رواية غوثهم الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء الخامس والعشرون
رواية غوثهم البارت الخامس والعشرون
رواية غوثهم الحلقة الخامسة والعشرون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الخامس والعشرون”
“يــا صـبـر أيـوب”
_________________________
تَوَكَّلتُ في رِزقي عَلى اللَهِ خالِقي
وَأَيقَنتُ أَنَّ اللَهَ لا شَكَّ رازِقي
وَما يَكُ مِن رِزقي فَلَيسَ يَفوتَني
وَلَو كانَ في قاعِ البِحارِ العَوامِقِ
سَيَأتي بِهِ اللَهُ العَظيمُ بِفَضلِهِ
وَلَو لَم يَكُن مِنّي اللِسانُ بِناطِقِ
فَفي أَيِّ شَيءٍ تَذهَبُ النَفسُ حَسرَةً
وَقَد قَسَمَ الرَحمَنُ رِزقَ الخَلائِقِ
_الإمام الشافعي.
__________________________________
قد تكون كل الطرق خائنة و أنتِ وحدكِ درب الأمان، وربما كنتُ غريبًا أصبحتُ مُستأنسًا بكِ، وربما كنت لا شيء وبكِ غدوت كل شيء، والآن أخشى ذات يومٍ تسأليني “من أنتَ” فأتلعثم في الجواب، فكيف لي أن أملك الجواب وأنا عرفت الدرب بكِ وتلاشت عني غُربتي وذهب ألم كُربتي، وكي أكون صادقًا لم أكتشف كُربتي إلا بعد إيجادك، سبق وقال الإمام علي أن “فقد الأحبّة غُربة” وأنا كُتِبَ عليَّ داء الغُربة طوال العُمر وكان الدواء فيكِ أنتِ، فعسى أن يسعني الصبر كي أنول حُبكِ حتى وإن تطلب الأمر أن أكون في صبري كما صَبِرَ “أيوب” وأريد منكِ سماع قلبي حين يقول أن الرحمة في وصالك والقسوة في معايشته منكِ معضلة “يعقوب”، فلا تحكمي عليَّ بالغُربة وقد مر العُمر وكفى القلب وكفاني من العيش في الكُربة.
<“ربما يكون فرحًا…لكن أين الشعور”؟>
كان بين ذراعي والدته بعدما قطع لها وعدًا بمجيئه لها من جديد وقد صدح صوت جرس الباب فتحرك “يوسف” يفتحه وفور فتحه له وجد “علاء” أمامه مما جعل عينيه تتسع بشررٍ ازداد عنده حينما هتف “علاء” بنبرةٍ هادئة وأدبٍ يخالف طبعه:
_مساء الخير ممكن كلمتين؟؟.
نظر له “يوسف” بتأهبٍ كمن ينتظر ساعة الصفر ليعلن هجومه حتى هتف الأخر بما أشعل نيران صدره:
_أنا عرفت إنك أخو “قمر” وعلشان كدا جاي طالب القُرب منك فيها.
انفرجت شفتاه عن بعضهما بذهولٍ مقروءٍ من خلال تعابير ملامحه الجامدة فيما أتت “غالية” من الداخل حتى تسأل عن هوية الطارق وما إن وجدت “علاء” أمامها تحدثت بنبرةٍ جامدة توبخه:
_أنتَ ليك عين تعتب هنا يا بجح ؟؟ جاي ليه بعد عملتك السودا دي؟؟.
هتف ببرودٍ لا يتناسب مع الموقف بأكمله:
_جاي أطلب أيد الآنسة “قمر”.
شهقت “غالية” بصدمةٍ جلية على ملامحها واتساع بؤبؤيها وقد فرغ فاهها باتساعٍ وهي تحرك رأسها بآلية شديدة نحو ابنها الذي التمع الشر في عينيه وأمسك الأخر من تلابيبه يسحبه نحوه وهو يهدر من بين أسنانه بوقاحةٍ كعادته:
_دا عند أمك يا حيلة أمك، “قمر” مين يالا اللي عاوز تتقدم ليها؟؟ دا أنا هطلع روح أهلك في أيدي الليلة دي.
اختنق “علاء” بين قبضتيه وصارع لأجل البقاء _الفاني_ وهتف بكلماتٍ يقصدها ويعلم صداها عليهم:
_ماهو الشيخ “أيوب” سافر ومش هنا، أنا عاوز أبدأ من جديد بما يرضي الله معاها، قولت إيه ؟؟.
هتف “يوسف” بتهكمٍ وقد ازدادت قبضتاه في قوتهما على الأخر:
_قولت إنك تسمعني الشهادة يالا، جيت لقضاك برجلك.
فُتِح الباب المقابل لهما في هذه اللحظة وخرج منه “عُـدي” بخطواتٍ أقرب للركض وخلفه “فضل” الذي سأل عن سبب هيئتهما بهذا الشكل الغريب، فيما تحدث “عُـدي” بنبرةٍ جامدة يهين الأخر بقوله:
_ولا ؟؟ إيه اللي جابك هنا مش مكفيك اللي حصل والعلقة اللي كلتها مني ؟؟ تحب تضرب تاني ، شكلك اتكيفت.
نظر له وهو يقول بصوتٍ أقرب للإختناق كمن يُحارب لأجل البقاء حيًا:
_جاي أطلب أيد الآنسة “قمر” بما إن أخوها رجع عاوز أبدأ من جديد بما يرضي الله معاها، غلطت في إيه أنا ؟؟.
استمعت “قمر” لحديثه من الداخل فخرجت تقول باندفاعٍ في وجهه:
_مين قالك إني ممكن أوافق عليك أصلًا؟؟ أنتَ لو أخر راجل في الدنيا مستحيل أوافق عليك، بعدين بأنهي حق تيجي لغاية هنا تطلب طلب زي دا، وتعرف أخويا منين؟؟
تدخل “فضل” يقول بثباتٍ وهو يُلقي بحديثه دفعةً واحدة:
_بعدين “قمر” مخطوبة أصلًا، الشيخ “أيوب” اتقدملها وقعد معها واتفقنا على كل حاجة، جاي تعمل هنا إيه بقى؟؟
نظر له “يوسف” بذهولٍ مما وقع على سمعه وكأنه يستنكر هذا الحديث الذي تفوه به خاله، وقد أضاف الأخر مُتكئًا على أحرفه يقصد التقليل والإهانة الموجهة له:
_أظن يابني كدا أي حد عاقل عنده شوية تفكير هيعرف إن “أيوب” أحق بيها منك، مفيش مقارنة أصلًا تنفع تجمعكم سوا، روح يابني ربنا يكرمك بعيد عننا والباب دا متعبتهوش تاني، اتفضل.
أشار له بالخروج من البيت وللحق لم يكن مجرد خروجٍ عابر لضيفٍ أتى ورحل، إنما هي لذة الهروب بذاتها، شبه “علاء” نفسه بقطٍ كُتِبت له فرصة الحياة الجديدة بعدما وقع في عرين أسدٍ أوشك على تفتيت أحشائه بمخالبه، هل لهذا السبب عُرف أن القط يملك سبعة أرواح ؟؟ أم أن القدر في كل مرّةٍ يكرمه بأكثر مما يستحقه،هكذا غرق “علاء” في تفكيره حينما ارتخت قبضتا “يوسف” عنه وعاد ليمسك تلابيبه من جديد يهتف من بين أسنانه وقد تفاقم شعور الغضب بداخله واتضح هذا من خلال العرق النافر الذي ظهر بوضوحٍ بعنقه ومن خلال نظراته التي نطقت بكل ما بث الرعب في قلب الأخر:
_أسـمع !! لو لمحتك تاني صدفة حتة أنا مش هفكر في ثانيتين أني أخد روحك، روح يا روح أمك وريح جنبها بدل ما أخليك ترتاح لأخر عمرك، فاهم ؟؟ غــور.
دفعه من أمامه حتى أوشك على السقوط من درجات السُلم لكنه تماسك وهرب أخيرًا بخطواتٍ أشبه للركض من أمامهم، فهتف “عُـدي” بتعجبٍ وحيرةٍ من موقفه:
_الواد دا عبيط؟؟ طب “أيوب” سافر ييجي هو يتقدم خلاص مفيش حياء ولا خِشا كدا عند الناس ؟؟.
هتفت “قمر” بذهولٍ مما تحدث به “عُـدي” وبدت كما الغريبة وسطهم وهي تستمع لهذا الحديث:
_هو “أيوب” سافر؟؟ سافر إزاي.
التفت لها “يوسف” يسألها بجمودٍ لم يقو على احجامه وكأن أعصابه باتت تشكل خطرًا عليه أمامهم وهو في ذروة الغضب حتى شعرت هي بالخوف منه:
_وهو أنتِ فيه إيه بينك وبين “أيوب” ؟؟ وإيه حوار أنه خطيبك دا ؟؟ هو أنا بيتلعب بيا ولا إيـه؟؟.
تلقائيًا عادت خطوة للخلف وتمسكت في والدتها، نظراته لم تكن عادية وحركة صدره توشك بأنه على وشك الانفجار كما بركانٍ ثائرٍ أوشك على الخروج من باطن الأرض، وقد لاحظت “غالية” حالته فأوقفته بقولها:
_خطيبها، “أيوب” جه أتقدم ليها بس مرضاش يعمل أي حاجة غير لما يوصلك بيها وهو قالي إنه مش هياخد خطوة رسمي غير في وجودك، الراجل كتر ألف خيره.
هدأت ثورة “يوسف” التي أوشكت على الاندلاع مثل النيران والإعلان عن غضبه لاحظ خوف شقيقته منه من خلال نظراتها التي اتضحت أمامه ومن خلال تمسكها بوالدته فشعر بالضيق ورفع كفه يمسح وجهه بعنفٍ ثم اقترب منها وقد رآها تعود للخلف ظنًا منها أنه سيمسكها بعنفٍ فوجدته يتحدث بنفاذ صبرٍ ووجعٍ اتضح في نبرته المُحشرجة:
_أنا مش هضربك يا “قمر” أنا كنت هحضنك.
نكست رأسها للأسفل بخزيٍ اتضح عليها فوجدته يقترب منها خُطوةً ثم رفع وجهها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_حقك عليا علشان اتعصبت كدا، بس دا معناه إنك مش هتيجي معايا برضه ؟؟.
حركت رأسها نفيًا وهتفت بنبرةٍ مختنقة:
_هاجي معاك، هترضى تاخدني بقى؟؟.
ابتسم لها واقترب منها يطبع قبلة حنونة فوق جبهتها وهتف بنبرةٍ هادئة صادقة تعبر عن كل حبه لها:
_أنتِ لو طلبتي تاخدي روحي مش هتأخر عنك، اجهزي وأنا هروح أغير وأرجعلك تاني تكوني خلصتي.
حركت رأسها موافقةً ثم تحركت من أمامه بينما هناك زوج من الأعين كان يراقبهما باهتمامٍ جليٍ وفور انسحاب ابنتها من المكان هتفت بثباتٍ لابنها:
_احنا محتاجين نتكلم في كل حاجة، أكيد مش هنركن كل دا يعني ونتعامل عادي، بس خلص الليلة دي وتعالى، تمام؟؟.
حرك رأسه موافقًا بقلة حيلة ثم اعتذر منهم ونزل من المكان وهو يشعر بالعديد من المشاعر الثائرة الغير مفهومة، التيه….الوحدة….الغضب…الاستغلال…من هو وأين هو وكيف أصبح هنا ؟؟ هل سيسمح للأخرين بالمشاركة في أحبته؟؟ هل ظل غريبًا يعيش في كربةٍ لكي يأتِ ويودعهما من جديد، “قمر” هل ربحها “أيوب” ؟؟ يبدو وأنه دخل في معضلةٍ جديدة تُحتم عليه الاستسلام أو الاستبسال، أيهما أقرب لكَ أيها المُحارب.
خرج “علاء” من البيت بعدما انتصر بهروبه وفور تأكده من الابتعاد عن المنطقة تمامًا وأنه كما ذرات الهواء غير مرئي تمامًا ركب وسيلة المواصلات الدارجة في المناطق الشعبية وأخرج هاتفه وصدره يعلو ويهبط بحركاتٍ ثائرة غير مُرتبة وطلب رقمًا وهو ينتظر الجواب على أحر من الجمر وفور وصوله الاتصال من الطرف الأخر هتف بلهفةٍ:
_أيوا يا أستاذ “أيهم” أنا عملت اللي قولت عليه، أظن لحد كدا حلو أوي ونفدت بروحي منه، ياريت اللي ليا عندك ميروحش في حتة.
على الجهةِ الأخرىٰ هتف “أيهم” بموافقةٍ على حديثه وكأنه يستحسن بفعل طالبه المُطيع له:
_شاطر يا “علاء” برافو عليك عرفتهم إن “أيوب” سافر ولا نسيت؟؟.
رد يجاوبه بلهفةٍ بعد سؤاله وقد استشف التهديد في حديثه:
_اقسم بالله قولت أنه سافر، هعملكم إيه يعني تاني؟؟.
تنهد “أيهم” مُطولًا وهتف بثباتٍ وكأنه أصبح أخرًا غير الذي يعهده في نفسه:
_تمام، تخفى بقى من وشي ومش عاوز اسمع حتى حروف اسمك لو صدفة، أنا مش “أيوب” هطبطب وأدلع و أدي فرص، أنا يوم ما هصدع منك هربطك في الجنينة لحد ما يبانلك صاحب، لو ظاهرلك صاحب هعلقه جنبك، غور من وشي وياريت تبطل قرف شوية وتسيب بنات الناس في حالها، دا مش طلب مني بس تهديد وأفهمه زي ما تفهمه وزيادة فوق كل دا لو قربت من أخويا تاني أنا هجيب رقبتك.
أغلق معه الهاتف ثم ألقاه على مكتبه وأرجع ظهره للخلف يقول بغموضٍ وقد ثبت عينيه أمامه على اللاشيء:
_خلينا نشوف أخرتها مع ولاد “الراوي”.
__________________________________
<“أين الشعور بالراحة وأنا المجروح من أحبتي؟”>
قام “أيوب” بتنظيف البيت كعادته وترتيبه بعد عودته من زيارة المقابر، واخر ما قام بفعله جمع اشياءه فوق سطح البيت المكشوف ثم وضعها على طاولةٍ مستديرة وجلس على المقعد وفتح حاسوبه وأخرج كتابًا خاص بالعلوم الشرعية الإسلامية التي يدرسها هو ومعه دفترٌ كبير وبحواره زجاجة المياه، كان وضعه هادئًا مُريحًا جعله يشعر الارتخاء خاصةً مع غروب الشمس التي أضافت لونًا زاهيًا أثناء رحيلها في توديعها له.
جلس يدون ما يتعلمه من الشيخ الكبير عبر الحاسوب ويدون ما يفيده ويزيد من علمه كما البحر يريد المزيد مما ينفعه، واستمر بهذا الحال لفترة كبيرة من الوقت نسىٰ بها نفسه تمامًا فأرجع ظهره للخلف ينظر في ساعته لكي يستعلم عن وقت المغرب وحينما وجد معه مزيد من الوقت قرر أن يتناول طعامه أولًا قبل الخروج من البيت مرةً أخرى.
نزل “أيوب” من سطح البيت حتى وصل للمطبخ وقام بوضع الطعام فوق الموقد واشعل النيران ثم وقف يتابع الطعام حتى جال بخاطره أبياتٌ شعرية كان يدرسها في اللغة العربية التي سبق وقالها “محمود سامي البارودي” ويُلقيها هو بصوته:
_غَلَبَ الْوَجْدُ عَلَيْهِ فَبَكَى
وَتَوَلَّى الصَّبْرُ عَنْهُ فَشَكَا
وَتَمَنَّى نَظْرَةً يَشْفِي بِهَا
عِلَّةَ الشَّوْقِ فَكَانَتْ مَهْلَكَا
يَا لَهَا مِنْ نَظْرَةٍ مَا قَارَبَتْ
مَهْبِطَ الْحِكْمَةِ حَتَّى انْهَتَكَا
نَظْرَةٌ ضَمَّ عَلَيْهَا هُدْبَهُ
ثُمَّ أَغْرَاهَا فَكَانَتْ شَرَكَا
غَرَسَتْ فِي الْقَلْبِ مِنِّي حُبَّهُ
وَسَقَتْهُ أَدْمُعِي حَتَّى زَكَا
آهِ مِنْ بَرْحِ الْهَوَى إِنَّ لَهُ
بَيْنَ جَنْبَيَّ مِنَ النَّارِ ذَكَا
كَانَ أَبْقَى الْوَجْدُ مِنِّي رَمَقاً
فَاحْتَوَى الْبَيْنُ عَلَى مَا تَرَكَا
أخرجه من حالة الهدوء هذه صوت الهاتف المنزلي فتنهد بعمقٍ وقام بإطفاء الموقد وفصل الحرارة عن الطعام ثم دلف الغرفة التي بها الهاتف ورفع السماعة وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هتف “أيهم” بتهكمٍ لاذعٍ بعد رده عليه:
_وعليكم السلام يا شيخ يا محترم، كتر خيرك إنك رديت عليا والله، لسه فاكر يا “أيوب”؟؟.
تنهد “أيوب” مُطولًا وجلس على طرف الأريكة يقول بنبرةٍ هادئة كعادته يحاول التفاهم مع أخيه على الرغم من علمه بأنه سيغضب منه:
_استهدى بالله كدا وأصبر قبل ما تتكلم يا “أيهم”.
اندفع شقيقه يقول بإصرارٍ:
_أنا مش هصبر ومش هسكت وترجع النهاردة قبل بكرة، دا لو خايف على عروستك يعني ولسه عاوزها.
رد عليه بنبرةٍ خافتة وكأنه أُرغِمَ على التفوه بهذا بسلطة عقله على الرغم من رفض القلب لما يقوله:
_خلاص مفيش فايدة منه الكلام دا، هاجي أحط نفسي في صراع مع أخوها؟؟؟ أكيد محتاجين بعض وأنا مش هفرض نفسي عليهم، افهمني أنا خلاص معنديش طاقة أعمل أي حاجة غير أني أكل وأنام وأعبد ربنا لحد ما أرجع شغلي من تاني، ممكن بقى تقفل على السيرة دي؟؟.
هتف “أيهم” بلامبالاةٍ كاذبة تُنافي ما يشعر به ويتتوق إليه من حديثٍ قادمٍ من أخيه:
_خلاص أنا هقفل على السيرة دي بس حابب أقولك إن “علاء” راح اتقدم لـ “قمر” النهاردة وطلب أيدها من “يوسف” ومحدش عارف غيري، براحتك بس مترجعش تندب حظك بعد كدا وتقول يارتني كنت حاولت.
تبدلت ملامح “أيوب” على الفور لترتسم تعابير أخرىٰ على ملامحه أقرب للغضب أو الإنفعال الذي أخذ يرتفع عن مقدوره الطبيعي فوجد أخيه يطرق الحديد الملتهب مما زاد من اللهيب بداخل الأخر:
_شكله كدا تاب وناوي يكمل نص دينه، بس نعمل إيه بقى ؟؟ بص للنص بتاعك وعاوز يكمل بيه أقولك…خلاص ملوش لازمة الكلام خليك عندك زاهد زي ما أنتَ بقى.
أغلق “أيهم” الهاتف في وجه أخيه بدون مزايدة في الحديث فيكفيه ما قاله حتى الآن وهو يعلم تأثيره على أخيه، لذا أغلق هاتفه تمامًا وعاد للخلف من جديد باسترخاءٍ ثم نظر في ساعة يده ووقف يسحب سترته وارتداها وهندم حِلته ووقف يخرج هاتفه ثم ضغط على جهة الاتصال المراد التواصل معها حتى وصله صوت الأخر فجاوب هو بلطفٍ:
_أيوا يا أستاذ “فضل” معاك “أيهم العطار” كنت عاوز أعدي على حضرتك أتكلم معاك كلمتين كدا ضروري ممكن كمان شوية.
هتف الأخر مُرحبًا بعرضه وهو يقول:
_بس كدا تنورنا يابني، تحت أمرك طبعًا، في أي وقت البيت تحت أمرك إن شاء الله.
أبتسم “أيهم” ورد عليه بودٍ وكأن الرابط بينهما وثيقًا:
_دا العشم برضه، إن شاء الله هاجي كمان شوية.
أغلق الهاتف ووضعه في جيب سترته الداخلية ثم رفع صوته ينادي على مساعده وما إن أتى إليه هتف بقوله الهاديء:
_معلش يا “مانجا” هروح عند الحج وورايا مشوار صغير لو فيه حاجة كلمني ولو حد جه أو في أي حاجة بخصوص الشغل خليه يروح عند “بيشوي” تمام ؟؟.
حرك رأسه موافقًا بإذعانٍ له جعله يخرج من المكان بثباتٍ متوجهًا نحو محل أبيه وما إن دلف جلس على المقعد المجاور لمكتب “عبدالقادر” الذي رفع عينيه من أسفل نظارته الطبية وسأله بلهجةٍ ثابتة أظهرت ثقته أكثر من كونه مُشككًا:
_عملت اللي قولتلي عليه صح؟؟.
حرك رأسه موافقًا وهتف بثقةٍ في نفسه:
_قولتلك خليك واثق فيا، الليلة دي “أيوب” هييجي.
__________________________________
<“أنا هُنا، وأنتِ هُنا، لكن هناك أخر بيننا”>
عاد “يوسف” إلى بيته وفورًا تذكر مكان تواجد الأخرىٰ فعاد أدراجه إلى شقة “عهد” وهو يفكر بسخريةٍ هل القدر أصبح يجبره على رؤياها أم أنه هو المتسبب في هذا، تلك الفتاة الغريبة المتناقضة في كل مرّةٍ يراها يشعر بعدة مشاعر متناقضة مثلها تمامًا؛ للوم والمعاتبة والضيق، تلك التي تثير ذكرياته وتربطه بها وكأنها تخبره بطريقةٍ غير مباشرة أنه لم ولن ينسىٰ بل هو أسيرٌ في خانة ذكرياته
طرق الباب بهدوء وبداخله يتمنى أن لا يراها لكن أمنيته لم يّكتب لها أن تتحقق حيث وجدها هي تفتح الباب له ويبدو كأنها على وشك المغادرة حيث ارتدت ملابس خاصة بالخروج من البيت، لما لم يتأخر لو دقائق أخرى حتى لا يضطر إلى مقابلتها، بينما هي انتظرت حديثه بعدما أمعنت النظر في شروده وحينما طال الصمت من جهته والترقب من قِبله هتفت هي بسخريةٍ تقلد طريقته التي سبق وتعامل بها:
_هي فين ؟؟ عمتي فين ؟؟ قبل ما تنطق هقولك أنا وأوفر عليك وأقولك إنها جوة، طالما مش بتقعد هنا ياريت تسيبهالنا وأحنا هنطمنك عليها.
كادت بسمة غريبة تظهر على شفتيه وهي تقلد طريقته لكنه نحى تلك البسمة جانبًا وقرر الإتصاف بالجمود وهتف مُستخفًا بها:
_طب ياريت تناديلي عمتي بقى، لو مش هزعجك يا عسولة
رمقته بطرف عينها ثم التفتت نحو الداخل فيما وقف هو مُتعجبًا من نفسه، فكيف له أن يصمت بعد سخريتها منه، أين لسانه اللاذع وأين وقاحته، يبدو أنه يرأف بها لأنها ضعيفة أمامه، هو الأمر هكذا وفي الأصل هي لا تعنيه من الأساس، هكذا فكر فيها حتى وجد عمته تقول بنبرةٍ هادئة:
_مش قولت إنك هتقضي اليوم برة ؟؟.
حرك رأسه موافقًا وقال بعدما سحب نفسًا عميقًا:
_آه بس الفكرة أني جيت أغير هدومي واتطمن إنك بخير.
ابتسمت له والتفتت تسأل “عهد” بلهفةٍ:
_بقولك إيه ؟؟ “يوسف” يوصلك أحسن ما تركبي مع حد غريب، وكمان علشان تلحقي شغلك وترجعي تاني، إيه رأيك؟؟
اتسعت عينا “عهد” وبدا التوتر واضحًا عليها وهتفت بإحراجٍ بعدما خطفت نظرة عابرة في ملامحه فوجدت وجهه مُقتضبًا:
_لأ مفيش داعي خالص، أنا هروح المركز مش بعيد يعني وأكيد يعني أستاذ “يوسف” وراه مشاوير كتير، هطلب “أوبر”.
سألتها “فاتن” بنبرةٍ هادئة وكأنها تلومها:
_الدنيا مش أمان، هو يوصلك أحسن علشان شغلك.
قبل أن تنطق من جديد هتف “يوسف” بنبرةٍ خشنة:
_هتروحي فين وأنا أوصلك ؟؟.
نظرت له بتوترٍ ورفضت التحدث من جديد فقالت “فاتن” بنبرةٍ بدا عليها الحزن واضحًا وهي تخبره:
_رايحة مركز طبي في مصر الجديدة تجيب سماعات “وعد” من عند الدكتور، وعندها شغل النهاردة هيبدأ الساعة خمسة ويخلص بعد ساعتين، بقولها خسارة تضيع الوقت دا في المواصلات.
حرك رأسه موافقًا وهتف بتقريرٍ لا يقبل المفاوضة أو المناقشة فيما يقوله:
_تمام، هوصلك وكدا كدا مصر الجديدة مش بعيد يعني، هغير هدومي وجاي، استني هنا.
همت بالنطق تُبدي اعتراضها فوجدته يرمقها بتحذيرٍ وهو يقول بثباتٍ:
_معنديش وقت اضيعه في المفاوضة معاكِ، ممكن تخليه يوم تاني أكون فضيت خزان الطاقة عندي ؟؟.
رحل بعد حديثه فكتمت “فاتن” ضحكتها لتجد “عهد” تسألها بمعاتبةٍ بعد رحيله من أمامها وقد تفاقم غيظها منه ومن الموقف الذي جعلها تخضع لسلطته:
_الله يسامحك يا طنط أنتِ بتدبسيني فيه يعني؟؟.
بعد مرور دقائق ارتدى “يوسف” حِلة سوداء بالكامل بها لمعة بسيطة عند طرفي السترة الخارجية وقد وضع قطعة معدنية عند منطقة الجيب على شكل قمرٍ صغير وقد تعجبت “عهد” مما يرتديه حتى سألته بغير تعقل وبدون هوادة:
_مبروك فرحك النهاردة ولا إيه ؟؟.
حينها رفع عينيه نحوها بعدما وقف يتصفح هاتفه وهتف بنبرةٍ هادئة بين طياتها السُخريةٍ:
_ليه اتهفيت في عقلي ولا إيه ؟؟.
رفعت حاجبيها بسخريةٍ ثم سارت معه نحو السيارة حيث وقف هو ينتظرها في مدخل البيت فركب هو السيارة أولًا وأوشكت هي على فتح الباب الخلفي فمال للخلف بجسده يقول بسخريةٍ:
_أنا مش “أوبر” أنا “يوسف الراوي” اركبي جنبي قدام.
تنهدت بضيقٍ ثم جلست بجواره وكتفت ذراعيها عند صدرها وأشارت له بالتحرك بصمتٍ جعله يقول بمعاندةٍ وهو يبدأ في تشغيل المحرك:
_بمزاجي برضه هتحرك، مش علشان خاطر سيادتك يا كونتيسة.
وضعت رأسها على نافذة السيارة بصمتٍ بينما قام بتشغيل المكيف وخرج بالسيارة من حارة “العطار” تحت أنظار “سعد” المراقبة لهما وما إن رأى السيارة تتحرك بهما قفز من جلسته يتحدث بغضبٍ بلغ أشده موجهًا حديثه لرفيقه:
_هو إحنا هنا إيه يعني ؟؟ رايحة معاه فين إن شاء الله ؟؟ واد يا “شكري” أنتَ شوفتها وهي ماشية معاه ولا دا تأثير السيجارة؟؟؟
هتف رفيقه بطريقةٍ تمثيلية وكأنه يؤازره:
_الشهادة لله كان بودي أقولك إن السيجارة جامدة ودا تأثيرها بس لأ يا أخويا هي خرجت معاه، دا معاه BMW يعني لو عطس هيرمي علينا فلوس.
ضرب “سعد” بقبضته في زجاج الطاولة الموضوعة أمامه وهتف بتوعدٍ وصدره يعلو ويهبط من فرط انفعاله فبدا وكأنه يرى دخيلًا يتعدى على ملكيته الخاصة حتى وإن كان الشيء المملوك لم يقبل بهذا، لذا ضغط على فكيه وهتف يسبها بسبابٍ لاذعٍ.
في السيارة أخذ “يوسف” الطريق في نصف المدة تقريبًا حتى اقترب من المركز فطلب منها بثباتٍ:
_اسمه إيه المكان علشان أعرف أدخله من الشارع.
هتفت تعرض عليه بخجلٍ من مساعدته لها وهي ترفض أن تصبح عائلًا على أحدهم حتى لو أقربهم لها:
_مفيش داعي، ممكن بس توقف العربية هنا وأنا هروح، شكرًا لحد كدا أوي يا أستاذ “يوسف”.
قلب عينيه بمللٍ وحرك رأسه نحوها يقول بضيقٍ:
_أنا مش أستاذ “يوسف” أنا “يوسف” بس دا أولًا يعني، ثانيًا بقى متعودتش أرجع من طريق مشيت فيه بإرادتي حتى لو الطريق دا نفسه رفض وجودي فيه، اسمه إيه المركز؟؟
تنهدت مطولًا وهتفت باستسلامٍ له وهي تشعر بالوضاعة وكأن هناك أحدهم قلل من شأنها أو أنزل من قيمة شموخها، بينما هو تحرك على وصف الهاتف بعدما فتحته له على موقع المكان حتى أوقف السيارة أخيرًا فوجدها تقول بسرعةٍ وكأنها تلقي عليه الأوامر:
_اخرج من الشارع دا علطول ولف عكس هتبقى على الطريق علطول وألف شكر لحد كدا تسلم.
تحركت نحو المركز فرفع هو حاجبيه وردد خلفها مستنكرًا:
_تسلم !! إيه الكلمة البيئة دي؟؟؟
__________________________________
<“الخير هُنا….الخير معي أنا”>
ذهب “أيهم” إلى بيت “فضل” بمفرده يجلس مع جميع أفراد الأسرة وقد شعر بالإحراج لكنه قرر الاستسلام رغبةً في مساعدة أخيه فلم يتوقع تأخر “يوسف” لهذا الحد لكنه قرر التحدث مع “فضل” في العمل وشئونه لعله يهرب من مأذقٍ وضع نفسه به.
على الجهةِ الأخرىٰ كان “يوسف” ينتظر بسيارته تقريبًا لمدة وصلت لخمسة عشر دقيقةً حتى زجدها تخرج من المركز فاقترب منها بالسيارة ونظر لها من نافذة السيارة قائلًا بنبرةٍ رخيمة:
_يلا علشان للأسف أنا اتأخرت بسببك.
اتسعت عيناها بدهشةٍ من تواجده وسألته بتفاجؤٍ:
_ممشيتش ليه ؟؟ على فكرة هعرف أروح لوحدي، مش مستاهلة كل دا منك، أنا مش عيلة صغيرة.
نظر أمامه يرد على حديثها ببرودٍ جلي:
_وأنا مش شاغل بالي إذا كنتي صغيرة ولا كبيرة بس قولتلك مش متعود أرجع من طريق من غير ما أجيب أخره.
كتفت ذراعيها بتأهبٍ وهتفت بجمودٍ تسأله:
_وأنا ذنبي إيه بقى إذا كنت متعود على كدا ؟؟
ثبت نظراته عليها يهتف بتأكيدٍ على مخارج حروفه:
_ذنبك إن الطريق دا جمعنا سوا، أكيد مش هرجع وأسيبك لوحدك من باب الرجولة حتى، هتركبي ولا لأ؟؟ الشارع وقف.
تنهدت بعمقٍ وفتحت الباب المجاور له تركب بخنوعٍ ففي نظرية العقل هو أحق بتوصيلها سيوفر عليها الكثير من الوقت والمجهود ومضايقة الكثيرين لها في المواصلات العامة وهي في غنا تامٍ عن كل هذا، فيكفيها مضايقات الكثيرين في عملها وفي حياتها بشكلٍ عام.
قرر هو قطع الصمت السائد بينهما بقوله:
_هو أنتِ كنتي بتجيبي حاجة مهمة من المكان دا؟؟
تنهدت بأسىٰ وهتفت بنبرةٍ حزينة سيطرت عليها:
_بجيب سماعات “وعد” يعني المكان دا أفضل وبيعمل الأدوات الطبية بالقسط مناسب لظروف شغلي.
انتبه لها وثبت عينيه عليها حينما وجد صوتها غلفه الحزن وسألها بتعجبٍ بعد جوابها على سؤاله:
_هي “وعد” لابسة سماعة أصلًا؟؟.
حركت رأسها موافقةً ونطقت بنبرةٍ خافتة:
_آه بس هي بتكرهها علشان للأسف التعليقات بتكون سخيفة وبتزعلها علشان كدا اضطريت أعملها واحدة أصغر متبانش خصوصًا إن الدراسة قربت ومش عاوزاها تيجي زعلانة.
ابتسم بتقديرٍ لمشاعرها ورد عليها بلطفٍ بعدما ابتسم لها:
_ربنا يخليكم لبعض، عاش يا عسولة ربنا يقدرك.
لم ترد عليه بل وضعت رأسها على زجاج النافذة تبتسم رغمًا عنها بعد كلمته هذه فأصبحت ترى نفسها كما طفلة صغيرة مُدللة يعاملها أحد الكِبار بهذه الطريقة وبالأخص والدها حينما كان يحملها بين ذراعيها ويقبلها ثم يغدقها بكلماتٍ معسولة من هذا القبيل احبهم إلى قلبها:
_”عهودة حبيبة بابا العسولة”.
لمعت العبرات في عينيها وضغطت على السلسال الموضوع بعنقها وكأنها تتلمس الأمان المفقود منها بقربٍ غير موجود
بعد مرور بعض الوقت أوقف “يوسف” السيارة أسفل البناية فوجدها تلتفت له وهي تقول بامتنانٍ له:
_كتر خيرك يا أستاذ “يوسف” ومتأسفة تعبتك معايا وعطلتك أتمنى مكونش اتسببت ليك في أي مشاكل.
رفع حاجبيه بسبب لُطف حديثها ورد عليها بودٍ يرفع عنها الحرج الذي استشفه في نظراتها وتوتر صوتها ومخارج حروفها المهتزة:
_لا مشاكل ولا حاجة، الجيران لبعضيها، المهم بس “وعد” تفرح ولو حد زعلها خليها تعرفني أنا موجود هنا في الخدمة.
حركت رأسها موافقةً ورمقته بامتنانٍ ثم نزلت من السيارة لتتقابل نظراتها بنظرات “سـعد” الذي هددها وهو يحدجها بسهامٍ قاتلة جعلتها تتصنع الثبات ثم أغلقت الباب ودلفت البيت بدون أن توليه أي إهتمامٍ وكأنه ورقة بالية ملقاة على الأرض تدهسها الأقدام دون أن يفكر أحدهم لو للحظةٍ في الإهتمام بها.
تحرك “يوسف” بالسيارة من جديد نحو بيت والدته بسرعةٍ كبرى حينما تأخر عن موعده وأوشك الحفل على البِدء لذا صارع على الطريق وتوجه نحو الشقة بلهفةٍ يطرقها بطرقاتٍ قوية خرجت على إثرها “أسماء” من الشقة المقابلة وقالت بهمسٍ:
_مابدري يا أخويا، تعالى “أيهم” هنا والراجل مستنيك.
نظر لها بحيرةٍ بعدما ضيق جفنيه وردد باستنكارٍ:
_”أيهم” ؟؟ مين دا ؟؟
مالت عليه برأسها تقول بنبرةٍ أكثر همسًا من السابق:
_”أيهم العطار” أخو “أيوب” خطيب أختك.
ردد بضجرٍ خلفها وقد عاد الضيق له من جديد يستولى عليه:
_خطيب أختك ؟؟ حصل إمتى دا ؟؟.
رفعت طرف فمها باستهجانٍ وهتفت بسخريةٍ:
_أنتَ هتعيشلي في الدور؟؟ أنتَ لسه شايفها أول إمبارح أصلًا، أدخل الراجل مستني جوة والمحروسة لابسة وجاهزة.
دلف معها نحو الداخل ينطق باقتضابٍ ملحوظٍ عليه:
_السلام عليكم، معلش اتأخرت كنت في مشوار مهم.
وقف “أيهم” ومد كفه له يُسلم عليه وقد رافق تحيته قوله:
_ولا يهمك دي فرصة سعيدة إننا نتقابل سوا،. كويس إنك جيت علشان لازم أتحرك دلوقتي.
حرك رأسه موافقًا ينتظر حديثه فيما تصنع الأخر الود وألبس حديثه وشاح المحبة وهو يقول:
_للأسف “أيوب” أخويا جاله شغل في محافظة هنا جنبنا على الطريق علشان كدا أضطر يسافر بس أنا جيت علشان أخد ميعاد نيجي فيه نتقدم بشكل رسمي للآنسة “قمر” بعد إذن أستاذ “يوسف” طبعًا، والميعاد اللي هو يحدده موافقين عليه.
كاد “يوسف” يعترض ويرفض ويصرخ في وجهه أنها “قمر” خاصته هو، وأنها لن تصبح لغيره، هو الأول في حبها والأخير في عشقها، لن يسمح لأحدهم بالتدخل في حياتها، لقد تركها كثيرًا متعطشًا ومشتاقًا لها وقد ظن أن الالتقاء بها أصبح مستحيلًا إلى أن يأخذ المولى روحه، لكن ماحدث كان بمثابة عودة الروح لجسدٍ فارقته الحياة، فهل بعد رؤيته لها وبعد الارتواء من مشاعرها في خلال اليومين الماضيين تتركه؟؟.
حرك رأسه نحو شقيقته فوجدها تبتسم بخجلٍ ولم ينكر الفرحة البادية على ملامحها وقد نطقت نظراتها بهذه الفرحة وقد زاد تأكده حينما ابتسمت له وكأنها تخبره بمدى سعادتها ليقع هو في صراعٍ يكرهه؛ انقسم على أثره إلى عدة أشخاصٍ كلٌ منهم يود فرض سيطرته هناك من يراها تخصه وهناك من يراها تخص الأخر ولها الحق في حبها له وهناك لا يراها من الأساس يظن نفسه ضيفًا ويتوجب عليه الرحيل وبين هذا وذلك وذاك ربح صاحب القلب الحنون ولمعت العبرات في عينيه بتأثرٍ لذا هرب من نظراتها وقال للأخر بثباتٍ:
_إن شاء الله هتكلم مع الحج ونحدد ميعاد علشان عندي شوية لغبطة في شغلي وحياتي ومش عارف استقر.
أبتسم “أيهم” بانتصارٍ لكنه وأد تلك البسمة وهتف بنبرةٍ هادئة أجاد صنعها:
_ولا يهمك إحنا تحت أمرك، ربنا يوفقك ولو احتاجت أي حاجة أنا أخوك الكبير زيك زي “أيوب” عندي وأتمنى إنك تكلمني، تؤمرني بحاجة؟؟.
حرك رأسه نفيًا فقام “أيهم” بتوديعهم ورحل من المكان بثباتٍ كما دلف وهو يشعر بثقته تزداد في نفسه وكأن الحرب صارت كما أراد هو وتوقع نتيجتها ليصبح المنتصر بكل ما فيها.
بعد مرور دقائق نزل “يوسف” ومعه شقيقته إلى السيارة وركبت هي بجواره بخجلٍ حتى سألها هو بنبرةٍ هادئة:
_لو متضايقة ممكن ترجعي ورا عادي.
حركت رأسها نفيًا وهتفت بصدقٍ:
_بس أنا عاوزة أكون جنبك.
أبتسم بعينيه لها ثم حرك رأسه يقبل وجنتها حتى شعرت بالخجل فوجدته يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_اقسم بالله أنا أخوكِ مالك ياست ؟؟
هتفت بتوترٍ وهي ترفرف بكفها أمام وجهها الذي ارتفعت حرارته:
_ماهو أنا علشان مش متعودة حتى “عدي” أخويا برضه بس فيه حدود بيننا.
ضحك “يوسف” وتحدث بشقاوةٍ كعادته:
_البوسة دي موتراكِ كدا ؟؟ “قمر” أنا كنت بقف مع ماما وهي بتحميكي وأنتِ صغيرة.
اتسعت عيناها بهلعٍ وفرغ فاهها وكأنها أصيب بالشلل أو كادت تلقىٰ حتفها في نفس الثانية مما جعل ضحكاته ترتفع أكثر وهتف بقلة حيلة:
_واضح إنك اتربيتي أوي، محسوبك بقى مشافش تربية.
بعد مرور بعض الوقت أوقف السيارة عند مدخل المكان ونزل منها ثم تحرك جهتها يفتح لها الباب ثم مد كفه وهو يقول باللغة الإنجليزية وقد تحدث بطلاقةٍ غريبة:
_Come with me, my beloved heart and soul
_”هيا معي يا حبيية القلب والروح”
فهمت هي جملته فابتسمت له ومدت كفها تتمسك بكفه ومنذ الوهلة الأولى بدت هيئتهما وكأنهما عاشقان غارقيْن في بحور الحُب حيث كان يرتدي حِلةً سوداء وكذلك القميص وفتح أول زر بقميصه وهي بجواره ترتدي فستانّا باللون الأسود والحجاب باللون الأبيض من خامة الستان اللامعة وقد شبكت أناملها في مرفقه لتجده يبتسم بصفاءٍ وكذلك نظرته الهادئة التي طالعها بها وهو يقول بتأثرٍ:
_المكان دا سميته باسمك وكل حاجة جوة فيه على شكل “قمر” حتى الديكور يمكن “يوسف” من اللي جوايا كان متمسك بأمل أنه يقابلك في الدنيا، أنا لو روحي فارقتني دلوقتي مش هزعل، كفاية أني شوفتك.
لم تتحدث ولم ترد بل عانقته وهي تقول ببكاءٍ وقد ازداد تأثرها بحديثه ما إن استشفت الصدق في حديثه:
_متقولش كدا، مش بعد ما رجعت لينا تقول إنك هتسيبنا، ربنا يديم وجودك بينا وتفضل معايا لآخر العمر كفاية اللي راح من غيرك.
رفع كفيه يضمها بكلا ذراعيه ثم ابتعد عنها يمسح ببنانة أصابعه عينيها وقال بنبرةٍ رخيمة أخفى منها حشرجة البكاء:
_حاضر، يلا بس علشان إحنا اتأخرنا.
حركت رأسها موافقةً عدة مراتٍ وعادت جواره تمسك كفه حتى دلفا سويًا مدخلًا بوابته خشبية صُممت على الطراز القديم، شهقت ما إن رأت أجواء الإحتفال حيث الاضاءات العالية الساطعة بكل زوايا المكان وكذلك المسرح الحديدي الذي نُصب لاستقبال المطربين، وقفت تظن نفسها داخل أحد المهرجانات السينمائية خاصةً مع وجود الخيل في كل مكانٍ وانتظار الناس وتكدس المكان بالشباب ومختلف الأعمار.
وقفت تطالع ما حولها بذهولٍ وهي ترفرف بأهدابها؛ لاتنكر قدر سعادتها بما تراه لكنها وجدت حياةً أخرى كانت تتمناها ذات يومٍ، هذا العالم الجميل الذي دلفته برفقة أخيها لأول مرّةٍ، شردت وغاصت وتعمقت أكثر فيما حولها واستفاقت على صوته الذي غلفته الفرحة وهو يقول:
_بصي يا “قمر” !! اسم الكافيه إيه؟؟
رفعت عينيها نحوه أولًا ثم نحو إشارته وقد شهقت بفرحةٍ فوجدته ينطق بنبرةٍ رخيمة:
“MOON_JO”
جمع اسمي واسمك مع بعض، وكل حاجة هنا خاصة بيكِ وباسمك، قولتلك مفارقنيش أبدًا.
ترقرقت العبرات في عينيها من جديد وابتسمت له فوجدته يمسك كفها ثم دلف معها لداخل الكافيه فوجدت شابًا يقول بضجرٍ من تأخره:
_أخيرًا !! يا أخي تعبتنا ما بدري.
هتف “يوسف” بأسفٍ له:
_عديها يا “عمهم” كنت بجيب أختي.
ركضت نحوهما “سمارة” تقول بحماسٍ وتلقائيةٍ كعادتها وكأنها وجدت ضالتها وسط قبيلةٍ تكاد تسحقها في غُربتها:
_ياختي الله أكبر زي البدر في تمامه، اسم على مسمى بصحيح، أنا “سمارة” أختك.
عقدت “قمر” حاجبيها ونظرت لأخيها تتطلب من النجاة فوجدته يبتسم لها وهو يقول بقلة حيلة:
_دي أختك زي ما قالت كدا، “سمارة” زي أختي تمام ومرات “إيهاب” اللي واقف هناك دا بقى أخويا الكبير.
حركت رأسها موافقةً بتفهمٍ وابتسمت بمجاملةٍ وهي تقول:
_أهلًا وسهلًا بحضرتك أنا “قمر”.
احتضنتها “سمارة” وهي تقول بمرحٍ:
_ياختي حضرتك إيه، بقولك أختك.
ضحكت “قمر” ورفعت ذراعيها تربت على ظهر الأخرى فاقترب منهم “نَـعيم” يراقبها بعينين دامعتين وهتف بتأثرٍ:
_الله يرحمه كان روحه فيكِ، كان بيحبك أوي، بقيتي عروسة الله أكبر ربنا يحفظك.
نظرت له بنفس التأثر وقد ظهرت العبرات في مقلتيها لكنها حركت بؤبؤيها حتى تتحكم في دموعها فوجدت “يوسف” يعرفها عليه بقوله:
_دا بقى الحج “نَـعيم” يبقى النجدة اللي ربنا بعتهالي وكان صاحب بابا وشريكه في شغله اللي كان هيتم بينهم.
حركت رأسها موافقةً ورفعت كفها تضعه عند قلبها وهي ترحب به قائلةً:
_أهلًا وسهلًا بحضرتك اتشرفت بمعرفتك وأكيد “يوسف” محظوظ علشان يكون مع حضرتك هنا.
أبتسم لها بفخرٍ وهتف بثباتٍ يؤكد ظنونه تجاهها:
_”مصطفى” طول عمره كان نفسه يربيكي صح، واضح إن والدتك عملت كدا وزيادة، ربنا يبارك فيكم إن شاء الله.
دلف “إسماعيل” و معه “مُحي” في هذه اللحظة فهتف الأول على عجالةٍ:
_يلا يا جماعة الحفلة خلاص أهو والناس برة.
التفتوا له وكذلك “قمر” فسأل “إسماعيل” بلهفةٍ:
_هي دي “قمر” ؟؟ أختك يا “يوسف”؟؟
حرك رأسه موافقًا وهو يبتسم له فاقترب منهما يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_تعرفي إن الخيل بتاعي اسمه “قمر” من كتر حب أخوكِ في اسمك؟؟ فرصة سعيدة أنا “إسماعيل”.
أشار إلى نفسه فنظرت لأخيها حينها قال هو بقلة حيلة:
_دا “إسماعيل” أخو “إيهاب” الصغير وزي أخونا برضه، واللي هناك دا اسمه “مُـحي” ابن الحج، بس خليه بعيد أحسن.
كان يهدده بحديثٍ مُبطنٍ جعله يتحداه ويقترب منها قائلًا بمشاكسىةٍ:
_طب عيب عليك تبعدنا واحنا غاويين قُرب.
نظر له “يوسف” بتحذيرٍ جعله يعود متقهقرًا للخلف وهو يقول بخضوعٍ له:
_زي ما تحب اللي يخصك يخصنا، نورت يا “قمر”.
حمحم “يوسف” بخشونةٍ جعلته يقول بنفاذ صبرٍ:
_يمين بالله مش بعاكس، دا اسمها ليه محسسني أنها اسمها “مديحة” مثلًا ؟؟.
انتشرت الضحكات على حديثه وخوفه من “يوسف” فصدح صوت الهاتف الخاص بها فاستئذنت منهم بقولها:
_دي “ضحى” بنت خالي بترن هرد عليها برة عن إذنكم.
تحركت فور حصولها على صك الموافقة منهم ومن “يوسف” تحديدًا فخرجت من المكان بالهاتف في يدها لكنها تفاجئت بصوت الموسيقى الصاخب الحماسي والإضاءات التي ازدادت عن السابق فذهبت إلى أقرب نقطة فارغة لكي تستطع التحدث في الهاتف وقد نجحت في هذا حينما ابتعدت خطواتٍ كثيرة عن المكان وفتحت المكالمة تقول بتوترٍ من الظلام المحاوط لها:
_أيوة…أيوة يا “ضحى”.
هتفت الأخرى بضجرٍ:
_ماتردي يابنتي بتقلقيني ليه، قوليلهم يسخنوا الأكل أنا جعانة أوي ومعرفتش أكل علشان العروسة سحلتني معاها ودي أخرة الجدعنة.
ابتسمت “قمر” وهتفت بلطفٍ وهدوءٍ:
_عقبالك أنتِ كمان يا “ضحى” كدا تجيبي بقية جهازك ويعوضك بابن الحلال اللي يستاهلك، المهم صاحبتك جابت حاجات حلوة ؟؟.
ردت عليها بهدوءٍ بعدما اقتبسته منها:
_آه الحمد لله ربنا يسعدها عقبالك يا حبيبتي إن شاء الله.
تنهدت “قمر” بسعادةٍ ثم ردت عليها تخبرها أنها خرجت مع شقيقها حتى أغلقت الأخرى المكالمة معها والتفتت “قمر” لتعود كما جاءت إلى هنا لكنها شهقت بخوفٍ ما إن رأت أحدهم يقف خلفها وقبل أن تعنفه رفع كفه يضعه على فمها يكممه قبل أن تفضح أمره.
__________________________________
<“هو نفس الطريق، لما طال هذه المرة؟”>
لما لا تتركه الحياة وتترك أحبته ؟؟ لما في كل مرّةٍ ينزوي بنفسه لكي يعود كما كان زاهدًا، لا يدري كيف عاد إلى الطريق وكيف أغلق البيت وكيف رحل منه وكيف أصبح عند بوابة الدخول للقاهرة من جديد ؟؟ مجرد الاستماع لأمرٍ يخصها جعله يعود من جديد وهو يفكر هل تسبب “علاء” في إيذائها وهل تسبب في ما أثار ضيقها من جديد، هل من الممكن أن توافق عليه؟؟ ربما يكون ضغط عليها أو هددها مرةً أخرىٰ فهو وضيع يخلو من الشهامة.
الكثير من الأفكار عجت برأسه جعلته يرفع يده يمررها بين خصلاته الكثيفة وهو يقول بنفاذ صبرٍ وكأن الصبر توالى عنه ليتركه لوحش الإنتظار بمفرده:
_يــا صــبـر “أيــوب” يــا صــبر.
قاد المتبقي من المسافة بسرعةٍ كبرى نحو بيته مقررًا ترك الأقاويل وكل ما قد يُقال عنه لوقتٍ أخرٍ لكنه تفاجأ على الطريق المؤدي نحو حارة “العطار” بـ “سعد” يحاول اعتراض طريق “وعد” تلك الفتاة الصغيرة التي لاحول لها ولا قوة سوى من خالقها، فرمش ببلاهةٍ وهو يراه يحاول حمل الصغيرة التي أخذت تحرك قدميها في الهواء والناس ينظرون نحوه دون أن يتدخل أيٌ منهم، فقرر هو ترك سيارته ونزل منها بخطواتٍ واسعة حتى اعترض طريق الأخر ليكون كما الغوث للصغيرة حينما أمسك بالآخر وهو يقول بغضبٍ ظهر عليه فورًا:
_ماكنتش أعرف إنك حيوان كدا، عيلة صغيرة يا مهزء ؟؟ بتاخد حقك من عيلة.
هتف “سعد” بنبرةٍ جامدة يهين الطفلة:
_دي بت قليلة الأدب بقولها تعالي أوصلك بتشتمني؟؟ خلاص بقينا ملطشة للعيال كمان.
هتفت “وعد” ببكاءٍ تتوسل لـ “أيوب” حتى يحميها فاقترب منها حتى ينتشلها من بين يديه فوجده يدفعه في صدره قائلًا بطريقةٍ أوضحت ثمالته نتيجةً لما يتناوله من مخدراتٍ:
_ارجع يا شيخ دي مشاكل عائلية مالكش فيها.
هتف “أيوب” مستنكرًا قوله بكلمته:
_نَـــعــم ؟؟!.
حرك “سعد” رأسه موافقًا وأضاف من جديد مؤكدًا:
_زي ما سمعت كدا دي أخت مراتي وأنا المسئول عنها.
اتسعت عينا “أيوب” وعلم أنه وصل لحد الثمالة وأن العقل لم يكن به لو ذرةٍ حتى يتعامل معه بها وخاصةً وهو يمسك بالطفلة بين يديه فأضعف الإيمان لشخصٍ مثله أنه يلقيها على الطريق لذا وقف “أيوب” يحاول التوصل لحلٍ ينقذ الصغيرة من بين براثن ذئبٍ مثله انتُزِعَت الرحمة من قلبه، وهنا هتف صوت عقله بقوله:
_هيا…هيا يا “غَــوثْ”.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)
