رواية غوثهم الفصل الخامس والتسعون 95 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الفصل الخامس والتسعون
رواية غوثهم البارت الخامس والتسعون
رواية غوثهم الحلقة الخامسة والتسعون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل العاشر_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
_____________________
“عبدٌ أنا والقلب يصرخ داخلي
يا رب إني مسرفٌ وأثيمُ
لك قد أنبتُ وخافقي متألمٌ
مما جنيتُ، وحَرّ ذاك أليمُ
رباهُ إن لم ترتضيها توبتي
من أرتجيهِ ومن سواك حليمُ!”
_”عيسى محمد”.
__________________________________
ولما رحلت من الأساس وأنتَ لا تحب الهجر؟
هذا السؤال ألقاه عليَّ قلبي يُعاتبني وأنا أفكر بكِ،
وكأنه يصفني بأكثر الصفات بشاعةً ويوسمني بالغـدرِ، فغدوت أمامه ضعيفًا فقيرًا مُعدم العُـذرِ؛
ثم راح يُكررها عليَّ أنني من أنتويت الفراق،
ثم أقر أنني من حكمت عليه بالإشتياق، وأنا وربي لم أنتوي سوىٰ أن أبقى بجواركِ وأرتشف من خُمرة عينيكِ حتى أصل إلى السُكرِ، فأنا لم أنفي إنسانًا عن وطنه، ولم أحرم وحيدًا من ونسه، ولم أُخطيء في حق غريبًا وأبعده عن أرضهِ، أنا بذاتي وإن أخطأت في حق القلب، فالذنب ليس ذنبي، إنما هو ذنب من هوىٰ وأحب،
وآهٍ من عقابٍ يُكتَبُ للمرءِ فُيبتلىٰ ويُحرم ممن يُحب…
<“رُبما يكون العرض مُغريًا، لكن أصله وضيعٌ”>
يد الماضي تطل حياتك في الخفاء لتطرؤ بعض التغيرات عليها تناسبًا بما تغير لديها، تبدو وكأنها حُرمت على حاضرك الراحة وأغلقت على مستقبلك ضيق الساحة، يبدو الأمر وكأن الماضي يخرج لك لسانه وهو يتراقص في أرض حاضرك ليراسلك خفيةً أنه لازال يحتلك وأرضك لم تخرج من سطوته، يخبرك بطريقةٍ ما أن جذوره لازالت متشعبة في حياتك وكأنها شجرة فروعها أمتدت وتوغلت بأرضك، لذا عليك أن تقاتل بضراوةٍ لكي تقتلع هذه الأشجار من جذورها وتُجرف حياتك منها، وحينما يظهر شبح الماضي لك ماددًا كفوفه ولو حتى بمعاهدة سلامٍ، لا تُصافح ولا تُسامح…
وقفت “عَـهد” أمام مُحتلة أرضها مشدوهةً من جُرأتها ووقاحتها فيما وقفت الأخرى في إنتظار الجواب المناسب الذي يتلائم مع فضولها وغرورها على عرضها المُغري على عكس الأخرى التي تأهبت حواسها وهي تُربع كلا ذراعيها عند منطقة صدرها وهي تسألها بتهكمٍ قاصدة الاستهزاء بها:
_ والله أنا معنديش أي تعليق على كلامك غير إنك ست معندهاش ريحة الضمير، يعني مش كفاية ابنك اتسبب في ضياع حياتي ومرضني وخلاني زي اللي عقلهم فك منهم وكمان جاية عاوزة تشتريني؟ للأسف أنا مش لعبة في إيدك ولا رخيصة زي أصلك علشان أبيع ذمتي بالفلوس ولو على جوزي، فهو راجع، راجع قريب بس ربنا يعينه ويوفقه في شغله، أصله مبياخدش مصروف من حد، أظن الجواب وصلك.
حسنًا لقد عاد تمردها والتسلح بالقوةِ وهي تدافع بحميتها القوية البدائية عنه حتى في الغياب، وقد عكس تصرفها أصل طبعها القوي والحاد، وكأنها تُصدق على وصف رجلها الغائب حينما قال عنها في السابق أنها تحمل كل الصفات وما يُنافيها، تقوىٰ ومن الأساس هي الضعيفة، تقسو على من يُعاديها وهي الرحيمة، ترغب وهي المانعة، تُرأف وهي المُعذبة، أما عن الأخرىٰ فقد ابتسمت بتشفٍ ولمع التهديد في عينيها هاتفةً بشرٍ نبع عن ضغينةٍ تملأ قلبها:
_وأنا ورحمة أمي ما هخليكِ تتهني بحاجة، وزي ما ابني ضاع مني بسببك وقلبي أتحرق عليه، هحرق قلبك وهاخد الفرحة من حباب عينيكِ الاتنين، مش آخرة حبه ليكِ إنه يضيع مني، دا أنا أضيع ضي عينيكِ الاتنين قبل ما تفكري تفرحي وتتهني بحياتك وابني هيخرج خلاص.
حسنًا، رغم أن حديثها تقطرت من حروفه السواد الذي أمتدت يداه نحو قلب “عـهد” وتعتصره حتى ينزف دمًا حالك السواد هو الآخر وكأنه يبكي كمدًا إلا أن هذه المُهرة الجامحة لم ترضخ وتُحني رأسها، بل هي شامخة وعزيزة النفس لذا تمسكت بثباتها ورفعت رأسها بعدما علت عزيمتها:
_وأنا زي ما أنا مكاني هنا، واللي عندك أعمليه، وإذا كان على ابنك فكلها حاجات بسيطة وهقف تاني أرفع راسي وأعترف عليه، علشان مش أنا اللي هقبل إن واحد زي دا يخرج عادي بعملته دي بعدما كان هيسوأ سُمعتي،وعلى فكرة اللي زيك خسارة تبقى أم، فريحي نفسك وبرة من غير مطرود.
أنهت حديثها بالإشارة نحو باب الشقة تطردها للخارج بكل صراحةٍ فيما رفعت الأخرىٰ أنفها وسارت نحو موضع الإشارة بخيلاءٍ كونها لم تنهزم، فيما تتبعت “عـهد” أثر تحركها بغير رضا ثم تماسكت حتى أختفى طيف الأخرىٰ من أمام مرآى عينيها ووقتها فقط تنهدت بثقلٍ تُخرج الحِمم البُركانية من داخل جوفها فيما طالعتها أمها بقلة حيلة وهي تشفق عليها، ابنها أصبحت هنا تعاني من الويلات، ويل فقدان حبيبها المُهاجر، وويل العمل وبداية العودة من جديد إلى حياتها السابقة قبل أن يظهر في طريقها وتطأ قدماه أرضها، ثم ويل المزعوم “سـعد” وأمـه، بينما هي قطعت سُبل الحديث حينما دلفت غُرفتها تتكوم على نفسها في الفراش وهي تعلم أن هذه الليلة ستكون عصيبة وستراودها أشد الكوابيس ظُلمةً ولن تتركها، ولو كان هو هُنا لكانت ألقت بحملها عليه، لكنه رحل، وترك خلف أمر رحيله هالة غموضٍ..
تململت في فراشها وقد هرب السلام منها، وفَـلَّ الهدوء عن مُحيطها وتعكر صفو جلوسها لذا تحركت من غرفتها تخطف الوشاح الصوفي المُزركش بتصميمات عربية يغلب عليه اللون الأحمر والأسود، وقد صعدت فوق السطح تتابع أوراق الزرع الأخضر الخضب الذي بدأ يترعرع وينمو، ثم الزهور زاهية الألوان، وكأن كل شيءٍ هنا طاله الربيع على عكسها هي، تعيش في حقبة زمنية في طرف المدينة لازالت تُغلفها يد الشتاء، طالت ذكريات عِدة رأسها ولاح طيفه أمام عينيها وتردد صدى صوته في أُذنيها حينما كان يهاتفها بصدقٍ في بداية جمعهما سويًا:
_بس أنا هنا علشانك يا “عـهد”…
زفرت بقوةٍ ورفرقت بأهدابها لتمنع الدمع الحارق من الإنفلات مابين جفنيها، ثم لاحت ذكرى تركت في قلبها جُرحًا بقدر ما كانت سعيدة حينها في سابق عهدها، لذا أغمضت عينيها ورفعت صوتها تُغني الأغنية ذاتها صاحبة الذكرى الأليمة وقد أنتقت مقطعًا منها كأنه يخصه هو:
_حبيبي كان هنا
مالي الدنيا بالحب والهنا
حبيبي يا أنا
يا أغلى من عينيا
نسيت مين أنا؟… حبيبي كان هنا
مالي الدنيا بالحب والهنا
حبيبي يا أنا
يا أغلى من عينيا
نسيت مين أنا؟….
توقفت عن الغناء بعدما تحشرج صوتها وقد غلفه الحزن وهي تُرثي حبيبًا تركها ورحل، وقد أعادت الكُرة من جديد وكأنها تستجديه وتنادي قلبه بصوتها الغَنَّاء وهي تقول:
_أنا الحب اللي كان
اللي نسيته أوام، من قبل الأوان
نسيت اسمي كمان، نسيت يا سلام
على غدر الإنسان!!
_أنا الحب اللي كان
اللي نسيته أوام، من قبل الأوان
نسيت اسمي كمان، نسيت يا سلام
على غدر الإنسان.. والله زمان، يا هوا زمان
والله زمان يا هوا زمان، والله زمان يا هوا زمان.
سحبت نفسًا عميقًا ثم تركت العنان لدموعها وهي تستمع لقلبها الذي أشتاق له ولتواجده ولسماع صوته، لقد شهدت كل الأماكن على حزنها برحيله، واستمع لشكواها الحجر وأنشق من حزنه لأجلها، واستها الزهور، وساندتها الطيور وكأنها طيرٌ مثلهم لكن علتها أضحت في الجناح المكسور، تبدو وكأنها طيرٌ فقد جناحيه بعد غياهب طويلة من السكون، حتى تعلم فنون الطير على يد الغير..
__________________________________
<“إذا كان الحنان موجودًا بداخلي، فأنا حفظته لكِ”>
لا شك أن الحواجز بيننا ستتلاشى، سنصبح كما القلب الواحد المُنقسم إلى شطرين، ولا شك أن روحنا من الأساس واحدة أنقسمت في جسدين، وها أنا أمدُ لكِ كفوفي كي تمسكين بها وأقوىٰ أنا على إزالة الحواجز بيننا، وها أنا بدأت في كسر السبعين حاجزٍ، والتمس قلبي لكِ فوق السبعين عُذرًا ولا شك أنني سأقضي المتبقي من أنفاسي في إزالة كل ما يُعيق بيننا ويوقف إكتمالنا…
وقد وقف “أيـوب” أسفل بنايتها ينتظر قدومها الكريم وهي تجود على روحهِ بمطالعته مُحياها الرقيق، ووجها الصافي المنحوت الدقيق، تلك الجنية الساحرة التي تُغدق كل من حولها بالحبِ والمزاح، وها هي تكرمت عليه وظهرت تبتسم له ابتسامة باهتة جعلته يستقر بأنظاره عليها وهي تتجاوز الدرجات الخمس داخل البناية حتى وقفت أمامه وقد توسعت بسمتها المُنطفأة بعض الشيء وهي تقول بنبرةٍ شبه مبحوحة وكأن حلقها تستوطنه الغِصة:
_إزيك يا “أيـوب”؟ تعبت نفسك ليه وجيت؟.
ابتسم لها بعينيهِ أولًا قبل أن يتحدث ردًا عليها بحنوٍ بالغٍ:
_فداكِ يا ” قـمر” أنا جاي علشانك أنتِ، أوعدك مش هآخرك، دقايق بس في مشوار قريب لهنا، ولو مش حابة محدش هيجبرك، بس أنا هتبسط لو جيتي معايا، ووالدتك عارفة وموافقة ورحبت أوي، ممكن؟.
حركت رأسها موافقةً بإيماءةٍ خافتة وقد جذب انتباهها تواجد “إيـاد” بداخل السيارة فتحركت نحوه ترحب به بحفاوةٍ كبرى جعلته يبتسم لها حتى جاورته في الجلوس بداخل السيارة بينما “أيـوب” جلس على مقعد القيادة وحرك رأسها للخلف بنصف إلتفاتة هاتفًا بنزقٍ للصغير:
_والله؟! هتقطع عليا من الأول كدا؟ أنتَ إيه اللي جابك؟.
ضحكت “قَمـر” رغمًا عنها وطواعيةً من قلبها الذي تهللت أساريره برؤيته على الرغم من ألم قلبها بسبب خوفها على شقيقها، بينما الصغير فكعادته غمز لـعمهِ وهتف بمراوغةٍ شقية بمرحٍ:
_جيت أتعلم منك يا قدوة، مش بكرة هكون مكانك؟.
رفع “أيـوب” كلا حاجبيه فيما توسعت ضحكة “قـمر” أكثر ورفعت كفها تُغطي فمها على عكس “أيـوب” الذي توعد للصغير بنظراته وعلى العكس أختار الصغير اللامبالاة اللامتناهية في التعامل حتى قاد عمه السيارة وتحرك لأول منطقة حارة “العطار” وقد ركز ببصره خلال المرآة على الأريكة في الخلف حيث جلوسها مع الصغير يتسامران سويًا في الحديث وكأنهما رفيقان دامت صداقتهما لأعوامٍ، وقد أمتن لقدوم الصغير الذي ساهم خفيةً في تغيير حالها، وبعد مرور دقائق من القيادة الهادئة ترجل هو من السيارة وتبعته هي ومعها الصغير فيما وقف هو أمام المحل وأشار لها ما إن قرأ التعجب باديًا على وجهها وهتف مُفسرًا ما يُخفي حيرتها:
_بصي يا ستي، معاكِ ربع ساعة من دلوقتي هتدخلي هنا تجيبي اللي نفسك فيه، والحساب عليا، دقيقة زيادة عن الربع ساعة الحساب عليكِ أنتِ، مع العلم إني هدفع مهما كان الحساب إيه رأيك؟؟.
توسعت عيناها بذهولٍ ما إن ألقىٰ العرض عليها فيما توقفت هي حائرة أمامه حتى أشار هو على ساعة معصمه وهتف بمراوغةٍ يُشاكسها وهو يُردد إصبعه على زجاج ساعته حتى استعادت هي رابطة جأشها ودلفت المكان الخاص بمنتجات العناية بالبشرة بمختلف أنواعها وقد وقف هو ينتظرها وهو يتابع تحركها داخل المحل مثل فراشةٍ جذبتها أضواء الحديقة اليافعة، وقد ابتسم هو برضا تام وهالته حالة انتشاء مُرضية لحواسهِ وهي تلتقط ما تُفضل وتحب بهذا المكان، كانت تتحرك بحماس طفلةٍ صغيرة أتى بها والدها لمدينة الملاهي وترك لها حرية الإختيار فيما توده..
بينما هو وجد نفسه يبتسم بسمة أخذت الطابع الأبوي أكثر من كونها نشجتها العاطفة، ووقف يُمعن نظره فيها بملامح انبسطت حتى مر الوقت المُعطى لها فرفع كفيه يشير لها بعلامة الإنتهاء فقررت هي أن تتدلل عليه؛ لذا أخذت عبوة أخرى من أحد منتجاتها المُفضلة وهي تراقص حاجبيها له وقد ابتسم هو بقلة حيلة ثم أشار على عينيه كونه مُرحبًا بذلك، وتوجه إليها يدفع الحساب المطلوب منه، وعلى الرغم أن المبلغ لم يتوقعه هو في مثل هذه الأشياء لكن بنفس التوقيت لم يصل لحد المُبالغة، بينما هي علمت وأدركت أنه يفعل كل شيءٍ لأجلها هي حتى وإن كان غريبًا عليهِ..
بعد مرور دقائق أجتمعوا ثلاثتهم معًا في المكان الذي يصنع الحلويات التي سبق وشاركها تناولها، وقد ساورت الشكوك عقل الصغير الذي سأل بتهكنٍ وهو يبحث بعينيهِ في المكان يتشرب تفاصيله:
_دي مش أول مرة ليك هنا صح؟ جيت من غيري؟.
انتبه له “أيـوب” وقرر الصمت عن الجواب على عكس “قـمر” التي قررت الاعتراف بفضلهِ عليها لذا صارحته بقولها وكأنها تسترضيه:
_بصراحة يعني أنا السبب، كنت زعلانة مرة وهو جابني هنا وقعدنا مع بعض شوية، لكن هو بيحبك ومستحيل يعمل حاجة من غيرك خالص، حتى لو هييجي هنا، بس أنتَ جيت معانا أهو، ووعد لو حصلت تاني أنا هخليك تيجي.
أرسل لها الصغير قبلة هوائية ردت له مثيلتها وهي تُغمض عينيها مثله بينما “أيـوب” وقع أسيرًا في طلتها البريئة وهي تعامل الصغير بهذه الطريقة ثم باغتها بسؤالهِ الذي توقعته هي منذ البداية:
_ممكن أعرف سبب زعلك؟ عارف إنه علشان “يـوسف” بس بقالك أسبوعين قافلة على نفسك وزعلانة، دا مش حل يا “قـمر” المفروض تخلي بالك من نفسك وتدعي ربنا يلطف بيه ويكرمه مهما كان هو فين، وثقي في ربنا إنه بخير، هتيأسي بدري؟.
حركت رأسها نفيًا بلهفةٍ ثم هتفت تستجدي قلبه بقولها الحائر الذي أعرب ودل على توترها والخوف الذي أحكم كفيه حول عنقها وكأنه مشنقتها:
_مش يأس والله، بس زعل كبير أكبر من قدرتي إني أسيطر عليه، خايفة عليه أوي يا “أيـوب”، خايفة من تهوره، خايفة عليه يحصله حاجة تزعله وهو مش معاه حد يواسيه، عاوزة أخده في حضني وأطمنه، عاوزة أكون معاه علشان عارفة إنه ضعيف حتى لو كل الدنيا معاه، كل ما أفتكر شكله قبل ما يمشي وعينيه اللي فضلت تتأسف على حاجة مش بإيده بحس إني عاوزة أمد أيدي أخنقهم كلهم، مش بس أضرب” شـهد”!! عاوزة أخويا يرتاح، صعب إنه يرتاح؟.
حرك رأسه نفيًا كردٍ عليها ثم حرك كفه يعانق كفها ويؤازرها بذلك قائلًا بثباتٍ ورجاحة عقلٍ:
_مفيش حاجة صعبة يا “قـمر” الحل الوحيد إنك تفضلي تدعي وتكوني قوية علشانه هو، علشان حبه ليكِ، علشان لما يرجع لو لا قدر الله رجع تعبان ومهموم يلاقيكِ واقفة في ضهره ومستنياه، لا تعاتبي ولا تلومي، كفاية إنه يرجع بعد كل اللي حصل، ومتنسيش إن “عـهد” موقفها منه هيكون صعب، يعني هيكون محتاج ليكِ أكتر.
حركت رأسها موافقةً بتفهمٍ من خلال إيماءة خافتة تؤيد بها حديثه ورأيه، بينما هو مسح على كفها مبتسم الوجه وكأن ملامحه وحدها مع بسمته تُضفي لها الإطمئنان والسكينة، وكأنها تجد الراحة من العبء معه هُنا، تراه رائفًا بها ويُنسيها ما تلاقته من العنا..
__________________________________
<“كل الشُكر لرحلة العمر كونها أهدتنا بكم”>
في بيت “العطار”
صعدت “نِـهال” للأعلى وهي تُغمغم بحنقٍ كونه لم يتفاعل معها أو كعادته يتسبب في غيظها ثم يتلبسه وشاح الممازحة في أكثر الأوقات التي تود بها أن تحدثه عما أصبحت تحمله في قلبها له، حيث أن الأمر تخطى ظنون عقلها وأضحى مثل الإحلام الوردية التي حفظها خيالها، الأمر هنا أشبه بالعالم الوردي الذي حلمت به طوالًا،إنه حقًا لأمرٍ غريبٍ أن يفعل المرء نفسها الأشياء بنفس المنطق المحاوط لإطار تعريفها، فيفعلها تارةً من باب الإجبار والإجحاف ثم وتارةً من باب الحُب والتطوع.
تحركت في شقتها حتى وصلت للمطبخ تقوم فيه بجمع الغداء في عُلب حفظ الطعام لكن ما أثار ريبة عينيها هو وجود علبة سوداء فوق حوض المطبخ بجوار مصفاة الملاعق، وقد أمسكتها هي بأنامل مترددة خوفًا أن يكون هذا الشيء لا يَخُصَها هي، لكن الفضول هو ما يدفع المرء نحو اكتشاف كل ماهو غامض ومثير، ففتحت العلبة السوداء المُكعبة في إطاراتها لتجد بداخلها سوارًا من الذهب دون عليه الجملة التي أملاها عليه قلبه منذ أول لقاءٍ فعلي بينهما:
“بُوركَ الطريق بتواجدك فيه، يا أحن وأجمل ما فيه”
دون الجملة على السوار الذهبي الذي توسط العلبةالسوداء المخملية ومعه ترك ورقةً كتب بداخلها أغرب رسالة حب قد يكتبها شخصٌ لرفيق عمره:
_”بصي المفروض إن دا كلام رومانسي، بس أنا ماليش فيه بصراحة، وماليش في الجو دا، العضمة كبرت يا بنتي خلاص، بس علشان أنا مش قليل الذوق، أنا بحبك، حب غريب أول مرة أجربه، حب ناضج شبهك بالظبط، صحيح أنا توهت قبلك كتير يا “نهال” ودخلت محطات مش شبهي، بس لما وصلت وصلت عندك أنتِ، وكانت المحطة الصح، وبإذن ربنا هتبقى محطة العمر كله، خدي بوسة لحد ما أجيلك.
مررت عينيها روحةً وجيئة على كلمات خطابه التي تباينت طريقته بها مابين المزاح والعاطفة، لكن ما استشفته هي صدق تعبيره، يبدو أنه استمع لقلبه الذي أملى عليه هذا الحديث لتكون هذه هي النتيجة، وضحكت هي ضحكة رنانة تتراقص بألحانها المنتشية فوق السماء الوردية، وكأنها سحابة صيفية نشرت ظلها لتُحجب من خلاله آشعة الشمس الحارقة، وكعادة قلبها تباينت ردود مشاعره ما بين عبراتٍ سعيدة، وبين انفراج شفتيها بضحكةٍ واسعة عالية لم يقطعها سوى رائحته التي أغدقت المكان ناشرًا السلام فوق أرضٍ سبقه الاستعمار في تخريبها وتجريف أراضيها الزراعية الخصبة ثم رفع كلا كفيه يستقر بهما على خصرها وأدارها له تواجهه بعينيها فوجدها تبكي أمامه وهي تبتسم بعينيها وسألته بنبرةٍ مُحشرجة:
_”أنتَ سمعتني وأنا بقول لـ “آيـات” صح؟.
ألقت تخمينها عليه وتركت له المجال لكي يعطيها الجواب، بينما هو ابتسم بعينيهِ لها ثم مال برأسهِ نحوها يطبع قُبلة مطولة ثم هتف بنبرةٍ رخيمة ودافئة أحتواها فيها بعمقها:
_أنا اللي قولت لـ “آيـات” تسألك وتعرفني، عرفت إنك بتحبي المفاجآت، وأكيد مش هتطلبي مني، أنا عاوزك تكوني متطمنة ليا ومعايا، عاوزك تقولي كل حاجة من غير خوف، قولي اللي عاوزة تقوليه، أنا عارف إنك مش بتحبي تتكلمي، بس أنا عاوز أسمعك.
ازداد إنسياب عبراتها عند وصول الحديث لسمعها ثم هتفت بنبرةٍ مُختنقةٍ من البُكاء تستغل فرصته المُقدمة لها في التعبير عما يحويه قلبها لأجلهِ هو وفقط:
_أنا كنت هقولك إني بقيت بحب البيت هنا أوي، بحب كل حاجة فيه حتى دوري اللي كنت فاكرة نفسي مبعرفش أعمل فيه حاجة، كل مرة بقف فيها هنا بحس نفسي أشطر ست في الدنيا، وأنتَ أحسن حد في الدنيا كلها، أنا مش بشوف حد غيرك أنتَ، ساعات بحس إني كان لازم أمر بكل دا علشان أقابلك وأعرف قيمتك، كان لازم أعرف كل حاجة من قبلك عاملة إزاي علشان لما أكون معاك أحطك في عيوني، وأضلل عليك وعلى “إيـاد”، صدقني معرفش مين فينا كان محتاج التاني، بس أنا بقيت إنسانة بجد من يوم لُقاك، وآسفة إني كنت جاية هنا أتحامى في”إيـاد” وفكرت إنك هتكون نسخة تانية من حياة كنت بموت فيها ألف مرة، بس طلعت فعلًا نسخة تانية من حياة حييت فيها كل يوم ألف مرة..
هل هي من تسرق دوره وتفاجئه!! هل التكامل بينهما وصل لهذا الحد حتى يُخطط ويُنسق هو وتنفذ وتُكمل هي؟ هذه المرة هي من مدت يدها له تعانق كفه ثم تجره إلى ساحتها الخضراء تُسعد عينيهِ بأراضٍ خصبة بذل قصارى جهده في إصلاحها حتى تخضب زرعها وصلُحت أرضها، وأضاء المكان وهج زرعها، فأصبح هو المُصلح من بعد خرابٍ، والمنقذ من أثر دمارٍ، لذا أحتواها بين ذراعيه يضع رأسها فوق موضع نبضه مُمسدًا فوق رأسها وخصلاتها ثم هتف بنبرةٍ رخيمة:
_وأنا مش عاوز منك غير فرحتك بس، مش عاوز غير إنك تضحكي وتفرحي وتعيشي حياتك زي ما أنتِ عاوزة، أنا وابنك هنا وأعتبرينا جايين ليكِ تصلحي كل حاجة باظت جوانا من قبلك، صحيح مش علطول بكون حكيم في قراراتي بس أنا لما بحب حد بشيله في عيوني، وأنا بقولك أهو أنا محوشلك كتير محدش غيرك كان يستاهل يشوفه.
تنهدت بسعادةٍ وضمته بكلا ذراعيها فيما مسح على ظهرها ثم انتهج الوقاحة في طريقته حينما ابتعد عنها يهتف بحنقٍ زيفه لكي يواري خلفه بسمة مكبوتة:
_خدي هنا!! البوسة فين يا ست أنتِ؟.
تراجعت هي للخلف برأسها ونصف جذعها العلوي تراقبه بنصف عينٍ وما إن لمحت نظراته المصوبة نحوها هتفت بحنقٍ وكأنها تُحاكِ طريقته في التحدث:
_حد قالك إنك قليل الأدب يا “أيـهم”؟.
حرك رأسه موافقًا ثم باغتها بحملها على كفيه متجاهلًا شهقة مندفعة فلتت من بين شفتيها وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة قارنها الزهو الغريب بالنفس، والذي تنافى تمامًا مع كلماتهِ:
_كتير يا روح قلبي، وأعتبريني دافع عربون محبة وهاخد عندك دروس تقوية في الأدب، وتبقي الصبح بتربي” إيـاد” وبليل ركزي مع أبو “إيـاد”.
صدح صوت ضحكاتها عاليًا على طريقته ومزاحه، بينما قلبها أخبرها أن الحنان الذي يملأ أيامها به تختبره لمرتها الأولى، تبدو أنها نالت جزاء صبرها وتحملها بأكثر مما كانت تستحق، بدت فرحتها كالقمر المُكتمل في السماء، واضحًا للعيانِ، فرحة كانت هي في أشد الحاجة إليها حتى كادت أن تنسىٰ معنى الفرح، ثم!! ثم تنعطف مداراتها نحو كويكب يبعد عنها بعد السماء عن الأرض وفي نفس التوقيت يقربها بنفس قرب الوريد الذي يضخ الدم للقلب، لتصبح العلاقة أقوى في تضادها وإنعاكسها مابين القُرب والبُعد..
في الأسفل في حديقة البيت..
كانت” آيـات” تتابع وريقات الشجرة المُفضلة لديها وهي تنتظر الزهور التي قامت هي بزرعها وقد أتى الخريف عليها وهي تُتابع هذه الزرعات قبل مجيء فصل الربيع ومنه تتفتح هذه الزهور، وقد تحركت بخفةٍ وهي تخفي خصلاتها البنية الطويلة أسفل وشاحٍ وضعته بإرتخاءٍ فوق رأسها، وقد ظهرت مثل لوحةٍ قديمة نادر الحصول عليها وهي تمسك الابريق وتميل بجسدها للأمام قليلًا تسقي هذه الورود والوريقات الخضراء الصغيرة لتكتمل اللوحة بضوء القمر الساقط عليها مُكملًا زينة تلك الزهرة الرقيقة…
يُقال أن لكل إمرءٍ نصيبًا من اسمه، وتنعكس عليه الصفات الداخلية على مُجمل حروفه، وها هو أتى “تَـيام” المُتيم بها، الغارق في بحورها، هذا الذي أختصر كل النساء فيها وعرف دروب الحُب والعشق بها، تُيم وسُحِر بحب وجهها، وها هو خطى الخطوات بعدما عبر أعتاب أبوابها وما إن رآها بهذه الطلة البريئة وقف مسحورًا يتابعها حتى التفتت هي صُدفةً دون أن تُدرك أنه يقف خلفها لكنها استشعرت تواجده من رائحته، وما إن التفتت تلاقيا سويًا في منتصف المسافة الفاصلة بينهما وأضحى الفاصل بينهما خيطٌ وهمي نُسِجَ من ضوء القمر الساقط عليهما فابتسم هو لها بعينيهِ ثم هتف بنبرةٍ خافتة وكأنه وقع تحت أثر الخدر الذي تشعب في أوردته بهيئتها:
_غبي إني كنت فاكرك بعيدة زي نجوم السما، علشان طلعتي أنتِ الدنيا كلها يا في عيني، أنا مش عارف من غيرك كان زماني بقيت فين، بس متأكد إني مش هكون مرتاح من غيرك، أتمنى تكوني مرتاحة معايا.
زاحمت البسمة ملامحها المدهوشة إثر كلماته ورفعت كفها تخفي خصلاتها بحركةٍ متوترة نبعت عن تلقائيتها وما إن رآت الحيرة في عينيه هتفت بنبرةٍ صادقة وقد توسعت بمستها أكثر حينما لامس الحديث أوتار فؤادها:
_هتصدقني لو قولتلك إني سألت نفسي لما بقيت معاك، يعني إيه راحة من غيرك؟ المهم أنتَ ترتاح يا “تَـيام” وتتأقلم بسرعة على حياتك وتفرح بكرم ربنا ليك، غير كدا أنا مش عاوزة أي حاجة، المهم إنك تكون بخير، وتساعد باباك إنه ينسى تعبه ووجعه، وتمد إيدك لأخوك، وأنا هخلي بالي منك أنتَ.
توسعت ابتسامته أكثر ثم أقترب منها ولثم جبينها وهتف بمراوغةٍ يُشاكسها بحديثٍ لعوب أكبر من قدرتها البريئة على صد مناوشاته:
_طب ما تشهلي معايا كدا علشان عاوزك تخلي بالك مني كويس في بيتنا، ياستي عاوز أرحرح بحق بقى، بس أكلمك جد، أنا عاوز أخدك بيتي خلاص، دي الحاجة الوحيدة اللي هتقويني، موافقة؟ أكلم الحج ونسرع شوية؟.
حركت رأسها موافقةً بخجلٍ فيما شبك هو كفه بكفها بعدما تسلل بهذا الفعل لتنبس هي بخجلٍ تعرض عليه أن يقوم بمعاونتها في سقاية الزروع وهذا اللطيف أضعف من أن يرفض هذا المطلب لها، لذا سارا بجانب بعضهما جنبًا إلى جنبٍ في ليلةٍ يؤنسهما بها ضوء القمر ويسجل حلاوتها الزرع وتصادقها الزهور بعبيرها.
__________________________________
<“يا فرح زُر دارنا، وسُر أحوالنا”>
في منطقة نزلة السمان تحديدًا ببيت “نَـعيم”
كان “نَـعيم” يجلس بجوار الخيول وفي يده الهاتف الخاص به بعدما أطمئن على ابنه وابن شقيقه وشعر بالارتياح الكبير أخيرًا، لكن قلبه لازال مشغولًا بخصوص “يـوسف” لكنه يعلم في قرارة نفسه أن الآخر يفعل ما يستسغيه هو حتى ولو كان الأمر يقلق البقية.
وقف بمفرده ثم رفع رأسه للأعلى يبتسم بامتنانٍ لمعت به عيناه وكأنه يشكر المولىٰ عز وجل على كرمه ورحمته به وبقلبهِ بعد كل هذا العذاب الذي لقاه بغياب أحبته، وقد أنزل رأسه يراقب خيوله ونظرة أعينهم له كأنهم يعطونه المُباركة على هذا التأهيل والتغيير، فيما حياهم هو بحركةٍ من كفه الأيمن فهمها الخيول؛ فرفعوا رأسهم وأصدروا صهيلهم الفَرِح بتحيته وكأنه يعلن بذلك تواضعه لهم..
خرج من الممر الذي يغلب عليه الطوب الحجري فوجد “إيـهاب” يجلس بمحاذاة زوجته التي بدا عليها التبرم والسخط معًا، فقرر أن يجالسهما ليفهم سبب ضيقها وقد وصله سؤال زوجها لها بإنفعالٍ طفيفٍ:
_يابنتي فُكي بوزك دا!! ماهو أنتِ مش مريحاني، عاوزة تخرجي ومش عاوزة تعرفيني رايحة فين، هو أنا مش مالي عينك؟ عاوزة تروحي فين؟ ولا راضية تقولي رايحة فين ولا عاوزة تعرفيني، أنتِ عاوزة إيـه في ليلتك دي؟.
زفرت بقوةٍ ولم تجاوبه بل صمتت وسكتت حتى جاورهما “نَـعيم” الذي أستند بعصاه وهو يجلس على المقعد وقد أتت “تَـحية” من الخارج تركض نحوهما بلهفةٍ وما إن رآتها “سمارة” انتفضت من محلها تسألها بعينيها الملهوفتين فيما صدح صوت الأخرى تُطلق زغرودة عالية جعلت “سمارة” تبتسم بحماسٍ وهي تبكي في آنٍ واحدٍ بينما “نَـعيم” ففطنته دفعته لفهم ما يدور حوله وقد ابتسم بسعادةٍ وأشار للمرأة بعينيه يحصل منها على التأكيد وقد أكدته له التي حركت رأسها موافقةً وكأن الجميع التقطوا ماحدث عدا “إيـهاب” الذي هتف بنبرةٍ مُحتدة بعض الشيء يسخر منهم:
_هو فيه إيـه؟ الست “تـحية” جالها عريس ولا إيـه؟.
ضحكوا عليه كونه لم يستعب بعد مايدور حوله، فيما ضحكت “سمارة” بخجلٍ وهي تُطرق رأسها أرضًا توقف عبراتها التي شارفت على الظهور بينما المرأة هتفت بنبرةٍ حماسية شديدة الفرح بما ستتلوه عليه من خبرٍ:
_يا واد صحصح معايا، يتربى في عزك، مراتك حامل وكلها شهور و”إيـهاب” الصغير ينور الدنيا، والتحاليل معايا أهيه، روحت جيبتها، مبروك يا ابن الغالية عقبال ما ينور الدنيا كلها ويعيش في حسك وعزك.
صدمته!! حقًا صدمته أو ربما ألجمته وجمدته، وفي إخطارٍ آخر ربما هي بكلمتها أحيته بكلماتها وحديثها، تبدو كأنها أمسكت جهاز الصاعق الكهربائي وضربته بقلبه فيه حتى عرفت الحياة طريقها نحوه، وحينها ترك موضع جلوسه وانتفض واقفًا يُفتش بعينيهِ عن وجه زوجته التي طالعته مُبتسمة العينين بينما هو فقد قطع المسافة الفاصلة بينهما يسألها بنبرةٍ محمومة ببركانٍ من العواطف:
_دا بجد؟؟ أنتِ حامل ولا بتهزري؟.
ضحكت رغمًا عنها بغلبٍ على أمرها تقدر حجم تشتته وهتفت بنبرةٍ مكتومة من الخجل الذي طرأ عليها:
_ودي حاجات فيها هزار؟ أيوة يا سي “إيـهاب” حامل.
أنهت جملتها وهي تبتسم له ورُبما هي ثانية أو ثانيتين كانت كامل المدة التي جعلتها محمولة بين ذراعيهِ بطولها يدور بها مُعبرًا عن فرحته بهذه الطريقة في المكان وهي تضحك رغمًا عنها ذاهلةً بفعلهِ وفي الخلف صدح صوت ضحكات “نَـعيم” والسيدة “تَـحية” التي استوقفته بقولها تشير له إلى ما فات عقله من النظر إليه:
_يا واد غلط كدا، نزلها أحسن تدوخ، يخرب عقلك.
انتبه هو لما يفعل بعد جملة مدبرة البيت وكأن حروفها هي جرس الإنذار الذي دوي صوته في عقل “إيـهاب” الذي دوىٰ صوته في أذنيه لينزلها بعدها من فوق سحاب الأحلام إلى أرض الواقع المُفترشة بزهورٍ وردية اللون والأثر، وظل يُكرر آسفه الخائف لها بقولهِ:
_أيوة صح آسف، آسف بجد أنتِ كويسة صح؟ مش تعبانة؟.
حركت رأسها نفيًا وهي تبكي من رد فعله الذي لم تتوقعه هي بينما ضمها بين ذراعيه مُمسدًا فوق رأسها بحنوٍ بالغٍ وهو يشكر خالقه على تحقيق مُنيته، هذا الذي ظن أنه أضعف من الرجاء والطلب من المولى، لكنه تيقن بقلبه أن آثامه مهما بلغت جُرمها فهي لن تُعيق طلب قلبه، لذا ترقرق الدمع في مُقلتيه وراح يُرفرف بأهدابهِ يمنع نزول تلك العبرات بينما وردد بنبرةٍ خفيضة شبه هامسةٍ لم تصل لغير زوجته التي ظلت محاصرة بين طولا زراعيه:
_الحمدلله يا كريم، الحمدلله، ألف حمد وشكر.
تلاقت نظراته بنظراتها ما إن رفعت هي رأسها بينما هو فيبدو أن حالة الامتنان هذه لم تنفك من مطرحها وكأنها نخيلٌ طُرِح ولم يبرح محله ليظهر الامتنان لها بعينيهِ ثم ضمها من جديد يُلثم جبينها، هذه التي ألقاها صُدفةً في الطريق حرفيًا لا مجازيًا، ثم مد كفه الدافيء يردع عنها كتلة هواءٍ ضارية ليصبح بعدها هو الحصن المنيع، والجيش العتيق، فكلاهما لولا الآخر كان سيلاقي الموت المحتوم، ليس موتًا فعليًا، إنما موت القلب المكلوم، أما بإجتماعهما سويًا، فأصبح الطريق ملائمًا لهما وكأنه أُفتِرش بالزرع ونُثِر فوقه الرحيق الذي حوى رائحة الحياة وأضحى بها مختومًا..
وقف “نَـعيم” في حالة شجنٍ وقد ظل جسده هُنا في نفس مكانه، بينما القلب مد كفه للعقل وأخذه معه في رحلةٍ يذكره فيها بأيام صباه وليالي أُنسه، حيث ماضٍ كان يُشابه ذلك بنفس الفرحة التي تلاقاها ابنه الروحي، فوقف مُنتشيًا يتذكر لهفة القلب، وتكذيب العقل، وفرحة العينين، وإحتضان اليدين، نفسها الذكرى التي تلاقاها عند معرفة خبر حمل زوجته بابنه البكري، ثم ما تلى ذلك من أيامٍ معدودة أغلق عليها الصندوق وحفظها لكي يحميها في كنف قلبه، ولم يخرجه من حالته هذه إلا صوت “إيـهاب” الذي أرتمى عليه يحتضنه مُعبرًا عن فرحته التي ملأت الأرجاء وشهد عليها رمل الفناء:
_هبقى أب يا بابا، هبقى أب.
من شدة فرحته لم يعي لنفسه ولما يتفوه بِـه حتى أنه لم يدرك أنه نطق أكثر كلمةٍ يبغضها في حياته، الكلمة التي تسببت في تدمير طفلٍ وانتزعت منه قلب الطفولة لتبدله بقلبٍ آخرٍ قاسٍ، متصلد كما الحائط الحجري، أشبه بحجر الصَّوان في ثقلهِ، وقد أدرك ما تفوه به فألجمته الصدمة ليتدخل العقل صافعًا القلب بحقيقةٍ جعلت الغِصة تظهر في الحلق ممتدة إلى الأذن تصمها بطنينٍ مؤلمٍ عند تذكره لما فعل في ماضيه وكـيـف قـتـل أبـيـه!! وقد لاحظ ذلك “نَـعيم” من خلال ارتخاء ذراعي الآخر عنه والوجوم الذي طفق يطفو فوق سطح ملامحه وكأنه بذلك علم إلى أين وصل مُنحنى تفكيره، فهتف بنبرةٍ قوية الأثر وثابتة الوتيرة وكأنه أصبح المُضاد لخبث عقله:
_هتبقى أحسن أب في الدنيا كلها، مش هيكون فيه في حنيتك وجدعنتك وطيبتك معاه، وهو محظوظ كفاية إن أبـوه “إيـهاب المـوجي” اللي النزلة كلها بتحلف بيه وكلهم من صغره عارفين إنه الواد اللي رمى نفسه في الجحيم علشان أخوه، أفرح إن ابنك هيطلع يلاقي سيرة حلوة لراجل طوب الأرض بيحلف بمجدعته.
حقًا لقد برع “يـوسف” حينما سبق ووصفه بالملاك الحارس، والقلعة المنيعة، هذا الرجل الذي تخطى حدود العقل في فهم تركيبته، أبٌ بدرجة الامتياز لأطفالٍ لم تربطه بهم رابطة الدم، وصديقٌ رائع لشبابٍ يضطرونه للنزول بعمره إلى عمرهم لكي يتفاهم معهم، ثم العاطفة التي حفظهم بها، والأمان الذي سلحهم به، ثم الوقوف بالمرصاد لكل من تسول له نفسه بالمساس منهم، حتى وإن كانت الذكريات الخاصة بهم، هكذا فكر “إيـهاب” وهو يقف أمامه بهيئته الرجولية، لكن كان داخله العكس كُليًا، حيث ذاك الطفل الصغير الخائف المُرتجف الذي أضحى كورقةٍ خريفية مُتصدعة في مهبِّ الريح، فيأتي هذا المُسمى بوصفهِ كما الربيع يُبلل غصونها ماسحًا على شقوق روحها، وقد ضمه “نَـعيم” من جديد يمسح على ظهرهِ كرسالة سلامٍ أوقف بها حربه الداخلية.
__________________________________
<هناك شيءٌ جديد يولد بداخل القلب، لكننا نخشاه”>
في مقر شركة “الراوي”..
كان “عُـدي” يجلس في مكتبه يتولى مهام جديدة في العمل خاصةً أن الشركة حصلت على إذن الحصول على المُشاركة في أحد المعارض الدولية التي تُقام بداخل الأراضي المصرية لعرض المنتجات اليدوية التي خرجت من مواهب شابة، ونظرًا لتصدير الشركة للخامات الأساسية لمعظم الأشغال اليدوية بمختلف أنواعها فحصلت على دعوةٍ حتى يتم تكريمها من قبل الهيئات المُختصة..
كان العمل في تلك الفترة على قدمٍ وساقٍ طوال الأسبوعين المُنصرمين يعملون بكل كدٍ وكما يُقال بأيديهم وأسنانهم معًا، خاصةً بعد رحيل “يـوسف” الذي ترك كل شيءٍ خلفه فأضطر هو للوقوف محله حفاظًا على ما يخص رفيق عمره الأول، لذا وضع البرنامج أخيرًا المُقام للحفل وظل فقط متوقفًا على المراجعة من المختصين لتنظيم المؤتمرات والعلاقات العامة بالشركة..
عاد للخلف بظهرهِ يستند على ظهر المقعد ثم أول فتح أزرار قميصه الأسود ومرر يديه في خصلاتهِ يُدلك فروة رأسه ليُنعشها بإعادة ضخ الدم فيها من جديد، وحينها أطلق تأوهًا خفيضًا ما إن شعر بهذا الانتشاء داخل رأسه وكأنها جرعة مخدرات تلقاها ودُبَّ أثرها في شرايين العقل، لكن صوت طُرقات الباب جعله يرفع رأسه بحدةٍ بدت تلقائيةٍ منه وأعطى الإذن لمن يطرق بابه بنبرةٍ مبحوحة ثم أعتدل في جلسته لتظهر “رهـف” مبتسمة الوجه وهي تقول بمزاحٍ طفيفٍ:
_فاضي نشرب قهوة ولا ألف وأرجع تاني؟.
ابتسم لها بعينيهِ اللاتي يتلألأن برؤيتها وزودَّ ذلك بشفتيهِ وهو يقف في مقابلتها ساحبًا سترته الرُمادية لكي يرتديها وهتف بصوتٍ متباينٍ ما بين التعب والراحة كسائر حاله برؤيتها:
_لأ حد يفوت فرصة زي دي؟ لو مش فاضي أفضالك.
ضحكت له وهي توميء موافقةً فيما أطلق هو تنهيدة مُتعَبة من جوفه وهي تسبقه عائدةً إلى الخارج بينما هو كُتِبتْ له الحيرة معها، يسعد برؤيتها، ويؤنس في صُحبتها، ويُبدع ويُفنن في حضرتها، لكنه لازال عاجزًا عن إختراق دفاعاتها، تبدو كأنها مدينة مُحصنة تُغلق على أطرافها بأسوارٍ عالية عتيقة، وهو كالجيش الضعيف الذي يملك خبرة ضئيلة وكأنه لم يتدرب على إختراق الحصون بعدةٍ بدائية، تبدو وكأنها مدينة “عكا” بأسوارها العالية، في حين أنه يحاول لكي يُصبح “الأشرف خليل” الذي ظفر بإختراق حصونها، كان يُشبه بيتًا من الشعر كُتِبَ يصفه ويعبر عنه
“وتراهُ يصمِتُ كي يُواريَ حُبَّهُ
وبقدر ما تُخفَى المحبَّةُ تُعلَمُ
عبثاً يخبِّئُ سِرَّهُ في صَمتِهِ
من قالَ أن الصمتَ لا يتكلَّمُ.”
حسنًا إن صمته خير مُتكلمٍ وهو يراقبها مفتونًا وقد جلسا سويًا أمامهما مباشرةً النيل اللامع بضوء القمر المُنعكس فوق حركات المياه المُتعرجة، كما أن أضواء المراكب والفنادق الليلية ساهم في إكمال الصورة ليُضفي عليها رونقًا خاصًا من الحداثة والبنايات المُعاصرة وهي ترتص بجانب بعضها على ضفتي النيل، مع موسيقى كلاسيكية ناعمة جعلت الخيال يُحلق في أفقٍ عالية، وقد خرجت هي من لحظة الإنتشاء هذه وتوجهت بزرقاوتيها نحوه لتجده يطالعها سرًا بعينيهِ العسليتين الداكنتين لكنها هربت من نظرته بسؤالٍ متوترٍ ألقته عليه :
_لسه مفيش أخبار عن “يـوسف”.
حرك رأسه نفيًا بآسفٍ غير منطوقٍ جعلها توميء رأسها بتفهمٍ ثم أضافت بنبرةٍ عملية إذ طرأ عليها الطابع الدبلوماسي:
_كدا أكيد في شغله الأساسي، إن شاء الله يرجع قريب ويطمن الكل عليه، أهم حاجة طنط وأخته أكيد مفتقدينه وقلقانين عليه بس هو طول ماهو في الشغل بيعزل نفسه عن الكل، حتى هناك ملهوش صداقات ومبيقربش من حد، لدرجة إنه قبل كدا قال إنهم بيخافوا منه كلهم، ربنا يرده بالسلامة.
تنهد مُطولًا ثم هتف بنبرةٍ خافتة بعض الشيء يخبرها عما يعانوه في غيابه وخاصةً قبل مجيئه أول مرةٍ:
_الفكرة إنه بيرجعنا لفترة كلنا كنا بنحاول ننساها، فترة غيابه الأولى وهو مخطوف ومش موجود ومحدش عارف مكانه، كانت فترة صعبة على الكل وخصوصًا عمتو اللي حياتها أتقلبت، هو لو فاكر إنه كدا بيحمينا من حاجة مادية ممكن تأذينا، ميعرفش إن بعده عننا ممكن يموتنا ألف مرة.
ألقى الحديث عليها بثقلٍ وكأنه يشاركها ألمه فيما زفرت هي يائسةً ومطت شفتيها بأسفٍ كونها لم تقو على حل المعضلة، لكنها تعلم أن قوته ستتغلب عليه، وكذلك “عُـدي” الذي ظهر معدنه في هذه الشدة، حيث قبض على المكان بقوةٍ وفي المركز الأول وضع اعتبار التوقيت لحين عودة أخيه، وهذا تحديدًا جعلها تبصر فيه شيئًا جديدًا وهو أنه صاحب مبدأ ومسئول بدرجةٍ كبرى، كما أنه تولى عنها الكثير من مهام العمل لسببٍ لم يُصرح به، حقيقةً وصدقًا هي تخشى ما يولد بداخلها كما أنها تُنكره بكل جوارحها، فمن المؤكد لن تخون مبادئها وتنفي صدق وعدها لحبيبٍ رحل عنها، وهنا دلفت الصراع من جديد مابين قلبٍ يود الركض نحو أبوابه المُحصنة ليفتحها، وما بين عقلٍ يُكمل بناء الأسوار واضعًا حُجج الغزو السابق نصب العينين.
__________________________________
<“أتوا إلينا بنورهم، يخفون ظلام أرواحنا”>
“إنكِ غريبة وغائبة عن عيني والمكانِ،
لكنكِ تطوفين بداخلي تنثرين الأمل والأماني”
كتبها “إسماعيل” عبر صفحته الشخصية مبتسم الوجه وهو يتذكر مكالمتها له أنها ستمر عليه بعد انتهاء عملها، بينما هو أصر أن تأتي إلى هنا تحت كنف حمايته فأرسل لها سيارته بأحد الشباب العاملين معه وجلس في إنتظارها، وما إن طلت عليه وقف هو يطالعها بعينيهِ ويتشرب بشوقٍ تفاصيل محياها، شوقه بحجم اليَمِّ وقلبه بقدر الكَفِ، لكنه يعلم أن نوره فيها هي، وقد أقتربت منه تبتسم له وهي تقول بحماسٍ طفيفٍ:
_أنا جيت أهو علشان تعرف إني أجدع منك.
أبتسم رغمًا عنه وأنتظر جلوسها ثم جلس أمامها وهو يقول بنبرةٍ هادئة كعادة طبعه الساكن المتسم بالرزانةِ:
_وأنا عارف إنك أجدع مني ومستحملة، بس أخوكِ سايب الدنيا كلها فوق دماغنا ومش ملاحقين، حتى الخطوبة أجلناها، بس قوليلي إيه اللي خلاكِ تيجي يعني؟.
حركت كتفيها ببساطةٍ دون أن تخبره السبب الحقيقي على عكس قلبها الذي أشتاق لرؤيته منذ ثلاثة أسابيعٍ، تود إخباره عن كل شيءٍ وعن ثقل حالهم بعد رحيل أخيها لكنها آثرت السكوت وابتسمت له حتى هتف هو بثباتٍ بعد نجاحه في قراءة صفحاته:
_طبعًا جاية علشان أنا وحشتك، وعلشان الفترة دي ضغط عليكِ وحاسة إنك مش أحسن حاجة، وحال البيت مش عاجبك وأنتِ بتحبي الهزار والضحك بس مش قادرة إحترامًا لحالة الحزن دي صح؟.
بدت أمامه ككتابٍ مفتوحٍ وهو يُجيد القراءة والتعريف وفك الشفرات والرموز، فيما توسعت عيناها وهي تُطالعه لتجده يبتسم بظفرٍ كمن ربح الحرب بأرضها، فهتفت بذهولٍ تُقر بما يتحدث عنه:
_إيـه دا؟؟ مين قالك أصلًا؟.
من جديد يبتسم بزهوٍ لها وقبل أن ينطق وجد “مُـحي” يدلف له المكان وقد لاحظ جلوسه مع خطيبته فأقترب منها يُرحب بها ثم سحب المقعد وجلس بجوار “إسماعيل” الذي حرك رأسه يسأله عن سبب جلوسه فهتف الآخر بلامبالاةٍ:
_صدعت هناك وأخوك قالي شوية وجاي ولسه مجاش، هقعد من غير صوت والله، اعتبرني شجرة مانجا بينكم.
ضحكت هي رغمًا عنها فيما سكت “إسماعيل” على مضضٍ وقرر أن يسمح بجلوس الآخر بينهما حتى يأتي البقية ومن ثم مرت عد دقائق تبعها دخول “جـودي” راكضةً نحو “مُـحي” الذي حملها وأجلسها جواره وخلفها أقترب “سراج” ومعه “نـور” أيضًا وهنا صدح صوت تحرك المقاعد عن ترحيبهم ببعضهم فيما تولى “إسماعيل” مهمة التعريف بين الفتيات قائلًا وهو يشير بكفهِ:
_دي “ضُـحى” خطيبتي، ودي “نـور” خطيبة “سراج” وحاليًا شغالة معانا هنا، بالمناسبة يا “نـور” هي بنت خال “يـوسف” وأخته كمان، أظن كدا تمام.
ضحكوا على جملته فيما رحبت كلتاهما بالأخرى في حبورٍ وأكثرهما سعادةً كانت “نـور” التي وأخيرًا تعرفت على فتاةٍ هنا منذ مجيئها وقد أحست بالراحة تجاهها وكذلك “ضُـحى” قرأت البراءة في وجهها لذا لا مانع من مصادقةٍ تنشأ بينهما.
في مكانٍ آخرٍ تحديدًا بأحد البيوت العريقة بمنطقة “نزلة السمان” جلس هذا المُدعى “ضـاحي” المرشح في دائرة مجلس النواب وهو يستمع لأوامر ولي نعمته كما يُلقب وهو يوبخه بسبب فشله في المهمة التي طلبها منه، وحينها هتف الآخر يدافع عن نفسه بمرافعةٍ بدائية:
_يا باشا ما أنا روحت وطردني، “إيـهاب” ملهوش كبير وهو عارف إن طالما رجلي ملطوطة في الآثار يبقى مش هيفكر حتى يبص في وشي، ودا علشان خاطر أخوه، العيال دي لو كانت أتربت في أي حتة غير بيت “نَـعيم” كان زماننا مخليينهم تحت طوعنا، بس تقول إيه؟ عنده جواهر مش مقدر قيمتها.
هتف الآخر صاحب السُلطة الكُبرى المَزعومة في طبقية أهل الأرض الجُبناء من كل ذي سلطانٍ:
_ماليش فيه، أتصرف علشان الناس تختارك أنتَ، محدش غيرك هيقدر يخليهم يفضوا بيوتهم قبل الحكومة، وأديك شايف الآثار اللي بنلاقيها كل يوم سعرها بيزيد، الحاجة يدوبك تتحرك الفترة دي والدنيا مريحة شوية، لكن لو حد غيرك جه هتضيع علينا وهنزعل الناس مننا، ودول زعلهم وحش، ومتنساش إنك لازم تفتح سكة مع “إسماعيل” الواد دماغه خريطة كاملة فيها عدد رمل السمان كلها، العين على “إسماعيل” وأتصرف أحسنلك يا “ضـاحي”.
أومأ الآخر بموافقةٍ يتولى إتمام المهمة بأكملها، فمن سيقف ويفكر في ربح مكسبٍ مثل ذاك؟ عملية نقل آثار من باطن الأرض أسفل بيوتٍ شارفت على الوقوع، لذا أعطاه قراره الأخير أن الطريق سيفتتحه هو ويتخذ أولى الخطوات فيه لعله يربح هو الورقة الفائزة في اليانصيب، مجموعة من يتم وصفهم بالرجال ذهبت عن قلوبهم الغيرة على أرضهم فأصبحوا هُم من يتاجرون بأصلها، دون الحفاظ على تاريخها، والكارثة الأكبر في محاولة السيطرة على شبابٍ يحبون أوطانهم لكن وبكل آسفٍ، تُعطى كبار المُهام لذوي همم العقول..
__________________________________
<“لا نستحق الفشل ونحن نموت بالمحاولة”>
في صبيحة اليوم الموالي..
تحديدًا بداخل بيت “نَـعيم” كان “إسماعيل” في أشد لحظات حياته سعادةً بخبر حمل زوجة شقيقه وقرينة عالمه الخاص، الفكرة الأحب على قلبه حيث موعد رد الدَيْن لأخيه في ابنه، عائلة سوف تكتمل عن قريب ويزداد إنتمائه ثباتًا، وللأسف كان يقاتله الحماس لكي يرى شقيقه، فمنذ عودته من العمل أمسًا في وقتٍ متأخرٍ ووصول الخبر له وقلبه يرقص فرحًا حتى وجد نفسه يضحك ببلاهةٍ ثم أخرج هاتفه يشارك “ضُـحي” بهذا الخبر السعيد وأخبرها عن مدى فرحته التي أضحت كما الخيل الجامح في ساحة الركض.
طُرِقَ باب غرفته وتحرك هو من أمام مرآته بعدما كان يُهندم ثيابه وفتح للطارق الذي لم يكن سوى “إيـهاب” فعانقه هو على الفور ينهال عليه بوابلٍ من المُباركات، حتى رفع الآخر ذراعيه يمسح على ظهر شقيقه ثم هتف بنبرةٍ دافئة وعميقة:
_عقبال ما أفرح بيك وبعيالك يا رب، أعتبرني هجيبلك أخ صغير، علشان قاطع عهد على نفسي إنك ابني الكبير وأعز كمان، ربنا يفرحك ويسعدك ويقربلك البعيد يا حبيب أخوك.
على الفور لمعت عينا “إسماعيل” وطوق أخيه بذراعيه بقصد الإمتنان له فيما أحتمى الآخر به وهو يمسح على خصلاتهِ بشرودٍ، وكأنه يفكر إلى أين كانت ستصل خطواته لولا تواجد شقيقه معه؟ بالطبع كان سيصبح كما قطعة القماش البالية المُلقاة فوق أحد رُصفان الطرق، أما بتواجده معه فهو عزيزٌ وشامخٌ عالي الرأس وقوي الهِمة.
في مكانٍ آخرٍ تحديدًا بالمشفى الخاص بالأمراض النفسية
كان “مُـنذر” بغرفتهِ يمسك ملف المُدعى “محمود” وهو يحاول اختلاق حُجة قوية تجعله يدلف له من جديد لعل مسعاه يُكلل بالنجاح، لا يعلم لما أثار هذا الشاب فضوله لكنه أضحى مُولعًا بذلك كثيرًا، لو كانت هذه الـ “فُـلة” هنا من المؤكد كان لجأ لأخذ بعض التفاصيل منها، لكنه لم يراها بالمشفى منذ أسبوعين كاملين وكأنها رحمته من سلاطة لسانها، وعليه قرر أن يتوجه إلى “جـواد” فتحرك إلى مكتبهِ وطرق الباب، وما إن حصل على إذن الدخول حينها عبرَ عتبة المكتب ودلف يقف بوقارٍ وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_صباح الخير يا دكتور؟ حضرتك فاضي؟.
انتبه له “جـواد” الذي رفع عينيهِ من مُطالعة الأوراق أمامه وهتف بنبرةٍ عملية يعطيه إشارة الترحيب:
_أتفضل يا دكتور “مُنذر” بس الحقيقة أنا كلها ساعة وهطلع على المطار، أتمنى الوقت يكفيك، أتفضل.
أشار له بالجلوس على مقعد المكتب فيما جلس الآخر وهتف بثباتٍ يخبره أن حاجته للحديث معه أقل من ذلك بكثيرٍ مُتغاضيًا عن ذهابه للمطار عن قصدٍ حتى لا يصبح فضوليًا:
_أنا محتاج دقايق بس، أنا قررت أدخل لـ “محمود” وأحاول معاه تاني، المؤشرات بتقول إن حالته العقلية ممتازة، والذاكرة تمام، ومراكز الإدراك والأعصاب المركزية المتصلة بإشارات المُخ تمام، يعني اللي حصله من خلل في الإتزان دا كان نتيجة دوا بيتحط ليه بس بصورة منفصلة، بحيث الأثر يكون بعيد المدى وتبان طبيعية صح كدا؟.
ضيق “جـواد” جفونه يتفرس الحديث وإتقان الآخر في التفسير فيما أضاف “مُـنذر” بنفس الطريقة المتمرسة:
_يعني حاليًا العامل النفسي ضرره أكبر من العامل العضوي، كتمانه وشحن طاقته بالمشاعر السلبية دي، هي السبب اللي مخلي العقل متبرمج على الخلل دا، غير كدا أكيد العقل الباطن حصل فيه تضاد قصاد العقل الواعي، فبقى عنده صراع بين الاتنين، والنتيجة استسلامه للعقل الباطن وموجة الإكتئاب الحادة اللي بيعاني منها، علشان كدا عاوز أدخله وأحاول تاني.
تنهد “جـواد” بقوةٍ ثم هتف بنبرةٍ أظهرت التباين الذي وقع بداخله حيث التذبذب بين قبولٍ ونفورٍ من الفكرة التي هناك جزء بداخله يستسغيها:
_أنا أكيد مش همانع، بالعكس أنا هشجعك لأني مريت بنفس طاقة شغفك دي قبل كدا، وجربت ودخلت وكانت النتيجة زي ما توقعت وأفضل، بس عاوزك برضه متديش كل أملك وحماسك علشان متحبطش، تمام؟ بالتوفيق.
تفهم “مُـنذر” مقصده وأومأ له موافقًا ثم وقف لكي يتحرك نحو الغرفة المُرادة لكن “جـواد” عركل حركته حينما هتف بنبرةٍ ودودة بعض الشيء:
_والدتي راجعة من السفر النهاردة إن شاء وهتفرغ للتواجد هنا معاك، لو محتاج أي حاجة عرفني علشان أنظم نفسي عليها من دلوقتي، كتر خيرك قايم بمجهود جبار في سفر “فُـلة”.
طالعه الآخر بتفهمٍ وإدراكِ حينما أومأ موافقًا ثم سأله مُقررًا أكثر من كونه مستفسرًا:
_علشان كدا هتروح المطار؟.
_إن شاء الله، هما كانوا واقفين على ورق مهم “فُـلة” وصلته ليهم وراحت زيارة وهييجوا هنا يستقروا، هحاول آجي بدري برضه على هنا بحيث لو احتاجت حاجة مني.
هكذا دار الحوار بينهما فيما شكره “مُـنذر” وتحرك من المكان بعدما فهم سبب غياب الأخرى عن المكان بعدما أعتذرت له صباحًا وقد ساورته الشكوك أنها وافتها المُنية وذهبت إلى خالقها ولهذا السبب بادرت بالإعتذار منه، حسنًا حسنًا يبدو أنك بالغت بظنونك تجاه هذه المتهورة لا أكثر، غدًا ستعود وتفسد هدوء يومك من جديد؛ دار ذلك الحديث بِخُلدهِ وهو يتجه إلى غرفة الشاب وقد فتح بابها بتروٍ شديدٍ وحركاتٍ هادئة وقد التقطت عيناه شابًا يفترش جسده أرضًا ويرفرف بأهدابهِ وهو يُراقب سقف غرفته، وقد طَلَّ عليه “مُـنذر” من الأعلىٰ مما جعل الآخر يركض بخوفٍ ويحتمي بالفراش الفارغ متسلحًا به.
فيما وقف الآخر يدرس تفاصيله وإرتجاف جسده قبل أن يتخذ الآخر وضع الهجوم عليه ليحمي نفسه، وقد فهم ذلك “مُـنذر” الذي استخدم سياسة الهُدنة الوهمية تاركًا للطرف الآخر حق الخبث في هذه المعركة بينما الآخر تراجع عن هجومه البربري ثم أولاه ظهره وكأن هذه هي طريقة التعارف بينهما للمرةِ الأولى، وقد قرر “مُـنذر” التخلي عن الصمت وهتف بنبرةٍ هادئة:
_أنا بقالي ١٣ يوم بجيلك هنا وأنتَ بنفس وضعك متغيرش عمومًا براحتك، بس أنتَ سليم ومش عندك اللي يخليك توصل للحالة دي، أتكلم وقول اللي جواك، حتى لو جملة واحدة، متضيعش نفسك علشان حد.
كالعادة كل ما يُلاقيه منه هو الصمت لذا قرر أن يوليه ظهره ويتحرك نحو الخارج لكنه أرهف السمع نحو الآخر الذي أزدرد لُعابه وزاغ بصره يُمنةً ويسرىٰ وكأنه يراقب الغرفة إن كانت شاغرةً أم لا، وقد لاحظه “مُـنذر” وشبهه بالصغير المُعاقب داخل غرفة الوحوش كما يزعمون الأهالي، وأنتظر رد الفعل التالي منه الذي طال كثيرًا حتى يأس وأولاه ظهره لكن جملة واحدة هي كل ما صدر من الآخر حيث أخرجها بصوتٍ مُرتجفٍ ظهر به الانكسار الذي أمتد من تصدع الروح وإنشقاق القلب:
_عارف لما كل العالم يحبك والمكان الوحيد اللي تتمنى منه الحب يستخسر يحبك؟ أهو أنا طول عمري كدا، المكان الوحيد اللي استنيت منه الحب، محبنيش.
تيبس جسد “مُـنذر” محله وهناك قشعريرة غريبة سارت بجسده مرورًا بركبتيه حتى منابت رأسه، جملة بسيطة لم تصلها البلاغة العربية بشيءٍ لكنها وصفت كل شيءٍ، جملة واحدة عبرت عن الكثير والكثيرين وللأسف هو واحدٌ منهم، لذا التفت برأسهِ من فوق كتفهِ لتتصل عيناه بعيني “محمود” الذي ابتسم بسخريةٍ ثم نام وأولاه ظهره يعطيه بطاقة الخروج بذلك، لكن يبدو أنه تفاعل لبداية النجاح.
__________________________________
<“نُحرق بالشوقِ ويداوينا رؤياكم”>
قال الشاعر المصري “عبدالرحمن الأبنودي”
“ولا يلزمنا إلّا رؤية وجه الغايبين.”
وهكذا جلس “يـوسف” يفكر بعدما أدرك أنه هنا منذ خمسة عشر يومًا!! لقد قضى هنا في معزله هذه المُدة بعيدًا عن الجميع ظنًا منه أنه بذلك يُربي نفسه، يُعيد ترويض الوحش الموجود بداخلهِ، يحاول من جديد لمصالحة نفسه، وها قد مر يومٌ آخر بسلامٍ عليه، لكن من المؤكد ليس على من وقعوا تحت أيديه، العلاقة بينه وبينهم أصعب مما يتصور، هم ينتهجون التسكع في حين يُحبذ هو الركض، هم يعلمون بالطاقة، وهو يعمل بالكد والمعاندة، لقد علمهم العمل كما يجب أن يكون، جعلهم يشبهون عقارب الساعة في دقة المواعيد والعمل..
كان يجلس بمفردهِ ليلًا بهذا المكان الفسيح المُظلم ولم تخلو جلسته من دفتره وقلمه وأنامله تحتضن السيجارة كما تضمها شفتيها ساحبًا منها الدُخان ثم يُنفثه خارجًا ظنًا من عقله الوهمي أنه يُخرج همومه المُثقلة، وقد تيقن أن بقائه في القاهرة مستحيلًا قبل أن تخمد نيران إنتقامه قبل أن يُلقب بالقاتل!! حينما آل به التفكير إلى هنا توقف عنه وبدأ في فتح دفتره على صفحة جديدة فارغة ثم بدأ في رسم عينيها للمرةِ الخمسة عشر بعدما دون رقم الرسمة مابين قوسين (15) وكعادته يختصر حالته في اليوم بأكملهِ داخل عينيها، حيث تارة تجدها حزينة وتارة أخرىٰ مسالمة وتارة مكسورة، واليوم سيرسمها آملة كما حال قلبه، الدفتر أصبح ممتلئًا بصور عينيها واسم شقيقته وصور أمـه وكأنه جمع ذويه بداخله وأغلق عليهم.
فعل ما فعله في وقتٍ كافٍ لديه قبل أن يسهر طوال ليله وحيدًا، وقد أضاف تلك المرة عبارة جديدة كتبها هو لأجلها لعل ما يدونه يصلها ذات يومٍ:
_أيُفنىٰ المرء عن وطنٍ هويته هي عيناكِ؟.
صدق في عبارته ووصفه، فحتى في المنفى يتخذ عينيها وطنًا له حيث الهوية والإنتماء، والوجود في الملتحد والإحتماء، فأضحى بها من قسوة العالم يحتمي، وإليها من التشرد ينتمي، فآهٍ لو ينتهي عمله ويطير هو مُسرعًا لكي يقف راكعًا أمامها _بصورة خيالية_ لكي يسترضيها، ومن غيرها العهد الوحيد الذي أقسم هو بعدم خيانته له.
__________________________________
<“سألوني الناس عنك، والعيون بسيرتك نواطق”>
بعد مرور شهر مُتمم على رحيل “يـوسف”
أتم في غيابه ثلاثين يومًا كاملين لاذ خلالهما بالفرار من الجميع بالطبع إلا نفسه، وأكثرهم عذابًا في فراقه كانت “عـهد” التي عادت المخاوف تتجسد أمام عينيها من جديد، غيابه عنها ساهم في عودة سيرتها الأولى ونفسها القديمة الخائفة إليها، لقد تم الإعتياد على أمر غيابه بالرغم من إختفاء أي أثرٍ له إلا أن “أيـوب” علم مكانه عن طريق معاونة أحد أصدقائه القُدامى وأخبرهم به..
خلال هذا الشهر المُنصرم استفاق “نـادر” من غيبوبته لكنه لازال بالمشفى وقد برأ “يـوسف” تمامًا من أي إتهامٍ قد يمسه وهذا ما أوصله لهم “عُـدي” من خلال الأنباء المتداولة بالشركة على لسان الموظفين ومنهم “رهـف”، بينما” أيـوب” فقد أشتاق لرفيقه المُشاغب كثيرًا، اشتاق لإفتعاله المشكلات ثم ينقذه منها ويقف في ظهرهِ مُعلنًا حمايته له.
وبداخل غرفة “عـهد” أنزوت بنفسها عن الكل وهي تفكر في اللقاء القريب وشبه الأخير في النيابة قبل صدور الحكم على “سـعد” وللأسف تهديدات والدته لم تنفك عن يومها حتى أضحت تراسلها من أرقامٍ غريبة وكأن طفرة الجينات هكذا في تلك العائلة، أصبحت أكثر بؤسًا بعد رحيله وخاصةً وهي تتحرك للعمل بمفردها تقبض على حقيبتها ليلًا، لكن “عبدالقادر” خصص أحد الصبية لحمايتها، وقد تذكرت سؤال المرأة المُسماة “أم أحمد” عنه وعن أحواله فسكتت هي ولم تُعقب سوى بكلمةٍ واحدة:
_كويس، مسافر في شغل.
زفرت بقوةٍ وقررت الصعود إلى الأعلى تصنع لنفسها كوبًا من الشاي المزود بالنعناع الأخضر وتتمتع بأواخر أيام الشتاء، وقد تحركت بالفعل إلى الأعلى ومعها الدفتر الخاص بها ثم قامت بصنع الشاي وفتحت دفترها تشكو له منه ومما فعله:
_”كيف حالك أيها الغريب القاسي الغائب؟
سامحني فكلماتي أصبحت تزداد في قسوتها لكنك لم تترك لي خيارًا غير هذا، فمن كان يصدق أنني ألجأ للتدوين بهذه الطريقةِ كفتاةٍ مُراهقة تخشى وقوع دفترها في يد عائلتها؟
اليوم سُئلتُ عنكَ من الغرباء وعجزت عن إعطاء الجواب، فكيف أعطي جوابًا لم أملك سند ملكيته؟
اليوم سأخبرك بما عانيته بدونك، حينما كنت أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي صادفني مقطعًا تصويريًا خاص بالمطربةِ نفسها التي سبق وأخبرتك عنها أنني لن أصبح مثلها، نفسها التي صاحبت القصة المؤلمة لحبٍ أسطوري، اليوم رأيتها تقف أمام الحشد المتجمهر لأجلها حتى تُطربهم بصوتها لكنها قطعت حفلها وتجاهلت الحشد ركضًا نحو حبيبها لكي ترتمي بين ذراعيه تلتحد به، وكان تفسيرها لذلك في قمة البساطة وهي تبتسم بسعادةٍ وتُعلل قيامها بهذا الفعل “مشوفتوش بقالي شهر” هذه الجملة جعلتني ابتسم ساخرةً ثم تحولت إلى حزينة وأنا أفكر أنني مثلها، لقد جعلتني أود مُعايشة شعورها، وجعلتني أحقد على كل من يراك يوميًا، حتى قطتك التي كنت تطعمها أصبحت تتمرد في غيابك، وأنا!! أنا كطيرٍ كسرَ جناحه يواسي طيورٍ أنهكهم الطير، والآن سأهديك كلماتٍ لعلها تصلك وتُبلغك ما أعانيه..
توقفت تلتقط أنفاسها المهدورة في ساحة الكتابة، ثم كتبت جملة أقتبستها من إحدى أغنياتها المُفضلة لتصف حالها في غيابه:
_”سألوني الناس عنك يا حبيبي”
أغلقت دفترها أخيرًا ثم عادت للخلف تُغني بصوتها هاربةً من البكاء الذي أخذ يؤلم عينيها كونه مكتومًا عند مُقدمة المُقلتين، وما حيلة مثلها في هذه الحياة سوى الإعتماد على موهبةٍ تواسيها في حزنها وتعبر عنها:
_سألوني الناس عنك يا حبيبي
كتبوا المكاتيب وآخدها الهوا،
بيعز عليِّ غني يا حبيبي لأول مرة ما بنكون سوا،
سألوني الناس عنك يا حبيبي
كتبوا المكاتيب وآخدها الهوا،
بيعز عليِّ غني يا حبيبي لأول مرة ما بنكون سوا،
_سألوني الناس عنك سألوني،
قلتلن راجع وعاتبوني، سألوني الناس عنك سألوني
قلتلن راجع وعاتبوني، غمضت عيوني خوفي للناس يشوفوك مخبأ بعيوني، وهب الهوا بكاني الهوا
لأول مرة ما بنكون سوا
أنهت الغناء وقد تهادى إلى أذنيها صوت خطوات قادمة من خلفها بثت الرعب بداخلها وقررت القبض على السكين الموضوع أسفل وسادة الأريكة خوفًا من تهديدات المرأة التي أضحت ترافقها كما ظلها وقد سقط ظل الجسد الآخر عليها فأزدردت لُعابها وتندى جبينها وهي تحاول التماسك ثم التفتت فجأةً تضع السكين على عُنق مُحتل مكانها لتتسع عيناها على الفور عند التقاء عينيها بعينيهِ، لوهلةٍ ظنته خيالًا نسجته لها عيناها بإشارةٍ من عقلٍ مُضطر وما حيلة المُضطر إلا خياله، فيما ضمها هو بعينيه ولازالت السكين موضوعة عند نحره النظرات تتحدث دون أن تتفوه الألسنة، العتاب والخذلان من جهتها، والشوق واللهفة من جهته وهنا أصدق ما يصف حالتهما كان:
_وإذا التقينا والعيونُ روامقٌ
صمت اللِّسانُ وطرفُها يتكلَّمُ
تشكو فأفهَمُ ما تقولُ بطرفِها
ويردُّ طرفي مثلَ ذاكَ فتفهمُ.
اللقاء يتكرر من جديد، نفس المكان، والليل ذاته، الأشخاص نفسهم، لكن القلوب وما بها تغيرت، حتى السكين الذي تسبب في اللقاء الأول يُحيي الذكرى من جديد ويتسبب في اللقاء الثاني من بعد غيابٍ، وحقًا صدق من قال
“ما أشبه الليل بالبارحةِ”.
____________________
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)