رواية غوثهم الفصل السابع والثمانون 87 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الفصل السابع والثمانون
رواية غوثهم البارت السابع والثمانون
رواية غوثهم الحلقة السابعة والثمانون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثاني_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
ربي فقدت اليد كُل الحِيْل ولم تعد
تملك في المناجاة إلا الدُعاء..
ربي إني بُليتُ بمرض الهوىٰ
ولم في أجد إلا في مخالفته الشفاء..
ربي إني تغربت عن نفسي وسِرتُ
في طريقٍ كله بلاء وعودت وكلي رجاء
فعليلٌ أنا بِـ حُب الدُنيا وحُبها في
النفس داء والقرب منك هو الدواء..
_”غَـــوث”
__________________________________
اليوم وأنا أتحدث معكِ…
وأكتب ذلك الخطاب أعترتني رحلة الذهاب إلى شيءٍ لم يكن هو بالمجهول وما يؤلمني أنه كان معلومًا، عُدت حيث كنتُ في مفترق الطرق أسير تارة خلف التيه وتارة أخرى خلف الألم، كل الطرقات رغم أنها تعرفني إلا أنها لم ترحمني وكأن الرحمة فقط في الحُلم…
وحتى لا أكون جاحد القلب ناقمًا على النعم..
كل ذلك ناسيته حينما رأيتكِ، ومنذ هذا الحين علمتُ أنكِ من وسط قسوة القبيلة كنتِ الرحمة، ومن بين ظلم الأهل كنتِ الإنصاف، واليوم يكتب هذا الذي لا تعرفه سوى المدائن البعيدة والأرجاء الوحيدة…
أن المظلوم تم إنصافهِ بوجودك،
وأنتصر في حربهِ فقط بمجرد سماع صوتك.
<“من أنا؟ ربما أكون غيري أنا أو أنا لستُ أنا”>
_يعني لو الحج “نَـعيم” طلع أبوك ممكن تفرح؟.
سؤالٌ ألقاه “بيشوي” بترقبٍ سكن كل جوارحهِ على رفيقه فيما ابتسم له “تَـيام” وقلب شفتيه للأسفل يفكر هُنيهة عابرة ثم جاوبه بنبرةٍ متأرجحة لم تملك الثبات على موقفها:
_مش للدرجة دي يعني، بس مش عارف، أنا آه بحبه، بيفكرني بأبويا، بحسه حنين أوي وبالذات لما أتعاملت معاه، بس كل واحد بياخد نصيبه وأنا نصيبي كان “صبري” الله يرحمه.
أغمض “بيشوي” عينيهِ يحاول التماسك أكثر لكنه فتحهما من جديد يهتف بنبرةٍ مختنقة إثر الغصة المريرة بحلقهِ:
_الحج “نَـعيم” هو أبوك يا “تَـيام” و “مُـحي” أخوك الصغير، أخوك شقيقك من الأب والأم، وليك عيلة تانية غير دي وأصل تاني أنتَ ضعت عنه.
حسنًا أفضل الحلول في الإيجاز هي الطرق على الحديد وهو ساخنٌ لعل ذلك يلعب دورًا هامًا في المشاعر وهي تعتبر المحرك الأساسي، وبالرغم من حجم المخاطرة إلا أنه كما قيل في سابق عصرنا “شرٌ لا بُد منه” وقد ابتسم “تَـيام” بغلبٍ على أمرهِ وحرك رأسه نفيًا يُعبر بذلك عن يأسهِ ثم هتف بنبرةٍ ساخرة تهكمية:
_دا واضح إن “جـابر” عمل معاك الصح لدرجة خليتك تخرف يا “بيشوي” مين دا اللي أبويا؟ أومال لو مش متربيين مع بعض بقى؟ دا أنا كنتـ….
كاد أن يُكمل حديثه بنفس الأسلوب الساخر لكن الأخر ردع هذه التكملة حينما هتف بصوتٍ غلفه الإصرار والإتكاء على كلماته بقولهِ:
_أبوك بجد يا “تَـيام” أنتَ ابنه اللي المفروض إنه ضاع وأتخطف منه وهو صغير، وصدقني كل حاجة بتقول إنك أنتَ ابنه بجد، أنا المفروض مقولش ليك بس كدا أحسن علشان تتقبل الوضع وتعرف كل حاجة، “نَـعيم الحُصري” أبوك.
ألقى الحديث دُفعةً واحدة وكأنه يخرج همًا ثقيلًا من فوق صدرهِ ولم يعلم أنه بذلك يُلقي بذلك الهم فوق رأس الأخر، ولم يعلم أنه بذلك يتسبب في وجع روحه، وقد ظهرت الحيرة على “تَـيام” تلقائيًا، حيرة اختلطت بنظرة ضياع فأضاف الأخر من جديد مُكملًا حديثه بألمٍ:
_أنا عمري ما كدبت عليك يا “تَـيام” وعمري ما قدرت أخبي عنك حاجة وأنتَ عارف كدا، بس أنا مش قادر أكتر من كدا وخايف تتوجع مني، بس أنا يدوبك عرفت النهاردة إنك ابنـ….
قبل أن يُكمل حديثه تحرك “تَـيام” بسرعةٍ كُبرىٰ مثل تحرك كتلة الهواء التي تضرب الفراغ مسببةً على أثره ضجة كبيرة، وكذلك كان تحركه حينما أوقف حديث رفيقه وترك المكان راحلًا من المحيط بأكملهِ إلى الأسفل حيث شقة أمه، هو يعلم صديقه تمامًا ويعلم أنه لم يكذب عليه وحتى إذا كذب يظهر الأمر في عينيهِ، لكن…
لكن الآن يبدو الأمر حقيقيًا ولم يكن كاذبًا، يبدو صادقًا وهو يخبره بذلك الخبر القاتل، حينها وقف أمام باب الشقة وطرق الباب بعنفٍ وقد جاوره “بيشوي” لاهثًا بأنفاسٍ متقطعة بينما الأخر صرخ بملء صوته لمن بداخل الشقة:
_أفتحي !! أفتحي يا ماما.
في الداخل أيقنت ما حدث، فاقتربت من الباب تخفي دموعها وفتحت الباب له وهي تحاول الثبات أمامه، في هذه اللحظة بدت كأنها خائنة ولم تجرؤ على رفع عينيها في عينيهِ، حتى وقف هو في وجهها مباشرةً شبه مُلاصقٍ لها وهو يسألها بإندفاعٍ أعرب عن ضياعه وصدمته:
_إيه اللي “بيشوي” بيقوله دا !! أنا مش ابنك أنتِ؟ ها !! أنا ابن “نَـعيم” إزاي؟ يعني إيه اللي بيتقال دا؟ إزاي أنا مش ابنك.. مـــا تُـــردي عــليـا !!!.
رفع صوته صارخًا في وجهها يتمنى أن تُكذب الأخر وتنفي هذا القول وتثبت أنه ابنها هي، تمناها أن تصرخ في وجه الجميع وتأخذه في عناقها وترحمه من قسوة كلماتٍ قاسية سلبت منه هويته، تمنى أن تضحك هي ثم يضحك الأخر ويخبراه أنها مجرد مزحة ليس أكثر من ذلك، تمنى وتمنى وتمنى لكنها جاوبته بعبراتٍ نزلت من مُقلتيها لتبخر كل آماله وتثبت كل ما قيل في حقهِ وأضافت بنبرةٍ باكية:
_أنتَ ممكن تشك أني مش أمـك؟ طب عمرك حسيت إنك مش مني أو غريب عني؟ أنا أمك ودي حاجة مش هتتغير، أنتَ ابني وراضع مني ومتربي في حضني، إزاي هتنكر إني أمك، أنتَ ابني.
هتفتها بلوعةٍ وحرقة قلبٍ بات يتألم من فراقٍ كُتِبَ على طريقهما، تعلم أن كذبها ربما يُزيد من سوء الأمور وربما يتسبب في ضياع كل شيءٍ، وقد أقترب منها هو بعدما أثلجت روحه الملتهبة بهذه الكلمات ووقف أمامها يسألها بنبرةٍ مُنكسرة وكأنه أضحىٰ يتيمًا في هذه اللحظة وهو يسألها:
_طب أنا فعلًا ابن “نَـعيم”؟ يعني أنا مش ابنك أنتِ و “صبري”؟ “بيشوي” مش بيكدب عليا وباين عليه إنه مش بيكدب، أنا مش ابنك اللي أنتِ حملتي فيه صح؟…
سؤال قاتم خرج من نبرة صوتٍ حقًا يُثير الشفقة نحو صاحبه، نبرة ضائعة مُغلفة بلمحة إنسكارٍ شق روحه وهو يُقرر ما يستفسر عنه ليصله الجواب منها على هيئة عبرات أخذت تزداد في الظهور بعدما طفقت تعلن عن الحقيقة من خلال هذا الظهور، وقد نكست هي رأسها هربًا من التقاء الأعين ببعضها، وحينها نزلت دموعه هو الأخر من هول الصدمة، لم يظن أن الليلة تنقلب بهذه الطريقة، لكنها حقًا ليلة تُخلد في الذهن برفقة ذكرى لم تمر مرور الكرام.
حينها وقف “بيشوي” خلفه ينتظر منه رد فعله القادم، فوجده يجلس على الأريكة بجسدٍ رخوٍ وكأن رباط الشد فيه تفكك لتصبح كل أجزاءه مرتخية خارج إطار السيطرة، وحينها أخذ يُردد بذهولٍ وهو يبكي دون التحكم في نفسه:
_طب أنا مين؟ وإزاي أنتِ وهو مش أهلي؟ إزاي وأنا عمري كله مقضيه معاكم هنا؟ طب أنتِ إزاي بتحبيني؟ ولا دي كمان كدب منك؟ طب…طب جيت إزاي هنا؟ خدتوني إزاي؟ أنا مين؟ أنا مين يا “بيشوي”؟ أنا مين؟.
آخذ يُرددها باكيًا بضياعٍ جعل “بيشوي” يغلق جفونه خافيًا عبراته بهذه الحركة التلقائية فالوقت لم يكن وقت البكاء، الوقت هو وقت القوة ولحظة الثبات حتى يقف في محازاة رفيقه، لذا تحرك حتى أصبح بقربه وحينها جلس على رُكبتيه مُقابلًا له وهو يقول بنبرةٍ مُحشرجة نتيجة البكاء المكتوم:
_أنتَ “تَـيام” صاحبي ودي حاجة مفروغ منها، وكونك مش ابن الست “نجلاء” و “صبري” ومن صلبهم دي حاجة هتغير مكانك عند حد فينا، اللي حصل كله تقريبًا في صالحك أنتَ، صدقني محدش هنا قلبه أتغير من ناحيتك، ياض أنتَ أخويا، دا الناس كلها بيتريقوا ويقولوا القط والفار، أنتَ لسه متعرفش حاجة ولسـ….
بتر حديثه حينما صرخ “تَـيام” يقاطعه بقولهِ موجوعًا وكأن ردود أفعاله تخرج عن سيطرتهِ:
_لسه إيه؟ ها !! لسه إيه يا “بيشوي”؟ أنا مين أنا؟ كل حاجة كدب وتقولي لسه؟ أهلي مش أهلي وأنا مش ابنهم ولا من دمهم حتى؟ مجرد عيل لقوه وبيربوه؟ طب مين جابني هنا؟ وإزاي أنا ابنه؟ هـا؟ طب، طب أقول لـ “آيـات” إيـه؟ دا أنا لسه بقول الدنيا بتراضيني أهو؟ آخد بعدها ضربة زي دي فوق دماغي؟.
أقنربت “نجلاء” بلهفةٍ وهي تمسك كفه بين كفيها وتهتف باكيةً برجاءٍ أن يكف عن هذه الحالة الموجعة لهم قبله هو نفسه:
_أنتَ ابني، والله ابني من اليوم اللي شيلتك فيه وسكت في حضني أنتَ ابني، والحمدلله إني رضعتك وخدتك في حضني ومليت علينا الدنيا بعدما كان مستحيل أشيل عيل تاني على أيدي، جيت أنتَ نعمة من ربنا ليا، نعمة رحمت قلبي من وجعه، عمرك حسيت معايا إني مش أمك؟ عمرك حسيت إن حضني مش مكانك، بلاش، عمرك حسيت إن “صبري” مش أبوك؟ إحنا كنا محتاجينك أكتر ما أنتَ محتاجنا.
نبرتها وبكاؤها جعلا قلبه ينتفض لأجلها، رق هذا الذي كاد أن يجحد فضلها عليه، تحرك هذا الجامد الذي تصلد من هول الصدمة، وحينها هو الذي نكس رأسهِ مستشفًا فضلها عليه وهتف بنبرةٍ منكسرة:
_ماهو دا اللي واجعني، إن كل الحب اللي شوفته هنا مش من حقي، اللي واجعني إن كل المشاعر دي وكل اللي عيشته معاكم هنا عمره ما كان كدب أو ييجي في بالي إنه مش حقيقي، عن إذنك.
ترك موضعه وترك رفيقه ثم دلف غرفته يخفي نفسه بداخلها بجسدٍ رخوٍ، وكتفان تهدلا وكأن الهموم أثقلت الحِمل عليهما، عينان تحجر الدمع بهما فلا هو يظهر ويريحه ولا هو يختفي ويقويه، حالة غريبة أعترته جعلته يشعر بالغربة وكأن كل الأماكن لم تكن له، لم يعد يجد الألفة وكأن كل الأوطان أضحت في عينيه غُربة، وما إن وصل لغرفتهِ وولجها، أغلق الباب خلفه وأرتمى جالسًا على الأرضية بوضع القرفصاء والحديث يتردد في أذنه بصدى ودَّ أن يتوقف لو للحظاتٍ قبل أن يتم الفتك به.
أما “نَجلاء” فبكت أمام الأخر الذي أعتدل واقفًا وهو يقول بنبرةٍ جاهد لإخراجها بهذه القوة خافيًا خلفها ضعفه لأجل رفيقه:
_متقلقيش، هو هيقعد مع نفسه شوية وبعدها هيخرج وكله هيتصلح، بس بعد إذنك سيبيه لوحده شوية من غير ما تحاولي تكوني معاه، هو لسه عنده أسئلة كتيرة خافيها عن الكل فخليه لوحده شوية علشان نقدر نفهمه الوضع.
ألقى حديثه وعلم أنه ربما لم تسمعه من الأساس بسبب البكاء وبسبب حالة الحزن التي سيطرت عليها وقد لاحظ هو تبدل ملامحها وعبراتها وكيف تبدل تورد وجهها إلى الذبول وكأنها وردة توقف راعيها عن السقاية حتى ذَبلت وذهب عنها رونقها وقد خرج “بيشوي” من المكان هاربًا بنفسه قبل أن يضعف هو الأخر.
__________________________________
<“ألم تكن أنتَ الغوث؟ نحن في أشد الحاجة إليك”>
_إحتمال كبير “تَـيام” جوز أختك يطلع ابن الحج “نَـعيم” اللي ضاع منه، وابن أخوه لقاه هنا بعدما قطع مشوار طويل قطع أنفاسه، فأنتَ هتقدر تساعد يا “أيـوب”؟.
ألقى”عبدالقادر” هذا الحديث على ابنه الذي كان مُنصتًا له بكامل حدسه وحواسه وما إن استمع لهذا الحديث حينها تدلى فكاه بذهولٍ وبرَّقَ بعينيهِ فوجد والده يزفر بقوةٍ ثم هتف بنبرةٍ متعبة أنهكها الحزن وبلغت الحيرة مبلغها فيها:
_عارف إنك مصدوم، بس دا اللي الحج “نَـعيم” قاله ليا النهادرة، وبيني وبينك أنا مصدقه، شوفهم كدا شبه بعض إزاي؟ حتى لو مش بدرجة كبيرة بس باين إنهم شبه بعض، تحسهم صورة واحدة كدا، معرفش إيه حصل و “بيشوي” كلمني وقالي إنه عرف حاجات كتير، بس أنا عاوزك تكون مع “تَـيام” وتخلي بالك منه، أكيد صدمة كبيرة عليه.
حاول “أيـوب” استعادة وعيه ونفسه وسرعان ما فعل ذلك وقرر أن يناقش والده ويتحدث معه لكن صوت هاتفه أوقفه مما جعله يتحرك بعدما استأذن والده فوجد “بيشوي” هو من يطلب رقمه وحينها فتح الهاتف يجاوب مُسرعًا ليجد الآخر متحدثًا بنبرةٍ أنذرته بما حدث:
_”تَـيام” عرف يا “أيـوب” أنا مقدرتش أخبي عليه وعرفته اللي حصل شوفته وهو ضايع وتايه، معرفش إزاي قولت وإزاي عملت كدا بس مقدرتش أكون بخبي عليه، لو أعرف إني هشوفه كدا كنت قطعت لساني قبل ما يخونني وينطق بحاجة توجعه كدا؟ أعمل إيه يا “أيـوب”؟.
سأله بنبرةٍ متعبة ومثقلة بالهموم كأنه يتلمس منه الدعم بينما “أيـوب” تدراك الموقف سريعًا فهتف بنبرةٍ متعجلة أعربت عن لهفته وهو يقول:
_أنسب حل إن الحج “نَـعيم” يعرف إن ابنه عرف، اسمع مني لو خدت رقم “مُـنذر” كلمه وعرفه علشان يحضر ويكون مع ابن عمه وإذا كان على التحاليل لما تطلع بكرة هيتأكد من كل حاجة، بس دلوقتي “تَـيام” لازم يعرف ويكون مع أبـوه، لازم ميتسابش لنفسه ولأسئلته يا “بيشوي”.
راقبه “عبدالقادر” أثناء التحدث وعلم أنه أجاد اختيار الغوث كما ظن، وأدرك أيضًا أنه نجح في إخبار “أيـوب” والقادم عليه أن يُخبر ابنته، وفي هذه اللحظة حمد ربه أنها زوجته ويحق لها أن تكون بجوارهِ وعلم أن الخالق حينما يشاء ويرحم قبلها يمنع ويحرم، ليكون العطاء مذهلًا لقلبٍ ظن أنه حُرِمَ وفي حقيقة الأمر هو رُحِمَ.
أما عن “أيـوب” فأغلق الهاتف مع رفيقه ثم التفت يواجه والده وهو يقول بإصرارٍ جليٍ نبع عن عزيمةٍ قوية:
_لازم أبوه يكون معاه، كفاية حرقة قلبه العمر دا كله، و”مُـنذر” لازم يكون معاه ويعرفه هو كمان، كدا أحسن للكل على الأقل ميفضلش مع صدمته لوحده، وأنا بستأذنك إني هكون معاهم الفترة دي ومش عاوزك تقلق عليا.
ابتسم له “عبدالقادر” وأومأ موافقًا له فالتفت “أيـوب” يسحب سترته الشتوية الرياضية ويرتديها فوق السترة القطنية لكنه توقف لوهلةٍ وكأنه تلقى ضربة فوق رأسه جعلته يضيق جفونه بشكٍ ثم التفت مُجددًا لوالده وهو يسأله بتعجبٍ:
_بابا !! أنتَ هتعمل إيه مع “تَـيام” بخصوص “آيات”؟.
انتبه له “عبدالقادر” وخرج من شرودهِ اللحظي ليستقر بعينيهِ على وجه ابنه الذي سأله بقلقٍ من رد فعلهِ:
_أوعى يا بابا تكون هتوقف الموضوع ولا…
رد حينها الأخر بنبرةٍ جامدة نتجت عن نفاذ صبره بسبب الحديث بشأن هذا الموضوع قائلًا:
_يا جماعة هو أنا قليل الأصل؟ الوحيدة اللي ليها حق تختار هي أختك يا “أيـوب” أنا مش بجبر حد على حاجة، وبعدين الواد مفيهوش حاجة علشان يترفض، إذا كنت وافقت عليه وهو ابن “صبري” اللي محدش في مصر كلها يعرفه، هرفضه دلوقتي؟ روح ياض شوف حالك أنا دماغي مش فيا، وأعمل حسابك إنك تعرف أختك.
ابتسم له “أيـوب” ثم أقترب منه يسحب كفه ثم لثمه بحبٍ خالصٍ وهتف بنبرةٍ هادئة:
_ربنا يباركلنا فيك، ويكرمك ويفرحك بأحفادك قريب.
ضحك “عبدالقادر” ثم ضمه بأحد ذراعيه وقد ضحك الأخر معه حينما فهم والده مغزى دعوته لكن الأخر سأله بنبرةٍ هادئة بعدما توقفت ضحكاته وقد فاجئه بمحوى سؤالهِ:
_ألا قولي صحيح، أنتَ و “يـوسف” اتصالحتوا؟ مع إن واضح كدا على وشك إنك اتصالحت وفرحت أوي واتراضيت بزيادة يا ابن “العطار” صح؟.
كتم “أيـوب” ضحكته وهو يتذكر موقف زوجته حينما أحتضنها أمامهم وكيف صمت “يـوسف” دون أن يتدخل بينهما وكأنه بذلك يسترضيه عما بدر منه في حقه، وأثناء تذكره الموقف لاح أمامه طيفها بتلك العباءة السوداء بنقوشها الحمراء وكيف أضافت حرية خصلاتها مظهرًا جديدًا كأنها بلدة فلسطين عند التحرر من أيدي المغتصب، بدت أمامه بفرحتها تشبه فرحة كل النساء عند خروج رجالهن منتصرين من الحرب، بدت وكأنها كمفتاحٍ لبيتٍ فلسطيني يمسكه صاحب الدار عند عودته ظافرًا وهو يولج بيته بإذن المولىٰ…
غرق في التفكير وهو يجمع بين الفكرتين على صوت والده وهو يُناديه مُكررًا النداء عدة مرات جعلته ينتبه له ثم هتف بنبرةٍ هادئة يهرب من لحظة الشرود هذه بقولهِ:
_عن إذنك هروح أتوضا علشان أصلي القيام قبل ما أخرج.
هتف جملته ثم رحل من الغرفة نحو الخارج وقد لحقه “عبدالقادر” وأثناء خروجه مر على غرفة “آيـات” ورأى من خلف الأعتاب الضوء الخافت في غرفتها فعلم أنها مستيقظة لأداء صلاة القيام وحينها فضل أن يترك هذه المُهمة لابنه وقد عدل عن التحدث هو بهذا الشأن.
بينما في داخل الغرفة فكعادتها كانت تصلي القيام وفي كل سجدة يتحرك لسانها تلقائيًا وهو يدعو الله لكل من حولها دون أن تبخل عليهم، وصاحب النصيب دومًا قبلها هو خليل الروح وسكن القلب “تَـيام” كانت تدعو الله له أن يوفقه لطريقه ويرزقه الهداية ويمن عليه بنور البصيرة ويجعله زوجًا صالحًا لها ويجعلها زوجةً صالحةً له، لكن هذه المرة ظلت تطلب من المولىٰ أن يكتب له سعادة الدارين.
__________________________________
<“كيف حالك أيها البطل؟ لقد عهدتك قويًا منذ البداية”>
_”مرحبًا بِكَ أيها القوي…
أعلم أنكَ رُبما تظنها عبارة ساخرة هزلية مني لكنها حقيقة لم أقوْ أنا على إخفائها أمامك وهي أنك قويٌ بما يُسبب الدهشة، فإذا كنتُ أنا المذهلة خاصتك، فأنتَ إذًا رَجُلي المُبهر، وطفلي الرائع، والرفيق الجيد، والخِليل الوفي، أعلم أنك ربما تتعجب لكن هذه هي الحقيقة، فالأمر تخطى مرحلة الكتمان بين طيات قلبٍ صغيرٍ مثل قلبي، وأصبح حقيقة ملموسة أمام عيني الأعمى فاقد البصر لكنه لم يفقد البصيرة…
فأنا هنا عالقة بين أمرين وكلاهما أشد حيرةٍ من الأخر، فأنا منذ أن عهدتك رأيتك قويًا ومحاربًا لم تخشى مضارب أي عدوٍ، واليوم رأيتك طفلًا خاضعًا يسمع الحديث ويسعى لتنفيذه، اليوم رأيت توسلك لي أن أبقى معك بدون رحيل، رأيتك وكأنك طفلٌ أتى ليحتمي بي، وأنا لن أبخل عليك ما دُمت أنتَ معي، وياليتك حقًا معي، فأنتَ دائم التحرك بين ماضٍ يقتل المرء وبين حاضرٍ يُحييه، والآن سأترك دفتري وأعود لكَ من جديد عن قريب”
خطت “عـهد” هذا الخطاب في دفترها ثم أدلت بالتوقيع الخاص باسمها وأسفله وضعت اسمه هو ثم وضعت الدفتر بداخل الدرج الخاص بها، حينها أخرجت زفيرًا قويًا ثم تحركت نحو الحقيبة التي أهداها لها وأخرجت العباءة السوداء منها، وهنا أعترفت برقي ذوقه، فلقد انتقى العباءة المفضلة لها تشبه تلك التي ارتدتها “فيروز” في إحدى أغنياتها، كانت عباءة سوداء نُقشَت عليها الرسومات الطرازية الفلسطينية تحديدًا رسمة أشجار الزيتون، وقد تورد وجهها حماسًا ثم فكرت بحماس آنسة شارفت على الزواج أن تكون هذه هي عباءة الاستقبال من العروس للجميع.
تورد وجهها مُجددًا بخجلٍ من مجرد التفكير في هذه الحياة معه ووصولها ليوم الزفاف برفقته وهي ترتدي فستانها الأبيض كأي عروسٍ غيرها ولكن فرحة العمر وهي تصل لهذا اليوم في ذراعهِ هو، وحينها يبدو أنه سمع تفكيرها به فوجدت هاتفها يصدح بصوت الاشعارات وحينها خطفت الهاتف سريعًا وقامت بتزيل الاشعارات المُمتلئة لتجد أحدهم من تطبيق “تويتر” وقد أضافه هو وحينها فتحت التطبيق من خلال الضغط على الاشعار لتجده أضاف صورة مرسومة بواسطته لعينيها السوداوتين وكتب أسفلها جملة أقتبسها من خطابه الورقي:
_”كُل أضواءِ المَدينة كانت ولازالت
باهتة لم تلمع مِثل بَريق عينيكِ”
حينها هذه القوية أصبحت كفتاةٍ مُراهقة يُغدقها حبيبها السري بحديثٍ معسولٍ في الخِفاء، لكن أي خفاءٍ هذا؟ لقد نشرها أمام الكثيرين الذين وصل عددهم للآلاف عنده في هذا التطبيق، لكنها أيضًا لم تنكر سعادتها بفعلهِ، فيبدو أن يُصرح بحبه لها أمام الجميع وحقًا مثلها يحق لها الدلال كيفما تشاء..
قامت هي بمشاركة الصورة وأضافت فوقها عبارة بدت في قمة البراءة لكنها لم تكن كذلك فهي قصدتها عمدًا أن تخبره بها صراحةً:
_كل الأضواء في مدينتك تبقى خافتة لحين
تظهر أنتَ؛ وحينها تلمع مثل نجوم السماء.
قامت بنشر هذه التغريدة فوق الصورة الخاصة بعينيها وحينها رآها هو فوضع الرمز التعبيري لها ثم هاتفها مباشرةً لتضحك هي فورًا أثناء جوابها على الهاتف فوجدته يقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا سهران مش عارف أنام، ممكن تيجي نشرب كوبايتين شاي بالنعناع فوق السطح مع بعض؟ وبالمرة نطل طلة على أضواء المدينة، هـا؟.
كان الجواب منها هو الموافقة، وحينها خطفت الشال الصوفي تضعه فوق كتفيها وقبلها ضبطت حجاب رأسها بسبب البرودة القاسية في هذه اللحظة، وقد صعدت للأعلى بعدما نظرت للساعة ورأت التوقيت بها شارف على الثالثة صباحًا، لكن لا يهم هي معه وهذا ما يكفي، وحينها سبقها هو للأعلى وتوجه نحو زاوية صنع المشروبات وما إن وصلت هي وبحثت بعينيها عنه وصلها صوته من مكانه بتلك الجملة التي في كل مرة لم تفشل في إنقاذها:
_أنا هنا يا “عـهد”.
حسنًا ها هو ينقذها بصوتهِ وقد وصلت هي إليهِ مبتسمة الوجه ورأته يصنع الشاي لهما سويًا، هذه المرة هو حقًا يختلف عن بقية المرات السابقة، هو هاديء ومبتسم، ملامحه بدت صافية بدون خوفٍ، عيناه بدت وكأنها تبتسم هي الأخرى في محاكاةٍ لحركة شفتيهِ، قام هو بصنع الشاي لهما سويًا ثم مد يده لها بالكوب الخاص بها ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
_ألف شكر إنك جيتي، بصراحة كنت خايف ترفضي؟.
حركت رأسها نفيًا وهي تبتسم له ثم أخذت الكوب منه ووقفت بجواره وهي تقول بنبرةٍ أقرب للضحك لتعبر عن فرحتها بهذه المشاركة البسيطة:
_بصراحة يعني مقدرتش أرفض، بس إيه اللي مصحيك لدلوقتي كدا؟ فيه حاجة مسهراك؟ بتفكر في حاجة؟.
نظر أمامه يهرب من سلطة عينيها على أسرهِ وجاوبها موجزًا بنبرةٍ هادئة:
_بفكر في واحدة عيونها حلوين.
كتمت بسمتها هربًا منه بينما هو رمز بعينيه وألتقط حركة قطة بيضاء تبحث عن مأوى آمنًا هُنا فترك الكوب ثم أقترب منها بحركاتٍ واسعة جعلت “عـهد” تعقد مابين حاجبيها تلقائيًا ثم تركت كوبها هي الأخرى وجاورته حينما جلس أمام القطة وحملها بكفيهِ وهو يبتسم مثل الطفل الصغير وقد سألته هي بنبرةٍ ضاحكة:
_بتحب القطط؟ هو أنتَ و “وعـد”؟.
حرك رأسه نحوها يسألها باهتمامٍ جليٍ في عينيهِ:
_هي “وعـد” بتحب القطط؟.
حركت رأسها موافقةً وهتفت بنبرةٍ هادئة:
_آه بتحبها أوي، فاكر لما جيت أطلب منكم لبن؟ كانت حطاه كله للقطط على السلم، والجبنة والتونة، أنا بصرف على القطط أكتر من “وعـد” بس مستغربة إنك بتحبهم.
لاح في ذهنهِ ذكرىٰ بعيدة مؤلمة بقدر ما كانت نابعة عن مراوغته حتى أنه وجد نفسه يتنهد بعمقٍ ثم هتف بنبرةٍ جافة من أي مرحٍ أو مزاحٍ:
_أنا بسبب القطط كلت كتير أوي، كنت بدخل آكل بليل لما يخبوا الأكل ويقفلوا عليه و كنت بقول إن القطط هي اللي عملت كدا، وهما علشان “نادر” كان مربي القطط دي كانوا بيسكتوا، وساعات كانوا بيحطولي الأكل لوحدي فكنت بخرج آكل مع القطط، علشان كدا بحبهم حتى هما بقوا يقولولي إن زي القط بسبع أرواح.
ابتسمت هي له بشفقةٍ وحينها أخذت القطة من يديهِ ثم قربتها من طبق الطعام المتروك فوق السطح ثم عادت تجلس على رُكبتيها مقابلةً له وهي تطلب منه بوجهٍ مبتسمٍ:
_طب غمض عيونك كدا؟.
استمع هو لما تود وأمتثل لمطلبها تاركًا نفسه لسلطتها عليه فوجدها مدت كفها على استحياءٍ في باديء الأمر حتى استقرت على موضع نبضهِ وحينما شعر هو بلمستها فتح عينيه بتعجبٍ ليجدها تبتسم له ثم مسحت على قلبهِ وهي تقول بنبرةٍ هادئة له:
_بابا علطول كان بيعمل كدا لما أقوله إني زعلانة، كان بيمد أيده يطبطب عليا ويمسح على قلبي كدا، صحيح هي مجرد لمسة من برة بس معناها كبير أوي أتمنى يكون وصلك.
ابتسم بعينيهِ لها ثم بدل حاله في غضون ثوانٍ وهو يقول بنبرةٍ هادئة لم يخفى عنها طبعه المراوغ:
_طب ممكن بقى تغنيلي؟ أنا مش ناسي؟ عارف إني تعبتك وبقيت زي حمل عليكِ بس أنا برتاح كدا وبحس إن كل اللي فاتني راجعلي من تاني معاكِ..
تنهدت مطولًا ثم ابتسمت وأعتدلت في جلستها وأعتدل هو الأخر بينما فكرت هي لوهلةٍ ثم أغمضت عينيها وفاجئته حينما رفعت صوتها تُغني له بما لم يتوقعه هو منها حين غنت بنفس ذكراه القديمة معها:
_حبيبي جيت أنا..
ليه في الدنيا ديا إلا علشان أحبك..
يا حبيبي..
جيت أنا ليه في الدنيا إلا علشان أحبك..
علشان يدوب عمري، من جرح غدرك بدري..
شمعة ورا شمعة وتعيش أنتَ لفرحك…
يا حبيبي فداك أنا وسنيني اللي جاية..
فداك قلبي اللي حبك…
حبيبي فداك أنا وسنيني اللي
جاية.. فداك قلبي اللي حبك..
أمشي… فوق همي ودمعي وغني..
ولا تنزلش دمعة ليلة فوق خدك.. ليلة فوق خدك.
توقفت عند هذه الجُملة لتجده يطالعها بعينين ترقرق بهما الدمع فابتسمت هي ثم هتفت بنبرةٍ هادئة:
_أنا معاك هنا، وأنتَ معايا هنا، عاوز إيه تاني؟.
حينها صمت عن الحديث وعانقها بين ذراعيه وزفر مُطولًا يخرج الهم الثقيل من فوق صدرهِ هاتفًا بنبرةٍ متألمة أتعبها الفقد وجرحها الخُذلان:
_عاوزك أنتِ، مش عاوز أفوق في يوم ألاقيكي مش معايا أو تجبرني الدنيا إننا نفترق غصب، خايف يكون الوجع نهاية القصة دي وخايف أكره اللحظة اللي جمعتني بيكِ هنا، أنا طول ما أنا لوحدي بخاف من نفسي حتى، مبقيتش عارف أتطمن غير في وجودك، لو عاوز حاجة بجد يبقى إني أنسى كل حاجة وأعيش في السلام اللي الناس بتقول عليه دا.
كادت أن ترد وتجاوبه لكن صوت هاتفه أوقفها بينما هو أبتعد عنها مرغمًا على ذلك ليجد الهاتف مُضيئًا برقم رفيقه الجديد وما إن جاوبه هتف الأخر بلهفةٍ بعد إلقاء التحية:
_أنا عاوزك دلوقتي، تعالى معايا.
أغلق الهاتف بينما الأخر أعتذر منها ثم أخبرها بضرورة رحيله رغم تعجبه من الطريقة وقد نزلت معه وأدخلها الشقة ثم ترجل من البناية ليجد “أيـوب” أمامه وحينها طالعه بنظرةٍ ناقمة لكونه أفسد عليه لحظة صفائه فيما أشار له الأخر كي يسير معه نحو شقة “مُـنذر”.
__________________________________
<“أناجيك بقلب “أيـوب” ولستُ ببالغ صبره”>
في منطقة نزلة السمان..
كان يجلس “نَـعيم” شارد الذهنِ بمفردهِ وسط المكان الذي بنىٰ على مقربةٍ من موضع الخيول، جلس يتذكر لقاءه الصباحي مع ابنه وكيف راقب وحفظ أدق تفاصيله في ذاكرته المصونة، لقد حفظ عن ظهر قلبٍ كل تفاصيل ملامحه، لون الأعين الرُمادية ولون الخصلات السوداء اللامعة، خمن بالتقريب طوله، ومقاس ثيابه، لاحظ حبه للقمصان على عكس والده مُحب الحُلة الرسمية، لاحظ أيضًا ندبة صغيرة أعلى جبينه لم تظهر إلا لمن يُدقق النظر وحجمها بدا صغيرًا لم يتخطى سنتيمترات قليلة..
أما عن اسمه فهو يتغنى بوجدانهِ منذ أن وصله الخبر وهو أصبح كنغمة مفضلة يُلقيها عليه سمعهُ لتصبح هذه الحروف هي الأحب لقلبه منذ هذا الحين، وهُنا تذكر إخبار “مُـحي” بهذه الحقيقة وأراد أن يخبره مهما بلغ أثر النتيجة؛ لذا تحرك نحو البيت ومنه مباشرةً يتوجه إلى غرفة صغيره ةقد طرق الباب وولج وكعادة الأخر كان ساهرًا يتحدث في الهاتف مع فتاةٍ تكرم وحفظ اسمها رغمًا عنه..
أغلق الهاتف ورحب بوالدهِ الذي ابتسم رغمًا عنه وكأن فرحته لم تتعكر بهذا الفعل الوضيع، أو ربما الخبر الذي يكتمه داخل قلبه لم يود هو أن يبدله بمحاضرة تأديبية لهذا المتحذلق، وحينما جلس معه بداخل غرفته هتف بنبرةٍ هادئة:
_أنا جاي أقولك حاجة مهمة، دلوقتي إحنا بقالنا فترة حلوين مع بعض، أنا مراقبك وشايف إنك بتحاول وكتر خيرك والله، ياكش بس هي البنات دي اللي بتكلمهم وإن شاء الله هتبطل، مسيرك تبطل، بس دا مش موضوعنا، قولي يا “مُـحي” أنتَ تفرح لو لقينا أخوك الكبير؟.
الحديث منذ بدايته غريبًا عليه، الطريقة نفسها لم تنطوي عليه كون أن والده يتحدث بهذا الرفق دون أن يسخر منه أو يعنفه؟ ثم لما فتح موضوع شقيقه؟ الأمور تبدو أكبر من قدرة استيعابه لذا هتف يستفسر من والده بقولهِ الذي للأسف قام بشق الجروح مُجددًا:
_هو أكيد أنا مش هزعل يعني، بس هو أنتَ عرفت حاجة؟ والمرة دي بجد ولا زي كل مرة في الأخر تطلع اشتغالة وكلام على الفاضي؟ صدقني أنا فقدت الأمل خلاص، ممكن يكون مش في دماغي بس علشان أنا معرفهوش ومشوفتوش، وواثق إنك لو كنت خلفت من بعده فهي لحظة ضعف منك أو غلطة معملتش حسابها، فصدقني أنا أصلًا مش عارفه علشان أعرف مشاعري ناحيته.
حسنًا هذا الصغير يدلي بالحقيقة دون خفاءٍ أو كذبٍ حتى، هو فقط يخبر والده بالحقيقة التي يعلمها كلاهما جيدًا، بينما الأخر فشعر بالذنب نحوه، أيظن هذا الأبله أنه لم يحبه؟ أيظن أنه يكرهه؟ لذا نزلت عبرات “نَـعيم” وهو يسأله بوجعٍ:
_أنتَ فاكرني مش بحبك؟ فاكرني ممكن أكون بكرهك يا “مُـحي”؟ دا أنتَ آخر حاجة بقيالي من ريحة الحبايب، أنتَ آخر حاجة “نـدى” سابتهالي قبل ما تمشي، أنا لو بكرهك بجد زماني قفلت بابي في وشك بعد سنتين قضيتهم سرمحة في الكباريهات مع الرقاصين والصيع، بس أنا لما أنتَ رجعلتي فتحت ليك حضني، أنتَ اللي علطول رافضني، علطول محسسني إني بعيد عنك، رغم إني بحبك وبحتاجلك أوي، بحتاج حضنك يطمني يا “مُـحي” بحتاجك علطول بس أنتَ بعيد عني وأنا مش عارف أفرض نفسي عليك.
بكى “مُـحي” هو الأخر وأحتضن والده في لحظة ضعفٍ من كليهما جعلت “نَـعيم” يطوقه بكلا ذراعيه في حين استشعر الآخر خطأه في حق والده، هو الذي تركه وهو الذي هرب منه وهو الذي حكم على نفسه بالتغرب بعيدًا عن كنفهِ فيما ظل الأخر يمسح على ظهره متمنيًا تواجد الأخر مع شقيقه بهذا القرب وحينها سيشعر أن الدنيا بنعيمها أصبحت له.
رفع “مُـحي” رأسه يطالع والده بأسفٍ وحينها ابتسم له الأخر ومسح عينيه من الدموع العالقة في الأهداب وباغته بسؤالٍ يُعد هو البداية لأمرٍ رُبما يكون أملًا أو ربما ينقلب ألمًا:
_قـولي بصحيح أنتَ ليك علاقة بـ “تَـيام”؟.
عقد مابين حاجبيه فتحدث هو بنبرةٍ متوترة طغى عليها الاهتزاز في وتيرتها وهو يحاول تبرير مقصده:
_أنا بس علشان وعدته إنه ييجي هنا بما إنه قال إني كبيره قولت لو فاضي بكرة كلمه ييجي يقعد معانا شوية ويشوف المكان، مع إني عارفك مناخيرك في السما مش بالسهل تتعامل مع حد، ومش أي حد تصاحبه.
ابتسم له “مُـحي” حينما لمح مقصد والده لكنه تحدث بنبرةٍ هادئة يخبره بحقيقةٍ يعلمها الجميع عداه هو:
_بس مش كله والله، فيه ناس بحب أتعامل معاها عادي وفيه ناس باخد عليها، بس مش كل الناس زي بعض عندي، بس لو على “تَـيام” دا حبيبي كدا كدا وبيكلمني علطول من ساعة كتب كتابه وكل ما يشوف صورة ليا يفضل يضحك معايا ويقولي أصوره زيها، حاضر هكلمه.
ابتسم “نَـعيم” لكونه حصل على هذه البداية وهتف بنبرةٍ متباينة المشاعر مابين ترقبٍ وخوفٍ أو حماسٍ لهفة، مشاعر عديدة جعلته يفكر كيف لقلبٍ بحجم قبضة اليد أن يفعل كل ذلك بصاحبهِ:
_طب “تَـيام” هو أخوك يا “مُـحي”.
ألقاها بصراحةٍ كعادته دون أن يقوم بتزيين الكلمات أو تزيين الحقائق، هو فقط ألقى ما بجبتعهِ أمام صغيره الذي ألجمه الحديث كضرب سوطٍ لكنها لم تكن مؤلمة، ضربة بدت كأنها تمسح على قلبهِ؟ حينها انتفض قلبه بنبضة عنيفة كأنه يذكره بلحظته الأولى مع “تَـيام”، يبدو وكأن قلبه عاتبه على جهلهِ بهذا الأمر، حينها وفقط ترك مكانه ثم بتيهٍ أمام والده الذي وقف هو الأخر بصدمة من رد فعلهِ وكأنه يترقب رد فعله وحينها هتف “مُـحي” بنبرةٍ ضاحكة خالطلها دمعٌ صادقٌ:
_”تَـيام” !! أنا حسيت إني أعرفه والله، حسيت علشان عمري ما فتحت قلبي لحد ولا قبلت حد يكلمني، بس قولت يمكن أنا بحبه علشان فيه شبه مني…شبهي !! بحبه علشان شبهي، “تَـيام” شبهي وحبني من غير حاجة؟!.
نزلت دموعه من جديد وهو في حالة ذهولٍ شديدة، وتباينت تعابيره مابين الضحكات وبين العبرات، صدمة أكبر من تقبل أثرها، حينها ابتهج وجه “نَـعيم” وهو يسأله بلهفةٍ:
_أنتَ فرحان؟ يعني لو هو بجد والتحاليل قالت إنه أخوك، أنتَ مش زعلان؟ أنا عارف إنك ممكن تخاف بس والله مفيش حاجة ممكن تتغير، أنا ساعتها هضلل عليكم مع بعض، مش هخلي حاجة تفرق واحد فيكم عن قلبي.
ابتسم “مُـحي” له وهتف بنبرةٍ باكية رغمًا عنه:
_الأول كنت متأكد إني هكرهه وهخاف منه ومن ظهوره دلوقتي أنا عاوزه، عاوزه بجد ويكون هو مش حد غيره، لو ماكنتش أعرفه كنت هقولك دا عيل نصاب وبيشتغلك وعاوز يطلع بقرشين بس أنا مش قلبي مش مطاوعني أقول كدا عليه، معقول أكون قابلته علشان أحبه قبل ما ييجي؟.
حينها ضمه “نَـعيم” وضحك بسعادةٍ هو الأخر وردد خلفه ضاحكًا بسعادةٍ كاد أن ينساها وينسى الشعور بها:
_هييجي، هييجي قريب وأخدكم في حضني مع بعض.
أمنية تمناها بقلبهِ وألقاها بلسانهِ على صغيرهِ وهو يتوسل منال هذه الأُمنية بكامل جوارحهِ ولم يتوقع أن تكون هذه اللحظة قريبة منه، القلب أضحى يُناجي بأملٍ نبع عن اليقين، والعقل بات يفكر وقد غلبه الحنين، القلب الذي أنتظر بصبر “أيـوب” وتحمل معضلة “يعقوب” آن له أن يفرح أخيرًا وتسعد بفرحه القلوب.
__________________________________
<“لقد علم الحقيقة بقلبهِ، فلا تخف عليه”>
إذا كنتُ تظن نفسك رابحًا على الوقت،
أعلم حينها أنك مجرد غبي لم يدرك أن الوقت فقط يتجهز لمفاجأتهِ، وهذا تحديدًا ما يتم بـه وصف “مُـنذر” الذي فقد التحكم في الأمر ما إن أخبره “أيـوب” بمعرفة الأخر هذه الحقيقة الصادمة، وحينها لم يتجمد “مُـنذر” فقط بل تجمد “يـوسف” هو الأخر وهو يستمع لهذا الخبر في هذه اللحظة، وحينها سأل بذهولٍ نبع عن صدمته الحقيقية:
_بتقول مين يا “أيـوب”؟ إزاي؟ ومين قالكم؟.
تولى “مُـنذر” مهمة الجواب عليه وأعترف هو بما فعل ووصل إليه بقولهِ:
_أنا اللي عرفت، تعبت وقطعت طريق سفر طويل أوي لحد ما وصلت للحظة دي، بس متخيلتش إنه يعرف بدري كدا، طب والعمل إيه دلوقتي؟ أروح أقوله إيه؟ وأقول لأبوه إيه؟ التحليل لسه هيطلع بكرة، وأنا مش عارف رد فعل أمـه إيه، أنا كنت مرتب حسبة تانية غير دي خالص.
تدخل “أيـوب” يهتف بنبرةٍ هادئة رسم عليها الثبات:
_وإحنا حساباتنا كلها ملهاش أي لازمة قدام إرادة ربنا يا “مُـنذر” أكيد الوقت دا أفضل من أي وقت تاني، أكيد دلوقتي أحسن من بعدين، أنا بقول الحج يعرف إن ابنه عرف وإذا كانت كل حاجة وصلتك في النهاية لهنا فأكيد مش بعد كل دا يبقى المشوار على الفاضي، أنتَ جيت من برة وعيشت هنا وعرفت حقيقتك وعرفت أصلك ومعاه عرفت مكان اللي ليك، ودلوقتي وصلت لابن عمك وعيلتك فصدقني ربنا سبحانه وتعالى مُدبر كل شيء بحساب، الأحسن تكلم عمك علشان بظهور الصبح كل حاجة تتعرف وياخده في حضنه، دا أفضل حل إن “تَـيام” يتقبل الصدمة ويخرج من حالته، صحيح كلنا مش فاهمين ولا الحقيقة كلها ظاهرة قدامنا بس إن شاء الله كل حاجة تبان ويجتمعوا من تاني، اسأل “يـوسف” وهو يقولك اللحظة دي بتكون عاملة إزاي؟.
ابتسم “يـوسف” بحنينٍ وهو يتذكر لحظة إجتماعه بأمـه وشقيقته وعائلته وكيف وجد روحه هنا، كيف عاد من جديد للحياة بعد لحظة موته، وفي هذه اللحظة تذكر موقف “تَـيام” حينما أخبره عن حديثه مع “مُـحي” وحينها علم أن القلوب تلاقت من قبل العقول، نعم هي القلوب تعرف بعضها جيدًا من بين الحشود، وحينها هتف بنبرةٍ هادئة بعدما ارتسمت البسمة على وجههِ:
_أنا دلوقتي أكتر واحد مصدق اللي حصل، اللي يخليني ألاقي أمي وأختي بعد العمر دا كله، وأجي من بين كل المحافظات والبلاد اللي سافرتها الاقيهم هنا وألاقي معاهم البنت اللي حبيتها ميخلينش مستغرب إن فعلًا العيل اللي ضاع من أبوه موجود هنا، “مُـحي” مبيصاحبش أي حد ومبيقبلش أي حد وعلطول شايف نفسه على الكُل، فلما يقبل “تَـيام” ووجوده أكيد حس بيه، وحس إنه منه، وأنا أقول الواد دخل بعشمه أوي على الحج، أتاريه منه.
زفر “مُـنذر” ثم نظر في ساعة هاتفه وهتف بقلة حيلة لكونه لم يستطع إخبار عمه بهذا الخبر الذي يجهل هو رد فعله:
_أنا مش هقدر أعرف عمي دلوقتي، على الأقل لما أمسك التحاليل في أيدي بكرة الصبح ومضمنش برضه رد فعله إيه، خليها بكرة أفضل على الأقل “تَـيام” ياخد وقته شوية، مع أني لو عليا أعرفه وييجي يحضن ابنه، بس معلش بكرة أحسن ولا إيه؟.
أيده الإثنان معًا في نفس اللحظة وقد أنتبه “أيـوب” للوقت وأقتراب موعد صلاة الفجر فأخبرهما سويًا وحينما لاحظ تهرب “مُـنذر” من الذهاب معه هتف بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم له:
_إيـه؟ مش عاوز تيجي تشكر ربنا؟ دا أنتَ حتى أخيرًا عرفت الطريق اللي هتوصل منه إيـه، أشكره بقى.
طالعه “مُـنذر” بحيرةٍ وهتف بنبرةٍ أعربت عن تردده:
_هو أنا كدا موصلتش؟.
حرك الأخر رأسه نفيًا وأضاف مُعلقًا بجملةٍ أقتبسها:
_ «فِي رحلةِ العُمرِ وَالأيَّامُ مُسرِعَةٌ
لا تنسَ من أنتَ أو مَا وجهَةُ السَّفرِ»
أنهى البيت ثم أضاف موضحًا بتفسيرٍ بسيطٍ:
_من أنتَ يعني “مسلم” ووجهة السفر يعني “الجنة” فأنتَ لسه في الدنيا يعني موصلتش لأي حاجة، الوصول بجد في دار القرار اللي ربنا وعد بيها عباده الصالحين، يلا تعالى.
حرك رأسه موافقًا ثم دلف بدل ثيابه وخرج لهما ثم خرج معهم من الشقة وفي هذه اللحظة ظهر “وجـدي” أمامهم يرمقهم بسخطٍ وهتف ساخرًا:
_خير؟ البيت سمعته بقت زفت ورجالة داخلة ورجالة خارجة، أحترموا حُرمة البيت شوية دي مبقيتش عيشة دي، جرى إيه يا أستاذ “أيـوب”؟ أنا اللي هقولك يا شيخ الجامع؟.
تجاهله “أيـوب” عن قصدٍ فيما تولى “يوسف” المهمة الأحب على قلبه وهي الجلد بسوط لسانه لكل من تسول له نفسه التطاول لفظيًا وحينها هتف بمنتهى الوقاحة:
_اللي بيته من الازاز يحترم نفسه بدل ما أجيب الطوب وأكسره على دماغه، كنت احترمت أنتَ حرمة البيت لما بنت أخوك جت هنا متكتفة من واحد حشاش؟ ولا كنت راعيت حرمة البيت لما الناس كانت بتجيب في سيرتها؟ أنا بقول تسكت بدل ما أوريك حرمة البيت حقها بييجي إزاي، ورَيَّح شوية على جنب.
أنهى حديثه ورماه بنظرةٍ لم تكن مُهددة أو حتى متوعدة بل هي قاتلة، النظرة وحدها قتلت الأخر محله وهو يقف صامتًا وكأن الحديث ألجمه حقًا، بينما “أيـوب” رحل بهما نحو المسجد مع بعضهم وكما عُرِفَ أن بداية الغيث قطرة، فأيضًا بداية الغيث نقطة.
__________________________________
<“صباح الخير، وحرية الطير”>
في اليوم التالي صباحًا…
الأحوال تبدلت منذ الأمس، الوجوه ذاتها أختلفت تعابيرها، اليوم ترى الفرح مرسومًا والترقب السعيد موجودًا، وكأن الخبر اليقين عاد لأهل البيت، وقد لاحظت هذه المرحة انبساط ملامح “نَـعيم” و شرود “مُـحي” مبتسمًا وقد وزعت “سمارة” نظراتها بينهما وهتفت تستفسر بنبرةٍ ضاحكة:
_هو إيه اللي حصل؟ وشكم مورد كدا؟؟.
ضحك “نَـعيم” وهو يطالع وجهها ثم هتف أمام الجميع بنبرةٍ ضاحكة وهو يقطع أمامهم وعدًا سيقوم بتنفيذه:
_حاجة حلوة أوي حصلت، تتم على خير في أقرب وقت وساعتها قدامهم كلهم هجيبلك البتاعة اللي بتزني عليها دي علشان تحمري فيها البانيه والحاجة اللي عاوزاها.
تدخل “إيـهاب” يهتف بسخريةٍ وهو يطالعها:
_وهو أنا عويل مش معايا؟ بس هي حلاوة روح منها مش أكتر، وأراهنك إنها لو جابتها مش هتعجبها، متتعبش نفسك وترمي فلوسك في الأرض، أنا هجيبلها اللي هي عاوزاه.
رمقته هي بحاجبٍ مرفوعٍ فيما تدخل “سراج” يسألهم بحيرةٍ:
_طب ما تفرحونا معاكم بدل النكد اللي لابسنا دا؟ خير يا حج؟ لقيت عروسة خلاص تناسبك وتربي “مُـحي”؟.
ضحك الجميع على استفساره الساخر فرد عليه “نَـعيم” بنبرةٍ ضاحكة وهو يمزح معهم:
_لقيتها، بس مرضيتش تربيك أنتَ كمان، قالتلي كبر وبقى شحط قد الحيطة ولسانه طول زرع البرسيم.
ضحك “سـراج” قبل الجميع الذين أرتفع صوت ضحكاتهم على السخريات بينما “مُـحي” فغرق في عالمٍ آخر غيرهم، غرق في معرفته هوية شقيقه الغائب وفي كيفية معرفته بالأمر، غرق في هذه اللحظة بعيدًا عن البقية وقد تراكمت المشاعر فوق بعضها ولم يجد السبيل للخلاص منها، والآن يتتوق لنظرةٍ من هذا الذي ظنه غريبًا ثم تفاجيء به الجزء الأكبر من أصل نمطٍ كان واحدًا.
في هذه اللحظة دلف “مُـنذر” وفي يده ورقة الحقيقة المعروفة من الأساس لكنها أمرٌ لابُد من تواجده، وحينها أقترب منه “نَـعيم” حينما رآه في عقر داره وسأله بعينيه وقد ابتسم في هذه اللحظة “مُـنذر” وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_هو ابنك، “تَـيام صبري الشامي” هو نفسه “تَـيام نعيم الحُصري” دي أول حاجة، تاني حاجة ابنك عرف إمبارح إنك أبوه، دلوقتي دورك إنك تروحله بنفسك تاخده في حضنك علشان أكيد هتلاقيه مستنيك أو على الأقل مستني يفهم.
هذه هي الحقائق التي يُمكن للمرء أن يدفع عمره في مقابلها دون أن يعتبره فانيًا، حقيقة رغم تصديق القلب لها وتيقنه منها إلا أنها كانت تحتاج لدليلٍ يتوق صدقها، وحينها هلل الفؤاد فرحًا ينافي ثبات الملامح ووقار الجسد، وبنفس القلب هلل الجزء الأصغر منه “مُـحي” الذي فور استماعه للحقيقة وجد نفسه يبتسم تلقائيًا وحرك رأسه نحو “إيـهاب” الذي ابتسم له وهتف بنبرةٍ هادئة:
_هو من الأول فيه شبه منك، روح شوف أخوك يلا.
تعجب “إسـماعيل” وكذلك “سـراج” أيضًا ومعهما “سمارة” التي سألت الأول بنبرةٍ خافتة:
_بقولك إيه يا أخويا؟ أنتَ فاهم حاجة؟.
سألته وهي تنظر في محيط الآخرين بينما هو حرك عينيه يتفحص الوضع ثم جاوبها بحيرةٍ بلغت مبلغها عليه:
_أقسملك بالله ما أعرف، حتى جوزك مقاليش.
لوت فمها بسخريةٍ وكادت أن تخبره أن هذه هي عادته أن يخفي عليهم كل شيءٍ لكن هرولة “نَـعيم” نحو الخارج جعلت الأنظار تستقر عليه ثم لاحقه من بعدها “مُـحي” و “إيـهاب” و “مُـنذر” وقد وقف كلًا من “إسماعيل” و “سراج” بجانب بعضهما بذهولٍ غريبٍ بينما “سمارة” هتفت باستفسارٍ لهما وكأنها اعتادت على الحيرة في هذا البيت:
_بقولكم إيه؟ تفطروا بطاطس محمرة؟ ولا نعمل شاي وبسكوت لحد ما يرجعوا ونفطر كلنا مع بعض؟ وأهو نكون فهمنا حاجة؟.
جاوبها “إسـماعيل” موجزًا بسخريةٍ:
_هاتي شاي وبسكوت، عقبال ما نجيبلك مُـغات.
ابتسمت له بفرحةٍ حينما قصد ذاك المشروب الخاص بمولد الصغار الجُدد وحينها تأملت هي في ذاك اليوم قريبًا، لقد أضحت تُفكر في حمل طفلٍ صغيرٍ من بطلها المفضل وقد تحركت نحو الداخل تخفي نفسها بداخل المطبخ وهي تفكر في حال هذا البيت الغريب الذي لم تعد تفهم بداخلهِ أي شيءٍ.
__________________________________
<“يوم عودة الحق كيوم إنتصار فلسطين، كلاهما يُفرح”>
في بيت العطار صباحًا…
كانت “مهرائيل” برفقة “آيـات” معهما “نِـهال” أيضًا وقد أخبرتها الأولى بما حدث مع زوجها “تَـيام” وكيف تبدلت حياته في لحظةٍ واحدة غير محسوبة لتنقلب الحقائق رأسًا على عقبٍ، وحينها انتفض قلبها لأجلهِ وشعرت بوحدته وسط الجميع وبكت لأجلهِ فتدخلت حينها “نِـهال” تهتف بما يحثها على الحراك له:
_هتفضلي تعيطي؟ أكيد محتاجك يا “آيـات” ومحتاج إنك تكوني معاه، قومي وروحيله، أو خليكِ معاه، ولا أقولك؟ استني نكلم أخواتك أو عمو وهو يقولنا، بس متفضليش تعيطي كدا علشان عياطك مش هيعمل حاجة.
حركت رأسها موافقةً لكن التيه لازال يسيطر عليها، لازالت لم تفهم الأمور وكيف تحول من الابن الوحيد لهذه الأسرة لمجرد طفلٍ تم الإتجار به لأجل كسب المال؟ من المؤكد سيشعر بالألم في روحه رغم عدم ظهور أي جروحٍ عليه، وهذه هي الحقيقة المُرة أن الجروح الغير ظاهرة تكتفي فقط بترك ندبة في القلوب.
وقد حاوطتها “مهرائيل” بكلا ذراعيها وهي تمسح على ظهرها وكذلك جاورتها “نِـهال” وهي تضم كفي الأخرى ومعهما “إيـاد” أيضًا الذي بكى لأجل بكاء عمته.
في مكانٍ أخرٍ..
تحديدًا بشقة “نجلاء” كانت تجلس على باب الغرفة تبكي بين الحين والآخر كلما وصلها صوت بكاء صغيرها بداخل الغرفة، منذ الأمس لم ينم أو يتحرك من مرقدهِ خلف الباب، بل ظل حبيسًا بعيدًا عنها وكلما حاول أحد أصدقائه الإطمئنان عليه عبر هاتف أمـه كانت تبكي وهذا هو الجواب…
أما بداخل الغرفة فصدى الحديث لم ينفك عن سمعهِ، هيئة مرضعته وهي تؤكد له أنه لم يكن ابنًا لها تؤلم روحه، أليس من المعقول أن يصبح هو مجرد فتى صغير تناقلته الأيدي لبعضها كما تتناقل البضائع، كل شيءٍ لم يكن في طيات العقل، بل هو تعدى كل ذلك..
يجلس القرفصاء خلف الباب خشيةً من ظهور حقائق أخرى قد تنل منه وتفتك به، يخشى الكثير الذي يجهله هو وحتى يخشى السؤال عنه، خشى كل شيءٍ عنده وأراد أن يرحل عن كل شيءٍ، يظن الرحيل حلًا لكنها مجرد أوهام عقلٍ مسكينٍ يخضع للهرب بدلًا من المواجهة.
في هذه اللحظة التي غرق في أفكاره بها وصله صوت “نَـعيم” ولا يعلم كيف تعرف على صوته أو كيف وصل صاحب الصوت إلى هُنا، لقد ظهر الذي من المفترض أن يكون أبيك !! وأنتَ هنا تجلس خلف الباب هربًا منه؟ بعد هذا العمر الضائع يفصل بينكما حائطٌ وقطعة خشبية أوصدت بينكما؟ انتبه لصوت والده يهتف باكيًا من خلف الباب بعدما علم حالته:
_طب ماشي خبي نفسك عني وعن عيني، بس أنا قلبي شايفك دلوقتي، خليك بعيد عني زي ما أنتَ عاوز بس مش هتلاقي أقرب من قلبي ليك، عاوز دليل أنا معايا أهو دليل ماسكه في أيدي إنك مني….بس صدقني مش دا الدليل اللي محتاجه، أسمع كدا صوت قلبك ولو هو مكدبني أنا همشي، أوعدك والله لو وجودي هيزعلك همشي خالص ومش هخليك تشوفني، بس…بس أنا حلمت كتير باليوم دا، بطلت أنام من كتر ما الحلم بقى مبيسبنيش…لو أنتَ بتحب المكان هنا خليك، ولو أنتَ مش عاوزني أبوك أنا مش هزعل يا “تَـيام” بس أنا عاوز أشوفك، مرة واحدة أشوفك وأنتَ ابني.
أنهار باكيًا وبكل أسفٍ هذا الرجل الذي علم الشباب كيف يكون ثبات الرجل في الشدائد، أنهار بعدما راكم الحزن والمشاعر خلف بعضها، أنهار وهو يستند على بابٍ يفصل بعضه عن كله، أنهار وهو يتوسل ابنه في الخروج لكي يراه بعينيه ويتفق البصر مع البصيرة…
أقترب منه “إيـهاب” يسانده ويشدد من أزرهِ بينما “مُـحي” هتف بنبرةٍ حزينة هو الأخر وقد برع في رسم الثبات:
_أنا عمري ما أتمنيت ألاقيك وعمري ما حبيت إنك تظهر تاني وكنت عامل حسابي إنك خلاص مجرد عيل تاه أو مات ولقى نصيبه في الدنيا، بس لما شوفتك أنتَ أنا حبيتك، وقبلتك وفتحتلك قلبي، أنتَ مش عاوز تفتح لأخوك باب يشوفك منه لأول مرة؟ طلعت أنتَ اللي كارهني؟ فاكر لما في مرة قولتلي على صورتي إني شبهك لدرجة إنك لو عندك أخ مش هيكون شبهك كدا؟ أهو طلع عندك أخ وطلع أنا، أفتح طيب.
طلبها منه بكل حزنٍ نبع عن رجاء قلبٍ فقد السيطرة في الأمور، طلبها بنبرةٍ آملة في الحصول على هذا اللقاء وقد سكت الأخر تمامًا، لا يبكي ولا يرد ولا يجاوب حتى، هو فقط التزم الصمت حتى أقترح “إيـهاب” عليهم أن يجلسوا لكي ينل “نَـعيم” جزءًا من الراحة، بينما “مُـنذر” راقب حالة “نَجلاء” التي بكت وحزنت لأجل ابنها لكن الوعد الذي قطعته هي لم تملك الجُرأة على خيانته مهما بلغ الأثر..
مر الوقت في حالة صمتٍ قاتلة شارفت على الساعة…
وحينها كان يناجي في كل ثانيةٍ كما ناجى “زكريا” ربه وبلغ اليقين من شدة صبره، فقد قرر أن يصبر كما صبر “أيـوب” وأقتدى في بلائه بمعضلة “يـعقوب”، والآن يرى بعينيه فلذة كبدهِ لمرته الأولى وكأنه لقاءٌ جابرٌ للقلوب، هذه القلوب التي رحل عنها ساكنيها وحلت محلها الندوب، لكن اللقاء بأمر المولىٰ كان مقدرًا وهو المكتوب…
وقف “نَـعيم” حينها شبه مشلولٍ، كفاه تجمدت حركاتهما، عيناه تثبتت على من يقف أمامه في عقر داره لمرته الأولى بهذه الصفة، لم يعلم إن كان هذا هو الخيال أم الحقيقة، لم يعلم إن كان عقله يسعفه أم أن المولى كتب له الرحمة بهذا اللقاء، لقاء كان رحمةً من بعد لوعةٍ وقد ترك مقعده وخطى نحوه بخطى وئيدة والآخر أمامه ثابتًا يتابعه بعينيه إلى أن وجده يقترب منه، حينها تحدثت القلوب تُنادي أهلها بقولها:
_”أنا منكَ وأنتَ مني،
لم تكن أنتَ الغريب عني،
أنا لكَ كنت موطنًا، والهوية أنك ابني”
ألقاها القلب الأول لقلب صغيره وهو يتمنى أن يشعر به فيما وقف الصغير يضم كفيه معًا ضاغطًا عليهما لعله يردع دموعه بعد هذه الخطوة الصعبة التي أخذها ووصل بها إلى هنا، لكن قلبه ما إن ترجم نظرات الأخر هتف بوجعٍ هو الأخر ردًا على حديثٍ كتمته الألسنة وتفوهت به الأعين:
_ربما العالم بأسرهِ يكذبك حتى وأنا وشفتاي، لكنني أقسم لكَ أنها لن تجرؤ وتخفيها عيناي، لم أراني يومًا في عينيكَ غريبًا، بل كنت دائمًا وطنًا والوطن للضائعِ أصبح حبيبًا..
صوت القلوب وصل صداه عن طريق العيون ولازالت الأجساد ثابتة، القلب ركض وأحتضن الأخر صارخًا من لوعة الفراق والعين احتضنت العين تخبرها بمدى الاشتياق والآن فُرِد ذراعين الأول وهتف باكيًا وهو يأمل في عناق:
_تعالى…تعالى في حضني يابني.
نزلت عبرات “تَـيام” فور وصول هذه الجملة له وأقترب من الأخر بنفس منوال الخطى الوئيدة وقبل أن ينطق وجد نفسه مخطوفًا في العناق..
أصبحت القلوب تحتضن بعضها والأعين سكنت من وجعها والأذرع تحاوط الأذرع وتتمنى أن تبقى في الجوار مع بعضها، العناق الأول بصفة رسمية لابنٍ ضاع وأبٍ تألم، واليوم تشهد الحياة على اجتماعهما، اليوم فرحة “يـعقوب” تمر بالديار، فحينما فقد ابنه وراح عنه بصره، لم يفقد الإيمان واليقين متمسكًا بحبال الصبر كما صبر “أيـوب” بالرغم أنه ليس ببالغ صبره.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)