقته وهاتفها وفي غضون دقائق قليلة وجدها أمامه تهرول بخطواتٍ واسعة وهي تسأله بقلقٍ سكن ملامح وجهها وبدا جليًا في عينيها:
_حصل إيه يا “عُـدي” علشان تيجي؟ أنتَ كويس؟.
حرك رأسه موافقًا ثم أشار لها أن تسبقه وقال بجمودٍ آلٍ:
_تعالي معايا عاوز أتكلم معاكِ.
تحركت معه بخوفٍ وتيهٍ تفاقما عن السابق بسبب طريقته التي تفتقر لوجود شقيقها الذي تعرفه بكل جوارحها، وما أن ولجا سويًا لمكانٍ يجلسا به سويًا اندفعت تسأله بغير تعقلٍ:
_بص علشان أنا على آخري والقولون عندي عصبي أبوس إيدك قولي حصل إيه، أنتَ متخانق مع حد طيب؟ حد مزعلك في الشغل؟ استنى… أنتَ و “رهـف” طيب كويسين؟.
تنهد هو بثقلٍ ثم مسح وجهه بكلا كفيه لكي يُعيد لوجهه ورأسه نشاط الدورة الدموية ثم هتف بضياعٍ كانت نظراته خير دليلٍ عليه بمرافقة النبرة المتأرجحة:
_بصي أنتِ، أنا فضلت أفكر كتير وأنا ضايع بس فكرت فيكِ علشان كدا جيتلك يا “ضُـحى” وأبوس إيدك بلاش القوة بتاعتك دي، عارف إنك صوتك من دماغك مش زيي، بس اسمعيني وحاولي تفهميني أنتِ..
حديثه لم يفعل إلا نقيض ما يُطالب به منها، ورغم ذلك حاولت أن تنصت إليه وتستمع لكلماته فبادر هو بمباشرة الحديث معها يخبرها عن الحدث الذي أصابه بغير حسابٍ أو تمهيدٍ، أخبرها عن الصدع الذي أصاب ضَف مُحيطه لكي ينكسر ويفترق عن مهد الحياة الخضراء، أخبرها وراقب سكون ملامحها وركود تفاعلها معه وما إن وصل للنهاية أضاف بتيهٍ أكبر:
_مقدرتش أقرب، حسيت نفسي بتطرد من صورة ماليش مكان فيها، هي مش هتنسى “حمزة” ومش هتقدر تتخطى في يوم من الأيام وجوده في حياتها، فجأة لقيت نفسي ببعد وبرجع لورا ومش قادر أقرب علشان خوفت يكون ماليش مكان، بس النهاردة من غيرها متقبلتش المكان، مقدرتش أقعد في الشركة وهي مش فيها، حسيت المكان رخم وممل، أعمل إيه أنا دلوقتي؟ مش عاوز أخسرها علشان مشاعرها دي مش بايدها، بس أنا مش مثالي ولا ملاك علشان أروح أواسي اللي بحبها في موت اللي كانت بتحبه، أعملها إزاي دي بس وأجيب طاقتها منين؟.
أنصتت له بكامل تركيزها وكعادتها ذات الطابع العملي قامت بدراسة كل ما يصدر عنه ثم سحبت نفسًا عميقًا وقالت بثباتٍ أكيدٍ تتصف به شخصيتها:
_طيب أنا علشان أقدر أحكم بالعدل والحق فأنا هحط نفسي مكانكم أنتوا الاتنين، الأول بس هي مش بإيدها حاجة يا “عُـدي” دا مش مجرد واحد كان خطيبها دخل حياتها سنة واتنين وخرج، دا عشرة العمر كله، صاحب الطفولة وكل الخطوات وأنتَ قولت إنه ليه تأثير قوي في تكوين شخصيتها ودا سبب من ضمن أسباب حبك ليها، واللي حصل دا وارد يخليها ترجع لورا، ولعلمك لو دا محصلش كنت هقول إنها قليلة الأصل أوي علشان نسيته بسهولة كدا، هي معذورة ولازم تعبر عن حزنها، أنا واحدة عمري ما شوفته ومن كام صورة ليه وكام خبر وكام مقال فضلت أعيط علشان شاب زيه ضاع وتمن صوته الحُـر كانت حياته كلها، أنتَ مش زعلان عليه بالله عليك؟.
