روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والأربعون 140 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة والأربعون 140 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والأربعون

رواية غوثهم البارت المائة والأربعون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والأربعون

“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
بك أستجير ومن يجير سواكَ
فأجِر ضعيفًا يحتمي بحماكَ
إني ضعيف أستعين على قوي
ذنبي ومعصيتي ببعض قواكَ
أذنبت ياربي وآذتني ذنوب
مالها من غافر إلاكَ
دنياي غرتني وعفوك غرني
ماحيلتي في هذه أو ذاكَ؟
_”إبراهيم علي بدوي”
__________________________________
لو كان الحُب ذنبًا فلا أودُ منه توبةً..
وإنما أود التوبة من ركود مشاعري تجاه قلبٍ كان لي هو التوبة بعينها، لا أود أن أتوب عن ذنب الهوىٰ؛ هذا وإن كان الهوىٰ ذنبًا من الأساسِ، لقد سلكت في الحُب طُرقات لم أعرفها، لكنني سمعت البعض يقولون أن العشق في عُرفهم كان إثمًا، والحُب لحبيبٍ يُعد جُرمًا، والهوىٰ في غريبٍ كان ذنبًا ومن اقترف ذلك لن يعرف توبةً ولن يجد مغفرةً..
ومن قال لهم أنني أرغب في التوبة من حُبٍ لم لكن يومًا لي كعقبة؟ فلو كان الحُب إثمًا أنا آثمٌ، ولو كان الهوىٰ ذنبًا فأنا مُذنبٌ، ولو كان الحُب في حبيبٍ يُعد جُرمًا أنا مُجرمٌ، لكن يشهد مولاي على ما في قلبي أنه يوم أن أحب تطهر من كل ذنبٍ وكان الحُب هو مُطهره، سيدتي أنا رجلٌ كان مُطيعًا بعيدًا عن الزاد والحُب ولم أعرف يومًا أن هناك ما يُسمىٰ عشقًا ينضب في القلب فيعيد فيه الحياة من بعد الموت، دعيني أحدثكِ صراحةً أنني رجلٌ سبق وتدنس قلبي باسم الحُب، وأنني أقسمت أن أبتعد عن العشق من كل دربٍ، ولم أجد في ذلك سبيلًا إلا تلك السُبل التي ألقت بي في فخ العشق، فأصبحت أتراقص على نيران لوعته، وأدنو من جُرف هاوية الشوق أطلب من الحبيب وصالًا يُسقيني رحمته، فيا حبيب بريءٍ من كل ذنب..
أتيتك طالبًا وصالك في الحُب،
ومالي من أهل العشق بحديثٍ قالوا فيه أن الحُب جُرم…
والهوىٰ في شرعهم كان عظيم الذنب.
<“كل الطرقات تدنو بي منكِ خاصةً التي لم أخترها”>
ما بين الإرادة الحُرة والإجبار الغير عادل؛ فجوة زمنية تفتح فمها وتبتلع بداخلها هؤلاء المجبورين فلا يبدر منهم إلا الخضوع على الإجبار غير مُكترثين بما هو دون ذلك، فلا يوجد لسانٌ يُعارض بقولٍ، ولا جسدٍ يركض فرارًا من أمرٍ مُحتمٍ، وإنما هناك قلبٌ يُطلق أمر الموافقة ثم يسايره البقية وكأنه حول الإجبار لإرادةٍ تُزيلها الطواعية، على الرغم أن مصباح العقل لازال يُنذر بضوءٍ أحمر؛ والرد كان تجاهلًا..
بعض الكلمات تدنو من القلب فيهتز على أثرها بغير هُدى، تلك الكلمات رُبما للبعض تُدفيء صقيعًا، وللبعض رُبما تُخلف برودةً، وهذا يجلس متلظيًا على كلا الجانبين، فحديث عمه أتاه بصقيعٍ لسع جلده ليحُس أنه ضُرِبَ فوق جلده بسوطٍ باغته شتاءً، وفي نفس الوقت طالته أيادي الدفء تمسح فوق برودة القلب، وما تلا الحديث كان ردًا من كلتا العينين اللتان تواصلتا بعينين عمه؛ فوجده يوميء وفقط.
كان “جـواد” حكيمًا يجود بكرمٍ على كل قاصدٍ لسُبلهِ، لكن الأمر بالطبع ليس لشقيقته، وصية الأب الراحل، وأمانة الأم الحاضرة، رفيقة الزوجة شريكة الدرب، وأولًا وأخيرًا ابنة الروح التي لم يُنجبها هو، نظرة واحدة في وجه شقيقته كانت كافيةً لقول الموافقة وكذلك بعدما تأكد من نظرات “مُـنذر” كأنه يتوسل بالموافقةِ لوصال حبيبٍ يخشى هجره..
تدخل العم يقطع الفرحات التي عرفت الطريق للأوجه مُبديًا اعتراضه بقولٍ اتضح من باب أصول الأخلاق وإن غفلوا هم عن ذلك عمدًا، هو لن يغفل:
_مش الأصول برضه تاخدوا برأي عمها؟ ولا هو أنا هنا جاي كمالة عدد وماليش لازمة؟ مش لازم أعرف هتسكن فين؟ البيه عنده شقة ولا لأ؟ فيه دهب هييجي ولا خلاص دبلة وخلصنا؟ نسأل عن أخلاقه ونعرف كل حاجة عنه، مش سمك في مياه هو، دا جواز!!.
كلمات مُعتادة في مثل تلك المواقف تُلقى منقطعة النظير وكأن هناك صاحبٌ للحقِ يأمر به، وفي تلك اللحظة مال “مُـنذر” يكرر استفهامه عليها بقوله الجاد مُنافيًا لقلب كلماته الهزلية:
_دا أبو الكلب صح؟.
بسمة رقيقة زينت مُحياها نظير استفهامه، ونظرة بريئة رمقته بها قابلها هو بأخرى صافية ضحكت على أثرها الأعين؛ فمن يراهما سويًا جنبًا إلى جنبٍ يظنهما عاشقين خلدت الكُتب قصتهما معًا، ودَّ أن يُثني ويتحدث ويتغزل لكنه بدا أمامها فقيرًا مُعدم الكلماتِ وأبجديته تفتقر للأحرف المُنصفةِ، وبنظرةٍ أوسع للجلسةِ المُقامة كان رد “نَـعيم” نافذًا بكل وقارٍ وأدبٍ:
_لأ طبعًا مش سمك في مياه، بنتنا بنت أصول وأنا راجل فاهم كويس أوي في الأصول، وقبل ما أعتب خطوة واحدة هنا قابلت دكتور “جـواد” واتفاهمنا مع بعض واتفقنا على كل حاجة ومعرفه مكان الشقة وطبيعة حياتنا، وورث “مُـنذر” كمان اللي لسه في ذمتي وهياخده، ودا لأني عارف إن هو ولي أمرها، ولو حضرتك متعرفش فأنا يجمعني بيه معرفة من خمس سنين وأكتر، ووالدتها بعلم بكل شيء كمان، فطبيعي أكلم الأصل مش الصورة.
والدتها أُعجبت برصانة كلماته أمام تلك العائلة الماجنة برجالها، كانت سيدة رقيقة سُميت بـ “رفيقة” وكانت كما نجمات الشاشة العتيقة، أمرأة عطوفة على ذويها، حادة الطباع على كل غريبٍ، تلقت عروض الزواج من أشقاء زوجها بعد موته وكان الرد منها صارمًا وقاطعًا أنها لن ترضخ لهم، والآن ترى صمتهم وقلة حيلتهم نصب عينيها وتود أن تشكر “نَـعيم” على ذلك.
حانت منها التفاتة نحو صورة زوجها المُعلقة بحائط الصالون الذهبي العتيق وابتسمت له كأنها تدعوه لحضور تلك الجلسة، ولم تخرج من حالة الهيام بزوجها الراحل إلا على صوت شقيقه يهتف بغير اكتراثٍ:
_تمام اللي تشوفوه طالما هما موافقين، بس ياريت بقى اللي حصل ميتكررش تاني، جو الحُب والخروج والكلام والودودة دا مينفعش بينهم حتى لو مخطوبين، أنا راجل مخي مقفل شوية وممكن أتصرف تصرف ميعجبش حد.
وعلى غِرار قوله جاء الرد من “يـوسف” بتهكمٍ ساخرٍ:
_إيه هتبيع أعضائهم ولا إيـه؟.
غبي هو من يقف أمامه، فكلما ظننته أتى بنهايته سوف يُدهشك بالمزيد منه وكأنك ترى قطرةً من بحرٍ لم تدر أنتَ عمقه ولا فجوات أرضه الهُلامية، طالعه عمها بنظراتٍ حادة بعدما علم ما يرمي إليه بمقصد كلماته، بينما “يـوسف” فشيعه بنظرة حقدٍ وكأن المغزى بنظراته قولًا لم يفصحه لسانه وإنما وَكَـل العين به فنطقت “عارفين اللي فيها” وصمتت الألسنةِ أمام حرب الأعين بينهما، وكأن “يـوسف” لم ينسَ أن يومًا كان اسمه ضمن قائمة أسماءٍ مُجهزة لبيع أعضاءه..!!
خرج من سطوة ماضيه طاويًا هذا الأمر في أقصى أماكن الذاكرةِ ثم توجـه ببصره نحو “مُـنذر” هاتفًا بنزقٍ:
_مش يَلَّا يا عريس علشان تلبس الدِبَل ولا إيـه؟.
