رواية غوثهم الفصل الحادي والأربعون 41 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الفصل الحادي والأربعون
رواية غوثهم البارت الحادي والأربعون
رواية غوثهم الحلقة الحادية والأربعون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الواحد والأربعون”
“يــا صـبـر أيـوب”
_________________
مالي سواكَ يا غوثي ومدَدي ..
مالي سواكَ ياسندي وياقوتي ..
فررتُ منكَ لمّا خفتُكَ
إليكَ لما وجدتُ الأمانَ لديك ..
يا مؤنسي في وحدَتي
يامُقيلي في عَثرَتي ..
ياصاحبي في غُربَتي ..
يا منقذي من كُربَتي ..
يارب .
“مُقتبس”
_”سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم”
_________________________________
أكتب إليكَ اليوم لأخبر قلبك بحديثي، فأوده يعلم أن:
قدماي وطأتا أرضًا ظننتُ نفسي بها حُرًا كما الطير
ولم أضع قط في حُسباني أن أكون هنا الأسير،
فوقعتُ أسيرًا في سحرٍ أسودٍ ألقته عيناها على قلبي، وتسائلت من بعدها هل اسمي في لوح الحب لازال مكتوبًا؟ أم أن سحركِ رغم قوته يصبح مكذوبًا؟ فقلب المرء تملئه الندوب ولازال ضعيفًا يَحمل الصبر في داخله على الرغم من عدم كونه “أيوب” ولا يقو هذا الضعيف على تحمل معضلة “يعقوب” فأي قلوبٍ هذه تُسحرها طُرفة عينٍ ليقع الزاهد ويهوىٰ،
وأي أرواحٍ هذه تحمل بداخلها السكَنِ والمأوىٰ
وبين أسئلة عديدة بدون جوابٍ،
وبين هذا وذاك كان الجواب بذاته أن؛
“إذا القلب أراد أن يحتمي من الخوف، يجدكَ برغم خوفه منكَ أنتَ المأوىٰ”
<نفس الذِكرى ونفس المكان، لكن هُنا أمان>
“في منطقة نزلة السمان”
تجهزوا للرحيل من المكان جميعهم بعدما ودعوا أهل البيت، ووقف “نَـعيم” يخبرهم بضرورة حضورهم إليه من جديد مع بعضهم وأنه في انتظارهم وكذلك طلب من “أيوب” أن يأتِ له وقتما شاء، والآخر كان أكثر من مُرحبًا بهذا، بينما “يوسف” فكان في وادٍ أخر، تعجب من نفسه ومن نطقه لما قاله، لكن القلب برر أن هذه هي الحقيقة، عيناها رغم حزنهما دومًا تحمل سحرًا وكأنها تخبره أنها تُنحي حزنها لأجله جانبًا لتحتويه هو وحده، هو فقط يتعجب قدرتها على القلب العاصي، الذي منذ رؤيته وهو يخون العهود ويعصي صاحبه، ذكرى مقاربة لهذه لم تترك عقله بل وضعته في مقارنةٍ _يبغض أهلها_ لكنه أجبر على الوضع بها، لذا سافر عبر رحلة ذكريات قصيرة منذ ما يقرب الثلاث سنوات.
[ منذ ما يقرب الثلاث سنوات]
أوقف “يوسف” سيارته في نفس المكان الذي يقف به حاليًا ونزل منها ثم فتح الباب المجاور له لتنزل منه “شـهد” التي اعتلى الحماس ملامح وجهها، لذا ابتسم وهو يسألها بتعجبٍ:
_دا إيه السعادة دي كلها؟.
جاوبته هي بنبرةٍ ضاحكة وهي تطالع المكان حولها:
_علشان أخيرًا تكرمت عليا وجيبتني هنا، عاوزة أشوف “ليل” وعاوزة أتصور هنا زيك بنفس الصور، متعرفش دا كان حلمي إزاي.
حرك رأسه موافقًا ثم قلب عينيه بتفكيرٍ وهتف بنبرةٍ فاترة عن قصدٍ حتى يثير غيظها:
_ماشي، بس تشوفي “ليل” دي كبيرة أوي.
رفعت حاجبيها بسخريةٍ فوجدته يمسك كفها بعدما ابتسم لها ثم سار بها نحو الداخل مارًا بـ الفناء الواسع وبهو البيت الكبير وقد جلس “نَـعيم” في انتظارهما حتى دلف عليه “يوسف” بها وهو يقول بنبرةٍ مرحة:
_”شـهد” أهيه يا حج، صممت تيجي تشوفك بنفسها.
رفع “نَـعيم” رأسه لهما وشملها بنظره فوجدها تتمسك بذراع “يوسف”، حينها ترك محله ثم اقترب منها ينطق بنبرةٍ فاترة وكأن هذه النظرة أخبرته بكل طباعها:
_نورتي يا بنتي، دا مكانك.
ابتسمت له بتوترٍ من هيبته الطاغية وقالت بتلعثمٍ:
_منور بحضرتك يا أنكل.
ابتسم “نَـعيم” بزاوية فمه بسمة ساخرة في سخطٍ بين نفسه على الوضع، وقبل أن ينطق من جديد كان “يوسف” متعجبًا من طريقته معها لكن سحرها هي كان الأقوى عليه حتى عمى بصره عن رؤية عيوبها، وفي نفس اللحظة التي اتصلت بها نظراته بنظرات “نَـعيم” دلف “إسماعيل” لهم وما إن رآها رحب بها وكذلك هي أيضًا بحفاوةٍ ثم قالت بنبرةٍ ضاحكة:
_هشوف “ليل” أهو بالعند فيك وهشوف “قـمر” برضه.
ضحك “إسماعيل” لها ثم قال موافقًا على حديثها:
_وماله البيت بيتك يا ستي، مش كدا يا “يوسف”؟.
انتبه له “يوسف” بعدما استطاع أن يهرب من نظرات “نَعيم” ثم حرك رأسه موافقًا وهو يبتسم بسمة ميتة لم تصل لكامل تعابيره ثم خرج بها نحو الخيل مباشرةً.
وقف “نَـعيم” في الخلف بملامح مستاءة حيث قرأ الانطباع الأول عنها أنها لم تلق بابنه بل وبالمكان أيضًا، طريقة ثيابها وحديثها وتعاملها معه يخبره أنها لم تشبه قلب “يوسف”، لذا خرج خلفهما نحو اسطبل الخيول ليراقب تلميذه البارع في قراءة الأشخاص.
قد كان وصل بها “يوسف” إلى هُناكَ ثم أقترب من الخيل يخرجه من مكانه إلى الساحة الفارغة الممتلئة بالرمال وهي في الخلف تتابعه بأعين مُنبهرة، حيث طبعه القيادي الذي تجلى أمام عينيها في حركته مع الخيل، بينما هو أوقف “ليل” ثم اقترب منها يمسك يدها من جديد لكي تتبعه نحو الداخل، وما إن دلفت معه وقف بها بجوار الخيل الذي حرك رأسه للجهةِ الأخرىٰ ثم نطق يعرفها عليه بقوله:
_دي “شـهد” يا “لـيل”، حكيتلك عنها كتير.
صهلل الخيل بصوتٍ عالٍ جعلها تجعد ملامح وجهها حائرةً بسبب فعل الخيل الغريب عليها وعلى “يوسف” نفسه الذي هدهد الخيل ثم أشار لها حتى تقترب منه وما إن اقتربت أمسك كفها يضعه على ظهر الخيل الذي حَرنَ ورفض هذه اللمسة بعدما رفع جسده للأعلىٰ حتى شهقت هي بخوفٍ وما كان عليها سوى الركض من مكانها بينما “يوسف” رفع صوته قائلًا بنبرةٍ قوية:
_”لــيل” !! فيك إيه.
اقترب حينها “نَـعيم” يقول بنبرةٍ قوية:
_غيران، “ليل” غيران يا أستاذ، أنا اللي هقولك؟.
التفت له “يوسف” يطالعه باستنكارٍ فوجد الأخر يُضيف باتكاءٍ على حروف كلماته يرسل له رسالة متوارية في حديثٍ صبغه بالحكمةِ:
_أصل الخيول الأصيلة كدا، بتغير من على أصحابها لو أحبابهم مش شبههم، وهو شاف أنكم مش شبه بعض علشان كدا حَرن، بس مع الوقت هيتعود.
حركت “شهد” رأسها موافقةً ثم أضافت بحماسٍ:
_وأنا هفضل وراه لحد ما يحبني ويطمنلي.
ابتسم “نَـعيم” بسخريةٍ لها ثم ترك المكان ورحل وقد فهم أن حيلها لم تنطوي على “لـيل” كما انطوت على “يوسف” حتى وإن كانت قطعة لامعة لكن لمعانها الزائف حتمًا سيزول مع اللحظات الأولى لتظهر حقيقة زيفها.
[عودة إلى هذه اللحظة]
خرج “يوسف” من شروده على صوت “نَـعيم” الذي انعكس عن الماضي وكأنه تبدل جذريًا وهو يتحدث إلى”عهد” قبل أن تلج السيارة هاتفًا بمحبةٍ واضحة لها:
_نورتي البيت يا بنتي، عاوزك علطول تيجي هنا، وتشوفي “سمارة” دي أختك برضه وربنا يعلم كلهم هنا أخواتك زيك زي “يوسف” وشرف ليا إنك تعتبريني والدك.
ابتسمت له “عـهد” وهتفت بلهفةٍ ترد على حديثه الذي حرك بعض المشاعر المدفونة بداخلها وكأنها تخرج من تحتِ الرُكام:
_متقولش كدا يا حج، الشرف ليا أنا إن حضرتك تعتبرني زيهم، وأكيد برضه شرف ليا أنهم يكونوا أخواتي، أوعدك في أول فرصة هاجي هنا إن شاء الله، والمكان حقيقي زي السِحر بالظبط، ربنا يبارك لحضرتك فيه.
ابتسم لها “نَـعيم” بتقديرٍ ثم نظر لـ “قمر” و “ضحى” وهتف يؤكد عليهما مع الصغيرين أيضًا:
_تيجوا معاها ها، أنا هستنى وفي أي وقت البيت مفتوح علشانكم من غير إذن هستناكم إن شاء الله.
ابتسمت الفتيات له وردوا عليه ثم ركبوا السيارات بينما “يوسف” سأله بسخريةٍ بعدما تحرك الأخرون نحو السيارات وابتعدوا عنه:
_دا إيه المحبة دي كلها ؟ كانت فين دي من زمان؟
جاوبه “نَـعيم” بثقةٍ بعدما فهم مقصد حديثه:
_علشان أنا راجل بفهم، الدهب العيرة بلقطه زي الخيول كدا من نظرة واحدة، وأنتَ جاي بدهب بلدي عيار ٢١، زي ما قولتلك دي أصيلة وبنت أصول كمان، لا جاية بطمع ولا جاية بتلمع، هي تخطف العيون لوحدها يا ابن “الراوي”، يا رب بس تفضل مخطوف كدا ومتفكش حصارك.
حرك “يوسف” رأسه نحوها لتتصل نظراته بنظراتها داخل السيارة وحينها تلاحمت نظراتها بنظراته لتتذكر جملته وتردد على سمعها بينما هو هرب من أسر سحرها له ثم رسم الثبات الممزوج بالثقة وهو يهتف قائلًا:
_متقلقش، لو حصل هخطفها أنا.
ابتسم “نَـعيم” له ثم ودعه حينما احتضنه وأوصاه على البقية ليرحل “يوسف” هو الأخر نحو سيارته وقد سبق وجلست هي على المقعد المجاور لمقعد القيادة وفي الخلف “ضحى” و “وعد” التي تمددت بجسدها من كثرة التعب والركض بالمكان، جلس “يوسف” على مقعده ثم انتبه للصغيرة التي مددت جسدها بانكماشٍ من البرودة التي بدأت مع نسمات الليل حينها أمسك سترته الموضوعة بداخل السيارة ثم دثر بها الصغيرة التي ارتجف جسدها وقد اعتدل في جلسته من جديد ليشرع في القيادة، بينما “عـهد” ركزت بصرها معه وهي تراه متوليًا المسئولية على عاتقه كما لو أنهم عائلته هو شخصيًا، وتذكرت من جديد جملته التي ألقاها عليها في الداخل:
_اسندي عليا أنا هنا.
أخرجت زفيرًا قويًا من جوفها وهي تسأل نفسها بين ذاتها دون أن يستمع هو لما تسأل عنه:
_كأنك كنتي مستنياه علشان تتأكدي إنك ضعيفة؟؟ ولا بتتلككي علشان ترمي المسئولية من على ضهرك؟ تفتكري هيفضل علطول ولا مسيره في يوم يمشي زي ما طلبتي منه؟.
غرقت في تفكيرها تحاول الوصول إلى حلٍ جذري قبل أن تورطه بها أكثر من هذا، فيكفيه كل ما فعله حتى الآن لأجلها ويجب عليها أن تتحمل مسئولية نفسها وعائلتها كما كانت قبل ظهوره بحياتهم.
_________________________________
<“لأجل عين تُكرم ألف عين”>
وصل “ملاك” إلى شقة “جابر” وقد حصل على الترحيب الحار من الأسرة بأكملها حتى “جابر” رغم تزعزه لم يصمت عن الترحيب به، بل اقترب منه متخليًا عن خوفه وصمته، وكذلك الفتيات حتى نطق”ملاك” بمحبةٍ خالصة:
_وحشتوني يا حبايب جدو، قولولي الواد دا عامل معاكم إيه، اوعوا يكون مزعل حد فيكم، أوعي يكون مزعلك يا “سلوىٰ” ؟؟.
ضحكت زوجة “جابر” وهي تقول بلطفٍ:
_لأ خالص يا عمي، بس إيه الزيارة المفاجأة دي، بأمانة أحسن مفاجأة والله وحارة العطار كلها نورت بيك.
نظر في وجه “جابر” يقرأ التعابير التي خُطِت بالقلق على ملامحه وقد أرجع ظهره للخلف يستند على عصاه وهو يقول بنبرةٍ خبيثة وكأنه سبق وتأكد مما يستعلم عنه:
_منورة بأهلها واصحابها كلهم، مش كدا يا “جابر”؟
قالها وهو يسأله بخبثٍ جعل الأخر ينطق مُرتبكًا:
_أكيد طبعًا يا خالي، وبعدين مين صحابها غيرك يعني؟.
ابتسم “مـلاك” بزهوٍ من تأثيره على الأخر ثم نظر لـ “مهرائيل” التي ابتسمت بسعادةٍ وهي تطالع جدها وقد تأكدت أن مرادها قد شارف على التحقق، ففي وجوده من ذا الذي يقو على الوقوف أمامه حتى لو كان والدها بنفسه، لذا انتظرت قيام والدتها تقوم بتحضير الطعام ومعها “مارينا” وخلفهما “جابر”.
ركضت “مهرائيل” نحو جدها الذي قال بنبرةٍ هامسة:
_عاوزك تكملي زي ما أنتِ كدا لحد ما الاعبه أنا، ويا أنا يا هو ابن “سميحة”، عاوزك بس متخافيش، ولا بقى مش عاوزة تتجوزي “بيشوي” ؟؟.
ابتسمت بخجلٍ وامتنعت عن الجواب بينما هو رفع كفه يمسح على رأسها ثم ضحك لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_وهو كمان عاوزك، وطول ما أنا هنا يبقى هتكونواو لبعض، مفيش حد غيره هينفعك ولا يقدرك زيه، الراجل الشاري اللي زيه دا الواحد يتطمنله على روحه حتى.
جاوبته “مهرائيل” بنبرةٍ خافتة خوفًا من أن يسمعها أحد أفراد أسرتها:
_وهو طيب أوي وجدع، “بيشوي” راجل وبما إن الجواز عندنا من غير طلاق مدى الحياة، أنا بقى عاوزة أكون معاه كل حياتي يا جدو.
أحتضنها جدها ثم بدل حديثه حينما لمح ظل “جابر” يقترب منهما يقصد صبغ حديثه بالمرح قائلًا:
_كان نفسي أجيبلك روايات وأنا جاي، بس العربية جابتني على هنا علطول، بس وعد هديكي الفلوس تجيبي اللي نفسك فيه كله، مرضية كدا يا “هيري”؟؟.
اصطبغ وجهها بحمرة الخجل من هذا اللقب بينما “ملاك” تعمد النظر إلى “جابر” يتحداه وكأنه يقف له بالمرصاد يصد كل هجماته التي ربما تنطلق نحو ابنته أو “بيشوي”.
__________________________________
<“لا تُعيْب حتى لا تُعاب”>
جلس “سراج” في مقر عمله تحديدًا بداخل مكتبه يتابع المكان من شاشة التلفاز المتصلة بكاميرات المراقبة الخارجية ثم أخذ سيجارةً من علبته وأشعلها يضمها بين شفتيه حتى طُرقَ مكتبه ودلف منه مساعده يقول بآسفٍ:
_معلش يا “سراج” بس فيه حد برة عاوزك.
نظر في شاشته من جديد يستعلم عن هوية الزائر لكنه لم يرى أي شخصٍ وحينما لاحظ مساعده حركته نطق بعجالةٍ:
_لأ دول ناس كدا شكلهم من هنا، واقفين برة خالص في عربية بيسألوا ينفع ييجوا ليك، بيقولوا أنهم حبايبك.
تلبسته الحيرة في اللحظة ثم هتف بلامبالاةٍ أو ربما تصنع عدم الاكتراث على عكس ما يُجيش به صدره من فضولٍ ومع انسحاب الأخر ازداد فضوله وتأهبت حواسه للقادم قُرابة العشر دقائق غالبًا يتبع المكان بنظراته مما جعل نيرانه تخمد حينما وجد بعض الرجال الذي يرجع أصلهم لمنطقة نزلة السمان.
دلف له مساعده بهم بينما هو وقف احترامًا وتقديرًا لمكانتهم سنًا وعملًا ثم أشار لهم بالجلوس قائلًا بنبرةٍ عملية:
_اتفضلوا يا معلمين، انتوا أصحاب مكان.
جلس من يتقدمهم وهو يهتف بضحكاتٍ ودية وكأنه يغطي أمر قدومهم بهذه النبرة العاشمة:
_أنا قولت برضه إنك مش هتردنا خايبين، تربية “الموافي” متخيبش أبدًا وإحنا جايين قاصدين خير وأنتَ وش خير طول عمرك.
ابتسم “سراج” له وفي داخله يعلم مقصد هذه الدباغة جيدًا، ثم نطق بنبرةٍ ودية هو الأخر يتصنع البراءة أمامهم:
_الخير على قدوم الواردين يا حج، قولولي تشربوا إيه الأول قبل ما نتكلم في المهم، أطلبلكم أنا على ذوقي؟؟.
جاوبه الأخر بثباتٍ يرفض عرضه:
_ملهوش لزوم، إحنا جايين في كلمتين وعرض.
انكمشت المسافة الواقعة بين حاجبيه فيما قال الأول الذي تولى مهمة الحديث منذ قدومهم:
_بص يابني، إحنا عندنا بيت ٣ أدوار طالع على مساحة صافية ٢٠٠ متر، وهيتهد ويبقى على المَشاع، بس سمعنا كدا إن فيه خير كتير، قولنا نجيلك أنتَ تشوف أخرها وتشوفلنا حد من حبايبك، علشان اليومين دول البُنا والهد واقف.
تأكد من صدق حدسه بشأن قدومهم، لذا رسم الجدية وهو ينطق بآسفٍ لرفضه مثل هذا العمل:
_معلش يا حج طلبك مرفوض، للأسف كل اللي أعرفهم مش هنا وبرة وأنا لو عليا أخدمك عادي بس أنا خلاص غيرت السكة وسيبت الشغل دا كله.
تحدث ثالثهما يرفع من شأن العرض المُقدم إليه:
_هتاخد اللي تؤمر بيه، شوف بس كدا اللي تعوزه، صدقني محدش فينا هيزعلك، قولت إيه يا “سراج” ؟؟ أظن أنتَ أولى من الغريب، الأرض مليانة شوف حد يدفع فيها وخد اللي تطلبه.
زفر “سراج” بقوةٍ ثم هتف بفتورٍ تجاه الموضوع:
_يا حج الله يرضى عنك، أنا خلاص بطلت، عندي بت عاوز أربيها وعندي شغلي الحمد لله مكفيني، بعد أخر مرة كنت هخسر فيها صاحبي وبنت أختي أنا مش هقدر أجازف تاني، ربنا كرمني، ممكن تكلموا الحكومة وهي تيجي تستلم أحسن.
ارتسمت السخرية على ملامحهم بينما أحدهم سأله بنبرةٍ جامدة تلاشى منها الود وحلت عليها الغَلِظة:
_يعني دا أخر قولك خلاص؟؟.
حرك رأسه موافقًا وهتف بتأكيدٍ:
_آه يا حج، أخر الأخر في قولي كمان، ها تشربوا إيه؟.
نظروا لبعضهم ثم استأذنوا منه بالرحيل وتحركوا عائدين للخارج بعدما خيب أمالهم، بينما هو زفر بقوةٍ وكأن كل الفرص السامة تتكالب عليه أمام إرادته الضعيفة، ثم فكر مع نفسه هل سيبقى هكذا وهذه النقطة السوداء تعترض جبينه، أم أنه سيمضي قدمًا بشرفٍ؟ حتى الآن خسائره صعبة، خسر والده بسبب هذا العمل وخسر تواجده في بيت الحُصري بسبب هذا العمل وخسر حب حياته بسبب هذا العمل، وقد شارف على خسارة “جودي” أيضًا، من المؤكد أن الخطوة القادمة سيخسر نفسه لا محالة.
نظر في ساعة يده فوجد الوقت تأخر عن المعقول لذا تحرك من مكانه نحو بعدما جمع حاجته وخرج من المكان لكي يأخذ ابنة شقيقته من بيت “نَـعيم”.
ركب سيارته وتحرك من المكان نحو وجهته المقصودة وبعد خروجه من مكان عمله بمسافةٍ لا بأس بها اعترضت سيارة أخرى طريقه تحاول قطع الطريق عليه لكنه تفادى هذا بمهارةٍ عالية حتى وجد أحدهم يخرج من نافذة السيارة الأخرى يحاول إطلاق النيران عليه، حينها بحث عن سلاحه ثم سحبه من السيارة ثم خرج من النافذة هو الأخر يطلق الأعيرة النارية على السيارة المُعادية له في معركةٍ لم تَدم طويلًا بسبب انسحاب السيارة الأخرىٰ من مواجهته.
بينما هو فلتت أعصابه تمامًا ولم يتمكن من القيادة حتى كاد أن يصطدم بأحد الأرصفة بعدما تشوش عقله بسبب هذه المواجهة القصيرة، وقد نزل من السيارة يقف بجوارها يلتقط أنفاسه ثم فتح زجاجة المياه وألقاها على رأسه ووجهه حتى يفيق مما كان فيه.
في بيت “نَـعيم” وقف “إيهاب” يتابع عمل الرجال في رفع الخيم وإعادة المكان لما كان عليه وكذلك “نَـعيم” أشرف على عمل البقية، بينما “سمارة” استغلت وجود الصغيرة ثم جلست معها تصنع لها جديلتين في خصلاتها الذهبية وهي تتذكر والدتها، تلك الصغيرة اليتيمة تذكرها بنفسها، لذا هي الأحق بحنانها ورفقها بها خاصةً أنها في صغرها كانت تتتوق إلى معاملةٍ حَسِنة تطيب قلبها المجروح.
نامت الصغيرة بعدما وضعت رأسها على صدر “سمارة” والأخرى ابتسمت بفرحةٍ ثم طوقت الفتاة بذراعيها تحميها من الهواء الموجود بالمكان ثم طبعت قُبلة فوق رأسها والعبرات الحارقة تلمع في مقلتيها.
حرك “إيهاب” رأسه نحوها صدفةً لم تكن عابرةً بل خطفته بهيئتها وهي تجلس تحتضن الصغيرة لتُكمل لوحة رسمتها له الأيام ولونتها هي باحتضان الفتاة وهي تمسح على ظهرها وكأنها تربت على نفسها بصغرها.
وقف “إيهاب” مبتسمًا بصفاءٍ ثم أقترب منها يجلس على عاقبيه أمامها وهو يسألها بنبرةٍ رخيمة:
_سرحان في إيه يا عمنا ؟.
رفعت عينيها نحوه وابتسمت بسمة عابرة وهي تقول:
_عادي، “جودي” نامت في حضني وسرحت معاها شوية.
اعتدل في جلسته بجوارها ثم عدل وضع الصغيرة بين ذراعيها وربت على رأسها وهو يبتسم بنعومةٍ والأخرى تتابعه بعينيها ثم سألته باهتمامٍ تتتوق لاجابته:
_نفسك في عيال يا “إيهاب”؟؟.
انتبه لها وضم حاجبيه قِرب بعضهما ليجدها تفسر سؤالها بقولها الهاديء:
_أقصد يعني نفسك تكون أب، ولا خلاص كدا اتجوزت ومش عاوز حاجة تاني؟!.
جاوبها بصدقٍ وهو يقول معبرًا عما يشعر به تجاه هذا الموضوع تحديدًا:
_الأول مكانش في نيتي جواز حتى، يعني قولت هتسلى معاكِ شوية وخلاص بس أنتِ مكنتيش كدا، مكانش ينفع أفكر فيكِ كدا، كان لازم أفكر فيكِ كويس بحلال ربنا، بعدها اتجوزنا وحصل اللي حصل ودخلت السجن، بعدها خرجت وجيت تاني ليكِ، لحد هنا برضه مكنتيش تهميني غير إنك ليا وخلاص، بس لما بقى فينا بينا عشرة حلوة وبيت مقفول علينا ومكان واحد جمعنا، خيالي سرح لبعيد أوي، بقيت عاوز عيال وعاوز أعيش في بيت طبيعي أنا اتحرمت منه، علشان كدا بدعي ربنا يكرمني بس لما اكون أب يستاهل الكلمة دي، مش أب والسلام.
هتفت “سمارة” بلهفةٍ تردع أفكاره السوداوية وتدافع عنه أمام نفسه وتبرئه من اتهامه لنفسه:
_يا أخويا ما أنتَ أب زي الفُل أهو، كفاية إنك كنت أبو “إسماعيل” وأهله كلهم وحافظت عليه بروحك، ومن بعدها أنا، هو أنا يعني ليا غيرك؟ دا أنتَ ربتني من جديد، علمتني كل حاجة، دا حتى الصلاة خليت الحج يعلمهولي هو والست “تحية” طب إيه قولك أني عاوزة عيال بقى ؟؟.
ضحك رغمًا عنه بسبب تحول طريقتها الناعمة إلى أخرى مندفعة ثم رفع ذراعه يضمها إليه وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة لكن رخيمة وهادئة:
_طب سيبني أدلعك شوية قبل ما ييجوا العيال يقرفوكي وياخدوكي مني، دا إيه الجوازة اللي مبصوص في أمها من أولها دي ؟؟ كفاية نبر لحد كدا.