أغمض عينيه وتنفس بتوترٍ يعبر عن شتات نفسه ثم قال بثباتٍ واهٍ حاول أن يرسم كلماته به لكنه فشل:
_يمكن اللي قهرني بزيادة عليه طريقة موته، اللي قهرني إنه كان بيعمل الحاجة اللي نفسي أعملها طول عمري وأتكلم عن اللي بيحصل، قهرني موته وطريقتهم علشان يخلصوا منه ويضيعوا حلم شاب زيه إنه يعيش حُر من غير ما يكون زي العبد، أتقهرت علشان كل ما هفتكره هحس إنه أحسن مني مليون مرة وإني بعيش أحلام غيري كان بيتمناها، كل ما هبص في وشها هفتكر إن فيه شاب تاني ساب أحلامه علشان عالم مغيبة وساكتة، عاوزاني أحس بإيه غير إني قليل يا “ضُـحى” قدام اللي هو عمله؟.
الآن هي تدرك سببًا جديدًا يجعلها تفهم به ما يضمره شقيقها في نفسه من أفكارٍ متضاربة، وهذه هي طبيعة البشر بوجهٍ عام، حيث الأندراج والأنسياق خلف ماهو غير مقبولٍ للنفس أن تُفكر به بشأن ذاتها، ولأجل ذلك مدت كفها تمسك بكفه ثم قالت بعزيمةٍ ظهرت في كلماتها انتقلت له بشكلٍ مباشرٍ:
_تقدر تعمل اللي هو ملحقش يكمله، تقدر تحافظ عليها قبل ما الموج يخطفها تاني في دوامة الحزن اللي كانت فيها، تقدر تقف جنبها وتلحقها وتاخد بايدها بدل ما تفضل هي عند نقطة موته وأنتَ بغيابك تتشال من الحِسبة كلها، تقدر تعمل كتير أوي لو حطيت قلبك قصاد عقلك وخليته هو اللي يحركك ليها، أنا لو مكانها هبص مين وقف جنبي في حزني وشد بايدي، بس أنتَ بتبعد عنها، لقيت الذكريات جت فبتنسحب وتقولها خلاص حلال عليكِ الماضي، صدقني هي متستاهلش تتساب لوحدها، دي عاملة زي العيلة الصغيرة ماشية تلوش في الكل، سمعت أنتَ قبل كدا كلام “يـوسف” عنها وعن حالة الإكتئاب اللي دخلت هي فيها لدرجة إنها راحت لدكتور نفسي، هتسيبها ترجع تاني؟.
حديثها رافقته صورة الأخرى وهي تائهة بين الجميع ومُشتتة وتبكي لكي تخرج من تلك الحُفرة التي سقطت بها عنوةً، رآها بقلبه تستجير باسمه لكي يمد كفه لها حتى تتخلص من ظُلمة المكان الذي ابتلعها فجأةً بجوفه، ومع كل تخيلٍ يستحضره عقله، كان يزداد هو خوفًا عليها وإضطرابًا لأجلها، وكأنه أوقف العقل عن عمله وترك للقلب حُرية التصرف.
_________________________________
<“مفاجأة غير متوقعةٍ من شخصٍ نتوقع منه كل شيءٍ”>
رُبما المفاجأة بذاتها لم تؤثر بنا…
لكن الفاعل هو من يُدهشنا بفعله، ولطالما كانت بعض الأفعال غير متوقعةٍ سوف نجد أن الفاعل قد نتوقع منه أي شيءٍ، لذا وبكل بساطةٍ في الأمر لا تتوقع ولا تأمل أي فعلٍ حتى لو من نفسك بذاتها.