هكذا كان اقتراحه حتى تحرك “إسماعيل” نحو رفيق العمر ثم أخرج العُلبة المخملية السوداء وقدمها له فقام “مُـنذر” بتولي زمام الأمر رغم جهله برمةِ الأمر بأكمله، ثوانٍ كانت هي كامل المدة التي أضحت في طور الدقائق لكي يستقر في اصبعيها خاتمٌ على شكل زهرة رقيقة ودِبلة عريضة توسطت اصبع الوُسطىٰ في كفها، أما كفه فتزين بخاتمٍ فضي لأول مرةٍ في عمره، ولم يعلم ماهية الشعور بذلك الشيء، لكنه يشعر أنه حقًا يشعر…
دقائق تلت ذلك اجتمعا فيها مع بعضهما في شُرفةٍ طُرازية في مبنى قديمٍ بداخل بنايةٍ بمنطقة وسط البلد العتيقة، إضاءات ذهبية زينتها من السقف حتى بداية الطابق الأسفل، الزرع الأخضر كان له دورًا كبيرًا في إضفاء البهجة على الجو المحاوط لهما، رجلٌ صامتٌ لم يتكلم، نظراته بعيدة كل البُعد عن مرأى عينيها، توترٌ دلت عليه أنفاسهما المضطربة فقررت هي الخروج من طور الصمت بقولها الهاديء:
_أول مرة تشوفني بفستان، أتمنى الفكرة تتغير يعني، شكلي حلو فيه؟ أصله ذوقي أنا ولا نرجع للأول؟.
كانت تقصد فكرته عنها في الدوام بالطابع الرسمي، وتقصد رؤيته لها بالمعطف الأبيض الذي يُناقضه فُستانها الآن وقد رفع هو عينيه لها يجول بنظرةٍ في وجهها ثم نطق أخيرًا ببسمةٍ رصينة زينت وجهه:
_ذوقك حلو في كل حاجة تخصك عمومًا.
جملة واحدة ألقاها بصدقٍ جعلها ترفع عينيها نحوه لتتلاقى بعينيه الصافيتين، وقد تاها معًا في عمق الأعين الصافية، يقسم هو أنه لم يجد عناقًا فسيحًا له مثلما وجد نفسه بين عناق أهدابها، نظرتها كانت تنطق بكلمات اللسان المخبوءة خلف وطأة الكبرياء، مميزة، غريبة الأطوار، غير تقليدية، طبيبة نفسية تعيث في نفسه فسادًا غير مسبوقٍ، بنظرةٍ تعيد له أمله، وبكلمةٍ ترفعه فوق السماء السبع، وبهجرها تدفنه في باطن الأرض.
أما هو لها فكان كما اسمته هي “الراجل الغامض”! صاحب الجبين العابس، الأنف المُستقيم برفعةٍ كأنه ملك الأرض، صاحب الأعين التي لم تعلم ماهية لونها، فمن بعيد تبدو داكنة، ومن القُرب تبدو عسلية بخيوطٍ خضراءٍ واللون الأشمل كان الأخضر القاتم وكان داكنًا، في المُعتاد هو رجلٌ قليل الكلام، فارغ الأحاديث، يبدو كطفلٍ قليل التعبير والمشاركات..
لا تعلم فيما تحادثه تاليًا، هو قليل الحديث دومًا، لكن أوصل به شُـح الكلمات لتلك الحالة؟ يُشيح بنظرهِ بعيدًا عنها ويعبث في الخاتم الذي توسط اصبعه، وخلف تلك الهيئة ترى عُمرًا كئيبًا في عينيه، تلمح ماضٍ لم يمر عليه مرور الكرام، درست كل فعلٍ يصدر عنه، وكان الرد منها بقول:
_مش قولتلك أنتَ جيتلي علشان مفيش طريق غير دا؟.
جملتها كانت جملة أنثى مُحبطة، أصابتها خيبة الأمل به هو، في مثل يومها هذا كانت سترقص وتعلن فرحتها وتتغنى بمواويلٍ لكنه ضيق عليها المُحيط لكل فعلٍ خططت له، وقد وصل هذا كله لـ “مُـحي” الذي تدخل بدوره ثم قدم باقة الزهور لابن عمه ومازحها هي قاصدًا بقوله:
_الواد دا تقيل بس ذوقه حلو، أختارك أنتِ، واختار بوكيه الورد، حتى أخترني أنا علشان أصوركم مع بعض صورة الخطوبة، يلَّا بقى علشان ننزل تحت نعمل حِس ليكم.
قدم “مُـنذر” لها باقة الزهور مُبتسم الوجه بتحفظٍ شديد وكأنه يقدمها لمحافظ المدينة، وقد تلقفتها هي منه بنفس ذي البسمة فتدخل “مُـحي” بينهما يضبط وضع وقوفهما لالتقاط الصورة المُناسِبة بتلك المُناسَبة، صورة جمعت حبيبن مع بعضهما وبينهما باقة زهور غلافها أسود اللون، ووردها أبيض من عقود الفُل المُحبب لها، وفي المنتصف زهرات الأقحوان كرمزٍ للبداية الجديدة، صورة من يراها يظنها جمعت عاشقين، وخلف إطار الصورة بكواليسها هناك قلبان لم يعلم أيًا منهما العمل، وتلك المرة نطق قلبه هو، ذاك القلب الذي ضاع منه في طرقات الغُربة والضياع يخبر القلب الآخر بصدقٍ
“كل الطُرقات تدنو بي منكَ،
وكأنني لم أجد سبيلًا إلى لكَ”
__________________________________
<“كان الوقت في الغياب ثقيلًا، واليوم بخفة زهرةٍ”>
الزواج من رجلٍ مصري حاد الطباع هو أمر صعب للغاية، وزوجة جاهلة في تصريف الأمور ببعض اللين هو الأشد صعوبةً، فإن كان الرجل قوامًا يُحب التحكم، فالمرأة مُدللة بسيطة تملك أسلحة أشد فتكًا من تحكمه، وفي عُرف الأزواج تهدأ المرأة بكلمة حنونة، ويتراجع الرجل بحنوٍ منها..
تلك الكلمات ألقتها “تَـحية” عليها ذات مرةٍ وهي تشكو لها أفعال زوجها شديد التحكم فيها، لقد فرض عليها سجنًا وجعل من نفسه سجانًا وحاميًا لها، مُتغاضيًا عن كونه هو القاضي بنفسه، أما هي فسجينة مُرفهة ومُدللة في سجن حبه، ابتسمت “سمارة” الجالسة فوق الأريكة تمدد ساقيها وترفع كاحليها على الوسائد الناعمة وتشاهد شاشة العرض الكُبرى المعروض بها أحد الأفلام السينيمائية القديمة..
أما هو فأعطى لنفسه عُطلة من كل شيءٍ، أغلق هاتفه بعد أن تمم على كل شيءٍ حوله، فلا شقيقه يتوه بدونه، ولا “يـوسف” يحتاج لمراقبته، ولا “مُـحي” يود التهديد منه، ولا “مُـنذر” يحتاجه كرقيبٍ، أو حتى “سـراج” يطلبه كمعاونٍ بالعملِ، يجلس أسفل الأريكة يستند عليها بظهرهِ، وأمامه الطاولة المستديرة فوقها كوب الشاي المُحبب صنيعة يديها، وأطباق التسالي بشتى الأنواع..
يجلس كطفلٍ مهذبٍ ليلة العيد خشيةً من تخريب المكان بفضل نصائحها أن يُحافظ على كل شبرٍ وإنشٍ حوله، بينما هي تنزلق بكفها نحو خصلاته السوداء الكثيفة وتُخلل بها بنان أناملها وتُدلكها له في حنوٍ فيتأوه هو بألمٍ به لذة خفيفة تنتشر في رأسه، أما هي فتُعيد الكَرة وتنزل لذقنه المُشذبة وتشاكسه ضاحكةً فيسألها هو في عجبٍ مما تفعل:
_بتعملي إيه يا هبلة؟.
كانت تضحك بطفولةٍ كأنها تدعي البراءة ثم يأتيه الجواب منها بتلقائيةٍ لم تبذل جُهدًا في تخبئتها عنه:
_بلعب في وشك، إيه حرام مثلًا؟.
ضحك مُرغمًا وسكت وهو يُطالع التلفاز بتركيزٍ وصمتٍ بينما هي فكانت في سريرتها سعيدة بتلك الجلسة معه، حتى وإن كانت جلسة صامتة وهو بجوارها لكن يكفيها محاولاته لإخراجها من حالتها المَرضية التي عاثت في نفسه قلقًا، أرادت أن تُزيد مقدار الدلال عليه وهي ترى في جلوسه بجوارها فُرصتها الذهبية، فأتى مطلبها متدللًا ومغويًا أمام حلقات صمته:
_”إيـهاب” أنا جعانة أوي.
_كُلي يا “سـمارة”.
هذا كان هو الرد منه عليها قبل أن تدفع كتفه في حنقٍ مفتعلٍ فزفر هو بصوتٍ مسموعٍ ثم نفض عن كفيه أثار التسالي العالقة بهما، ثم التفت لها برأسه يسألها بنبرةٍ جامدة:
_عاوزة إيه؟ أنا ما صدقت أقعد رايق شوية، طلباتك؟.
ضحكت ضحكةً مكتومة تلاها ردها بخجلٍ مفتعلٍ ألبسته رداء البراءة ليكون بدون قصدٍ:
_جعانة والنونو شكله جاع هو كمان، الفينو عندك أهو والتلاجة مليانة أكل، يلَّا وريني حلاوة عمهم، يلَّا علشان لما ييجي بالسلامة ولا تيجي أقولهم بابا عمره ما بخل عليكم، هاخد صفك وأخليهم يحبوك، قوم بس.
هي تبدو نقية وفي الحقيقة هي تضغط على أهم الأوتار وأكثرها حساسيةً لديه؛ ألا وهو الأبوة التي يجهل هو مقاصدها، لقد كان جاهلًا في تلك الأشياء حتى أنه أصبح يُعد نفسه تدريجيًا لاستقبال طفلٍ بين ذراعيه لكي يتربى في كنفه، وقد تحرك بفعل نبضة خفيفة لامست فؤاده، فأنشقع النور بداخله وأصبح بدرًا مُكتملًا، وقف يصنع شطائر الخُبز الفرنسي بشرائح اللحم الباردة والجُبن الأصفر، ولم يكتف بذلك، وإنما قام بتقطيع شرائح الطماطم والخيار، وقام بتدفئة الحليب لها، ثم قام بتقطيع الفلفل الأخضر يُزين به الطبق..
رعاية فائقة وليدة لحظة دفءٍ منه لها هي، تذكر “دهـب” الحبيبة حينما كان يقف معها في مطبخه القديم ببيتهما وكانت تتحرك بتعبٍ بين زخم الأواني المُتراصة فوق بعضها وكانت تُكرر على مسمعه ضاحكةً بغلبٍ:
_أوعىٰ يا واد تكبر وربنا يراضيك بواحدة وتعمل فيها عمايل أبوك فيا، الولايا غلابة يابني، وربنا يكفيك شر جبروت الراجل على ست مكسورة، والله لولا إن مفيش مطرح تاني يلمنا أنا وأنتوا كان زماني طفشت منه ومن عمايله، بس أقول إيه؟ ربك قادر ومنتقم، لو كبرت وأتجوزت حطها في عينيك، خليها تدعيلي كدا وتقول حماتي ربت راجل.
وهذا الرجل الآن يعمل بنصائح أمه، يقف في مطبخه منتهجًا طريقتها في الاستخدام للمُعطيات لكي تكون النتائج مُبهرة أمام العين، عاد لها باسم العينين، ضحوك الوجه، هاديء الخُطى ثم وضع الحامل الخشبي الكبير أمامها وقال بهدوءٍ صافٍ نقل النسمات الطيبة لداخل قلبها:
_ألف هنا وشفا على قلبك يا عمنا.
أنزلت عينيها نحو ما تم وضعه فوق الطاولةِ ثم ضمت كفه بين راحتيها وطالعته بحبٍ بالغٍ لكونه نفذ ما أرادت أحسن مما ودت وطلبت منه:
_تعالىٰ أقعد جنبي يلَّا علشان ناكل مع بعض.
أنزلت قدميها أرضًا بينما هو جاورها بصمتٍ فوجدها تناوله الطعام وهي تبتسم له باتساعٍ أكبر حتى ظن أنه يسكن في عينيها من عمق نظرتها له، لحظات هادئة مرت عليهما سويًا أنتهت بها تستقر فوق صدره برأسها وتتشبث به، تلك التي أفتقدت للدفء الأسري هو أتاها ليكون العالم بأكمله، كان أبًا وأمًا وأخًا في السابق، مُعلمها الأول، مُرشدها الدائم، حبيبها الأبدي، والملاذ الآمن في هذا العالم الوحشي.
شعرت بكفه ينزلق نحو بطنها المُنتفخ ثم مسد عليه بحنوٍ كأنه يطمئن على من يسكن في الداخل وهي بدورها دعمت كفه بكفها الناعم، علاقة كُلما أتى الركود بينهما فيها، يُزال بجلسةٍ ودية بينهما مثل هذه، هي تحتاج لحضوره، وهو يُلبي النداء لها وما بينهما من صدأٍ غلف سطح قلبيهما يُزال بالتدريج حتى يصلا للحظة صفاءٍ مثل هذه.
__________________________________
<“يعيثون في الأرض فسادًا ونسوا رؤية الخالق لهم”>
لو علم القطيع في الغابة أين هو مقر الأسد ليثأرون من بطشه؛ من المؤكد أن الحمار وحده هو من سيخالف الجميع، ليس رغبةً منه وإنما كي لا يُساير القطيع ويصبح مثلهم، هنا حيث يظن نفسه عبقريًا بينما هو في الحقيقة خالفهم في أكثر الأوقات احتياجًا لمسايرته، ومع مرور الوقت إما يُخالف هو القطيع ويحفتظ بكونه حمارًا، إما يسير على عماه وسطهم وفي النهاية لن يُصبح فيلسوفًا..
الليل مُعتمٌ، الصَّقيع غَلَّف الأجواءِ في النهاياتِ الشتوية والتي هي أشدها بردًا، الأصوات حولهم أقرب للحفيف المُخيف، هناك بعض الحشرات تزحف فوق الأرض الأسمنتية، كل شيءٍ يُثير في النفس خوفًا إلا لهؤلاء مَن تجردوا مِن الرحمةِ، هُنا حيثُ جسد طفلٍ ذبيحٍ باعته عائلته لفك الرصد من فوق مقبرةٍ فرعونية!!.
جريمة تتكرر بغير رادعٍ ولا مانعٍ، عائلة فقيرة تبيع صغيرًا من صغارها نظير المال المدفوع، باعوا الروح بأزهد الأثمانِ وأقلها قيمةً وقد أتتهم الفرجة بفتح المقبرةِ على يد رجلٍ ذي لِحية طويلة ادعى بها أنه رَّجُل دينٍ يتواصل مع الجان ويعلم مُطتلباتهم، والمطلب تلك المرة كان روح فتى صغيرٍ في عمر السابعة وأشرف على ذلك “مـاكسيم” وفي الخلف يؤمنه رجل من رجال الحكومة…
نطق “مـاكسيم” بلهجةٍ آمرة يأمر رجال العائلة الذين باعوا صغيرهم له لكي يقوم بزهق روحه:
_الفلوس معاكم أهيه وجُثة ابنكم هتدفن كمان واللي يسألكم قولوا إنه سافر برة هجرة علشان يشتغل عند صاحب البيت، أظن يعني الكلام سهل أهو عليكم مش محتاجين حد يقولكم عليه تاني، أنتوا قولتولي أنه يتيم صح؟.
_تدخل عمه يهتف بلهفةٍ خشيةً من التراجع عن إتمام الصفقة وسحب ما تم التحصل عليه من مالٍ وفيرٍ يقويهم على عيشٍ مُرهقٍ:
_آه يا باشا يتيم ورب الكعبة، أبوه الله يرحمه كان أخويا الصغير وكان عامل بَنَّا وقع من فوق حديد مسلح، وأمه أتجوزت ورمياه عندنا، وهو كان شيطان كل يوم خناقة شكل، والله يا باشا لولا الحوجة وقلة الحيلة ما كنت عملت كدا أبدًا، بس أنا وعمه في رقبتنا كوم لحم، هنصرف منين عليهم؟ أهو راح لأبوه الجنة.
يقبض الثمن، يُسكت ضميره، يقتل صوت الحق فيه، يرى أنه أحن على الصغير من خالقه، لم يتطلع له بعين شفقةٍ وإنما كانت نظرة عادية غلف مصدرها جحود القلب الآثم بجرمٍ في حق صغيرٍ لم يتخطَ عمره الست سنوات، أما العم الثاني فرؤيته للصغير ذبيحًا جعلت جسده ينتفض فزعًا بخوفٍ ولوهلةٍ رأى به صورة صغاره الثلاث، فبكى، بكى نادمًا ومقهورًا على نفسه قبل أن يكون البكاء بسبب مظهر الصغير.
لاحظه أخوه الذي سبق وتحدث ونهره حينها بجمودٍ:
_ما تمسك نفسك يا “عبدالحليم” أومال!!.
التفت له “مـاكسيم” يحدجه بسخطٍ ثم رفع أحد حاجبيه ينطق بسأمٍ منهما ومُهددًا لهما بصراحةٍ:
_لو زعلانين خلاص، هاتوا الفلوس وروحوا بلغوا بس وروني هتاخدوا إيه؟ هيبقى موت وخراب ديار زي ما بتقولوا كدا، بعدين هو أنا كنت ضربت حد فيكم على أيده؟ أنا قدمت عرض لقيت عليه جواب وطلب، والنتيجة أهيه، ماسكين في أيديكم ملايين عمركم ما خدتوها ولا هتلمحوها حتى، ها؟.
تدخل الأول يمسك شقيقه من مرفقه وقال بلهفة كلبٍ سال لُعابه على عظامٍ تمثلت في المال المدفوع له وهو يشدد ضمته للحقيبة القماشية الممتلئة بالمالِ:
_يا باشا متاخدش على كلامه دا عيل عبيط وخايب، بعدين يا باشا إحنا راضيين، قولنالك دا عيل شيطان وغلب أبونا ومخلي السمان كلها تهج من هدومها وكل يوم مشاكل، كدا ريح واستريح يا باشا، بعدين هو فدا ولاد عمامه، العيال دي مين هيصرف عليها؟.
هؤلاء الطامعون في رغباتٍ تخص الدُنيا لن يُجديهم نفعًا أي شيءٍ في تلك الحياة، مهما لحقوا وأخذوا ستظل أحلامهم تحت وطأة المال وفقط والملاذات وفقط؛ حتى وإن كان المُقابل هو روح إنسانٍ لم يبزغ فجر أيامه بعد، وعلى غِرار القول السابق ابتسم “مـاكسيم” بإعجابٍ ثم أشار برأسه نحو “عبدالحليم” النادم وقال بتقريعٍ:
_أبقى عَقِل أخوك بقى علشان شاكله ناويها معايا، عمومًا كويس إنك عاقل وفاهم اللي فيها علشان نحل الموقف صح، وأظن كدا أنا عملت كتير ودفعت أكتر، اتفضلوا يلَّا.
قام بطردهم من البيت المُتهالك ثم أعاد رأسه يستقر برأسه على الذهب المخروج من باطن الأرض، قطع أثارية نفيسة لا تُقدر بثمنٍ يتوازىٰ مع قيمتها التاريخية، أساطير تاريخٍ حَّوت في معالمها تاريخ أُمةٍ يتهافت عليه العالم بأسرهِ، لمعت عيناه بشغفٍ وهو يرى الصندوق المُكتنز بكنزٍ ثمينٍ جعله يميل بجسده يلتقط واحدًا بحجم الذراع ثم ضحك مُنتشيًا كمن اشتهى شهوةً ونال لذتها..
المُجرم دومًا يخشى الإمساك به بقدر ما لم يخشَ ارتكاب الجُرم قبل فعله؛ حيث يسير مُنصاعًا خلف شهوةٍ لحظية بمجرد إخفاء أثرها منه يتفاجيء بعاقبة فعله، والآن يقف “عبدالحليم” كارهًا نفسه مُتذكرًا ابن شقيقه المذبوح، فتنهد بثقلٍ جعل شقيقه يعود له وهو يهتف وقد جزع منه وضاق ذرعًا:
_ياض مالك، دا أنتَ وش فقر بصحيح، بص معانا كام يابن الفقرية؟ مبلغ عمرنا كله ما صرفنا رُزمة فلوس منه، عاجبك عيشتنا وإحنا بوابين عند الناس يؤمروا ويتأمروا علينا؟ كوم اللحم اللي عندنا كنا هنربيه إزاي؟ دول سبع عيال عاوزين فلوس ياما، روح فرح عيالك وخدلهم الفلوس وهاتلهم حاجة حلوة يلَّا.
زاغ بصر الآخر، تاه في الفراغ من نفسه، أراد أن يصرخ بصوتٍ عالٍ لكنه لم يستطع فعلها، صورة شقيقه الميت أتت أمام عينيه فرآه يلومه، يعاتبه، ويحاسبه، فأنجرف خلف مشاعره صارخًا بصوتٍ متهدجٍ زاره البُكاء:
_أخوك مش هيسامحنا، “عفيفي” عمره ما هيسامحنا على اللي عملناه في ابنه دا، إحنا قتلنا عيل صغير!! دبحنا ابن أخونا بأيدينا ورايحين نأكل عيالنا بتمن دم ابن عمهم اليتيم؟! علشان واحد غريب دفعلنا بيعناله لحمنا ينهش فيه؟.
في تصويرات السينما والدراما كان أكثر ما يُعجز الكاتب هو تجسيد الحديث بين الإنسان والشيطان لكي يصل للعقل، لكن شياطين الإنس كانوا أصعب من الشياطين الآخرين ورغم ذلك يسهل تصويرهم حتى ولو كتابيًا، فهذا يبكي وينوح ويلوم نفسه ويُقرعها عن فعلها الأهوج والنيران مُشتعلة به، فيأتِ الآخر يُطفيء النيران تلك بقول باردٍ يُثلج لهيب المكان المُحترق:
_وهو أخوك دا هيعمل إيه لعيالنا الجعانين والفقر والمرض بياكل فيهم؟ أخوك دا هيعمل إيه في الديون والذل اللي إحنا غرقانين فيهم ولا حتى في مرض أمك اللي نهش جسمها؟ أبنه عاش معانا سنتين ورانا الويل، أمه نفسها رمته وراحت أتجوزت ولا فارق معاها، لو إحنا مكناش عملنا كدا، غيرنا كان هيعمل ويقبض التمن برضه، إحنا أولى من الغريب، واللي يسأل عنه نقولهم راح عند أمه وعايش معاها علشان شقي ومش مريح، رَّوح يا “عبحليم” رَّوح وفرح عيالك ولو على الواد أهو أبوه كان طيب وزمانه راح الجنة وابنه دلوقتي راحله.
أسكت شقيقه، بل قطع لسانه بأكمله، وسوس كما الشيطان في أذنه وكان الآخر مُتلقي الكلمات بصمتٍ تام حيث ترك أثر الكلمات ينتشر في سمعه ثم يصطدم بهتاف ضميره الحي فيصيبه فوق رأسه ويقتله، أومأ شاردًا وأخذ نصيبه من شقيقه الذي ابتسم ساخرًا وردد بوقاحةٍ:
_ما كان من الأول، ولا هو عيني فيه؟.
تلك الطريقة تلك لن تُجدِ نفعًا، والكلمات لم تعد تؤثر بشيءٍ، التقريع للتهذيب غير مهمٍ، فَـ رضت نفسٌ بظلمٍ لغيرها بعدما زين لها الشيطان عملها، يسيرون في الليل يرتكبون الجرائم ظنًا منهم أن عين البشر لم تعد ساهرةً؛ غافلين عن عين الخالق الذي لم ينم ولا تأخذه سِنةٌ ولا نومٍ، وحمدًا لله أن هناك قصاصٌ للمغدورين وعند الله تجتمع الخصوم.
__________________________________
<“ونحن نستعد للفرح فرحنا دون أن نشعر”>
بين فرحك واستعدادك للفرح فترة زمنية ستشعر فيها بالفرحِ قسرًا عنك، ستظهر حينها علامات سعدكَ في الأعين قبل النبرةِ وتستوطن القلب قبل النظرةِ، فرحة تأتينا من بعد شُـح الأفراح وطيل الكمدِ، فرحة تأتي فتطفو فوق سطح بحرٍ من الأحزان، فيلمع السطح ويسرق الأنظار، لكن في العُمق نحن كُنا غارقين في الأحزان..
في اليوم التالي، تحديدًا بوسط النهار في حديقة بيت “عبدالقادر” أتخذ “أيـهم” منها مكانًا له لكي يُنهي عمله الخاص بالبناية الجديدة التي يتوجب عليه الإشراف على تجهيزها لتكون تحت وطأة إشرافه كما غيرها من البنايات التي تولى هو مُهمة تجهيزها ورسم تفاصيلها ببراعةٍ، وقد أتى “إيـاد” له يجلس بجواره وهو بسأله بتعجبٍ:
_أنتَ سايب الشغل وجاي تشتغل هنا؟.
صوته استرعى انتباه والده الذي بدوره علق عينيه بصغيره المُبتسم وحينها تذكر حديثه مع “أبـانوب” منذ أسبوعٍ وقد أضاف المشهد له شجاعة كافية تعج بالصفاء لكي يُباشره بالحديث فيما يود، لذا أغلق حاسوبه ثم قال بنبرةٍ هادئة بعدما حمل ابنه وأجلسه فوق فخذه:
_أنا عاوز أتكلم معاك شوية، طبعًا أنا بعتبرك صاحب ليا مش ابن وبس، وسري كله معاك أنتَ ومش بخبي عليك حاجة، وفي نفس الوقت أنتَ كمان مش بتخبي، أو كنت كدا، أنا عرفت إن هي أتخطبت وأكيد أنتَ عرفت صح؟.
لم يرد إخباره أن الصديق الوفي هو من أفشى له بهذا السر حتى لا تتزعزع ثقته به، لذا آثر أن يأتِ بحديثه كأنه مجهول المصدر وقد تغضن وجه ابنه في الحال ساخطًا عليها ثم أطلق زفرة قوية أعربت عن جزعه منها، فسأله والده بحنوٍ وسط زخم أفكاره:
_أنتَ إيه اللي مزعلك؟ خلينا نتكلم كلام ناس كبيرة وواعية شوية أكتر من كدا، مش أنا أتجوزت؟ وعيشت حياتي أنا وأنتَ وربنا كرمنا من وسع بست جت عوضتنا عن كل حاجة شوفناها؟ بقت أم ليك أحسن من أي أم في الدنيا كلها وحتى الخلفة مش عاوزة تخلف علشانك أنتَ، وبقت ليا مراتي وصاحبتي وحبيبتي وأختي وأمي كمان، يعني دا حقها زي ما كان حقي، دا شرع ربنا وعادي، تتجوز وتشوف حياتها وتبعد عننا أحسن وتشوف حالها.
كان يهون من عمق الأمر على عكس ابنه الذي يراه مهولًا، ظن “أيـهم” أنه يُخاطب صغيرًا ولم يُدرك أنه يتحدث مع طفلٍ كبر أعوامًا فوق أعوامه العشر، فكان رد ابنه عجيبًا على سمع والده حينما قال:
_بس أنتَ لما جيت تتجوز عملت كدا علشاني أنا، هي لأ، هي بتتجوز علشان نفسها يا بابا مش علشاني زيك، هي عاوزة تكون مبسوطة وهي عمرها ما كانت معايا أصلًا، أنا مش زعلان منها كمان، أنا زعلان علشان لسه بزعل وهي السبب، أنا كنت هسمع كلام “أيـوب” علشان قالي إنها أمي و “آيـات” كمان بس خلاص، هي مش أمي، “نِـهال” هي مامتي وبس، التانية دي مش بحبها ومش مهمة أصلًا.
ساورت البسمة شفتي “أيـهم” كما يساور الحُلي الرسغ أسفل الكف، وجد راحة غريبة تجتاحه وتُسكنه كونه يستمع لهذا الحديث من ابنه، وقد قرر أن يضمه فسحبه داخل عناقه، سكن “إيـاد” بجسده الصغير في جسد أبيه الضخم، واستقر باسمًا كأنه مركبٌ ورست أخيرًا ترتاح على الشاطيء من بعد صراعٍ مع الموج، وقفت في الخلف “نِـهال” تلتقط أنفاسها وتعبرها لرئتيها بعدما استمعت للحوار الدائر بينهما..
لقد كان “إيـاد” ابنًا لها حتى وإن لم يكن نُطفةً برحِمها، لم تعامله يومًا كغريبٍ عنها، بل وأمام نفسها حتى أفصحت أنه ابنها وأصبح حقًا لها، الابن الذي لم تنجبه أو تحمله في بطنها لكنه أول من اختصها بالأمونةِ وألقاها على سمعها، ولجت للمطبخ ركضًا ثم أتت فجأةً عليهما ووضعت فوق الطاولةِ بعض الشطائر ومعها أتت بأقداحٍ من الشاي الدافيء كما يفضل الاثنان وهي معهما..
جلست أمامهما في صمتٍ تراهما سويًا بعينين تحتفظ بتلك الصورة جيدًا بعد حرمانٍ أصاب روحها بالعطشِ، وقد سألها “إيـاد” بعبثٍ طفولي يُشير إلى ما فات من أيامٍ:
_أنتِ لسه زعلانة علشان مرقصتيش تحت المطر الكام يوم اللي فاتوا؟ على فكرة لو كنتِ قولتي لبابا كان هيوافق.
زجرته هي بعينيها أن يحفظ سرها فوجدته يُراقص كلا حاجبيه لها وحينها حاولت أن تقترب منه فوجدته يركض بعيدًا، حسنًا هي لن تيأس معه، وأسفل نظرات “أيـهم” الحائرة في أمرهما ركضت خلفه وضحكاته الممتزجة بصرخاتٍ تملأ الحديقة المُزهرة فتتفتح الأزهار على صوتها..
فهم ما يدور بينهما وأن زوجته كانت تأمل فى رقصةٍ أسفل رذاذ المطر بعدما نضجت قبل وقتها المُحدد، فابتسم هو ثم تحرك بخفة مختلسٍ يتحرك في أروقة الأندلسِ ويقتنص منها ما يود ويرغب، وعلى غِرار ذلك أكمل حركته ثم سحب الأنبوب البلاستيكي الطويل المستخدم لري الحديقة، ثم قام بفتحه ووضع اصبعه عند فوهة الأنبوب ليخرج الرذاذ وينتشر في الحديقة وأول من ابتلت كانت هي، في تلك اللحظة ضحكت بدهشةٍ فوجدت الصغير يمسك كفيها ويدور بها وهي معه تضحك عاليًا بصخبٍ أخذ يزداد مع زيادة المياه من حولها..
شاركهما “أيـهم” ضاحكًا بثغرٍ واسعٍ، قلبه ينبض لمرته الأولى بتلك المشاعر، مثلثه الآن أكتملت أضلاعه معًا فتحرك يضم الاثنين له ليجد ابنه يُشدد عناقه له ويُخبره عن حُبه له ولها وأنه كان محظوظًا ليحظى بحب كليهما، والأب والأم على إثر ذلك يبتسمان بفرحٍ..
__________________________________
<“بعض المراحل الشاقة هي بذاتها نتيجة الوصول”>
لا تتواجد رحلات مُجزية اعتباطًا أو من قبيل العبث، وإنما ما نحن عليه اليوم دفعنا أجره مُسبقًا في أشياءٍ سِرنا إليها بشق الأنفس، حتى كِدنا أن نَلفُظ الأنفاس عند مفترق الطُرق قبل أن نخوضها، ومن ثم وصلنا للقمةِ بعد جدٍ وعملٍ شاق ولا أحد يرىٰ الكفاح من سفحِ الهرمِ، وكأننا ولِدنا فوق القمم..
بعد مرور ساعاتٍ..
كان يتحامل على نفسه وهو يمسك مرآة زُجاجية كبيرة الحجم انتقلت لشقته مع أشياء زوجته منذ أربع أيامٍ، لقد تم نقل كل شيءٍ هنا حتى يتم حفل زفافها إلى بيتهِ بعد أسبوعٍ من اليوم، وقف “أيـوب” يزفر بقوةٍ بعدما باءت محاولته السادسة بالفشلِ فآخر ما قام بفعله هو أنه أراح الزُجاج فوق الحائط ثم هتف بصوتٍ مُحتدٍ بعض الشيء بعدما قامت هي بإزهاق طاقته:
_يا “قمـر” الله يرضى عنك بقى اقتنعي بمكانها دي خامس حيطة نحط فيها المراية، ياستي أحطهالك فوق راسي؟ تعبت وقطعت النفس منك خلاص، أومال لو مش خارج من حادثة كان إيه اللي حصل.
هي بدورها عقدت حاجبيها، قامت بتربيع ذراعيها عند صدرها، زفرت بضيقٍ لكونه مل بعد الطلب المائة وستون، وكان جوابها عليه موجزًا يُعبر عن ضيقها منه بقولها:
_مش فارقة، حطها مطرح ما تحب.
حاول أن يستمسك بصبره أمامها رغم أنه نفذ كُليًا، نظراتها وهي حزينة وترمقه جعلته يشعر أنه قام بالتقصير في حق سعادتها، فلا بأسٍ من محاولةٍ أخرىٰ تملأ قلبها بالأمل، فزفر هو بضيقٍ ثم همس لنفسه يستجير بخالقه أن يمن عليه بجرعة صبرٍ زائدة:
_يا صـبر “أيـوب”..
يرضيكِ إيه يا “قـمر” وأعمله علشانك؟.
أتى سؤاله حنونًا رغمًا عنه حتى كادت أن تبتسم هي له لكنها تصنعت الجدية الزائدة عن الحد وقالت بنبرةٍ هادئة كأن الأمر لم يعد يُشغل عقلها:
_خلاص مش مهم، شوف اللي يريحك وأعمله علشان أكيد أنتَ تعبت وأنا مش هقدر آجي عليك أكتر من كدا، نفسك قصير يا أسطى “أيـوب” يدوبك الطلب ١٦٠ وجيبت أخرك؟ دا أنا قولت هتكمل معايا لحد ٢٠٠ طلب.
لا يعلم إن كانت تمزح أم تتحدث بجديةٍ لكنه لم يرغب بإحزانها فتحرك يمسك المرآة التي كانت على شاكلة أوراق الشجر ثم التفت بها يبحث عن حائطٍ جديدٍ وما إن وجد الحائط المجاور لباب الشقة اقترب منه يحاول وضعها بشكلٍ لائقٍ حتى وجدها تقترب منه ثم قالت بلهفةٍ ضاحكة خلفها الحماس في قلبها:
_أيوة ونحط حروف الآية القرآنية دي حواليها بشكل ورقة الشجر، وأول ما حد يدخل يشوفها، تصدق كدا أحسن، خلاص أنا أقتنعت إن كدا أحسن، فيه كرتونة تحت “يـوسف” هجيبها وهو طالع وكدا نخلص كل حاجة وماما وخالتو “أسماء” هييجوا يكملوا بس بعد خطوبة “عُـدي” شكرًا يا أحلى “أيـوب” في كل الدنيا.
ضحك لها ثم أنزل المرآةِ برفقٍ وبحركةٍ خاطفة وقف وحاصرها في الحائط فضحكت هي بمراوغةٍ وقالت:
_شوفت المشهد دا كتير قبل كدا، عيب كدا يا “أيـوب”.
رفع كلا حاجبيه باستنكارٍ ثم قال بصوتٍ رخيمٍ بعدما جال بعينيه في وجهها يتشرب ملامحها التي أصبح يحفظها عن ظهر قلبٍ كأنها صورة لم تبرح خياله:
_وأنتِ أحلى وأحلى، أنا مش عاوزك تزعلي هنا وأنتِ بتعملي أي حاجة في بيتنا، عاوزك تكوني فرحانة ومبسوطة علشان دا بيتنا اللي هيشهد اللي حياتنا مع بعض، عاوزك تكوني هنا راضية ومبسوطة وعلى طبيعتك، متخافيش من أي حد ولا أي حاجة، أنا معاكِ هنا وعاوزك طول ما أنتِ معايا هنا تعملي ما بدالك، برة في حدود هنلتزم بيها واحدة واحدة مع بعض، لكن هنا براحتك أوي.
أومأت له بخجلٍ من اقترابه السارق لهدوئها، لازالت تتأثر بقربه وتشعر أنها تود الركض على الرغم أن هي في أغلب الأحيان من تقوم بمشاكسته، تشبه القط حينما يقفز على طبق اللحم ويخطف منه قطعة ويركض بعيدًا وصاحب المسروقات يركض خلفها لكي يستعيد حقه منها، وفي الحقيقة هي تقفز تسرق قلبه، لاحظ تأثرها وخجلها فأقترب يُلثم جبينها بعمقٍ ثم قال بثباتٍ يقصد به ممازحتها:
_تصبيرة حلوة لحد ما نخلص الشقا دا.
ابتعد عنها حينما أدرك وقع خطواتٍ تصعد الدرج وقد كان “يـوسف” هو الزائر لهما ويحمل بين يديه كرتونة طولية أحتلت منطقة الصدر عنده وقد ولج ووضعها في شقة شقيقته ثم زفر بقوةٍ وأشار نحو “أيـوب” يأمره بحدةٍ:
_الحاجات دي تركب النهاردة علشان لو فضلت في الكرتونة هتتكسر، مش مال حرام هو، دي حاجات جاية بالشقا والغُلب يا شيخ، وركب بذمة بلاش كروتة، مش فوقت وخفيت؟ وريني شطارتك بقى.
وزع “أيـوب” نظراته بين الاثنين ثم قام بفتح الكرتونة يتفحص ما بها ثم بدأ يتحرك بخفةٍ مستعينًا بالخالق فيما يفعل دومًا حتى أنه بدأ يتلو آيات القرآن دون أن يُدرك ذلك، بل لسانه أخذ يُردد ما تيسر من القرآن الكريم حتى أخذ من الوقت ما يقرب الساعة وأكثر منشغلًا بتحضير شقته، وقد جلست “قـمر” تُشير له على مكان كل شيءٍ وهو يتحرك بآلية وفقًا لإرادتها، بدأت معدته تستغيث وتطلب الطعام، وبدأ الجوع ينهش فيه، وما ساوره ضيقًا هو جلوس “يـوسف” دون أن يعاونه بشيءٍ بل اكتفى فقط أن يصعد بالأشياء من الأسفل…
أتى “يـوسف” ببعض الأشياء الأُخِر له ثم وضعها عند مقدمة الشقة وجلس بغير إكتراثٍ يفعل ما يصيب “أيـوب” بشللٍ، وقد قام “أيـوب” بربط المسار في الحائط وبدأ جسده يستغيث منه، لقد تحامل على نفسه وآلامه ونسى من فرحته أن أثر الحادث لازال عالقًا بجسده، تراجع للخلف يتنفس فوجد زوجته تجلس على عاقبيها تُتمم على بعض الأشياء وقد قال هو بصوتٍ رخيمٍ لها حينما كان على يقينٍ بتعبها هي الأخرى:
_أنا هنزل أشوف الست “وداد” مجابتش السندوتشات ليه علشان تاكلي وترتاحي شوية وكفاية كدا، بكرة أنا هكمل الحاجة قبل ما أنزل الشغل، ولو عوزت حاجة هكلمك أكيد اسألك عنها، تمام كدا؟ قومي يلَّا.
أسندها بكفه وتحرك بها حتى توسعت عيناه ما إن وجد “يـوسـف” يجلس على مقعد السُفرة المُغلف وأمامه شطائر كثيرة معها زجاجة عصيرٍ وهو يمسك هاتفه بيدٍ ويتناول الطعام باليد الأخرىٰ ولم يبالِ بهذا الذي أكل الجوع معدته، وقد أقترب منه “أيـوب” يسأله بنفاذ صبرٍ:
_أنتَ بتعمل إيه؟ جيبت الأكل دا منين؟.
انتبه له “يـوسف” وقد استرعاه صوت “أيـوب” المنفعل وحرك عينيه نحو الطبق كأنه يستكشفه ثم قال بتلقائيةٍ شديدة:
_جيبته من تحت وأنا بطلع باقي الحاجة، الست “وداد” أدتهولي علشان مقدرتش تطلع السلم، هو كان يخصك في حاجة يا “أيـوب”؟.
أنهى جملته ثم سحب الشطيرة الثانية يقوم بقضمها وقد تحرك “أيـوب” وقام بخطف الصحن من أمامه وهو يُغمغم بحديثٍ غير مفهومٍ فتحرك “يـوسف” خلفه يحاول أن يخطف الطبق منه وكان مشهدهما أقرب لثورة الجِياع، فركض “أيـوب” خارج الشقة ولحقه “يـوسف” وهما يتقافزان فوق الدرج بضحكاتٍ واسعة وحينها رفع “أيـوب” صوته يوجه حديثه للآخر وسط صوت ضحكات “قـمر” الرنانة:
_عاملينلك لحمة وبامية وملوخية وباصص في سندوتشات المربى بتاعتي وخلصتها؟ يا راجل يا طماع، طب ناديلي دا الجوع شق بطني نصين.
وقف “يـوسف” أمامه يشير له أن يقترب بالصحن وهدر بإنفعالٍ نبع عن جوعه وعدم صبره لتناول الطعام:
_هات الطبق وخليهم يعملوا ليك غيره، أنا لسه هروح شقتي وأكمل فيها شغل بعدما ضيعت اليوم كله على شقتك، وتاكل وتيجي معايا نشوف ورانا إيه نخلصه هناك، يا كدا يا الجوازة دي مش هتتم.
كان “عبدالقادر” يراقب هذا كله بضحكةٍ واسعة عليهما ثم قال بسعادةٍ غمرت قلبه لم يقو على احتوائها بين جنبات صدره بل تركها تفيض من عينيه بحبٍ لأجل أبناء أخيه ولأجل ابنه الطيب، وقد أقترب منهم ووجه حديثه لهم بقوله:
_ممكن كفاية فضايح ثورة الجِياع دي وتيجوا علشان ناكل مع بعض؟ “أيـهم” بياكل فوق في شقته علشان تكونوا براحتكم، يلَّا أنا عاوز آكل جنب ولاد أخويا وهما معايا.
ابتسموا له ثلاثتهم ثم تحركوا خلفه وجلسوا معه حول المائدةِ وهو يبتسم بسعادةٍ وقد جلست “قـمر” بجواره وجلس “يـوسف” في الجوار الآخر وبجواره جلس “أيـوب” المبتسم ببشاشةٍ ثم رفع صوته باسم الخالق وردد الجالسون خلفه وقد تحركت لمحة من عيني “يـوسف” نحو “عبدالقادر” يلحظه بطرفهِ ليبتسم تلقائيًا متذكرًا أبيه والآخر يبتسم له بعينيه متذكرًا “مُصطفى” وكلاهما تحرك بعينيه نحو “أيـوب” الذي ذكرهما بالراحل عن العين والساكن في القلب..
__________________________________
<“لازُلنا نبحثُ عن التعافي، حتى نتعافى من أنفسنا”>
على غِرار كُل الخيبات هناك ندبة تستوطن القلب حيث نواة مركزه لم نصل لها لكي نتعافىٰ من أثرها، وإنما هناك أملٌ يطفو فوق سطح الخيبات وجذوته لا تنطفيء وإنما تلمع مثل آشعة الشمسِ الساطعةِ فوق سطحٍ عاكسٍ يلمع أثر شعاعه في العين..
هي هنا بعد محاولاتٍ دامت لقرابة العشر أيامٍ والنتائج تتباين بغير تكرارٍ، فمرةٍ تجد في نهاية كابوسها أملًا ومرةٍ تجد في نهايته ألمٍ، وفي كلتا الحالتين هي تسير وفقًا لأوامر طبيبتها النفسية، فهي منذ ما يقرب الشهرين وهي تلتزم بأمر علاجها، بدأت العلاج فعليًا منذ ما يقرب الثلاث أسابيعٍ والنتائج أختلفت كُليًا عن السابق، ولجت غرفة “فُـلة” وجلست معها في الجلسة النفسية المُعتادة تسرد لها كل شيءٍ ومعها دفترها به كافة التفاصيل الكافية والوافية لشرح التجربةِ بكل مقدارٍ عايشته هي..
أتى حديثها به لمحة أملٍ بعد التجربة التي خاضتها تسرد به شيئًا عايشته في نومها:
_حاسة الخوف بقى أقل تدريجيًا من الأول، يعني بصحى متقبلة إني صحيت عادي، الكابوس ساعات نهايته بتكون حلوة للآخر وساعات بكل أسف تحصل حاجة تخليني أخاف وأصحى بصرخ، منكرش إن قرب الفرح وفكرة إني هتجوز دي فكرة مربيالي خوف كبير جوايا بس بحاول أتخطاها، بحاول أنسى حاجة زي دي وأعيش عادي، “يـوسف” بيحاول علشاني وأنا عاوزة أحاول برضه علشانه قبل ما يكون علشاني، بس أنا ساعات بتعب، أنا لسه بخاف أنام..
فهمت “فُـلة” كل شيءٍ فناولتها بسمة هادئة ثم قالت بثباتٍ:
_أنا فاهمة بتمري بإيه وحساه كمان، لأني بطبعي أنثى زيك وفاهمة فكرة التعدي على حُرمة الجسد وخصوصياتك واقتحام مساحتك، بس الحل هنا بقى مختلف، عاوزين التوتر اللي عندك دا والضغط النفسي نبدأ نفرغه أكتر بشكل أسرع، واحدة واحدة مخزون الطاقة السلبية اللي جواكِ هيقل، تاني حاجة هو العلاج “التخيلي الاسترجاعي” بمعنى إننا نستمر في تغيير نهاية الكابوس ونفتكر النهاية اللي عاوزينها بس، بمعنى إن الإضطراب اللي عندك اسمه (PTSD) أهم علاج فيه هو التخيلي الاسترجاعي، بمعنى إنك ترجعي الكابوس في ذهنك وتفتكريه وتحطي النهاية اللي حباها مهما كانت، زي ما حاولتي وحكتيلي حصل إيه أول مرة فدي كانت نهاية متوقعة أوي، هنستمر كدا خاصةً الأسبوع دا، وبلاش ضغط عصبي ونفسي.
أومأت لها “عـهد” بإدراكٍ ووعي لكل حرفٍ يُنطق، فأكملت “فُـلة” تُتابع حديثها بقولها العملي:
_الأسبوع دا والفترة اللي جاية هنلتزم مع بعض بروتين مُنظم نمشي عليه، في الأساس وفي العموم الروتين والنظام بيساعدوا على الاسترخاء، خاصةً قبل النوم، ومن المهم وجود روتين ثابت حياتي ويومي، زي إيه؟ ممارسة نشاط مُحبب أو هواية مثلًا بتحبيها أو شغل يدوي، ممكن كتابة نصوص أو شعر أو رسم، ممكن قراءة كتاب بتحبيه أو رواية تخليكِ تنشغلي بالتفكير فيها، ممكن لو مش هتقدري تعملي كل دا، يبقى تاخدي حمام دافي تهدي بيه توتر عضلاتك وجسمك، وممكن برضه تمارين تنفس واسترخاء، ممكن تجربي كذا حاجة منهم، وممكن تجربي حاجة، وطبعًا وممكن كلهم، عاوزاكِ تشيلي فكرة الفرح من راسك خالص علشان تقدري تتعاملي عادي، في العموم البنت كل ما فرحها يقرب بتخاف، إنما في حالتك أنتِ بتضغطي على نفسك بخوف أكبر، بلاش منه وسلمي نفسك للفرحة أحسن يا “عـهد”، لأن ببساطة “يـوسف” قابل وفاهم ومُدرك كمان كل حاجة، وكتر خيره برضه ليلة فرحه هتضرب وساكت أهو.
مازحتها بقولها الأخير وقد ضحكت معها “عـهد” ورق قلبه لأجله، تتمنى لو كان الأمر بيدها لكانت هي من توددت إليه وطلبت عناقه وأن تبقى حبيسة بين ذراعيه، لكن ما إن تبقى بجواره ويحتضنها يبدأ عقلها برسم المخاوف أمام عينيها وكأنها لوحة لا يُحق لها أن تُحيد ببصرها عنها، استمرت الجلسة كما المعتاد في مناقشةٍ بينهما و “فُـلة” تدون حالة التطور التي بدأت تطرأ على نومها مؤخرًا، وكأن القليل من هذا العلاج كما الكثير من كل شيءٍ.
أنهت “عـهد” جلستها ونزلت من العيادة لتجد سيارة الأجرة في إنتظارها بعدما سبق وطلبها لها “يـوسف” حتى تقلها للحارة، وقد ذهبت هي نحو شقتها الجديدة معه فوجدته يعنل برفقة “أيـوب” ومعهما “أيـهم” والمفاجأة كانت بحضور كلًا من “عُـدي” و “نـادر” معهم، وكانت هي الأنثى الوحيدة بينهم، فتحرك “يـوسف” بها بنزعة رجولية خالصة ثم وضعها بالشرفةِ وقال بلهجةٍ آمرة:
_تخليكِ هنا بقى ومتخرجيش، يا إما ترَّوحي تشوفي حالك في البيت، أنتِ الست الوحيدة هنا وأنا بصراحة بغير وخُلقي ضيق، اتفقنا يا عسولة؟.
أومأت له بصمتٍ ضاحكة الوجه وباسمة العينين، فيما استأنف هو العمل بجوار “أيـهم” الذي تولى مهمة الديكورات ووضع كل شيءٍ وفقًا للذوق الكلاسيكي القديم المختلط بلمحة حداثةٍ، أما كلًا من “عُـدي” و “نـادر” فهما عاونا “أيـوب” الهاديء في تركيب بعض الأشياء بالحوائط وفي الكهرباء، وساد الجو لحظات سعادة شارفت على القدوم وهي تُراقب من النافذة وتضحك وتتمنى أن تكتمل الفرحة تلك المرة وفي الحقيقة هي ستكتمل كما تمنت وأفضل وذلك لأنها تستحق هي وهو من قبلها.
__________________________________
<“يحتاج البيت لنورٍ يفترش في أركانه”>
فاقد الشيء هو أحق من يُعطيه لأنه أكثر الناسِ درايةً بألم الافتقاد له، لكن من لم يفقد من الأساس لن يفتقد ومن لم يفتقد لن يُقدر قيمة الشيء، فإذا فقدت من المؤكد ستعطي ببزخٍ وإذا عاد لكَ الشيء ستحفظه بين جفونك، وأيضًا ستُكمل عطائك.
هذا البيت آن له أن يُعوض من بعد الفقدِ، وآن له أن يشهد جمعًا حافلًا بين الجالسين حول “نَـعيم” مبتسم الوجه ببشاشةٍ على كلمات “سـمارة” الساخرة وهي تقلد بعضهم وتشكو له الآخرين، وقد جلسوا حوله الشباب بأكملهم، ثم أتت “آيـات” بقالب كعكٍ قامت هي بصنعه بنفسها، ومن خلفها أتت “نـور” التي صنعت أكواب العصير المميز الخاص بها واشتهرت هي بصنعه.
عزيمة قررها “نَـعيم” ليعيد بينهم أواصل الودِ ويشهد بعينيه دفء العائلة، وقد أخذ قطعة الكعك من يد زوجة ابنه ثم قال ضاحكًا بوجهٍ بشوشٍ:
_العزومة دي مش محسوبة يا شباب، المرة الجاية هجيبكم كلكم وأعملكم ليلة عربية في الخِيم برة ونشوي ونحتفل بولادة “سمارة” و نجاح “مُـحي” ومعاهم جواز “يـوسف” و “أيـوب” كمان وأهو ربنا يديم علينا الفرح كمان وكمان ويبقى جواز “إسماعيل” كمان والباقي.
ابتسموا له جميعًا وقد نظر “مُـنذر” بجانبه فوجد “إسماعيل” يتناول الكعك حينها مال عليه يُحدثه بنبرةٍ خافتة:
_عاوزك ثواني، محتاج أتكلم معاك.
يطلبها من رفيقه الذي أومأ له موافقًا وقبل أن يغادرا الغُرفةِ رفع “مُـحي” رأسه نحوهما وقال بضجرٍ زائفٍ استدعاه على هيئتهِ:
_وأنا عاوز آجي أنا كمان، الله؟.
ضحك الإثنان وقد أشار له “مُـنذر” أن يأتِ معهما فهرول الآخر خلفهما راكضًا، بينما “تَـيام” فتحدث مع “سـراج” يُكرر عليه ما يتوجب عليه فعله بشأن العمل حتى ينجو من براثن هذا الذئب الذي يتربص له، وقد أرهف الآخر السمع له بخضوعٍ ولم تفارقه عينا “نـور” المُشفقتان التي رآت إرهاقه باديًا فوق وجهه بسبب كل شيءٍ حوله يخص العمل فلم يعد حتى قادرًا على إبداء أي فعلٍ أو يقدر على رد فعلٍ.
في الخارج كان “مُـنذر” حائرًا في أمره، فمهلة شهرٍ أبدًا لن تكن كافيةً له لكي يستعد لعلاقةٍ رسمية تغزو حياته، يبدو كأن عمه وضعه بين المطرقةِ والسندان ونفذ أمره بموافقة عائلةٍ كاملة ولم يستطع هو أن يُبدي اعتراضه البائن في عينيه، لقد كان الأمر مشوشًا لعقله كأنه يركض في إتجاهٍ والجميع من حوله يركضون عكسه ويتهمونه أنه يسير عكسهم، شهرٌ كاملٌ مر منه يومٌ لن يكن كافيًا ليفصح عن مخبوءات حياته، سريرته تمتليء بالكثير من الأخبار السوداء القاتمة ومن المؤكد أن أي عائلةٍ تنكشف لها ما سيكشفه هو سيقومون بطرده من إلقاء العديد من الاتهامات عليه.
وقف كلًا من “مُـحي” و “إسـماعيل” مع بعضهما أمامه ينتظران منه لحظة الصفر لإنطلاق حديثه وما إن طال صمته كان حديث “إسماعيل” حانقًا وهتف بجزعٍ منه:
_لأ خلص أنا سايب التورتة جوة هتسيح، بنَّام بدري إحنا وورانا أشغال، عاوز إيه يا رَّيس؟.
زفر “مُـنذر” والتفت يُلقي الحديث جرعةً واحدة كمن يتناول العقاقير الطبية برشفةٍ واحدة خوفًا من مرارة علقها في حنجرته ليكون الجواب:
_عاوز أتصرف في اللي أنا فيه دا، دا أنا قدامي شهر بس وأكون متجوز، بس أنا مش هقدر أتجوز وأنا كداب وخاين للأمانة ومش هعرف أبني حياتي على كِدبة، اللي أنا مخبيه عن نفسي كتير، أسرار مرمية في بير غويط ملهوش قَرار، لازم أقولهم اللي أنا مخبيه علشان أقدر أكمل الخطوة صح، كدا مش نافع أكمل الطريق بكدبي عليهم، هي فكراني مُجبر عليها بس أنا مُجبر أحبها، النهاردة بعتتلي رسالة قالتلي إنها لاحظت إني اتضايقت إمبارح وحست إنها بتورطني بزيادة، وأنا مقدرتش أجاوب، هتبقى مصيبة سودا فوق دماغي لو بحبها بجد علشان بأي شكل أنا هبقى مُضطر أخسرها، ودي بالذات مش هقدر أخسرها.
لاحظ كلاهما حالته وكأنهما يُشاطراه في حالته، فأحدهما سبق ومر من نفس المُنعطف، والآخر يمر به هو أيضًا، وقد جاء حديث “إسماعيل” حكيمًا وناصحًا بقوله:
_بص بما إني عديت من الطريق دا وفاهم كويس أوي أنتَ بتحس بإيه، فأنا هقولك إني حاسس بيك وفاهمك، بس الحل مش إنك تقول للي حواليها، قولها هي، خليها هي محور الحكاية وحسسها إنها مميزة كفاية علشان تقدر تقولها على أسرارك كلها، يمكن تحسبني ببالغ، بس أنا بجد بتكلم بحق، هي لازم تشهد على حُبك ليها وتشوف بعينها، أنا لما روحت صارحت “ضُـحى” كنت خايف ومتوتر بس قولت مش مهم، أهو أكون عملت اللي عليا كله، وغابت عني أسبوع كامل، بس لما رجعت وخدت وقتها وفكرت أنا بقيت معاها متطمن، بقى ليا حد أقرب مني لنفسي ومشاركني ليلي ونهاري، وتفكيري ومن غيرها هضيع، قولها علشان ترتاح، وتبصلك بنظرة شفقة أحسن من نظرة استحقار إنك كداب وخاين.
وصل الحديث لكليهما وكان “مُـحي” يتلقى الحديث هو الآخر وكأنه له، يحتاج لشجاعةٍ فوق شجاعته حتى يُباشر تلك الـ “جـنة” بما يود، فيكفيه ما فعلت به لقلب موازين حياته، حتى قام هو خفاءً بحذف كل جهات الإتصال والخروج من كل مجموعات الصداقة وأكتفى فقط بالتفكير فيها هي وحدها، وهذا هو سره الأول الذي لن يُفشيه إلا لها هي وحدها..
أما “مُـنذر” فراقب انسحاب رفيقه أسفل نظراته لكي يجاوب على مُكالمة زوجته له والتي يقضي معظم الليل بصحبتها مُتسأنسًا بها في وحشة الليل، حياته بدت أكثر هدوءًا معها، وصل لمرحلةٍ بالغة من السلام النفسي، أصبح أكثر إشراقًا مُتخليًا عن وحدته وعنفوانه، وقف “مُـنذر” حائرًا ثم أخرج هاتف يُتابع رسالتها التي كانت بنفس الجملة، فلاحظه “مُـحي” وحينها أقترب منه يسحب الهاتف يقرأ رسالتها ثم بحركة خُبثٍ أرسل لها صورتها برفقة خطيبها “مُـنذر” ثم رافق الصورة بأغنيةٍ، خاصةً تلك التي أخبره أنها تلق بهما كثيرًا.
لقد جهل أن الموسيقى والمعازف حرامًا حتى جال بذهنه أن يرسل أخرى لـ “جـنة” لو كان يملك لها حسابًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بالتأكيد ستسعد بذلك، ابتسم ما إن تذكر هيئتها وهروبها من أمامه بعدما ألقى ما جبتعه أمامها، راقبه “مُـنذر” بعجبٍ في أمره ثم خطف منه الهاتف وسُرعان ما توسعت عيناه إثر فعل ابن عمه الأهوج، فأتاه الرد من الآخر قائلًا بزهوٍ في نفسه:
_قولتلك أنا خبرة في الحاجات دي وهتشوف.
تحرك “مُـنذر” نحو الخيول يختلي بنفسه ثم ضغط على زر التشغيل بالهاتف فصدح صوت الكلمات المُرسلة لها من اختيار “مُـحي” ليشرد هو بها وبكل الكلمات:
_”لما لقيتك في بالي بيني وبينك قلقت،
والإحساس لما جالي أنا مع نفسي أتضايقت،
دا من الواضح عليا هفتكرك كل وقت، طب لما
أنا عندي نية أرجع طب ليه فارقت؟
_”يمكن جيتلك عشان مبقاش ينفع ماجيش،
ما أنا لو سيبتك كمان، يمكن أبطل أعيش،
مستنيني من زمان فتعمتلش اتفاجئت،
يمكن رجعني ليك طولة تفكيري فيك،
أو خوف وأنا مش معاك، أو خوف من الناس عليك،
يمكن وأنا مش لاقيك من العيشة والناس زهقت.
توقفت الكلمات هنا وقد وقف شاردًا في الكلمات يود أن تسمعها وتُشاطره حيرته وليله وتُصدق قلبه، لا يعلم كيف هي الحياة بين الأحبةِ لكنه إن أراد أن يتعلمها، سيفعلها لأجلها هي وإن كان مقصد الأحبةِ هنا يختص بفردٍ فمن الأكيد أنه لن يلِق بغيرها هي، تعب وكثر تعبه النفسي ولن يصل لراحته إلا بمصارحتها، فتركها له من باب حقٍ أهون عليه من تركهِ من باب الاستحقار وهي تراه وضيعًا.
__________________________________
<“قليل الحديث في المُعتاد يكون حكيمًا”>
“لسان العاقل وراء قلبه،
وقلب الأحمق وراء لسانه”
تلك الحكمة إن وُضِعت في الاعتبار بعينٍ آخذة ما يفيدها، ستعلم أنها حقيقة مرئية للعيانِ ولن تُخذل حينما يسير القلب على نهجها، فدومًا ستجد الحكيم من يحفظ لسانه من أي حديثٍ قد يصل للترهات الفارغة، ويوم أن ينطق يجود بكرمٍ..
بعد مـرور يوميـن..
وتحديدًا في وسط الأسبوع اليوم هو اليوم المُقرر لخطبة كلًا من “عُـدي” و “رهـف” فإن تم الموضوع كما يُريدون ستتم الخطبة، وإن لم يُقدر الخالق لهما ستترك مهلة من التفكير، وكان الخوف هو سيد الموقف لدى “عُــدي” الذي بدأ يلمح الفارق بينهما وخشى من أفراد عائلتها ورد فعلهم نحوه.
أما “يـوسـف” فهو الأخ المتطوع الذي قرر أن يتابع عمل الشركة في غياب العروسين بعد عودته من شركة البترول، الحياة كما العجلة تُدار بها التروس ونحن ندور معها أيضًا ولا يسعنا أن نتوقف، سيفعل كل شيءٍ لأجل أحبته حتى وإن كان المقابل ببعض الألم الذي يُعاني منه لتوهِ.
تحرك إلى الرواق المُفضي إلى غرفة مكتبه وقد خلع عنه سترته وتحرك بالقميص الأبيض فقط وفي يده يمسك سيجارًا يدخنه وقد لمح بعينيه وجود “سـامي” بالشركة يدير العمل كما كان يفعل، لم يغضب، ولن تثُر ثورته، ولن ينفعل أمام الجميع، سيلجأ لحكمة طبيبه النفسي في تصريف الأمور، وينتج نهج أبيه في الرد على كل أحمقٍ، خاصةً وإن كان غريمه يرمقه بسخطٍ وتحدٍ سافرٍ..
تحرك هو حتى وقف أمامه وطالت النظرات بينهما ولم يوقف حربهما إلا خروج “عـاصم” من مكتبه وخلفه “مـادلين” التي لوت فمها باستهجانٍ لرؤية النظرات المُحتدة، بينما “عـاصم” فابستم بتحفظٍ وألبس حديثه وشاح الرصانة بقوله:
_كويس إنك جيت، اللي عملته مغيرش في الوضع حاجة، “سـامي” النائب بتاعي هنا وهيدير الشركة عادي، مبروك عليك النصيب الزيادة، كدا بقينا راس براس هنا.
توسعت عينا “يـوسف” لوهلةٍ ليغشو صفائهما غُبار لونه بلون الدم، حالة عنفٍ إن لم يصرفها سينتهي الأمر به في طريقين، إما مشفى الأمراض العقلية أو السجن بتهمة قتل أحدهما، وما زاد من سوء الأمر هو صوت عمه الناطق بتهكمٍ:
_سكت يعني دلوقتي، أظن لأنك متأكد أني مش هتنازل عن وجوده في الشركة، وأكيد مش هخليك تهزمه بهبلك دا، الحرب اللي بينا مبتخلصش ومش هتخلص غير لما نفس واحد فينا يتقطع، وأظن سكوتك أكبر دليل إني أتصرفت صح.
إن كان الثور يود اللعب فعليه تحمل ظهور الشرشف الأحمر، لذا قرر “يـوسف” أن يرد الصاع بصاعين لهما، سيتولى لسانه مهمة الرد، وهو خير من يرد على من يكرههم، تبًا للأدب والتهذب والأخلاق، سيقتنص حقه فقط بسلاح لسانه قائلًا:
_أنا مش فاهم ليه حد ممكن يفرح أو يشوف نفسه حاجة كبيرة لمجرد إنه تابع ورا حد تاني ملهوش لازمة؟ إيه الحلو إنك تكون مجرد شيء حد تاني بيحركه زي ماهو عاوز؟ واحد في يوم كان ليه حصة هنا، أتحول لنائب وتابع لواحد تاني!! شيء غريب بصراحة أتكسف أحطه حتى في قايمة هزايمي، أما بقى سُكاتي فدا علشان “مصطفى الراوي” صاحب الشركة دي قالي مرة، خليك قليل الكلام، ويوم ما تتكلم خلي كلامك ميتنسيش، وقالي كمان حكمة حلوة أوي.
سكت هُنيهة ثم ابتسم بشرٍ وقصد توجيه الإهانة لكليهما بقوله المُهين لهما:
_وحكيمُ العقلِ من صمته تعرفهُ، فلا حديثٍ لرجتاحته يوفيه، فهل سبق لكَ ورأيت حكيمًا يُخاطب الأبله ويُناظر السفيه؟.
إهانته شملتهما سويًا وهو يشاور عليهما ثم رماهما ببسمةٍ باردة تعكس مشاعره المُلتهبة، وقد وضع سيجاره بين شفتيه ثم نفث هوائها بوجهيهما وتحرك نحو مكتبه برأسٍ بدأ يتألم ولن يطيح بالألم بعيدًا إلا حينما يضرب كليهما.
__________________________________
<“لا تظن أنك تعرف كل شيءٍ، فأنت لم تعلم أي شيءٍ”>
من زعِمَ أنه يعرف كل شيءٍ وأجهر بذلك علنًا، في الخفاء كتم سرًا أنه لم يعرف أي شيءٍ بعد، فلا تتعجل بكونكَ عالمًا، والقادم عليك يُنذرك أنك لم تدرِ بما يُدار حولك..
بدأ الغروب العمل الدؤوب حيث صار قرص الشمس برتقاليًا وكأنه يعلن للجميع عن موعد رحيله ملوحًا لهم بكفه ومودعًا الجميع بحفاوةٍ ومن بعده يظهر القمر، وقد جلس “جـواد” في عيادته بعدما ترك المشفى تحت إدارة “فُـلة” لموعد كان استثنائيًا وفريدًا من نوعه، ضيفٌ أتاه ورحب هو به كثيرًا حتى صدح صوت جرس الباب فتحرك يفتحه بصمتٍ ليجد أمامه من يحدثه بودٍ وبسمة رصينة زينت ملامحه:
_أتمنى ماكنش معطلك عن حاجة يا دكتور.
كانت جُملته ودية ومُجاملة لحدٍ كبيرٍ تزامنًا مع انفراج الشفتين بتلك البسمة الودودة، فأتاه الرد من الآخر بلباقةٍ تُغلفها العملية تلاها اسمٌ غير متوقعٍ:
_لأ أبدًا، العيادة نورت بيك مستر “ماكسيم”.
المذكور بذاته هو الأمر الغريب في كل شيءٍ يحدث هُنا، لكن كما يُقال إن وجدت أمامك شَريْن فاختر أهون الشريْن، وبين شرٍ وشرٍ يضيع العُمر بحثًا عن الخير، لكن يبدو أن الطُرقات الضائعة لن تهدي ضالًا.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى