رواية غوثهم الفصل المائة واثنان وستون 162 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة واثنان وستون
رواية غوثهم البارت المائة واثنان وستون
رواية غوثهم الحلقة المائة واثنتان وستون
“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل السابع وسبعون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
سبحانكَ يا من جعلت النجومَ مصابيحَ السماء..
وأرسلتَ في الأرضِ، نجومها من الأنبياء ،
وأيَدتهم بالحقِ تباينًا و بالآياتِ بُرهانًا
و أقمت لهم من الشرائع حُدودًا..
و من المعجزاتِ شُهودًا، ومن الملائكةِ جُنودًا
تباركتَ يا ربنا إلهًا معبودًا
تباركتَ يا ربنا إلهًا معبودًا ..
وتعاليتَ يا الله ، و تَعاليتَ يا الله،
وتعاليتَ يا الله مرجوًا و مقصودًا..
_”نصر الدين طوبار”
____________________________________
أنا الذي حمل كل الوحوش بداخله
لم يُخيل لي أن أكون يومًا آنسًا مستأنسًا
بطيفٍ من اللُطف يشبه روحكِ التي بالرغم من تخريب الخريف لها إلا أنها لازالت تحتفظ بالربيع في عينيها..
أنا الذي كان كل شيءٍ بداخله منقوصًا لازلت أتذكر تلك الرجفة حينما كانت روحي ممتلئة بالثقوب كما البناء الهالك، وكأنكِ ما إن أتيتِ رممتي تلك الثقوب ونجحتي في سد تلك الفجوات التي لم ينقصها غير مجيئك كي تكتمل وتظهر بما ظهرت به..
أتعلمين أنني حتى تلك اللحظة لازلت عاجزًا عن إيجاد وصفًا ينصفكِ لغويًا كما عجزت أن أعبر عن ذلك شفيهًا؟..
فكيف لشخصٍ يختصر أحلامه في مجرد كلماتٍ عابرة؟
أو كيف لي أن أصف الحياة بعد ظهوركِ وأنتِ التي كنتِ
لي حياةً بذاتها، أنا الذي كنت أخشاني لازلت أتعجب كيف تصالحت مع الحياة بسبب حضورك، وكيف أصبحت الحياة ذات معنى لي بظهورك، ألم يكن غريبًا على امرءٍ عاش مهزومًا أن ينتصر فجأةً على عالمه؟ والأغرب أن يكون السبب في هذا الانتصار شخصًا واحدًا في مواجهة العالم أمام من يُحب؟..
وهل يُعقل أن يكون الإنسان سجينًا في حياة الغير
ومع من يحب يكون حرًا كما الطير؟..
يطير بلا قيود ولا موانع وسماء الحب الواسعة تُهاديه ليلًا بنجومها؟.
<“وكأن الفرح كان نصيبًا لنا لكنه أتى بموعده”>
في كل القوانين الحياة لم نجد ذاك الشيء الثابت دومًا..
حتى الحياة بذاتها لم تكن يومًا ثابتة على لونٍ واحدٍ ولا حتى اتبعت قانونًا واحدًا بذاته وإنما كل شيءٍ فيها يتغير ويتبدل، تمامًا كما اللوحة التي حملت في مضمونها كل الألوان وكلما ظننت أن هناك لونٌ غير مرغوبٍ سوف تتفاجيء بأهمية هذا اللون حينما يختفي وتظهر بقية الألوان، فلو كانت الحياة ثابتة على حزنٍ لما كنا أدركنا قيمة الفرح، ولو كانت الحياة مضمارها يُدار بالفرح فقط لما كنا عرفنا قيمة تلك اللحظات التي هوت فيها القلوب من شدة حزنها..
_مش زعلانة، أنا فرحانة وأنتَ السبب، أنا حامل يا “أيـهم”.
هسمت بحديثها وتلك الجملة الأخيرة كانت كما الربيع الذي أتى من بعد خريفٍ دمر كل شيءٍ في وجهه وجرف أرض العمر، أحيت له قلبه كما حدث معها بسببه هو أولًا وكأن الفرحة بينهما كانت مشطورة لنصفين وكلًا منهما يناول نصفه للآخر كي لا يسعد وحده، وفي تلك اللحظة سكت هو بصدمةٍ وحيرةٍ وتحدثت القلوب لبعضها تقول:
_رُبما كان طريقي ضياعًا..
لكن من وسط الجميع كنت أنتَ
من لم أتحمل منه وداعًا، فكنت يومًا
كالغريب مر صدفةً من حيينا وإذ به
فجأةً أنقذ من الآلام روحنا، فنعم كان العالم
قبل مجيئك هلاكًا وما أن ظهرت أنتَ
أصبحت الأيام تمر خفافًا..
كانت بين ذراعيه فشدد هو ضمته لها بقوةٍ أكبر وتلك الجملة الأخيرة التي أطربت أذنيه وتوغلت لسمعه مباشرةً تستوطن الفؤاد كان لها خير الأثر في حياته، لازال تائهًا مثلها وهي لا تعلم إن كانت تلك هي الحقيقة أم لا، وهي لا تختلف عنه حالًا، فهي بذاتها لا تصدق ما حدث، وجدها تنتحب ببكاءٍ أكثر وهي تنشج باكيةً وبالكاد فسر كلماتها المنطوقة:
_الحمدلله…يا رب كمل المرة دي فرحتي على خير..يا رب.
مسح هو فوق ظهرها ثم ابتعد عنها مبتسمًا وهو يقول بتأكيدٍ كان أساسه الثقة في رحمة الخالق على عباده الواثقين بعفوه وكرمه:
_هتكمل، ربنا مبيخذلش عباده ولو منع عنهم حاجة بتبقى رحمة ليها مش حرمان، وحتى لو مكملتش بعد الشر يعني صدقيني برضه خير لينا، الحمدلله راضيين بكل حاجة وفرحانين برحمة ربنا علينا وببيتنا الدافي وبـ ابننا أنا وأنتِ، الحمدلله برضه على كل حال.
لمعت عيناها بوميضٍ مختلطٍ ما بين الأمل وقلة الحيلة وإذ به هو يلمح تلك اللمعة فضمها من جديد له يمسح فوق خصلات رأسها باحتواءٍ كانت تحتاجه لكنه وأد كل ما دخل رأسها من كلماتٍ تقتل أملها الذي وضع لتوه في مهده بقوله:
_أنا مش بخوفك ولا والله قصدي أزعلك بس أنا عاوزك علطول فرحانة ومبسوطة وتخلي أملك في ربما كبير وتثقي في رحمته بيكِ بأي شكل حياتك هتكون فيه، علشان إحنا لو عرفنا اللي مستخبي عننا وربنا برحمته بيدبر لنا الأمور ويختارلنا الأصلح، وإحنا علينا الرضا والتسليم ودا علشان إحنا مسلمين..
طافت بعينيها نحو الساعة المُعلقة في مقابلها وحينما أدركت أن الوقت تخطى العاشرة مساءً قالت بخيبة أملٍ بدت جلية في صوتها الباكي:
_أنا كنت عاوزة أنزل أعمل تحاليل وأتأكد، كدا مش هعرف أنام، عاوزة أتطمن إني مش متعشمة المرة دي على الفاضي بعدما جربت الإحساس أني خلاص بجرب طعم الفرحة، واوعدك لو محصلش والله مش هزعل وهرضى من كل قلبي وكفاية أنتَ معايا و “إيـاد”.
تنهد هو بقوةٍ ثم رسم ملامح اللين فوق وجهه وابتسم لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة رافةً بحالها المشتت وأملها الخافت عن توهجه منذ برهة عابرة وليس أكثر من ذلك:
_ألبسي طيب هدومك وأنا هنزل “إيـاد” عند بابا لحد ما نرجع، فيه معمل تحاليل فاتح علطول قريب مننا هنروح وربك يكرم ونتطمن الليلة دي، يلا.
ابتسمت هي بسعادةٍ له ثم ضمته بامتنانٍ دون أن تتفوه بأي كلماتٍ أخرى، فقط سكتت وألقت بنفسها بين ذراعيه وهي تعلم أنه لن يهدأ قبل أن يُطفيء نيران الانتظار الموقدة بداخلها ويبدلها بثلجٍ يُبرد قلبها بدلًا من توقده بنيرانٍ موقدة..
وبعد مرور دقائق كان هو يحمل صغيره النائم وهي معه ونزلا سويًا عند والده الذي كان جالسًا يقرأ في كتاب الله وما إن طرق باب غرفته خرج للطارق الذي لم يكن سوى “أيـهم” يحمل ابنه وكانت “نِـهال” تقف في الخلف بملامح باكية وعينين حمراوتين فسألها باهتمامٍ ما إن لاحظهما :
_أنتِ كويسة يا “نِـهال” مالك معيطة ولا إيه؟.
أغصبت هي شفتيها على بسمةٍ مقتضبة لم تصل لعينيها وهي تنفي ذلك برأسها بينما “أيـهم” فالتفت لها يسألها بمرحٍ وضحكاتٍ كانت تواري مقصد كلماته:
_مين الكلب السافل اللي عمل فيكِ كدا؟.
ابتسمت هي رغمًا عنها بينما هو التفت لوالده يناوله حفيده ثم قال بوجهٍ باسمٍ وعينين ضاحكتين بسعادةٍ قلبه يناديها ويلوح لها كي تقترب منه وتسكنه:
_خلي “إيـاد” معاك ونيمه في حضنك وادعيلنا ربنا يجبر بخاطرنا في المشوار دا ويفرح “نِـهال” ويحقق أمامها.
توهجت عينا “عبدالقادر” ما إن أدرك المقصد من الحديث وأشرأب برأسه نحو زوجة ابنه التي ابتسمت له بأملٍ فبادلها البسمة بأخرى بشوشة وقال بهدوءٍ مستشهدًا بكلام الله:
_قال الله تعالى “وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا” ثم قال مُطرِّفُ بن الشِّخِّير في التفسير:
(إنَّا لنعلم أنهما قد فرحا به يوم وُلد، وحزنا عليه يوم قُتل، ولو عاش لكان فيه هلاكهما، فرضى رجل بما قسم الله له؛ فإن قضاء الله للمؤمن خير من قضائه لنفسه، وقضاء الله لك فيما تكره خير من قضائه لك فيما تحب)..
سكت هنيهة عابرة كي يصل مغزى الحديث لها ثم أعاد كلامه بطيبةٍ مسحت فوق قلبها الذي هدأت ثورته كثيرًا عما سبق:
_روحي وربنا يجبر بخاطرك ويراضيكِ ويحققلك مُرادك، وفي كل الأحوال ربنا كريم ومبيردش العبد خايب الرجا، على مهلكم وأنا مستنييكم هنا تيجوا تفرحوني، يلا.
بالفعل تحركا سويًا نحو أقرب معمل للتحاليل بالمنطقة وتم سحب العينة منها وهي تنتظر بمشاعر ملتهبة ألهب من الجمر المشتعل وقد جلست هي بجواره أمام المعمل بالأسفل في انتظار النتيجة التي أتت لهما بعد سويعات قليلة فصعدا للأعلى من جديد يتسابقا في الخطوات وما إن وصلا أتتهما البشارة من العاملة بقولها:
_ألف مبروك النتيجة ظهرت والمدام حامل.
وهنا قد أتى اليقين موضع كل شكٍ..
فجأةً عانقها هو بقوةٍ يُضلل عليها ويحفظها في كنفه بين ذراعيه بينما هي فكان الفيصل بينها وبين الإغماء وفقدان الوعي ما هو أرفع من الخيط، ظلت تبكي وتنتحب بين ذراعيه وتصرخ بغير تصديقٍ بينما هو فأدمعت عيناه وترقرقت فيهما العَبرات لأجلها ثم مسح فوق ظهرها بكلا كفيه وقال يدعمها:
_الحمدلله على كل حاجة، ربنا يسعدك ويباركلي فيكِ وفيه وييجي بالسلامة، قولتلك ثقي في رحمة ربنا علينا وهتشوفي بنفسك العوض، بطلي عياط بقى..
تهدج صوته وهو يطلب هذا الطلب منها بينما هي فعادت للخلف وقالت ببكاءٍ تسبب في قطع صوتها:
_أنا بقالي أربع سنين ونص بحاول…بسمع كلام صعب أوي، أنا مش مصدقة لحد دلوقتي إنه حصل، خايفة يكون حلم وخاطري يتكسر تاني..
ضمها من جديد يُلثم جبينها ثم جعل رأسها يستقر فوق موضع نبضه وكل ما يجول بخاطر كليهما أن السعادة أخيرًا تطرق بابها بعد سنواتٍ من الحرمان والمشقة، والآن حان الموعد للفرحة أن تكتمل أضلاعها كي تُعطي الشكل الأخير الذي يكون تاجًا فوق رؤوسهم..
____________________________________
<“مع كل صباحٍ جديدٍ يولد الأمل بداخل النفس الخائفة”>
ينتهي الليل ومعه ينتهي البؤس..
ثم يأتي الصباح حاملًا معه كل أملٍ لنفوسٍ كانت تائهة أمسًا، وكأن الصباح كان دواءً لتلك النفوس المُتألمة من أشياءٍ لا يعلمها سواها، فمن يطالع الأمر من على بُعدٍ يظن أن الأمل مات وانتهى، ومن ثم نكتشف أن الطريق لم ينتهِ وأن تلك الصدمة ماهي إلا محطة توقف عابرة ومن بعدها نكمل الطرقات بقوةٍ نأكبر فعلام ضيعنا أيامنا إن كان الأمل لا يضيع؟..
في صبيحة اليوم الموالي عند الساعة الثامنة صباحًا كانت “قـمر” تتحرك بنشاطٍ وهمةٍ تقوم بتنظيف شقتها وتحضيرها قبل أن ترحل لبيت أمها وقد خرج “أيـوب” من غرفته بعدما تجهز للرحيل لعمله وقد أقتربت هي منه وقالت بمزاحٍ:
_عيني عليك باردة، إيه يا أخواتي القمر دا؟.
ضحك هو مُرغمًا ثم ضمها له أسفل ذراعه ومازحها بقوله:
_دا إيه الرضا دا كله على الصبح يا قطة؟ يلا يا سكر علشان نفطر وأوصلك عند ماما علشان بعدها هروح الورشة وهقضي اليوم هناك كله، حضري الفطار يلا علشان مامتك مستنية تروحي ليها من الصبح بدري وموصياني.
ابتسمت هي له بحنوٍ وامتنانٍ ثم وقفت على رؤوس أصابعها ولثمته فوق وجنته ثم قالت بحبٍ فاض من عينيها له من نظراتها:
_ربنا يباركلنا فيك ويقويك وتفضل مفرحنا علطول، هي من إمبارح فرحانة بسببك وقالت هتشكرك بطريقتها هي بقى.
ولأنه في بالٍ رائق ثبت عينيه عليها وطالع عمق عينيها ثم قال بنبرةٍ خافتة يغازلها منذ باكورة الصباح وهكذا قصد أن يصلها حديثه:
_مش عاوز شكر أنا مش غريب، خليها بس توصي بنتها عليا شوية وأنا هبقى راضي أوي، ولا هو أنا لازم أحكي حواديت بقى؟ عمومًا براحتك بكرة تكلميني وتقولي وحشتيني يا “أيـوب” تعالى خدني تاني.
رفعت أحد حاجبيها له ثم رفعت رأسها بشموخٍ وهي تقول:
_أنسى يا بابا، أنا أصلًا رايحة مبسوطة علشان نرتاح شوية من بعض أنا وأنتَ، قال أكلمك قال؟ لو فاكر إن دا هيحصل بليل تبقى غلطان، بس ممكن على آخر النهار كدا مش ضامنة بصراحة..
ضحكت بعدما أنهت جملتها الأخيرة بينما هو شاركها الضحكات ثم عاونها في تحضير الفطور لهما سويًا قبل أن يأخذها ويرحل بها إلى بيت والدتها وما إن نزلا للأسفل كان “عبدالقادر” في انتظارهما بوجهٍ مبتسمٍ وعينين ضاحكتين بسعادةٍ بالغة أفصحت عن نفسها فوق ملامح وجهه وهو يقول:
_صباح الفل على عيونكم، عقبال ما ربنا يفرحني بعوضكم أنتوا الاتنين وأشيل عيالكم كدا وأفرح بيهم “نِـهال” حامل وربنا كرمها هي وأخوكم، ربنا يفرحني بولادكم كلكم ويبارك فيكم ويجعلهم ذرية صالحة نتباهى بيهم قدام سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام..
ابتهجت ملامح كليهما ما إن وصلهما الخبر وقد هرولت “قـمر” نحو حماها تسأله بلهفةٍ إن كان حديثه صادقًا أو هو يمازحهما؛ فأومأ هو موافقًا ثم وضع كفه خلفها ظهرها يُربت بخفةٍ ثم قال بفخرٍ لأجل سعادتها بـ “نِـهال” والفرحة البادية فوق وجهها:
_عقبال فرحتي بيكِ أنتِ كمان، عارفة لو “مصطفى” كان معانا كان زمانه باصص ليا في وجودك معايا، أصل بيني وبينك كدا أول ما أنتِ جيتي الدنيا روحت قولتله بنتك مش هتخرج برة بيتي، ساعتها قالي أنتَ بتحلم يا “عُبد” وخليك في حالك.
ابتسمت له بحنينٍ فاض من عينيها ولمعت مقلتاها بحزنٍ لأجل رحيل والدها الفقيد وقد اقترب منها “أيـوب” يضمها له فوجدها تبكي بصمتٍ ووالده أيضًا لمعت عيناه بعبراتٍ ثم قال بصوتٍ مختنقٍ بعدما علقت الغصة في حلقه:
_ربنا يرحمه ويغفر له ويسكنه فسيح جناته ويجمعنا بيه في جنته زي ما جمعني بيه في الدنيا يا رب، حقك عليا يا “قـمر” بس غصب عني هو وحشني.
_ووحشني أنا كمان أوي وصعبان عليا إني مش فاكرة حاجة منه خالص بس أكيد كان جميل وطيب شبه حضرتك كدا.
ابتسم لها “عبدالقادر” ثم قال بنبرةٍ رخيمة ودافئة:
_كل ما تعوزي تشوفيه وتحسي بوجوده معاكِ بصي لـ “أيـوب” وأنتِ هتعرفي “مصطفى” الله يرحمه كان عامل إزاي وأخلاقه كانت إيه يا “قـمر” حتى حنيته على أهله واخدها منه هو.
طالعت وجه زوجها المبتسم لها ثم قالت بتأثرٍ أعرب عن وجعها وخوفها من فقدٍ تذوقت مرارته سابقًا وعاشت عمرًا في وجعها:
_ربنا يرحم اللي راح ويباركلي في عُمر الحي.
قالتها وهي تُطالع وجه “أيـوب” الذي ابتسم لها بحنوٍ ثم لثم جبينها أمام والده الذي طالعهما بعينين متوهجتين ثم دعا ربه أن يحفظهما له في كنفه ورعايته حتى تكتمل فرحته بهم جميعًا..
في الأعلى بداخل شقة “أيـهم” كان نائمًا بعمقٍ بعد ليلةٍ هاجرهما فيه النوم وأناب الفرحةَ عنه كي تُجالسهم وتستقر في قلبيهما، وكانت “نِـهال” تجلس بجواره تتكيء برأسها فوق كفها وهي تمعن نظراتها له وتبتسم بحبٍ كأنه أول من يطيء بقدميه أرض فؤادها، طالعته بحبٍ، بل بعشقٍ وولهٍ تتشرب ملامحه عن كثبٍ وقد دست نفسها في عناقه تتمسك به ضاحكةً كأنها تعود لأيام صباها من جديد، بينما هو تململ في نومته ثم فتح عينًا واحدة وما إن رآها ابتسم لها ثم ضمها له أكثر وقال بصوتٍ أجش لم يخلْ من أثر النوم:
_صباح الخير أوعي تقولي لسه صاحية لحد دلوقتي؟.
أومأت داخل تجويف عنقه ثم رفعت رأسها تقول بسعادةٍ أخرجت صوتها مختنقًا وهي تعبر عن حالها:
_خايفة أنام يطلع كل دا حلم واللي حصل إمبارح كأنه محصلش، صدقني مرعوبة من الفكرة ومش عاوزة أنام والله، محتاجة حاجة تأكدلي إني حامل بجد هخليك تفرح، ونفسي “إيـاد” يصحى علشان أفرحه هو كمان، تفتكر هيفرح؟.
سألته بقلقٍ ومشاعر متخبطة مع بعضها بينما هو فأومأ لها موافقًا ثم قال بحكمةٍ وثقةٍ في صغيره:
_هيفرح وأوي كمان، من بدري كان نفسه في أخوات يكونوا معاه وطلب كتير مني وسألني أكتر من مرة لما “أمـاني” كانت هنا معانا، وساعتها هي كانت رافضة، ولما جيتي هنا سألني هيكون عنده أخوات ولا لأ وأنا ساعتها قولتله إن ممكن الموضوع يتأخر شوية، بس أكيد هيفرح طالما أنتِ بتحبيه ومش هتفرقي بينهم ودا أنا واثق فيه منك.
انتفضت هي بلهفةٍ من جواره تؤكد حديثه:
_والله العظيم والله العظيم كمان مرة عمري ما هفرق بينهم، وعمري ما هقلل قيمة “إيـاد” في قلبي ولا هقدر حتى أشوفه غير إنه ابني الكبير ومن دلوقتي أهو بقولك “إيـاد” مجاش زيه عندي ولا هييجي حتى اللي في بطني دا مش هيغير من حقيقة إن “إيـاد” هو ابني الكبير وأول فرحتي.
ابتسم هو لها ثم ضمها له من جديد وقال بسعادةٍ تفاقمت داخل قلبه بسببها ما إن أخبرته بذاك الحديث:
_ربنا يباركلك فيهم وتفرحي بولادك ويقومك بالسلامة، ماتنسيش بس تعرفي عيلتك وتفرحيهم معاكِ، وخصوصًا “نِـهاد” ولا أقولك متقوليش لحد حاجة، سيبيني أنا هقول ليهم بمعرفتي.
طالعته بنصف عينٍ بعدما عادت برأسها للخلف فضمها هو من جديد له وقال بيأسٍ وضحكاتٍ أتت من باب اليأس منها:
_نامي بقى بدل ما أقولك إن اللي حصل إمبارح دا كان حلم ومفيش حمل ولا حاجة، نامي يا بت بقى مخك هيطير.
ضحكت بسعادةٍ وضمت نفسها له بقوةٍ وهي تحاول السيطرة على انفعالات جسدها الذي اهتز بحماسٍ دون إرادةٍ أو علمٍ منها لكن يبدو أن الفرحة سدت كل الفجوات لديها واكتمل البناء السعيد بداخلها لتكون كما الفراشة التي أتى ربيعها وظلت ترفرف فوق الغصون تأخذ من رحيق كل الزهور وتوزع ما يكفي ويفيض من الفرح..
____________________________________
<“كأن الحق أصبح علقمًا في كل حلقٍ مناضلٍ”>
يقال دومًا أن كلمة الحق أكثر الأشياء خُفافًا على لسانِ كل حُـرٍ..
ولا يستثقلها إلا كل جبانٍ يخشى النطق بأي كلمةٍ تُسقطه في بئرٍ من الضياع، فإذا وجدت يومًا أن الحق أصبح متخفيًا ومخبوءًا؛ فأعلم أن الأحرار قلوا والجُبناء زادوا، وأن الحق أصبح علقمًا في كل حلقٍ كانت تلهبه نيران النضال..
الجو لديه كان مختلطًا وغريبًا، فلا هو استقر على البرودةِ ليلًا ولا هو تثبت على الدفء نهارًا وإنما مزج كلا الطقسين معًا فكان طقسًا يشبهه كثيرًا وبالأخص وهو اليوم في بالٍ غير رائقٍ منذ الصباح، كان منزعجًا بشكلٍ غريبٍ والسبب في ذلك العمل الذي ضغط فوق أعصابه اليوم منذ بزوغ الفجر..
وقف يشرف على طاقم العمال أثناء تعاملهم مع الماكينات التي تحتاج للصيانة وهو قام بدوره في هذا الأمر بعد خبرةٍ أعطاها العمل له، لكن بعض التعليمات ما إن تصله تجعله على شفا حفرةٍ من بركانٍ يكاد يثور وينفجر في وجه من يقترب منه، كان قاب قوسين أو أدنى من الإنفجار حتى أتاه مديره ورئيسه يقف بمحاذاته ثم سأله بديباجةٍ عملية:
_ها يا باشمهندس “يوسف” إيه الأخبار؟.
التفت له بملامح بمقتضبة زادتها آشعة الشمس المُنصبة عليه ضيقًا ثم أومأ موافقًا وأضاف موجزًا:
_تمام، الآلات اشتغلت النهاردة الصبح والعمال بدأت شغلها والمسألة وقت مش أكتر وكل حاجة ترجع بدل العطلة دي، رغم إن المشكلة كانت بسيطة والصيانة المفروض تخلصها في ساعة زمن، إلا لو الحكومة مضحية بفلوسها بقى.
كان يتهكم بقوله بسخريةٍ ليست بمحلها بالأخص حينما قال الآخر بشيءٍ من السماجة كأن الأمر هو المعتاد أو هكذا جعل الأمر:
_لأ البترول اللي هيخرج من هنا مش هيروح للحكومة، البترول دا هيسافر برة لدولة تانية دخلت شراكة بنسبة كبيرة والحكومة اتنازلت ليها عن نصيبها علشان تشجع الاستثمار.
ضاقت عيناه وغامت بُنيتاه بسحبٍ من الغضب وسأل باستنكارٍ:
_يعني إيه؟ المفروض إن دي شركة مساهمة يعني الشغل والمواد بتكون بين الحكومة وبين المستثمر اللي داخل شراكة مع الحكومة دي، فالشريك التالت دا جاي منين؟.
_جِـه من مطرح ما جِـه، دي فلوس داخلة البلد واستثمار، أنتَ إيه اللي مضايقك كدا؟ ما تشغل الآلات وتطلع البترول واللي ياخد الحاجة ياخدها.
وهنا أتت الزعقة القوية منه كانتفاضة ثائرٍ حُـرٍ:
_يعني إيه إيه اللي مضايقني؟ لما أكون واقف هنا في أرضي وبلدي وبطلع بترول ومواد طبيعية بتقوم أي دولة على رجليها من تاني، بدل ما نستغلها ونشغلها نروح نبيعها وتقولي دي فلوس واستثمار؟ ماهو الغباء دا اللي مضيعنا ومخلينا ورا.
ولأن الانتفاضة تزعج الساكت فلابد من ردٍ عنيفٍ أتاه ممن يخاطبه حين قال مندفعًا:
_مش شغلك يا “يـوسف” ولا بتاعتك دي، أنتَ إيه اللي مزعلك أصلًا كأن البترول طالع من حدود بيتك.
_آه شغلي أومال شغل مين يعني؟ لما تبقى دي بلدي ودا أرضي وأنا والعمال هنا طلعان عين أهالينا من صباحية ربنا علشان نخرج البترول والبلد تشتغل والناس ربنا يكرمها وتقوم تدور مصالحها نروح إحنا نبيعه لدولة تانية تشتغل بيه وتدينا شوية ملاليم يتحطه في جيوب الكبار، وهوب يومين البنزين يغلى والحاجة ترفع والأسعار تضرب في السما والغلابة يتداسوا في الرجلين، أنتَ شايف إن دا طبيعي؟..
صرخ بصوتٍ هادرٍ في نهاية حديثه يسأل بشيءٍ من القهر؛ فأتاه الرد ببرودٍ ممن يحدثه ولا يكترث بمضمون الحديث:
_طبيعي لو هيجيب فلوس واستثمار للبلد، غيرنا عندهم إمكانيات يقدروا يوظفوا بيها المواد اللي بياخدوها مننا، إنما إحنا هنعمل إيه بيها؟ مجرد مواد وخامات بالاسم بس؟ شكلك متعرفش اللي فيها يا “يـوسف”.
غامت عينا “يـوسف” وامتد القهر نحو فؤاده وهو يقول:
_المصيبة السودا إني عارف اللي فيها، خيرنا هيروح لغيرنا ومبروك عليهم هيشتغلوا بيه صح وإحنا من بعيد نتفرج ونشوفهم أشطر ناس بيحولوا التراب لدهب، والناس تصقفلهم ويشاوروا على ولاد الخايبة اللي مش عارفين يعلموا حاجة، والغلابة يتهرسوا علشان يلحقوا قوت يومهم، وبلادنا الحلوة نغنيلها..
أنهى حديثه ثم أولاه ظهره ورحل بخطواتٍ واسعة يدب الأرض أسفله بقرعٍ قويٍ كحال قلبه الحزين بقهرٍ على شبابه وشباب الآخرين معه، كان الغضب هو الذي يسكنه والقهر هو الذي يمتد بأياديه يُضيق عليه الخِناق ويُغلق عليه داخل سردابٍ من الأحزان التي لا تترك قلب الحُر قبل أن ينل حُريته..
____________________________________
<“كل شيءٍ كان قابلًا للتغيير إلا مشاعري عند رؤيتكِ”>
تتغير الحياة ومعها تتغير المسارات كافة..
لكن الشيء الوحيد الذي لا يقبل التغيير هو ذاك الشيء الذي يراودني ويتراقص بين جنبات صدري حينما أراكِ وكأنها مرتي الأولى، لازلت أتذكر ذاك اليوم حينما كنت تائهًا وهمس لي قلبي هيا أيها الضائع بلا طريقٍ، لقد وجدنا العنوان في عينيها هُنا، فإني أتيتكِ ضائعًا، وكلي يقينٌ أنكِ المرسىٰ من بعد تيهٍ…
كان يعمل بكل قوته، وهدفه فقط أن يتجاوز حزنه الذي يرافقه ويُجالسه ليلًا، كان يهرب من ضغط ألمه النفسي في ضغط العمل، حتى إنه قام بزيادة ساعات عمله فأصبح يعمل منذ باكورة الصباح حتى منتصف المساء، شعر بالتعب حينما تذكر أنه لم يتناول شيئًا من الطعام فخرج يبتاع لنفسه شيئًا يتناوله بعدما ترك الطبيب “عبدالمُعز” بدلًا منه…
وما إن خرج من الصيدلية وسار بعض الخطوات التقى بها صُدفةً، لقاءٌ أتى من بعد أيامٍ امتنعت الرؤية بينهما وشُحَت اللقاءات فيها حتى أن قلبه أشتاق لها وناداه برؤيتها، أما هي فوقفت عن السير وطالعته بعينين دامعتين تخبره عن كرب حالها، وهو أيضًا كان يُعاتبها بعينيه على فراقٍ حل بينهما من قبل الاجتماع سويًا، وقفا عند مفترق الطُرق أمام بعضهما والناس حولهما سائرين وكأن العالم وقف عندهما فقط في تلك اللحظة التي كانت بوداعٍ شبه أخيرٍ..
أتت أمها من خلفها وشاهدتهما بعينيها فانتفض قلبها لأجل ابنتها التي تبدلت كُليًا عن السابق وأصبح حالها ليس على ما يُرام، البكاء لم يتركها، والشرود هو أنيس جلستها، هاجرها النوم وجفاها الفرح، والحزن فقط هو ما يستوطن قلبها تاركًا موضعه الجرح، ولأجل كل ذلك جاورت ابنتها وقطعت حديث عينيهما لبعضهما، وانبته لها “مُـحي” الذي هرب بعينيه منها وقبل أن يرحل أوقفته..
التفتت لابنتها تخبرها بالذهاب لبيتها بينما هي أشارت له وتبعها نحو الصيدلية من جديد فإذ بها تتوقف أمامه في الداخل ثم قالت بلهفةٍ أتت من قلب أمٍ مكلومٍ على صغيرتها:
_بص أنا عارفة إن ميصحش أقولك الكلام دا، بس أنتَ لو عاوز بنتي أبوس إيدك تفضل متمسك بيها، بلاش تستسلم بدري، خليك ماسك فيها وأنا والله هحاول لحد ما أخلي الخطوبة دي تتلغي ومش هخلي بنتي تفضل زعلانة كدا مع واحد هيعيشها عمرها كله زعلانة، خليك متمسك بيها، علشان والله العظيم بنتي مش راضية ولا مبسوطة، بنتي مجبورة بسبب ابن عمها الزفت اللي كل همه يثبت إنها مش محترمة ولا متربية، أبوها جابرها وكاسر فرحتها، وأنا مش عبيطة يا “مُـحي” بالعكس أنا من أول يوم شوفتك قريتها في عينك إنك رايد بنتي..
رمش بعينيه وبدأ الأمل يمتد نحو قاحلة فؤاده يُخصب تربتها المُجرفة وقد زاد تعجبه من أمها التي بكت أمامه وهي تقول بصوتٍ مختنقٍ:
_بنتي من يوم اللي حصل وهي مشافتش ساعة كويسة ولا فرحت زيها زي أي عروسة غيرها، عاوزاها تفرح علشان دي بنتي الوحيدة اللي ربنا رزقني بيها بعد تعب وحرمان ٣ سنين من الخلفة ومن بعدها ربنا مأردش أني أجيب غيرها، هي كمان عاوزاك، ومش موافقة على التاني بس هي مجبورة والله.
ضاق به الحال ذرعًا وعلم من هيئتها أن الحزن ساكنٌ في قلبها، علم أن الإجبار على هذا الحال إن استمر أو تركها هو سينتهي بها الأمر غارقة بلا نجدةٍ من غرقها، فاستمع لصوت قلبه أولًا ثم تلهف وهو يجاوبها:
_وأنا مش عاوز غيرها هي، والله ما عاوز غيرها دلوقتي، وعلى فكرة أنا مش ناسيها ولا حتى بشيلها من جوايا، أنا بس صابر على الحال دا علشان أي حاجة هعملها مش هتضر حد غيرها هي، صدقيني والله هحاول تاني وتالت ورابع، ومستني يوم ما ربنا يكرم وتخلص من خطيبها دا، أنا موجود لحد ما ربنا يأذن ويردهالي من تاني، بس علشان تطمني على بنتك، أنا مش هاجي غير وأنا مستاهلها، أتطمني يا أم “جـنة”.
ابتسمت هي له بثقةٍ فيه وامتناتٍ ثم تحركت من أمامه نحو بيتها بعدما سبقتها ابنتها، وما إن ولجت الشقة وجدت زوجها يسألها بتعجبٍ من تأخرها:
_هو أنتِ كنتِ فين وبنتك هنا من بدري؟.
طافت بعينيها في المكان بتيهٍ ثم قالت بشجاعةٍ استجمعتها أمامه:
_كنت بسأل على حاجة تحت وقولتلها تسبقني، خير بقى إن شاء الله؟ ولا دي كمان هتطلع علينا عفاريتك االي ماسكينك بقالك كام يوم ومش طايق لحد فينا كلمة ولا حد يقرب منك.
كانت تنتهج وضع الهجوم وفي تلك اللحظة طُرِق باب الشقة فتحرك “بهجت” نحو الباب يفتحه لابن شقيقه الذي ما إن ولج الشقة ضحكت والدتها بسخريةٍ ثم قالت بتهكمٍ لاذعٍ:
_نورت يا أستاذ “وائـل” والله، أهلًا بيك وأنتَ خارب حياة بنتي ومنكد عليها، بس العيب مش عليك، العيب على عمك اللي بيسمع كلامك وماشي منكد على بنته معاك وطافي فرحتها، أعوذ بالله منك عيل سماوي ونابك أزرق.
طالعها الشاب بعينين أعربت كلتاهما عن حقدٍ في النظرات ثم قال بنبرةٍ جامدة كأنه يرد لها طريقتها في الحديث بقوله:
_والله؟ وماله يا مرات عمي، بكرة بنفسك تقدريني وتحطيني في عينك لما تعرفي إني كنت بلحق بنتك من اللي كانت هتعمله في نفسها، عاوزاني أسلمها لواحد نسوانجي وبتاع كباريهات علشان تضيع نفسها وتضيع سمعتنا معاها، إيه اللي عجبك فيه دا؟ بقى بتبدي دا على “مهند” المتحرم؟.
حركت عينيها بينه وبين عمه ثم قالت بدفعةٍ قوية:
_أنا أم وبختار اللي يحب بنتي وعاوزها علشان يحطها في عينه، مش واحد عاوزها يتحكم فيها وجاي ياخدها علشان شكلها وملامحها ولبسها، دا واحد كل اللي محتاجه بنت تكون ملتزمة وخلاص علشان تليق عليه، دا عمره ما هيحب بنتي ولا يقدرها، علشان كدا مش طايقاك ومش طايقاه، وربنا يبعدكم عن بنتي أنتوا الاتنين يا رب.
تدخل زوجها يسألها بقسوةٍ وغلظةٍ بعد اندفاعها في وجه ابن شقيقه بتلك الطريقة:
_ما بالراحة شوية، أنتِ مالك عمالة تزعقي وتعلي صوتك ليه مش فاهم؟ دا غلط ابن عمها إنه خايف عليها ومش عاوزها تتضر ويحصلها حاجة غلط؟ بدل ما تشكريه علشان خوفه على بنتك ومصلحتها؟ أهو كتر خيره سأل ودور وعرف أصله منين وفصله وحياته كلها.
قبل أن ترد عليه هي قاطعته “جـنة” حينما هتفت بنبرةٍ جامدة:
_لأ مش كتر خيره ولا حاجة، ولا هو بيعمل كدا ويتفضل عليا بحاجة، هو بس عاوز يأكدلكم إنه قايم بدوره علشان الناس كلها بعد كدا تصقفله وتقوله شاطر يا واد، لحقت بنت عمك وبقيت صاحب أفضال عليها كمان، وبعد كدا كل ما يتكلم يفضل يعاير فيا وفي اللي خلفوني كلهم ويقولي لولايا مكانش زمان حد لحقك، وأنا في النص بيتحط عليا من الكل.
رفع “وائـل” حاجبيه مستنكرًا ثم أشار لنفسه بذهولٍ مصطنعٍ وهو يسألها:
_أنا يا “جـنة” برضه؟ أقول عليكِ إيه يا بنت عمي وأنتِ بتغلطي فيا ويعلم ربنا أنا قلقان عليكِ إزاي، دا أنا كل ما أتكلم أقول خايف عليها علشان ملهاش أخ يقف في ضهرها، وأنا وكلت نفسي أخ ليكِ، حتى بدل ما حد يجيب في سيرتك ويتكلم بالحقيقة ويقولها..
ضيقت جفنيه وهي تطالعه بريبةٍ ساورتها وسألته بعينيها فإذ به يقول بوقاحةٍ وانعدام أخلاق كطبع كل خسيسٍ:
_إيه مش دي الحقيقة برضه ولا أنا بتبلى عليكِ؟ على الأقل دلوقتي محدش هيقدر يجيب سيرتك، إنما غير كدا لو حد قال إنك واحدة من اللي كان ماشي معاهم ومقضي معاها كام يوم محدش فينا هيقدر يدافع عنك حتى ولو…..
قبل أن يُكمل الحديث بترته هي بصفعةٍ نزلت فوق وجهه صدمته وصدمت والديها نفسهما ثم قالت بنبرةٍ عالية تصرخ في وجهه:
_إياك تفكر تجيب سيرتي على لسانك تاني ولا حتى سيرته هو كمان، خليك في حالك بعيد عننا وركز في حياتك بس وأنا لو عليا مسلمة أمري لربنا علشان العيب مش عليك، العيب على عمك اللي سامحلك تخوض في عرض بنته كدا وساكت على كسرتها قدامك، وآخر مرة هقولها ليك، لو عندك دم متدخلش في حاجة تاني تخصني، أحسن يتقال عليك راجل مش مظبوط ولا حاجة..
فعلت ما كانت تود فعله منذ أن تدخل في هذا الأمر..
قامت بطرده من بيتها وهكذا فعلت مع حياتها كاملةً، لم تتحمل تواجده أكثر من ذلك وهو يدمر كل شيءٍ كي يظهر بدور البطل المغوار ومن ثم يرتفع صوت التصفيق الحار له كالبطل المغوار الذي أنقذ الموقف وأغلقت عنده الستار وهو آخر ما ظهر من إطار المسرح..
____________________________________
<“القلب أسير الهوى، رغم أنه بعمره ما هوى”>
وبالرغم أن قلبي هوسه كان الهدوء..
لم يعجبه إلا ذاك الضجيج الذي أتاه منكِ أنتِ من بين كل العالم، وأنه حقًا لأمرٍ غريبٍ أن يكون قلبي متعته دومًا الهدوء ويوم أن يهوى ضجيجًا؛ يهواه حينما يأتيه من عينيكِ، عيناك اللتان يأتيان المرء بكل فوضى تبعثر ثبات أنفاسه…
كان يقف في عمله وسط البقية يتابع ملف واحدٍ من المرضى حتى مرت هي من أمامه تخترق الزحام كي تصل مباشرةً لعينيه فتثير الفوضى داخل قلبه الذي يهوى الهدوء ويعشق الثبات، وقد انتظرت حتى أنفض الزحام من حوله فاقتربت منه بضحكةٍ واسعة وهو يُطالعها بعينين ضاحكتين محتفظًا بجمود ملامحه..
وقفت بجواره وهي تسأله بنبرةٍ ضاحكة:
_ما تضحك لما تشوفني، هو أنا طليقتك يا عم أنتَ؟.
ضحك رغمًا عنه ثم هز رأسه نفيًا وقال بصوتٍ هاديءٍ:
_لأ طليقتي إيه بس بعد الشر هو إحنا لحقنا، أنا بس مش عاوز حد يركز معانا ويفضل يبص علينا كل شوية كأننا اتنين من كوكب آخر كدا، بس دا ميمنعش إني بفرح لما أشوفك جاية عليا.
ابتسمت رغمًا عنها تزامنًا مع تراقص فؤادها بسبب كلماته وقد قطع صفو لحظتهما سويًا صوت هاتفه الذي صدح برقم “بـاسم” فتحرك بعيدًا عنها على الفور وهو يسأله بلهفةٍ:
_ها طمني وصلت لإيه من بعد اللي عرفته آخر مرة؟.
_اللي عرفته هو أكتر من اللي وصلنا، البنات اللي بتخرج من الدار دي بيروحوا شقق هنا وكباريهات تشغلهم في الحرام، لحد ما ورقهم يخلص ويتهربوا فوق العبارة بهجرة غير شرعية، وهناك بقى كل واحدة تشتغل وتجيب رزقها بنفسها، و “هاني” شغال فيها من بدري بقاله كام سنة، غير كدا الدار بتستقبل رجالة كتير من دول تانية معظمهم خلايجة وأمراء عرب وأجانب، وينقوا من كل لون اللي يعجبهم، وامبارح بليل شوفت بنفسي واحد نازل من عربية دخل من الباب اللي ورا، غاب ساعة وخرج ومعاه بت في أيده.
هكذا رد عليه حتى صُعِقَ “مُـنذر” من الحديث الذي قيل له وقد توسعت عيناه ما إن طافت الذكريات المريرة بعقله ثم قال بنبرةٍ أعربت عن لهفته:
_اسمعني كويس يا “باسم” خليك مركز مع “هـاني” وحاول تصور أي حاجة من دي وتسجله كتير كل تحركاته، الواد دا شمال وبيتاجر في البنات كأنهم في سوق الفاكهة، وأنا هكلم “أيـوب” علشان يروح يشوف حل معاه تاني ونقدر نوصل للبنات من جوة ونصورهم، لازم أي طريقة تدخلنا الدار علشان نلحق البنات دي قبل ما يكون مصيرهم مجهول، لو أنا لحقت نفسي دول مين هيلحقهم يا “باسم” ومين يقف في ضهرهم؟.
كانت “فُـلة” خلفه تتلصص على حديثه وقد دق قلبها بعنفٍ ما إن فهمت المقصد من حديثه وأدركت الكارثة في كلماته وفي تلك اللحظة كانت تود أن تركض إليه وتحتضنه، رغبة قوية فيها حثتها على الاختباء بين ذراعيه وقد تكررت صورة عمها أمامها وهو يقترب منها بهيئةٍ فجة داخل غرفتها وصوت صرخاتها وهي تتوسله عاد يُدار في أُذنيها وهي تقول بتوسلٍ:
_علشان خاطري يا عمو خليك بعيد عني، اللعبة دي رخمة ومش بحبها، مش هقول لبابا والله بس مش عاوزة ألعب..
كانت تتوسله وتترجاه وهو يقترب منها مثل الكلب الذي يسيل لُعابه عند رؤيته لقطعة لحمٍ تشتهيها نفسه، كان يستغل حبها له ورغبتها في البقاء بجواره لحنوه عليها واستغلاله لبراءة قلبها وإذ بها فجأةً تنهار باكيةً وهي تضم الملف الذي كانت تمسكه في يدها وتتشنج بجسدٍ مهتزٍ وقد التفت هو خلفه يطالعها بعينين حائرتين وهي تبكي أمامه وكأنها فقدت الرؤية إلا من صورة ماضيها الأكثر بشاعةً، أقترب هو منها يسألها بلهفةٍ وهو يهزها بعنفٍ كي تنتبه له:
_مالك يا “فُـلة” بس؟ بتعيطي ليه هو فيه حد زعلك؟ مالك طيب عرفيني حصلك إيه وصلك للمرحلة دي؟ “فُـلة” بصيلي طيب.
كانت تائهة وكما يُقال أن الذكريات تأتي أمواجًا؛ ففي تلك اللحظة هي كانت تغرق بعمق اليم وكأن هناك أصفاد حديدية التفت حول كاحليها ثم سحبتها كما الدوامة نحو العمق فتغرق وتغرق والأنفاس ثقيلة كما روحها التي فقدت خفتها وأصبحت بثقل الجبال، فمن يرى داخلها يظن أن الأرض تجثو فوق صدرها وتحمل هي ثقل الأرض بأكملها بداخلها وليس العكس..
كان يُناديها ويجذب نظرها وعينيها له دون أن يقترب وكأن إهمال المشاعر الذي تلقاه هو وعانى منه، جعل منه فاشلًا في المواساة والربت فوق قلوب الآخرين، فشل في أن يقترب منه حتى نجح في ذلك شقيقها الذي اندفع نحوها وضمها له يمسح فوق ذراعها روحةً وجيئةً ثم قال بنبرة صوتٍ دافئة توغلت لسمعها:
_أهدي يا حبيبتي أنا هنا معاكِ أهو، جنبك ومعاكِ مش هسيبك، أهدي علشان خاطري مفيش حاجة هتقرب منك وأنا معاكِ هنا، هو مش موجود خلاص، مش موجود وأنا بس اللي معاكِ وجنبك وهتفضلي في حضني علطول وكل يوم والله، مش هخليكِ بعيد عني.
طالعه “مُـنذر” بحيرةٍ ووزع نظراته برأسه المشتتة بينهما فوجدها تتمسك بشقيقها وهي تشهق باكيةً بأنفاسٍ متقطعة، وتتوسل شقيقها أن يلحقها من أذى كاد أن يقترب منها أو هو بالفعل أقترب وترك الأثر الذي لم يزل أثره حتى الآن، شرد بها وطالعها بعينين يحتضناها بغير اقترابٍ حتى رحل بها “جـواد” من أمامه وتركه خلفه يفتش بعينيه عنها فلا يراها، وياليته لم يرَ سواها ومن بين العالمين لا يلمح إلاها…
____________________________________
<“كنا نحسبه شرًا فلم نجد غيره خيرًا”>
أتعلم تلك الأمور التي ساورتك المخاوف تجاهها؟…
هل يُمكنني القول أنك لن تجد آمن من تلك الأمور كي ترتاح من عناءٍ كان يسكن فيكَ؟ تحديدًا تلك اللحظات التي ما إن يذهب إليها تركيزك تخشاها وتظنها شرًا، وفي مضمار الحياة ومع مرور الأيام لن تجد خيرًا بقدرها هي، وكأن تلك الحكمة التي قيلت في سوابق الأعوام والأزمان أن:
“ما تخشاه وتهابه، لن تجد خيرًا إلا عند بابه”
والخير هنا لن تجده إلا عند بابٍ كنت تخشى يومًا أن تطرقه، واليوم تنتظر على أعتابه كي يُفتح لك..
كان يخشى لحظة معرفة ابنه بذاك الخبر الذي لا يعلم أثره عليه، كان يخشى رد فعله؛ فربما يثور وربما يرفض وربما يحزن ويشعر بالغدرِ أو الإهمال كونه الطفل الوحيد في تلك العائلة وقد أتى من ينازعه في تلك الصفة، وقد جلس معه برفقة زوجته يُمهد له الحديث بقوله:
_بص يا “إيـاد” علشان أنا بحبك ونفسي أفرحك، أنتَ نفسك عيلتنا دي تكون كبيرة أوي ولا نفضل صغيرين زي ما إحنا؟ شوفت جدو عنده عيلة كبيرة إزاي؟ إيه رأيك ؟.
حرك الصغير عينيه بتساوٍ بينهما ثم عاد يلتفت لوالده وقال بتيهٍ بسبب تشتت السؤال له:
_لأ نفسي عيلتنا تكبر ونكون مع بعض علطول، بس ليه؟.
حاول والده أن يُمهد الحديث له لكنه فشل فقال بسرعةٍ حتى لا يزداد توترًا وتيهًا:
_علشان ماما الحمدلله حامل وهتجيب ليك أخ أو أخت.
التفت لها “إيـاد” بفاهٍ مفتوحٍ وعينين متوسعتين كأنه يسألها عن مصداقية الحديث وهي لأجل خوفها من رد فعله فاندفعت تقول بلهفةٍ:
_والله لو زعلان خلاص هزعل أنا كمان، بعدين مفيش حد هييجي زيك عندي وأنتَ أول فرحتي وأكتر واحد في الدنيا دي قريب من قلبي، حتى النونو دا أنا مش هحبه زيك أنتَ..
ضحك هو لها ثم أرتمى عليها يضمها وهو يقول بفرحةٍ جعلت صوته مختنقًا بسبب حماسه وفرحته:
_شوفتي بقى أنا بحبك ليه؟ علشان كل حاجة بيكون نفسي فيها بتعمليها علشاني، يعني بجد هكون زي صحابي كلهم وعندي أخوات وألعب معاهم وأجيب ليهم حاجات حلوة؟ ينفع أنا اللي اختار اسمه كمان؟ طب هو بنت ولا ولد طيب يا ماما؟.
لم تتوقع هي رد فعله لكنها ضمته لها بقوةٍ ثم قالت بسعادةٍ تماثل سعادته:
_أعمل معاه اللي تتمناه كله، هو هيكون محظوظ أو هي إنهم لما يكبروا هيلاقوا عندهم أخ زيك، متأكدة إنك هتحبه زي ما بابا بيحب أخواته كدا، بس أوعى تحبهم أكتر مني، هزعل منك.
ضمها هو تلك المرة ثم ابتعد برأسه يُطالعها ضاحكًا ثم وضع رأسه فوق كتفها وهو يقول بحبٍ بالغٍ لها كونها تصنع له عالمه الذي رغبه وتمناه حتى ظن تحقيقه مستحيلًا:
_أنا مش هقدر أحب حد زيك أبدًا يا ماما، علشان كل مرة بتحققي حاجة كنت بتمناها وبطلبها من ربنا، أنتِ أحلى ماما في كل الدنيا وهتجيبي ليا أحلى نونو ويا رب تكون بنت وشبهك كمان.
حمحم “أيـهم” ثم نطق بصوتٍ عالٍ يصيح:
_جرى إيه يا أعمى؟ هو أنا كيس لب قاعد جنبك؟.
التفت له “إيـاد” ضاحكًا ثم قال بنبرةٍ ضاحكة:
_عيب والله الحلاوة دي تكون كيس لب، أنتَ أكيد كيس مانجا.
في تلك اللحظة انفجرت أمه ضاحكةً وهي تحاوطه بين ذراعيها خاصةً حينما حاول والده أن يرتمي عليه كي يختطفه منها لكنه ما إن فشل في تلك المحاولة، حاوط كليهما في عناقه يُضلل عليهما في كنفهِ ويحميهما في رعايته وبالأخص بعد تلك السعادة التي غمرت الشقة بأكملها وبدلت موضع كل حزنٍ بوجودها..
ولأن الغباء أسمى صفة يتمتع بها كل جاهلٍ..
ففي مكانٍ آخرٍ بقارة أُخرى ببلدٍ ثانية تفصل بينها وبيننا الحدود، كانت صورة هذا الصغير تظهر من شاشة هاتفٍ وهناك زوجٌ من الأعين يطالعها ببكاءٍ وندمٍ وتحسرٍ على ما فات بدونه، كانت “أمـاني” تطالع ضحكته وهو يضحك بعناق والده عند البحر، وكأن الصورة مثالية لحدٍ جعل قلبها يدمي بقهرٍ على ما تركته وأولته ظهرها..
بكت وهي تشعر بنفسها قطعة من اللوث تطالع أنقى اللوحات طوال الدهر والأمد، كانت تتمنى وآهٍ من تلك اللحظة التي يتمنى فيها المرء أن يملك جهازًا بضغطة زرٍ واحدة تعود به للماضي كي يُبدل كل غبائه بلحظة أخرى تجعله آمنًا في ماضيه، تمنت أن يعود بها الزمن لتلك اللحظة التي تركت فيها بيتها وباعت فيها ابنها ثم أولت الحياة ظهرها وركضت بعيدًا عن الجميع كي تطالع مجدًا لن تُحققه، فآهٍ لو كانت فقط تعلم أن هذه هي نهاية المصير؛ من المؤكد كانت البداية ستختلف حتميًا..
فُتِح الباب وطل منه “أمين” زوجها فأغلقت هي هاتفها سريعًا ومسحت عينيها وقد ابتسم هو بسخريةٍ ثم وقف يهندم ملابسه أمام المرآة بعد عودته من الخارج وهو يرمي بحديثه عليها هي:
_أعرف واحد كان خايب وأهبل، كان قدامه سفرة كاملة مليانة أكل وببلاش وحاجة نضيفة وأمان، بس كل يوم السفرة دي قدام عينيه مش بتكيفه، خلاص أتعود عليها، وبص مرة من بعيد شاف واحد بياكل من عربية كبدة ومبسوط، يسكت ويحمد ربنا على السفرة اللي عنده؟ لأ بالعكس دا راح عند عربية الكبدة ووقف جنبها يتمنى ياكل منها كل يوم، علشان بس شاف غيره بياكل منها، ونسي إنها للأسف مسممة، فلما داقها تعب، ولما جه يرجع للسفرة من تاني صحابها قفلوها في وشه وخلوها للي محتاجها..
فهمت هي مقصد كلماته فهبت منتفضة في وقفتها ترمقه بازدراءٍ ثم قالت بتهكمٍ أقرب للسخرية:
_طب شاطر والله وعليك نور، فاهم إنك عربية كبدة مليانة سم.
التفت لها ببرودٍ وقال بوقاحةٍ لم تنفك عن طبعه:
_بس مش أشطر منك وأنتِ لماحة وفاهمة إنك الخايب والأهبل اللي أنا أقصده بكلامي، شطورة يا روحي والله.
رمقته بسخطٍ وقبل أن تتحرك صدح صوت جرس باب شقتهم فخرج هو بلهفةٍ وهي خلفه تسير خُفافًا كي تقف وتتلصص عليه، فلمحت بعينيها رجلًا يقف بجوار فتاة صغيرة تنكس رأسها للأسفل، فحاولت أن تسترق السمع لهما، لكنها فشلت في ذلك ووجدت الفتاة تدخل الشقة بخوفٍ، وبعد مرور دقائق ولج زوجها وهو يناديها ثم قال بسماجةٍ:
_جيبتلك واحدة تساعدك أهو في الشغل علشان متزعليش ومن مصر زينا، خشي يا “هـدية” أقعدي مع خالتك “أمـاني” ولا بلاش أحسن تتقمص، دي طنط “أمـاني” مراتي.
أنهى حديثه ثم ولج للداخل من جديد وقد أقتربت منها “أمـاني” بشفقةٍ بعدما آثرت تجاهله ثم سألتها باهتمامٍ:
_أنتِ جاية هنا إزاي وفين أهلك شكلك صغيرة أوي.
رفعت الفتاة رأسها وهي تقول بصوتٍ باكٍ وانكسارٍ سكن روحها وصدع قلبها لشقين لا يمكن لهما أن يلتحما سويًا:
_ماليش أهل، أنا كنت عايشة في دار أيتام وهما فضلوا يلعبوا بيا وكل شوية يحطوني في مكان شكل لحد ما جيت هنا ومعرفش حاجة، أبوس إيدك أحميني منهم ربنا يستر عرضك، دول مرمغوا شرفي في الطين، وأنا مش فاهمة حاجة من اللي بتحصل، ألحقيني إلهي ما تقعي في ضيقة..
انتفض قلب “أمـاني” لأجل تلك المسكينة التي تقف أمامها ترجوها، كما طالعتها بعين الشفقة وهي تلمح البكاء يُلطخ وجهها ورأسها يستقر للأسفل بانكسارٍ كأنها اعتادت أن تُبقيها هكذا، وتلك الفتاة هي بذاتها التي تم تهريبها من دار الأيتام وتم قتل صديقتها بعد محاولة اغتصابٍ أودت بروحها للموت، هذه هي الزهرة الثانية التي وبكل آسفٍ كتبت لها الحياة..
لكنها حياة يملؤها الخريف وعواصفه، لم تناسب زهرة مثلها تحتاج للربيع كي تزهر وتزهو..
____________________________________
<“إن وجدت غيرك ينازع كي يعيش، لا تقتله أنتَ”>
في قوانين الحياة لا نحتاج الحكمة بقدر ما نحتاج الرأفة..
فإذا وجدت من ينازع كي يعيش ويستمسك بالحياة، لا تقتله أنتَ بحديثك وفلسفتك الفارغة التي لن تجدي نفعًا مع غريقٍ يلفظ أنفاسه الأخيرة وإنما يحتاجك تمد كفك له وتخرجه نحو الشاطيء..
مساءً بداخل النادي الرياضي التي تتدرب فيه “چـودي” كانت تلازمها “نـور” التي جلست في انتظار “سـراج” لكنه تأخر كما المعتاد منه، فتركت الصغيرة عند حوض السباحة ثم جلست بمللٍ تتصفح الهاتف كي تتخلص من ملل الوقت بمفردها، وقد لفت نظرها دخول “نورهان” النادي وهي ترتدي قبعة معطفها الشتوي على الرغم من ارتفاع درجة الحرارة عن السابق، تأهبت في جلستها وتركت هاتفها كي تركز عينيها عليها…
ظلت تراقبها وتمعن نظراتها فيها وإذ بها فجأةً تترك موضعها ثم التفتت تراقب الصغيرة بداخل التدريب فاطمئن قلبها قليلًا ثم تتبعت خطوات الأخرى التي زارت النادي للمرة الأولى من بعد موت “شـهد” وكأنها بدأت تعود لحياتها القديمة تدريجيًا..
وقفت تراقبها وهي تلتقط ما تود من الرجل نفسه فزفرت بقوةٍ وتتبعت خطواتها بخفةٍ ثم أخرجت هاتفها تلتقط لها صورة بوضعها هذا فربما تساعدها في أي شيءٍ، وفورما التقطت لها الصورة برفقة الشاب وجدت صوتًا يأتيها من الخلف متعجبًا:
_أنتِ بتعملي إيه يا “نـور” عندك كدا؟.
توسعت عيناها والتفتت بسرعةٍ تواجه من يُحدثها فلم يكن إلا “مُـنذر” فزفرت هي بقوةٍ ثم قالت بتوترٍ أعرب عن كذبها:
_مش بعمل خالص والله، أنتَ شوفتني بعمل حاجة؟.
أومأ موافقًا ثم صارحها بقوله:
_شوفتك بتصوري البنت اللي واقفة هناك دي مع الشاب، دي مش أخلاقك على ما أظن من خلال معرفتي بيكِ، يبقى ليه بقى وبنعمل كدا ليه؟.
تنهدت تلك المرة بثقلٍ وقبل أن تنطق وجدت “نورهان” تركض بخطواتٍ واسعة وتهرول بعيدًا فاندفعت خلفها هي وقد لحقها “مُـنذر” الذي لم يفهم حتى الآن سبب تصرفاتها فوجدها تشير له أن يختبيء كما فعلت هي، فعل مثلها ووقف يراقب الفتاة الغريبة التي فتحت كيسًا صغيرًا بعدما التفتت حولها عدة مرات ثم استنشقت ما فيه جُرعةً واحدة ثم عادت برأسها للخلف وهي تدخل أكبر قدرٍ من الهواء تزامنًا مع انتشاء جسدها بتلك الجُرعة..
توسعت عينا “مُـنذر” بهلعٍ ثم نظر لـ “نـور” التي طالعته بأسفٍ ثم قالت بنبرةٍ أقرب للبكاء:
_للأسف هي مدمنة، وأنا غرضي والله أساعدها وألحقها من نفسها، مش عاوزة أتفلسف عليها ولا أحسسها إني أفضل منها، أنا بس عاوزاها ترجع عن الطريق دا، فيه زيها كتير ضاعوا وضيعوا نفسهم ونهايتهم كانت الموت، لو تقدر تساعدني هكون مبسوطة أوي وهكون ممتنة ليك لو هتساعدها هي قبلي..
حرك عينيه نحو الفتاة يتابعها فوجدها تجلس القرفصاء بجوار سلة المهملات، حينها أشفق على حالها كثيرًا وراقبها بعينٍ متألمة كما حال قلبه عليها وهي تجلس منهزمة بكسرٍ استقر فوق قلبها، وحينها قرر أن يمد يده لها، فقال مقررًا:
_هنحاول يمكن تلحق نفسها، ابعتيلي الصورة بس.
أومأت له موافقةً بينما هو فابتعد عنها وجلس فوق المقعد يضم رأسه بكلا كفيه، كل الهيئات والمناظر حوله تؤكد له أن وحوش الماضي اجتمعوا على هؤلاء الضحايا ووصل بهم الأمر لتدمير حياتهم وحاضرهم، ومن المؤكد أن المستقبل تدمر أيضًا كما سابقيه، بينما “نـور” فكانت تبحث بعينيها عن “سـراج” وما إن رأته ركضت عليه تتمسك بكفه فسألها بعينيه عن سبب خوفها هذا، فقالت هي بتيهٍ:
_متسألنيش، بس أنا خايفة وحاسة أني مش متطمنة.
طاف بعينيه يبحث عن سبب خوفها بهذا الشكل وما إن فشل في العثور على ما يريد ضمها له ومسح فوق رأسها ثم هتف بنبرةٍ هادئة تمامًا كي يُطمئن قلبها الذي كان يرتجف كورقةٍ داهمها الخريف:
_وأنا هنا قصاد خوفك علشان أطمنك.
استقرت معه وبجواره وقلبها يتمنى أن يكون كما الليل..
تمنت أن تماثل ليلها في هدوئه فقد ملت من ضجيج ماضٍ يعود لها متربصًا كلما رأت أحدهم يغرق وكأن اليم يحاوط أنفاسها ويقيد حركة جسدها، وهو وحده صاحب الأعين الزرقاء من يجيد ضمها لدفء قلبه بعد أن ينتشلها من الغرق..
____________________________________
<“ولأن انتهاء اليوم لا يعني انتهاء الحزن، فحزننا تجدد”>
انتهاء اليوم لا يعني انتهاء الحزن..
وإنما فقط هي مسألة بعض الوقت الذي ينتهي والحزن أبدًا لم ينتهِ، فهي ساعات تمر وتظن أن الأمر هكذا أيضًا، ومن ثم مع أول استفاقة على يومٍ جديدٍ نجد أن الحزن بقى واليوم قد انتهى، فياليت حزننا كان يومًا يمر وينتهي…
في اليوم التالي صباحًا كان “مُـنذر” في المشفى حائرًا بسبب اختفاء “فُـلة” التي أتت مع شقيقها صباح اليوم واختفت داخل مكتبها، وقد مر من أسفل الشرفة الواسعة التي راقبها منها للعديد من المرات لكنه لم يجدها، فظن أن ربما تكون بمكتب شقيقها، لذا ولج من الممر كي يذهب لها ويراها لكنه وجد المكتب فارغًا منها وحينها طاف بعينيه يبحث عنها لكنه فشل في أن يراها..
لمحه “جـواد” فاعتدل في جلسته ثم أشار له أن يجلس فاقترب منه “مُـنذر” وجلس أمامه يحاول أن ينتهز الفرصة كي يسأله عن العديد مت الأشياء أهمها قبوله به، ولأن “جـواد” يتسم ببراعةٍ في قراءة الأشخاص باغته بقوله:
_”فُـلة” مش هنا وروحت من شوية، فاسأل من غير توتر وتفكير وأنا هجاوبك على كل اللي عندك.
حينها تجاوز الآخر فكرة دهشته بقراءة الآخر له، ثم قال بتيهٍ:
_الأسئلة كلها تخصني أنا، علطول بشوفها في عينك إنك عارفني وفاهم كل حاجة تخصني، ليه وافقت أن أختك تكون معايا؟ مش خايف عليها مني مثلًا أو تخاف أكون سبب في أذاها؟.
ابتسم “جـواد” رغمًا عنه لكونه توقع هذا السؤال، ولأن موضع جلوسه يضعه في خانة الحاكم، ترك المقعد ثم جلس في مواجهة “مُـنذر” وقال ببساطةٍ:
_قصدك يعني علشان حياتك وماضيك؟ عامةً تاريخك كله عندي، من أول خروجك من مصر على عبارة في هجرة غير شرعية، مرورًا بعيشتك وسط عصابة، لحد وصولك لنقطة إنك قاتل، بس هل أنا قاضي علشان أحكم عليك؟ لأ طبعًا، ومين قالك إنك لوحدك اللي قاتل؟ ما أنا كمان قاتل…
هوى قلب “مُـنذر” أرضًا وسقط من محله وهو يستمع لتلك الصراحة المفرطة من فم “جـواد” الذي عاد للخلف وخلع نظارته الطبية ثم قال بنبرةٍ أقرب للهمس حينما قرر يصارحه بالمزيد قائلًا:
_زي ما أنتَ قتلت علشان مجبور، أنا كمان قتلت علشان مجبور، يمكن أنتَ قتلت الغريب، بس أنا قتلت عمي، وصدقني مكانش قدامي حل تاني غير كدا، فأنا مش هقدر أصدر حكمي ضدك وأنا زيي زيك يا “مُـنذر” وعملت نفس اللي أنتَ عملته..
وهنا أتت العواصف من جديد تبتلع في جوفها الهدوء وتقتلع في طريقها الأشجار من الجذور، مصائب تم كشفها من أشخاصٍ لم يخطر ببالِ أي فردٍ أن مثلهم يفعل هذا الشيء وكأنهم فوق جلسة الحاكم والمحكوم، لكن يبدو أن القاضي تغيب عن جلسته تلك..
أما هي فكانت تعلم أن الساكت عن الحق شيطانٌ أخرس..
لذا لم ترد السكوت عن الحق، بل طلبت من شقيقها أن ترحل مُبكرًا كي تأخذ قسطًا من الراحة، وما إن نالت أمر رحيلها، خرجت من مكانها وتحركت بسيارة أجرة أوصلتها لدار الآيتام التي يديرها ابن عمها، وكأن هذه هي الجُرعة الثانية من العواصف المتتالية…
ولجت هناك ومعها مبلغ مالي وضعته في حقيبتها ثم طلبت مقابلة “هـاني” الذي تعجب من مجيئها لكنه استعد لمقابلتها على أوج حماسه وبعد ترحيب ومصافحةٍ، سألها بحيرةٍ عن مجيئها إليه، فقالت هي بثباتٍ:
_الحقيقة بقالي فترة كبيرة بحلم ببابا وحياه زعلان مني علشان المشاكل اللي بين العيلة وبينا، وخصوصًا أنتَ، فأنا سألت وعرفت إنك مدير الدار دي علشان كدا جيت اتبرع بمبلغ كدا يكون صدقة على روح بابا وأبدأ معاك صفحة جديدة.
أنهت حديثها كما بدأته دون أن ترمش أو يهتز لها جفنٌ وقد رفع هو حاجبيه مستنكرًا ثم أومأ موافقًا وأضاف:
_مبسوط أوي بقرارك دا، وعامةً أنا ببدأ حياتي من جديد علشان مش محتاج لحاجة من حد، كدا كدا معايا اللي يكفي وزيادة.
أومأت له موافقةً ثم طلبت منه أن تتجول بالمكان وتشاهد الفتيات بنفسها، ولأنه لا يشكك بقدرات فهمها وافقها وسار معها كي لا تنتابها المخاوف والشكوك، سار معها لبعض الأمكنة وطلب منها العديد من المقترحات كي تعاونه وتساعدهم في تطوير المكان، وقد أتته عاملة بالمكان ركضًا تشير له أن يقترب، فانتبه لها ثم قال لابنة عمه:
_عن إذنك يا “فُـلة” هشوف محتاجين إيه.
أومأت له ببسمةٍ كاذبة ثم انتظرت رحيله وركضت تجاه المبنى البعيد عن البقية ثم ولجته مباشرةً وهي تشعر بانقباضٍ في روحها، المكان مظلم ورواقه كان طويلًا حد المُبالغة وهي تركض وتبحث بعينيها عن أي فتاةٍ تراها حتى تفتش فيها عن أي أثرٍ لجراحها، لمحت بعينيها فتاتين فركضت نحو إحداهن تسألها بلهفةٍ:
_ممكن كلمتين؟ أنا دكتورة وجاية علشان أتطمن عليكم، بصي قوليلي لو فيه أي حاجة بتوجعك أو فيه حاجة مخوفاكِ وأنا أوعدك مفيش حاجة هتحصل بس عرفيني بيحصل ليكم هنا إيه؟.
قبل أن تجاوبها الفتاة صاحبة العشر أعوام شهقت بفزعٍ ما إن ولج “هـاني” الرواق مهرولًا وقد طالع الفتاتين بنظراتٍ نارية جعلت الركض هو جل ما يصدر منهما، بينما “فُـلة” فتوسعت عيناها وجف حلقها، وفجأةً سحبها “هـاني” من خصلاتها ثم هدر من بين أسنانه المتلاحمة:
_جاية تشتغليني أنا يا روح أمك؟ جاية تدوري ورايا؟ طب تعالي بقى يا بنت عمي أعرفك أنا بعمل فيهم إيه هنا، دا أنتِ حتى حلوة وييجي منك أوي يا حتة.
أنهى حديثه ثم قام بجرها خلفه وهي تحاول أن تخلص نفسها لكن السيف قد سبق العزل وهي تساق لمصيرها حيث غُرفة مظلمة ألقيت بها ثم تلقت صفعة فوق وجهها أسقطتها أرضًا، والقادم أقرب في وصفه لعاصفةٍ هوجاء تقتلع كل شيءٍ ثابتٍ..
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)
😘
😍
💛