جلسة ملولة يُعاني منها اليوم بسبب غياب الطبيب الثرثار عن العمل وتأخره عن المجيء حتى تلك اللحظة، ومع حدوث القبض على “سـراج” شعر هو بالتيه حتى صدح صوت هاتفه برقم “مُـنذر” يخبره بثباتٍ لكي يُطمئنه:
_أنا كلمت عمي أتطمن منه وقالي إن “سـراج” كلها ساعتين ويروح معاهم خلاص، أنتَ هتيجي إمتى؟ مش المفروض أنتَ بتقف الصبح يا “مُـحي”؟.
زفر بمللٍ ثم نطق يوبخ نفسه بقوله:
_علشان أنا جاموسة عاوزة تدبح أنسحبت من لساني وقولتله لو وراه مشوار مهم يروحه ويخليني هنا، وهو شكله استحلاها وغاب اليوم كله، خليني أكمل اليوم بس يمكن ييجي أو حاجة، بس سيبك مني، أنتَ مروحتش الشغل تاني؟ آخرتها إيه طيب؟ ومش راضي تقول حصل إيه يخليك تغيب كدا؟.
أدار “مُـنذر” عينيه بتعبٍ بسبب نفس السيرة التي تلوك كما العلكةِ بالفم ثم هرب من الجواب متصنعًا للإنشغال مع “چـودي” ثم أغلق معه المكالمة، بينما “مُـحي” فتحرك نحو براد المياه يسكب منه بداخل الكوب، وقد ولج أحد الأفراد يطلب منه بنبرةٍ خافتة:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لو سمحت يا دكتور.
توسعت عيناه بغير تصديقٍ ما إن وصله صوتها فاستقام واقفًا والتفت بتروٍ يواجهها حتى شهقت هي من هول صدمتها ووقفت أمامه بفاهٍ فارغٍ وعينين متوسعتين ولا تعلم هل الأمر لديها تطور لتلك الدرجة أم أنه هو حقًا من يقف أمامها؟ بينما هو فابتسم بزهوٍ ثم اقترب نحو الطاولة التي تفصل بينهما يسألها بعمليةٍ زائفة في باطنها السخرية:
_أيوة يا آنسة أؤمري؟.
في البداية كانت صورته والآن صوته وهي بين كلا الأمرين تشعر برغبةٍ في البكاء، وقفت أمامه فاقدة لكل وعيها بينما هو فملأ عينيه بها، وقف يُشبع نظراته التي اشتقتها كثيرًا، وقف يُهديء صخب روحه المُشتتة بهيئتها الملتزمة وبهذا الخمار الأخضر الجديد، طال الصمت بينهما فتصنع الضجر بقوله الوقح:
_حضرتك كدا جاية تعاكسي بقى؟ خير يا فندم؟.
انتشلها من شرودها وانشداه حالها بحديثه الذي جعلها تُدرك الواقع سريعًا ثم سألته بتيهٍ وغياب عقلٍ واعٍ:
_أنتَ بتعمل هنا إيه؟ إيه اللي جابك هنا أصلًا؟.
_بشتغل يا آنسة “جـنة” هو الشغل عيب يعني؟.
بكل برودٍ أخبرها عن مضمون الأمر الذي لم يكن إلا قشرة خارجية تخفي في باطنها الكثير من الأمر، بينما هي أندفعت تسأله بغيظٍ من مدى وقاحته وتعديه كل الخطوط:
_هنا!! يعني بين كل الصيدليات ملقيتش شغل غير هنا؟ هو أنا ناقصاك يعني هنا كمان، حرام عليك يا أستاذ “مُـحي” والله كدا كتير عليا.
ضحك لها باستفزازٍ ثم علق على حديثها ببرودٍ ازداد عن السابق حتى كادت أن تصرخ من فرط غيظها أمامه:
_دكتور “مُـحي” بعد إذنك، مش علشان بتساهل وبتكلم معاكِ يبقى نسقط حوار الألقاب ما بينا، دا أولًا يعني، ثانيًا بقى ودا الأهم، الصيدلية هنا مكسبها حلو أوي ملقيتش ليه مثيل في أي صيدلية تانية، ربك يكرم بس ويفتحلنا أبواب الرزق.
لو بكت أمامه في تلك اللحظة سيكون حقها، أما هو فكان يستمتع برؤيته لها وهي تحاول أن تتماسك قبل أن تلعنه هو وكل الظروف التي آلت به إليها كي تُقابله، وقد حسمت أمرها وأولته ظهرها سريعًا وأنطلقت بقوة الصاروخ من أمامه دون حتى أن تجلب الدواء الخاص بأمها، وقد وقف هو يتحكم في ضحكته لكنه فشل في ذلك أكبر فشلٍ يحصده في حياته..
أما هي فـ كأي فتاةٍ في مثل موقفها وقفت بالخارج تتحكم في نبضات قلبها وتُهديء من توترها وارتفاع درجة حرارة وجهها الذي تورد بشدةٍ، وقد خانها فمها واِفتر ببسمةٍ لم تقصدها هي، بسمة أتت خِلسةً جراء رؤيتها لها، ولأجل معرفتها بمحاولاته المُستميتة لأجلها، الآن هي تختبر بعضًا من المشاعر اللذيذة التي لم تعهدها طوال عمرها، فكرة أن هناك من يرغبها بهذا الشكل وينتهج لأجلها تلك الجُرأة تجعل الفراشات تطوف فوق معدتها كأن الربيع أضحى في داخلها..
__________________________________
<“فراشات الدار تأتِ مرةً كل ربيعٍ ومعها الربيع”>
تلك الأيام التي يهدأ بها البيت من المؤكد أن هناك فراشات لذيذة تطوف به بعدما تأتِ ومعها السلام بذاته، أيام يحل بها الربيع بشمسه الدافئة فوق الرؤوس التي تجمدت من البرد، وتساور به الضحكات كل الوجوه معها، ولكل بيتٍ فراشة خاصة به، تأتيه محملة بالسلامِ..
ما إن وطأت قدماها بالبيت ازدهر حال الجميع، أتت فجاةً لهم بعد حصولها على موافقة زوجها وتأكدها من تحسن الأحوال بالبيت، ومن ثم أتت لبيت والدها لكي ترى ذويها، ابتهجت الأوجه فور رؤيتهم لها، وأتى “أيـهم” مهرولًا لأجلها من عمله حتى رأى صغيره بين ذراعيها فابتسم ومازحها بقوله:
_البيت نور بيكِ كالعادة.
تركت صغيره ثم اقتربت منه تستقر بين ذراعيه وهي تقول بصدقٍ لأجل اشتياقها لعناقه الدافيء الذي لن تجده في مكانٍ آخرٍ غير “أيـوب” الذي يغدقها بكل حنانٍ ودفءٍ:
_وحشتني أوي أوي أوي، خلصت شغل ولا لسه؟.
طوقها بأحد ذراعيه يضمها له أكثر ثم قال بنبرةٍ حماسية متمسكًا بلحظات قدومها إليه ورؤيته لها من بعد شوقٍ طال:
_خلصت كله خلاص الحمدلله وهنقضي باقي اليوم مع بعض، وحشتيني أوي، الواد دا واخدك مننا على فكرة وكدا مش عدل خدي بالك، أنا بخليه يروح بدري ساعتين بمزاجي، بس لو حطيته في دماغي مش هخليه يعتب الشقة.
ضحكت له بوجهٍ بشوشٍ ثم لثمت وجنته بحركةٍ خاطفة تعلم أثرها عليه جيدًا، حتى ضحك هو ثم جلس معها ومع ابنه وقد لاحظت هي غياب زوجته فسألته عنها ليأتيها الجواب بضيقٍ:
_هتلاقيها شافتني جاي طلعت على فوق.
تنهدت هي بثقلٍ ثم التفتت للصغي تطلب منه بوجهٍ مبتسمٍ كي لا يشعر بعدم رغبتها في تواجده بينهما:
_ما تروح تشوف جدك اللي قال هغير وشكله سابني ونام دا، لما آجي أمشي هيزعل ويقولي مقعدناش سوا كفاية، روح وخليك وراه لحد ما ييجي معاك، ماشي؟.
أومأ لها الصغير ثم ركض نحو غرفة جده بينما هي ما إن تأكدت من اختفاء أثره التفتت لشقيقها وهي ترسم البسمة فوق وجهها ثم بادرت في الحديث بقولها:
_مالك يا عم متنشن ليه؟ قولنا الراجل وشه بشوش وبيضحك وبقى واخد الأوضاع بصورة أفضل، بس شكلك كدا محيرنا وتاعبنا قلوبنا معاك، المهم أنا هطلب منك طلب صغير خالص، وافق وخليه يروح معاها يا “أيـهم” هي وهو محتاجين دا، محتاجين يكونوا أكتر من عيلة مع بعض، هي بتحبه علشان شايفاه ابنها، وهو بيحبها علشان شايفها مامته، يبقى إيه اللي يمنع بقى طيب؟.
علم هو أن أمر مجيئها لم يكن بمحض الصُدفة وإنما هي أتت لأجل هدفٍ مُعين وأتى دورها في تنفيذه، لذا تنهد بقوةٍ ثم حرر عقدة ذراعيه وقام بوضعهما فوق الطاولة باسترخاءٍ وهو يجاوب على ردها بثباتٍ:
_علشان دي الفكرة اللي بينا هنا في بيت “العطار” واللي إحنا مقتنعين بيها، إنما برة البيت دا محدش هيشوف كدا، أنا وضحت أسبابي وقولت هي إيه، مأنكرتش ولا صممت على عنادي، وقولت ساعة كتب الكتاب هاخده معايا ونروح أنا وهو نحضر المناسبة كلنا ونجيبها وتيجي معانا، وأظن أنتِ عارفة أني لو مش مقتنع بحاجة مش هعملها لو حصل إيـه حتى.
هي تعلم، الكارثة حقًا أنها تعلم مدى إصراره وتعلقه بالأمر، تعلم أن رأسه اليابس إذا فكر بشيءٍ لن يُجدِ معه أي جدالٍ نفعًا، تعلم أن وجهة النظر لديه تكون أعمق وأكثر قوةً، لذا كان عليها أن تلجأ لبعض اللين معه، فتحدثت بهدوءٍ تناشده بقلب أنثى لأجل غيرها:
_طب علشان أنتَ مقتنع بوجهة نظر مفيش غيرها، هقولك وجهة نظر تانية يمكن مش واخد بالك منها، وكويس إن “نهال” مش هنا علشان متزعلش، بس فكر كدا بمشاعرها هي، واحدة ست للآسف عندها ظروف في الخلفة، هتكون وسط عيلتها لوحدها هناك وكلهم معاهم أولادهم الصغيرين، غصب عنها هي هتحس إنها غيرهم، دي مشاعر فطرية عن الست مولودة جواها وبتكبر معاها العمر كله، يبقى على الأقل نكسر الفكرة دي جواها، نخلي معاها ابنها زيها زيهم، علشان الناس كلها تصدق إنه ابنها، طالما عاوزين الأمور تمشي بوضع طبيعي يبقى إحنا نعمل الطبيعي، بعدين متزعلش مني يعني، عيلة “نِـهال” مش هتيجي بمساويء عيلة “أمـاني” كلها، دا كفاية “شـكري” أخوها.
هي الوحيدة في هذا العالم التي تقوم بجبر تفكيره على تغيير مساره، وحدها فقط من تجعله يقوم بإعادة كل الأفكار ووضعها تحت منظورٍ آخر يجعله مُشككًا في كل ما يتوصل إليه بأفكاره، وقد تنهد ما إن بدأ حديثها يأخذ الصدى المطلوب بداخله ثم نطق باستسلامٍ ليس بأكيدٍ:
_ماشي، بس لسه هفكر تاني.
ضحكت هي له رغمًا عنها ثم اقتربت تعانقه وهي تعلم أن شتات أمره ينتهي ببعض المزاح والتدلل منها وقد ضحك هو بخفةٍ ثم مسح فوق رأس صغيرته الأولىٰ وسمح لحربه أن تهدأ برفقتها وبقربها، وقد نزلت “نِـهال” في تلك اللحظة ورآتهما سويًا فلم ترد إفساد لحظتهما لذا ولجت نحو المطبخ تقديسًا لوقتهما معـًا ولإدراكها كم هما يشتاقان لبعضهما ومعهما “أيـوب” أيضًا، لكن تلك هي قوانين الحياة؛ لم يكن الثبات يومًا في وتيرتها.
__________________________________
<“أول ضربةٍ فقط هي التي تؤلم، البقية مجرد اعتياد”>
أول الشيء هو الذي يحتاج للقوة..
فالبدايات هي التي تكمن بها الصعوبة، أما بقية الخطوات فتتحول لمجرد اعتيادٍ لا أكثر، دائمًا الخطوة الأولى هي الأصعب، والبقية تسهل بالتدريج علينا..
عاد وعادت معه البهجة بعد مرور نهارٍ كاملٍ وخلفه أولى ساعات الليل في الإنتظار القاتل، الآن تم تحريره من الأسر ولمس الحُرية بأنامله وأدرك وقعها بعينيه ثم عاد للبيت برفقة الشباب و”نَـعيم” ليجد زوجته في انتظاره وكانت هي أول من ركضت إليه وضمته بين بلهفةٍ ثم هتفت تخبره عن مخاوفها التي تفاقمت بداخلها:
_أنا كنت خايفة عليك أوي، خوفت متجيش تاني أو يعملوا فيك حاجة، الحمدلله إنك جيت تاني ليا وشوفتك.
شدد ضمته لها وتنهد بعمقٍ وهو يشتم عبيرها ثم قال يُطمئنها بحديثه الحنون الذي أتى صادقًا بعد مرور ليلةٍ أصعب مما يكون قضاها مفكرًا في المصير المجهول:
_كنت هعمل البِدع علشان أجيلك تاني، مكانش ينفع أغيب عنك أكتر من كدا، وحشتيني اليومين دول والله.
هكذا كان اللقاء بينهما بعد غيابٍ منه وخوفٍ سكنها واستوطن بداخلها، وقد التفوا البقية حوله يطمئنون عليه وركضت نحوه “چـودي” تهلل بصراخٍ لأجل عودته وقد استشفت هي من قلق الجميع حولها أن الأمر لم يكن على ما يُرام..
مرت ساعة أو ربما اثنين على الجميع وهم مع بعضهم يجلسون في تسامر ومزاحٍ وقد جلست “چـودي” بجوار “مُـنذر” الذي ظل يمسح فوق خصلاتها حتى ولجت لهم “تـحية” وهتفت بتيهٍ ساورها:
_أستاذ “مُـنذر” فيه ناس عاوزينك برة.
رفع رأسه نحوها بحيرةٍ وقد أتضح التعجب في عينيه وأشار نحو نفسه مستنكرًا فأومأت له بقوةٍ وبناءً على ذلك ترك موضع جلوسه ثم سار يتبعها للخارج حيث فناء البيت وهو يفكر في هوية الزائر المجهول، ولأن الغير متوقع هو الأقرب في الحدث، وجدها هي…!!
