روايات

رواية غوثهم الفصل الرابع والثمانون 84 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الرابع والثمانون 84 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الرابع والثمانون

رواية غوثهم البارت الرابع والثمانون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الرابعة والثمانون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الرابع والثمانون”
“يــا صـبـر أيـوب”
_____________________
إن الله جعل الدنيا دار مفرّ
والآخرة دار مقرّ،
فخذوا لمقركم وأخرجوا الدنيا من قلوبكم
قبل أن تخرج منها أبدانكم,
ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم،
ففي الدنيا حييتم ولغيرها خُلقتم.
_”مالك بن دينار”.
_صلِّ على سيدنا محمد ﷺ
__________________________________
لا يُحق للعالم أن يسأل لما أُحِبك..
إذا كنت أنا بذاتي لا أعلم لما أُحبك؛
لكن دعيني أسمع لقلبي لعله هو يعلم الجواب ويخبرني لِما حفظ لكِ وَحدكِ الحُب ومن بين كل العالم بأسرهِ أَحبَكِ..
رُبما لأنكِ كُنتِ الألفة وفي وطنٍ كله غُربة،
أو رُبما لأنكِ رحمةٌ لقلبٍ ألمته الكُربة،
أو لأنكِ أحببتيني بقلبٍ أعطاني حُبًا بمقدار كل الأحِبة؟
أو لأنكِ حقيقة وسط عالمٍ عبارة عن أكاذيبٍ وكلام العيون به أكبر كَذبة، وبرغم ذلك لازلتُ أرىٰ أن الحُب والخوف شيئين مُتلازمين، لكن أولًا قبل أن تُسيئي ظنوني دعيني أُخبركِ أنني لا أخشاكِ بقدر ما أخشاني أنا، فأنا أيضًا بداخلي يقبع غريبٌ لا أعرفه ولا أعلم ما يفعله لكنه حقًا لم يكن أنا..
هو فقط يُخالفني في كل شيءٍ حتى هويتي أنا،
لكن الوفاق بيننا كان في حُبكِ حينما تعارفنا على قلبكِ وناداه قلبي حينها مُهللًا بسعادة طفلٍ صغير:
“كيف حالك يا أنا، فأنتَ هو أنا
والقلب قلبٌ شاغرٌ لكن لأجلك أصبح مكانًا
وبِكَ تلاشىٰ الخوف وعرفنا للأمان عنوانًا”.
<“إن سكت أهل الحق عن الحق، أصبح الحق باطلًا”>
بكى “نَـعيم” بعدما ألقى حديثه على الأخر وقد شعر حقًا بفقد الأمل في إيجاد صغيره بينما “منذر” خطفه بين ذراعيه مُقدرًا مشاعره وقال بنبرةٍ باكية مؤازرةً له:
_مش غريب، “تَـيام” مش غريب عنك، هو ابنك يا عمي، الوحيد اللي طلب حضنك ولما إديته ليه طلع دا مكانه.
إذا كانت بعض الكلمات تقتل فها هي الكلمات التي تُحيي القلوب من جديد، جمده ابن شقيقه بهذا الحديث ولأول مرة يظل مكانه جامدًا دون أن يحتضنه كما اعتاد بل ظل صدى الكلمات يتردد في أذنه واسم “تَـيام” يدور مثل الحلقات الدائرية في سمعهِ، حديثٌ يحمل أكثر من معنيين معًا وكأنه سلاحٌ ذو حدين، الاسم وحده صدمة قاتلة لكل مافيه.
شعر “مُـنذر” بتجمده وصلابة جسده وكأنه أصبح تمثالًا بلا روحٍ وحينها أبتعد عنه للخلف بنسبة قليلة يراقبه بعينيه الدامعتين وحينها تلاقت نظراتهما سويًا في حالة خدرٍ من “نَـعيم” ناهيك عن صوت نبضاته الذي نازع الصمت بينهما، حينها أمسك “مُـنذر” كتفيه وكأن حالهما تبدل وهتف بإصرارٍ لمعت به عيناه ناطقةً بفرحتها:
_والله هو، الست روحتلها وقالتلي إنه هو اللي أخدته ولحد دلوقتي لسه على تواصل مع والدته، صحيح لسه مش كل حاجة باينة بس هو طلع عايش وطلعت بتحبه، وحضرت كتب كتابه كمان.
ازداد قلبه عنفًا في النبضات وكأنه عدوٌ له وعاندته عيناه وأخرجتا العبرات منهما بإنهمارٍ فيما تصلب العقل عن استيعاب أي حقائق أخرى تُضاف فلم يكن عليه سوى أن يهتف متوسلًا له برجاءٍ بنبرةٍ تباينت بها المشاعر:
_أوعى تكون بتعمل كدا تهون عليا؟ أنا عندي أقبل حقيقة إنه مش موجود أحسن من أمل كداب تديهولي أسَكن بيه جروحي، أوعى يابني تستغل حاجتي ليه في إنك تعمـ..
بتر حديثه بعدما كان يتحدث دون وعيٍ منه وفي لحظتهِ هذه أبتسم له “مُـنذر” بتقديرٍ لحالتهِ ولتخبطه ووضع له كافة الأعذار ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
_عارف إنك مش هتستوعب وعارف إنك ممكن متصدقنيش، بس الأول نعمل التحاليل علشان نعرف هو ابنك ولا لأ، بس والله أنا مش بكدب عليك أنا مش هقدر أوجعـ..
خطفه “نَـعيم” هذه المرة بين ذراعيهِ يعتذر له باكيًا وكأنه خرج لتوه من صدمته وبكى، بكى وكأنه أدرك حجم الخسارة والوجع والفقد والإنكسار، يبكي وكأن العالم بأكمله أصبح عدوًا له وهو في الميدان بدون سلاحٍ، بكى بأصواتٍ متقطعة وهو يتمسك بهذا الشاب الذي بكى رغمًا عنه هو الأخر معه وظل يردد له بتكرارٍ:
_والله عايش وموجود، صدقني عايش.
أرخىٰ “نَـعيم” ذراعيه عنه ومن جديد يتوه من نفسه ويضيع عنه عقله وسأله تلك المرة بنبرةٍ بدت كأنها مُنكسرة:
_أنتَ قولت مين؟ هو صح؟.
أومأ له “مُـنذر” موافقًا في محاولةٍ منه للتماسك بينما “نَـعيم” وجد نفسه يبتسم من بين عبراتهِ وهو يحاول تفريق جفونه قبل أن تُغلق، لقد كانت مشاعره ثائرة وحينها تذكر ملامح “تَـيام” ومجاورته له في عقد قرانه واختياره له من وسط الجميع كبيرًا له وحينها بكى بفرحةٍ وهتف بضياعٍ مابين فرحة تُحيي وصدمة تقتل:
_طلع هو دا؟ اللي حضرت فرحته من كام يوم؟ دا اللي أنا وقفت في صفه؟ دا اللي ربنا وصل طرقات الكل ببعض علشان يجمعني بيه في يوم زي دا؟ دا اللي أنا حضنته وقلبي أتكهرب من حضنه لدرجة خوفتني؟ دا اللي شوفتها في عينيه؟ دا اللي قلبي حلفلي إنه منه كأنه بيته هو؟..هو دا ابني؟ طب…طب إزاي؟ وراح هناك مع مين؟ احضنه إزاي دلوقتي تاني؟ أخده في حضني دلوقتي إزاي؟.
حرك “مُـنذر” كتفيه بقلة حيلة وهتف بنبرةٍ مختنقة من دموعه التي هددت بالنزول من جديد:
_أنا معنديش أي فكرة خالص، كل اللي أعرفه إن الست أديتني عنوانه واسمه واسم الناس اللي ربوه، وساعتها هي خدته من واحدة تانية كانت بتتاجر في العيال وهي قالت ترحمه منهم أحسن ما يضيع وسطهم، أظن كدا هي كانت صح، لأن لو على اللي أنا شوفته كان زمانه ميت أو في السجن زي غيره كتير، والله كل اللي أعرفه جيت أقوله.
ازدرد “نَـعيم” لُعابه وهتف بنبرةٍ مختنقة هو الأخر:
_طب هنروحله إمتى؟ مش هشوفه؟ هو عارفني وممـ…
أوقف “مُنذر” حديثه حينما بتره بقولهِ مُندفعًا بلهفةٍ:
_هو ميعرفش حاجة، أمه اللي عارفة وجوزها قبل ما يموت وصاها إنها لو عرفت أهل الولد متخبيهوش عنهم، يعني متقلقش من حاجة، ينفع بس تديني شوية وقت؟ مش علشاني أنا، علشانه هو أديني وقت أعمل التحاليل على الأقل علشان هو يقتنع، متنساش إن حياته في يوم وليلة هتتغير، كل اللي فات هيبقى كدب بالنسبة ليه، ممكن؟.
نزلت عبرات “نَـعيم” وأنقبض قلبه بوجعٍ حيِّ على حالهِ وحال صغيرهِ وقد استوطنت الغِصة حلقهِ وكأنه يسأل نفسه أي عالمٍ هذا الذي يُجبر فيه أبًا على إنتظار فرصةٍ لكي يحتضن ابنه؟ أي بشرٍ هؤلاء الذين تسببوا في هذه الحالة دون رأفةٍ به؟ أي قلوبٍ هذه تتلذذ وهي تحرم بيتًا من ساكنيه؟ أين أنا وأين ابني وأين ساكن هذا البيت الذي ترك البيت فارغًا والسكن من بعده خلا؟.
لاحظ “مُـنذر” ملامحه المُتخبطة وفهم تفكيره فأمسك كفه وهتف بنبرةٍ صادقة يدعمه بها وهو يُدلي بكل ما في قلبه:
_صدقني الوقت قرب وابنك هييجي في حضنك وقريب أوي والله، صدقني قريب هتحضنه وهو عارف إنك أبوه وأنتَ هتحضنه بصفته ابنك مش غريب بتمِن عليه.
في هذه اللحظة رفع “نَـعيم” عينيه الزائغتين له وجال بخاطره الحوار الذي دار بين كليهما أمسًا حينما جمعت بينهما الطرقات التي سبق لها وتفرقت:
_هستناك تجيلي لو كبيرك زي ما بتقول متبخلش عليا بزيارة منك، هستناك يا “تَـيام” أوعى ماتجيش.
هذه كانت جملته وكان الرد من الأخر بصدقٍ:
_وعد قدام الحج أهو هاجيلك، أستناني قريب.
حينها سحب “نَـعيم” نفسًا عميقًا وفرق جفونه ورسم بسمة هادئة على شفتيه وهتف بضياعٍ في عالمٍ أخر كان مصدره الحديث الدائر بينه وبين “تَـيام” الحبيب:
_هستناك، هستناك لأخر نفس فيا كمان.
هتف جملته ثم ضم “مُـنذر” الذي ابتسم له وظل يربت على ظهره حامدًا المولىٰ في سرهِ، فحتى وإن لم يكن معه الدلائل الكافية وحتى إن لم يفهم جميع الجوانب وحتى وإن كانت الحقيقة مُبهمة وحتى إن تفككت الخيوط من بعضها فهو يعلمها في قرارة نفسه ويصدقها من قلبه.
فالبرغم من طيلة البلاء
إلا أن القلب الذي صبر
وتحمل كما صبر “أيـوب”
آن له في نهاية الأمر أن يفرح فرحة “يـعقوب”
فما نحن إلا خلائق عابدين لله
وكل ما لنا مُقدرًا في لوحٍ مكتوب،
فأين المفر وإن كان اللقاء موجودًا بين القلوب؟.
__________________________________
<“أين المفر مني، وأنا أعاني مني؟”>
لا شك أن القلوب للقلوب دواء
وأن الحبيب للحبيب وجوده شفاء..
فالقلوب تعلم وترى ما يؤلم صاحبها وتشعر بما يشعر به وإن لم تكن تجاورها، وقد شعر “أيـهم” من مجرد صوتها فقط وطريقة حديثها أنها لم تكن على ما يُرام، هي حقًا تتألم أو ربما مُتعبة، لذا قام هو بإحضار صغيره من المدرسة ثم توجه به إلى البيت وبحث عنها بعينيهِ مثل تائهٍ وصل المحطة الأخيرة وظل يبحث عن مُرشده بها، وقد تحرك صوب الحديقة فوجد “آيـات” تجلس برفقة “مهرائيل” دونها هي.
ألقى التحية بفتورٍ رغمًا عنه بعدما أنشغل عقله بها ثم سأل شقيقته بنبرةٍ هادئة أو هكذا حاول أن يجعلها:
_مشوفتيش “نِـهال”؟ أو لما جت كلمتيها؟.
عقدت مابين حاجبيها تلقائيًا ورددت خلفه باستنكارٍ:
_جت !! هي جت أصلًا؟ غريبة ماهي علطول بتنادي عليا وبجهز الشاي نشربه مع بعض، وبعدين هو أنتَ اللي جايب “إيـاد”؟ هو حصل حاجة؟.
كاد أن يرد عليها فتدخلت “مهرائيل” تهتف باقتراحٍ عليهما لعلها تسعف في إخراجهما من حيرتهما:
_طب حد فيكم يكملها؟ أو أطلع شوفها كدا أنتَ؟.
أومأ موافقًا ثم التفت لابنه الذي تسطح على الأريكة من تعبهِ بسبب يومه الدراسي الممتليء، وقد فهمت “آيـات” سبب نظرته فهتفت بنبرةٍ هادئة تحثه على التحرك:
_أطلع أنتَ شوف مراتك، وهو هنا معايا هأكله وأخليه يغير هدومه، يلا ولو احتاجت حاجة كلمني هاجيلك علطول.
تحرك بعدما أعطاها بسمة ممتنة وبدون أن يتحدث فهمت هي من نظراته قلقه على زوجته وخوفه عليها وفهمت أيضًا امتنانه بنظراتهِ لذا تحركت نحو “إيـاد” وخلعت عنه الحذاء ثم رفعت قدميه على طرف الأريكة بعدما نام تمامًا واستسلم لسلطان النوم بعد عناء يومٍ دراسي أرهق طفولته.
في الأعلى فتح باب الشقة بحذرٍ وظل يُناديها بنبرةٍ هادئة بها لمحة تحفز لأي حالٍ أو إندفاعٍ منها وما إن غلب دلف غرفته فوجدها تجلس على الأرض الرُخامية مستندة بجسدها على نهاية الفراش وبجوارها ثيابها البيتية ويبدو أنها توقفت عن مهمة تبديل ثيابها، وزع نظراته بينها وبين الثياب بلمحة تعجب تلاشت سريعًا حينما وجدها تبكي بشرودٍ كأنها لم تنتبه له، وحينها لم يبخل عليها بالقرب والإهتمام حتى وإن كان بخل بها على العالم بأسرهِ.
أقترب منها وجلس مُقابلًا لها على رُكبتيه ثم رفع كفه يمسح عبراتها المُـنسابة وقد أجفلت هي من لمستهِ ودون أن تدرك هذا دفعت يده بعيدًا عنها بعدما هاجمها وَحشٌ يُسمى الماضي ورسم أمامها الخيالات بأسوأ أنواعها، وحينها تعجب هو من فعلها وضيق جفونه بريبةٍ وقد ظن أن طليقته هي المُتسببة في ذلك لكنها ما إن أدركت فعلها بكت مُجددًا وظلت تعتذر منه بطريقة أقرب للهيستيرية وهي تُردد:
_آسفة، آسفة والله، أنا آسفة، آسفة.
ظلت تُرددها ببكاءٍ جعله يعلم أن الأمر أكبر من حجم تفكيره ولم يكن أمامه سوى أن يحتضنها بين ذراعيه في حركة مُباغتة لها ثم احتواها بكلا ذراعيهِ وهو يُهدهدها قائًلا بحنوٍ اكتسبه من تعامله مع صغيرهِ:
_بس خلاص، بس محصلش حاجة لكل دا، مين زعلك تاني؟ ومين أصلًا خلاكِ تزعلي كدا وتعيطي؟ قوليلي ومتخافيش.
أغمضت جفونها لوهلةٍ توقف انهمار عبراتها من مُقلتيها ثم هتفت بنبرةٍ مختنقة وهي تشدد مسكتها له:
_أنا كل الناس مزعلني حتى أنا، أروح مني فين؟.
وصلته جملتها الضائعة وحينها عاد للخلف بنسبة قليلة يطالع وجهها ثم هتف بنبرةٍ هادئة وحنونة أحتواها خلالها بين أحرفه قائلًا:
_تعالي ليا أنا، هاتي نفسك وتعالي ليا.
رفعت عينيها نحوه تسأله بحيرةٍ ولازالت تبكي كما هي:
_هتستحمل؟
سألته بهذه الكلمة الوحيدة التي جعلته يبتسم بعينيهِ ثم ضمها مُجددًا لصدرهِ ومسح على رأسها وخصلاتها وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:
_أنا سبق وقولتلك حلم حياتي إن حد يعتبرني كل حاجة ليه ويشاركني حياته، قوليلي مين مزعلك وخرجي كل حاجة جواكِ، لو مقولتليش أنا هتقولي لمين؟ أنا وأنتِ واحد في الأخر يا “نِـهال” حد من زمايلك تاني؟.
حركت رأسها موافقةً وهتفت بنبرةٍ باكية حينما تذكرت ما يؤلمها ويـنخر عنقها كل يومٍ بنظراتٍ أشبه بالسكين عند العُنق:
_هما، ومش هما بس كل الناس تقريبًا شايفني خرابة البيوت اللي دخلت هنا رسمت عليك وخربت بيتك وخدتك من طليقتك، كلهم شايفني الست الوحشة اللي علقت بيا عيل صغير وخليت أبوه زي الخاتم في صباعي، كلهم شايفني الست اللي خربت بيتها علشان شوفتلي شوفة تانية ومتحملتش ظروف جوزي علشان مش قادر يصرف عليا، كلهم شايفني الست الوحشة علشان رفضت أكون واحدة بتتهان كل يوم، كلهم شايفين غلطتي ومحدش شاف غلط غيري، كلهم لاموني على أفعالي ومحدش فكر يجيب حقي وأنا بتضرب كل يوم، كلهم شافوني أرض بور ومحدش فيهم شاف أمه وأخواته وهما عامليني سليوة كل قعدة، كلهم شافوني ست دايرة على حل شعرها علشان نزلت شغلي ومحدش فيهم شاف اللي كان بيحصلي طول ما أنا لوحدي، محدش شاف حاجة غيري….
أنهارت باكيةً أمامه فيما سكت هو سامحًا لها أن تخرج كامل حديثها وكل ما تحمله في قلبها، فهو يعلم أنها تُخزن الكثير والكثير وحتمًا ستنفجر ذات مرةٍ ولعل هذه هي مرتها فيما أكملت هي بعدما سيطرت قليلًا على بكائها:
_محدش شاف حاجة وبيلوموني على كل حاجة، “إيـاد” دا أنا قبلته عوض من ربنا ليا، قبلته ابني وأعز من ابني كمان، كلهم بس شايفين إني مرات أبوه وبرسم دور الحنية ومحدش شايف قلبي اللي بيتنطط بكلمة “ماما” منه، إزاي مش قادرين يفهموا إحتياجي ليه؟ علشان ست يبقى أحبس نفسي وأدفنها بالحيا يا إما أبقى تحت حكمهم؟ إزاي فاكريني برسم عليك وأنا بحبك كأنك آخر أمل ليا إني أعيش تاني؟ إزاي قادرين يشوفوني وحشة لدرجة مش مبينة إني بحبك بجد وبقيت بخاف أزعلك، بقيت عاوزة أعوضك عن كل حاجة زي ما أنتَ جيت وكنت سبب ليا أني أنسى كل حاجة، أنا حبيتك كأني عمري ما شوفت راجل غيرك في الدنيا.
تلك المرة هي صدمته بحديثها، تلك المرة هي تعترف بمشاعرها بكل صدقٍ دون خوفٍ أو مزاحٍ أو إجبارٍ منه كما يُمازحها ويفعل، وتلك المرة شعر بقدر حاجتها إليه وأنها لازالت تُحارب على كل جبهات الساحة بمفردها، فتنهد بعمقٍ ثم ضمها مُجددًا وأسند رأسها على كتفهِ ثم رفع أحد كفيهِ ومسح على خصلاتها بحنوٍ ازداد عن السابق وهتف لها مؤازرًا بحديثٍ مسح على قلبها:
_ في داهية الناس أنتِ بالكل، هما مش شايفين غير اللي عاوزين يشوفوه ومهما حاولتي هما برضه شايفين اللي هما مُصممين يشوفوه، محدش بيشيل شيلة حد، ومحدش بيحاسب مكان حد، أنتِ اللي بتدفعي التمن من صحتك ونفسيتك، طالما معملتيش حاجة غلط يبقى في داهية، متبرريش لحد حطك في صورة وحشة، وخلي بالك من نفسك مش من كلام الناس، أوعي تحسي بالذنب لمجرد كلام بيخليكِ شخص وحش، طالما معملتيش حاجة حرام وواثقة يبقى اللي يكلمك يخبط راسه في أتخن حيطة، وإذا كان عليا أنا وابنك، فإحنا قولنالك قبلك مكناش عايشين والله، كنا اتنين بنحاول ناخد على الدنيا وهي باهتة، بس لما جيتي عرفنا إن فاتنا كتير من غيرك، تعبنا كتير قبلك ومشوفناش الراحة غير في وجودك أنتِ، إزاي مش واخدة بالك إنك بتعملي حاجة مش أي ست تعملها؟.
أبتعدت عنه تسأله بعينيها الآملتين بعدما عاد لهما الأمل من جديد وسكن المُقلتين لتصبحا لامعتين من بعد الإنطفاء فقرأ هو هذه النظرة وأضاف مُفسرًا بحبٍ صريحٍ:
_الست اللي تربي عيل مش ابنها وابن جوزها وتطيع جوزها ويبقى كل همها تسعده وتعوضه في أصعب أوقاتها هي تبقى ست تتشال فوق الراس، الست اللي تدي مشاعر أمومة لعيل مشالتوش في بطنها تبقى بنت أصول، الست اللي تحاول تعرف جوزها بيزعل من إيه علشان متعملوش تبقى بنت أصول وربنا يكرمها ويراضيها ويراضي قلبها بكل خير، أوعي تشكي إنك وحشة ولا خرابة بيوت، إذا كان على بيتك الأول فدا كان لازم يخرب قبل ما يخربك أنتِ، وإذا كان عليا أنا فأنا كان لازم أعمل كدا قبل ما أبقى بنك فلوس وآلة بتدي ومتاخدش، أنا وأنتِ لقينا بعض يا “نِـهال” ولحد أخر يوم في عمري هفضل أشكر ربنا على اليوم اللي قابتلك فيه صدفة، علشان أي حاجة قبلك مش محسوبة أصلًا.
أنهى حديثه وهو يطالع عينيها البُنيتين الدافئتين فيما ابتسمت هي بسعادةٍ وخجلٍ من إطراءهِ عليها ثم أقتربت منه ووضعت رأسها فوق كتفهِ وهي تتنفس الصعداء وفقط صمتت بل سكتت كُليًا وهي تستند عليه، بينما هو حاوطها بذراعيه وأخرج زفيرًا قويًا يحرر به أنفاسه بعدما نجح في إحتوائها، الغريب لديه أن هذه هي مرته الأولى التي يشعر فيها بقدر حاجته وحبه لإمرأةٍ مثلها، والأدهى أنه لم يسبق له ويرى مثلها.
__________________________________
<“الغريب هو أنا وهوية الوطن هي أنتِ”>
في منطقة وسط البلد..
كان يجلس بأعصابٍ تتأكل في شرفة الشقة، لم يعلم لما تأخرت لقرابة الساعة ونصف بداخل هذه العيادة؟ ماذا تفعل كل ذلك؟ لقد فرغت طاقته وشغرت علبة سجائره ونفذت قدرة تحمله وهي لم تخرج بعد، وللأسف هو كان يجلس أسفل نظراتٍ تتفحصه مثل جهاز الكشف الدقيق وقد هتف “جـواد” بنبرةٍ ساخرة يتهكم عليه:
_ولما أنتَ خايف كدا جيت ليه هنا وجيبتها معاك؟ على فكرة هي قوية كفاية إنها تواجه وتعترف بالمشكلة وتحلها، على حسب كلامك هي ميتخافش عليها، الخوف على اللي رافض يعترف وسايب المصايب تاكل فيه لحد ما ييجي يوم يتحول وحش محدش يقدر يعارضه أو حتى يقف في وشه.
زفر “يـوسف” مُطولًا حينما فهم ما يرمي إليه “جـواد” الذي أخفض بصره لشاشة هاتفهِ مُجددًا هربًا من الأخر الذي سأله بنبرةٍ يائسة رافقتها ضحكات لم تقل عنها يئسًا:
_أنتَ عاوز مني إيه؟ طلعني من دماغك.
حرك الأخر كتفيه بلامبالاةٍ وهتف بنبرةٍ صبغها بالفتور:
_مش عاوز منك حاجة، عاوزك بس تقولي فين الدكتور اللي قولت عليه علشان أنا محتاجه فعلًا الفترة دي في المستشفى معايا، لسه هجري على ورق تعيين مراتي ومدرسة بنتي وشغل أمي، وعاوزه يكون مع “فُـلة”.
سحب “يـوسف” نفسًا عميقًا حينما بدل الأخر مجرى حديثه ليصبح عن شيءٍ أخر لم يؤلمه كلما تذكره وحينها هتف بنبرةٍ ثابتة تُنافي إهتزاز روحه:
_متقلقش هو مسافر يومين وزمانه رجع، هو أكيد محتاج الشغل دا والمكان أكتر منك، بس بالراحة عليه الواد مش ناقص فيه اللي مكفيه وزيادة.
انتبه له “جـواد” فأغلق هاتفه ورد عليه بسخريةٍ:
_على أساس إني هاخده أكهربه؟ على العموم بكرة تجيبه وتيجي الصبح علشان الإدارة هتكون هناك، ساعتها هقابله وأراجع ورقه وأمضي قرار التعيين، هستناك.
_فين إن شاء الله؟.
هتفها “يـوسف” بتأهبٍ تحفزت به مشاعره ترقبًا للجواب الذي يخشاه فيما أضاف الأخر بثباتٍ له كأنه حقًا لم يكترث به أو يعانده عن عمدٍ:
_في المستشفى، هيكون فين يعني؟.
أقشعر جسد “يـوسف” وكأن ضربة كهرباء مسته وأصابته بالخدر لوهلةٍ وقد تجاهل حديث “جـواد” برمتهِ فبالطبع لن يخبره عن مخاوفه صراحةً من هذا المكان، بل سيصمت راسمًا القوة من جديد لكن داخله كان هاشًا مثل عصا رقيقة بمجرد وضعها في يدٍ غلظة قد تتهشم كُليًا..
وعلى النقيض تمامًا في داخل الغُـرفة المُخصصة للكشف كانت “عـهد” تتحدث عن نفسها وعن طموحها وعن مواهبها المتواضعة الخاصة بالتزيين و الديكورات، أخبرتها تفاصيلًا قليلة بعض الشيء وكان الحديث وديًا أكثر من كونهِ رسميًا قي طور العلاج النفسي، وقد أعلنت “فُـلة” عن إنتهاء الجلسة بقولها المرح:
_فركش !! لقد أنتهينا يا فتاة
ضحكت لها “عـهد” وأعتدلت في جلستها فيما هتفت الأخرى بتبريرٍ لهذه المقابلة التي خلت من الرسميات:
_بصي أنا عادةً بكره أوي نظام الدكتور والمريض والجو دا، بس برضه عملي بيحتم عليا إني أكون رسمية، فأنا بحب أدي الشخص اللي قدامي طابع أول عني وبعدها بقى يتم التعامل، على العموم أنا مبسوطة جدًا بالمقابلة دي وأتمنى إنك تكوني متوترتيش مني أو ضايقتك.
نفت “عـهد” حدوث هذا الشيء من خلال حركة رأسه وابتسامتها التي اتسعت أكثر وهي تضيف صادقةً:
_خالص، أنا بالعكس حسيت إني مرتاحة خصوصًا إني كنت عاوزة آخد الخطوة دي من بدري بس ماكنتش أعرف إزاي أروح وإزاي أبدأ بس البركة في “يـوسف” يعني وبالمناسبة أنا عارفة كويس أوي إن العلاج النفسي ميقلش أهمية عن العلاج العضوي، الاتنين سيان، الفرق إن دي جروح ظاهرة متشافة والتانية متدارية في قلوب صحابها.
أنفرجت شفتا “فُـلة” بذهولٍ نتجت عنه بسمة مُندهشة كما حال صاحبتها، لقد فاجئتها قوة “عـهد” وأذهلتها قدرتها على الإعتراف بِـعِلَتِها، وقد ضحكت ضحكة خافتة انفلتت من بين شفتيها لينتج عنها تعجب “عـهد” بنظراتها فما كان أمام “فُـلة” إلا أن تفسر سبب دهشتها قائلةً بنبرةٍ لازالت تحت أثر الذهول:
_أصل بصراحة نادرًا لما أواجه شخص عنده مشكلة وألاقيه معترف بيها وبيدور على حلها، علطول بلاقي مشكلة صاحبها بينكرها ومش عاوز يعترف بيها، بس دي حاجة مش جديدة على المُذهلة يعني، أنا واثقة إنك هتكوني سبب في تغيير حاجات كتير لكل اللي حواليكِ يا “عـهد”.
قالت حديثها العادي وفي قرارة نفسها يوجد ما يُخالف ذلك، وتحديدًا ما يَخُص “يـوسف” وبعد مرور دقائق تم إعلان نهاية المقابلة رسميًا وقد تم التوديع بين الجميع وأخذها “يـوسف” ورحل من المكان بصمتٍ تام دون أن يتفوه بكلمةٍ واحدة، لكن الذي جعله يتعجب من أمرها هو سكونها وصمتها أو ربما الحالة السعيدة التي بدت عليها، بدت وكأنها طالبة عادت من رحلة دراسية وليست جلسة نفسية، وكالعادة دارت الأحاديث برأسهِ وكَثُرَ غوغائها وإزداد ضجيجُها وهو يرى ساكني رأسه في حربٍ أرهقته منذ رفع السيوف.
سحب نفسًا عميقًا ثم هتف في هذه اللحظة بما لم يتوقع حتى منه هو ذات نفسه لنفسه:
_تاكلي ملوخية يا “عـهد”؟.
أدهشها بحديثهِ مما أدى إلى أنها رفعت عينيها عن شاشة هاتفها وسألته مستنكرة عرضه:
_ملوخية؟ دلوقتي يعني؟.
حرك رأسه موافقًا وهو يوميء لها ثم ابتسم وهتف بنبرةٍ هادئة يحاول بها إقناعها بفكرته:
_مفيش حاجة دافية زي إنك تاكل الحاجة اللي بتحبها مع اللي بتحبه، الفكرة في حد ذاتها حلوة، تيجي تاكلي معايا؟.
حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم له فيما عاود هو النظر للطريق مُجددًا وهتف بنفس النبرة الهادئة وهو يحاول رسم الثبات فيها:
_لو فيه حاجة أدفا هتبقى وجودك أنتِ.
حسنًا من جديد يُلقي الحديث الذي يُجمدها ويُبعثر ثبات مشاعرها وقد ابتسمت بخجلٍ منه أو ربما يأسٍ حينما ألقى جملته وتجاهلها وهو يقود السيارة تاركًا لحديثه فرصة في فعل الأفاعيل بها، وقد أوقف السيارة بعد دقائق قليلة من القيادة بنفس المنطقة أمام مكانٍ صُمِمَ على الطُراز القديم وكذلك بابه الخشبي الذي تم طلائه باللون السماوي، وقد وضعت عبارات ترحيب على ألواحٍ معدنية زرقاء اللون اختلفت الجُمل عليها كتابة:
_يا خطوة عزيزة، آنست ونورت، يادي النور يادي النور، خلينا نشوفك تاني، لقمة هنية تكفي ١٠٠، الأكل علينا والتقدير عليك.
ابتسمت “عـهد” من مجرد عبارات الترحيب وقد راقبت المكان بعينيها فوجدتها بناية باللون البُني في أول درجاته وعلى طرفيه الزرع الأخضر وكأن المكان أحياها من جديد وما إن التفتت برأسها إلى الخلف أقترب منها “يـوسف” يجاورها وهو يقول بنبرةٍ هادئة لكن البسمة ظهرت بها:
_دا مكان اسمه “لُـقمة طَيْبة” بيعمل أكل بيتي في جو قديم كأنك في بيتك جدتك بالظبط، تعالي كدا معايا يارب يعجبك.
أمسك كفها ثم دفع الباب بخفةٍ ودلف بها وسط المكان الذي امتلأ بالموائد الخشبية القديمة والقصيرة وحولها ارتصت الوسائد الأسفنجية المُخصصة للجلوس، انبهرت حينها “عـهد” بما رآت حيث التلفاز القديم والأكواب والكؤوس كذلك أيضًا كل شيءٍ هناك كان عبارة عن لوحة قديمة رسمها مُبدعٌ على أحدث طراز.
سحبها من كفها ثم جلس حول مائدة من وسط البقية وقد جلست هي أمامه وهي تبتسم بحيرةٍ وقبل أن تبادر هي بسؤالهِ أتت في هذه اللحظة أمراةٌ تبدو على هيئتها الشعبية وكأنها من وسط شوارع البلدة، إمرأة شرقية في أوائل العقد الخامس وما إن لمحته وسط الزبائن أقتربت منه ترحب به بحبورٍ شديد وهي تقول بلهجتها الشعبية:
_يادي النور يادي النور، دا إيـه النور دا؟ سي “يـوسف” عندنا، طب والله دا إحنا ناس مُبختة خالص، نورت يا باشمهندس ونورت المكان معاك.
أنهت حديثها تزامنًا مع اقترابها من الطاولة بينما هو وقف إحترامًا لها يرد عليها تحيتها وقد وقفت “عـهد” هي الأخرى توزع نظراتها بينهما وهي تبتسم بعينيها أثناء قوله للأخرى:
_دا نورك يا ست “طَـيبة” بعدين أنا قولت أجي أدوق حاجة حلوة وأدوق مراتي هي كمان، عارفة مبدأي، تُحرم عليا اللقمة الحلوة من غير الحبايب.
ابتسمت له المرأة وربتت على ذراعه في حركة تلقائية منها وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة له:
_طول عمرك ابن حلال وطيب، مبروك الجواز، بس شكلك سوسة يا واد، فضلت مرقد وفي الأخر نقيت حاجة حلوة أوي، ربنا يسعدكم، اسمها إيه بقى؟.
تدخلت “عـهد” ترد عليها بأدبٍ وودٍ لها:
_متشكرة لحضرتك جدًا، أنا اسمي “عـهد” وعلى فكرة عيونك هما الحلوين علشان كدا شايفني حلوة.
شهقت المرأة تلقائيًا بفرحٍ منها ومن حديثها وردت عليها بقولها:
_ياختي إيه السكر دا؟ ولسانك حلو كمان؟ ربنا يسعدكم ويهدي سِركم وميغيرش عليكم ويجعلكم لبعض دنيا وآخرة، دقايق والملوخية والأكل يجهز، عن إذنكم اسيبكوا براحتكم.
أنهت حديثها وكادت أن تتحرك وتترك لهما المكان لكن “يـوسف” أوقفها بسؤالهِ:
_أومال “حودة” فين وأخباره إيه؟.
التفتت تجاوبه براحةٍ ظهرت على وجهها لسؤاله عن ابنها:
_ياخويا قاعدلي هنا عامل فيها كبير عليا، وأنا زهقت منه وأبوه أتخنق من قعدته، جاتله شُغلة في العاصمة الإدارية قولت أهو يروح أحسن من قاعدته كدا، بييجي كل خميس ويمشي السبت.
أومأ لها موافقًا وهو يدعو له فيما رحلت هي ليعود ويجلس كما سيرته الأولى وقد جلست أمامه “عـهد” بفضولٍ نطقته عيناها المتلألئة وهي تسأله دون أن تفصح بذلك علانيةً وقد قرأ هو ذلك ببراعةٍ وكأن حديث عينيها أبلغ من كل الكلام، أو ربما أنه لم يعد غريبًا فيهما بل أصبح راجعًا لهذا الوطن، لذا هتف بنبرةٍ ضاحكة:
_دي ست غلبانة كانت صاحبة الست “تحية” اللي في بيت الحج، كانت بتيجي ساعات تساعدها في البيت وتعمل أكل وكانت ساكنة في السمان، بس جوزها للأسف أخواته ضحكوا عليه وباعوا بيت أبوهم لتاجر أثار ونصبوا عليه وساعتها من الحزن جاله قدم سكري وأضطروا يبتروا رجله، وراحت تقعد في بيت أبوها، بس زي ما بيقولوا الكحكة في أيد اليتيم عجبة، أخواتها كلهم طمعوا في البيت رغم إنه مقفول وحكموا إنها تشتريه أو تخرج منه، فمشيت وسابته وجت هنا.
تبدلت ملامح “عـهد” إلى الشفقة فيما أضاف هو مُجددًا ومكملًا سابق حديثه:
_المكان دا كان بتاع خواجة كبير أبوها بيشتغل عنده ولما مات الخواجة مكانش ليه ورثة فسابه لأبوها، جت هي فتحته وصرفت عليه وعملته بيت ومشروع مع بعض، ساعتها أهلها وأخواتها جُم وعاوزين ياخدوا المكان دا، ساعتها ابنها كان يدوبك في إعدادي وجوزها لسه عاجز وهي لوحدها ومعاها عيلة صغيرة، جت للحج وطلبت منه يقف في صفها بما إنه كبير السمان وكلمته مسموعة.
حركت رأسها موافقةً وهي تنتظر التكملة فأضاف هو مُتابعًا:
_ساعتها الحج أتدخل وهما سكتوا لحد الإفتتاح جُم أهلها وعاوزين يقاسموا وكله عاوز يقاسم معاهم في لقمة العيش، ساعتها جه دور الوحش بقى، هما اللي جنوا على نفسهم وخلوه يخرج ليهم.
سألته بعينيها وهي تُعطيه كامل تركيزها ليُكمل هو بنبرةٍ ضاحكة حينما تذكر تلك الفترة:
_أنا و “عمهم” ساعتها جينا ودورنا فيهم الضرب كلهم و”إيـهاب” قفل عليهم المكان وحلف طلاق تلاتة الباب ما هيتفتح غير لما أخواتها يمضوا ورق تنازل قصاد إنها تسيب ليهم بيت أبوها وساعتها مضوا قصاد بيت أبوهم وهي كسبت الشقة اللي فوق والمكان دا، وبما إنها طباخة بريمو اشتغلت في الأكل ورفضت تمد أيدها لحد وعلمت عيالها وجابت كرسي لجوزها وساعتها فضلنا فترة معاها نتابع لحد ما أتطمنا إنها بخير، بس دي كل الحكاية.
ازداد إعجابها به أكثر وبشهامتهِ وهتفت بتلقائيةٍ حينها تخبره ما جال بخاطرها بكل صدقٍ:
_تصدق أنا دلوقتي عرفت ليه أنتَ بتقدر تطمن اللي حواليك؟ علشان علطول أنتَ حاطط نفسك مكان الناس وبتديهم الأمان رغم إنك ممكن تكون محتاجه، أنتَ قلبك جميل أوي.
رفع عينيه لها يبتسم بهما ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
_وأنتِ وعيونك أجمل يا عسولة.
أخفضت رأسها وهي تكتم ضحكتها حينما هتف هذه الجملة يباغتها بها بينما هو حقًا أرتاح من عبئه أمامها وكأنه يرى الراحة من تعب العالم في عينيها اللاتي عكست الصفاء والبراءة له، هي عبارة عنه في صغرهِ بصورةٍ خارجية مختلفة لكن القلب ذاته هو نفسه، في قربها تتلاشى الغُربة وتحل محلها الأُلفة، هي تحديدًا تبدو كما قال الشاعر “محمود درويش” عن غربتهِ المُتلاشية بوجود الهوية:
_”تُشبهين الهوية في حين كوني غريبًا”
فإن كان هو الغريب الذي كُتِبَت عليه الغُربة هي الهوية التي تُعطى للغريب ليصبح من بعدها مُنتميًا لهذا الوطن، والاجمل أن وطنه أعطاه الحُرية فبعدما كان أسيرًا أصبح حُـرًا وفي أرضهِ وبها أمـيرًا.
__________________________________
<“نعم عُدت متأخرًا لكيني عودتُ”>
رحل وترك المكان من عند عمهِ بصعوبةٍ بلغت أشدها ووسائل إقناعٍ باءت بالفشل كُلها حتى نجح أخيرًا وأقنعه ورحل من المكان إلى هنا من جديد، عاد “مُـنذر” إلى حارة “العطار” ومنها إلى الوجهة التي قصدها منذ أن وصلته الحقيقة، الأمر هنا أصعب من كل المراحل السابقة، هُنا هو يعيش الصعوبة الأكبر وهي مواجهة أكثر قتامة من كل الألوان السابقة، هنا هو يود الهرب أو ربما يود الركض إليها، أصبح رماديًا صفاته تناقض بعضها بشكلٍ مبالغ فيه، لكنه لن ييأس، سيصل وسيواجه.
وصل أمام شقة “نجلاء” وقد زفر بقوةٍ يحاول تحرير أنفاسه المحبوسة داخل رئتيه ثم رفع إصبعه يضغط على مقبس الجرس وقد حسم أمره وأخرس جميع الأصوات التي تخللت صوته الأساسي، وقد فُتِحَ له الباب أخيرًا وظهرت منه “نجلاء” تسأله بتعجبٍ:
_مين حضرتك؟ خير فيه حاجة؟.
ماهذا الموقف الغبي؟ ماذا يقال في هذه المواقف لكي يعرفها عن نفسه؟ أيخبرها أنه ابن عم ابنها المُتبني؟ أم يخبرها أنه يود التحدث معها؟ أنتَ معك كل العُذر حقًا، فأنتَ لم تفقد ابن عمك كل يومٍ لكي تعتاد الأمر، لكن ماذا يتوجب أن تقول؟ هكذا حدث نفسه باحثًا عن حُجة قوية تنطوي عليها بينما هي طال انتظارها حتى ملت من صمته وهتفت بنبرةٍ جامدة:
_خير يا أستاذ؟ حضرتك عاوز مين؟.
سحب نفسًا عميقًا ثم هتف بنبرةٍ ثابتة:
_عاوز حضرتك، ممكن أتكلم معاكِ يا مدام “نجلاء”؟.
رغم تعجبها مما وصلها من ردهِ إلا أنها أشارت له أن يلج الشقة وقد ولجها خلفها بصمتٍ وقد لاحظ صور “تَـيام” الموضوعة في أحد أركان الشقة، كانت الزاوية له بصورهِ وبجوائزهِ في لعبة الملاكمة أثناء صغرهِ، وأيضًا شهادات التقدير التعليمية، وكذلك الرياضية وصوره في شتى مراحل عمره حتى صورة خطبتهِ وضعت أيضًا وسط هذه الصور.
أتت من خلفهِ تسأله بتعجبٍ وهي تُخمن هويته:
_أؤمر؟ حضرتك تبع حد من المؤسسات الخيرية؟.
ابتسم رغمًا عنه والتفت لها يخبرها بصراحةٍ:
_أنا “مُـنذر الحُصري” ابن عم “تَـيام الحُصري” ابنك اللي اتبنتيه، أظن كدا الصراحة أحسن من كل حاجة علشان الكذب مش هيفيد، عرفتيني؟.
فورًا انقبض قلبها ونزلت دموعها وهي تحاول تحريك أهدابها هربًا من هذه العبرات بينما هو هتف بنبرةٍ منهكة وكأنه حقًا شعر بضئالة الأمل أو ربما كبر في عينيه حجم اليأس:
_أبوس إيدك أنا نفسي أتقطع لحد ماوصلت هنا، قبل ما تفكري تتعبي نفسك وتدوري على حاجة تتقال أنا روحت للست “محاسن” وهي اللي دلتني على الطريق، صدقيني أنا مُـت ١٠٠ مرة قبل ما أوصلك هنا، “تَـيام” مش ابنك صح؟.
ازداد بكاؤها أكثر وارتفع صوت نحيبها وهي تقول بنبرةٍ متقطعة:
_ابني، ابني اللي ربيته وشيلته وكبرته في حضني، إزاي تنكر ٢٨ سنة من عمري كلهم كانوا عبارة عنه هو وبس؟ أنتَ وصلت إزاي؟ دا أنا خلاص كنت نسيت إنه مش ابني دي، كنت ما صدقت أفرح بيه وأفرحه مع البنت اللي أختارها.
أغمض عينيه وهو يرى حالتها وبكائها فوجدها تقول من جديد بنبرةٍ باكية ازداد فيها الوجع:
_بس دا أمر ربنا ومش هعترض، أنا وعدت “صبري” إني مش هخبيه بس الأول أتأكد مين أبوه، دي كانت أمانته ليا، مين أبوه؟.
تعجب هو من ثباتها أمامه وكأن الجميع تأمروا عليه لمخالفة ظنونه، ماهذا؟ ألم تنكر حتى وتعترض؟ وتتمسك به؟ ألم تُصر على علاقتها به؟ ازدادت الأسئلة بداخلهِ مستنكرًا وبشدة صمتها وسكونها وقد سألها بحيرةٍ:
_غريبة، أنا قولت هتعترضي أو هترفضي أو تمنعي، أنتِ مسلمة بالأمر الواقع، أنتِ واعية بقولك إيه؟ أنا يعتبر جاي آخد منك ابنك، أكيد كلامي واضح، الدنيا دي كلها هتتغير عند الكل وأولهم أنتِ، أكيد أنتِ واعية صح؟.
حركت رأسها موافقةً وهتفت بوجعٍ تفاقم عن السابق:
_واعية، كان معاه حق “صبري” لما قالي لازم أهيأ نفسي لليوم دا، كل يوم كنت بخاف بابي يخبط إن حد ييجي يقولي أنا عاوز ابني، كل يوم كنت بخاف على الأمانة اللي جوزي سابها في رقبتي أني أموت قبل ما أعرفه، حقك يابني وحق أبوه، بس سيبني أنا أعرفه بطريقتي، أنا حالفة على كتاب ربنا ومش هكدب في حاجة زي دي.
أمتن حقًا لها ولمشاعرها ولزوجها النبيل الذي فعل مثل هذا الشيء قبل وفاته وقد لاحظ تأخره ومن الممكن أن يحضر “تَـيام” في أي لحظةٍ وحينها تحدث معها وأعطاها رقمه وأخذ منها الرقم الخاص بها ثم رحل من البيت.
أما هي أغلقت الباب باكيةً ثم أرتمت على الأريكة تبكي بحرقةٍ ولوعةٍ على ابنها وعلى فراقٍ كُتِبَ على طرقاتهما، وجع أكبر من قدرة تحملها وأقسى من كل شيءٍ، هي أمه وهو ابنها وأنتهى، هل فقط لأنها لم تحمله بداخل رَحمها فهي لم تكن أمه؟ ماذا عن حبها له؟ ماذا عن سهرها لأجلهِ ورعايتها ومرافقتها؟ كيف تخبرهم أنها أمـه؟ تبًا للوعد الذي قطعته وتبًا للحُب الذي ألزمها بمثل هذا العهد الذي قطعته هي لِتُجبر على مثل هذا الشيء ذات يومٍ.
__________________________________
<“أنا مطروف العين بِكِ، فأين العالم من بعدكِ”>
لا شك أنك ستأتي وأنا سأبقى في الإنتظار،
أنا حتمًا سأنتظر حتى تمل أنتَ و تيأس من عودتك الديار، لكني سأنتظر حتى نكون معًا ونبقى سويًا بالجوار
وها قد أتى من أنتظره القلب بوجههِ البشوش وصف سيارته أمام البناية وترجل منها ليجد “قـمر” تبتسم له فيما تحدث هو بأسفٍ لها:
_أنا آسف، آسف إني أتأخرت عليكِ.
ابتسمت هي له ثم أقتربت منه تمسك كفه وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_فداك يا “أيـوب” المهم إنك تكون بخير.
أقترب منها يُلثم جبينها ثم هتف بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم لها وقد حقًا شعر بالأمان فور رؤية وجهها البريء:
_بخير علشان شوفتك، يلا؟.
أومأت موافقةً له ثم ركبت السيارة بجواره وركب هو بعدما تأكد من سلامتها ثم قاد سيارته، وللحق هو في أوج لحظات حماسه لكي يذهب معها بهذه النزهة، يتحمس لرؤية رد فعلها، يتحمس لسماع حديثها، يرى فيها صورة أخرى لما يراها غيره وكأنه يرى فيها أمه وهو الطفل الذي حُـرِمَ منها، لم يجد طوال حياته شخصًا يشعر بما يشعر هو به مثلها هي، لذا تستحق أن تكون معه في هذا المكان، لذا قاد السيارة مُسرعًا حتى خرج على أطراف محافظة القاهرة وغالبًا شارف على الخروج لأطرافها وقد انتبهت لذلك “قـمر” التي حركت رأسها نحوها بخوفٍ فوجدته يقول بنبرةٍ هادئة:
_متقلقيش، ربع ساعة وهنوصل.
أومأت له موافقةً وبالفعل أقل من المدة المذكورة أوقف السيارة أمام مبنى يبدو عليه أنه مركز صيانة على مستوى عالٍ، وقد حرك رأسه لها لكي تنزل من السيارة وقد سبقها هو وعاونها ثم أمسك كفها ودلف معها للداخل حتى أصبحت أمام المكان مُباشرةً ورأت اسم “أيـوب” عليه فابتسمت بلهفةٍ والتفتت برأسها تسأله بعينيها وحينها هتف بنفس الهدوء الذي تخللته لمحة حماس:
_دا ياستي حلم حياتي كلها، مركز تصليح السيارات اللي عيشت كل لحظة في هندسة بحلم بيه، دا تعب السنين كلها والدراسة والمجهود، أنتِ أول واحدة برة عيلتي تيجي هنا ويشرفني إنك تكوني شريكتي في كل لحظة فيه.
ابتسمت له بسعادةٍ وقد لمعت عيناها بفرحةٍ له فيما ابتسم هو أيضًا نتيجة ابتسامتها وهو يتابعها بعينيهِ وحينها قالت بنبرةٍ مختنقة من فرط حماسها:
_مش معقولة، المكان دا بتاعك؟ طب ليه مش في الحارة وليه مش قايل لحد؟ ولما أنتَ عندك الشغل دا ليه مش بتقول يا “أيـوب”؟.
سحب نفسًا عميقًا ثم هتف بصدقٍ وكأنه تيقن أن البوح لها راحةً لم يدركها طوال حياته وهو يكتم الحديث بداخلهِ، لذا أقترب منها وأمسك كفيها بكلا كفيه وهتف بنبرةٍ متباينة المشاعر:
_علشان أنا للأسف أكبر ذنب عملته في حياتي كان بسبب الشُغلانة دي، كنت ناوي أبطلها خالص بس غصب عني مش قادر، أنا بحب شغلي وبحب الهندسة والتصليح وبحب أخرج الموهبة دي، بس بما إنك مش غريبة عني ومني في الأخر، أنا للأسف جت فترة واشتغلت في مكان زي دا، كنت باخد العربية ميتة متنفعش حتى خُردة، أرجعها عربية زيرو من كله، كنت فاكر إني بصلح للناس والأمر بيعدي عادي، بس طلعوا بيضربوا للعربيات ورق، وتتبدل في الجمارك، وقطع الغيار الصيني يتحط إنها ألماني أصلي، واللي يشتري يلبس بقى، وفي الأخر العربية لو حصلها حاجة فلوسه تضيع، ساعتها ناس كتير خسرت بسببي وناس حالها وقف، وأنا فرحت بكلمة البريمو اللي طلعت عليا، بس لما عرفت كرهت العربيات والميكانيكا والهندسة، بس بقيت أتمنى يكون عندي مكان ليا، وفي الأخر بقى عندي المكان دا من سنتين بس، إيه رأيك؟.
ضحكت رغمًا عنها ضحكة خافتة انفلتت من بين شفتيها وهتفت بنبرةٍ هادئة بعدما تتفست الصعداء لإدخال الهواء داخل رئتيها:
_رأيي إني فخورة بيك أوي، ومبسوطة إنك بدأت تثق فيا وتحكيلي اللي مزعلك واللي قلقك، صدقني أنا مش عدو ليك، أنا أنتَ وأنتَ أنا يا “أيـوب” أنا في الأخر مكاني معاك أنتَ، وبيتي في الدنيا هيكون أنتَ برضه، أنا لأخر لحظة في عمري مبسوطة أوي إني نصيبك وأنتَ نصيبي، ها إيه رأيك؟.
قلدته في طريقته وهي تسأله وقد ضحك عليها وضمها هو بأحد ذراعيه ومسح على ظهرها وهو يتابع المكان بعينيه ولأول مرة يشعر بالراحة من قدومه إلى هُنا، كان المكان وسط الطريق العام على حدود محافظة القاهرة، عبارة عن مبنى من ثلاثة أدوار، وجهته سوداء اللون من الرخام، اسمه يتوسط الوجهة وأسفل منه عمل المكان تفصيلًا بعد إجمالًا، ويبدو أن المكان له عملائه وهذا ما بدا لها من السيارات الموجودة بداخله والشباب الذين يعملون بالداخل.
أمسك كفها ثم دلف المكان وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_السلام عليكم يا شباب، وحشتوني.
انتبه له الشباب فاقتربوا منه يرحبون به وبقدومهِ بعد غيابٍ قارب على شهرٍ وأكثر وهو يتابع العمل بعيدًا عن الجميع، وقد وقفت “قـمر” بجواره تتمسك بكفهِ وهي تشعر كأنها طفلة صغيرة ترى العالم لمرتها الأولى برفقة والدها، أما هو فحرك رأسه لها ثم هتف بنبرةٍ هادئة وهو يبتسم لها ويحتويها بعينيه:
_تعالي شوفي شغلي قبل وبعد.
دلفت معه المكان بحماسٍ أخذ يزداد نسبيًا وقد ذُهلت حينما رأت عمله الرئيسي، السيارات التي قام بإصلاحها والسيارات المُعدمة التي لم تعد تُجدي بأي شيءٍ ثم حَولها هو إلى أخرى تُنافي سابقتها كُليًا، الشباب الذين يعلمون بالمكان أيضًا يبدو أنه انتقاهم بإحترازٍ شديد حيث يظهر عليهم الإحترام والأخلاق الحميدة، ابتسمت وهي تشهد على نجاحهِ وترى راحته بتواجدها معه.
__________________________________
<“عانقني ربما يكون العناق هو الأخير”>
حل الليل تمامًا وأصبح حالكًا لكن الظلام الذي يملأ القلوب أكثر منه، كلما مرت الساعات عليها بمفردها وهي تبكي منذ أن رحل ضيفها كانت تشعر أنها شارفت على لفظ أنفاسها الأخيرة كانت كما هي على الأريكة تبكي بعدما قامت بمكالمةٍ هامة للطرف الذي سيسعفها في هذا الموقف، وقد دلف ابنها في هذه اللحظة يلقي عليها التحية، وحينها تسابق كلا كفيها لمسح دموعها لكن “تَـيام” لاحظها وحينها أقترب منها راكضًا وهو يسألها بلهفةٍ:
_مالك يا ماما؟ أنتِ معيطة ليه؟ حد زعلك؟.
حركت رأسها نفيًا وهي تبتسم له إجبارًا لشفتيها ثم هتفت بنبرةٍ مختنقة من أثر البكاء:
_لأ يا حبيبي، أنا بس سرحت شوية و “صبري” وحشني أوي، أفتكرت إنه كان نفسه يفرح بيك بس ملحقش، متزعلش نفسك ومتشغيلش بالك، أسخنلك تاكل؟.
أبتسم لها بحنوٍ ثم قال بنبرةٍ أقرب للتعب:
_لأ متتعبيش نفسك، أنا كنت مع “بيشوي” في المخزن بنخلص حاجات وورق مهم وجوعنا بس الحج بعتلنا أكل مع الصنايعية، قومي نامي أنتِ وأنا هغير وأنام علشان هروح المصنع بدري بكرة ورايا حاجات مهمة هناك.
أومأت موافقةً له ثم تحركت هاربةً منه قبل أن يفهم أنها تكذب عليه لكنها توقفت في منتصف الطريق قبل أن تدلف الرواق المؤدي إلى الغُرف ثم التفتت له تطلب منه بنبرةٍ أقرب للتوسل بحيث لم تظهر مجرد طلبٍ فقط:
_”تَـيام” ممكن تيجي تنام في حضني؟.
انتبه لها وشعر أنها لم تكن على ما يُرام، هي حقًا على غير المعتاد لذا ترك هاتفه على الأريكة ثم أقترب منها يسألها بقلقٍ بلغ أشده عليها:
_مالك يا ماما؟ فيه حاجة تعباكِ طيب؟.
حركت رأسها نفيًا وأجبرت شفتيها على التبسم وهتفت بنبرةٍ مختنقة بعدما داهمها البكاء وكادت أن تبكي من جديد:
_لأ يا حبيبي، أنا بس عاوزة أشبع منك قبل ما تمشي.
انتبه لكلمتها الغريبة فيما لاحظت هي الأخرى ما تفوهت به لذا عدلت حديثها وهي تقول بنبرةٍ متعجلة:
_قصدي يعني خلاص قربت تتجوز وتسيبني، ينفع؟.
بعد مرور دقائق قليلة، كانت هي تتسطح الفراش وقد أتى هو وجاورها بعدما بدل ثيابه ثم وضع رأسها على صدرهِ فوجدها تتسمك به بقوةٍ وحينها مازحها بسخريةٍ بعدما ضحك على ما سيتفوه به:
_إيه يا “نـوجة”؟ هو “صبري” وحشك أوي كدا؟.
ضحكت من بين دموعها رغمًا عنها وعن حزنها بينما هو ضحك معها ثم مسح على ظهرها ولثم قمة رأسها وجعل رأسها تتوسد صدره بوضعٍ كثر أريحية لها، وتمسك بها هو الأخر وحقًا شعر بفراغٍ بداخلهِ لم يسبق له أن يشعر به، قلبه يبدو غريبًا بداخلهِ وكأنه ساكنٌ يدلف المكان لمرتهِ الأولىٰ، لكنه نحى فكره وركز مع والدته التي تتوسد صدره.
__________________________________
<“زاد التجبر في وادينا، هذه هي أراضينا”>
في اليوم التالي تحديدًا بوسط النهار..
كان “يـوسف” في مقر عمله الأصلي شركة البترول وقد ذهب إلى هناك بعدما وصلته رسالة إلكترونية تطلب مجيئه إلى هناك وقد انعقد إجتماعًا هامًا ترتبت عليه عدة نتائج لم ترضيه بأكملها لكنه لم يود التسرع في الرفض، لذا وافق على مُهلة التفكير ثم شارك في الإجتماع حتى نهايته وما إن خرج وفتح الهاتف وجد عدة إتصالات من “نَـعيم” جعلته يهاتفه بقلقٍ وما إن فُتِحَ الخط هتف الأخر بنبرةٍ جامدة يلقي عليه أمر الحضور:
_تحضر دلوقتي قدامي، بسرعة.
أغلق الهاتف بعد جملته بينما “يـوسف” خرج من الشركة ثم توجه إلى مرآب السيارات وقادها متوجهًا إلى هناك بسرعةٍ كُبرى وقد بلغ القلق أشده بداخلهِ لكنه حاول أن يتريث بفكرهِ حتى وصل إلى هناك بأعصابٍ تُلِفَت تمامًا وقد أرشده أحد العاملين إلى مكان تواجد “نَـعيم” الذي جلس بغرفة مكتبه وقد وصل “يـوسف” إلى المكتب وفتحه وهو يسأل بخوفٍ:
_أيوة يا حج؟ خير فيه حاجـ.….
بتر حديثه ما إن رأى أمامه هذا الضيف الغير مرحب به وحينها دلف متخذًا وضع الهجوم وهو يسأله بنبرةٍ جامدة أقرب في وتيرتها للإنفعال:
_أنتَ بتعمل هنا إيه؟ وجاي ليه؟.
كان “إيـهاب” يجلس مجاورًا لـ “نَـعيم” بينما “يـوسف” وقف مقابلًا لـ “نَـزيه” الذي رمقه بسخطٍ من عينيهِ وهتف بنبرةٍ جامدة هو الأخر:
_جيت آخد حق بنتي، طالما جوزها مكبر دماغه، بنتي محدش يمد أيده عليها طول ما أنا عايش، بطل شغل الهمجية بتاعك دا، بس مش غريبة عليك وعلى أصلك.
أحتقن وجه “يـوسف” وقد أشتعل فتيل غيظه وكاد أن يهجم عليه لكن صوت “نَـعيم” أوقفه حينما هتف بشموخٍ:
_وماله أصله يا باشا؟ أنتَ جاي هنا تخبط في الكلام؟ أنتَ جيت وطلبت تدخل وطلبت تشوفه وكل طلباتك كانت مُجابة، إنما تغلط فيه في أرضه دا مش مقبول بيه هنا.
انتبه له “نـزيه” وهتف بنبرةٍ عالية وكأن سبب الغيظ من الأخر يتوارى خلف سبب زائفٍ يزعمه هو:
_بقولك خلى الهانم اللي متجوزها تمد أيدها على بنتي، أنا هنا علشان حق بنتي اللي الأستاذ بينتقم منها بطريقة رخيصة، نسي نفسه؟ دا أنا آكله بسناني.
حسنًا يبدو أن خروج الوحوش من كهفها يكون بسبب قدرة البشر على قلب الموازيين وتزييف الحقائق وحينها قام “يـوسف” بدفع الطاولة بقدمهِ وصرخ فيه منفعلًا بقوله الذي خلا من الأدب:
_أبـوك لأبـو بنتك لأبو اللي جابكم أنتوا الاتنين، أنتَ مجنون ولا إيه ؟ حق مين ومين دا اللي نسي نفسه؟ متخلينيش أوريك شغل الجنان بحق ولو فيه دكر عندك ييجي يخرجك من تحت أيدي..
رمىٰ حديثه الغاضب وكاد أن يقترب منه لكن “إيـهاب” رفع صوته يردع هذا الفعل حينما انتقض صارخًا باسمه وهو يُناديه قائلًا:
_”يــوسف” !! أنتَ اتجننت؟ نزل إيدك وفوق لنفسك.
التفت له “يـوسف” يصرخ في وجههِ بقولهِ:
_أنتَ مش سامع يا “إيـهاب”؟ هي ناقصة رمي بلا؟ ما يسيبوني في حالي بقى أنا زهقت يا أخي، يسيبوني في حالي بدل ما أخليهم يسيبوا الدنيا كلها ويغوروا في داهية منها، جاي بيلومني أنا؟ مايروح يربي بنته
أقترب منه “إيـهاب” يحول بينه وبين “نزيه” الذي ظل يحدجه بشررٍ من عينيهِ فيما تحدث “إيـهاب” بقوله الصارم يهدد الأخر بصراحةٍ:
_بص يا باشا أنتَ جيت هنا بيتنا ضيف وليك حق، وعدم المؤاخدة كدا يا عرب في كتاب المرجلة مينفعش راجل يقصدك وتخلا بيه، ومن جِـه دارك قلب الحق عليك، إحنا مقلناش بيك عدم المؤاخذة، بس أنتَ جاي تقل من راجل في بيته، أسأل أي عيل خايب هيقولك ميصحش كدا، فبدل ما تفتح صدرك في وشنا روح ربي اللي عندك الأول وتعالى أتكلم، نورت يا باشا.
قوته في الحديث وعنفوانه جعلا “نزيه” يطالعه بإزدراءٍ ثم رحل من المكان لكن قبل إتمام المغادرة رمى “يـوسف” بنظرة غريبة لم ينساها الأخر وحينها ركل “يـوسف” المقعد لعله بذلك يخرج طاقة الغضب الممتلئة بداخلهِ، وقد دلف “إسماعيل” ومعه “مُـحي” وكلاهما يسأل عن سبب الزيارة وفي هذه اللحظة صدح صوت هاتف “يـوسف” برقم “مادلين” فجاوب عليها بجمودٍ وهو يقول:
_عاوزة إيه يا “مادلين” أنا مش فايقلك.
هتفت هي بنبرةٍ خافتة أقرب للهمس:
_بص، “سامي” بيلعب في ودان “عاصم” أنه يبيع المصنع لـ “نزيه” ويفتح شركة تانية تبقى برئاسة “نادر” بدل الشركة اللي أنتَ فيها، واللي فهمته إنه عاوز يخلي “نزيه” شريك في كل حاجة علشان يضيقوها عليك، أتصرف بقى.
تجمد محله وكأن حركة الدماء عاصته وأعلنت عن توقف دورها، وحينها وقف لثوانٍ قليلة ثم أنتبه لما قيل له فخرج مثل الإعصار من البيت وخلفه الشباب حتى تقابل مع “سمارة” التي ظلت تُناديه وتُنادي على الشباب لكنه تجاهل الجميع وركب سيارته يقودها بغضبٍ أعمى وحينها وصل “سراج” وأوقف سيارته ونزل وهو يتحدث مع “نـور” بنفس لحظة تحرك “يـوسف” بالسيارة وحينها أنتبه الأخر لأصوات الشباب فاقترب منهم يسأل بتعجبٍ بعدما أغلق هاتفه:
_فيه إيه؟ وماله ابن المجانين دا؟ حد جه جنبه؟.
هتف “إسماعيل” بقلقٍ ونبرةٍ ضائعة:
_معرفش، جاله مكالمة خليته يطلع يجري كدا.
زفر “نَـعيم” بقوةٍ بينما “إيـهاب” دلف للداخل يغير ثيايه حتى يلحق بهذا المتهور رغم علمه باستحالة حدوث هذا الشيء أما البقية فوقفوا يطالعون أثره وأثر رحيله بتخبطٍ فحتى اللحاق به في لحظة تهوره يصعبها هو على نفسه قبل الجميع.
في داخل السيارة أخرج “يـوسف” هاتفه وطلب رقم “أيـوب” واستعلم عن مكانه بجمودٍ ثم أغلق الهاتف في وجههِ دون أي إضافات أخرى وقد وصل إلى حارة “العطار” وتوجه إلى الصالة الرياضية التي يتواجد بها “أيـوب” وأخبره أنه هناك، دلف بعنفٍ بينما الأخر كان يجلس على الأريكة الجلدية في إنتظاره وقد هتف “يـوسف” بنبرةٍ عالية أقرب للإنفعال في وجهه دون أن ينتبه لنفسه:
_أسمع !! أنا هاخد أمي وأختي واللي يخصني وهنروح بيت “الراوي” البيت اللي أبويا دفع فلوسه وحوشه علشاننا، مش هستنى هنا أتختم على قفايا، ومش هتعارض ولا هتقدر تقف في وشي.
انتبه “أيـوب” له ولحديثه ولطريقتهِ لذا ترك محله ووقف مقابلًا له ولم يفصل بينهما سوى طاولة قصيرة زجاجية وحينها هتف “أيـوب” بتهكمٍ:
_ومين بقى اللي هيخليك تخرج من هنا؟ ومين أصلًا هيسمحلك تاخد مراتي وتمشي؟ فوق يا “يـوسف” وبطل هبل، مش لحظة الشيطان مروقك فيها هتروق الكل معاك.
ازداد غضب “يـوسف” منه فسأله بتهكمٍ متخذًا منه وضع الهجوم:
_نـعم يا أخويا؟ يعني إيه مين هيسمحلي؟ عاوزني أقعد جنبك لحد ما حقي يضيع؟ عاوزني أضيع حقي وحق أبويا وفي الأخر يطلعولي لسانهم زي كل مرة؟ أخر كلامي قولته وبكرة همشي من هنا.
التفت راحلًا بعدما ألقى حديثه المنفعل وهو يحاول الهرب من النزاع بداخلهِ لكن صوت “أيـوب” أوقفه بنبرةٍ عالية هو الأخر وقد شعر بالضيق والغيظ منه هو الأخر:
_عاوز تمشي أنتَ براحتك، إنما مراتي حسك عينك تقرب منها، أمشي أنتَ وروح مطرح ما تحب طالما أنتَ غبي، لو عاوزني في ضهرك أرجعلك حقك مش هقولك لأ، إنما مراتي أنسى، إذا كنت مش خايف عليها أنا خايف.
حينها ألتفت له مُجددًا وصرخ فيه مستفسرًا بطاقةٍ أعلنت عن نهاية تحملها وبداية ضرب نواقيس الخطر وقد مال بجسده ِ للأمام:
_أنــتَ هتساومني على حقي ؟؟
صرخ بها “يوسف” مُنفعلًا وهو يضرب على سطح الطاولة الزجاجية بكفهِ و “أيوب” يقف أمامه بثباتٍ لم يهتز من الأساس ثم أضاف من جديد بنفس الثبات:
_مش بساومك بس بطلب منك بالعقل، موافق؟؟
حينها اقترب منه “يوسف” يتحداه بنظراته يهتف بحدةٍ يعانده بها:
_لأ، لو أخر واحد في الدنيا مش هتطول مُرادك.
اننفخت أوداج “أيوب” وبات الغضب باديًا على ملامحه؛ لذا هتف بتحدٍ للأخر وللأسف لم يكن في محلهِ بهذه اللحظة:
_يبقى أنتَ اللي اختارت، أنا جيتلك من الأول أهو أعرض عليك مساعدة وخليك عارف إن كل حاجة كانت علشان مصلحتك أنتَ، بس للأسف أنتَ حمار مش فاهم وعاوز تمشي بدماغك، بس تاني هقولك مراتي لأ.
كان “يوسف” حينها في أوج غضبه ولم يكن بحاجةٍ تُزيد غصبه المشحون وكأن “أيوب” كيس الملاكمة أمامه فاقترب منه في محاولةٍ لضربه في وجهه وقد تفاداها “أيوب” بأعجوبةٍ جعلت “يوسف” يركز بصره عليه مثل الصقر الجارح فتلك الضربة لم يَفلت منها سوى المحترف؛ لذا رفع قدمه بُغتتةً يضرب “أيوب” في بطنهِ وقد نجح في تسديد الضربة له.
حينها تمالك “أيـوب” نفسه وتمكن من لملمة شتاته وأعتدل على الفور بدون أن يترك له مجالًا ينتصر به عليه، ثم رفع ذراعه يكبل عنق “يوسف” وهو يقول بأنفاسٍ مُتقطعة:
_خِـف تعوم يا هندسة، ميغركش شكلي؛ المظاهر خداعة.
رغم دهشة “يوسف” من سرعة الأخر إلا أنه توقع شيئًا هكذا، لذا رفع ذراعه الأيسر يحاوط عنق “أيوب” وهو يحاول بصعوبةٍ نتيجةً لجسد “أيـوب” المُلقى عليه، وقد نجح في الوصول لمراكز الإحساس الذي يعلم هو خطورتها في الجسد ومدى تأثيرها، بينما “أيـوب” فهم ما يفعله الأخر لذا قرر رخو أعصابه وقد نجح “يوسف” في حيلتهِ حتى ألتفت ولَكم “أيـوب” في وجههِ وهو يقول بنفس الصوت المتقطع:
_لو أنتَ ملاكم…أعتبرني حلبة الملاكمة كلها يا شيخنا.
نجح في تسديد اللكمة له وللأسف في هذه اللحظة كلاهما في أوج لحظات الغضب، القوتان كانتا شبه متساويتين، كلاهما على درجةٍ عالية من الكُفء والقوة البدنية شبه متساوية، يشبه الأمر أحد الأحلاف الذي تفكك لتنتج عنه قوات متضاربة مع بعضها وكل قوة تنفرد بنفسها في مُعاداة الأخرى، اليوم ينقلب الإتحاد إلى عداءٍ قد ينتج عنه قتيلًا، عداءٌ تحمله حلبة المُلاكمة الوهمية التي تتصارع بها أفكار العقول لينتج عنها نزاعًا يدمر أعتى الأحلاف.
__________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى