رواية غوثهم الفصل الخامس والثلاثون 35 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الفصل الخامس والثلاثون
رواية غوثهم البارت الخامس والثلاثون
رواية غوثهم الحلقة الخامسة والثلاثون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الخامس والثلاثون”
“يــا صـبـر أيـوب”
___________________
_أنا عبدكَ المُتضرع يا ربي..
أنا عبدكَ المتضرع يا ربي..
أنا طائعٌ و بطاعتي مسعودٌ
وسعادتي بالخالق المعبود
أنا طائعٌ و بطاعتي مسعودٌ
و سعادتي بالخالق المعبود
و عبادتي للقادر الموجود
و هدايتي بكتابِ رب الجـود.
_”نصر الدين طوبار”
__________________________________
أيحقُ لنا من بعد الصمودِ أن نقع في الهوىٰ
وذلك القلب يخون عهده من بعدما أقسم بالزُهدِ ليخبرني بعد رؤية عينيكِ أنه وقع وهوىٰ؟ وحينها عذرته لأنه معه كل الحق؛ فهما ليس مجرد عينين بل هما عالمين كاملين، عينان لأجلهما تُقام الحروب كما سبق وخان لأجلهما العهود…عينان ملكتا فتنةً على قلبي وغدوت أتساءل بإلحاحٍ:
” يا صاحبة المُقلتين المسحورتين بالليل الأسودِ
رُدي لي قَلبي الزاهد لأعود ناسكٍ متعبدِ”.
<“صفعة جديد، والوجه يتحمل”>
اندفع “بيشوي” يسأله بحيرةٍ أكبر وقد تفاقم الضيق بداخله حتى باءت محاولته في السيطرة على نفسه بالفشل:
_ليه ؟؟ قولي ليه إيه السبب، إيه ذنبي إني ابن “جرجس”؟
تقدم “ملاك بجسده” يهتف بنبرةٍ خافتة بمثابة قنبلةٍ ألجمت الأخر وقتلته محله حين هتف:
_ذنبك إنك ابن “جرجس” صاحب “عبدالقادر” اللي “جابر” سلط على إبنه علشان يتخطف وهو صغير بعدما “عبدالقادر” رفض يشتغل معاهم ستارة على تجارتهم.
اتسعت عيناه بدهشةٍ وكأنه تلقىٰ صفعة فوق وجهه، أو أشد من الصفعة أيضًا، ماهذا الحديث الغريب الذي تلقاه هو وكيف يتصرف بعدما توالت الصفعات على وجهه بدون شفقةٍ على حاله، للحظةٍ تاه ولم يفهم مقصد الحديث حتى رمش عدة مراتٍ وسأل بضياعٍ شوش على حاله:
_بتقول مين؟؟ مين خطف مين !! تقصد إيه يا عم “ملاك” ؟؟.
لم يكن مجرد سؤالٍ عابرٍ بل حيرةٍ طفقت تعلن عن نفسها وضياعٍ تمكن منه حتى أنه تاه من نفسه ولوهلةٍ عابرة فكر في ماهية ذاته ومن هو وماذا يسمع ؟؟ لاحظ الرَجل تشوشه فزفر بقوةٍ يلعن تهوره وغبائه لكنه قرر استكمال الموضوع حينما استطرد حديثه قائلًا:
_زمان يابني “عبدالقادر” سيطه عِلي وبقى من أشطر التجار في مواد البنا ومن أشطر العُمال كمان لو أشتغل بإيده، لدرجة إن كان فيه ناس بتجيله بالاسم بس علشان السُمعة، ساعتها كان “جابر” طبعًا ورث محل أبوه وكان قبلها شغال زي الفل، “عبدالقادر” ساعتها كان لسه خارج من صدمة موت مراته وتعب ابنه اللي خد منه كتير أوي، دا أنا لسه فاكر لما الدكتور قاله اترحم على ابنك، ساعتها “عبدالقادر” عيطت وقال إن ضهره انحنى.
كان “بيشوي” مُنصتًا بكامل حدسه لما يُقال أمامه، عيناه ثابتتان على وجه “ملاك” لكن نظرتهما ضائعة وربما خائفة من ماضٍ أقترب منه بصورة وحشٍ يفتح مخالبه ليبتلعه داخل جوفه القاتم، هذه هي أقرب صورة لما يستمع له، بينما الأخر قرر تجاهل نظرته لكي لا يتراجع وأضاف مُستطردًا حديثه بثقلٍ وهو يقول:
_المهم “أيوب” ساعتها كان خف بمعجزة، حاجة غريبة حصلت ساعتها وبعدما مات خالص ربنا أرادله الحياة من تاني وفاق لدرجة إن ساعتها أبوه افتكره حلم، وقبلها موت أمه وفقدانه الكلام، لحد ما رجع “عبدالقادر” تاني يشد حيله ويصلب ضهره في السوق وساعتها جاله شغل تبع الجيش، لوا عاوزه في شغل وجايله عن طريق السُمعة، ماهو راجل سمعته زي الجنيه الدهب لا عمره غش ولا كل حق حد، بريمو زي ما بيتقال عليه طول عمره، ساعتها أبوك “جرجس” قرر يسلمه المحل ويساندوا بعض هما الاتنين أبوك بالموارد الناقصة و “عبدالقادر” بشغله وصنعته.
رغم انصاته وإمعانه لما يُقال لكن الحديث استوقفه لذا اندفع “بيشوي” يسأل بتهورٍ:
_طب معلش !! إيه علاقة “جابر” يعني لو الشغل دا مش جايله هو ورايح لحد تاني، دي تجارة وأرزاق ودا سوق للكل.
أبتسم “ملاك” بسخريةٍ وهتف يسخر من ابن شقيقته بقوله:
_أديك قولت سوق، وفي قوانين السوق والتُجار اسمه بحر، والبحر دا السمك الصغير فيه بيتاكل، بطلعة القرش الكبير على الكل ياخد الكل في بلعة واحدة، ساعتها بقى كان فيه مجموعة تُجار كدا عتاولة حاطين على سوق البَنا والتجار كلهم، شغلهم كله مضروب، رخام فرز تالت متباع أنه فرز أول، غِش في الخامات والمصنعية، يبيعوا بواقي المواد رغم إنها من حق صاحب البيت، عُمال حرامية، كل الشغل الزفت كان بتاعهم، الوحيد اللي خالفهم “عبدالقادر” و أبوك معاه، لما عرفوا إن جاله شغل تبع الجيش خافوا وقالوا كدا بيكبر، علشان كدا عرضوا عليه ياخدوا محله بالعمال بس هو موافقش، بعدها عرضوا يشاركوه وهو موافقش، بعدها عملوله مشاكل كتير وهو موقفش خالص وكمل.
سأله حينها “بيشوي” بفطرة اهتمامٍ وُلِدت بداخله وطفقت في الكِبر أكثر مع وصول الحديث لسمعهِ:
_و”جابر” طبعًا كان معاهم صح ؟؟ إذا مكانش هو اللي بيحركهم كمان.
حرك رأسه موافقًا وأضاف بخزيٍ من فعل قريبه:
_اللي خلى “جابر” يسلم ليهم؛ حب الناس لأبوك وشكرهم فيه وفي “عبدالقادر” إزاي هو ميتحبش كدا رغم إنه الأقدم في السوق هو وأبوه، علشان كدا راح يحط أيده في أيدهم وكمل زن هو كمان عليهم علشان يكونوا معاه ومع التجار دول، ولما أبوك رفض واتخانق معاه وبرضه “عبدالقادر” هو كمان، ساعتها دلهم على نقطة ضعف “عبدالقادر” واللي ساعتها الكل كان عارف إنه “أيوب” يعني اللي حصله مش شوية، أول ما اتولد جاله مكروب صعب وكان هيروح منهم، وبعدها فضل يتعالج لحد ما خف فتموت أمه في حضنه ويسكت هو شهور عن الكلام ولما يتكلم شوية وياخد نفسه، يجيله المرض الصعب دا ولما يبدأ يخف منه رغم أنه كان لسه بيتعالج اتخطف ٣ أسابيع كان هيموت فيهم من غير العلاج واتلحق على آخر لحظة وغيره وغيره.
تذكر “بيشوي” معاناة رفيقه وآلامه وكيف تذوق الكثير والكثير من المآساة في حياته على الرغم من صغر سنه ولم يشعر بنفسه والدموع تلمع في مُقلتيه فيما أضاف الأخر بنبرةٍ تبدلت تمامًا وهو يضغط على عصاه في يده وكأن الحزن هجم عليه هو الأخر وقال:
_ساعتها يا ولداه اتخطف من الحارة كان زي العصفور، بريء وهادي عمره ما عمل حاجة لحد ولا نطق بحرف يزعل حد، مكانش بيقول غير حاضر ونعم للكل، ساعتها الحارة كلها كانت مضلمة من غيره، حتى الكنيسة نفسها بعتت ناس تطمن عليه، وساعتها حبيبي اتحط في مخزن الرخام اللي على الطريق بتاع التجار دول كوسيلة ضغط على “عبدالقادر” علشان يرضخ ليهم لكن هو معملش كدا، مشي قانوني لحد ما جاب ابنه وساعتها اتبلغ عنهم وطلع عليهم بلاوي، تهرب ضريبي وضرب في السجل التجاري ونصب على التأمين، وساعتها “جابر” كان مرعوب أحسن يحصله زي اللي حصل للتانيين.
اندفع “بيشوي” يسأله بدهشةٍ سيطرت على كيانه:
_معنى كلامك دا إن عم “عبدالقادر” عارف إن “جابر” عمل كدا في ابنه ؟؟ ولو عارف هو سكت عن حق ابنه ؟؟ دا ساعتها كنا بنموت علشان “أيوب” أنا منمتش في بيتنا غير لما هو جه البيت من تاني.
عادت القوة من جديد تظهر على الأخر وهو يقول:
_لأ طبعًا، “عبدالقادر” مستحيل يسيب حقه وحق ابنه، “عبدالقادر” عرف وراح لـ “جابر” بس للأسف التاني مراته كانت حامل في بنته التانية ومعاه بنت صغيرة، ومراته ملهاش حد في القاهرة علشان كدا سامحه بس فضحه في شغله ووقعه شوية حلوين، كان ساعتها أبوك حط كل حاجة في أيد “عبدالقادر” ودا اللي خلى “جابر” يشيط أكتر وإزاي ابن دينه يروح لواحد تاني يشاركه؟؟ الفكرة إن “جابر” مشافش إن “عبدالقادر” خدمه لما مبلغش عنه بس شاف أنه عدوه وبينجح.
زفر “بيشوي” بنفسٍ متقطعٍ وعاد يسأل من جديد باهتمامٍ:
_طب والسبب في رفضي أنا إيه ؟؟ أظن كدا الموضوع مش تجارة بقى، الموضوع أكبر من كدا بكتير.
نفس السخرية السابقة عادت لترتسم على وجه “ملاك” وهو يجاوبه بما يُرضي فضوله المقروء في نظراته_ الغير منطوق على طرف لسانه:
_علشان “جابر” فاكر إن “عبدالقادر” مش ناسي وفاكر وأنه هينتقم منه في بناته وطبعًا مفيش غيرك يرد الانتقام دا لما يتجوز بنته، علشان كدا هو مش راضي يوافق عليك، حاطط في دماغه إنك هتعمل اللي هو عمله في ابنه، بأي شكل بقى بس دايمًا مسيطر عليه نظرية المؤامرة إنك أكيد هترد الانتقام في بناته، علشان كدا مش هيوافق.
هَبَّ “بيشوي” منتفضًا من محله يسأل باندفاعٍ يغلفه الغضب:
_يعني إيه ؟؟ هو فاكرني زيه ؟؟ لو هو معدوم الرجولة والدم أنا مش زيه، دا لو أنا قبلت أصلًا أتجوز بنته وأحط أيدي في أيده، دا واحد اتسبب في تعب أبويا والراجل اللي رباني وصاحب عمري وأخواتي، وبسهولة كدا عاوزنا ننسى؟؟.
وقف “مـلاك” أمامه يسأله بلهفةٍ خالطها القلق بسبب حديثه:
_والبت ذنبها إيه يابني ؟؟ إنها بنته ؟؟ ماظنش بصراحة يعني إنك بتفكر صح، لأنك عارف “مهرائيل” مش زيه ومش طبعه، لو منك اطلبها وأخدها منه، بدل ما هو يرميها لأي حد عندًا فيك، وأنا واثق إن ابن أختي يعملها، قوي زي أبوه بالظبط، قولي بس لسه عاوزها ولا لأ ؟؟.
حرك “بيشوي” رأسه للجهةِ الأخرىٰ يهرب من الجواب ومن تساهله بالأمر وللحظةٍ ودَّ يخبره أنه لا يريدها طالما كانت ابنة “جابر” لكن هناك جزءٌ أعلن العصيان وخانه لسانه حتى توقف الحديث على طرفه رافضًا الخروج وقد لمحتها عيناه تركض خلف الصغار وهي تضحك بملء فاهها كما تفعل في حديقة “عبدالقادر” دومًا، هنا تأكد أن حتى تركها أو التخلي عنها لم يكن بملء إرادته بل طواعيةً وإجبارًا أذعن للقلب كونه المتحكم به.
إن كانت الحياة حكمت بينهما بقطع سُبل الوصال لابد من التقاءٍ بين القلوب العامرةِ بالحُب، لذا تنفس بعمقٍ ورفع كفيه يمسح وجهه ثم هتف بنبرةٍ جامدة متحفظة على الرغم من صراعه بما يتحدث عنه:
_عاوزها يا عم “ملاك” المشكلة أني عاوزها.
أقترب منه يخبره بنبرةٍ هادئة بعد حصوله على الجواب المُراد:
_يبقى متشيلش هم طالما جيتلي هنا يبقى كل حاجة هتتحل ولو هو فاكر نفسه كبر خلاص وعاملي فيها أبو البنات أنا هربيه وأعمل اللي أمه فشلت فيه.
حرك “بيشوي” رأسه موافقًا ولازال مُتخبطًا وحائرًا في أمره تشبه حيرته حيرة من فقد الطُرق ووقف تائهًا لا يعلم يمينه من يساره بل كُتبَ عليه التيه وأن يصبح ضائعًا في طُرق الخوف.
________________________________
<“الليل وسكونه أصقائي، والوحدة هي عدوي”>
مرت ساعات كثيرة ليأتي منتصف الليل أو ربما تخطى الوقت هذا بكثيرٍ فلم يبقى على موعد آذان الفجر سوى ساعةٍ وبضع دقائق أخرىٰ، كان حينها “يوسف” جالسًا في شرفة غرفته ببناية “عبدالقادر” بعدما ترك أسرته حتى يأمن الحفاظ عليها وأن الأخر لن يتهور ويأتِ إلى هُنا، وإبان جلوسه وحيدًا مُستأنسًا بسكون الليل ومتخذًا ضوء القمر صديقًا له، كانت الوحدة هي عدوه اللدود، يبغضها ويكرهها على الرغم من اعتياده عليها، لكن الأمر اختلف تمامًا بعد إيجاد عائلته.
شرد مع نفسه لتمر “عـهـد” بباله، تذكر حينها قوتها الزائفة والوشاح الجريء الذي البسته لوجهها وهي تقف أمام “سعد” هو يعلم تمامًا من أين أتت هذه القوة ويعلم أنه لولا وقوفه بجوارها يدعم خوفها لما كانت أظهرت هذه الجُرأة إطلاقًا، عيناها تبدوان متناقضتان تمامًا تحمل القوة وفي نفس الآن هناك ضعفٌ يسكنهما، تحمل الجرأة والبراءةِ معًا، قوتها مُذهلة لم يعهدها من قبل.
شق سكون الليل ووحشته صوتٌ عذبٌ يُغرد كما تغريد البلابل في صباحٍ مُشرقٍ حتى خُيِّلَ أن الصباح قد أتى وغدا يتساءل هل النور المرسول بداخل قلبه يرتبط بالصباح أم أن هذا الصوت بكلماته هما السبب في هذا ؟ يبدو أنه صوت. “أيوب” الذي وقف في المسجد يبتهل بصوته كعادته بكلمات المبتهل المُبجل رحمه الله “النقشبندي”:
_”مَوّلاي إنّي ببابكَ قَد بَسطتُ يَدي..
مَن لي ألوذُ به إلاك يا سَندي؟
أقُومُ بالليّل والأسّحارُ سَاجيةٌ
أدّعُو وهَمّسُ دعائي.. بالدُموُع نَدي
بنُورِ وَجهِكَ إني عَائذ وجلُ..
ومن يعذ بك لن يَشّقى إلى الأبدِ..
مَهما لَقيتُ من الدُنيا وعَارِضها..
فَأنّتَ لي شغلٌ عمّا يَرى جَسدي..
تَحّلو مرارةِ عيشٍ في رضاك..
ومَا أُطيقُ سُخطاً على عيشٍ من الرَغَدِ..
مَنْ لي سِواك؟!.. ومَنْ سِواك
يَرى قلبي ويسمَعُه؟
كُلُ الخَلائِق ظِلٌ في يَدِ الصَمدِ..
أدّعوكَ يَاربّ فأغّفر زلَّتي كَرما..
وأجّعَل شَفيعَ دُعائي حُسنَ مُعْتَقدّي
وأنّظُرْ لحالي.. في خَوّفٍ وفي طَمعٍ..
هَلّ يَرحمُ العَبّد بَعْدَ الله من أحدٍ؟
مَوّلاي إنّي ببابكَ قَد بَسطتُ يَدي..
مَن لي ألوذُ به إلاك يا سَندي؟”
أدمعت عيناه وقد وصله الإحساس بالكلمات، قشعريرة سارت في جسده مثل الكهرباء وتيبس محله بخجلٍ، وكأنه لم يقوى على رفع رأسه حتى، ذنوبه كثيرة واخطائه أكثر، الفرق بينه وبين “أيوب” كما الفرق بين قطعة قماش بيضاء تضيء من كثرة طهارتها وأخرى بالية يغلفها السواد القاتم، يبدو الأخر طاهرًا بقدر اثامه وأخطائه، لكنه تاه من نفسها وأضحىٰ عنها غريبًا ويا ويله من غُربة النفسِ الحائرة.
في نفس اللحظة صدح صوت جرس شقته فتعجب هو من هذا الفعل في ذلك التوقيت ومسح وجهه وتحرك بخطواتٍ مُسرعة نحو الباب يفتحه بدون علمٍ لهوية الطارق الذي لم يكن سوى “وعـد” الصغيرة فسألها بلهفةٍ ما إن رآها أمامه:
_فيه حاجة يا “وعـد” ؟؟ مالك خايفة ليه كدا ؟؟.
جاوبته بصوتٍ خائفٍ وبؤبؤاها يتحركان في أنحاءٍ مُختلفة غير متناسقة بتاتًا نتج هذا الفعل عن خوفها مما حدث:
_”عـهد” يا “يوسف” عمالة تعيط وصرخت تاني وهي نايمة.
لم يكن أمامه سوى أن يسحب مفاتيح شقته ويغلق بابها ويركض مع الصغيرة نحو شقتها، الخوف تمكن منه هو الأخر وزاره القلق وبداخله أتمنى ألا تكون كما المرة السابقة وللحق هي لم تكن كما السابق لكن هذه المرة وجدها تجلس على الفراش تهزي بكلماتٍ غير مفهومة وتضم جسدها بكلا ذراعيها والدموع تنهمر على وجنتيها بغير هوادة.
وقف أمامها مُصعوقًا بتأثير مظهرها عليه ورفرف بأهدابه بضياعٍ احتل كامل دواخله وسكن ثنايا روحه وهو يقف أمامها يراها تهز جسدها وتحرك رأسها نفيًا بخوفٍ والكابوس يتجسد أمامها كما الصورة الحقيقية الجلية للعيانِ، تتذكر اقترابه منها بهذه الطريقة وهو يحاول الاعتداء عليها وصديقه يمسك شقيقتها بيديه وهي تصرخ لكن صوتها تركها وفَلَّ لتصبح بمفردها أمام هاجس خوفها.
لم تفرق بين الواقع والكابوس المزعج بل انخرطا في بعضهما بصورةٍ مُخيفة أقرب إلى صورة ثلاثية الأبعاد وقعت هي بداخلها، أقترب منها “يوسف” يمسك كفيها يدلكهما فوجدها تصرخ من جديد وتترجاه بالابتعاد، لم تراه هو بل ترى صورة “سـعد” أمامها، بكت وهي تتوسله أن يفك أسرها، فيما ذُهِل هو أمامها وردد بنبرةٍ غلفتها الدهشة المقترنة بالحزن:
_أنا “يوسف” يا “عـهد” متخافيش مني.
حركت رأسها نفيًا وضمت جسدها أكثر تحميه من الأخر فاقترب منها يحاول احتضنها لكنه تفاجأ بها حينما دفعته بكامل قوتها وهي تصرخ في وجهه بوجعٍ وقهرٍ:
_قولتلك أبعد عني بقى !! أبـعد أنا بكرهك.
حينها اندفع هو خارج الفراش نتيجةً لقوة دفعها له حتى سقط على المقعد المجاور للفراش ووالدتها تقف تبكي وقد يأست من الحلول المقترنة بالفشل في علاجها واخراجها من كابوسها المروع، بينما الأخر لم يستسلم لها بل وقف وخرج من الغرفة يبحث بعينيه عن الثلاجة وما إن رآها في المطبخ اقترب منها يفتحها ثم أخذ مراده ودلف من جديد وبدون اي تعقل فتح زجاجة المياه المُثلجة والقاها في وجهها لكي تفيق من كابوسها.
صرخت هي فور رمي الماء فوق وجهها ورأسها فيما شهقت والدتها باستنكارٍ لفعله الغريب والجريء أيضًا، تنفست “عـهد” بحدةٍ ورفعت رأسها تتفحص الواقفين لتجده أمامها يرمقها بنظراتٍ حادة حتى سألت بنفس لاهثٍ أقرب في خروج وتيرته إلى التقطع وتفرق حروفه:
_إيه اللي حصل ؟؟.
أقترب “يوسف” منها ثم سحب المحارم الورقية الموجودة على كومود غُرفتها ومسح وجهها المبتل وهو يجاوبها بنبرةٍ هادئة:
_محصلش حاجة، أنتِ بس شوفتي كابوس.
رفعت عينيها لوالدتها تعتذر منها بنظراتها فيما أمسك هو خصلاتها يجمعها برابط الخصلات المطاط ثم قال بنبرةٍ هادئة لم يخرج عنها تأثره برؤيتها في هذه الحالة وخاصةً وهي تنظر لهم بخجلٍ من نفسها:
_قومي غيري هدومك واغسلي وشك، لو فضلتي كدا هتبردي يا “عـهد” قومي يلا.
ازدردت لُعابها بخوفٍ وقد غزا الدمع مُقلتيها التائهتين بين الوجوه، فيما مد يده هو لها يدعمها وهو يقول بنبرةٍ دافئة:
_قومي يا “عهد” متسبيش نفسك للتعب ولا للخوف، لو زي كلامك إنك قوية بس بحالات يبقى متسخسريش في نفسك شوية قوة قدام ضعفك دا، قومي يلا.
نظرت لكفه أولًا ثم مدت كفها البارد داخل كف يده ليتضح الفرق بين درجات حرارة جسديهما، كانت كما قطعة الثلج الباردة لم تتحملها البشرة عليها، وهو دافيءٌ يبثها الأمان وخاصةً حينما خرجت من الفراش وضربتها كتلة الهواء الباردة وتمسكت بكفه تضغط عليها وهي ترتجف لتجده يقول بنبرةٍ هادئة لكن الإصرار لم يفارقها:
_متخافيش يا “عـهد” أنا هنا.
أصدق ما قيل وأطيب ما سمعت وأحن ما وصل إلى سمعها أنه هُنا، لم تنكر أن هذه الحالة في غيابه حينما كانت تأتيها كانت تظل قرابة الساعتين تقريبًا حتى تستدل على نفسها من جديد وتخرج من نوبتها، وفي حين وقفت هي أمامه تبحث عن أي قوةٍ بعد حديثه الصادق وجدته يُضيف بقوةٍ يبثها لها:
_مش عاوزك تخافي من حاجة طول ما أنا هنا، وافتكري أني بقيت هنا علشانك أنتِ، يعني أنا قصاد خوفك.
حركت رأسها موافقةً فوجدت والدتها تقترب منها ثم أمسكت وجهها بين كفيها تحتضنه وهي تقول بلوعةٍ باكيةِ:
_طمنيني عليكِ يا حبيبتي، بقيتي أحسن صح؟؟.
حركت رأسها موافقةً فاحتضنتها “مَـي” وهي تُربت على ظهرها وتمسح على رأسها لتتمسك بها “عـهد” بعدما سحبت كفها من كفه، حينها وقف هو بينهما يمرر بصره عليها حتى سحب نفسًا عميقًا ثم انسحب من المكان بعدما أطمئن عليها مع والدتها ومن المؤكد أن تواجده لم يعد مرغوبًا به هُنا؛ لكن طوعًا عنها وعن خوفها هو هُنا لأجلها هُنا وللمرةِ التي لا يعلم عددها ويفشل في احصائها يخبر نفسه أنه أصبح لأجلها هُنا.
________________________________
<“يوم جديد نحياه بالأمل، لعل يرحل منا الألم”>
في صباحٍ جديد نحياه من بعد كُربة الأمسِ تحرك “يوسف” من البيت يذهب مع زوجته إلى عملها، لم يتحدث هو سوى بالقاء تحية الصباح عليها وردت عليه هي بخزيٍ حينما تذكرت ماحدث عند شروق الشمس، ضعفها يظهر أمامه وهي أكثر ما تكرهه في شخصها ضعفها وتكره ظهوره للأخرين، فما العمل إذا ظهر أمامه وهي تمثل القوة ؟؟
صمتت وصمت هو أيضًا في رحلة الذهاب إلى عملها وعند نزولها من السيارة عادت من جديد تخبره بتوترٍ جليٍ سيطر عليها:
_مُتشكرة جدًا…معلش تعباك معايا.
حرك رأسه لجهتها ولم يقرأ شيئًا سوى الخجل والخزي منه، تبدو وكأنها أجرمت وفعلت كارثة وبدت كما الجاني في حين أنها المجني عليه لذا تنهد بعمقٍ ثم رد عليها بهدوءٍ:
_لا شُكر على واجب يا عسولة، المهم إنك بخير.
حركت رأسها موافقةً وأجبرت شفتيها على الابتسام له ثم نزلت من السيارة وقبل أن تبتعد عن مُحيطه تمامًا تذكر أمر رحيله لذا نزل من السيارة وهو يلحق بها وقد التفتت له ما إن شعرت به خلفها ليقول هو بمجرد التفاتها له:
_أنا رايح الكافيه بتاعي النهاردة وهروح بعدها عند صحابي في نزلة السمان، ممكن اتأخر مش عاوز بس غير إنك تكلميني علشان اجيلك، ممكن ؟؟ وياريت من غير عند معايا، طالما هو ظهر يبقى نيته مش خير.
حركت رأسها موافقةً ومدت يدها تخرج هاتفها وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_سجل رقمك علشان ملحقتش أسجله، وأنا هكلمك.
أخذ منها الهاتف بعدما فتحته هي فوجدته يكتب رقمه ثم سجله لها وأعطاها الهاتف لترى اسمه مكتوبًا وبجواره غمزة بطرف العين جعلتها تسأله بعدما ضحكت بخفةٍ:
_”يوسف جوزي” !! دا إيه دا ولازمتها إيه الغمزة؟؟.
جاوبها بثباتٍ يليق به دومًا:
_دا مؤقتًا بس لحد ما تتعودي.
عقدت ما بين حاجبيها وهتفت باستنكارٍ:
_اتعود !! اتعود على إيه ؟؟.
اقترب منها يجاوب بنبرةٍ خافتة أكثر من السابق وهو يقول:
_عارف إن الجواب مش هيرضيكي، بس هجاوبك.
انتبهت له بإنصاتٍ لتجده يقول بنبرةٍ هادئة:
_لحد ما تتعودي عليا وعلى وجودي هنا وعلى حضني.
عاد التوتر من جديد يتلبسها أمامه ولم تجد بُدًا سوى الركض لبناية عملها هربًا منه ومن وقاحته، هذا المستغل الذي يستغل توترها وحالتها المتخبطة فيما ضحك هو بخفةٍ ثم التفت يركب سيارته متجهًا إلى عمله المتروك على عاتق أصدقائه.
وصل “يوسف” إلى مكانه الخاص الذي أهتم به “إسماعيل” في فترة غيابه وزواجه وما إن دلف المكان وجده يعاتبه بعد الترحيب به قائلًا:
_أخيرًا يا ريس ؟؟ إيه ياعم فاكر نفسك في شهر عسل؟؟.
ابتسم “يوسف” له ثم استند على حافة مكتبه وهو يقول بقلة حيلة من وقوع الأمور على عاتقه:
_الفكرة كلها إن الدنيا كانت مكركبة فوق دماغي، ودماغي لوحدها فيها كركبة تكفي بلد، كان لازم أظبط أموري الأول قبل ما أجي هنا، بعدين عاوز أروح البيت “ليل” وحشني أوي.
حرك “إسماعيل” رأسه موافقًا فسأله “يوسف” باهتمامٍ بعدما نحى أموره هو جانبًا:
_قولي بصحيح “إيهاب” عمل معاك إيه؟؟.
ابتسم له الأخر وسحب كوب العصير الموجود أمامه ثم أخبره قبل أن يرتشف منه:
_صالحني إمبارح وبيني وبينك معاه حق، اللي حصل دا كان غباء مني المفروض أني أرجع علطول من طريق ما جيت، إنما أنا عاندت مع نفسي، وعدته إنها مش هتحصل تاني.
قبل أن يحرك رأسه موافقًا وجد طُرقاتٍ خافتة على باب مكتبه وربما صغيرة أو من كفٍ صغيرٍ تبعه دخول “جودي” ابنة شقيقة “سراج” وهي تبتسم بسعادةٍ من وجهها المُشرق وملامحها المليحةِ ورافق ظهورها قولها المرح:
_ممكن أدخل ؟؟.
التفت لها “يوسف” بكامل جسده واقترب منها يحملها بذراعيه وهو يقول بنبرةٍ غلفها الفرح:
_تدخلي بس ؟؟ دا أنتِ تاخدي المكان كله تحت أمرك.
ابتسمت له فيما سألها هو باهتمامٍ:
_عرفتي منين إني هنا ؟؟.
جاوبته بزهوٍ في ذكائها المُفرط:
_شوفت عربيتك برة عرفت إنك هنا، مش محتاجة يعني.
ضحك “إسماعيل” وهتف بسخريةٍ:
_ما شاء الله نبيهة نباهة خالها.
تحدث حينها “يوسف” وهو ينقلها على ذراعه الأخر يعدل فستانها ويرتب خصلاتها بكف يده حتى خرج حديثه ساخرًا:
_سيبك أنتَ من دا، الأستاذة معلمة نوع عربيتي يعني عينها مني، وأنا بصراحة موافق ومعنديش مانع، تتجوزيني يا “جودي” ؟؟.
سألته بلهفةٍ ترد على سؤاله بسؤالٍ أخرٍ:
_لو هتوديني الملاهي أتصور زي صورتك هناك ماشي لو لأ يبقى هتجوز “إسماعيل” يوديني هو.
انتبه لها “إسماعيل” وضحك على قولها “يوسف” وفي هذه اللحظة علا صوت “سراج” من الخارج ينادي عليها بنبرةٍ جامدة غَلِظة جعلتها تشهق بخوفٍ فيما نظر الأخران لبعضهما وتبع نظرهما لبعضهما خروجهما من المكان نحو الخارج وقد رفع “يوسف” صوته قائلًا بنبرةٍ جامدة محتدة:
_فيه إيه يا “سراج” ؟؟ بتعلي صوتك ليه؟؟.
أقترب يخطف الصغيرة منه وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_مش عارف ليه ولا هتستعبط؟؟ بقالي ربع ساعة عمال أدور عليها والهانم هنا معاك ؟ فيا عقل أنا علشان أفضل أضرب أخماس في أسداس ؟؟.
سأله “إسماعيل” بتهكمٍ أخرج صوته جامدًا:
_وهو حد ضربكم على أيديكم ؟؟ هي جت تسلم علينا ومش مع حد غريب، حضرتك عاوز إيه بقى ؟؟ عامل قلق ومعلي صوتك ليه؟؟.
أنزل الصغيرة على الأرض وأمسك كفها وهو يقول بصوتٍ عالٍ بعدما أشهر سبابته في وجه “يوسف” و “إسماعيل”:
_متخلهاش تهب مني عليك يا “إسماعيل” خلصنا وليلتنا عدت،ومحدش ليه دعوة بينا تاني لا أنا ولا هي.
نظرت له “جودي” بحزنٍ ثم أطرقت رأسها للأسفل وقد دلف في هذه اللحظة “إيهاب” يسأله بتهكمٍ من بعدما استمع لحديثه وهو يهدد أخيه:
_ دا على أساس إنك لو فكرت بس ترفع صوتك فيه أنا هسيبك ؟؟ فكر كدا تيجي جنبه يا “سراج” علشان قبل ما ترفع إيدك عنه انا هكون قاتلك، فوق لنفسك يالا مش أخو “إيهاب الموجي” اللي حد يكلمه كدا، لو كنت نسيت مين عمهم افكرك.
سكتوا الثلاثة عن المشاجرة وتوقفوا عن الحديث، ليقترب “إيهاب” منهم وأمعن نظره في وجه “سراج” الذي بدا عليه الحزن، فأمر شقيقه بقوله:
_خد “جودي” يا “إسماعيل” وروح خليها تشرب عصير وتلعب شوية هناك في الكافيه بتاعي، وعينك متغيبش عنها فاهم ؟؟.
أومأ له موافقًا ثم اقترب من الصغيرة التي وقفت بحيرةٍ بينهما تنظر لخالها تارةٍ وتارةٍ أخرىٰ لـ “إسماعيل” فوجدت “إيهاب” يحدثها بلطفٍ قائلًا:
_متخافيش يا “جودي” روحي مع “إسماعيل” و خالك هييجي ياخدك من هناك، يلا هو عمره ما هيرفض كلامي بدل ما أخليه يقطع الكلام خالص.
تحركت الصغيرة مع “إسماعيل” فيما أقترب “إيهاب” منه يحدثه بقوله موبخًا له:
_اسمع !! أنا صبري ليه حدود متراهنش عليها كتير، متنيل وزعلان يبقي تكن في بيتك لحد ما تفوق إنما تطلع جنانك علينا أزعلك، من امبارح مش طايق حد وعمال تشخط وتزعق وتتعصب، هتهب منك ؟؟ ولا تلاقيك دخلت شغلانة مشمومة زيك وجت على دماغك.
تجاهله “سراج” واقترب من “يوسف” يخبره بنبرةٍ لم يظهر منها سوى الحسرة على ضياع أحلامه من يديه:
_”نور” سافرت برة وهتتجوز كمان، أنا هنا بقالي سنتين مش عارف حتى أشيل صورتها من بالي وهي بتحارب علشان تنساني، طب لما هي جت تسألك معرفتنيش ليه ؟؟ يمكن كنت لحقتها قبل ما تضيع مني.
لم ينكر “يوسف” تعجبه بما وقع على سمعه ذهوله أيضًا بينما الأخر أضاف بعدما ابتسمت بسخريةٍ موجعة:
_لأ وإيه عمتها بتقولي كل واحد فيكم استغلها، طب “نادر” وهي كانت فاكرة نفسها بتحبه وطلع بيحب صاحبتها، وأنتَ خليتها تمسك الكافيه بعد صدمتك في “شهد” وسافرت تهرب من الدنيا كلها، أنا الوحيد اللي حبيتها بجد والوحيد اللي علشانها كان عنده استعداد يتغير ويغير الدنيا كلها كمان، أخرتها بقينا كلنا في كفة واحدة.
لم يتحدث “يوسف” ولم يجادله يكفيه أنه يثق في نفسه وأنه ساعدها في التعافي من صدمتها في صديقة عمرها ومن ظنته حبيبًا، ليتضح بعدها أنها فقط توهمت وأنهما غريبان عنها، حينها قدم لها “يوسف” يد العون لتعاونه في عمله هنا ويذهب هو لعمله الرئيسي، لاحظ “سراج” صمته فتحرك من محله وترك المكان فوقف “إيهاب” ينظر في أثره بحزنٍ لأجله وهتف بحسرةٍ عليه:
_خاب وخيب نفسه.
حرك “يوسف” رأسه موافقًا ثم قال بنبرةٍ خافتة:
_سلم الحاجة للناس هنا يكملوا هما ويلا علشان نروح البيت عند الحج، خليني أشوفه علشان وحشني.
أومأ له موافقًا وتحرك معه يتممان عملهما النهائي ثم يتجها نحو بيت “نَـعيم” قبل أن يعود لأسرته وزوجته ويبدأ دوره الرئيسي في حماية ذويه.
_________________________________
<“غرقتُ في الظلامِ والنور يبعد عني”>
جلس “أيوب” في محله يباشر عمله باهتمامٍ جليٍ كعادته بكامل تركيزه ثم رفع عينيه يفرز الأشياء ببصره ثم عاد ببصره من جديد يدون الأشياء الموجودة ويفرز الناقص منها وصوت القرآن الكريم يرتفع بالمكان بصوت الشيخ “محمد رفعت” أقرب الأصوات إلى قلبه، كان يشعر براحةٍ غريبة جعلته يبتسم بخفةٍ فور وقوع بصره على خاتم زواجه، أين الفرق بين الزاد والهوىٰ وهو من بحر عينيها قد ارتوى؟ كانت هي الغواية القوية وهو الزاهد العابد لتأتي بفتنتها تملك قلبه ويخبره أنه من بين نساء الأرض وامانيه في حور الجنان عندها هي سقط وهوىٰ.
دلف “تَـيام” له يمسك دفترًا ورقيًا كبير الحجم وهو يقول بحيرةٍ سيطرت عليه:
_بقولك إيه شوف كدا المكتوب دا “بيشوي” قصده الاسبوع دا ولا الأسبوع اللي جاي ؟؟ علشان كدا يبقى فيه غلط ١٠٠٠٠ جنيه مش هشيل منهم جنيه.
ضحك “أيوب” رغمًا عنه وأخذ منه الدفتر يتفحصه ويتفحص حساباته ثم هتف بنبرةٍ هادئة يُطمئن بها الأخر:
_متقلقش الحساب دا متأجل للأسبوع الجاي وهو شاطب على التاريخ بنفسه، خلي بالك بس من الحاجة اللي بتخرج دي أمانة في رقبتنا، لو فيه غلط عندك حطه عليا أنا، فداك.
ابتسم “تَـيام” وهو يقول براحةٍ أظهرها صوته وهو يقول:
_حبيبي يا أبو نسب دا العشم برضه، إلهي يجبر بخاطرك ويفرح قلبك يا “أيوب” دنيا وأخرة يا رب، طول ما أنتَ بتجبر بخاطري كدا.
لاحظ “أيوب” حزنه وفهم أنه ليس على مايُرام بل يتصنع هذا لذا سأله باهتمامٍ:
_مالك يا “تَـيام” ؟؟ هو حد مزعلك ؟؟.
زفر بقوةٍ وهتف بنبرةٍ رخيمة لم يفارقها الحزن:
_ خالتي لسه عندنا عمالة تقرف اللي جابوني، لولا صلة الرحم كان زماني طاردها، بس هعمل إيه ؟؟ حكم القوي.
تنهد “أيوب” بثقلٍ وأخبره بنبرةٍ هادئة يقوي عزيمته:
_كتر خيرك ربنا يجازيك خير إن شاء الله، بس هو دا الصح، علشان أنتَ محترم، مين هو المحترم؟
المحترم وهو زعلان محترم ؛ و هو متغاظ محترم ..
و هو بيبعد محترم ؛ و هو بيتخانق معاك محترم ..
حتى و هو بيكرهك محترم ؛ و هو بيعاتبك محترم ..
وقت عصبيته محترم ووقت ردود أفعاله محترم..
لا دا و هو بيندم ع اليوم اللي عرفك فيه برضه محترم الاحترام طبع مَش تطبع ..
الاحترام أخلاقيات داخليه نابعة من القلب ..
حرك “تَـيام” رأسه موافقًا وهتف يوافقه بنبرةٍ جادة تنافي قوله الآتي:
_صح بعدين متستغربش رد فعل المحترم على فعلك الغير محترم علشان هو مترباش في البيئة القذرة اللي أنتَ اتربيت فيها.
تلاشت بسمة “أيوب” وتبدلت ملامحه بعدما ظنه حكيمًا سيخبره بحديثٍ ينفع لكنه صدمه بقوله حتى أطاح له برأسه وهو يقول بضيقٍ منه:
_قوم أمشي يلا، ياريتك ما اتكلمت ولا فتحت بوقك.
وقف “تَـيام” وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_طيب أروح أكلم خطيبتي أتطمن عليها.
حذره “أيوب” بنبرةٍ جامدة وهو على أعتاب المحل:
_بأدب، ها !! أدب يعني لو فكرت ترحرح في الكلام، هخليك تجرب رحرحة من نوع تاني خالص.
رفع “تَـيام” إبهامه كدلالةٍ منه أن كل شيءٍ بخير ورافق حركته هذه قوله باللغة الإنجليزية حتى بدت نبرته مرحه:
_Everything is under control.
“كل شيء تحت السيطرة”
رحل بعد حديثه فيما ضرب “أيوب” كفيه ببعضهما ثم أخرج هاتفه يتابع حركة العمال في الشقة حتى يتأكد أن كل شيءٍ على ما يُرام، لذا قرر أن يتابعهما قبل أن يعود لمباشرة عمله وعلى الرغم من أنه فكر في الحديث معها إلا أنه تجاهل الفكرة تمامًا حتى يخبرها بانتقالهم.
في بيت “عبدالقادر” كانت “آيات” تنتظر نزول أخيها من بعد عودته من المصنع الخاص بهم بعدما ذهب لمباشرة عمله هُناك، فركت كفيها وهي تُبرمج الحديث في خلايا عقلها تحاول إيجاد الطريقة المناسبة لفتح الموضوع معه وما إن نجحت في ترتيب أفكارها طل أمامها وهو ينزل الدرجات بخطواتٍ هادئة وما إن رآها أمامه أخبرها وهو يستعد للرحيل:
_”آيات” معلش “إياد” راح عند بابا وقاعد معاه هناك، هبعته هنا خليه يتسحمى ويغير هدومه علشان المصنع بهدلنا خلاص ولزق رموشي في بعض.
تسلحت بالشجاعة وأوقفته قبل أن يقترب من باب البيت وهي تقول بلهفةٍ يتوارى خلفها التوتر والقلق:
_استنى بس أنا عاوزاك ضروري.
التفت لها واقترب منها ينظر في ساعة معصمه ثم هتف بنبرةٍ هادئة لكنه يتعجلها بالتحدث وهو يقول:
_بسرعة بس علشان المفروض فيه مقاول جاي محل “بيشوي” وأنا اللي هتفق معاه، خير فيه حاجة؟؟.
حركت رأسها موافقةً ثم هتفت بسرعةٍ تُلقي حديثها دُفعة واحدة بدون أن تستعيد البرمجة التي سبق وفعلتها:
_عاوزاك بخصوص “إياد” و مامته.
نظر لها باهتمامٍ فور ذكرها لطليقته فوجدها تضيف بتلجلجٍ وقد أرعبها مظهره ونظرة عينيه لها:
_بص دي أمه غصب عنك وعني وعن الدنيا كلها، يعني دي حقيقة مفيش مفر منها يا “أيَـهم” دي حالة مفروغ منها، هو ابنك ماشي….بس ابنها برضه يعني المفروض يودها ويسأل عنها علشان ميكبرش جاحد عليها.
في الأمر هو مجرد حديثٍ تخبره به وربما يتحول لمناقشةٍ لكنها لم تضع في خاطرها أن يتحول شقيقها لهذه الدرجة وهو يقول بنبرةٍ جامدة مستنكرة قول شقيقته:
_نعم !! بتقولي إيه أنتِ سمعيني تاني.
خشيت منه كثيرًا وللحق هي دومًا تخشى التحدث معه في الأمور الشخصية نظرًا لتحوله وفقد زمام أموره من يده فأضافت بتأثرٍ:
_صدقني والله أنا شايلة هم اللي جاي، حرام يكبر بيكرهها كدا، المفروض على الأقل نصلح العلاقة بينهم علشانه هو.
أشار على نفسه وهو يسألها بوجعٍ لازال حيًا ومجرد لمسة عابرة من الآخرين تؤلمه وتسبب في زيادة وجعه:
_وأنا يا “آيات” ؟؟ ووجعي منها، طب بلاش أنا، ووجع ابني وهو شايفها بتقبض تمنه ؟؟ اللي زي دي متستاهلش الشفقة ولا الرحمة، دي واحدة رمت ابنها علشان الفلوس وعدت كل دا عادي وعدتني أنا وهو، عاوزاني أخده ارميه ليها علشان يفتكر وجعه تاني؟؟ والمرة دي تطرده من بيتها علشان تكمل قهرته؟؟.
حركت رأسها نفيًا وأضافت تعلق على أخر ما تفوه به:
_مش هيحصل هو وحشها أوي والله وعاوزة تشوفه، هي كلمتني وقالتلي أعمل كدا من وراكم بس أنا قولت استأذن الأول، صدقني دي مهما كان أم والله.
أضاف بنبرةٍ جامدة يقطع عليها الحديث:
_أم جاحدة وقلبها حجر، بعد كل دا لسه فاكرة إنها عاوزة ابنها ؟؟ بعد كل دا وحشها ؟؟ عقلها كان فين وهي بتضمي على ورقة بيعه؟؟ اسكتي يا “آيات” وطلعي نفسك برة الموضوع دا أحسنلك.
أقتربت منه تمسك ذراعيه وهي تقول بلهفةٍ أقرب في تأثيرها إلى الصوت الباكي:
_صدقني قطع صلة الرحم دا حاجة كبيرة أوي ربنا يعافينا منها، لازم نعلمه يبر أمه ويراعيها، دي التربية اللي إحنا عاوزينها ليه، عاوزينه يعرف يعني إيه راجل متفهم وبيراعي ربنا في كل حاجة، ربنا قال في كتابه العزيز:
قوله تعالى:
«وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ».
وقوله تعالى:
«وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ».
صلة الرحم هي بر الوالدين
أداؤه واجب والتقصير عقوق ومَن وصل رحمَه
فقد عمَّرٓ دنياه ، وبورك له في رزقه وعمره
علموا أولادكم أن البركة في صلة الرحم
لازم يحفظ أبوه وأمه مينساش فضلهم
واخته لا يقاطعها فهي ضلعه الآخر
صلة الرحم بين الأخوة سند
صلة الأرحام دواء وشفاء وبركة في العمر والرزق والأجساد و البيوت والعمل ومغفرة الذنوب والسيئات علموا أطفالكم صلة الرحم
وصلة الرحم اسمها من الله الرحمن الرحيم
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يقول الله تعالى: “أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسمًا من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته”
معنى من وصلها وصلته ومن قطعها بتته:
أي من داوم على بره لرحمه وإحسانه لها ومواساتها داوم الله عليه بره ورحمته، ووصله بخيره وإحسانه، ومن قطعها فلم يصلها بتته أي قطعته،
فيحرمه الله من خيره وجنته وبره ورحمته.
انتبه لها وازدرد لُعابه خاصةً حينما تحدثت بالوازع الديني وهو لم يجادلها من هذا الإتجاه، بل يسكت تمامًا وحينما لاحظت هي بدء استسلامه لأفكارها رفعت كفها تربت على كتفه فوجدته يغمض جفونه يائسًا ثم قال بنبرةٍ جامدة وهو يبتعد عنها قبل أن تضيف من جديد أي حديثٍ يجعله راضخًا لها:
_معلش يا “آيات” أنا مستعجل خليها مرة تانية.
تركها ورحل من مكانه وترك البيت بأكمله فيما وقفت هي تنظر في أثره بإحباطٍ كبير تسبب به بخروجه مرسلًا لها معنى واحدٍ وهو أنه لن يستسلم بهذه السهولة لما تتحدث عنه.
زفرت بيأسٍ فوجدت هاتفها يصدح في الغرفة الخاصة بها حينها ركضت نحو الداخل تبحث عن الهاتف وما إن وجدته خطفته قبل أن تنغلق المكالمة فوجدت رقم “تَـيام” حينها ابتسمت بخجلٍ وخرجت من غرفتها وهي تجاوب على المكالمة:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، خير ؟؟.
ابتسم هو على الجهة الأخرى وقال بنبرةٍ هادئة على عكس طبيعته:
_وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، خير إن شاء الله، قولت أتطمن عليكِ وأقفل تاني، كويسة ؟؟.
ردت عليه بنبرةٍ يعتليها الخجل:
_الحمد لله في زحام من نعم ربنا عليا.
أعجبه ردها وجعله يبتسم لذا مازحها بقوله:
_طبعًا مش لبستي دبلتي ؟؟ لازم تكوني بخير.
ضحكت رغمًا عنها وابعدت الهاتف تتحكم في ضحكتها فوجدته يقول بنبرةٍ جامدة وكأن حاله تبدل:
_مينفعش كدا يا أستاذ “بلال” الرخام مستني وقرب يبرد، حضرتك طالب حاجة تاني مع الأوردر ؟؟.
عقدت ما بين حاجبيها وابعدت الهاتف تنظر في شاشته تتأكد من هوية المُتصل، فيما أغلق هو في وجهها فور وصول “أيهم” أمامه لكن الأخر لم يكن في حالٍ يسمح له بالجدال والمناقشة حتى، بل ألقى عليه التحية وجلس يفكر في حديث شقيقته بملامح مقتضبة شديدة التهجم حتى أن “تَـيام” لاحظ حالته فسكت تمامًا وجلس على المقعد ينتظر العميل القادم.
في مكانٍ أخرٍ تحديدًا بنفس البناية التي تقع بها شقة “بيشوي” وفي الشقة المقابلة لشقته كانت “جـنة” تجلس في غرفتها، تلك الفتاة التي أحبت “أيوب” وحاولت كثيرًا أن تلفت نظره لها، منذ معرفتها بزواجه وهي لم تخرج من غرفتها، تبكي بحرقةٍ ووجعٍ على رجلٍ رسمته بأحلامها، نعم هي رأتها معه من قبل في محله بمنطقة شارع “المُـعز” لكنها لم تتوقع أن يتزوجها بهذه السرعة، هي فتاةٌ عادية لم ترتدي الثياب الشرعية ويبدو أنها غير ملتزمة دينيًا مثله ومثلما فعلت هي ؟؟ ظنته سيحبها حينما ترتدي الحجاب الشرعي وتحاول أن تكون مثل شقيقته لكنه حتى لم ينتبه لها.
غفلت عن طاعات الله لأجله ظنًا منها أنها بتطبيقها للفروض والإلتزام بالطاعات والسُنن ستناله وتلفت نظره لها، لم تهتم بكون القلوب العامرةِ بالإيمان هي التي تلفت الأنظار لها، نعم الهيئة ترتبط بالطاعات أيضًا والفروض لكن كلٍ منهما لا يتجزأ عن الأخر بل إن القلب المليء بالإيمان هو الذي يُغدق صاحبه بالخير، نست هي أن نيتها الفاسدة أفسدت عملها الصالح وأنها اهتمت برأي العباد أكثر من الخوف من رب العباد، لذا هي تتعذب الآن ووقعت أسيرة في حزنها.
خرجت من الفراش تقف أمام المرآة تستمع لصوت شيطانها وهو يخبرها أنها أخطأت من البداية في ارتدائها مثل هذه الملابس لذا أخرجت بنطالًا من خزانتها ترتديه ثم وعادت لشخصيتها القديمة وهي تعاند نفسها وتستسلم لشيطانها وهو يتحكم بها غافلة عن رؤية رب العالمين لها فيما تفعله في نفسها، لكنه قلبٌ أحب ويا ويل القلوب العاشقة إذا لم تكن ممتلئة بحب الخالق أولًا.
________________________________
<“كذبتُ حينما قلتُ سأنسىٰ، أنا الغريقُ أين المرسىٰ”>
في منطقة نزلة السمان توقفت سيارات الشباب تِباعًا خلف بعضها يشقون الرمال الصفراء أسفلهم بعدما أخذوا الطريق في سباقٍ مع بعضهم كما يفعلون بالخيول وقد ربح عليهم “إسماعيل” الذي جاوره “مُـحي” في السيارة الخاصة به وخلفه “يوسف” وخلفهما “إيهاب” يحميهم أكثر من كونه مشاركًا في السباق.
نزلوا نن السيارات وارتفع صوت “تَحية” مدبرة البيت حينما أطلقت زُغْرُودةً من فمها ترحيبًا بـ “يوسف” العريس الذي عقد قرانه منذ يومين، أقترب منها مبتسم الوجه فوجد الشباب يقتربون منه يرحبون به ويباركون له ونزلت “سمارة” تشارك “تحية” في فعلها هي الأخرىٰ وقد دلفت الفرحة للبيت على قدومه ليطل “نَـعيم” من الداخل بهيبته الفارضة وهو ينظر لهم بعينين مُبتسمتين تنافيان ملامحه المشدودة فيما رفع “يوسف” رأسه نحوه لتتقابل نظراتهما سويًا.
بعد مرور ثوانٍ انفض المكان من الجميع عدا الشباب و “سمارة” التي أقتربت من زوجها تخبره بفرحٍ بسبب عودته باكرًا:
_حمدًا لله على السلامة، كويس إنك جيت بدري.
حرك رأسه موافقًا وهو يبتسم لها ثم نظر لأخيه فلوت هي فمها بتهكمٍ وهي تقول بسخطٍ من صمته:
_ياختي إيه الراجل الصامت دا؟؟ أقول إيه وغد بصحيح.
تحدث “نَـعيم” بعدما رحب بـ “يوسف” يأمر الجميع بقوله:
_كل واحد فيكم يروح يشوف وراه إيه لحد ما اتكلم مع “يوسف” كلمتين كدا، “سمارة” شوفي الست “تحية” كدا خليها تجهز الغدا، يلا.
تحركت من محلها نحو الداخل بعد إذن زوجها لها بنظراته فيما دلف كلٌ من “يوسف” و “نَـعيم” إلى غرفة الأخر ليتحدث “يوسف” بتهكمٍ من جمود الأخر المصدر له:
_أنتَ زعلان مني بجد بقى !!.
رفع “نَـعيم” عينيه نحوه وهو يقول بسخريةٍ:
_فارق معاك زعلي؟؟ ولا بيفرق معاك كلامي أصلًا ؟؟ أنا كلي مش فارق معاك يا ابن “الراوي” بس هقول إيه ؟؟ قولتلك متتجوزش وشوف أي حل تاني غير دا مسمعتش كلامي، قولتلك أنتَ لسه مش جاهز لحاجة زي دي برضه مسمعتش كلامي، تقدر تقولي وضعها إيه مراتك؟ نسيت وجع “شـهد” ليك ؟؟ نسيت “شـهد” أصلًا ؟؟.
أراد أن يضغط عليه بالحديث ليعلم سبب زواجه من الأخرى وقد نجح في قوله حينما تبدلت ملامح الأخر وتشددت بقوةٍ من عروقه البارزة ووجهه المحتقن وهو يقول بنبرةٍ جهورية:
_ مين قالك إني نسيت ؟؟ ومين قالك إن جوازي دا سببه “شـهد” أصلًا أنا مش هتجوز علشان أقهر واحدة بواحدة تانية، لو عملت كدا هبقى مش راجل خصوصًا إنها ملهاش مكان عندي، دي كانت محطة غلط دخلتها وخرجت منها خلاص.
ابتسم “نَـعيم” بسخريةٍ وهو يسأله:
_إيه نسيت خلاص ؟؟ وحقك ؟؟.
اتقدت عيناه بشررٍ وهو يرد عليه مُعلقًا على حديثه الذي أيقظ جروحًا جاهد لإخمادها بل وتصنع نسيانها أيضًا:
هبقى كداب لو قولت أني نسيت، أنا معرفتش أنسى ولا قدرت انسى، مفيش حاجة من كل اللي شوفته قدرت أنساها، حتى هي مقدرتش أنسى اللي كان بيننا، علشان دا مش زرار هدوس عليه ينسيني، دي حياة كنت برسم فيها وفضلت هي تناولني الألوان لحد ماجت في الأخر رمت الحبر على اللوحة دي، محدش يقدر ينسى الوجع اللي عاشه، بس يقدر يتخطى كل دا لما يفتكر إن هما مكانوش يستاهلوه، وأنا كنت كتير عليها، صحيح خدت منها درس محترم علمني الأدب، بس برضه محدش اتعلم بالساهل، أنت كدبت لما قولت هنسى، أنا لسه زي الغريق مش لاقي مرسى، وعند إحساس أني قريب هلاقيه زي ما لقيت أمي وأختي و “يوسف” اللي علاجه في حضن أمه.
تنهد “نَـعيم” بثقلٍ وأخبره بنبرةٍ جامدة تخالطها الحكمة:
_لما سبق وجيتلي بالمحروسة معاك تعرفني عليها قبل كدا أنا مرتحتش ليها مولفتش على المكان وبان إنها مش أصيلة، وساعتها قولتلك متسلمش الرسن ليها علشان لو اتحكمت هتغدر بخيالها، ساعتها مسمعتش مني لحد ما حصل اللي حصل، قولي بقى مراتك دي أصيلة ولا أنتَ خيال نص كوم مبتعرفش تصطاد صح!!.
مال عليه “يوسف” يقول بنبرةٍ رغم هدوئها إلا أن إصراره أضاف لها القوة وهو الثبات حين هتف:
_فاكر حكمتك اللي قولتها لينا زمان؟؟ الأصيلة متمشيش لو رخيت لها الرسن بتمسك في خيالها علشان بتعتبره صاحبها وخِلها الوفي، ولو قسي عليها خيالها هي متهجرش، اتطمن تلميذك نقى مُهرة أصيلة، حتى لو لسه معرفهاش بس عينيها قالت إنها أصيلة، وعيون المُهرة الأصيلة برقبة ألف هجينة.
ربت “نَـعيم” على كتفه وهو يقول بإصرارٍ:
_يبقى الحكم ليا، أشوف وأقول بنفسي.
حرك رأسه موافقًا وتثبتت نظراتهما سويًا بتحدٍ كلًا منهما يود إثبات وجهة نظره، “يوسف” يريد إثبات إنها غير الأخرى وللحق لا يحق المقارنةِ بينهما و “نَـعيم” يود التأكد أن الأخر اختارها لذاتها وليس هربًا من بقايا مشاعر تسكنه فشل في إخراجها من جوف روحه.
________________________________
<“التـردد مـقبرة الفُـرص”>
مر اليوم وانتهى بعد عودة الجميع إلى حياتهم الطبيعية ورحيل “يوسف” إلى بيته لكن قبل ذلك ذهب إلى عمل “عَـهد” يأخذها منه ثم توجه إلى بيت أسرته يطمئن عليهم وعاد إلى بنايته من جديد ينام بها حتى يأمن الحفاظ على سلامة “عـهد” ولم يخلو الليل من كابوسها المروع لتصرخ كالعادة ويذهب هو يعاون في إيفاقتها للمرة الثالثة على التوالي.
في نفس اليوم بعد تم إنتقال أسرة “يوسف” إلى حارة “العطار” أخيرًا بعدما تجهز كل شيءٍ أخيرًا ولم يتركهما “أيوب” بل أشرف بنفسه على تسليم الشقة، ونقل لهم الحقائب بينما “يوسف” أتى بـ “عهد” من عملها ليجد “أيوب” يعاون “عُـدي” في حمل أشيائهم الخاصة نحو الشقة والبقية تبعوه للأعلى وخلفهم “يوسف”.
كانت “مَـي” على علمٍ مسبقٍ بقدومهم فقامت بتحضير زجاجة مياه غازية كبيرة الحجم وزجاجة مياه منخفضة الحرارة وفور وصولهم أمام الشقتين اقتربت منهما وهي تقول بنبرةٍ حماسية شديدة مرحبةً بهم:
_أهلًا وسهلًا نورتونا والله العمارة بقى ليها حس بيكم.
التفتت لها “أسماء” تقول بحماسٍ هي الأخرى:
_وماليكِ عليا حلفان يا أم “عـهد” أنا مشجعنيش أجي هنا غيرك أنتِ يا صغنونة، أنتِ عسل أوي.
اقتربت منهم “عـهد” تقدم المياه وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_طب اتفضلوا أشربوا المياه علشان أكيد الشقة فاضية ولو محتاجين أي حاجة شقتنا تحت أمركم أحنا أهل.
أقتربت “ضحى” منها تأخذ المياه وهي تقول بتلهفٍ للشراب الذي يعيد الروح من جديد:
_هاتي عقبال شربات فرحك على “يوسف” يا رب.
ابتسمت لها بخجلٍ ونظرت له فوجدته يهرب من النظر إليها ثم فتح الشقتين وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_زي ما كان وضعكم في البيت هناك، “أيوب” كتر خيره نظم كل حاجة أحسن ما أنا طلبت منه، الراجل بقاله يومين بيأمن.
لم يخلو حديثه من السخرية كعادته وقد لاحظ الجميع هذا ليتحدث “أيوب” بنبرةٍ هادئة وواثقة كعادته:
_دي أمانة أنا حملتها لنفسي وهتسئل عنها قدام ربنا، علشان كدا لازم أكمل دوري زي ما أنا أختارت بعدين مفيش تعب ولا حاجة دول أهلي.
أقتربت منه “قمر” تمد يدها بزجاجة مياه صغيرة له وهي تقول بوجهٍ يبتسم ببشاشةٍ:
_طب اتفضل دي كنت جايباها احتياطي معايا.
انتبه لها فأخذها منها ورد بهدوء أمام الجميع:
_ألف شكر، أسقاكِ الله من أنهار الجنة.
ابتسمت بسعادةٍ لدعائه لها وارتفعت ضربات قلبها بصخبٍ وتأكدت أنها حقًا تحتاجه هو دونًا عن البقية، تحتاج لدعائه لها حتى إن فعلت أبسط الأشياء، لتخرج من قوقعة فرحها على صوت “أيوب” وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_عن إذن حضراتكم هطلع أرتب الكراسي الجديدة فوق السطح علشان لو حد حابب يطلع يقعد فيه يلاقي مكان تاني غير مكان المدام “عـهد”.
كادت أن تندفع وتستنكر قوله بذكرها “مدام” فوجدت “يوسف” يرفع حاجبه لها حينها سكتت و التزمت بالصمت تمامًا تتعجب من اللقب الغريب الذي يتم وصفها به بينما “أيوب” تحرك نحو الأعلى فورًا على قدميه دون استخدام المصعد.
بعد مرور عدة دقائق صعدت “قمر” فوق السطح بعدما أخبرتها والدتها بوجوب هذا الفعل، فأخذت كوب شاي وزجاجة مياه وصعدت له لتجده خلع سترته الخارجية وظل بقميصه الأبيض بعدما شمر ساعديه وهو يرتب المكان غافلًا عن تواجدها وهي تقف خلفه حتى حمحمت بخفةٍ تلفت نظره فالتفت لها ليجدها تبتسم له وهي تقول بخجلٍ من تواجدها بمفردها معه للمرةِ الأولى من بعد عقد القران:
_ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ابتسم لها ورد التحية بقوله:
_وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، نورتي المكان يا “قمر”.
اخفضت رأسها بخجلٍ تكتم ضحكتها وما إن نجحت في هذا رفعت رأسها من جديد وهي تقول بنبرةٍ هادئة لم تخلو من الاضطراب:
_أنا جاية أديك الشاي دا ومياه علشان أكيد تعبت في شغلك هنا، وحقيقي يعني مفيش حاجة توفيك تعبك، ربنا يكرمك.
حرك رأسه موافقًا ثم أخذ منها الصينية يضعها على الطاولة الرخامية الجديدة ثم سألها باهتمامٍ وهو يشير إلى المكان بعد تحديثه من قبله:
_طمنيني إيه رأيك في المكان؟؟ أتمنى يعني مكونش عكيت فيه، حاولت أحافظ على مكان المدام “عـهد” بقدر الإمكان علشان آمن قلبة “يوسف” بس محدش ضامن رد فعله إيه، دا أنا جوز أخته ومش عارف أتحرك، ما بالك لو قربت من حاجة مراته ؟؟.
كان يمازحها بالحديث ليجدها تبتسم حتى تحولت بسمتها إلى ضحكةٍ عالية يراها هو لمرته الأولىٰ، تلك المرة يحق له أن يتامل وجهها وملامحها وضحكتها، أصبحت له ولم يحاسب نفسه على تأمله لها، أقترب منها حتى وقف مقابلًا لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة وقورة كعادة شخصه:
_تعرفي أني وأنا بجهزه لمحت القمر هنا وافتكرتك ؟؟ أو تحديدًا يعني افتكرت قصيدة خاصة بالقمر كان قالها “العباس بن الأحنف” بس كل مرة أجي أقولها أفتكرك والحقيقة مفيش تفسير قوي لكل دا.
انتبهت له حينما رفعت عينيها التي تطالعه من خلالهما بدفءٍ وتنطق بإطمئنانٍ له وهو يقف مقابلًا لها ويشهد على وقوفهما سويًا ضوء القمر الساطع حينما قال بصوته الهاديء مستغلًا هذه اللحظة بشعورٍ غريبٍ عليه لم يفهمه هو لكنه استسلم له بكل ذرةٍ به متنعمًا بشعور الونس:
_أَلا أَيُّها القَمَرُ الأَزهَرُ
تَبَصَّر بِعَينَيكَ هَل تُبصِرُ
تَبَصَّر شَبيهَكَ في حُسنِهِ
لَعَلَّكَ تَبلُغُ أَو تَخبُرُ
فَإِنِّيَ آتيكَ وَحدي بِهِ
وَأُفضي إِلَيكَ بِما أَستُرُ
زُبالَةُ مِن دونِهِ
وَالشُقوق وَالثَعلَبِيَّةُ وَالأَجفُرُ
وَطالَ المَغيبُ وَشَطَّ الحَبيبُ
وَما أَستَفيقُ وَما أَصبِرُ.
كسا التوتر ملامحها وابتسم هو لها ثم ألتفت يأخذ زجاجة المياه يرتشف منها تاركًا لها الحرية في تقبل الوضع وهي تقف أمامه بمفردها ضائعة وحائرة وفي نفس الآن آمنة !! كادت أن تخرج من السطح لكنها عادت له تسأله بلهفةٍ بعدما تذكرت:
_بقولك صح، هو المسجد اللي جنب البيت دا أنتَ بتصلي فيه وبتأم بالناس صح ؟؟.
حرك رأسه موافقًا فوجدها تصارع نفسها ورغبتها في التحدث وبدت كأنها تود الركض من أمامه لذا سألها باهتمامٍ ينتظر منها التحدث:
_قولي يا “قـمـر” عاوزة حاجة؟.
حركت رأسها موافقةً وهتفت بتوترٍ:
_عاوزة أسمعك وأنتَ بتأذن وبتقرأ قرآن في المسجد، خالو قالي إنه صلى وراك قبل كدا كتير، فسؤالي بقى لو صليت وآذنت أنا هسمعك ؟؟.
ابتسامة واسعة ارتسمت على ثُغره وراحة غريبة طفقت تعلن نفسها في عينيه لكنه جاوبها بنبرةٍ هادئة وهو يقول:
_إن شاء الله تسمعي صوتي وقبلها بقول ابتهالات كمان حارة العطار كلها بتسمعها، متقلقيش بس ممكن أعرف السبب يعني ؟؟.
كادت أن تخبره لكنها تراجعت على الفور وهي تقول:
_ممكن بعدين ؟؟ بس أوعدك هقولك مش هخبي.
حرك رأسه موافقًا وهو يبتسم لها وقد أضاف بهدوءٍ:
_وإحنا في إنتظار القـمر.
تركته ونزلت من مكانها للأسفل بوجنتين حمراوتين جعلته يبتسم رغمًا عنه وحرك رأسه نفيًا فعفويتها دومًا تسرقه من حيث هو موجود، تشبه طفلة صغيرة متسرعة في التحدث وما إن تدرك خطئها أو تهورها تعود وتعتذر من جديد عن فعلها.
بعد مرور عدة ساعاتٍ أخرى من إنتقال الأسرة نزل “أيوب” برجال أسرته إلى المسجد ونزل “فضل” مع ابنه ونزل معهما “يوسف” أيضًا الذي تمنى من كل ذرة بقلبه أن تمر الليلة مرور الكرام على زوجته، ليس لشيءٍ إلا عدم تواجده في هذا التوقيت وللحظةٍ كاد أن يتهور ويطرق بابها يطمئن عليها، لكنه تراجع عن هذا الفعل مؤجلًا له بعد عودته من المسجد.
وقف “أيوب” قبل موعد الآذان يبتهل بصوته العذب وتلك المرة كان يتحمس كما الطفل الصغير يحسن صنعًا في انتظار تلقي رد الفعل ممن حوله وهي تحديدًا من ينتظر رد فعلها، وقف يكرر نفس الابتهال السابق بنفس الإحساس الصادق وهو يقول في نفس الآن الذي وقفت به هي تستمع له بفخرٍ غريبٍ عليها:
_مَوّلاي إنّي ببابكَ قَد بَسطتُ يَدي..
مَن لي ألوذُ به إلاك يا سَندي؟
أقُومُ بالليّل والأسّحارُ سَاجيةٌ
أدّعُو وهَمّسُ دعائي.. بالدُموُع نَدي
بنُورِ وَجهِكَ إني عَائذ وجلُ..
ومن يعذ بك لن يَشّقى إلى الأبدِ..
مَهما لَقيتُ من الدُنيا وعَارِضها..
فَأنّتَ لي شغلٌ عمّا يَرى جَسدي..
تَحّلو مرارةِ عيشٍ في رضاك..
ومَا أُطيقُ سُخطاً على عيشٍ من الرَغَدِ..
مَنْ لي سِواك؟!.. ومَنْ سِواك
يَرى قلبي ويسمَعُه؟
كُلُ الخَلائِق ظِلٌ في يَدِ الصَمدِ..
أدّعوكَ يَاربّ فأغّفر زلَّتي كَرما..
وأجّعَل شَفيعَ دُعائي حُسنَ مُعْتَقدّي
وأنّظُرْ لحالي.. في خَوّفٍ وفي طَمعٍ..
هَلّ يَرحمُ العَبّد بَعْدَ الله من أحدٍ؟
مَوّلاي إنّي ببابكَ قَد بَسطتُ يَدي..
مَن لي ألوذُ به إلاك يا سَندي؟”
أنهى الابتهال ثم أعلن عن موعد الفجر وقام برفع الآذان بصوته وأنهاه ثم قام بتأدية ركعتي السُنة والرجال في المسجد كذلك ثم ركعتي الفرض وأنهى الصلاة أخيرًا والتفت يُرحب بالناس ووالده كذلك و “إياد” معهم وبعد مرور دقائق خرجوا من المسجد مع بعضهم وأخرهم كان “أيوب” الذي وقف يغلق باب المسجد ونزل الدرجات الباقية بجوار “إياد” الذي وقف بجواره يتثاءب وهو يشعر بالبرودة حتى حمله “أيوب” وهو يقول بسخريةٍ:
_تعالى أحسن تقع وأنتَ نازل نايم على نفسك كدا.
ضحك الصغير ووضع رأسه على كتفه يستشعر الأمان بوجوده وما إن نزل “أيوب” الدرجات يجاور الرجال حتى وجد مجموعة رجال يقتربون منهم وتحدث من يتقدمهم بنبرةٍ رسمية حادة:
_أستاذ “أيوب” اتفضل معانا.
وقف “أيوب” مصدومًا وكذلك الرجال حوله وحينذاك وقع بصره على السيارة البيضاء فابتسم بسخريةٍ وترك الصغير على ذراع “أيهم” مستعدًا معهم للرحيل وسط دهشة واستنكار البقية.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)