فرغ فاهه ما إن وجدها أمامه تقف بسكونٍ وشرودٍ في انتظاره، لم يصدق عينيه أن هي من تقف في عقر داره بعد كل شيءٍ حدث، لا يصدق أن الحياة تهديه لقاءً من بعد فراقٍ تم بدون وداعٍ، وقف أمامها مفتقرًا حتى لكلمات الترحيب، بينما هي فتنهدت بعمقٍ ثم واصلت عينيها بعينيه بجرأةٍ معهودة منها…
هي لا تحب الأشياء العالقة بالمنتصف، تبغض رمادية الأشياء، لا تُحب التأرجح بين لونين تائهين، لا تُحبذ النهايات المفتوحة لابتزاز خيال القاريء، لذا أتت، أتت لكي تضع النهاية التي تليق بها، ولكي تحول المسار من فرض عينٍ عليها، لشيءٍ رُبما يكون بملء إرادتها، لكن دعونا لا ننسى أن اللقاء كُتِبَ من بعد الفراق..
السوط الأول فوق الجسد لا يُنسى، لحظة تكميم الأفواه لا تنفك عن العقل، ظلام الزنزانة الفارغة يُنازع ضوء العقل، القهر الممتد للقلوب لا يُشفى ولا يُداوىٰ، كل شيءٍ حدث ويحدث وسوف يحدث يبقى عالقًا بأفق الذاكرة، وهو لأجل ذلك لا ينسى أنه ذات يومٍ لأجل كلمة حقٍ صرخ بها أصبح موسومًا بعارٍ يلتصق به كمن يُكتب فوق جبينه أسوأ الأوصاف…
هو “بـاسم” الذي لم يكن له نصيبًا من اسمه ذات يومٍ، هو الواجم في ملامحه، والشارد في طريقه، والمعطوب في قلبه، والمكلوم في روحه، هو كل شيءٍ عاد ذاك “الباسم” هو المعتقل السياسي ضحية صوت الحُرية الذي أضاع عمره في صراخٍ لم يجنِ منه إلا فقد صوته، وكسر قلمه وتمزيق أوراقه..
كان يجلس في مقهى شعبية متواضعة وهاتفه في يده يتصفحه وفي يده الآخرى سيجاره وهو يدخن منه بشراهةٍ إبان إندماجه مع قراءة المقالات التي دونها هو بنفسه تكريمًا لروح “حَمزة” صديق القلم مثله، وقد صدح صوت هاتفه برقم كنزه في هذا العالم، فجاوب بلهفةٍ عليها:
_لو المحشي سِخن هتلاقيني عندك هوا.
رسم المرح في كلماته بوضوحٍ ليأتيه الرد بقلة حيلة ترافقها المعاتبة الطفيفة:
_لأ يا شيخ؟ تصدق إنك نصاب علشان أنا قولتلك من ساعتين إنه خلص وتعالى بدل ما نسخنه، بس واضح إن قعدة القهوة بتنسيك كل حاجة يا “باسم” بس براحتك بقى.
رفع كفه يحك فروة رأسه من الخلف وسرعان ما تذكر الشفرة السحرية لحل جميع الأزمات فأتاها بقوله المرح:
_طب أنا طالع أهو، عاوزة حاجة من تحت يا “كِـنز”؟.
ضحكت الأخرى رغمًا عنها ثم قالت بقلة حيلة واستسلامٍ تامٍ له ولتهربه منها بنفس ذات الطريقة التي لم تتغير:
_عاوزاك تطلعي كويس علشان ناكل، يلَّا.
أنهى جلسته ودفع حقها ثم سحب متعلقاته وتحرك نحو الشارع العمومي لكي يبتاع لها نوعًا من حلواها المُفضلة، وما أن فعل وأنهى وتحرك لكي يذهب لها ويأمن بكنفها، من الخلف أتته ضربة عصا فوق رأسه جعلته يترنح وقبل أن يلتفت وجد من يُكمم فاهه ويمنع عنه الصراخ، ثم امتدت يدٌ أخرى تقوم بلوي ذراعيه للخلف كما الطير المرغم على كسر جناحيه، ثم توالت الضربات في أنحناءٍ متفرقة جعلته يعجز عن حماية نفسه، وأصبح كما الطير الحُـر الذي وقع في شباك عصابة من الصقور الجارحة.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى