رواية غوثهم الفصل المائة وأربعة وستون 164 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة وأربعة وستون
رواية غوثهم البارت المائة وأربعة وستون
رواية غوثهم الحلقة المائة وأربعة وستون
“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل التاسع وسبعون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
سال دمعي يا إلهي …
ولولا غربتي ما كان دمعي يسيل..
والقلب شاك عليل،
سال دمعي يا إلهي..
ولولا غربتى ما كان دمعى يسيل..
اللهم إننا فى غربة وضيق
ولا فرج ولا فرح إلا بك وإليك
الخير كله منك والسوء منا
فاغفر وأصفح يا مولانا..
_”نصر الدين طوبار”
____________________________________
ولو أن مدينتهم تلك لم تلق بنا…
فلنحرقها فوق رؤوسهم قبل أن نتركها لهم، وليس لأجل شيءٍ وإنما لأجلك أنتِ بذاتك فليحترق العالم بجسد كل مُدنسٍ لم يرحم العالم من شروره، ولو سألوني الناس عنكِ وعن حُبي لكِ، لن أجد من الكلام فصيح الجواب، وإنما وحدها من تُجيب هي الأفعال، فأنتِ من تحترق العوالم لأجلها، وتُقلب المُدنِ لأجل حزنها برأسها على عقابها، أنتِ التي وإن اقترفت ذنبًا سأفصح به وأخبر العالم أنني لو تُبت عن آثامي فهو فقط لأجلها، وأنتِ من نُقيم فداءً لبسمتها الحروب..
وإن كنتِ أنتِ موضع الحروب بذاتها،
يقولون الناس دومًا أن الروح لن تُرمم ثقوبها إلا في سكن شبيهها، وآن لكِ من بين الآنام أن يكون شبيهك وحده في مدينته صريعًا في دياره غارقًا في الآثام، ويوم أن تحدث له قلبه أخبره أن الأمن فقط موجودٌ في ديارها حيث مقر الأحلام، فاليوم لم أحسب نفسي أمام الذاتِ آثمًا، وإنما أنا أمسيت عاشقًا،
والعاشق إن مَسَّ نصفه ضُرٌ،حرق لأجله العالم بناسهِ
ولن يرأف بهم أو يُفكر لأجلهم في النجاة..
<“أحرقوا روحي بالشظايا، فألهب أجسادهم بالنيران”>
ليس كل من قال؛ قال..
وليس كل من فعل؛ فعل..
وإنما هي لحظة واحدة فارقة تتبدل فيها الأطراف ويصبح الغارق ناجيًا والجاني مُحاميًا، فلو أردت أن تعلم قيمة الثانية الواحدة التي تمر، عليك أولًا أن تنظر لهؤلاء الذين تاهوا في وسط الطريق بعد أن غابوا ثانية واحدة عن الدرب ولم يفلح ركضهم ولا سيرهم المتواصل، وبتأخرهم كانوا فقدوا كل شيءٍ..
_أبقى قول كلام غير دا..
ألقى جملته المُعتادة وهنا قضي الأمر، حيث رمى سيجاره لتتصاعد ألهبة النيران ونظرة العين وحدها تسرد ما تعجز الألسنة عن وصفه، حيث نظرة الهلع والنيران تلمع في زجاج المُقل وهي ترى النيران تزحف لها بجسد حية سريعة تركض لفريستها، وفي المقابل نظرة الغضب الأسود عند لحظة تحقق الثأر وتشفي القلب المكلوم بالطُغاةِ الفاسدين..
كانت النظرات متناقضة لكن رجفة القلوب متفقة، أتعلمون تلك القرية التي أحرقوا فيها الفتى الصغير ثم قاموا بأخذ الرمال وبنوا بها بيوتهم، هذا هو الشيء بذاته، قاموا بإحراق الفتى الصغير لكنه اليوم عاد وأشعل القبيلة بأكملها، واليوم وبعد عمرٍ كاملٍ تلك النيران تُدفيء قلبه، بدلًا من أن تنهش في جسده، وقف عند أعتاب الشقة يرى الآخر فوق المقعد وهو يهزه بعنفٍ كي ينجو بنفسه من تلك النيران لكنه لم يفلح في ذلك، ظل يتحرك ويندفع للأمام حتى كاد أن يُلفظ أنفاسه الأخيرة بموضعه، بينما “مُـنذر” فوقف يراقبه بعينين لامعتين بلمعة الانتصار الأكيد..
قبل أن تلتهم النيران جسد “هـاني” انطلق “مُـنذر” ودفع جسده للخلف حتى سقط بالمقعد بعد أن ارتد إثر الدفعة القوية للخلف بقدم “مُـنذر” الذي اقترب منه وسط النيران، ثم قبض على فكيه وتواصلت المُقل ببعضها وسط هجيج النيران وألسنتها المُتصاعدة بلونٍ بُرتقالي نهايته باللون الأحمر المُلتهب ثم همس له بفحيح الانتقام المُضرم بنيرانه:
_مش هسيبك تموت والنار تاكلك، هسيب الخوف ينهش في قلبك زي ما أيدك الوسخة أنتَ وأبوك كانوا بيتمدوا على جسم البنات الصغيرة وتقيد النار فيها بعمايلكم الزبالة، كفاية عليا أشوفك مذلول ونظرة عينك لوحدها بتقول كل حاجة أنتَ حاسس بيها، قولي أعمل فيك إيه..؟ واحد زيك بقذارتك دي أعمل معاه إيه؟.
وازى كلماته حركة كفه وهي تُحرر فمه المُقيد وما إن عاد فم الآخر حُرًا من القيود لهث بعنفٍ كمن وصل المحطة في وقت متأخرٍ وظل يركض خلف القطار حتى انقطعت أنفاسه، فنبس بخوفٍ وهلعٍ ورجيف قلبه يتصاعد مع صعود النيران:
_خرجني…خرجني من هنا..
حينها اشتدت قبضة “مُـنذر” فوق فكه ثم هتف بغضبٍ أعمى وصل به حد الصراخ الهادر بعدم استيعابٍ لما يُقال من الآخر برغم جُرمه العظيم في حق الآخرين كأنه ملك أمرهم _معاذ الله_ ويتحكم فيهم فأتى الصراخ بقولٍ:
_وأنـتَ مخرجتش العيال الصغيرة من الجحيم دا ليه؟ مخرجتش بنت عمك النهاردة ليه؟ بص حواليك كدا وشوف النار وهي بتاكل في المكان؟ نفسي أسيبها تاكلك بس مش هينفع، أنتَ حلك إنك تخاف بس وعينك تفضل مفزوعة بمنظر النار دي، وأقولك على الكبيرة؟ الدكتور الوسخ اللي بيعمل العمليات ويشيل للبنات الرحم زمانه اتقبض عليه، أما أنتَ فأنتَ ونصيبك..
دفعه للخلف ورحل بعيدًا عنه والآخر يصرخ وهو يزحف على كتفه كي يهرب من النيران، كان يُذَل بحقٍ وهو يلوذ بالنجاة وسط حلقة دائرية من النيران وجسده يتحرك ببطءٍ كأنه سُلحفاة فوق الأرض، وكل هذا راقبه “مُـنذر” وثلج الانتصار يُطفيء نيران الهزيمة، أخرج هاتفه يلتقط له المقطع الأخير وهو يصرخ متوسلًا النجاة ولعجبه كانت النيران ثابتة في موضعها وهو فقط من يتحرك، وصرخاته جعلت الانتشاء يسري في جسد “مُـنذر” سريان الدماء في الجسد..
في الأسفل أوقف “أيـوب” سيارته ومعه فيها “بـاسم”الذي هرول منها راكضًا واتجه نحو البناية ولحقه “أيـوب” هو الآخر حيث الطابق المعلوم جيدًا وقد وقف “مُـنذر” على أعتاب الشقة يشبع نظراته بذل الآخر وخياله يصور له وضع كل فتاةٍ تعرضت للانتهاك على يديه ومن ضمنهن زوجته البريئة التي عادت تُلقى في أحضان نقطة الصفر، وقد ولج “أيـوب” مندفعًا نحو الداخل ثم سحب أول شرشفٍ فوق الأريكة وأطفأ به النيران بينما “بـاسم” فكان يُشرف على حال “هـاني” الذي ظل يتنفس بعنفٍ بعد لحظة موتٍ كانت أكيد بلا شكٍ في مصداقيتها..
أما “مُـنذر” فكان يعلم أن النيران لن تطوله لأنه لم يرغب في ذلك، ولذلك تركهما يعاوناه في النجاة وقد هب “بـاسم” منتفضًا ثم قال بلهفةٍ:
_البوليس هييجي هييجي، الدكتور قال إن هو اللي بيجيبه يشيل الرحم للبنات، يبقى الحل إن إحنا نمشي من هنا بسرعة وكفاية أوي كدا لحد دلوقتي، يلا من هنا قبل ما النار دي تطولنا إحنا.
كان قد سبق وحل وثاق الآخر ثم وضعه فوق الأريكة وفي مرور الثواني خلف بعضها وصلت الشرطة للبيت فوقفوا كما هُم حتى لا يثيرون الشكوك في موضعهم، وما إن ولج الضابط المسؤل عن إحضار “هـاني” وقف يتابعهم وسأل بجمودٍ يليق بوضعه:
_أنتوا مين؟ وإيه الحريقة دي وبتعملوا هنا إيه؟..
تولى “مُـنذر” الجواب بكل ثباتٍ وكياسةٍ في حديثه اللبق:
_إحنا جيرانه وشمينا ريحة نار فطلعنا نشوف في إيه، كان سكران والإزازة وقعت منه وسيجارته وقعت والحريقة قامت، إحنا لحقناه قبل ما يروح فيها، بس هو فيه حاجة يا باشا؟.
منطقيًا كان حديثه صحيحًا وديناميكيًا كان وارد الحدوث، لذا تجاهله الضابط ثم وجه سؤاله للآخر بصلدةٍ وحدةٍ يستفسر عن هويته:
_أنتَ “هاني أبو الحمد” ؟.
أومأ الآخر بتيهٍ وكأنه وضع بين المطرقةِ والسندان ووضع بين شرين فاختار أهونهما عليه وهو أن يقع في براثن الشرطة بدلًا من الوقوع في يد “مُـنذر” لذا تم إلقاء القبض عليه فورما أدلى بهويته وفرغت الشقة في الحال من الجميع بينما “مُـنذر” فكانت عيناه تطلق شررٍ لو كانت الأعين لها وظيفة أخرى لكانت أحرقت الآخر حقًا بدلًا من مجرد إخافة عابرة تمر والسلام يمضي من بعدها، هكذا استرد حقه وأطفأ نيرانه الحاضرة، أما نيران ماضيه فتلك لن تُكفيها قبيلة بأكملها كي يحرقها ويسترد حقه منها..
____________________________________
<“كأن الحياة تقف لك بالمرصاد وأنتَ الساذج أمامها”>
رُبما تكون فردًا لكن لنفسك بمقام جيشٍ..
فأنتَ حتمًا لا تعلم معنى أن تكون وحيدًا أمام العالم مع نفسك ضد الجميع، أو قد يكون الجميع من هم ضدك، وفي كلا الحالتين وعلى حد السواء أنتَ لا تعرف معنى أن تكون منصوفًا، فكل شيءٍ وارد منه أن يُحطم قلبك ويرحل ويمضي، لكن تلك الرجفة التي تركوها لك في منتصف قلبك وإن مر العُمر كاملًا؛ هي لن لن تمر ولن تمضي…
ليلٌ مُعتمٌ عليه وعلى روحه، يجلس رهين الوحدة والضياع ورأسه كالعادة حربها الليلة قوية لا تُرد لها سيوفٌ، صوت الحرب بقرع طبولها بداخل رأسه يود الهرب منها ولم يجد بابًا للمفر، بحث عن حبة دواءٍ لكنه لم يجد وبكل آسفٍ، كان يعلم أن حالته تلك الليلة لن تمر مرور الكرام إلا بنومه لو استطاع وفعلها ونام حقًا، وقد أخرج سيجاره يشعله وتذكر مشاجرته مع رب عمله صباح اليوم حينما أمره بصلدةٍ؛ فكان الجواب منه عنيدًا لا يُرد:
_مباخدش أوامر من حد في تخصصي، أنتَ بتاع مكاتب كحول وأنا بتاع مواقع ودارس ودي منطقتي، عندك اعتراض على حاجة وشايف غير اللي أنا شايفه قوم شد حيلك وتعالى اشتغل مكاني وأعمل اللي بتقوله دا بايدك أنتَ..
حينها اغتاظ الآخر وخطى نحوه يتفوه بنبرةٍ جامدة وحدةٍ مفتعلة:
_احترم نفسك بقولك وقوم شوف شغلك، أنتَ ناسي نفسك وناسي أنا مين ولا إيه؟ أنا هنا مُديرك وسُلطتي تمشي عليك قبل الكل ولو أنا شايف حاجة صح تبقى صح من غير نقاش.
حينها جلس “يـوسف” وأشعل سيجاره ببرودٍ أكبر تُخالطه الوقاحة عند قوله وهو يُشعلها بقداحته بعد أن وضعها بين شفتيه:
_دا باعتبار إن نظرك ٦/٦ وأنا أعور مبشوفش يعني؟ عاوزني أغوط في الحفر أكتر من كدا علشان العمال يتهرسوا تحت الماكنة؟ ومين هيشيل التمن لو دا حصل؟ متبقاش حافظ مش فاهم وخلاص، لو فيه فعلًا بترول هنا هنلاقيه من أول ما العمال تنزل، بس كلامك دا يودينا في داهية، أبقى غطي عليه أحسن تعرنا.
اغتاظ الآخر منه فظل يُغمغم بما لم يلتقطه “يـوسف” أو ربما تعمد تجاهله وعدم الإكتراث به وفي تلك اللحظة كانت هي البداية لنيران الغضب كي تتلبسه، ثم في منتصف النهار وصله ما حدث مع رفيقه فشغل النصف الثاني من قلبه بقلقٍ لم يكن في محله، وكما المعتاد أصبح هو المغلوب على أمرهِ في حربٍ لم يجد نفسه فيها إلا طرفًا وخصمًا وكلاهما ضد الآخر؛ وكارثته أن الآخر كان هو بنفسه وليس غيره..
خرج من شروده على صوت أقدام تقترب منه فالتفت بحدةٍ ليجد مديره بنفسه يطالعه بنظرات نارية غاضبة ثم قال بتهكمٍ:
_لما قالولي إن أنتَ اللي هتيجي قلقت منك، علشان عارفك بتاع مشاكل وبتوقف أي مركب سايرة وتعطل المصالح كلها، بس ماكنتش أعرف إنك قليل الأدب كمان ولسانك عاوز قصه كدا، بس يا أنا يا أنتَ هنا، أخرك عندي تقرير زي الزفت يجيبك في الأرض ومش هتلاقي شغل بعدها..
اتقدت النيران فيه أكثر ثم رمى سيجاره بطول ذراعه وابتسم بزاوية فمه وكأن فرصته أتته على طبقٍ من ذهبٍ كما الأسد الذي وجد القطة العمياء في عرينه؛ فانقض عليها يأخذ منها وجبته التي تمثلت في قوله:
_وماله بس أبقى حط في التقرير بتاعك إن أيدي طرشة، علشان لما يسألوك عن أسباب التقرير أبقى قولهم أيده جرحتني، ولحد ما يسألوك بقى إيدي حاضرة أهيه…
أنهى حديثه بلكمة قوية في وجه مديره دون الأخذ بأي اعتباراتٍ أخرى قد تحول بينه وبين فعله من باب تقدير الآخر ومكانته في العمل، وما إن أمسك الآخر وجهه سحبه “يـوسف” من تلابيبه ثم هدر بنبرةٍ عالية كأنه يفوق رأسه غضبًا وانفعالًا:
_خليك بعيد عن طريقي، لو مش عاوز تتداس يبقى طلعني من دماغك وأقل حاجة لو حد سألني هقوله بيغش وضارب الفواتير كلها ومنصص مع السواقين، مش برضه بتقص من أكل العمال وتضرب فلوسها في جيبك؟ دا غير فواتير الصيانة اللي واخدة حقها من شركة التأمين؟ لو جدع وضهرك شايلك أفتح بوقك بحرف واحد، وأنا هسمعك الأبجدية كلها باللي يخليك تتكسف ترفع عينك تاني، ونصيحة أخيرة ليك، حجم أخلاقي مش كبير كفاية علشان أسكتلك وأنتَ بتيجي عليا، شوف طريقك فين يلا.
دفعه من كفه بعدما أخرج ما في جبعته دفعة واحدة يلقي أمامه بحقيقته التي ظنها مدفونة في أحضان التُراب، بينما الآخر فكان يحمحم بقوةٍ كي يهرب مما هو فيه ولذلك ولج مقر جلوسه سريعًا ثم سحب هاتفه وطلب رقم السائق الذي يتولى مهمة تزييف الفواتير الحسابية وهدر فيه بقوله:
_أنتَ جاموسة يالا؟ رايح تقول لـ “يـوسف” على الفواتير اللي بتضربها؟ وهو دا بيسكت ولا بيحط لسانه في بوقه؟ يحرق **** معرفتك على المسا، أتنيل بقى لحد ما أشوف صرفة تغوره في داهية من هنا ولا مصيبة تبلعه، هي كانت نقصاه المفتح دا كمان؟.
وهذه هي عادته، يصمت ويغيب ويركد كما المياه الراكدة في بُحيرتها ثم يعود كما الخيل الحُر ويثور ويرفع رأسه في وجه كل جبانٍ أقسم على دوام وقوفه في الطريق، هذا هو بأصله وهذه هي الحياة بخِستها، وفي كل الحالات سيعود منتصرًا، لكن اليوم لا بأس من هزيمة واحدة تمر في الطريق تعرقله لبرهةٍ..
ولج غرفته يرتمي فوق الفراش وبحث عن شيءٍ يهرب إليه من نفسه ففتح الحقيبة الخاصة به ووجد الكتاب الذي أهدته إياه زوجته، تنهد كمن وصل أخيرًا من بعد تيهٍ ثم أخفض بصره حيث موضع الكتاب فوجد حصانًا ذهبي اللون يستقر فوق الغلاف واسفله العبارة الشهيرة الخاصة بهما بنفس اللون اللامع
“الشبيه لبيهه يطمئن”…
فتح أول صفحةٍ فوجدها بُنية اللون عتيقة كما الأعوام التي تمر على الكتب الأثرية، وجد خطابًا منها بدأته هي بديباجةٍ معتادة لامست قلبه حينما كتبت:
_الشبيه لشبيهه يطمئن..
الجملة دي مش هنساها منك ومش هتخطاها طول عمري، علشان أنا اطمنت ليك أخيرًا من بعد كل السنين اللي عيشتها لوحدي خايفة من غيرك، صحيح كنت خايفة منك بس بعد كدا مالقيتش حد أتطمن معاه غيرك، مش هبالغ لو قولتلك إني بلاقي بابا فيك، نفس حنيته وخوفه عليا، نفس فخره بيا وفرحته بوجودي في حياته، نفس نظرة العين لما أكون بتكلم وهو كان بيسرح فيا، نفس الأمان اللي كان في حضنه وأنا خايفة، الجواب دا كتبته وحطيته هنا بعد فرحنا، علشان لما عيشت معاك في بيت واحد أنا اكتشفت أني مع نفسي بجد، حد وأنا معاه بحس إني هنا في مكاني، بحس إن الخوف راح وأخيرًا أقدر أقول إني وصلت ومبقيتش تايهة، معرفش وأنتَ بتقرأ الورقة دي هتكون فين وأنا فين، بس أتمنى أكون قصاد عينك وقتها، وفي النهاية أحب أقولك يا حظي وأنا مراتك وحبيبة قلبك..
رق قلبه الذي كان صلدًا منذ دقيقتين، فاض الحنين من عينيه وتمنى حقًا لو كانت أمام عينيه وتحت نظراته واطمئن برؤيتها، تمناها تكون حاضرة لعلها تُطفيء نيران لوعته، عاد من جديد يقرأ الخطاب بتريثٍ أكبر وتعجب كيف لكلماتٍ وضعت بجوار بعضها تُشكل حديثًا شافيًا لقلبٍ حزينٍ؟ مرر الخطاب ثم فتح الصفحة الأولى فوجد بها صوره مع عائلته حينما كان صغيرًا، كل عائلته وهو الطفل الضاحك الباسم بينهم والعديد من العبرات كتبتها وفرقتها فوق الصور منها:
_كان لاسمك أكبر نصيبًا لك في عمرك..
فالحمدلله على عودتك سالمًا من بعد كل كربٍ
والحمدلله على مجيئك قبل
أن تقوم على أيامنا الحرب..
ابتسم بصدقٍ ولمعت عيناه بوميضٍ خاص بها ثم أغلق الصفحة الأولى في كتابه وهو يحتضن تلك النهاية السعيدة، أوقف نهاية يومه عند هذا الحد وكأنه يكفيه أن يكون محتفظًا بتلك الكلمات كي يُنهي حربه وبؤسه ويومه الكئيب، وضع رأسه فوق الوسادة وثبت عينيه على الكتاب بجواره ثم أغمض جفونه يستعيد صورتها من جديد وآخر ما همس به كان:
_ياريتها كانت الدنيا زي رحمة وجودك معايا.
تمنى وياليت أمنيته كانت ممكنة،
فالدنيا أبدًا لن تكون رحيمة لطالما كانت دُنيا،
وإنما برفقة من نُحب يمر ثُقلها
خُفافًا، وكل مجهولٍ يصبح معلومًا،
وهو أدرك كل المعاني التي كانت مجهولة
في قاموسه.
____________________________________
<“راح الحُلم وترك خلفه الأمل والألم، فراح الأمل..”>
ذات يومٍ حلم فتى صغير..
حلم بحياةٍ ظنها هي الأساسية وما غيرها يكون كذبًا ولم يكن حقيقيًا، وظل يسعى بكل شغفه وراء هذا الحُلم، حتى تفاجأ بالحقيقة الصادمة التي كانت مُجحفةً أمام أحلامه، ولم يبقَ منه إلا الأمل، ومع عدم قدرته على الاستمساك به راح هو الآخر، وفي النهاية ظل وحده برفقة الألم…
زحف الليل أكثر وزادت عتمته واستوطنت وحشته في النفوس، وفي كل نفسٍ كان الألم يسكنها بشكلٍ ما يختلف عن غيره، وقد أوقف “أيـوب” سيارته في منطقةٍ السيدة زينب بعد أن تأكد من إلقاء القبض على “هـاني” ثم ترجل منها وتحرك نحو عربة مشروبات ساخنة ثم جلب منها ثلاث أكوابٍ من القهوة وذهب يُعطي “باسم” و “مُـنذر” مشروبهما بصمتٍ أطبق عليهم هم الثلاث..
خرج سؤالٌ من بين شفتي “أيـوب” بنبرةٍ مُثقلة بالهموم:
_والعمل بعد كدا هيكون إيه؟.
انتبه له كلاهما فزفر “بـاسم” وأضاف بتهكمٍ كمن يعلم خبايا الأمور بخيباتها المتلاحقة:
_خلاص كدا يا “أيـوب” متشغيلش بالك، خلصت مننا لحد كدا، مفيش جديد هيحصل، هتنزل لجنة تفتش في الدار ويشوفوا جسم البنات ويكتموا الخبر علشان اللي بعده يعرف ييجي يكمل في سكات من غير شوشرة، زي ما “هـاني” جه يكمل من بعد اللي قبله، و “هـاني” نفسه هيروح سجن طرة يلبس ترينج أبيض ويقعد في أوضة بكايتة مع البشوات الكبار ويبقى ملك زمانه جوة، هيعيش عيشة الفقير بعياله ميطولش منها جناح فرخة حتى، فكرك أنتَ هيكون فيه جديد يعني؟..
أوقف حديثه المرير ثم أضاف بتهكمٍ أكبر وبخيبة أضخم:
_تبقى بتحلم..
لاحظ “أيـوب” سوداوية كلماته فسأله بحيرةٍ في أمره:
_أمرك عجيب يا أخي، ليه بتقفلها في وشنا كدا، مش يمكن المرة دي ميبقاش حلم ويكون في جديد فعلًا؟ ليه قافلها علينا ومحسس نفسك إننا معملناش حاجة كدا؟ على الأقل كان فيه رد فعل مننا، علشان يعرفوا إن فيه ناس مبتسكتش عن الحق..
هُنا وحقًا قد طفح الكيل، طفح كيل الحُلم الذي لا يتحقق، طفح كيل الأمل الذي قُتل في مهده حتى، طفح كيل الآلام المُعذبة للمرء في عمق روحه، فصرخ الشاب الحُر بصراخٍ هادرٍ لعل حديثه يصل ويدركه العالم الذي لم يفهم حتى الآن مقصد الحرية:
_مقفلها علشان دا اللي بيحصل ومفيش غيره بيحصل، مقفلها علشان مفيش جديد بيحصل خلاص، تقدر تكدبني في اللي بقوله؟ سجن البشوات معمول علشان يبقى زي بيوتهم بالظبط وياكلوا ويشربوا ويتعالجوا على حساب الحكومة ببلاش، والغلبان اللي بيسرق سلك كهربا ينور عربية أكل عيشه بيتحط عليه، بيطفحوه اللقمة، أنا وأنتَ أهو دخلنا معتقل ليك عين تقول حصل فيك إيه جوة؟ تقدر تقول لحد على كسرة النفس اللي شوفتها؟ يجيلك قلب تنام ليلة واحدة من غير ما تفتكر؟ عــارف أنا مسودها ليه؟ علشان مفيش جديد ولا فيه حاجة بتتغير، ومحدش يقولي هتتغير..
كان يصرخ بنبرةٍ عالية ثم أضاف من جديد مُكملًا:
_علشان هي مبتتغيرش، “حـمزة” راح علشانها وهي متغيرتش، هو واللي زيه صرخوا وعلوا صوتهم وفي الآخر خدوا الصوت وراحوا، تقدر تقولي حق “حـمزة” فين؟ تقدر تقولي اللي زيه كلهم بقوا فين؟ حد فيكم يقولي هي كلها على بعضها فين؟ إحنا وهي ضيعنا، مبقيناش شبه بعض خلاص، بيخلوها شبههم هما، علشان تكون فيها غريب وكاره عيشتك فيها، وفي النهاية لا هي هتكون شبههم ولا إحنا هنقدر نقوم تاني خلاص، هنفضل كدا متعلقين..
طالعه كلاهما بغرابةٍ في الأمر وعجبٍ في الحال فألتفت هو مُشيرًا على الوضع حوله قاصدًا مجموعة من الشباب الصغيرين عُمرًا يتناولون المواد المُخدرة عند ناصيةٍ أحد الأزقةِ وهدر بقهرٍ:
_بص على دول كدا !! دول يقدروا يعملوا إيه؟ دول حتى مش عارفين بيوتهم فين، هيجيلهم حيل يدافعوا عن أرضهم وتاريخهم؟ دول هيقدروا حتى يتكلموا لو حصل حاجة؟ بلاش دول بص على الراجل دا كدا وعياله؟..
وكان المقصد حينها لرجلٍ يحتضن أفراد أسرته فوق أحد الرصفان ويضع الغطاء فوق جسد فتياته الصغيرات وبجواره علبة المناديل الذي يكتسب منها قوت يومه، فهدر “بـاسم” بقهرٍ أخذ يتزايد:
_دا هيقدر يعمل إيه وهو مش قادر يستر لحمه ونايم بيهم في الشارع؟ بناته دول مصيرهم إيه غير حياة متختلفش كتير عن حياة بنات الملجأ؟ دا ودول وغيرهم وغيرهم حياتهم إيه؟ بلاش كل دا، الناس المحترمة اللي فاتحة برامج الرقص والغنا وكل راجل فاتح الكاميرا على أهل بيته وعارض لحمه للكل علشان اللي يبعتله أسد واللي يبعتله قرش واللي يشوفوا بحوت، ورامي العيشة واللي عايشينها ورا ضهره، ولا بتوع المحتوى الإباحي اللي بقوا مثال للشرف والإصرار، يا أخي يحرق أبوهم كلهم، بس أنا تعبت، تعبت وأنا بصرخ لناس طُرش ويوم ما قررت أشاور لقيتهم كمان عُمي..
صرخ وأخرج ما كان في جبعته ثم جلس على عاقبيه بخيبة أملٍ يضع كلا كفيه فوق رأسه كأنه يُحد من حدة كسرة النفس والأحلام وإذ بصدفةٍ بحتة تمر من جواره لتوقظ نيران القهر حينما مر شابٌ من جواره ومعه هاتفه في يده تصدح منه كلمات:
_ساعات بخاف تبقى ذكرىٰ
ونبعد عنك تموت الفكرة…
بسمة مريرة تشكلت فوق شفتيه تزامنًا مع ظهور دمعات حبيسة في المُقل أسيرة خلف الجفون كما حال قلب صاحبها الحي والميت على حد السواء وقد تردد في سمعه حديث “حـمزة” من أعوامٍ عديدة في مكانٍ ظننا فيه الحلم تحقق حيث كان حديثه فرحًا كما الطير عند وصوله لعنان السماء:
_الناس فاقت يا “بـاسم” خلاص، أنزل بنفسك وشوف بعينك الناس وهي ملهاش عدد، خلاص الغمة انزاحت والراس اترفعت لفوق أوي، العالم كله عرف مين إحنا، الحقوق بترجع والعقول بتتنضف خلاص..
وفي حقيقة الأمر القاسية..
لا العقول أصبحت نظيفة، ولا الأحلام تحققت،
ولا حتى ظل الحلم حُلمًا كما هو، وإنما رحل الحُلم
ولاحقه الأمل وما بقى منهما مع الحُطام هو الألم..
____________________________________
<“ارحل أنتَ أيضًا، أنا لم يبقَ معي حتى نفسي”>
لطالما كان القلب مُتحدثًا..
فصوته يعلو فوق كل صوتٍ آخرٍ مسموعٍ، القلب وحده من يتحدث ويوصل صوته للنفس والعقل فيسكت كل الأصوات ويبقى هو وحده متحدثًا ومسموعًا حتى أمر مخالفته يكون مرفوضًا..
فعلت ما حدثها به قلبها، اختارت الأمر الصحيح بدلًا من الصمت والسكوت لطالما دومًا كانت ترى أن يد العون يجب أن تُمتد للآخرين عند تيههم وترشدهم للطريق الغائب عن عقولهم، فعلت ما بوسعها ولأول مرةٍ لا تشعر بخوفٍ كما كانت دومًا، بل ساورتها هالة من الفخر بالذات في باكورة الصباح وخاصةً حينما راسلت زوجها “سـراج” في غرفة نومه وهي في الحديقة بالأسفل وأخبرته ماذا فعلت، وربما يتفهم الأمر _وهذا هو المستحيل بذاته_ ورُبما يثور ويغضب وهذا هو المؤكد.
كانت تُلهي نفسها في عمل تمارين صباحية كما اعتادت دومًا وظلت مستمرة قرابة النصف ساعة حتى وجدت نفسها فجأةً مُعلقة للأعلى من كتفيها بكفين قويين وقد شهقت هي بفزعٍ مما حدث فقال “سـراج” بتهكمٍ ساخر:
_لأ يا شيخة ؟ كدا أنا قلبي هيرق يعني؟ دا أنتِ نهارك مش معدي، إيه اللي عملتيه دا؟ قولي إنك بتهزري وإن دي اشتغالة منك يا “نـور” وأنا هعديهالك ورحمة أمي وأبويا.
توسعت عيناها بشكلٍ بريء ومطت شفتيها بأسفٍ وهي تقول بتقهقرٍ عن روح المُتمرد فيها:
_يادي الخجل والكسوف، بس أنا عملت كدا فعلًا وكلمت “نـادر” علشان يساعد “نورهان” بما إنها كانت بتحبه وهو الوحيد اللي يقدر يخليها تبطل الهباب دا يا “سـراج” وصدقني والله أنا غرضي شريف وعاوزة البت حد يلحقها، نزلني بس علشان نتفاهم…
أنزلها برفقٍ تقف أمامه ونظراته الجامدة تتبعها موضع وقوفها وهي تحاول برمجة حديثها وكلماتها وما إن فعلت ذلك باغتته بقولها:
_هي لوحدها وحالها أصعب من حالي لما كنت زيها، على الأقل أنا بابا كان بيحبني وأنا اللي كنت بعيدة عنه، إنما هي للآسف محدش بيحبها، كل واحد فيهم رماها علشان بيته وحياته كأنها مش بنتهم أصلًا يا “سـراج” تخيل بنت عندها ١٨ سنة تعيش لوحدها في بيت وكل أول شهر مصروفها يوصلها زيها زي اللي بياخد حسنة، دي مش حياة بنت في عمرها للأسف، صدقني هي بتصعب عليا ونفسي أكون معاها، نفسي أحضنها أوي وأقولها أنا معاكِ أهو..
زفر بقوةٍ ثم مسح فوق وجهه وهدر ببحةٍ جامدة:
_اعملي اللي تعمليه خلاص، طالما بقيتي تتصرفي كأني ماليش لازمة وماشية بدماغك، بس لآخر مرة تكلمي حد تاني سواء “نـادر” أو غيره يا “نـور” وياريت تراعي إن صبري مش كفاية علشان أسكت لمراتي وهي بتكلم حد تاني تطلب منه مساعدة، وقبل ما تفتحي بوقك وتناقشيني فكري فيها كدا لو روحت كلمت واحدة غيرك تساعدني في حاجة هتقبليها دي؟.
هو المراوغ دومًا بكل تأكيدٍ هي لن تفلت من حصاره، لذا قلبت عينيها ثم هزت رأسها نفيًا وزفرت بقوةٍ كأنها تخبره أنه حقًا هزمها بحديثه بينما هو فابتسم بسخريةٍ ثم قال:
_كنت متأكد إنك مش هتقبلي الوضع دا، علشان كدا متحكميش على غيرك وتحطيه في صورة وتجبريه يا يقبلها يا بلاش، علشان لما فكرتك بس باللي بتعمليه وإن أنا ممكن أعمله وشك جاب ألوان، فياريت بعد كدا بلاش تتصرفي من دماغك بدل ما أقفلها عليكِ من كله، خلينا نشوف آخرتها معاكِ بقى…
كاد أن يرحل لكنها أوقفته حينما ألقت نفسها بين ذراعيه وكأنها تسكته بتلك الطريقة بينما هو فالتزم الصمت أمامها وصدر لها الجمود منه حتى لا تُكرر فعلتها تلك من جديد، بينما في ثنايا دواخله وعُمق روحه كان يعلم أن فخره بها لا يُحد، يعلم أن نقاء قلبها وتلقائيتها التي تخلو من أي شائبة خبثٍ هي ما تدفعها لأي فعلٍ، لذا وبدون تفكيرٍ طوقها بذراعيه في صمتٍ بينما ضحكت هي ثم ألقت رأسها فوق كتفها…
في مكانٍ آخرٍ كانت تجلس برفقة قطها في حديقة بيتها، وقد بدلت الكثير في ملامحها حيث قامت بفرد خصلاتها المُجعدة، وأنزلت الغُرة فوق جبينها، تركت وجهها بدون أي مساحيق أو إضافات وبدت ملامحها في غاية البراءة، عدا فقط من تلك الهالات السوداء التي تسكن أسفل الجفون وتستقر عندها، كانت تتذكر لقاء أمها معها، ثم محادثة والدها وهو يطلب منها المجيء لبيته وهو يقطع لها وعدًا بحسن معاملة زوجته لها، فرفضت هي وجلست في بيتها وحدها بعد أن أطعمت نفسها وتناولت الدواء كي تستفيق من حالة الإعياء تلك..
قطع خلوتها في بيتها دخول “نـادر” مقر جلوسها فرفعت عينيها نحو صاحب الظل الساقط عليها وما إن لمحته توسعت عيناها بغير تصديقٍ فاقترب هو وسحب المقعد وجلس أمامها وهو يقول بتيهٍ:
_أنا ماكنتش ناوي آجي تاني هنا علشان منفتحش لبعض جروح قديمة إحنا مش قدها، وكنت ناوي ميبقاش ليا علاقة تاني بأي حاجة تخليني افتكر “شهد” ووجودها في حياتي وأنا بحاول أنسى اللي حصلي منها، بس بما إني مبقيتش “نـادر” القديم وبقيت بحاول أصلح على قد ما أقدر فأنا مش عاوز أسيبك لوحدك كدا، لازم تتعالجي يا “نورهان” لازم تحاولي وتخرجي نفسك من اللي أنتِ فيه دا، وأنا معاكِ مش هسيبك، اعتبريني ضهرك وهكون معاكِ علطول بس بلاش تفضلي كدا.
نزفت الجراح فيها وكأنه أتى فقط حتى يعيد لها جراح ماضيها، بكت عيناها بدلًا من الدموع دمًا، لكن رغم ذلك لم تظهر أي شيءٍ، فبأي وجهٍ تواجهه وهو يقوم بكشف الحقيقة أمام عينيها ويخبرها علنًا عن قُبحها؟ أخيرًا ظهرت العَبرات في عينيها وتهدج صوتها قبل أن تتحدث حتى، فقالت بصوتٍ باكٍ:
_وأنتَ هتساعدني بصفتك إيه؟ دا اللي مني وأنا منهم معملوهاش، طب عارف إن ماما ممنوعة عني علشان جوزها عرف وقالها وهي حتى محاولتش تساعدني؟ عاوزني اتعالج ليه وعلشان مين أصلًا؟ علشان أهل زي قلتهم؟ ولا علشان حياة ماليش فيها أهل ولا صحاب ولا حتى أي حد ممكن يقرب مني، عاوزني أفوق ليه؟ علشان أشوف بعيني الوجع دا كله من تاني؟ امشي يا “نـادر” وسيبني في حالي..
توسلته بجملتها الأخيرة بصوتٍ باكٍ فإذ به هو يندفع وينساق خلف حفنة غضبه قائلًا:
_علشان نفسك أنتِ، إحنا مش مطلوب مننا نفوق علشان حد غير نفسنا، ومش مطلوب مننا نرجع نقف على رجلينا علشان حد تاني غير نفسنا، محدش بيدوم لحد ومحدش بيقف في ضهر حد، كلنا بنتساب ونتباع ونرد اللي حصل فينا في ناس تانية ملهاش ذنب، وأنتِ مالكيش ذنب تدفعي حياتك تمن أنانية أهلك، قومي من تاني وأقفي على رجلك واتعالجي وشوفي حياتك، آخرتها إيه كدا؟ يا هتموتي لوحدك هنا بجرعة زيادة، يا هتتسجني في مرة وأنتِ بتجيبي الهباب دا، صدقيني أنا كل همي أنتِ، مش عاوزك تكملي في سكة نهايتها معروفة قبل ما تكمليها وقبل حتى ما تدخليها، دي سكة اللي يروح ميرجعش يا “نـورهان” من تاني..
تلك المرة هو أمسك المجهر وأشار لها على الحقيقة التي تعلمها هي وتتيقن منها بل هي تستقبل مجيء ذلك بصدرٍ رحب، فقالت ردًا عليه بألمٍ تفاقم عن السابق:
_وأنا أصلًا مستنية النهاية دي وبعمل كدا علشانها..
هي لا تعلم هل هي تعانده هو أم تعانده ذاك الصوت البعيد الذي يصدح في عُمق قلبها ويُخبرها أن من يحدثها معه كامل الحق، لذا صرحت بجملتها وهبت منتفضة قبل الاستماع لأية تراهات أخرى بينما هو أوقفها حينما هدر بجمودٍ ردًا على طريقتها:
_وعندك استعداد تقابلي ربنا بوضعك دا؟.
وهنا كانت القاضية لها، شل حركتها بسؤاله فعادت تجلس بارتخاءٍ فوق المقعد بينما هو فركز بصره عليها ثم ضيق جفونه يُطالعها بشكٍ وهو يضيف ما يُكمل البداية هذه:
_لو عندك استعداد يبقى كملي زي ما أنتِ، بس نصيحة مني ليكِ، الحياة مبتديش فرص كتير لحد، هي فرصة واحدة بس تغير كل حاجة، ولو فاتت وعدت عادي مش هترجع تاني هي أو غيرها، وأنتِ الفرصة جاتلك، فكري فيها وأنا معاكِ، بس معاكِ في القرار الصح بس…
استقام واقفًا يشرف عليها من علياءه ثم رمقها بنظرةٍ ثاقبة أخيرة قبل أن يرحل، بينما هي فتنهدت بثقلٍ ثم نكست رأسها للأسفل، الحياة دومًا تضعها بين الصعب والأصعب وأمرها ليس يسيرًا، كل شيءٍ خذلها، الأهل، الرفاق، الأحباب، حتى الوطن بذاته يسر على أمثالها طُرقات الضياع، لذا تنهدت بقوةٍ فصدح صوت هاتفها باشعارٍ جعلها تطالع الهاتف؛ فوجدت أمها أضافت صورة جديدة عبر حسابها الشخصي، ففتحتها لتجدها برفقة فتاتها الكبرى وزوجها وابنتها الصغرى وهي تضحك بينهم وتضمهم لعناقها، حينها بكت بقسوةٍ وقهرٍ على نفسها…
بكت وهي تلمح الصورة التي من المفترض لا تضم غيرها، بكت وهي تلمح من كانوا عنوانًا عند الليالي الحزينة؛ هم من اصبحوا عنوانًا للحزن، بكت لأن البكاء في بعض الأحيان يكون المتسع الوحيد لضيق النفس، فبكت حتى تجد نفسها في متسع البكاء، لكن هل يُعقل أن نجد من تاه منا في عُمق المُحيط؟.
____________________________________
<“وأني معك في كُل مُرةٍ وقلبي قاسمٌ معك أحزانك”>
لولا هؤلاء الذين نتكيء عليهم عند الصعاب…
من المؤكد ما كنا وقفنا من جديد،
وبالأخص في لحظات الهزائم التي تأتينا ممن لا يُخيل لنا أن نُهزم منهم، أو عند نصرنا من قِبل هؤلاء الذين ظننا فيهم كل سوءٍ فأتوا لنا بكل خيرٍ…
الآن هو يأخذ دور الجدار الحامي لقطة صغيرة أغرقتها الأمطار وفاضت عليها السماء فتبلل جسدها وهي لم تجد مأوىٰ يحميها ويحفظها في كنفه، كانت تموء أثناء نومها، تندى جبينها عرقًا وهي غافية فوق الفراش تتألم وتتأوه وتتذكر كابوسها ولمسات بغيضة تمر فوق جسدها بمطلق الحُرية كأنه حقٌ مكتسبٌ لصاحبهِ، بينما “مُـنذر” فأتى منذ باكورة الصباح يجلس بجوارها كي يطمئن عليها…
كان غريبًا حتى عن نفسه..
فتلك هي أغرب أفعاله حيث أتى يُراقبها كأنه يخشى أن تضيع منه وتتوه عنه فيفقدها للأبد كما فقد كل شيءٍ، جلس بقربها فوق مقعدٍ ثم ضم كفها أسفل كفه يقبض عليه بقوةٍ وهي تنام وقد فتحت عينيها فجأةً تهرب من كابوسها فوجدت كفها مُقيدًا أسفل كفه، حينها تنهدت بقوةٍ ثم راقبت ملامحه النائمة فابتسمت له ثم مسحت فوق رأسه برقةٍ ونادته بصوتٍ غلبه النعاس ففرق جفونه وطالع وجهها، وحينها سألته بلهفةٍ كأنها تود التأكد منه:
_هو أنتَ هنا علشاني صح؟.
أومأ لها موافقًا بعينين مُبتسمتين ثم اقترب منها يُلثم جبينها برقةٍ وهدوءٍ وعاد يستقر فوق المقعد ثم قال بصدقٍ:
_مقدرتش أتطمن عليكِ وأنتِ غايبة عني، جيت بعد الفجر كدا و”جـواد” كان معايا برضه بس طلع يغير هدومه ونازل تاني، طمنيني أنتِ كويسة دلوقتي؟ محتاجة تطمني ولا حاجة؟.
فهمت ما يرمي إليه بحديثه فابتسمت بخجلٍ وهي تقول بعدما أدركت وقاحته ومقصد كلماته:
_لأ مش عاوزة يا سيدي شكرًا لافضالك.
رفع حاجبه وابتسم نصف ابتسامة وهو يُكرر عرضه:
_فكري بس، مش يمكن مش واخدة بالك أنك محتاجة تطمني؟.
عادت برأسها للخلف تهرب من الضحك بسبب طريقته بينما هو توسعت بسمته فسألته هي بنفاذٍ صبر زائفٍ:
_أنتَ عاوز إيه بالظبط؟.
والجواب لم يأتيها ردًا وإنما جاء على هيئة عناقٍ خطفها فيه كي تستقر في أحضانه فتأمن ويأمن هو الآخر معها، استكانت فورما ضمها له ثم مسح فوق ظهرها وخصلاتها التي لازالت تشكل تميمة سحرية تجعله يفكر كيف للجمال أن يكتمل بتلك الصورة فيها هي، خبأت نفسها بين ذراعيه بينما هو قال بهدوءٍ توغل لسمعها:
_مقدرتش أنام قبل ما حقك يرجعلك، وحقك جه لحد عندك واللي عمل فيكِ حاجة هيشوفها في السجن أضعاف، المهم أن أنتِ تكوني بخير بس ومفيش حاجة تقربلك، علشان اللي هيقرب منك نشيله من على وش الدنيا، المهم أنتِ عندي..
يتحدث ويُعبر ويكسر القوانين ويفعل كل شيءٍ باسم الحب وفداء الحب، حتى وإن لم ينطقها ولم يخبرها بها، يكفيه أن قلبه غلبه اليقين وأصبح على درايةٍ كافية بما فيه وهي أيضًا حتى ودون أن يخبرها تعلم أن أفعاله تلك ماهي إلا من قلبٍ أحب
وقدرها هي أن تكون له هي من أحب..
ابتعدت عنه بتروٍ وبحركةٍ بدت تدريجية بينما هو كانت نظراته واثقة ولم تكذب كما طباعه الحُرة وقد أخرج هاتفه ووضعه نصب عينيها على ذاك المقطع الذي كان فيه “هـاني” بين حلقات النيران وقد شهقت هي بفزعٍ ووضعت كفها فوق فمها وعيناها تطالعه أسير الخوف في لحظته هاته، وقد تركها تراقب الشاشة في يديه وقد بكت من جديد وهي تشعر بلذة الانتصار حينما وجدت حقها يعود لها أمام عينيها، تشفت به وأراد أن يكون هذا هو مصيره بحق ما فعل بها وفي الفتيات الصغيرات، وحينها ضمها “مُـنذر” لعناقه من جديد يهديء روعها ونوبة بكائها..
____________________________________
<“هذا ماضيك وأنا أعلمه جيدًا، لكن حاضرك فهو أنا”>
في عالمٍ ما غير هذا أعلم أنكَ كنتُ تعاني..
وأنا قبل مجيئك كنتُ وحدي في عالمٍ ثانٍ،
ثم شاء مولانا واجتمعنا سويًا كي أكون أنا معك
ومن وسط كل العالم اسمعك،
فياليت كل العالم في عيني أنتَ،
وياليتني منذ أن وُجدت في عالمنا هذا كنتُ معك..
في المساء حينما أتى لها ولج غرفتها بهدوءٍ وأدبٍ ثم تسطح جوارها وألقى نفسه بين ذراعيها، تلك هي حالته حينما يكون خائفًا، أصبحت “قـمر” على درايةٍ كافية به، فهو من المؤكد يواجه ماهو أكبر من طاقته وقدرة تحمله، لذا ضمته لها كأنها تضلل على صغيرٍ لها ثم مسدت فوق ظهره فأجفل جسده من مجرد لمسة عابرة منها، فتنهدت هي ثم همست له برفقٍ:
_أنا “قـمر” يا “أيـوب” سيبني أطبطب على ضهرك..
فتح عينيه يُطالعها بنظرات تائهة فوجدها تبتسم له ثم قالت بطيبةٍ معتادة منها وهو يعلم جيدًا أن قلبها أحن من أن تضغط على آلامه فتنفجر بعدما رأت التيه في عينيه:
_متقولش حاجة وبلاش تيجي على نفسك، أنا موجودة ووقت ما تكون حابب تكلمني في اللي حصل عرفني ولو مش حتبب فأنا برضه جنبك في كل الأحوال ومعاك.
ابتسم لها بحنوٍ ثم لثم جبينها بعمقٍ كلثمةِ امتنانٍ لها وأعاد رأسه موضع كتفها وقُرب نبضها ثم طالبها بنبرةٍ أقرب للتوسل:
_كملي طبطبة على ضهري يا “قـمر”..
الليلة بالتحديد كانت آلامه حية وجراحه مفتوحة، حتى يديه في النجاة والمواساة لنفسه كانت مبتورة، عاد لها من وسط كل العالم حينما خشى على نفسه وارتكن إليها هي وحدها من وسط العالم بأكمله وطالبها أن تُساهم معه في إبعاد ماضيه عنه، أيام الاعتقال لا تُنسى ولو أقسم هو على ذلك وعلى قدرته في النسيان…
وحينما أتى الصباح رحل من بيت حماته يتوجه إلى والده الذي علم بما حدث معه حينما رآه أحد الصبية بالحارة وأخبر كبيرها وابنه “أيـهم” الذي بحث عن شقيقه أمسًا ولم يجده إلا ما إن أخبرته “قـمر” حينما نام بين ذراعيها وطمئنت عليه والده وشقيقه الذي استكان بمعرفته أنه قضى ليلته عندها..
في البيت كان “أيـوب” حاضرًا في انتظار والده الذي ما إن فتح باب غرفته قال بجمودٍ وصلدةٍ صدرهما له كتقريعٍ على ما فعله:
_كل ما أقول إنك خلاص كبرت وهتقدر حالي معاك بترجع تاني توديني عند نقطة الصفر والخوف يكتر، من إمبارح وأنا قلقان عليك ومش قادر أوصلك وبدل ما تيجي تطمني روحت عند حماتك، غاوي تتعبني ليه يا ابني؟.
شعر “أيـوب” بالحرج من نفسه خاصةً حينما تركه “عبدالقادر” في المسجد ورحل بغير وداعٍ له أو سلامٍ، فاقترب منه “أيـوب” بوجهٍ باسمٍ ثم لثم جبينه يسترضيه وهو يقول بهدوءٍ لعله يمتص غضب والده:
_حقك فوق راسي يا بابا، وحقك تزعل وتعمل أكتر من كدا بس أنا إمبارح كنت محتاج أكون مع “قـمر” وقبل ما تسألني ليه هقولك والله ما عارف غير إن في لحظة بتيجي عليا ميبقاش عاوز غير أتطمن وأنا معاها بس، ينفع متزعلش مني؟ والله مش حمل زعل منك، بعدين دي وصية “رقية” يعني؟ مكانش العشم فيك يا “عـبده”.
رفع “عبدالقادر” حاجبيه مستنكرًا وتصنع صفع ابنه الذي عاد برأسه للخلف ضاحكًا بينما والده فضحك هو الآخر ثم رد عليه بقلة حيلة كأنه مغلوبٌ على أمرهِ:
_ماشي يا ابن “رُقـية” ربنا يهديك عليا وتفتكر إنك ليك أب بيبقى هيموت من خوفه عليك زي ما افتكرت تطمن القمر بتاعك كدا، المهم مين اللي عمل فيك كدا؟ وكنت فين سيادتك؟.
كان يسأله بتهكمٍ وهو يعلم أن الجواب لن يأتيه كما يود هو، وهذا ما حدث بالفعل حيث تصنع “أيـوب” عدم الاستماع ثم قال بهدوءٍ أكبر نظير قلق والده:
_متشغيلش بالك وتقلق نفسك، أنا بخير ومفيش حاجة وجعاني ولا تعبان حتى، أنا زي الفل وكفاية إن معايا أب زيك كدا يخلي القلب ينشرح بشوفتك والله.
_أقسم بالله ما فيه حاجة محتاجة تتشرح غير برودك دا يا بارد، أعوذ بالله منك يا أخي فورت دمي أكتر، ولا، روح عند حماتك أجري خليهم ينفعوك بقى، يلا مع ألف سلامة.
ضحك “أيـوب” ثم جلس وأجلس والده بجواره رغمًا عنه ثم وضع رأسه فوق موضع نبض والده وقال بنبرةٍ هادئة عادت لها الجدية من جديد كي تُبرز مدى تأثر مشاعره:
_هو أنا ليا غيرك يعني؟ والله ما كنت عاوز أجيلك وتقلق عليا أكتر وتشغل بالك باللي حصل، بعدين أنتَ غيران ولا إيه؟ هلاقيها منك ولا من ابنك الكبير يعني؟.
ضحك والده مُرغمًا ثم ضمه لعناقه بقوةٍ أكبر من قوة ابنه ثم مسح فوق رأسه وخلل اصابعه بداخل خصلاته الكثيفة وهو يقول بهدوءٍ:
_ربنا ما يوجع قلبي على حد فيكم، دا أنا لحد دلوقتي بتمنى من ربنا يقدرني ويديني شوية صحة بس تخليني أقدر أقف على رجلي علشان أتطمن عليكم وارتاح إن مفيش حاجة هتقرب منكم، دا أنتوا عز الدنيا وخيرها كله.
هكذا ختم حديثه ثم لثم جبين صغيره الذي استقر في أحضانه وفي حقيقة الأمر كانا في أشد الاحتياج لهذا العناق، كلاهما كان يعلم أن أمانه في هذا العناق، كلاهما كان يعلم أن لحظة الخوف لا يُبددها إلا لحظة أمانٍ في عناقِ من نُحب، والآن الجزء الصغير عاد يستقر في أحضان الجزء الكبير وتلك هي الراحة بذاتها، أن يعود كل جزءٍ لمكانه..
في الأعلى في شقة “أيـهم” كانت “نِهال” تجلس فيها وهي تمسد فوق بطنها وتتذكر حديث الطبيبة معها في زيارة الأمس حينما قالت لها بوجهٍ بشوشٍ وفرحٍ لأجلها:
_الحمدلله الحمل حصل، أنا قولتلك فيه مشكلة دا أكيد، وقولتلك إن العلاج مش بسعره ولا حتى بكمياته، لو أتوظف صح بمقادير صح يبقى كل شيء مظبوط، والمشكلة اللي عندك كانت في المبايض مش في الرحم نفسه، وفي النهاية دا نصيبك والحمدلله ربنا جعلني سبب، ألف مبروك يا مدام “نـهال” بس مش هوصيكِ تخلي بالك بالذات في الشهور الأولى، مش عاوزين نلجأ لمثبتات، خلي كل حاجة تكون طبيعية أحسن..
حينها ولأول مرةٍ تختبر مشاعر الطير حينما يعلو ويرتفع ويحلق بجناحيه في عنان السماء العالية، لتوها شعرت أن ذاك الشيء الذي كان ينقصها يوم أن أصبح معها؛ أصبحت هي كما الشمس المُشرقة في سماءٍ عالية، وياليت العالم كان برحب السماء عند فرحة القلوب..
تركت موضعها ثم ولجت غرفة “إيـاد” النائم بعمقٍ ثم اقتربت منه ولثمت جبينه ومسحت فوق خصلاته ثم نامت بجواره تضمه لعناقها وتركت العنان لخيالها بشأن أسرةٍ كاملة هي الطرف الأُم فيها وقد ولج “أيـهم” يبحث عنها وحينما لم يجدها رجح تواجدها بجوار الصغير وهذا ما حدث بالفعل، حينها اقترب منهما يُلثم جبين ابنه ثم عاد وضمها من الخلف وهو يقول بصوتٍ رخيمٍ:
_من دلوقتي كدا واضح إنك هتكوني شاطرة وتقدري تخليهم أخوات يحبوا بعض ومفيش فرق بينهم، عاوز أقولك كمان حاجة مهمة، ربنا مبيأخرش الرزق عن عباده، بس رزقك جالك في الوقت الصح، جالك وأنا أب واعي شوية وأقدر أميز أفعالي، وجالك وأنتِ أحسن أم في الدنيا، واللي قبل كدا كان ابتلاء وصبرك عليه ورضاكِ بيه كانوا سبب في كرم ربنا ليكِ، ربنا يباركلك..
ابتسمت هي ثم تذكرت قول “آيـات” حينما هاتفتها تبارك لها وظلت تخبرها أنها حتى لحظتها تلك لم تصدق حدوث هذا الشيء لدرجة أنها خشيت تنام ليلًا فتوقظ من حلمها هذا، لكن الأخرى قالت بنبرةٍ هادئة وصادقة وحكمةٍ هي أسمى صفاتها:
_لا يؤخِّر الله أمرًا إلا لخير، ولا يحرمك أمرًا إلا لخير، ولا ينزَّل عليك بلاءًا إلا لخير، فلا تحزن.. فرب الخير لا يأتي إلا بالخير، ربنا كرمك بالخير في الوقت الصح، مش قبل ومش بعد كدا، أنتِ في المكان اللي ربنا عاوزك فيه، علشان تكوني أم لـ “إيـاد” وعلشان تكوني أم للجاي، وعلشان تكوني صاحبة أيام “أيـهم” وتهوني عليه مُر الطريق، الحمدلله وربنا يباركلك ويقومك بالسلامة ونفرح بعوضكم مع بعض..
تنهدت هي بقوةٍ ثم ضمت الصغير لها وبدأت تتخيله مع مولودها وكيف سيكون حنانه عليه وهو الأخ الكبير الذي ورث كل صفات أبيه دون أن يترك حتى صغائر الأمور فيها، عند وصول تلك النقطة لخيالها تنهدت بحالميةٍ وأصبحت في غُمرة الوله للوصول لتلك اللحظة التي تحتضن فيها كل أحلامها وإن كانت وصلت للسماء في انتظار التقاط نجومها بين راحتيها.
____________________________________
<“لم تكن الحياة رائفة بنا، وإنما نحن من كنا أقوياءً”>
لم تكن الحياة يسيرة علينا..
بل نحن ما كنا أقوى من اللازم حتى ظن الجميع فينا القوة المُفرطة ولم يخيل لهم أن ذاك القلب رُبما يكون تصدأ من كثرة الأحزان التي تُغلفه، ربما نحن نقف أمام البقية شامخين برؤوسٍ مرفوعة وفي الخلف كانت ظهورنا مطعونة، فتحن لم تكن الحياة يومًا يسيرة علينا، وإنما قوتنا كانت هي من تُصعب عليها أمر كسرنا..
انتصف النهار ومعه انتصفت الحالات بأوضاعٍ متباينة بين ذاهبين وعائدين، وقد كان هذا الذي يقف على أعتاب المحل الكبير ينتظر زوجته يشعر بالملل حقًا، لقد تجاوزت “مهرائيل” النصف ساعة بداخل السوق التجاري تنتقي منه أشياء بيتها وزوجها بالخارج على مشارف التذمر والضيق وما إن كاد أن يدخل لها وجدها تخرج وهي تحمل حقيبتين كبيرتين ثم ضحكت له بخضراوتيها اللامعتين فقال هو بسخريةٍ:
_يا خراب بيتك يا “بـيشوي”…
استمعت هي لجملته فرفعت أحد حاجبيها تسأله بعينيها عن مقصد كلماته فقال هو بنبرةٍ بان فيها تقهقره وتراجعه حينما قال بثباتٍ يتنافى مع أصل كلماته:
_أصل لو كل مرة هتضحكيلي كدا وأدفع دم قلبي كمان صدقيني معنديش مانع يا “هيري” ولا عندك شك في كدا؟.
حركت رأسها نفيًا ثم ضحكت له وناولته الحقائب يتحرك هو بها ثم قالت بتحدٍ له ورأسٍ مرفوعٍ كأنها تثبت له أنها لم تكن تلك الضعيفة التي يعرفها:
_عمومًا مفيش وقت للكلام دا، يلا علشان ورايا حاجات كتير أعملها للعزومة ولا عاوزهم يقولوا عليك متجوز ست بيت خايبة؟ لو أنتَ ترضهالي أنا مش هرضاها، خلاص “مهرائيل” القديمة راحت ودلوقتي معاك النسخة الجديدة..
رفع حاجبيه بغير تصديقٍ وهو يقف في مواجهتها ثم هتف بلهفةٍ حينما توسعت عيناه كأنه رأى كابوسًا نصب عينيه:
_يا خبر أسود حمايا هنا؟.
شهقت وهي تلتصق به بينما هو استغل هذا الموقف ثم همس بمراوغةٍ عبثية لا تنفك عن طبعه معها:
_لأ ما شاء الله التغيير باين، دا أنا ذُهِلت يا شيخة من التغيير.
دفعته بعيدًا عنه حينما أدركت سُخريته عليها وقد تواصلت النظرات مع بعضها فضحكا سويًا وسارا جنبًا إلى جنبٍ مع بعضهما يتحدثا في أمورٍ شتى وقد قابلهما “جـابر” الذي صادف طريقه طريقهما فسكتت هي عن الحديث وتلاشت بسمتها، بينما والدها قال بهدوءٍ يحاول به التحكم في غيرته وهو يراها ملكًا للآخر:
_ما تيجوا تقعدوا معانا شوية، من يوم ما ربنا كرمكم وأنا مشوفتش وش حد فيكم عندنا، كأنكم ما صدقتوا خلاص تسيبونا.
_أنتَ بتقول فيها يا حمايا، ربنا يعلم إني مصبر نفسي بالعافية، بس أنتَ مش غريب برضه، بنتك بصراحة اللي يقعد معاها يقاطع البشرية كلها، فكتر خيري أوي كدا علشان لسه محافظ على العلاقات بينا.
توسعت عينا “جـابر” واتقدت نيرانه وشظايا غيظه بدأت تنتشر وقبل أن يتحدث أمسك زوجها كفها ثم تحرك بها كأنه يثبت له أن الحق لم يكن حقه في تلك اللحظة وإنما الحال تبدل كُليًا وما عاش في انتظاره طوال أعوام عمره؛ أمسى بين أحضانه كل ليلٍ وأول ما يراه في صُبحه..
وفي نفس الحارة بمكانٍ آخرٍ وقف “مُـحي” على أعتاب الصيدلية يأخذ فطوره من شقيقه الحنون “تَـيام” الذي ولى نفسه راعيًا له طوال فترة تواجده في الحارة، وقد صدح صوت هاتف الشقيق الأكبر برقم زوجته فجاوب عليها ليجدها تقول بهدوءٍ بعد إلقاء التحية:
_قولت أكلمك أفكرك تفطر علشان متنساش زي المرة اللي فاتت، وياريت لو تيجي بدري شوية علشان حاسة إننا بقينا نتقابل صدف زي الأغراب، دا أنا بشوف الخيول هنا أكتر منك يا “تَـيام” والله.
ضحك هو بيأسٍ ثم قال بقلة حيلة:
_وهو حد ساحلني غير أخوكِ؟ بعدين متقلقيش مش هنسى أفطر ومش هشرب قهوة على الريق، ومش هفوت الصلاة في المسجد، وحاضر بعد العصر هقرأ الأذكار، ها نسيت حاجة كنتِ هتقوليها؟.
ضحكت هي الأخرى ثم قالت برقةٍ كعادتها حينما تراه متذكرًا لأصغر وأدق التفاصيل التي تهتم هي بها ويتابع هو الفعل ذاته:
_لأ خلاص أنتَ شاطر وحافظ كل حاجة، خلي بالك بس من نفسك وياريت متتضغطش نفسك في الشغل، متهربش من حاجة مضيقاك في حاجة تانية تزود عليك تعبك، على الأقل علشان أنا مفضلش قلقانة عليك كتير وبفكر أنتَ فيك إيه، دا أنتَ زعلك وحش أوي، الله يسامح اللي يزعلك..
وهُنا ضحك هو ثم أطلق تنهيدة قوية أعربت عن مشاعر متباينة بداخله ثم قال بصدقٍ يُماثل صفو بالها صباحًا:
_يا ستي ما تخليهم يزعلوني، مش أنتِ موجودة وهتراضيني؟.
ضحكت بخجلٍ ثم تنهدت هي الأخرى وجاوبته بولهٍ:
_هراضيك، هراضيك بس تعالى أنتَ ومالكش دعوة.
_يبقى خليكِ قد كلامك علشان لو جيت و “أيـهم” قفشني هتبقى في وشك أنتِ وإياكِ تديني ضهرك وتقولي ماليش دعوة، ساعتها هزعلكم كلكم يا عيلة “العطار” من كبيركم لصغيركم..
كان ذلك هو رده عليها الذي قاطعه “أيـهم” حينما حمحم بخشونةٍ من خلفه فالتفت كلًا من “مُـحي” و “تَـيام” على الصوت ليقول الثاني لزوجته بتراجعٍ عن موقفه:
_طبعًا الكلام دا برة عن حسبة حمايا و الشيخ “أيـوب” والأستاذ الخلوق “أيـهم” و ابن الأستاذ الخلوق حتى اللي جاي في السكة اللي إحنا منعرفهوش دا، أنا رقبتي فداكم يا عيلة “العطار”.
ضحكت هي بصوتٍ عالٍ حينما فهمت من تبديل مسار المُكالمة أن شقيقها قد حضر وقد أغلق “تَـيام” معها مسرعًا ثم وقف أمام شقيقها الذي تجاهله ثم وجه الحديث لأخيه يطلب منه الدواء الخاص بزوجته وما إن أخذه من يد “مُـحي” وجه كلماته لشقيقه يخبره بشرٍ:
_عندك بليل معايا سهرة في المخزن علشان فيه رخام جاي من المصنع، وريني هتروح بدري إزاي يا أبو عيون قطط أنتَ، يا أنا أنتَ يا…أستاذ يا خلوق..
سخر منه وقلد كلماته وقد ضحك “مُـحي” ثم استرضاه بقوله ضاحكًا:
_خليها عندي أنا دي يا أبو “إيـاد” الراجل ما صدق ربنا يكرمه ويرحرح شوية بدل الخنقة دي اللي كان عايش فيها، متشغيلش بالك بس وخده معاك، دا حتى قلبه طيب وبحبك أوي وعلطول حبك باين في عينيه، حتى بص عليه كدا.
نظر الآخر فلم يجد إلا نظرة شرٍ تتوعد له؛ فقال بسخريةٍ:
_لأ ماهو باين من غير حلفان.
بعد ذلك رحل الاثنان مع بعضهما يضحكان سويًا ويشاكس كلاهما الآخر وقد خرج “مُـحي” يقف على أعتاب المكان من جديد لعله يجد مُتسعًا من ضيق نفسه، وظل على هذا الوضع قُرابة النصف ساعة دون سببٍ مُحددٍ، وقف وهو يتطلع على نقطةٍ ما يتمنى منها الوصال، وقد نزلت هي من البيت وظهرت أمامه فجأةً فشعر هو أن الروح عادت تستقر في الجسد، نعم تبدلت ولم تعد كما كانت بل انطفأت ملامحها وذبل وجهها وبُهتت نظراتها، لكنها هي كما يعرفها قلبه..
دام اللقاء بين عينيهما وتلك المرة عاند نفسه وابتسم لها بصدقٍ لعلها تبتسم هي الأخرى لكنها أخفت عينيها عنه ووقفت في الانتظار حتى أتى “مُـهند” لها برفقة أمه التي ضمتها لعناقها وظلت تُقبل وجنتيها ثم شبكت ذراعها في مرفقها وهي تضحك بسعادةٍ وتقدمت في المسير بها وخلفهما سار “مُـهند” صاحب الوجه المُقتضب، بينما “مُـحي” فكان حاقدًا بحقٍ عليه، فهو معه شيئان لم يملك هو أيًا منهما، الأول هو دعم الأم، والثاني هو تواجده مع الفتاة التي يُحبها هو..
وأكثر ما تم به وصفه في لحظته بعد فراق كل الأحباب وكأن قلبه هو من يتحدث بدلًا عنه ويخبره بما فيه:
_أنا هنا ولوحدي
والدنيا مش واخدة صفي،
الكل في صف واحد وأنا
بشاور وأودع الحبايب بكفي..
فاكرين يا حبايب كنا في يوم
واحد، بس شكلها الدنيا كدا
للحبايب ما تكفي،
فخلوا الحبايب للحبايب
وخلوني أنا لوحدي في صفي..
____________________________________
<“ولأنها الحياة التي نُحب نسعى إليها بكل ما نُحب”>
كل المسعى الذي نسعى إليه يكون بكل ما نُحب..
لأجل الحصول على ما نُحب، ولأننا نفعل ما بوسعنا ونضغط على أنفسنا، قد نفعل كل شيءٍ يخطر ببالنا أو لم يخطر حتى، وفي نهاية الأمر نحن مسؤلون عن السعي؛ أما النتائج فهي لا تخصنا نحن كخلائق وإنما نحن لنا النتائج التي فعلنا لأجلها كل شيءٍ..
“بـعد مرور الأسبوع الثالث”..
كانت “عـهد” تجلس في غرفتها بشقة أمها وقد تذكرت اللقاء الأخير بينها وبين طبيبتها النفسية التي اجتمعت بها منذ يومين في عيادتها لتكملة جلسات العلاج وقد حدثتها الأخرى بعمليةٍ طاغية وهي تخبرها:
_شوفي يا “عـهد” لحد هنا وأي علاج بالكلام مش هيكون ليه أي أثر، لازم العلاج يكون عملي وفعلي منك قبل مني، يعني الذكريات الوحشة اللي كانت عندك ومتخزنة في عقلك وبتهاجمك من وقت للتاني ووقفت حياتك وجوازك مش هتفيدك بحاجة غير إن حياتك عمالة تقف بزيادة بس، وعلشان نطرد القديم لازم نجيب الجديد ياخد مكانه، بمعنى إن خوفك هيفضل موجود طول ما أنتِ مدياه أكبر من حجمه، لازم تدي الواقع مكانه وتخلي كفته تكسب على كفة الماضي، تسمحيلي أفهمك أفضل بطريقة عملي؟.
سألتها بنفس ذات الطريقة فوافقت الأخرى وأومأت لها موافقةً وعيناها تتابعها بصمتٍ وفي تلك اللحظة أمسكت “فُـلة” كفها ثم غرزت به أظافرها فتألمت “عـهد” لكنها لم تتحدث أو توضح ذلك وقد ضغطت “فُـلة” فوق هذا الجرح بقوةٍ حتى صرخت “عـهد” وسحبت كفها تدلكه وهي تُطالعها بغرابةٍ فيما كتمت “فُـلة” بسمتها ثم سألتها بترقبٍ:
_ايدك وجعتك صح؟.
أومأت لها “عـهد” ثم نظرت لموضع الجرح بغرابةٍ وفي تلك اللحظة مدت “فُـلة” كفها كي تمسك يد “عـهد” لكن الأخرى سحبت كفها بعيدًا كأنها تخشى من تكرار التجربة، لكن “فُـلة” فعلتها رغمًا عنها ثم سحبت كفها وبدلًا من الضغط على جرحها مسحته برفقٍ وهي تصنع هالات دائرية حوله جعلت “عـهد” تستكين من تلك اللمسات فابتسمت لها “فُـلة” ثم تنهدت بقوةٍ وهي تقول:
_دا الفرق بالظبط، بين “يوسف” وبين غيره، الأول كان عندك الجرح اللي حد سببهولك وبقى بيضغط على الجرح دا لحد ما بطلتي تثقي في أي حد يقرب منك، علشان عقلك مخزن الطريقة اللي كنتي بتتعاملي بيها، بس لما جيت سحبت إيدك تاني ومسحت عليها بهدوء أنتِ استغربتي، وهو دا أثر “يـوسف” عليكِ يا “عـهد” وهو إنه مش جاي يدوس على الجروح، بس جاي يطيب بخاطرك ويمسح الوجع منك، وعلشان تنسي الجروح اللي “سعـد” سببهالك لازم تدي فرصة لـ “يـوسف” يمحي الجروح دي، بالظبط زي ما أنا لمست جروحك كدا علشان أطبطب عليها، فهمتيني؟.
أدركت “عـهد” المقصد من الحديث واستشعرته بكل دقةٍ ثم أومأت موافقةً، بينما الأخرى فكانت تنصح نفسها قبل “عـهد” وكانت تثبت لنفسها المعلومة قبل أن تفر منها، كل شيءٍ كان باهتًا في عينيها منذ أن عاد الماضي وهجم عليها كوحشٍ ضارٍ، ولم تجد أمام وحشها هذا إلا زوجها الذي أصبح بمقام جيشٍ لها..
خرجت “عـهد” من شرودها على صورته المفتوحة في هاتفها وقد غلبها الشوق إليه فكتبت له بأنامل سريعة الحركة:
_وحشتني، مش ناوي ترجع بقى؟.
لحظها كان الهاتف في يده وقد فتحه على رسالتها، وبدلًا من الجواب كتابةً غاب عنها لمدة دقيقتين ثم عاد لها يرسل مقطعًا من أغنيةٍ أراد أن يشاركها هذا المقطع منها كجوابٍ عليها:
_وهانت بكرة أنا راجع..
وآه دلوقتي لو سامع، بحبك نفسي أقولهالك
وأنا أيدي في إيديك، حبيبي بقولك أتطمن
كلامك ليا بيهون، سنين عدت هعيدهالك
وأنا قدام عينيك..
استمعت هي لهذا المقطع وتأهبت حواسها فوق الفراش فاعتدلت في جلستها وقبل أن تسأله وجدته يرسل لها رسالة صوتية بنبرةٍ أعربت عن الراحة التامة في صوته:
_بكرة هجيلك، كنت ناوي أعملها مفاجأة بس مهونتيش عليا بصراحة، بكرة بليل هتلاقيني عندك وقدام عينيكِ، ويا رب تكوني حاسة باللي أنا حاسس بيه ناحيتك، يمكن الكلام يظلمك بس أنا أنا متأكد إن مفيش غيرك في الدنيا دي تتحمل واحد زيي، زي ما برضه محدش غيرك قدر يديني الحاجة اللي محدش في كل الدنيا دي عرف يديهالي، جايلك وبكرة مش بعيد..
أنهى رسالته وأغلق الهاتف كي يقوم بتجهيز حقيبته ونفسه ويرحل من هنا لذويه وأحبابه، كان يود أن يسرع عن حركة الهواء ويصل لهم كما الرياح خُفافًا، وياليته بطيرٍ يُحلق لهم ويصل أسرع مما ظن وتخيل..
في منطقة نزلة السمان..
كان “نَـعيم” جالسًا برفقة “دهـب” التي بدأت تبتسم بسمة طفيفة لكل مارٍ يمازحها ويُداعبها، وقد شارف الوقت على منتصف الليل وقد أتى “إسماعيل” له يطلبها منه بتذمرٍ كأنه فتى صغير شعر بالضجر من كثرة نوم أخيه الصغير:
_ما تجيبها بقى، بقالك كتير ماسكها.
طالعه “نَـعيم” باستنكارٍ ثم عاد للفتاة بتركيزه وقال بسخريةٍ:
_عمك شكله نفسه يتأدب وأنا عيني ليه.
جلس “إسماعيل” وهو يغمغم بما لا يُفهم من الكلام وقد تجاهله الآخر وأخذ يداعب الصغيرة المُدللة التي أتى لها “تَـيام” وجلس بجوار والده يداعبها ويغني لها وهي تبتسم أو هكذا بدا وجهها الصغير، وقد أتى “مُـحي” الذي كون صداقة قوية معها وخرج من حزنه بسببها وجلس على ركبتيه يغني لها ثم أتى “مُـنذر” وباعد بين الجميع وبينها ولثم وجنتها وأشتم رائحتها التي يعشقها ثم ضم كفها الصغير..
تلك المدللة الصغيرة التي تجلس في حضرتهم جميعهم يعملون لأجل راحتها، أصغر أفراد العائلة وأكثرهم نقاءً، وقد وقفت “سمارة” بعيدًا عن هذا المجلس تشعر بالغيظ منهم جميعًا وتود حقًا لو تصرخ فيهم، وقد أتى “إيـهاب” ووقف بجوارها فوجدها تقول بهمسٍ حانقٍ:
_شوفت؟ قولتلك قولهم نايمة، البت كدا مش هتنام غير بعد الفجر، ومش بس كدا، دي لو دخلت الشقة هتفضل تعيط لحد ما ننزلها تاني، ما تتصرف بقى خلينا ننام في الليلة دي.
وزع هو نظراته بينه وبين ابنته التي تجلس في وسطهم، وقد اقترب منهم يُحمحم بخشونةٍ ثم قال بثباتٍ:
_منورين يا رجالة، معلش بس البت اللي بتلعبوا بيها دي، لو مش هضايقكم يعني ممكن تجيبوها علشان أتخمد شوية؟ ما أنا مش مخلف رقاصة علشان من أول شهر في حياتها تبات وسط الرجالة دي كلها، هاتوا البت.
حرك “نَـعيم” رأسه نحوه وسأله بجمودٍ مفتعلٍ:
_هي تخصك في حاجة لا سمح الله؟.
التفت “إيـهاب” لزوجته فوجدها توميء له موافقةً كي يرد بنفي الرد عليه، لكنه عاد برأسه ثم قال بثباتٍ بعدما طالع ابنته التي أشتاق لها طوال اليوم:
_لأ متغلاش عليك، تتعوض مرة تانية إن شاء الله.
أنهى حديثه ثم أولاهم ظهره وسحب زوجته من يدها وهي تود أن تركض نحو ابنتها لكنه أحكم حصاره على رسغها ثم ذهب بها لشقته وما إن دخلت وكادت أن تتحدث، قال هو بقوةٍ لا تُرد:
_خليهم طالما مبسوطين، وهي معاهم ساكتة مش بتعيط، بلاش تقلقي نفسك وتقولي هتتعود علشان حتى لو اتعودت عليهم هما مش أغراب عنها، دا جدها والباقيين أعمامها، وهي حظها حلو علشان هتطلع تلاقيهم في ضهرها…
قاطعته قبل أن يكمل بقولها الذي كان ببكاءٍ درامي بحت:
_ماهي بتوحشني، أنا مبلحقش أشوفها، بقت بتعيط هنا وعاوزاهم علطول، عاوزة تفضل برة الشقة، مش عاوزاها تكبر وهي بعيدة عن حضني كدا، أنا اللي بحتاج أحضنها مش العكس، هي اللي بتقويني مش أنا اللي بقويها، البت مش عرفانا.
ضحك زوجها ثم لثم جبينها ينهي النقاش وجلس فوق الأريكة بينما هي جلست بجواره ثم وضعت رأسها فوق صدره وضمت نفسها له بذراعيها الحنونيين بينما هو مسح فوق رأسها وذراعها حتى بدأت تنام هي رغمًا عنها، بينما هو جلس في الانتظار لحين عودة ابنته على يد أحد الشباب.
بعد مرور ما يقرب الساعتين…
صدح صوت جرس باب الشقة فتحرك “إيـهاب” وترك زوجته النائمة فوق الأريكة وفتح الباب فوجد “إسماعيل” يحملها وهي نائمة ثم قال بهمسٍ خوفًا من أن يوقظها:
_نامت بعدما غيرتلها وخليت “تـحية” عملت ليها كوباية ينسون علشان المغص لما تنام، المهم دفيها كويس علشان لبسها شكله خفيف ومحدش يصحيها تاني بقى.
ابتسم والدها رغمًا عنه ثم حملها من ذراع عمها الذي لثم جبينها من جديد ثم مسح فوق خصلاتها قبل أن يودعها وكأنه هذا الموقف هو الأسوأ في يومه بعد مشاجراته مع زوجته التي لا تنتهي وهز يتلذذ بإثارة حلقها وغضبها، رحل وعاد لغرفته ثم أخرج هاتفه يكتب لنصفه الآخر بصدقٍ وولهٍ:
_وحشتيني يا مطرقعة..
_وأنتَ كمان يا حوكشة والله.
هكذا جاوبته وردت عليه بعد انقطاعٍ عن الحديث منذ باكورة الصباح بسبب أتفه الأشياء وهو يستأنس بأي فعلٍ بصدر منها يواسي ليل أيامه الوحيدة وهو ساهرٌ بها، بعدما كان يقضي الليل وحده..
“فـي اليـوم التـالي بـعد منتصف الليل”..
توقفت سيارة الأجرة أسفل بناية مسكنه، لم يزعج أحدًا حتى “أيـوب” أراد أن يفاجئه بعودته في صبيحة اليوم الموالي بداخل المسجد وقت صلاة الجمعة بالمسجد، صعد للأعلى بلهفةٍ وهو يعلم أنها في انتظاره لا شك في ذلك، هي حقًا تنتظره وهذا ما أخبرته به منذ سويعات حينما أكدت له أنها لن تنام إلا حينما يعود هو…
فتح الباب وولج الشقة يبحث عنها بعينيه فوجد المكان مُظلمًا وقد ناداها قبل أن يوقظها ويُقلق نومها، فوجدها تخرج له بأجمل طلة رآها في حياته، ارتدت فستانًا لم يكن مبالغًا في تصميمه بل كان متواضعًا يصل لما بعد رُكبتيها، كانت أرضيته مزركشة بزهورٍ متوسطة ورقيقة فوق القماشة السوداء، وقد فردت خصلاتها وقامت بتزويد عينيها بسحرٍ أسودٍ كحلت به جفونها، وهو أسير الطلة منها…
أقترب منها بخطى متمهلة حتى وقف أمامها يطالعها بعينيه وهو يتفحصها وقد ابتسم وقال بثباتٍ دون أن يُبدي تأثره بتلك الهيئة التي فعلت به كل الأفاعيل:
_أنتِ قد اللي بتعمليه دا يا عسولة؟.
حركت رأسها موافقةً بضحكةٍ مكتومة ثم ألقت نفسها في عناقه وطوقت عنقه بذراعيها بينما هو فحملها في هذا العناق ثم أطلق تنهيدة قوية وهو يستشعر بها بين ذراعيه، ابتعد عنها يشبع شوقه لها طوال الشهر الفائت ثم قال بصدقٍ وهي أمام عينيه:
_أنتِ وحشتيني أوي، ومتخيلتش إني هاجي أشوفك حلوة أوي كدا، البعد حلاكِ يا “عـهد” أو يمكن أنتِ بتحلوي كل يوم أكتر.
ضحكت له بخجلٍ ثم أرجعت خصلاتها للخلف بينما هو سألها بوقاحةٍ وقد تعجب هو مما تفعل هي:
_قوليلي بس آخرة الليلة دي إيه؟ هروح أوضة الأطفال آخد المخدات في حضني ولا فيه أمل يعني؟.
هنا ازداد الخجل لديها أكثر حينما فهمت مقصده وقد تذكرت حديث طبيبتها النفسية فسحبت نفسًا عميقًا تهديء به من توترها ثم اقتربت تمسك كفه وهي تقول بحبٍ له هو وتحدٍ لنفسها:
_الأمل موجود طول ما أنتَ معايا في الدنيا دي، أنا عاوزاك تنسيني كل حاجة وحشة حصلت قبلك وتساعدني أبدأ من جديد علشاننا إحنا الاتنين، عاوزة أكون أم لعيالك ونفرح بحياتنا أنا وأنتَ، علشان نخلص من اللي فات لازم ندي بعض فرصة للي جاي، إيه رأيك؟.
لم يصدق هو نفسه أنها اجتازت الأمر أخيرًا وأن حياته التي رغب فيها على مشارف التحقيق، وقف يطالعها مبتسمًا بعينيه ثم ضمها له وضحك وهو يقول بمزاحٍ كي يخفي عنها خجلها منه:
_كان لازم أتغرب يعني علشان تحسي بيا؟ يا شيخة دا أنا قولت لأمي متحطش أمل في موضوع الأحفاد دا علشان شكلي ميبقاش زفت، وحشتيني يا عسولة.
_وأنتَ كمان وحشتني أوي وأتربيت من غيرك.
قالتها وهي تستند فوق صدره برأسها بينما هو حملها فوق ذراعيه ثم دار بها وقبل أن تنطق هي وجدته يقول بمزاحٍ:
_الليلة دي فيها ورق عنب ولا بتضحكي عليا بالشويتين دول؟.
ضحكت هي بنبرةٍ عالية ثم طالعت وجهه الذي اشتاقته في غيابه ثم وضعت رأسها فوق صدره، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يهنأ فيها الغريبان، هما غريبان أرادت لهما الدنيا أن يتلاقيا سويًا، كلًا منهما يختلف عن الأخر وكأنهما مقطوعة موسيقية مختلفة الأوتار جمعهما لحنٌ واحدٌ ليظهر الجمال في وجودهما معًا، حزنها وبؤسها أمام غربته وضعفه ليقف كل منهما للأخر حاميًا له ويعلنها هو صراحةً بقوله:
أنا هُنا….حتمًا أنا هُنا، إن زاد حملكِ ومال كَتفكِ أنا هُنا، وإذا زار الخوف أحلامك لا داعٍ للقلق فطمأنينتكِ بجواري هُنا، وإذا فُرضت عليَّ الحروب بأكملها لا مانع أخوضها لأجل عينيكِ و أعود لكِ من جديد لأخبركِ؛ أنني فقط لأجلك هنا..
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)