رواية غوثهم الفصل الحادي والتسعون 91 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الفصل الحادي والتسعون
رواية غوثهم البارت الحادي والتسعون
رواية غوثهم الحلقة الحادية والتسعون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل السادس_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
_____________________
وَاسْمَعْ نَصِيحَةَ مَنْ لَهُ خُبْرٌ بِمَا
عِنْدَ الوَرَى مِنْ كَثْرَةِ الجَوَلَانِ
مَا عِنْدَهُمْ وَاللهِ خَيْرٌ غَيْرَ مَا
أخَذُوهُ عَمَّنْ جَاءَ بِالقُرْآنِ
وَالكُلُّ بَعْدُ فَبِدْعَةٌ أوْ فِرْيَةٌ
أوْ بَحْثُ تَشْكِيكٍ وَرَأيُ فُلَانِ
فَاصْدَعْ بِأمْرِ اللهِ لَا تَخْشَ الوَرَى
فِي اللهِ ، وَاخْشَاهُ تَفُزْ بِأمَانِ
وَاهْجُرْ وَلَوْ كُلَّ الوَرَى فِي ذَاتِهِ
لَا فِي هَوَاكَ وَنَخْوَةِ الشَّيْطَانِ
_ “من نونية ابن القيم”
__________________________________
سيدي الغريب في المدينة القاسية..
سأحاكِ كل الذين لجئوا للكتابة في مناداة أحبائهم لعلَّ ما حفظته بداخل قلبي لكَ يصلك عبر كلماتي…
فأنا أعلم أنك غيبتُ قسرًا وليست طواعيةً منك،
وأعلم أن المدينة بأكملها أنقلبت عليكَ رأسًا على عقبٍ…
وأغدق الظلام دربك دون أن يظهر النور من ثُقبٍ،
لكن دعني أقتبس حديثك وأخبرك أنني هُنا،
قمرك الوحيد الذي سهر لأجلك لازال في سمائك هُنا…
نجومك اللامعة لأجلك حتى وإن انطفأت فلازالت هنا…
أنا وإن اسميتني أنتَ وطنك أخبرك أن وطنك شارف على دخول حربٍ عتية كل المدينة تخشى دخولها، وأنتَ وحدك من يقدر على ذلك أيها القوي
الذي أتيت إلينا غريبًا، فنحن هنا في انتظارك..
<“أرادوا لنا سوءًا، فأخذوا من النصيب الأسوأ”>
_كيف حالك أيها القوي الغائب؟..
أعلم أن هذه المرة ربما قد تكون نفذت طاقتك..
لكني أعلم أيضًا أنكَ وبرغم كل شيءٍ لازلت قويًا، وهذه المرة قد تشعر بشدة المِحنة لتصبح من بعدها مِـنحة من القوة، فكما صبرت وتحملت وتغربت في لوعةٍ ثم شاء المولى وأنقلب كل شيءٍ إلى رحمةٍ، أيضًا سينقلب الأمر من مجرد البلاء إلى العطاء،
ولحين ذلك ولحين يشاء الخالق عودتك
أنا هنا في إنتظارك…
في إنتظارك حتى يمل الصبر مني…
وحتى كل المفترقات تكرهني…
أنا هُنا وكلي يقين يملأ قلوب كل العاشقين..
أنا هُنا في إنتظارك ولن أقبل إلا بالبقاء جوارك..
فعُد لي أيها القوي، لتعد معك الفرحة لدارك..
عُد لتعود مدينتك مُضيئة لأن الظلام أطفأ لمعة أضوائك..
قرأ ما خطته هي بأناملها وقد ابتسم “يـوسف” من جديد ونبض قلبه تلك المرة بعنفٍ وكأنه يتمنى الهرب من حرب رأسه لينعم بالسلام جوارها، هذه التي كما وصفها هي رحمة من الخالق مَنَّ عليه بها لتليق هي به، وكأن هي وحدها من خُلقت تستحقه وهو يستحقها، وحينها لمعت عيناه ببريقٍ يتلألأ مثل نجوم السماء وكأنها أزالت عن كاهلهِ مهمة ثقيلة، حتى صعبت عليه التنفس، لكن في هذه اللحظة جلس أحد الشباب الذين حضروا اليوم وفتح سلاحه وهو يستعد للقادم وقد أتى إلى هنا لأجل وظيفة مُحددة أصبحت وظيفتين، فياترى ماهي الوظيفة التي أتى إليها وهو يجلس كما الصياد ويرى أمامه بدلًا من الفريسة الواحدة فريستين؟..
كان يتربص لهما بعينيهِ وكأنه ينتظر اللحظة المُناسبة في حين أن “يـوسف” ظل يحرك عينيه روحةً وجيئة على الخطاب اليدوي الذي أغدقه بالسكينة وأملأ روحه بالسلام، ظل يقرأ الخطاب وكأن حديثها هو الخير الذي نزل على أرضٍ عاشت في سنوات العُجاف، فيما ظل “أيـوب” يراقبه مبتسم الوجه والعينين حينما لاحظ تبدل حال رفيقه ما إن أطمئن فؤاده بهذه الورقة التي كانت بمثابة الحياة من بعد الممات وحينها هتف يمازحه بقولهِ:
_ياعم أنا متنيل قاعد، ولا أقوم أمشي؟.
ابتسم “يوسف” وكأنه يودعها بهذه الطريقة حينما أغلق الخطاب وشدد ضمة يده عليه ثم رفع عينيه للآخر وهو يبتسم به وكأن بظهور “أيـوب” ظهر هلال عيده، لذا هتف بنبرةٍ هادئة أعرب من خلالها عن كل ما يُجيش به صدره ويمليه عليه فؤاده:
_أنا ضيعت مني لما شوفت الكلام دا، حسيت إني متطمن ودي حاجة مش جديدة على “عـهد” وهي إنها تطمني، تستاهل إن الواحد يرمي نفسه في النار علشانها مرة وهي هتفضل تداوي في الجروح دي طول العمر، غباء مني أني بخاف، بس والله أنا مبخافش غير عليها هي، بخاف من الدنيا اللي ناسهم غدارين وهي وسطهم أكتر إنسانة عندها أصل ووفية، خايف من كل حاجة تخليني أرجع ميت من تاني، خايف في يوم ألاقي كل دا حلم، وأنا معنديش كل دا، خايف يطلع مفيش “قـمر” بروحها وطيبتها اللي مهونة عليا وخايف يطلع مفيش حضن “غالية” اللي بيحييني كل مرة أرجع أترمي فيه وخايف أطلع لسه مقابلتش رحمة ربنا ليا اللي ظهرت على هيئة “عـهد”…
سكت هُنيهة قليلة يلتقط أنفاسه ويحاول السيطرة على أنفاسه ولمعة عينيه التي ضوت بوميضٍ خاص لها هي، هي وفقط وقد ارتسمت البسمة على ملامحه واستوطن الصفاء عينيه عند قوله:
_هي رحمة من ربنا لواحد زيي الدنيا فرمته حتى دماغه مبترحمهوش، “عـهد” اللي علشانها القلب ميصونش غيرها وبرضه يخون ألف عهد علشانها هي، أنا لحد دلوقتي مش عارف مين فينا اللي ربنا بعته نجدة للتاني، أنا الغريب اللي كل الدنيا رافضة وجوده، ولا هي اللي قادرة تديني الحاجة اللي كل الدنيا دي بناسها فشلوا يعملوها، “عـهد” مُهرة أصيلة عمرها ما تقدر تخون خَيالها، عزيزة النفس زي خيل حُـر ميقبلش الذُل، مُذهلة بطريقة تسرق العقل، أنا طول عمري عمال أكره دنيتي بس حبيتها لما هي جت، جت بكل الخير لأيام مشوفتش فيها منها ومن ناسها غير كل شر، هي كانت وهتفضل الرحمة اللي ربنا رزق بيها واحد حتى دماغه مبترحمهوش…
توقف “يـوسف” عن الحديث حينما أدرك أنه تعمق أكثر من اللازم فيما ابتسم “أيـوب” بسمة عذبة زينت وجهه ثم رفع ذراعه يربت على كتف “يـوسف” وهو يقول بصوتٍ هاديءٍ:
_ربنا كريم مبيبخلش على حد، بعدك عن أمك وأهلك العمر دا كله وخلاك بعيد لسبب محدش يعلمه غير الخالق، وفي نفس الوقت جاب أختك هنا وأشوفها أنا وأحبها وهي والوحيدة اللي أحس ناحيتها نفس إحساسي ناحية أمي، بحسها نفس الطيبة ونفس الحنان وبحسها مني، كأنها حتة تانية بعدت عني وآن الأوان تكون معايا وترجعلي، عارف؟ كل ما ببص ليها بحس نفسي مرتاح، بحس إني فضلت أجري وأجري في سباق طويل ملهوش أخر ووصلت أخيرًا عندها هي، كل دا أنا عمري ما كنت هعرفه أو أحسه من غيرها، فربنا سبحانه وتعالى كريم وهو أرحم على نفس البشر منهم، لأن بطبعنا هوانا بيميل للغلط، بس أنتَ ربنا يوم ما رزقك بالرحمة، يسرلك الطريق وخلاه بالحلال أحسن من الحرام اللي نهايته تكون فراق ووجع، ربنا يراضي قلبك ويصبرك ويرزقك بصبر “أيـوب” والخروج من المحنة دي.
أطمئن قلب “يـوسف” وأبتسم له بعينيهِ ثم مازحه بقولهِ وهو يُشير عليه:
_الحمدلله رزقني بـ “أيـوب” أهو.
ضحك الإثنان معًا فيما قرب له “أيـوب” الطعام حينما لاحظ عدم اقترابه منه وهتف بنبرةٍ شبه متوسلة له حتى يتناول الطعام:
_طب يلا كُل بقى علشان فيه مفاجأة أحسن.
ألقى جملته بنبرةٍ ضاحكة فيما بدأ “يـوسف” في فتح الطعام وحينها أكتشف ما جلبه له الآخر فهتف بنبرةٍ ضاحكة وكأنه يسخر منه:
_حواوشي وفراخ !! وسلطة كمان ورز؟ وبتقولي بما يُرضي الله؟ متأكد إنه بالحلال يا أسطى “أيـوب”.
تجاهل “أيـوب” الرد عليه مُبتسمًا بيأسٍ ثم أخرج هاتفه فيما بدأ “يـوسف” في تناول الطعام وحرك رأسه حينها ليجد الجميع يتناولون الطعام ففهم ما فعله “أيـوب” وحينها تأكد في قرارة نفسه أن هذا الرفيق هو الرحمة المُضاعفة لطريقه، وقد أنشغل في تناول الطعام وتذكر هيئة شقيقته حينما خرجت وهي تمسك الأطباق فابتسم رغمًا عنه على وجبته التي لم يتناولها وشاء القدر أن يتناول هذا الطعام هُنا…
أنشغل “يـوسف” في تناول الطعام فيما أنشغل “أيـوب” في هاتفه حتى لاحظ أنه أنهى طعامه ومسح كفيه ينفض عنهما أثر الطعام وحينها مد كفه له بالهاتف وهو يبتسم له وقد لاحظ “يـوسف” أن الخط تم فتحه لتتصل المكالمة بين طرفيها وصدح صوت “قـمر” وهي تجاوب باستنكارٍ لعدم وصول الصوت لها:
_ألو !! أيوة يا “أيـوب”؟ طمني طيب شوفته؟ عرفت تدخله؟ بالله عليك قول أي حاجة تطمني عليه أنا متأملة خير فيك وعارفـ….
_أيوة يا “قـمر” دا أنا أخوكِ..
قطع هو حديثها بهذه النبرة الشبه باكية وقد شعر بالضيق لمجرد اختناق صوتها بهذه الطريقة بينما هي هتفت اسمه بلوعةٍ وبكت وهي تُناديه وحينها هدأها هو بقولهِ الكاذب:
_متقلقيش، أنا بخير والله ومعايا “أيـوب” كمان، بعدين هو أنا يعني عيل صغير علشان تعيطي كدا؟ أنا معملتش حاجة وهما واخديني اشتباه مش أكتر وبكرة يحققوا معايا ويتأكدوا إني معملتش حاجة، وهخرج وساعتها هربيكي على الأكل اللي فضلتي تدلعي وأنتِ بتسخنيه دا.
هتف جملته الأخيرة بمزاحٍ جعلها تضحك من بين عبراتها وقد ضحك هو الآخر بيأسٍ وحينها هتفت هي بصوتٍ مختنقٍ نتيجة البكاء الذي لم يتوقف وخاصةً ما إن استمعت لصوتهِ:
_حقك عليا، تعالى أنتَ بس وأنا هعملك أحسن منه مليون مرة، أنا مستنياك وعارفة إنك خارج مش هتتأخر عليا، وعلى فكرة أنا واثقة إن أخويا ميعملش حاجة وحشة لحد، لو عمل أو كان ناوي يعمل كان عملها من زمان وهما طول عمرهم ييجوا عليه، ربنا ينصرك عليهم.
كاد أن يبكي لكنه تماسك وهو يسأل عن أمه وزوجته وحينها كانت نبرته أقرب للإنكسار كونه سُحِب من بيته بهذه الطريقة من أمامهما:
_ماما و “عـهد” كويسين؟.
لاحظت هي توتر صوته والحزن البادي عليه فسحبت نفسًا عميقًا حتى لا تبكي من جديد وأضافت بنبرةٍ حاولت جعلها طبيعية:
_ كويسين الحمدلله وماما بتصلي وتدعيلك، و “عـهد” راحت تشوف مامتها وجاية تاني تطمن عليك، أنا هطمنهم عليك متقلقش، بس إن شاء الله بكرة تخرج بخير وترجع بيتك تاني.
أخبرته بذلك الحديث ثم أغلقت معه فيما تنهد هو بثقلٍ وحينها أعطى الهاتف لـ “أيـوب” وشرد بعض الشيء وحينها ربت “أيـوب” على كتفهِ ومسح عليه وظل يردد الدعاء له حتى استكان “يـوسف” أخيرًا وأغمض عينيه هربًا من الواقع المؤلم وأرجع رأسه للخلف يسندها على الحائط خلفه.
__________________________________
<“أحيانًا يصبح العمر مجرد كذبة دون رفقة من نحب”>
في مكانٍ أخرٍ..
تحديدًا في منطقة نزلة السمان جلس “نَـعيم” شارد الذهن فيما حدث مع “يـوسف” وفي عجزه عن المعاونة لأول مرة، وحينها تمنى أن يقوم “عبدالقادر” بالمحاولة لأجل هذا الشاب المسكين، حينها تذكر موقفًا يُشبه ذلك حينما أفترت عائلة “الراوي” على “يـوسف” وأتهموه كذبًا بسرقة الذهب الخاص بـ “حكمت” وحينها حاول هو لأجلهِ حتى خرج من هذه الحُفرة التي أجادوا حفرها له هو، وقد رفع رأسه للخلف بأسفٍ وهو يشعر بالتشتت والضياع وسط الجميع، ابنه من جهةٍ وابن شقيقه من الجهة الأخرى وابنه الأخر من جبهة أخرى، والشباب معًا من جهةٍ أخرى وهو الراعي الوحيد للجميع وهو المسئول عن رعيته..
حينها مال بجسده للأمام يستند على عصاه الخشبي الذي أعتلى رأسها حصانٌ فضي اللون يتلائم مع هيبته ووقاره وحينها ظل يفكر ويفكر في كل الأمور من عدة جهات رابطًا بين كل الأحداث معًا، حيث أن الأمور قد تبدو للجميع في غاية الطبيعة عداه هو، هو دومًا أعتاد أن يربط الأمور ببعضها ليحصل على الناتج المُبهم لدى الجميع، وحينها أدرك أن ماحدث كان فخًا تم نصبه أو ربما مجرد وسيلة إلهاءٍ عن كارثةٍ أكبر يتم التخطيط لها…
في البناية المجاورة جلس “إيـهاب” في شقته ومعه الهاتف يتحدث مع “سـراج” الذي ظل في غرفته برفقة “جـودي” وحينها هتف الأول بنبرةٍ جامدة بعض الشيء وقد شعر بهذا الشعور المُقيت المُسمى بالعجز:
_يعني مفيش صرفة برضه؟ الناس اللي تبعك دول مفيش حد منهم يا “سـراج” يخليه يخرج لحد النيابة بكرة؟ بعدين فين الدليل اللي يخليهم ياخدوه؟ مجرد ماحد راح أتهمه خلاص؟ الله ياخدهم يا شيخ قبل ما أبعتهم أنا متشرحين، والله أعلم بحالته جوة، صدقني يا “سراج” هيتعب، “يـوسف” عزيز النفس أوي.
فهم “سراج” ما يقوله الأخر وحينها أضاف هو مفسرًا بنبرةٍ هادئة لكي يُردف ويوضح له مافي الأمر جملةً وتفصيلًا:
_يابني ماهما دلوقتي أتحفظوا عليه في القسم علشان الاشتباه، أنا سألت المحامي وهو قالي إن بمجرد تقديم البلاغ واتهام شخص بعينه في جناية حصلت بالفعل بيتم التحفظ عليه علشان ميهربش، دا مجرد إجراء، لكن النيابة والتحقيق هما الفاصل بين الاتنين، غير كدا فيه مبرر للحجز على “يوسف” وهو الإتهام ووقوع الجريمة ووجوده هناك، والعربية كانت قصداها كمان، بس متقلقش إن شاء الله التحقيق بكرة يكون في صالحه يا “إيـهاب”..
زفر “إيـهاب” مطولًا بثقلٍ ثم أغلق معه المكالمة بعدما ودعه وطلب منه أن يُتابع البقية بنفسهِ ثم يهاتفه إذا وصلت الأمور إلى حالٍ جديد قد يفيده، وفي هذه اللحظة أقتربت منه “سمارة” تجلس بمحاذاتهِ وهي تقول بنبرةٍ متوترة لأجلهِ:
_ما بكفاياك سجاير بقى وشاي يا سي “إيـهاب” !! كدا يا أخويا هتتعب ولسه منمتش من إمبارح، طب دا اسمه كلام طيب؟ قوم نام علشان تقدر تقف مع الجدع اللي هتلاقيه مستنيكم.
أغمض جفونه المُرهقة ثم حرك رأسه لها وهو يقول بنبرةٍ مبحوحة جافة نتيجة سهره وإرهاقه والأرق الذي أصابه:
_متضايق علشان عارف إنه لوحده هناك وعاوز حد معاه، وأنا لما وقعت هو أول واحد كان هيهد الأرض علشاني، عارفة لو هو يستاهل أنا هقول خليه يتربى، بس دا “يـوسف” اللي متربي على أيدي، الغريب اللي جالي يستنجد بيا وعلمته إزاي يقف فاتح صدره في وش الدنيا، ربنا يلطف بيه وحد يحاول يساعده أو على الأقل يتطمن جوة.
ربتت “سمارة” على كفهِ وهتفت بثباتٍ وهي تشدد من أزره وتقويه في هذه اللحظة كما علمها هو:
_ريح بالك يا أخويا، ربك كريم مبينساش حد وأكيد ربنا مش هيرضى بالظلم، طب أنتَ عارف؟ يمكن اللي حصل دا يكون خير ليه، مش يمكن كانت الحادثة جت فيه هو؟ بعدين هو يعني “يـوسف” هيقتل دلوقتي؟ طب ما كان قتل من بدري، يا شيخ منها لله الولية “فاتن” دي مسهوكة كدا مبحبهاش شبه الطبيخ المايع النفس متبلعهوش.
ضحك رغمًا عنه من حديثها ثم فرد جسده على الأريكة ووضع رأسه على فخذيها بتعبٍ بلغ أشده وهتف بقلة حيلة هو الأخر مُكملًا على زوجته وحديثها:
_أهي دي أنا مش فاهمها بصراحة، لو هي بتحبه جابت سيرته ليه؟ ما كان ممكن تسكت ومتقولش إنه كان هناك بدل ما المرمطة دي كلها، أهي دي لو عمتي وبتعمل فيا كدا طلاق تلاتة كنت جيبت كرشها هي وجوزها وابنها، وساعتها اللي يقولي أبوك وعيلتك هقوله أبوك لأبوها لأبو دي عيلة، بس “يـوسف” مش قادر ينسى طلب أبوه منه أنه يحميها منهم، نقطة ضعفه أبوه وسيرته بس، علشان كدا هي سايقة فيها.
أنهى حديثه بنبرةٍ ثقيلة من أثر الهموم عليه فيما مالت “سمارة” عليه تُلثم جبينه ثم مسحت على خصلاته بكفها بينما هو هدأ من ثورة غضبه وقلقه بفعل قربها ثم أغمض عينيه وكأنها أمـه وتهدهده في صغرهِ وكعادتها هي شردت فيه وفي تواجدها قربه في نهاية المطاف وكأن ما فاتها قبله من العُمر كذبة لم تُحتست مثل الأوهام لم يُعترف بها.
__________________________________
<“كارثة تحل على الرأس، فمن المنقذ”>
جلس “أيـوب” برفقة “يـوسف” أطول فترة ممكنة استطاع أن يقضيها معه وحينها طلب منه الحارس أن يخرج بكل إحترام وتقديرٍ لشخصهِ، فلم يكن أمام “أيـوب” سوى أن يخرج خاصةً حينما علم أن الضابط المسئول عن القسم حضر من جديد لذا تحاشى أن يشتبك معه، بينما “يـوسف” فقد شعر بالفراغ ما إن تحرك “أيـوب” من جوارهِ وكأنه طفلٌ صغيرٌ يتركه والده أول أيام العام الدراسي على باب المدرسة وسط الزحام دون أن يعرف أيًا منهم وكأن الغُربة من جديد تُفرض عليه، والكُربة تذهب إليه..
حينها ودعه “أيـوب” وتحرك للخارج وقد زفر “يـوسف” بثقلٍ ثم أرجع جسده للخلف يستند على الحائط الأسمنتي وحينها رفع رُكبتيه يلصقهما في جذعه العلوي وهو يدعم جسده المُنهك وقد أغمض جفونه كمن يسدل الستار لإخفاء مُقلتيه أسفلهما وقد شارف أن يستسلم لسلطان النوم حتى صدح صوت ضجيجٍ مزعج لكن ليس ذلك الذي يسكن رأسه، بل الآخر خرج من حوله وفتح عينيه ليجد طرفين يتشاجرا سويًا فلم يبالي هو كثيرًا بل عاود غلق جفونهِ وحينها أقترب منه ذلك الشاب الذي سبق وجهز سلاحه في الخفاء وحاول أن يطعنه لكن “يـوسف” فتح عينيهِ ورأى وجه الشاب الذي كاد أن يقتله لكن الآخر لم يخشى ذلك بل أصر على تنفيذ مهمته وحينها رفع ذراعه ولكم “يـوسف” في وجهه مُستغلًا إبان ذلك الشجار المحتدم في الخلف..
حاول “يـوسف” المقاومة ورفع جسده عن الحائط لكي يُدافع عن نفسه لكن الآخر أخذ يُكيل له الضربات في أنحاء جسده ووجهه وقد ازداد الأمر سوءًا حينما خنقه الشاب وكاد أن يقتله وحينها برَّقَ “يـوسف” بعينيهِ وهو يحاول أن يتنفس، في هذه اللحظة عاد فتى صغيرًا تصارعه الحياة ظنًا منها أن مقاومته بنفس حجم قوتها عليه..
وكما اعتاد القسوة هكذا أصبح يعيش في هذا العالم، الحياة فرضت عليه قسوتها حتى أصبح يتجرعها مثلما يرتشف المياه من الكؤوس، فقد كان كما الطير الحُر لكن الحياة كسرت له جناحيه، أعتاد على رفع صوت حريته وحينها كممت الحياة فمه لتسكته دومًا، يُلقى عليه اللوم وما إن يدافع عن نفسه تطالعه الحياة بإزدراءٍ كأنه الجاني ولم يكن هو المَجني عليه، يُلام بفعل الذنب، وما ذنب الفتى البريء في هذا العالم؟…
استسلم “يـوسف” للآخر فيما شارف الآخر على إنهاء مهمته وحينها وجد نفسه يُدفع بعيدًا عن “يـوسف” بواسطة أحد الشباب المحتجزين خصيصًا ذاك الذي كان يُغني، وحينها أخرج شريحة سلاح من نَعل حذائه ثم وضعها على رقبة الآخر فيما ظل يسعل “يـوسف” كثيرًا وكثيرًا وكأنه شارف على فقد أنفاسه، بينما هذا الشاب ظل يضرب الآخر حتى انتبه له من في المكان بأكملهِ وظن الجميع أنه مجرد شجار احتدم بين الجميع وعلى إثر الصوت دلف الضابط يرفع صوته فيهم بقولهِ:
_أنتَ يا ***** منك ليه، ما تهدوا وتبطلوا شغل ****** بتاعكم دا، خلاص مش قادرين تستحملوا؟ عليا الحرام لو أتلميتوا لأكون راميكم كلكم في مخروبة واحدة تخلصوا فيها على بعض، أخرس يا حيلتها منك ليه أنتوا مش في حضانة هنا، أنتوا في قسم يا روح أمـك منك ليه، شوية ***** هياكلوا دماغنا، أقفل الباب يابني.
ظل الضابط يُلقي العديد من السُباب والكلمات النابية التي تتنافى مع كل قواميس الأدب ومهاجم التهذيب، أسلوبه أسوأ مما يمكن كما أن يمينه حمل حُرمانية كُبرى، حينها سكت الجميع وكذلك “يـوسف” الذي نزف وجهه وتألمت روحه وظل في عالمٍ أخر غير البقية لم يكترث به الآخرين سوى ذلك الشاب الذي أنقذه هو من تابع نبضه ومسح عن وجهه دماء جرحه بينما حالة الصمت انتابت الجميع في هذه اللحظة من تهديد الضابط وكأن الأمر هو عادة يومية في أقسام الشرطة يتكرر بنفس المنوال…
وهنا يقبع “يـوسف” سجينًا وقع في الأسر
بدلًا من أن يكون مُعززًا في مالهِ كما لو كان أمير القصر..
في الخارج خرج “أيـوب” من القسم بعدما ودع الجميع بنفس لحظة دخول الضابط الذي رمقه بسخطٍ ثم تجاهله كما لو كان نكرة تمر من هُنا وقد فضل “أيـوب” ذلك حتى لا يضطر إلى الاشتباك معه، وقد وصل إلى سيارتهِ خارج القسم وولجها مُباشرةً حتى يتوجه إلى المسجد يجلس به، خرج من هذا الشارع ليدخل الشارع الآخر أكثر ضيفاً بالكاد يكفي مرور سيارة واحدة ومنه يخرج إلى الشارع العمومي لكنه وجد سيارة فارغة في منتصف الطريق قطعت عليه العبور عبر هذا المُفترق..
زفر مُطولًا بيأسٍ وخرج من سيارته بعدما حاول الرجوع من الشارع لكنه وجد سيارة أخرى خلفه فأصبح هنا حبيسًا بين السيارتين وما إن خرج من سيارته يتوجه إلى الأخرى يستعلم عن سبب وقوفها حينها أتى أحد المجهولين من خلفه ثم ضربه على رأسهِ بُغتةً جعلت جسده يتجمد في محلهِ من هول المُفاجأة وقد نزل الألم على رأسهِ مباشرةً لكنه قاوم حتى ألتفت وهو يجاهد لأجل فتح عينيه وقبل أن يقترب منه الآخر ويضربه من جديد أقترب منه “أيـوب” وهو يتجاهل ألم رأسهِ لكن الأخر لكمه في وجهه حتى سقط “أيـوب” على مقدمة السيارة فيما تمكن الآخر منه وظل يضرب رأسه في مقدمة السيارة والفضل في ذلك يرجع لعنصر المفاجأة التي شتت ذهن الآخر فليس من المنطق أن تكون قوته وحركته قوية للحد المُبالغ فيه…
ظل “أيـوب” يحاول تخليص نفسه حتى تقطعت أنفاسه وتورم وجهه حيث ضغط الآخر على رأسهِ يلصقها في مقدمة السيارة ضاغطًا عليه بقوةٍ، هذا الفتى الذي تحمل وصبر وحاول أن يخرج نفسه من المستنقع الممتليء بالبشر أصحاب النفوس المريضة، الآن تُلقى عليه مصيبة جديدة من حيث لا يدري وهو يحاول بآخر أنفاسه لكن فارق القوى مع عنصر المفاجأة أصبحا عاملين قويين في إنصاف القوة لطرفٍ عن الطرف الآخر..
ظهر ضوءٌ من مقدمة الشارع ظهر على المدى البعيد بالكاد تلتقطه العين وحينها ترك الشاب “أيـوب” ينزف دمائه وهو يحارب لأجل التقاط أنفاسه وقد وقع أرضًا بينما الأخر أنسحب بسيارتهِ وكذلك وانسحبت السيارة الأخرىٰ كلًا منهما من طريقٍ غير الأخرىٰ وأصبح “أيـوب” في المنتصف غارقًا في دمائهِ كمحاربٍ فرغ عليه الميدان من بعد الهزيمة الساحقة لكنه فتح عينيه أخيرًا دون أن يتأوه وحاول إسناد نفسه لكنه فشل حتى وصلت السيارة الأخرىٰ ونزل منها شابان تطوعا في معاونته وكأنهما غوثٌ حضر في الوقت المناسب مثل ما اعتاد أن يفعل هو..
__________________________________
<“ياليتنا ما علمنا ما صارعنا لأجل أن نعرفه”>
بدأ الفجر في البزوغ بعد الليل الداكن وكلٌ هنا يبكي على ليلاه، الجميع قضوا ليلهم ساهرين والألم والخوف معهم وكأن الوفاء في تلخص فيهما، هذان الشعوران اللذان لم يُفارقا المرء عند تعبه أو وحدته، حينها يقف الخوف بالمرصاد أمام الأمل قاطعًا عليه الطريق أن يعبر إلى الأفئدةِ المنكسرة..
وحينذاك جلس “مُـنذر” في شقته أمامه بعض الأوراق الهامة التي تحمل مصائب وكوارث في العديد من الدول العربية أو الغربية، الأوراق التي أفنى عمره بأكمله لأجلها، كما وضع معها بعض الدلائل عن معظم الأماكن الكُبرى التي تعمل كستار تواري خلفه أعمالها الحقيقية وعلى رأسها تلك التجارة التي أصبحت مُربحة دون أي جهدٍ يُذكر وهي الإتجار بالبشر، هذه التجارة المتداولة بين دول العالم كما لو كان البشر ثمنهم زهيدًا مثل السلع التجارية، تارة يتم الاتجار خلال المشافي التي وضعت خلف ستار الاستثمار، أو المصحات العقلية أو مصحات علاج الإدمان، أو من خلال ملاجيء ودور الأيتام، وغيرهم والعديد من الأماكن التي تعمل في توريد البشر وأعضاء الجسد مثل قطع غيار السيارات، دون خوفٍ أو خشيةً من الخالق…
زفر بقوةٍ يخرج أنفاسه المكتومة داخل رئتيهِ ثم حرك رقبته يمينًا ويسارًا وعاد للخلف يطالع الهاتف الساكت دون أي صوتٍ يذكر منه وحينها وصلته الرسالة التي خشى أن يواجه مفداها يومًا، لكن الفضول هو ما يدفع المرء خلف العديد وقد تكون هاويته ناتجة عن هذا الفضول وحينها سحب الهاتف يقرأ الرسالة ليجد بداخلها الآتي من معاونه السري هنا:
_مقدرتش أوصل ليها وهي حية، للأسف والدتك توفت من كام سنة وليها أخوات كتير وقرايب هنا، بس قدرت أوصل لقبرها وأعرف مكانه، ودا العنوان أهو….
كانت الرسالة مزيجًا بين حزنٍ مُفسرةً أسبابه وبين فرحةٍ مجهولة المصدر، لكن لا شك أن هناك غصة سكنت الحلق وألم ضرب القلب برؤية هذا الخبر، لقد حارب بآخر أماله لكنه لم يعلم أن تصله المعلومات الخاصة بها بهذه السهولة، لكن يبدو أن كل ما يؤلمه يسير على أهواء الحياة بصورة عكسية لمشاعره التي ربما تكون رافضة لكل ذلك، حينها أغلق الهاتف ووضعه على الطاولة بعنفٍ فصدح صوت الهاتف من جديد وكاد حينها أن يتجاهل الصوت لكنه لمح اسم “تَـيام” يُنير شاشة هاتفه فسحب الهاتف يجاوب على المكالمة بلهفةٍ وحينها هتف الآخر بسخريةٍ:
_ماترد ياعم تقلان ليه؟ أنا قولت أكلمك يعني أتطمن عليك.
هتفها بحرجٍ وهو يُبرر سبب المكالمة فيما تعجب الآخر وسأله في هذه اللحظة بحيرةٍ في أمره من سرعته في تخطي الأشياء وسرعة تأقلمه في هذه الحياة:
_هو أنتَ مش لسه من كام يوم بس كنت قالب علينا كلنا وعامل مناحة وزعلان إن حياتك أتقلبت؟ جيبت السرعة دي منين يعني؟ أمرك غريب يا “تَـيام”.
ابتسم “تَـيام” بسخريةٍ ثم هتف بصدقٍ يعبر من خلاله عن الوجع الذي لازال يسكن بداخلهِ وحينها ظهر الألم باديًا عليه بقولهِ:
_أنا طبعي بكره التعب وبكره الشدة والضعف، بحب أكون قوي علشان أقدر أتخطى بسرعة، مش هنكر إني تايه وزعلان وكل مرة قلبي بيتقبض فيها من اللي حصل وإزاي من يومي عيل حياته زي اللعبة في أيد الناس بس أنا برضه بقول قضا أخف من قضا، مش يمكن كان زماني عيل مرمي في الشارع آخره الموت أو السجن؟ وأنا بحاول أهو أتعود وأحسنلك أنتَ كمان تتعود إني ابن عمك وفي مقام أخوك، لأن أنا معنديش وسط، يا أبيض يا أسود، يا تكون غريب عني ومش مني، يا تكون ملازمني زي ضلي، أختار أنتَ وفكر فيها، سلام.
أنهى حديثه وأغلق المكالمة يهرب من هذه المواجهة التي في كل مرّة ترسم في حوائط عقله بعض الرسومات التي لم ولن تُمحى من مجرد تجاوز التفكير فيها وفي هذه اللحظة طُرِقَ باب غرفته وما إن سمح هو من الداخل فُتِح الباب وظهرت منه “نجلاء” وهي تقول بصوتٍ جاهدت حتى يبدو طبيعيًا:
_أنا كنت هنام، بس أنا قولت أسألك لو محتاج حاجة يعني مني أو لو هتنزل زي كل يوم، علشان محطش المفتاح في الباب.
تقدم للأمام بجسدهِ وأشار بجواره على الفراش بمعنى أن تقترب منه وقد وزعت هي نظراتها بينه وبين موضع كفه وحينها أقتربت منه بخطواتٍ ظهر بها التردد لكنها بالطبع لم ترفض مطلبه وحينها جلست مقابلةً له بعينين ترقرق بهما الدمع ونكست رأسها للأسفل هربًا من التقاء عينيها بعينيهِ فيما حرك هو كفه يرفع وجهها لتعود سُبل النظرات في الإلتقاء من جديد وهو يقول بنبرةٍ هادئة حنونة:
_أنتِ بتتعاملي معايا كأني غريب هنا يا “نوجة”؟.
هذا اللطيف لازال قلبه رقيقًا كما لو كان يملك قلب طفلٍ صغيرٍ لم تدنسه قسوة الحياة، وقد ظهر ذلك في تعامله مع الجميع وعلى رأسهم والده ثم شقيقه ثم ابن عمه ثم والدته، الجميع نالوا المعاملة الطيبة منه رغم التيه الذي حكم به عليه، بينما هي رق قلبها فور وصول هذا اللقب لها ونزلت دموعها وهي تقول بنبرةٍ باكية:
_عمرك ما كونت ولا هتكون غريب هنا في بيتك، عمرك ما هتكون غريب عني وعن قلبي حتى، أنا بس مش عاوزة أضايقك، بديك وقتك يمكن تصفالي، بس والله العظيم أنا مقدرش أعيش من غيرك، دا أنا اللي مصبرني على الدنيا دي وجودك أنتَ فيها، عارف؟ والله العظيم أنا ممكن أتجنن لو مشيت، شوف عاوز إيه وتفضل معايا هنا، أقولك؟ أروح أقعد عند واحدة من اخواتي وأنتَ خليك هنا براحتك ولما تعوز حاجة كلمني هاجيلك في طرفة عين، وممكن كمان أشوف شقة جنبك هنا وأفضل فيها بس أكون قريبة منك، اللي تعوزه قولي عليه وأنا هعمله بس بلاش تمشي من هنا ولو مشيت أوعى تنساني، بالله عليك بلاش…
أنهارت أمامه باكيةً فيما خطفها هو في عناقه يبكي معها ثم مسح على ظهرها ورأسها وكأنه يربت على قلبها بهذه الحركات ثم هتف بنبرةٍ مُحشرجة:
_أنا أقدر برضه؟ أنساكِ إزاي يا ماما؟ أومال لو مش أنتِ اللي مربياني بقى؟ تعرفي إن ابنك يقدر يديكي ضهره ويمشي؟ دا أنا روحي فيكِ وعيشت عمر كامل ماليش غيرك، عارفة إمتى كنت هزعل منك بجد وأكره وجودي هنا معاكِ؟ لو كنتي عارفة حاجة عنه أو أنا مين، بس أنتِ أول ما عرفتي قولتيلي ومرضيتيش بالظلم والوجع، وأنا لما فكرت شوية لقيت إن محدش منكم آذاني، كلكم بسببي شوفتوا كتير، وأكيد أخواتك عارفين صح؟.
أذهلها بسؤالهِ فيما تجمدت هي محلها وابتعدت عنه تحرك رأسها موافقةً وفي هذه اللحظة ابتسم هو كمن حصل على حل اللغز وهتف بنبرةٍ هادئة يخبرها عن الحقيقة التي حفظها الأمر:
_طبعًا علشان كدا كارهين وجودي، شايفين إني عيل غريب مش من دمهم وباخد حق مش حقي فيكِ وأنتِ بتصرفي عليا وتجوزيني وتعملي جمعيات علشان أقدر أخلص الشقة، أكيد شايفين إن عيالهم أحق من الغريب، دلوقتي بس فمهت سبب كره عيلتك كلها ليا، أهو كدا أكون ارتاحت شوية، على الأقل إني عرفت الذنب وهو إني عيل غريب عايش بخير أختهم أحسن من عيالهم هما، ودي مش بأيدي أغيرها.
أغمضت جفونها وسحبت نفسًا عميقًا أخرجته على مهلٍ ثم توقف بكائها بذلك ثم قالت بنبرةٍ مكتومة:
_مش مهم، دا مش حقهم، دا حقك أنتَ اللي “صبري” سابه هنا ودي فلوسك اللي هو حطها كلها ليك لما استلم ورثه من عمامه في سوريا وحول الفلوس كلها مصر هنا وخلاهم باسمك، دي أمانة سابها ليك أنتَ وأنا مش هقدر أديها لحد غيرك، وإذا كان عليهم أنا سبق وعرفتهم إني لو اتحطيت في موقف اختيار، أنا هختار ابني، علشان مش الأم اللي بتحمل وتشيل في البطن، الأم اللي بتمد أيدها تمسح على قلبك وتطيب وجعك، وأنا عيشت دا كله معاك أنتَ.
ابتسم لها من جديد وظل يمعن النظر في وجهها ليتيقن أنه من مجرد النظر لها يشعر أنه يطمئن ثم راح عقله يصور له أبشع الصور التي كاد من الممكن أن يتعرض لها لولا ظهورها في حياتهِ وتبنيها له وفي تلك اللحظة مال عليها يستقر بنصفه العلوي على صدرها ورفع كفيه يتمسك بها ليجدها تضحك ببلاهةٍ ثم طوقته بكلا ذراعيها ولازالت تضحك بسعادةٍ وهي تراه يعود إلى حُضنها من جديد..
__________________________________
<“صباح جديد أتى بالأمل، عساه يبقى”>
في صبيحة اليوم الموالي…
وبعد مرور ليلة عصيبة على الجميع على رأسهم”يـوسف” و “أيـوب” فقد تشابهت ليلة كليهما مع الآخر من حيث منوال الأحداث والغدر الذي تعرض له الإثنان في نفس التوقيت، وقد هرب “أيـوب” من مواجهة والده وشقيقه ووعدهم أن يخبرهم بكل شيءٍ بعد الإطمئنان على “يـوسف” وعلى ذِكر “يـوسف” فقد تم نقله في هذا الصباح إلى مبنى النيابة لمباشرة التحقيق معه…
وصل إلى هناك بشكلٍ يُرثى له، حيث الكدمات التي ظهرت في وجههِ والجرح الذي توسط كفه الأيسر، حيث بدا كما لو كان هنا بصفته رجلًا عُرف بالخطر على المجتمع، قميصه الأبيض تلطخ بدمائه، خصلاته أصبحت مُشعثة والغُبار يستقر على أطرافها، وقد كره نفسه وعائلته وحياته وكل شيءٍ ألقى به إلى هنا، وقف والأصفاد الحديدية في أحد كفيه بينما وتم وصله بالحارس المسئول عن نقلهِ وحينها تذكر حينما كان في بداية مراهقته وظهر له “نَـعيم” من حيث لا يدري ينقذه، فعسى يظهر له هذه المرة منقذه..
مرت دقائق على وقوفه هُنا تبعها ظهور “أيـوب” الذي قام باخفاء جبينه أسفل الشاش الطبي وكذلك وجهه الذي ظهر عليه أثر الضربات هو الأخر وقد وقف الإثنان في مواجهة بعضهما يطالع كلاهما الآخر بذهولٍ !! حينها وصل “چورچ” يقف بجوارهما وقبل أن يبدأ في حديثه الذي أتى لأجله رأى “يـوسف” بهذه الحالة وحينها هتف بدهشةٍ:
_إيه دا !! إزاي حصل فيك كدا؟ مين عمل كدا في وشك؟ يعني كفاية “أيـوب” ناس طلعت عليه تثبته لكن أنتَ كمان؟.
حرك “يوسف” رأسه نحو الآخر وهو يقول بنبرةٍ جامدة وقد تيقن أن الأمر كان مُدبرًا لكليهما معًا:
_أنا لحد الصبح قولت دي خناقة في القسم أو عيال عاوزة تثبتني وخصوصًا لما الظابط ماخدش رد فعل، بس دلوقتي عرفت إنه كان حاجة حد دبرها، بس ليه؟ قرصة ودن مثلًا؟.
زفر “أيـوب” بقوةٍ ثم هتف بقلة حيلة:
_مش مهم متشغيلش بالك أنتَ، فيه حاجة بتوجعك في جسمك؟ ضربك بسلاح أو حاجة؟ ومين لحقك جوة؟.
هتف بنبرةٍ هادئة وكأنه غُلِبَ على أمرهِ:
_شاب جوة كان مخبي سكينة مقطومة في نعل الكوتشي بتاعه وهو اللي لحقني بعدها بكام ساعة فوقت وقالي إن اللي عملوا فيا كدا كانوا عاملين محاضر لبعض بس خرجوا لما قالوا إنهم هيتصالحوا، الحوار كله مدخلش عليا أصلًا، بس يلا كدا كدا خربانة جت على دي يعني؟.
في هذه اللحظة وصلت عائلة “الراوي” مع بعضها للتحقيق معهم بصفتهم الطرف المُدعي ضد “يـوسف” الذي ثار غضبه كما يُثار الغبار في الأرض بفعل حوافر الخيل، لم يتمالك نفسه وهو يخرج سبة نابية من بين شفتيه يهينهم بها بقهرٍ وخاصةً تلك المدعوة “شـهد” التي رمقته بتشفٍ خالص جعله يبصق في وجهها وهي تمر بجواره..
أقتربت منه “فاتن” تسأله بنبرةٍ شبه باكية وهي تطمئن عليه حينما لاحظت وجهه المتورم وأثر الدماء في قميصه:
_أنتَ كويس؟! طمني عليك يا “يـوسف”؟.
أغمض عينيه في محاولةٍ منه للتحكم في غضبه قبل أن يتشعل فتيل القنبلة الموقوتة في رأسها وينفجر في وجهها، بينما بكت وهي تتوسله أن يُطمئن قلبها لكي يُريح قلبها وحينما بكت انفجر في وجهها بقولهِ صارخًا:
_أنتِ عاوزة مني إيه؟ فيه إيه تاني معملتيهوش؟ عاوزة إيه مني يا ست أنتِ؟ أعملك إيه علشان تحلي عني؟ مش دا كان طلبك مني؟ جاية تجيبي سيرتي علشان يتهموني؟ أنا عارف إني معملتش كدا وأنتِ عارفة إني معملتش كدا وهما نفسهم عارفين ومتأكدين، بس كل مرة تاخدي صباعي وتحطيه تحت ضرسهم علشان يكسروني، المرة دي بتحطي رقبتي كلها يدوسوا عليها، أنا تعبت منك، تعبت من ضعفك وسلبيتك، دلوقتي بقيت بايت في القسم وأتضربت بسببك برضه، دخلت أحداث بسببك، أتهموني بالسرقة بسببك، أترميت في مصحة بسببك وسبب خوفك، دلوقتي بقيت قاتل؟ طب ما الأولى كنت قتلت وأنا بطولي ولوحدي، كنت قتلت وأنا حُر نفسي، مش بعدما بقيت إنسان وعندي حياة هضيع كل دا من أيدي، أبوس رجلك أنا سيبيني في حالي كفاية دماغي عليا، أبوس إيدك كفاية بقى، كفاية.
توسلها بقهرٍ أن تَكُف عن أفعالها التي كانت ستودي بحياته إلى الوفاة، توسلها بقلبه قبل لسانه أن تَكُف عن الإقتراب منه ومن حياته وهو يحاول جاهدًا للاستقرار بعدما أصبحت حياته ذات أهمية للآخرين حوله قبله هو ذات نفسه، وقد هدأه “أيـوب” حينما قطع عليه سبيل النظر إليها وقد نكست رأسها للأسفل وهي تتمنى الموت أهون عليها من لحظةٍ مثل هذه تقف فيها وتستمع لانكساره وتصدع روحه بهذه الطريقة..
مرت دقائق أخرى في توترٍ شحن الأجواء المحاوطة لهم وتبعها دخول وكيل النيابة المسئول عن التحقيق في هذه القضية وحينها استعد “چورچ” جيدًا للمرافعة وجذب انتباه “يـوسف” له وهو يُملي عليه تعليماته وكيفية التحضير للجواب ردًا على الأسئلة التي سَتُوَجَه إليه، ومن بعدها ولج “يوسف” وقد فك الحارس أسره من هذه الأصفاد الحديدية وحرره منها وأشار له حينها وكيل النيابة بقوله الهاديء:
_أتفضل يا باشمهندس “يـوسف”.
جلس “يـوسف” حيث إشارة الآخر وجلس “چورچ” مقابلًا له وهو يعرف عن نفسه أنه المحامي المسئول في الدفاع عن موكله “يـوسف الراوي” وحينها حرك الأخر رأسه مومئًا له ثم بدأ في توجيه الأسئلة للتحقيق مباشرةً:
_دلوقتي السيد “سامي السيد” وزوجة ابنه المدام
“شهد نزيه الزاهي” بالشروع في قتل القبطان “نادر” إيه رأيك يا “يـوسف” فيما هو نُسِبَ إليكَ؟.
سحب “يـوسف” نفسًا عميقًا ثم هتف بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:
_محصلش، أنا محاولتش أقتل حد.
جاوب بثباتٍ وثقةٍ جعلت الآخر يسأله بقوةٍ:
_يعني بتنكر إنك كنت موجود هناك؟ غريبة يعني مع إن فيه شهود قالوا إنك كنت هناك قبلها وأتخانقت مع “نادر” كمان، تنكر يا “يـوسف” إن دا حصل؟.
تفاجأ “يوسف” من السؤال لكن “چورچ” تدخل بهدوءٍ يجاوب نيابةً عنه بالوكالة وهو يقول:
_يا فندم موكلي كان هناك بطلب من والدة “نادر” اللي هي عمته أصلًا، وتليفون موكلي في تاريخ المكالمة والوقت، وإذا كان موكلي راح هناك فدا بطلب منها هي، لأنه بصفة رسمية بعد عن كل عيلة “الراوي”، فأنا بأكد لحضرتك إن موكلي مستغلش أي عداء بينه وبين المجني عليه يوصل للقتل.
حرك وكيل النيابة رأسه نحو “چورچ” وهتف بنبرةٍ هادئة:
_طب يا فندم، أنا سؤالي موضح، وهو إنه كان هناك وأتخانق مع “نـادر” بشهادة الشهود في المكان وصاحب المكان نفسه، فهل بقى فيه سبب قوي للنقاش المحتدم بينهم؟.
تدخل “يـوسف” يهتف بثباتٍ:
_لأ مفيش سبب قوي، بس أكيد مش كل اتنين هيشدوا مع بعض شوية تبقى النتيجة قتل واحد فيهم للتاني، أنا كنت هناك بطلب من “فاتن الراوي” أمـه وهي اللي أصرت أروح أجيبه قبل ما يسكر ويعمل في نفسه حاجة، غير كدا لو أنا عاوز أقتله هروح ليه وأنا كدا هشبه نفسي؟ طب ما كنت سيبته يسكر ويشرب وهو حُر ياكش الأرض تتشق وتبلعه جواه ويغور في داهية، أكيد مش منطقي أني أشبه نفسي.
حديثه كان منطقيًا للدرجة التي أقنعت وكيل النيابة لكنه حاول من جديد الضغط عليه حينما هتف بثباتٍ هو الأخر وكأنها حرب كلامية:
_طب ما هو يمكن بسبب الخناق بينكم هناك في لحظة غضب أضطريت إنك تأدبه أو تخلص منه، لحظة تهور زي ما بيقولوا يعني.
رفع “يـوسف” حاجبه وهتف بثقةٍ:
_فين الدليل؟ فيه حاجة عليا أثبتت إني عملت كدا؟ تسجيل كاميرا أو صورة ليا أو حتى صورة للعربية بتاعتي في الطريق؟ ماهو طالما شروع في قتل يبقى فيه سبق إصرار وترصد، الأركان دي موجودة عند حضرتك؟.
حينها شعر وكيل النيابة بالغيظ منه فرفع صوته وهو يقول بنبرةٍ عالية يحذره من التمادي في الحديث بهذه الطريقة:
_متنساش إنك هنا بصفتك متهم وأنا وكيل النيابة، مش حضرتك اللي هتحقق معايا، بعدين كل الشهود كلامهم ضدك، وأنتَ المشتبه فيه اللي كل الأدلة ضده، لأن لو العربية اللي عملت كدا مش عربيتك أنتَ فوارد تكون تحركت بطلب منك، تنكر إحتمالية حدوث الشيء دا؟.
سكت “يـوسف” وتولى “چورچ” عنه مهمة الدفاع عنه واستمر التحقيق تزامنًا مع دخول عائلة “الراوي” تباعًا واحدًا تلو الآخر لمواجتهم مع “يـوسف” وقد آكد “سامي” أن هو المتهم الوحيد في قتل ابنه وكذلك أكدت “شـهد” بينما “عاصم” فكان أكثر حيادية حيث كان حديثه يتلخص في:
_مقدرش أجزم أن هو أو مش هو، في الحقيقة “يـوسف” طول عمره عصبي وعدائي ولسانه طويل فدي حاجة مش جديدة عليه، أظن يعني هو مش هيستنى “نادر” برة يخلص عليه، الأقرب يعني كان مسك فيه زي ما حصل قبل كدا كتير يشدوا مع بعض وإحنا نتدخل نخلصهم، فأنا معنديش جواب كافي غير إني بتمنى “نادر” يفوق من تاني أي حاجة تانية مش مهم.
هذا المتحذلق يتلاعب بالحديث لكي يورطه بصورة غير مباشرة عن طريق الإفتراء والكذب وكأن هذه العائلة امتلكت كل الصفات الحميدة ووحده “يـوسف” هو الذي أتصف بالسوء بينهم، وحينها تمالك “يوسف” نفسه لكي يصمت عن السُباب والشتائم حتى أتى دور عمته التي كره هو مجرد النظر إليها وما إن توجه السؤال إليها هتفت بنبرةٍ جامدة تتسلح بها هربًا من البكاء:
_أنا اللي كلمته وقولتله يروح يعمل كدا، ولو أنا مش واثقة فيه فأنا أكيد مش هلجأ ليه علشان يرجعلي ابني، وأنا اللي طلبت منه يحاول يجيبه ليا وضغطت عليه ودي مش اول مرة أضغط عليه علشان يعملي حاجة، لكن إنه يقتل ابني دا مستحيل، طول عمره حتى لو كانوا بيشدوا مع بعض فهو برضه بيحبه وأنا متأكدة من كدا، وإذا كان على ابني فهو أكيد عنده أعداء ووالده زيه برضه نفس الكلام الاتنين عندهم أعداء من الشغل، فمش شرط “يـوسف”.
“ها لقد وصلنا أخيرًا”
هتفها “يـوسف” بينه وبين نفسه ما إن شهد على حديث عمته وهي تنصفه وحينما تم استكمال التحقيق معها نفت هي كل ما يُمت إتهام “يـوسف” في هذه القضية، لكن مقارةً لحديثها مع حديث البقية حسم وكيل النيابة الأمر بقوله للكاتب المجاور له:
_قررنا نحن السيد وكيل النيابة “محمد جمعة عبدالباسط” بتجديد حبس المتهم “يوسف مصطفى الراوي” أربعة أيام على ذمة التحقيق وذلك لعدم وجود الأدلة الكافية ولحين استكمال النيابة في التحقيق بالتزامن مع تحريات المباحث الجنائية وحضور الشاهد المطلوب تواجده، وأغلقت الجلسة في تاريخها ووقتها اليوم الموافق ***** لحين الجلسة الأخرى المُحددة في تاريخها ووقتها..
أنهى الدباغة المُعتادة في هذا الموقف بحديثٍ مزق قلب “يوسف” وبَخر آماله التي وضعها في الخروج من هنا، فيما طمئنه “چورچ” بنظراتهِ وهو يخبره أنه سينهي كل شيءٍ لحين موعد الجلسة الثانية وحينها صرخ “يوسف” بداخلهِ وتذكر أكثر الأبيات التي كان يظنها كُتبت لأجله خصيصًا من الكاتب “عبدالرحمن منصور” حينما شارك ألمه مع الآخرين قائلًا:
“كُـل شـئ بينسرق مِـني؛
العُـمر مـن الأيام ، والضَّي مـن النني”
هنا يجلس هذا الشاب الذي سُرقِتَ أيامه منه وأحلامه كذلك أيضًا، لقد فنى عمره في محاولة التنفس فقط وهم حتى أنفاسه يحسبونها عليه، فأين أنتَ أيها الطير التي حسبتني جناحيك، أنا هنا أشعر بالكسر يصدُع في روحي وأحتاجك كي تُضمد هذه الجروح.
__________________________________
<“اللقاء الأول كارثة، ربما الثاني نجاة”>
خرج “مُـنذر” صباحًا من حارة “العطار”..
ثم توجه إلى العنوان الذي وصله وقد أوقف دراجته البخارية السوداء أمام المكان الذي لا يصلح له أن يصله بهذه الدراجة وقد رفع كفه يمرره في خصلاته، هذا الرجل صاحب الملابس القاتمة والهيبة الفارضة والنظرات الجامدة، رجل تبرمج كما الإنسان الآلي على فعل كل شيءٍ، وقد وصل إلى مشفى الأمراض النفسية والعقلية التي سيعمل هو بها…
ولج إلى هناك عبر باب الاسقبال الزجاجي، والمكان كان عبارة عن مشفى بداخلها حدائق كثيرة، والعديد من المساحات الخضراء والزهور بمختلف أنواعها، يبدو أن المكان هنا حقًا يهتم بالصحة النفسية وليس فقط لمجرد جني الأرباح المادية فحسب، بل الإهتمام بالتفاصيل تحدث عن المكان وذويه، حيث أن كل الغرف تطل على الحدائق والمساحات الخضراء، الألوان الهادئة والأشجار المثمرة وصوت المياه الصناعية الذي ملأ المكان ساهموا جميعًا في إعطائه فرصة لفهم المكان وطبيعته..
وصل إلى الطاولة الرُخامية الخاصة باستقبال العُملاء وحينها سأل عن “جواد” ووصله الرد من موظفة الاستقبال أنه في انتظاره بالداخل، وقد ابتسم لها بمجاملةٍ وهندم قميصه الأسود ثم توجه نحو الغرفة التي أشارت عليها وأخبرته الموظفة برقمها، سار إلى هناك واثق الخُطى كعادته يخوض معركة جديدة تطلب منه أعلى قدرة في التحكم الإنفعالي، وحينها طرق الباب ليصله صوت فتاة من الداخل تطلب منه الدخول بنبرةٍ محتدة آثر هو تجاهلها ودلف الغرفة وما إن فرق شفتيه عن بعضهما لكي ينطق حينها وجدها تضرب المكتب بكفها وهي تقول بنبرةٍ عالية:
_إحنا هنتحايل على حضرتك علشان تيجي يعني؟ مستنيين بقالنا قد إيه؟ وقولنا ليك إننا في أشد الحاجة ليك والحالة بتسوء، وحضرتك ولا أنتَ هنا، طب حط نفسك مكاننا، بس إزاي؟ مجرد شخص جاحد وأناني مش فارق معاك غير نفسك، جيت ليه حضرتك؟ خلاص بقينا مستغنيين عن خدماتك، أتفضل صلح الكارثة دي بقى…
ضيق جفونه وهو يتابع تلك الفتاة التي تتحدث معه بهذه الطريقة كما لو كان هجم على ميراثها وخطفه منها أو كما لو تساوى مع قطٍ سرق اللحم الخاص بها من صحنها، أما هي فضمت كلا ذراعيها وهي تشمله بنظراتها الحانقة ثم حولت ملامحها للشفقة عليه وهي تقول بسخريةٍ:
_للأسف، أنتَ بسبب جحودك وقلة أدبك خسرت كتير أوي وأنا كنت حاطة أمل فيك، بس برضه أنتَ السبب، أتفضل أخرج برة، أنا معنديش استعداد اتناقش مع حيوان زيك…
كفى، بالله كفى عليه كل ذلك فهو في حقيقة الأمر صيادٌ ماهر في صيد فريسته، فما الظن بفتاةٍ تتواقح عليه؟ بالطبع هي من أجنت على نفسها وقد وصل إليها في لمح البصر وتخطى المكتب وحينها لصقها في الحائط خلفها ثم رفع كفه يضعه على فمها وهو يقول بنبرةٍ جامدة هدر بها من بين شفتيه وقد علا صدره بحركةٍ أعربت عن غيظهِ:
_تلاتة بالله العظيم لو ما سكتي لأكون فاصل راسك عن جسمك دلوقتي، أنتِ إيه؟ بالعة راديو، اسكتي خالص، بتتكلمي معايا كأني جاي آخد ورثك، أومال لو مش مكلمكم إمبارح ومأكد المعاد، هشيل أيدي ولو فتحتي بوقك أنا هخلي روحك تتشال بنفس سرعة أيدي، فاهمة؟؟.
هدر بكلمته الأخيرة فيما برقت هي بعينيها داخل عينيه لترى نفسها في مُقلتيه بصورةٍ عكسية، بينما هو راقب ملامحها كُليًا، البشرة البيضاء الناعمة، الخصلات السوداء متوسطة الطول بلمعةٍ لم يرْ مثلها سابقًا، عيناها الواسعتان باللون البني الدافيء، رقة الحركة الخاصة بأهدابها الكثيفة، تبدو مميزة بقدرٍ هائل جعله يتحكم في نفسه بصعوبةٍ بالغة وهو يُزيح كفه عن فمها وقد دلف “جـواد” الغرفة وهو يتصفح رسائل هاتفه لكنه رفع صوته حينما رأى هذا المنظر قائلًا بنبرةٍ جامدة:
_إيه دا أنتَ مين؟ وبتعمل إيه هنا؟.
هدر بهذه الجملة ثم أقترب منهما يسحب شقيقته التي عاودت التنفس بحريةٍ من جديد وهي تلوح بكفها أمام وجهها حتى تُهديء حرارة وجهها المتدفقة في خلايا رأسها، بينما “مُـنذر” سحب نفسًا عميقًا وهتف بنبرةٍ هادئة:
_أنا الدكتور “مُـنذر” اللي جاي أقابل حضرتك من طرف “يـوسف الراوي” ومعرفش الحقيقة أني هاجي أتهزأ هنا وأتشتم ويتقال عليا حيوان، بس تمام أنا عن نفسي مش محتاج لأي حاجة، عن إذنكم.
شهقت “فُـلة” ما إن استمعت للتعريف عن هويته وحينها أشرأبت برأسها من خلف شقيقها وهي تقول بصوتٍ ملئته الحسرة على ما فعلت:
_يعني أنتَ الدكتور “مُـنذر” مش “إسحاق” أخو مدام “نجاة” اللي بنحاول نوصله وهو كل شوية يقول بكرة؟ يعني أنتِ واحد تاني غيره؟.
رفع حاجبه لها فيما حاولت هي آنذاك أن تقوم بإصلاح موقفها لكن شقيقها بالتقريب فهم ما تسببت فيه هذه الفتاة المتهورة وحينها تنحنح يُجلي حنجرته وهو يقول بنبرةٍ هادئة دبلوماسية:
_طب واضح إن فيه سوء تفاهم، أنا الدكتور “جواد” ودي أختي دكتورة معانا هنا برضه ومسئولة عن بعض الحالات الخاصة، أتمنى إن حضرتك تتقبل اعتذاري حتى من غير ما أفهم الموقف وياريت تتفضل علشان نتكلم مع بعض، أنا مستني المقابلة دي من زمان.
أخرج “مُـنذر” زفيرًا قويًا يحاول من خلاله أخذ القرار الصحيح ثم هتف بجمودٍ دون أن يسيطر على ذلك:
_مفيش مشاكل، ياريت نبدأ الكلام بشكل أرقى شوية.
لمح بكلماته عليها وهو يشملها بنظرة ساخرة جعلتها تطالعه بذهولٍ فيما صدح هاتف شقيقها من جديد حتى استأذن منه وأنسحب للشرفة نظرًا لأهمية الهاتف فيما حاولت هي إصلاح الموقف قبل مجيء شقيقها بقولها:
_أنا آسفة يعني على اللي حصل، بس الشخص التاني دا بجد أناني أوي ومعندوش دم وأنا أفتكرتك أنتَ هو، أتمنى يعني حضرتك تنسى اللي حصل، أنا الدكتورة “فُـلة”..
هتفت جملتها الأخيرة بثباتٍ وهي تعرف عن نفسها ومدت كفها له للمصافحة الرسمية فيما ارتسمت السخرية على ملامحه ومد كفه وهو يردد بنبرةٍ ساخرة ردًا على تعريفها:
_أنا قولت كدا برضه، شكلك “فُـلة” معاكِ الكابتن “ماجد”
ألقى جملته وقد فهمت هي سبب حديثه، حسنًا هذا الوغد يسخر منها ومن اسمها؟ حسنًا عليها أن تصمت وتبتلع غيظها بداخلها لحين ينتهي شقيقها من هذه المقابلة ثم تأخذه في مباراةٍ لترى مهاراته، قد سحبت كفها من كفهِ وهي ترمقه بحدةٍ جعلته يفتح عينيه على وسعيهما من الخلل الذي تتعامل به هي…
__________________________________
<“أتوا إلى مصيرهم، لا تبخل عليهم بكرم الضيافة”>
بعد غروب الشمس ومع حلول الليل في بيت”غالية”…
ظلت تبكي بعدما عاد الجميع لها خاويين الوفاض في تبرئة ابنها وأنه عاد لمحبسه من جديد، حينها ظلت تصرخ وتبكي ببرائته، وحينها حاوطها “عُـدي” وجعلها تبكي على صدره كما كانت تفعل دومًا وهي تتمسك به، بينما “إسماعيل” حضر مع أهل خطيبته ووقف معهم وخاصةً “ضُحى” التي ذبلت تمامًا نتيجة تلك المصائب التي حلت فوق رؤوسهم، بينما “قـمر” فكانت قوية بشكلٍ مهيب وكأنها أصبحت هي رجل البيت، تسلحت بالقوة والصبر عوضًا عن البكاء والعويل، وقد عاد “أيـوب” لما يفعل في محاولة تبريء “يوسف” خاصةً مع محاولة الإعتداء عليه ليلًا في قسم الشرطة…
في شقة “عـهد” حبست نفسها وهي تضم ذراعيها حول منكبيها تدعم نفسها وهي تبكي، الأمر أصبح في غاية الخطورة وهو الآن في محبسه من جديد وكأنه قتل بالفعل، هذا الغريب لن يفعلها، نعم هو غريب الأطوار ومتنوع الصفات لكن القتل والغدر لم يكونا ضمن طباعه، لذا ظلت تبكي حتى فتحت والدتها الغرفة تخبرها بنبرةٍ مشفقة عليها:
_قومي يا “عـهد” عينك ورمت من العياط، فيه واحد برة عاوز يقابلك جاي مخصوص ليكِ، معرفش هو مين بس قالي من طرف “يـوسف”.
ما إن استمعت لاسمه يُذكر من بين شفتي أمها خرجت من الفراش ركضًا نحو غطاء رأسها ثم خرجت من غرفتها للخارج لتجد أمامها آخر من ظنت أنه سيدخل بيتها حيث وجدت أمامها “سـامي” !! ماذا يفعل في بيتها؟ لذا اندفعت تسأله بنبرةٍ عالية منفعلة في وجهه:
_أنتَ بتهبب إيه هنا؟ ليك عين يا بجح تيجي هنا؟ ولا صحيح هقول إيه اللي اختشوا ماتوا وأنتَ معندكش أي خشا أو دم.
ابتسم ببرودٍ لها ثم هتف بنبرةٍ جامدة:
_أنا جاي علشانك أنتِ، جوزك مش هيخرج منها، والأحسن إنك متحطيش أمل في خروجه علشان لبساه لبساه، فلو أنتِ عاقلة ألحقي نفسك وسيبيه وخليكِ برة الليلة دي، لو متعرفيش فاحب أقولك إنها مش أول مرة تحصله، دخل أحداث قبل كدا ودخل السجن قبل كدا ودخل مستشفى المجانين قبل كدا، وغيره كتير وكتير، خليكِ عاقلة وألحقي نفسك وساعتها طلباتك كلها مُجابة، أنتِ زي بنتي وعاوز أقولك إن بطبع “يـوسف” دا مش هيكسب حاجة، لأن الوساخة مبتأكلش عيش.
وقفت “مَـي” مصدومة مما يقال أمامها وفي هذه اللحظة شعرت بالخطر يحاوط ابنتها فيما هتفت “عـهد” بتهكمٍ بعدما وقفت أمامه قوية وثابتة مثل مُهرة لا تخشى النزول لأرض المعركة الدامية:
_علشان كدا طول عمرك جعان ومش هتشوف شكل العيش حتى، ماهو أكيد مش هنلاقي أوسخ من كدا طبع وأصل، بس أحب أقولك إني مش بسمع كلام حد فما بالك بحد وسخ زيك؟ لو عاوز ردي عيني الاتنين…
هتفت جملتها ثم توجهت لباب الشقة تفتحه وهتفت بثباتٍ بالغٍ وهي تشير إلى طرده خارج المنزل:
_لو عندك ذرة واحدة من الكرامة أخرج من هنا، بدل ما أخلي شبشبي هو اللي يخرجك، ولا ليه؟ محضر قصاد محضر وأقول إنك بتتهجم عليا أنا وأمي وأختي وساعتها أبقى وريني مين هيخرجك بقى…. يــا لــهوي.
صرخت بكلمتها الأخيرة بنبرةٍ عالية جعلته يطالعها بعينين مُتسعتين في نفس لحظة وصول “عُـدي” و خلفه “إسماعيل” للأعلى وخلفهما تحركت الفتيات والنساء تزامنًا مع صراخات “عـهد” المتواصلة حتى تشتت “سامي” عن التحرك وقد خرجت “شـهد” من سيارته وصعدت على صوت الصرخات نحو الأعلى لتجد الجميع أمام شقة “عـهد” وقد دلفت هي تدفع نفسها للأمام وهي تسأله بنبرةٍ عالية:
_حصل إيه يا أنكل؟ حضرتك كويس؟.
توجهت الأنظار نحوها وحينها رمقتهم هي بسخطٍ ثم ابتسمت ساخرةً وهي تقول بنبرةٍ تهكمية توجه حديثها لـ “عـهد”:
_أكيد شغل الجنان دا خرج منك أنتِ، بس هقول إيه يعني؟ أطبعتي بطبعه وبقيتي مجنونة زيه وبكرة تتحولي قتالة قُتلى أنتِ كمان، هو إيه شغل الغجر دا؟ اسمعي أحسنلك، أنا مش جاية هنا أطبطب عليكِ زي عمو كدا، أنا جيت هنا بس علشان أقولك إن جوزك حاول يقتل جوزي، فمحدش يتوقع إنه يخرج منها، واحنا جايين هنا علشان نقولكم إن البيه محدش غيره هيستفاد من قتل “نادر” وأنا مش هسيب حق جوزي.
هتفتها “شـهد” أمام الجميع دون أن تحترم تواجدها في بيتهم وعقر دارهم وفي هذه اللحظة طفح كيل “قـمر” منها فلم يكن أمامها سوى أن تقف في مواجهتها وقد سئمت منها ومن ثرثرتها ومرافعتها الرفيعة لأجل الدفاع عن حقها المزعوم وحينها تحدثت هي الأخرى بقوةٍ تُحسد عليها حينما أقتربت منها:
_هو أنتِ وجوزك ولاد ناس وإحنا ولاد قرود وكلاب؟ كلنا بشر زي بعض، وإذا كنتِ هنا بتاخدي حق جوزك، فأنا مبسيبش حق أخويا…
هتفت حديثها بانفعالٍ وعلى حين غُرة رفعت كفها وصفعت “شـهد” أمام الجميع صفعة قوية وصل صداها لسمع الواقفين في لحظةٍ غير متوقعة وفعلٍ لم يتم توقعه منها هي، وهي دومًا كما الفتاة البريئة تتعلم السير في خطواتها، لكن هذه الفتاة كبرت واستطاعت أن تثأر لنفسها ولذويها متسلحة بالقوةِ وقد هتفت بنبرةٍ جامدة تكمل حديثها:
_القلم دا علشان تتعلمي بعد كدا تتكلمي عن أخويا كويس ولما اسمه ييجي على لسانك ييجي بأدب، ودا علشان اللي الدكر اللي رباكِ فشل يعمله…
أنهت حديثها بالصفعة الثانية ثأرًا لشقيقها وعائلتها وأمها من هذه الفتاة التي تسعى دومًا لتدمير حياة شقيقها وقد جمدت الجميع برد فعلها العدائي الذي قلما يخرج منها وقد خرجت “شـهد” من طور صدمتها وكادت أن تندفع لتمسك بـ “قـمر” لكن صوته حضر في هذه اللحظة يهتف بنبرةٍ جامدة:
_إيدك يا حلوة !! لو فكرتي تمدي إيدك على أختي ولا عينك تترفع فيها أنا هوريكي شغل الجنان بحق، ارجعي يا روح أمك.
لم يتوقع أيًا من الواقفين أن يحضر في هذه اللحظة حتى ذويه، ألم يكن من المفترض أنه في محبسه الآن؟ كيف حضر إلى هنا وكيف وقف بجوار “أيـوب” في هذه اللحظة؟ وحينها وقف “سامي” بذهولٍ أمامه ليجد “أيـوب” دلف الشقة ثم أغلق الباب وشَمر ساعديه وهو يقول بتهكمٍ:
_مش تقولوا إننا عندنا ضيوف يا جماعة؟.
ابتسم “يـوسف” وهو يقول بنبرةٍ ساخرة ردًا عليه:
_ومش أي ضيوف، دول ولاد رقاصة.
حينها ابتسم “أيـوب” بزاوية فمه وقد فاض الكيل به لذا حرك رأسه نحو “سامي” وهو يقول بسخريةٍ اختلطت بنبرةٍ أخرى وارت خلفها التهديد المُبطن:
_وماله، يلا نلم النقطة.
في الحقيقة خلال اليومين الماضيين لقد تحول هو كُليًا حتى طريقة حديثه تجعل كل من يراه يحسبه شخصًا غير الشخص المعروف، لكنها نفسه البشرية، تتفاعل مع الأحداث حولها، تصدر ردود الأفعال ردًا على الأفعال المصدرة نحوها، يتعامل بما يستحق أن يتعامل به الآخرين، والآن ربما يكون قاتلًا لكنه قاتل بحق.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)