ضحكت له ثم وضعت رأسها على كتفه تقتبس الأمان منه وهو أكرم الناس عطاءً في توفير الأمان لها لذا رحب بحركتها هذه يحتويها هي والصغيرة معها بين أحضانه.
في الخارج وقف “إسماعيل” يتحدث في الهاتف مع مدير العمل وهو يخبره بسير اليوم دون تواجدهم، وقد وصل “سراج” إلى هُناك بأعصابٍ تالفة وقد انتبه “إسماعيل” إليه فأغلق المكالمة ثم أقترب منه يسأله بنبرةٍ متعجبة:
_مالك ؟؟ وإيه مبهدلك كدا ؟؟.
زفر “سراج” مُطولًا ثم هتف بجمودٍ دون قصد:
_مفيش، هات “جودي” لو سمحت.
أشار له “إسماعيل” نحو الداخل يهتف بفظاظةٍ:
_أدخل هاتها أنتَ أنا مش شغال عندك.
رفع “سراج” صوته عاليًا يهتف بانفعالٍ غير مقصود:
_ما أنتَ عارف أني مبدخلش جوة، هاتها وخلصني بقى.
انتبه “إسماعيل” لصوته العالي فتركه محله وهتف بنبرةٍ خافتة ينبس بها:
_ياكش العربية تولع بيك، أنا مالي.
رفع “سراج” كفيه يمسح وجهه بعنفٍ ثم أخذ قراره ونزل من السيارة متجهًا لداخل البيت، هو هنا في عُقر دارهم بعدما خان هذا البيت وسكانه، يعود من جديد لرفيق والده، وأبوه الروحي “نَـعيم” هذا الرجل الخَيٌّر كما يُقال عنه ويتم وصفه.
لاحظوا هم دخوله إلى البيت بهيئةٍ غير مرتبة حيث كان قميصه الزيتي فوقه التراب وخصلاته مُشعثة على عكس الطبيعي، والإرهاق يستوطن ملامحه، انتبه له “إيهاب” فهمس لزوجته بنبرةٍ خافتة أن تتحرك من محلها وتترك الصغيرة، وقد امتثلت لهذا الأمر وسبقته إلى الداخل بينما هو وقف بالصغيرة النائمة على ذراعه ثم أقترب منه يسأله متعجبًا أو لربما مستنكرًا:
_مالك طلعان عين أهلك كدا ليه؟.
زفر “سراج” بثقلٍ ثم هتف بخشونةٍ:
_هات البت يا “إيهاب” خليني أروح.
رفع “إيهاب” حاجبه له بينما “نَـعيم” اقترب منهما ينطق بنبرةٍ جامدة يصدر أوامره بدون رجعةٍ بها:
_روح وابقى تعالى خدها بكرة.
التفت له “سراج” يطالعه بتوترٍ فابتسم “نَـعيم” باستخفافٍ به يُقلل منه ثم رفع عصاه وأشار عليه قائلًا بغضبٍ:
_بص لنفسك عامل ازاي وأكيد دول حد من حبايبك الشمال اللي رميت نفسك ليهم، سيب البت هنا وبكرة تروح بيتك اللي جيبته جديد ومعاك البت، متنساش إنها أمانة لو أنتَ مش قدها، عرفني أنا قدها وقدود كمان.
شعر “سراج” بالوضاعة من نفسه وأراد أن يصرخ ويبريء حاله وينفي الاتهامات بعيدًا عنه لكنه التزم بالصمت ثم أقترب من الصغيرة يُقبلها واستأذن منهم ورحل، لم يكن لشيءٍ بل لأن قرارهما صائبٌ، الليلة لم تَكن آمنة عليه وعلى الصغيرة معه، لذا ترك البيت ورحل وهو يعلم أن خير المأوى لها هُنا في البيت الذي أواه من قبل.
دلف “إيهاب” بالصغيرة شقته فوجد “سمارة” تنتظره وما إن رأته يحمل هذا الملاك حينها اقتربت منه تحملها على يديها وهي تقول بحماسٍ:
_يا حبيبتي، متقولش !! هتبات معانا ؟؟.
هتف بسخريةٍ وهو يجلس على الأريكة يرد عليها:
_لأ جايبها نلعب مع خالها استغماية.
جلست مقابلةً له تقبل الصغيرة على رأسها وكفيها معًا ثم هبت وهي تقول بحماسٍ شديد:
_بقولك إيه يا “عمهم” نام هنا الليلة دي علشان أنا هنام في حضن “جودي”، أحسن تتسرع لوحدها يا أخويا، تصبح على خير.
قالت حديثها وتحركت دون أن تمهله فرصة الرد عليها فيما رفرف هو بأهدابه مستنكرًا ما تفوهت به ثم ضرب كفيه ببعضهما وهتف مشدوهًا بفعلها:
_يا بنت المجانين !! وعاوزة تخلفي، ساعتها هنام فين على السلم ؟؟.
زفر مُطولًا ثم توجه نحو غرفة الأطفال الفارغة ينام بها ممدًا جسده على هذا الفراش الصغير الذي لم يكفي حجمه حتى أن نومته لم تكن مُريحة، لم يعلم هل الفراش والغرفة هما السبب الرئيسي أم أنه أعتاد على النوم وزوجته بين أحضانه، لذا أغلق الاضواء ثم احتضن الوسادة ينعم بالنوم أخيرًا بعد يومٍ عصيب على عضلات جسده.
__________________________________
<“أنا لأجلك هُنا حتى وإن زارت الكوابيس نومك”>
مضت الساعات المتبقية من هذا اليوم وقد رحلوا ووصلوا إلى حارة “العطار” مباشرةً كلٍ منهم إلى حيث وجهته المُحددة، وقد شارف الفجر على القدوم وكعادته استعد للذهاب إلى المسجد حتى يرفع الآذان و يقرأ القُرآن بصوته، لذا تجهز “أيوب” وارتدى العباءة البيضاء ومعه “إياد” الذي ارتدى العباءة هو الأخر وتوضأ وتجهز بجوار عمه.
نزل “أيـهم” من شقته وتوجه لداخل البيت حيث مكان وجود ابنه ووجود أخيه أيضًا فنزل يلقي عليهما التحية باقتضابٍ:
_السلام عليكم ورحمة الله، صباح الخير.
نظر إليه “أيوب” وهتف بنبرةٍ هادئة:
_وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
تحرك “إياد” نحو غرفة جده بينما “أيوب” انتهز هذه الفرصة ثم أقترب من أخيه يقول بنبرةٍ تحمل الأسف بين طياتها:
_طب هتفضل مكشر في وشي كتير؟.
التفت له “أيـهـم” يسأله بسخريةٍ:
_دا أنا برضه ؟؟ أنا اللي بقالي ٣ أيام مكشر وبرمي السلام وأمشي من برة برة؟؟ ولا أنا اللي واخد جنب وقافل على نفسي؟؟ وعلشان مين؟ علشان واحد معفن زي “سـعد”.
ابتسم “أيوب” له ثم قال بنفس الهدوء:
_وأنتَ عارف إن خوفي عليك هو اللي عمل كدا، خوفي على “إياد” منهم هو اللي عصبني، لو أنا بطولي سهلة إنما حد يجراله حاجة بسببي دي اللي صعبة أوي ومش هقبلها.
تنهد “أيـهم” بثقلٍ ثم سأله بضيقٍ زائفٍ:
_أنتَ عاوز إيه يعني ؟ خليني ساكت أنا متوضي.
اقترب “أيوب” منه يُلثم جبينه ثم هتف بإلحاحٍ:
_قول إنك مش زعلان مني، وأنا والله مش زعلان منك.
شمله “أيهم” بنظرةٍ متفحصة ثم ضمه إلى عناقه وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_ياض أزعل منك ازاي ؟؟ أنتَ حتة مني، أوعى تكون فاكر إن دقنك دي ولا شيخ “أيوب” اللي بيقولهالك دي هتغير حقيقة إنك هتفضل صغير في عيني وابني الكبير، وأنا بما أني بعتبرك ابني الكبير يمين بالله لأعيد ربايتك من تاني علشان تعرف تضرب بوز في وشي تاني كويس.
ضحك “أيوب” رغمًا عنه بصوتٍ عالٍ بعدما بدل أخوه حديثه وطريقته إلى أخرى تنافي الأولىٰ وصوت ضحكاته يجلجل في البيت بسعادةٍ جعلت “أيـهم” يضحك بفرحٍ هو الأخر وهو يرى صوت ضحكات حبيب روحه يعود للبيت لذا رفع كفه يمسح على خصلات “أيـوب” ثم لثمَ جبينه بحبٍ جعل “أيوب” يبتسم له بنفس الحب.
وقف “عبدالقادر” يمسك كف حفيده من على مقربةٍ منهما وقد لمعت عيناه بفرحةٍ وهو يراهما بجوار بعضهما يضحكان سويًا ويزيلان العوائق التي امتدت بينهما وقد حمد الله أن كبيره يتمتع بقدرٍ عالٍ من المسئولية خاصةً تجاه أحبته وأن صغيره عاقلٌ بما يكفي لكي يُصلح الأمور إن حل عليها الخراب.
السعادة والفرحة التي بدت عليهما منذ عودتهم من “نزلة السمان” جعلت أحاديثهما أشبه بالثرثرة التافهة وإعادة الحديث من جديد من قِبل “ضُحى” و “قـمر” حتى صرخت “أسماء” فيهما بصوتٍ عالٍ بعدما ألمتها رأسها:
_بــس !! كانت شورىٰ هِباب يخربيت رغي أهاليكم، ما الرجالة ساكتة من الصبح أهو، ولا أنتم قاصدين تغيظوني؟؟
ضحك “يوسف” وهو يقول بنبرةٍ ساخرة يزيد غيظها:
_طب ما أنا قولتلك تعالي معانا مرضيتيش.
تحدثت بضجرٍ بعدما لوت فمها بسخطٍ على الحال:
_وهو اللي يقعد مع خالك يشوف خروج ولا فسح؟؟ قال إيه وراه شغل مهم، والست أمك قالتلي مش هعرف أروح لوحدي، بس ورب الكعبة لتاخدني هناك وتركبني خيل، هي شجرة الدُر أحسن مني يعني؟؟.
حرك رأسه نفيًا وهو يكتم ضحكته بينما “قـمر” كانت تتبع الساعة بعينيها حتى تستمع لصوته في مكبر الصوت بالمسجد وقد صدح عاليًا يقرأ القُرآن بصوته كما شعاع النور في الحارة وتلقائيًا ابتسمت بسعادةٍ ثم خطفت حجاب رأسها واتجهت نحو الشرفة لتستمع لصوته العذب.
راقب “يوسف” حركتها ورغمًا عنه ابتسم بيأسٍ، شقيقته تحب هذا الرجل بل تختصر صورة كل الرجال به، خرج “يوسف” على صوت “ضُـحى” وهي تسخر منها فسألها بتهكمٍ:
_دا غِل دا ولا إيه؟.
نظرت له “ضُـحى” بتعجبٍ وهي تسأله باستنكارٍ:
ابتسم لها بشرٍ وهو يقول بما يثير غيظها:
_يعني علشان هياخدها منك وأكيد أكيد العلاقة دي هتتقطع.
ابتسمت “ضُـحى” بسخريةٍ وقلدت طريقته بميوعةٍ وهي تقول بنفس السخرية:
_واللهِ !! طب ما هو هياخدها منك أنتَ كمان، على الأقل أنا عيشت معاها كتير لكن أنتَ ملحقتش أصلًا وكان حضر هو وخدها.
ضحكت “قـمر” وهي ترى مشاجرتهما عليها ثم اقتربت من “عُـدي” تربت على كتفه وهي تقول بنبرةٍ تحمل ضحكة مكتومة:
_ربنا يهديك أنتَ حبيب أختك، عاقل.
رفع كفه يُحييها ثم نطق بنبرةٍ ضاحكة هو الأخر:
_أنا لو عليا نفسي أنتم الاتنين تمشوا من هنا دلوقتي قبل بكرة، أقسم بالله هتبقى فرحة زي فرحة دخولنا كاس العالم كدا.
لكزته “قـمر” في يده كتفه بينما “يوسف” أقترب منها يجلس بجوارهما ثم احتضن شقيقته التي تمسكت به بسعادةٍ جعلته يرفع كفه ثم ربت على رأسها وقد أقتربت “ضُـحى” من أخيها تقول بسخريةٍ:
_ولا احضني زيهم كدا.
دفعها “عُـدي” من وجهه ثم قال بضجرٍ:
_أمشي يابت من هنا، روحي أعمليلنا شاي.
ضحكت له رغمًا عنها ثم ارتمت عليه تضربه في كتفه حتى ضحك هو ثم رفع ذراعه يربت على ظهرها حتى احتضنته “ضُـحى” للمرة الأولى منذ ما يقرب الأعوام غالبًا، حتى ظنت أن عناق شقيقها ربما قد يكون بعيدًا عنها بُعد المدى الواسع.
في الطابق الموالي لهم كانت “عـهد” في غرفتها تفكر في جملته وفي غزله صراحةً بعينيها وسحرهما حتى أنها وقفت أمام المرآة تطالع عينيها باهتمامٍ وانتبهت لتوها لجمالها المتواضع، فتاة عادية ملامحها تشبه ملامح والدتها، عيناها باللون الأسود وكذلك خصلاتها الناعمة التي ورثتها أيضًا عن والدتها، فكرت بسخريةٍ إذا كان “سعد” وصل لمرحلة الهوس بها وهي تخفي نفسها أسفل الحجاب فماذا بعد أن يراها بخصلاتها وبهذه الطلة، من المؤكد ستنال الموت على يديه حتمًا، وعند تسرب خوفها من المذكور رفعت كفها تضعه بقرب موضع نبضها ووقع بصرها على دفترها الخاص فأخذته تكتب الجملة أسفل السابقة بعدما قامت بقسم الدفتر إلى قسمين وكتبت فوق أحدهما:
_”جُمل “يوسف الراوي”.
أغلقت الدفتر بعدما كتبتها ثم نظرت في الساعة ثم ذهبت إلى الفراش تتسطح عليه حتى يُرفع أذان الفجر، لذا وضعت رأسها على الوسادة لتغفو خلال دقائق لتتقابل وجهًا لوجه مع وحشها المروع، نفس الكابوس المزعج يزروها ليستوطن أحلامها ويحتل صفو ليلتها حتى وإن لم تعترف هي بهذا، لكن القلب فرح بهذه الليلة.
كان “سـعد” يركض خلفها بزجاجة مياه النار و “وعـد” تصرخ وتستنجد بها من داخل غرفةٍ مغلقة وهي تلهث بأنفاسٍ متقطعة في شقة والدها ببيت العائلة وحينما وصلت للباب المغلق ظلت تضربه بكلا كفيها لتُغيث شقيقتها وحينها التفتت على وضع كف “سـعد” خلف ظهرها ثم هـمَّ بالقاء الزجاجة في وجهها لتصرخ هي بصوتٍ عالٍ هذه المرة.
وصل الصوت لـ “يوسف” الذي دلف غرفته يبدل ثيابه ووصل لوالدته وشقيقته أيضًا وكأن هناك من يعتدي عليها، وقد تحرك هو بسرعةٍ نحو شقتها ليجد والدتها تحتضنها تحاول إخراجها من كابوسها، بينما “وعـد” وقفت تبكي على بُعدٍ منهما بعدما فتحت له الباب.
اقترب من والدتها التي تحركت من مكانها رغمًا عنها بينما هو جلس بجوارها ثم أقترب منها يُضمها إليه وهي تتحدث بكلماتٍ مبهمة غير مفهومة لكنه علمها أنها من المؤكد رأت هذا الكابوس المُزعج من جديد لذا رفع كفه يحاوط شطر وجهها وهو يقول بنبرةٍ قوية رغم أنها دافئة تبثها الأمان:
_ارفضي الخوف دا يا “عـهد” ارفضيه وبلاش تخليه يأثر عليكِ، اللي أنتِ بتخافي منه دا ملهوش وجود أصلًا، أنا هنا معاكِ ومامتك وأختك وكلنا بخير، فوقي يا “عـهد” وشوفي بنفسك.
استطاع بحديثه أن يجذب نظرها نحوه لذا سحب كوب المياه الموضوع بجواره ثم سكب منه على راحة يده ومسح على وجهها بحركةٍ هادئة جعلتها تخرج من نوبتها وما إن وجدته هو أمامها بكت من جديد بضعفٍ تكرهه في نفسها وتكره ظهوره، بينما هو ضم رأسها إلى صدره وهي تبكي وتنتحب دون حتى أن تعترض على تواجده وكأنها اعتادت على حضوره في هذا الموقف.
تركها هو تبكي وتحزن ثم مسح على رأسها وهو يقول بنبرةٍ هادئة رخيمة يَبثها قوة من بعد ضعفها:
_عيطي وخرجي كل الطاقة السلبية اللي جواكي كمان، متخليش الكابوس دا يقف بالمرصاد ليكي، اخرجي منه وخرجيه من حياتك يا “عـهد”، حتى لو كابوسك صعب أنا هنا وهفضل هنا لحد ما تبقى أحلام حلوة.
ابتعدت عنه تطالعه بآسفٍ فرفع كفه يمسح وجهها ثم مسح عبراتها وهو يقول بسخريةٍ جعلتها تضحك رغمًا عنها:
_ألا هو السحر لو طاله مياه بيفضل شغال برضه؟.
ضحكت له من بين دموعها وضحك هو الأخر ثم أقترب منها يُلثم جبينها وكأنها ابنته وهو يذوقها الحنان المفقود، أما عنها هي فلم ترفض حتى قربه الأمان المتسلل لها جعلها تلتزم الصمت من جديد حتى ابتعد عنها يسألها باهتمامٍ:
_بقيتي أحسن ؟؟.
حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم له فتحرك هو من جوارها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_قومي كدا صلي واقعدي شوية علشان تعرفي تكملي نوم، تمام ؟؟ قومي يلا متكسليش.
راقبته بعينيها الدامعتين ولم تمنع نفسها من مناداته بنبرةٍ مُحشرجة وهي تقول بلهفةٍ قبل خروجه من الغرفة:
_”يوسف” !! شكرًا، شكرًا علشان كل حاجة.
التفت لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم لها:
_لا شُكر على واجب يا “عـسولة”.
خرج من الغرفة بحالٍ لم يكن كما هو بينما هي غاصت في هذا الغريب الذي اقتحم حياتها بُغتتةً وبعدما حسبته احتلالًا لها ولحريتها تفاجئت به مقاومًا لأجلها، لم تعرف ماذا تفعل لكنها سحبت نفسًا عميقًا تاركة نفسها للموج أن يحركها كما تشاء حركات المد والجزر، لكن حتى وإن كان الموج صادمًا، فهو محقٌ حينما قال أنه سيكون لأجلها هنا.
_________________________________
<“فُرِجَت وكنتُ أظنها لا تُفرجُ”>
جلس “أيوب” قبل موعد الظهر في محل عمله وقد بدأ يستعيد شغفه من جديد بعدما عاد لطبيعة يومه وروتينه الديني الذي يسير عليه طوال حياته، هكذا فقط تعتدل حياته، حينما يرتبها مع الخالق، وقد صدح صوت هاتفه برقم “قـمر” فابتسم هو بصفاءٍ ثم هتف يمازحها بقوله:
_بنت حلال والله، كنت لسه هكلمك.
ردت عليه هي بنبرةٍ ضاحكة:
_طب يا سيدي القلوب عند بعضها.
ضحك هو بخفةٍ وانتظر تكملة حديثها حتى سحبت نفسًا عميقًا تحاول به خلق الأحاديث معه، لكنها تشعر بالخجل فكيف تخبره أنها تحتاج إلى تعليمه لها، وكيف تستفسر منه، ترى المسافات بينهما بعيدة على الرغم من تقاربهما، لذا حينما طال صمتها سألها هو باهتمامٍ:
_أنا سامعك أهو، عاوزة تقولي إيه ؟.
هتفت بسرعةٍ حتى تتوتر من جديد:
_عاوزاك تقولي إيه صلاة الضُحى وعادي لو مصليتهاش وأخر وقت ليها امتى علشان النت مش مفهمني حاجة خالص، بس كدا والله.
ابتسم بسمة هادئة رسمها على ملامحه بعد سؤالها ثم سحب نفسًا عميقًا وبدأ في التوضيح لها بسلاسةٍ:
_بصي يا ستي، صلاة الضُحى كصلاة بنصليها من بعد شروق الشمس حتى قُبيل الظهر، والأفضل نصليها بعدما الحر يشتد يعني قريب لصلاة الظُهر.
_حكمها: “سُنة مؤكدة”
وتبدأ من وقت ارتفاع الشمس حتى زوالها.
سألته هي باهتمامٍ:
_يعني إمتى تحديدًا؟؟.
ابتسم هو ثم جاوبها مفسرًا بقوله:
_من بعد طلوع الشمس إلى قبل أذان الظهر بربع ساعة، وافضلها وقت اشتداد الشمس ومضي ربع النهار، ثوابها عظيم تعادل ٣٦٠ صدقة.
شهقت هي بتلقائيةٍ فيما قال هو بنبرةٍ رخيمة:
_طلعي ورقة وقلم بقى علشان تكتبي اللي هقولك عليه بالظبط، تمام يا “قـمر” ؟؟.
أخبرته بجوابها ثم أتت بالورقة والقلم بينما هو بدأ في الحديث بنبرةٍ عملية وعلمية يسرد عليها فضل الصلاة بقوله بهيئة السؤال والجواب:
_ما مفهوم صلاة الضحى و كيفية أدائها و فضل صلاتها ؟
قال الله تعالي :-
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) .. سورة “الضحى”
لايقسم الله إلا بشئٍ عظيم ونتيجة و لسوف يعطيك ربك فترضي صلاة الضحى كنز واقي للمحافظة على صحته
أولاً :- مفهوم صلاة الضحى :
صلاة الضحى هي صّلاة نّافلة ما بين صلاتيّ الفجر والظّهر
حيث يحرص المسلم على تأديتها طمعاً بالأجر والثواب العظيم
كما أنّها تجلب الرّزق والبركة في يوم المسلم
وهي كصلاة المفروضة في تأديتها، وأركانها، وسننها، وشروط صحّتها.
حكمها سنـة مؤكدة
يبدأ وقت صلاة الضحى من ارتفاع الشمس إلى الزوال
(من بعد طلوع الشمس الى قبل آذان الظهر بربع ساعه ).
وأفضله وقت اشتداد الشمس ومضي ربع النهار ..
وقتها من بعد شروق الشمس ب ١٥ دقيقة …
لحد قُبيل صلاة الظهر ب ١٥ دقيقة
ثوابها عظيم تعادل ٣٦٠ صدقة
ثانياً :- كيفية أداء صلاة الضحى :-
عــدد ركـعـاتـهـا أقلها ركعتين وأفضلها ثمانية وأكثرها …
ومن حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت :
(كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعًا ، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ)
طب أصليها إزاي ؟؟
_يصلي الإنسان مثْنى مثنى ،أي يصلي ركعتين ثم يسلم ثم يقوم ويصلي ركعتين ويسلم
ويتابع هكذا حتى ينهي عدد الركعات التي كان ينوي أن يصليها.
ثالثاً :- فضل صلاة الضحى :-
فضلها
ركعتين لو قمت بصلاّتهم كأنك تصدّقك بـ ٣٦٠ صدقه في اليوم .. عن مفاصل الجسم
ركعتان لو قمت بصلّاتهم تُصبح من الأوّابين ..في الحديث عن النبي
( صلاة الضحى صلاة الأوّابين ) ركعتا صلاة الضحى جهدٌ قليل، وأجرٌ عظيم، فلا يُثقلها الشيطان عليك، حيث لا يلزمها الا أوَّاب، و هو الأواب: “كثير الرجوع إلىٰ اللّٰه” وقد قال رسول اللّٰه ﷺ:-
” لا يحافظ علىٰ صلاة الضحىٰ إلا أوَّاب ”
والأوّاب هو الذى يُذنب ويتوب …يُذنب ويتوب …قال الله تعالىﷻ: (إنّه كان للأوّابين غفورًا)
عن زيدِ بنِ أرقمَ أنَّه رأى قومًا يُصلُّون من الضُّحى في مسجدِ قُباءٍ، فقال: أمَا لقَدْ علِموا أنَّ الصلاةَ في غيرِ هذه الساعةِ أفضلُ، قال:
“خرَجَ رسولُ الله ﷺ على أهلِ قُباءٍ، وهم يُصلُّونَ الضُّحى، فقال:
“صلاةُ الأوَّابِين إذا رَمِضَتِ الفصالُ من الضُّحَى”
وكم سبق وذكرنا هي صدقة عن كل مِفصل في جسم الإنسان
عن أبي ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النبيِّ ﷺ:
“يُصبِحُ على كلِّ سُلامَى من أحدِكم صَدقةٌ؛ فكلُّ تَحميدةٍ صدقةٌ، وكلُّ تهليلةٍ صدقةٌ، وأمْرٌ بالمعروفِ صَدقةٌ، ونهيٌ عن المنكَرِ صدقةٌ، ويُجزِئُ عن ذلك ركعتانِ يَركعُهما من الضُّحَى”
عن أبي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
“أَوْصاني خليلي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بثلاثٍ: صيامِ ثلاثةِ أيَّامٍ من كلِّ شهرٍ، وركعتي الضُّحى، وأنْ أُوتِرَ قبل أنْ أنامَ”
أخبرها كل ما يعرفه عن صلاة الضحىٰ بالأحاديث والآيات القُرآنية أيضًا، كان يشعر بسعادةٍ غريبة عليه وهو يشارك زوجته هذه المعلومات، ولأول مرة يشعر بهذه المشاعر حتى أنه اندمج بدون أن يلحظ هذا، أما عنها هي فكانت تشعر بسعادةٍ غريبة عليها كُليًا، لم تتوقع أنه هو من يخبرها هذه المعلومات بهذه الطريقة حتى رف قلبها من محله وما إن أنهى هو حديثه، سحبت هي نفسًا عميقًا ثم أخبرته بامتنانٍ له:
_ربنا يباركلي فيك يا “أيوب” عن اذنك علشان ألحقها قبل الضهر فاضل تلت ساعة، هكلمك تاني.
أغلقت سريعًا بينما هو ظل كما هو مدهوشًا، كلما ظنها بعيدة عنه وجدها تقترب أكثر، وكلما حاول أن يبدأ هو معها يجدها هي من تمد يدها له، الفكرة في مجملها جعلته يبتسم لكن عليه أن يبادر هو لأجلها حتى لا يأتِ اليوم وتستثقل وجودها في حياته.
دلف له “بيشوي” يخرجه من شروده حتى انتبه له “أيوب” فوجده يبتسم على غير العادة، كما أنه بدا اليوم أصغر من سنوات عمره الثلاثين، فسأله “أيوب” بتعجبٍ من هيئته:
_خير ؟؟ مالك مروق نفسك ووشك رايق؟؟.
ابتسم الأخر من جديد وهو يقول بحماسٍ:
_عمك “مـلاك” حضر هنا في حارة “العطار”.
شهق “أيوب” بدهشةٍ نبعت عن تلقائية تعرب عن تفاجئه، فقال الأخر بثقةٍ بعدما عاد ثباته وتشفيه بالآخر:
_مش هو عامل فيها كبير، جيبتله كبيره لحد هنا يا أنا يا هو بقى، هيقعد يومين كدا علشان “جابر” ميفهمش إن فيه حاجة، المهم يعني انها بدأت تتيسر لأخوك أهو.
ربت “أيوب” على كفه فيما سأله “بيشوي” بلهفةٍ:
_صحيح هو الواد “تَـيام” ماله؟ حد مزعله؟؟ فيه حاجة بينه وبين “آيات” ؟؟.
حرك رأسه نفيًا بتعجبٍ سيطر عليه وثبت بؤبؤيه عن الحركة، فيما أضاف “بيشوي” موضحًا سبب حديثه حين هتف بحيرةٍ:
_لقيته متضايق كدا وسرحان، حاولت أفك وأخليه يهزر مرضاش، مش طبيعته دا طول عمره يكره الزعل والضيق حتى في عزا أبوه مقدرش يزعل.
تنهد “أيوب” ثم حرك كتفيه وهتف بنبرةٍ تعبر عن مدى حيرته:
_مش عارف والله، بس هسأل “آيات” إن شاء الله.
في بيت “العطار” حاولت “آيات” التواصل معه بعدما أخبرت والدها لكنه لم يجاوب عليها بل تعمد الهرب منها، ليس منها هي بل من نفسه، لذا انخرط في العمل بكل طاقته ووضع هاتفه في مكتب “عبدالقادر” وما إن لمح والدها رقمها على هاتفه جاوب هو على المكالمة قائلًا:
_بيشتغل يا “آيات” أنا رديت مكانه، عاوزاه؟؟.
حمحمت هي تخفي حرجها ثم قالت بنبرةٍ هادئة:
_خلاص يا بابا طالما هو بخير، شكله مش عاوز يكلمني وبصراحة أنا حاولت كتير أهو وحضرتك شاهد، عن إذنك هشوف “إيـاد” جوة، محتاج حاجة يا حبيبي؟.
نفى حاجته لأي شيءٍ بينما هي أغلقت المكالمة تشعر بالحزن، لا تعلم السبب لكنها تشعر للمرة الأولى أنها ثقيلة عليه، من ليلة الأمس وهو يرفض التواصل معها، يرفض أن يحدثها وحينما أرسلت له تذكره ببعض الفروض والأحاديث جاوبها فقط بكلمة “شكرًا”.
ترقرق الدمع في عينيها تخشى أن يتكرر ماضيها مع خطيبها السابق “أيمن” لكن الفارق هنا أنها ترغب في إكمال طريقها مع “تَـيام”، وصلها صوت أذان الظهر بصوت أخيها فسحبت نفسًا عميقًا ثم قامت لتقوم بتأدية فرضها وهي تستغفر ربها وتطلب منه أن يحميها من الشيطان.
في وكالة “العطار” طلبه “عبدالقادر” حتى حضر له “تَـيام” بوجهٍ عابسٍ وما إن أشار إليه الأخر بالجلوس جلس بملامح مقتضبة وكأنه طالب يتلقىٰ عقابه من أستاذه، لكن “عبدالقادر” سأله بهدوءٍ:
_خير ؟؟ دا “تَـيام” اللي الضحكة مش بتفارق وشه؟.
أطلق الأخر زفيرًا قويًا ثم هتف بنبرةٍ جامدة:
_لأ، بس أنا متخانق مع أمي بصراحة، وكأن الدنيا كلها مقفولة في وشي من ساعتها، صدقني أنا مش قاصد أزعل “آيات” مني بس أنا تعبان شوية مش حابب أضايقها دلوقتي وأنا بكلمها.
ظهرت قلة الحيلة على ملامح “عبدالقادر” الذي قال بنبرةٍ هادئة يحاول بها تلطيف الأجواء في عيني الأخر:
_بص يابني كله إلا الأم، يعني دي بالذات لازم ترضيها مهما كان طلبها صعب عليك، معرفش سبب الخناق ومش لازمني أعرفه، بس يهمني إنك تصلح مشكلتك مع والدتك علشان أقدر آتمنك على بنتي، وأنا عارف إنك زعلان علشان مزعلها، بس روح صالحها وراضيها وخدلك دعوتين حلوين، يلا ياض، وبعدها تيجي تصالح البت اللي مزعلها دي، بدل ما أفك الموضوع كله أنا أصلًا بتلكك.
ابتسم “تَـيام” رغمًا عنه ثم اقترب منه يلثم جبينه وهتف بامتنانٍ له وتقديرٍ لتواجده في حياتهم:
_ربنا يباركلنا فيك إن شاء الله، عيني طلباتك أوامر.
تحرك “تَـيام” بعد حديثه نحو الخارج يقصد المسجد أولًا ثم بعدها يرى ما يتوجب عليه فعله حتى لا تزداد الأمور سوءًا أكثر من هذا.
__________________________________
<“لم يولد ظالمًا، بل تربىٰ على الظُلمِ”>
كان “سعد” في بيته يجلس في غرفته شبه محبوسًا بها بعد عودته إلى هنا ملقى أرضًا للمرة الثانية في حياته على أيدي أبناء “العطار” مرة وعلى أيدي “يوسف” ورفقائه مرةٍ أخرىٰ، دلفت والدته بصينية الطعام له وهي تقول بقهرٍ عليه وعلى منظره:
_منهم لله الجبابرة، ربنا ينتقم منهم.
تنهد “سـعد” مطولًا حتى جلست بجواره تضع الطعام على الفراش وتبدأ في تطعيمه بيدها حتى تناول هو رغمًا عنه فوجدها تقول بآسفٍ:
_أبوك راح عند أخوه الكبير اللي عمل فيك كدا، ومستحيل يسيب حقك، هو اللي يمشي يضرب في الناس كدا ويبلطج عليهم يبقى شيخ؟ منه لله، أنا عارفة يا حبيبي أنهم واقفين في طريقك، العين متكرهش غير الأحسن منها.
سألها بنبرةٍ جامدة كطبعه الحاد:
_وهو يروحلهم ليه؟؟ دا موضوعي وأنا هخلصه، رايح يقل بيا تاني؟ أنا مش فاهم بتدخلوا نفسكم ليه في حياتي؟؟.
دلف والده في هذه اللحظة يقول بنبرةٍ عالية بعدما استمع له بعدما استمع لحديثه الفج:
_روحت علشان ألحقك من مصايبك السودا، روحت علشان أفهم ناويين على إيه، روحت علشان عيلة “العطار” مش هتسكت، روحت علشان خاطرك وعلشان مصايبك اللي مبتخلصش، المرة الجاية هتيجي مدبوح؟؟.
ترك “سـعد” فراشه وانتفض منه يقول بنبرةٍ عالية هو الأخر:
_هموتهم كلهم، هاخد حقي تالت ومتلت، وشرف أمي أنا ما هسيب واحد فيهم يتهنى ساعة واحدة، بس أفوقلهم، وأنتَ بنفسك هتشوف أني مبعرفش أسيب حقي.
ترك الغرفة ورحل من أمام والديه فتحركت والدته خلفه تلح باسمه بينما والده جلس بخيبة أملٍ يضرب رأسه بكلا كفيه متحسرًا على حاله، سلبيته أخذت منه ابنه ودلال زوجته جعلهه فاسدًا وسلطة عائلته ضاعفت عنفوانه، وفي نهاية الأمر هو لم يولد ظالمًا، بل تربى على الظُلم.
__________________________________
<“فتاة قوية بـ مئة فتاةٍ أخرىٰ، فالرجولة ليست معيارًا”>
عادت “نهال” من المدرسة التي تعمل بها صباحًا ثم توجهت مباشرةً إلى محل والدها، هذه أسعد فترات حياتها، العودة إلى عملها المُحبب من جديد ثم متابعة عمل والدها وإدارة شئونه، ثم العمل مع صديقها الصغير “إيـاد” هذا الذي دلف حياتها مثل شعاع النور، لم تتوقع أن تلجأ في النهاية إلى صداقة من هذا النوع، لكنها تحمل في قلبها شيئًا كبيرًا لأجله لم تتعرف عليه بعد.
وصلت إلى محل عمل والدها فوجدت “بهاء” ابن عمها يجلس مع والدها في مكان العمل، فورًا تبدلت ملامح وجهها إلى الضيق بمجرد رؤيته، بينما هو التفت لها يقول مرحبًا بها بحفاوةٍ:
_”نـونا” !! عاملة إيه وحشاني.
ابتسمت له باقتضابٍ ثم دلفت تجلس بجوار والدها وهي تقول بنبرةٍ فاترة تخلو من الروح وكأنها آلية مُبرمجة:
_كويسة يا “بهاء” زي الفل، إيه سر الزيارة؟
رسم المرح على ملامحه وهو يقول بمراوغةٍ لها:
_هفني الشوق بصراحة وقولت أجي أشوفك.
زفرت هي بقوةٍ في وجهه وأشاحت وجهها للجهة الأخرى فوجدت “أيـهم” يقف على أعتاب المحل وقد استمع لهذه الجُملة فارتبكت في الحال ووقفت وهي تقول بتلعثمٍ:
_أستاذ “أيـهم” !! نورت…اتفـ..اتفضل.
دلف “أيـهم” بملامح مقتضبة ثم ألقى التحية على الجالسين وعلى والدها بالأخص، وبعدها جلس مقابلًا لـ “بهاء” الذي وزع نظراته بينه وبين “نهال” التي حاولت أن تضبط نفسها ووتيرة أنفاسها، فيما تولى والدها مهمة التعريف بينهما حتى قال “بهاء” باقتضابٍ:
_اتشرفنا يا أستاذ “أيـهم” أول مرة أشوفك ويا رب تتكرر، إن شاء الله أعزمك على الفرح قريب، دعواتك.
رفعت “نهال” حاجبها تحذره من التمادي، فيما تغاضىٰ “أيـهم” عن جملته ثم أخرج الورق من سترته يقدمه لـ والدها وهو يقول بثباتٍ:
_اتفضل يا حج، دي الفواتير كلها بالرخام اللي وصلك من المصنع، وكل حاجة مكتوبة، دا حقك ولازم تعرف فلوسك رايحة فين.
هتف والدها بلهفةٍ يرفع الحرج عنه:
_يابني عيب كدا احنا أهل، بعدين المفروض أنا اللي اتكسف على دمي علشان عمال أسحب من المصنع كدا، وكتر خيرها “نهال” قايمة بالواجب وطلع عينها معايا هنا.
ابتسمت هي لوالدها فيما تدخل “بهاء” يقول بخبثٍ:
_طبعًا “نهال” طول عمرها بنت بس بـ ١٠٠ راجل.
زفرت من جديد وهي تحاول خلق ذرة احترامٍ واحدة قبل أن توبخه أمام الضيف الجالس ويبدو أنه تولى هذه المهمة عنها لينطق “أيـهم” بثباتٍ بعدما لاحظ ضيقها منه وشعر بهذا وأنها على عكس طبيعتها:
_قصدك بنت بـ ١٠٠ بنت، لأن زي ما أنتَ شايف كدا الرجولة مش معيار دلوقتي، يبقى الأفضل نحط كل شيء بمسماه الصحيح، مش كدا يا حج ؟.
بسمة بلهاء كادت أن تزين ثغرها وتشعرها بالنصر أمام هذا البغيض الذي يظهر لها من العدم، كما أن هيئته محروجًا بهذا الشكل جعلها تتشفى به دون أن ترأف بحاله وهو يحاول حفظ ماء وجهه بعدما صدمه “أيـهم” برده عليه.
بعد مرور عدة ساعات كانت “عـهد” في عملها منذ الصباح بعدما طلبتها الطبيبة أن هذا اليوم العمل سيكون نهارًا حتى تقضي ليلها في المشفى الميداني الذي تعمل به في حالات الطواريء، لذا اضطرت أن تذهب إلى العيادة وتستقبل المرضى حتى انتهى العمل تقريبًا في الساعة السادسة مساءً أو قُرابتها.
لم تنتظر “يوسف” ولم تخبره بهذا بل أنهت عملها تمامًا ورحلت الطبيبة وهي خلفها بعدما تممت إغلاق المكان لتنعم بالراحة عدد ساعات مُضاعفة هذا اليوم، لذا أغلقت المركز الطبي ثم نزلت من البناية فصدح صوت هاتفها برقم إحدى فتيات جيرانها في بيت عائلتها، وحينها جاوبت على المُكالمة بحماسٍ وهي تقول:
_لسه فاكرة يا “أمنية” تكلميني؟؟.
توترت الأخرى وجاوبتها بآسفٍ:
_حقك عليا يا “عـهد” بس والله مشاغل أنتِ عارفة، المهم ياختي علشان مترجعيش تزعلي مني، عمك جايب ناس يتفرجوا على شقتكم وهيبيعها، أنا قولت أقولك ياختي بس بالله عليكِ محدش يعرف علشان أبويا محرج عليا متدخلش لحد في حاجة، سلام ياختي.
فرغ فاهها وزاغ بصرها حتى تشتت حركة عينيها التي ترقرق بهما الدمع، أي بيت هذا يُباع ؟؟ بيت حبيبها والذكرى الوحيدة المتروكة لها حتى تحنو عليها عائلة والدها؟ لم تتوالى في التفكير ثوانٍ أخرى بل بدلت وجهتها إلى هناك حيث بيت والدها ومسقط رأسها.
ركبت سيارة أجرة إلى هناك فورًا بشجاعةٍ غريبة وما إن توجهت إلى هناك ونزلت أمام البناية صعدت إلى شقة والدها بخطواتٍ أقرب إلى الركض حتى وجدت عمتها “نشوى” و زوجة عمها معها في شقة “محفوظ” والد “عـهد” ومعهما امرأتين، وفي الصالة الأخرى يجلس عمها برفقة رجلين يبدو على هيئتهما أنهما أصحاب الأموال التي ستُدفع نظير الشقة.
لم تفكر للحظاتٍ حتى بل رفعت صوتها بقهرٍ وهي تتحدث مع الجميع:
_لامؤاخذة يا بهوات الشقة دي مش للبيع، الشقة دي عليها مشاكل ومسروقة من صحابها، وأنا بقى صحابها، برة من غير مطرود، بـــرة !!.
صرخت في الناس بدون وجه حق حتى تلجلجت النساء في جلستها واستعدن للرحيل حتى تدخلت عمتها تحاول معهن لكن رغبة الرحيل سيطرت عليهن، بينما الرجلين اعتذرا من العائلة ورحلا من المكان، لتقترب منها عمتها تتخصر في وقفتها وهي تسألها بطريقةٍ سوقية:
_ليكِ عين تيجي هنا يا بجحة ؟؟ صحيح هقول إيه ؟ اللي اختشوا ماتوا من زمان.
اقتربت منها “عـهد” تقول بصراخٍ يعبر عن قهرها:
_أنتِ ليكِ عين تتكلمي؟؟ بتاكلي مال يتامى وكمان ولاية ملهمش حد ؟؟ دي شقة أبويا اللي بنى البيت دا كله بفلوسه وتعبه وأواكم، كمان بتاخدوا حق مراته وبناته ؟؟.
أقترب عمها يديرها من كتفها وهو يقول بنبرةٍ عالية:
_حق مين يا أم حق ؟؟ معندناش بنات بتورث ياختي، أنتِ وأمك وأختك ميتين زي المرحوم أبوكِ كدا، وغوري برة بدل ما أجرجرك من شعرك، غوري شبهتينا أنتِ وأمك.
دفعت يده بعيدًا عنها وهي تقول بصوتٍ عالٍ وكأنها تتسلح بدرعٍ واقٍ وظهر هذا من خلال قولها منفعلة:
_قطع لسانك، أمي أشرف منك ومن كل واحد فيكم يا عيلة زبالة، أنتوا اللي عالم مفيش عندها نخوة، وأنتَ أولهم علشان تبص للحم أخوك بعد موته وتبص لمراته، ولا التاني البيه جوز عمتي، قال إيه أمي بترسم عليه، دا لو حيطة في أقلها حارة اقرف اتف عليه حتى.
أقترب عمها يمسك خصلاتها وهو يقول من بين أسنانه بعدما ازداد غضبه منها:
_عاوزك تترحمي على نفسك يا بنت “محفوظ” والشقة اللي مزعلاكي دي أنا بنفسي هتجوز فيها علشان أقهرك.
رغم ألم رأسها وهو يقبض على خصلاتها إلا أنها قالت بنفس الشجاعة من بين أسنانها:
_على جثتي إن كلب زيك يعمل كدا في شقا أبويا.
اقتربت عمتها في هذه اللحظة تقول بترحيبٍ بفكرتها المنطوقة بغير حساب:
_طلبتيها وهتنوليها يا بنت “مـي”.
هجمت عليها تصفعها على وجهها وقد شاركتها زوجة أخيها، أما أخيها نفسه فوقف مبتسمًا وهو يرى انتقامه يتحقق في هذه الضعيفة بعدما تكالبت عليها نساء عائلته، وكأنها قطة صغيرة دلفت عرين الأسود وفور وصول صوت موائها لهم، هجموا عليها ينهشون لحمها بمخالبهم، فحتى صوتها لم يرتفع، بل دعاء قلبها المظلوم وصل إلى السماء وإلى من رفعها بغير عمد، وما أدراك من دعوة المظلوم.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)