رواية غوثهم الفصل الثامن والثمانون 88 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الفصل الثامن والثمانون
رواية غوثهم البارت الثامن والثمانون
رواية غوثهم الحلقة الثامنة والثمانون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثالث_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
أنا العبد الذي تراه أنتَ ولا يراك..
أنا الضعيف الذي لم يطلب سوى رضاك..
أعلم أنكَ يا خالقي كريمٌ ولن تبخل
على قلب يرجوك حتى وإن عصاك..
وإنما أنا عبيدك الغريق المضطر
ولكن قوتي تسكن قلبي الذي رجاك..
_”غَـــوثْ”
__________________________________
ومن جديد أكتب بدون كللٍ أو مللٍ…
أكتبُ وأنا أحب كتابتي هذه…
اليوم أحببت الحروف وهي تسير معي في وصفكِ،
وعشقت الكلمات التي أسعفتني فقط لأجلكِ،
اليوم تتحرك أناملي وتخطُ ما يمليه عليها قلبي..
قلبي الذي لم ولن يفعلها إلا لكِ أنتِ…
قلبي الذي أراد أن يخبرك بطريقته أنه قام بتصدير الكره للجميع ولم يحفظ الحُب إلا لكِ أنتِ،
أنا وإن كنتُ حتى لا أعرفني، فيكفيني أنني حينما رأيتُ نفسي رأيتني في عينيكِ أنتِ..
فحتى وإن لم أراني أنا من قبل..
إلا أنني حينما رأيتكِ، وجدت نفسي فيكِ أنتِ.
<” يا فرحة يعقوب مُـري بالدار”>
_”أنا منكَ وأنتَ مني،
لم تَكن أنتَ الغريب عني،
أنا لكَ كنت موطنًا، والهوية أنك ابني”
ألقاها القلب الأول لقلب صغيره وهو يتمنى أن يشعر به، فيما وقف الصغير يضم كفيه معًا ضاغطًا عليهما لعله يردع دموعه بعد هذه الخطوة الصعبة التي أخذها ووصل بها إلى هنا، لكن قلبه ما إن ترجم نظرات الأخر هتف بوجعٍ هو الأخر ردًا على حديثٍ كتمته الألسنة وتفوهت به الأعين:
_ربما العالم بأسرهِ يكذبك حتى وأنا وشفتاي، لكنني أقسم لكَ أنها لن تجرؤ وتخفيها عيناي، لم أراني يومًا في عينيكَ غريبًا، بل كنت دائمًا وطنًا والوطن للضائعِ أصبح حبيبًا..
صوت القلوب وصل صداه عن طريق العيون ولازالت الأجساد ثابتة، القلب ركض وأحتضن الأخر صارخًا من لوعة الفراق والعين احتضنت العين تخبرها بمدى الاشتياق والآن فُرِد ذراعين الأول وهتف باكيًا وهو يأمل في عناق:
_تعالى…تعالى في حضني يابني.
نزلت عبرات “تَـيام” فور وصول هذه الجملة له وأقترب من الأخر بنفس منوال الخطى الوئيدة وقبل أن ينطق وجد نفسه مخطوفًا في العناق..
أصبحت القلوب تحتضن بعضها والأعين سكنت من وجعها والأذرع تحاوط الأذرع وتتمنى أن تبقى في الجوار مع بعضها، العناق الأول بصفة رسمية لابنٍ ضاع وأبٍ تألم، واليوم تشهد الحياة على اجتماعهما، اليوم فرحة “يـعقوب” تمر بالديار، فحينما فقد ابنه وراح عنه بصره، لم يفقد الإيمان واليقين متمسكًا بحبال الصبر كما صبر “أيـوب” بالرغم أنه ليس ببالغ صبره.
يسير المرء إلى أين لا يدري..
يقف تائهًا عما حوله وما يجري،
يسير كما يسير الأخرون وعند مكانه
يقف هُنا ولا يسري…
وهاهو يقف في مكانه الأصلي الذي يرجع أساسه له، المكان الذي نشأ منه ويعد في الأساس هو موطنه، عناقٌ يشبه عناق الأمطار للزهور ليخرج عنها الندى برحيقهِ، عناق الأسير حينما يخرج من محبسهِ ويرتمي في حضن أمـه، العناق الذي يضم الجزء للكل حتى تكتمل اللوحة أخيرًا بكامل أجزائها، عناقٌ أضاف الحياة لكليهما من بعد موتٍ قاحلٍ لطرفٍ وموتٍ كاد خلال لحظاتٍ أن يفتك بالأخر.
بكى “تَـيام” ما إن شعر باحتواء “نَـعيم” له بين ذراعيه وهو يمسح على ظهره ويطوقه بكلا ذراعيه، ذراعان رغم ضيقهما إلا أنهما كانا أكثر الأماكن اتساعًا له، شعر حقًا بالانتماء لهما وكأن التائه وصل مكانه أخيرًا من بعد الغُربة، فيما بكى الأخر حينما أقترب بعضه من كله وأكتملا سويًا في نهاية المطاف، حقًا القلب يعرفه، والعين تشتاق له، وهذا العناق يُعد مكانه، لكن العناق وحده لن يكفيه لذا عاد للخلف بجذعه يُملي عينيه من صغيرهِ الذي تعلقت به نظراته وحينها هتف “نَـعيم” باكيًا بما أملاه عليه قلبه:
_عارف؟ والله العظيم ودا يمين هتحاسب عليه قدام ربنا أنا من أول مرة حضنتك فيها حسيتك، أنا خوفت أفكر فيك وأملا دماغي وفي الأخر أتوجع، بس زي ما قالوا يابني اللي تخاف منه ميجيش أحسن منه، وأنا مش لاقي أحسن من الإحساس دا بيك أنتَ.
نزلت عبرات “تَـيام” مُجددًا مع بالتزامن مع حديث والده، وقف يفكر بكل مافيه في هذا الشعور الغريب الذي يعتريه، أيحق للمرء أن يشعر بالانتماء لموطنٍ كان غريبًا عنه؟ أيحق له أن يتعامل مع هوية جديدة عليه؟ كيف يُعامل المرء كما لو أنه غريبًا عن وطنه؟ وفي هذه اللحظة أتى الجزء الآخر من هذا الوطن ووقف أمام شقيقه وحينها نزلت دموعه بقدر ما جاهد لكتمها، وحينها أملا عينيه من شقيقه وفي هذه اللحظة تلاقت الأعين وتلك المرة لم يكن لقاء الغُرباء بل هو لقاء الأشقاء…
نظر “مُـحي” إلى “تَـيام” بعينين دامعتين وكذلك أدمعت عبرات الأخر وهو يطالع وجه شقيقه المُشابه له، لأول مرة يرى كلاهما الأخر بهذه الصفة القوية التي ربطت بينهما لكن حُكِمَ عليهما بالغياب، وفي هذه اللحظة تذكر “تَـيام” جملته لشقيقه ذات مرةٍ في إحدى المحادثات بينهما:
_ياض أنتَ شبهي كدا ليه؟ أقسم بالله أنا لو عندي أخ ما هيكون شبهي كدا، دا رعب بالنسبة ليا.
تردد هذا الصوت في أذُنـيه حينما أرسل حديثه في رسالةٍ صوتية يمازحه بها وحينها كان رد الأخر ضاحكًا عليه:
_ياعم أعتبرني أخوك، أنا مش عارف بحبك ليه، أنتَ مين ياعم وبكلمك ليه وشبهي كدا ليه؟ وأنا هرحرح إمتى؟.
حينها ضحك له “مُـحي” وهتف بنبرةٍ متباينة المشاعر مابين بكاءٍ وبين فرحةٍ وبين حزنٍ:
_عرفت خلاص أنا حبيتك ليه، عيشت أحوش ليك كره علشان لما تظهر أخليك تمشي، أنا حتى مش قادر أفتكر بكرهك إزاي، أوعى تكون أنتَ اللي كارهني يا “تَـيام”؟.
سأله بنبرةٍ منكسرة جعلت “تَـيام” يغمض عينيه لعله بذلك يوقف عبراته وحينها خطفه “مُـحي” في عناقٍ وهو يقول مُرددًا بنبرةٍ باكية يُدلي باعتذارٍ وُجِبَ عليه:
_أنا بحبك وحبيتك علشان أنتَ شبهي، شبهي أوي وقلبي أرتاحلك، قول إنك عاوزني زي ما أنا عاوزك يا “تَـيام” ساكت ليه طيب؟ أنتَ مش عاوزني؟ التحليل معانا أهو.
حينها أوقف “تَـيام” دموعه وابتعد عن شقيقهِ الذي يشبهه لحدٍ كبيرٍ وهو يطالعه بعينيهِ المُرهقتين بعدما طفق الذبول يعلن عن نفسه في ملامحه، الملامح نفسها ولون الأعين الرُمادية ذاته، الخصلات السوداء اللامعة المستقرة بثباتٍ أعلى الجبين، الجسد المشدود وتقارب الطول بينهما، كل شيءٍ يبدو بوضوحٍ أنهما ليس بغريبين عن بعضهما وحينها أضاف “تَـيام” بنبرةٍ مُحشرجة مختلطة المشاعر:
_وهو أنا كنت حبيتك وأنتَ مش مني علشان أكرهك وأنتَ كلك على بعضك حتة مني؟ أنا آه مش فاهم حاجة ولا عارف أنا مين حتى ولا الكلام اللي بتقولوه دا صح أو لأ بس أنا مش قادر آكدب احساسي بيك أنتَ.
ألقى حديثه ثم ضمه هو مبادرٌ بتلك الحركة وفي هذه اللحظة وقف “مُـنذر” كعادتهِ منزويًا عن الحشد الواقف يبعد نفسه عن مرأى بصرهم يراقب الوضع بعينيهِ فقط، أما عن قلبه فأخبره أن يرحل من هنا، أخبره أن يترك المكان فقد أنتهت مهمته هنا، ها قد جمع كل الأطراف معًا وعليه أن يرحل، وحينها وفي براعة الوصف هو يبدو كمن قيل عن طرقاتهم:
“كُل المواطن غُربة، كل الطُرقات ضياع”.
أما “نَـعيم” فكان مثل الأسير المُحرر الذي شهد قلبه شمس الحُرية ما إن عبر خارج حدود محبسه وحينها أقترب من ابنيه يضمهما سويًا وكأن الدُنيا في لحظتهِ هذه حُيزت له بأكملها، وعلى النقيض كانت تقف “نجلاء” وهي تتابع ابنها بين أحضان هذا الرجل ولأول مرة تشعر بهذا الوجع وتلك الانقباضة في قلبها، بدت وكأن كل شيءٍ فَلَّ عنها كما تفل المياه من بين أنامل الكف.
__________________________________
<“لن يستحق قُربنا من لم يُدرك مكاننا”>
في مكانٍ أخر تحديدًا بمكان عمل “جـابر”…
كان “بـيشوي” يجلس أمام مكتبه برفقة “أيـهم” الذي يحاول بأقصى أنفاسه التي شارفت على الإنتهاء وكذلك جلس “جـابر” أمامهما بخوفٍ من قوة النظرات التي يتم رمقه بها وحينها تحدث “أيـهم” بنفاذ صبرٍ من تبادل النظرات:
_لأ آخرة الوضع دا إيه؟ إحنا عاوزين نفهم؟.
زفر مُطولًا بضجرٍ وكأن هذا هو الجواب الوحيد الذي يملكه ردًا عليهما، بدا وكأنه مل من هذا الحال ومن تورطه في شيءٍ آمل في الخروج منه دون أن تمسه علاقة بما حدث، لكنه قرر أن يُخرج ما بجبعته، ففي نهاية الأمر لن يجد من يترافع عنه بل أن كلًا منهما يُعد خصمًا له في هذه الجلسة فعليه أن يتولى هو مهمة الدفاع بقوله:
_ما أنا اللي عندي قولته، “سامي” كان صاحبي زمان وعملنا كام مصلحة مع بعض، بس لما الآثار لعبت معاه خاف أقاسمه فيها فكبرلي خالص، ساعتها أنا كنت لسه برمي نفسي في السوق ودا سبب كره “جـرجس” ليا إني كنت صاحب “سـامي” وللأسف “سـامي ” محدش بيقبله أصلًا، فأنا لما لاحظت معاه العيل دا وقالي مصلحة قلقت منه، وفضلت أتابعه شوية لحد ما عرفت اللي فيها وإن كل غرضه يخلص من الواد، ساعتها لو كنت أنا أتدخلت كان ممكن يعند معايا أو ميأمنش ليا، بس بعدها عرفت “صبري” وهو من لهفته على عيل صغير فرح وراح خد “نجلاء” وقابلوا “محاسن” وشافوا الواد هناك في العيادة، كان ضعيف من قلة الأكل وبدأ يجيله جفاف، يعني كان قرب يموت، قولت خلاص أهو “سامي” اسمه خلص منه وأنا ساعدت “صبري” وبقى سر بيننا إحنا التلاتة بس، والمقابل لدا “صبري” قبل موته طلب مني لو أهله ظهروا أكون مع “نجلاء”..
أخرج كل ما في جبعته أمام الإثنين وكأنه بذلك يَقر باللذي كان منه، لكن الغريب هي ثقته في الحديث كأنه لم يتقرف أي شيءٍ بل كانت هناك لمحة فخرٍ ارتسمت عليه وسرعان ما تلاشت حينما فتح “بيشوي” وتفوه باستفسارٍ أقرب للهجوم عليه:
_طـب والعيل دا طالما قلبك حنين أوي كدا مروحتش توديه لأهله ليه؟ ولما كل دا حصل وأنتَ قلقت من “جـابر” ساعدته بعدها في اللي أنتَ عارفه ليه؟ الكلام دا كان بعدها بسنين، يعني أنتَ برضه راجل معدوم الضمير، لحقت عيل صغير، ودمرت حياة واحد تاني.
أشار بحديثه إلى “أيـوب” حينما تم إختطافه من “جـابر” وفقًا لأوامر “سـامي” وعندما لاحظ الأخر نظرات “أيـهم” بدل طريقته للدفاع عن نفسه متوليًا مُرافعة هجومية أمام خصمٍ كل شاغله أن يدينه:
_وهو أنا مُصلح إجتماعي؟ أعرف أبو الواد منين يعني؟ بقولك كنت فاكره ابن “سـامي” وجايبه في الحرام، بعدين لو كنت عرفت ودورت كان زمان التاني خلص من الواد، أبسط حاجة كان هيروح يرميه في أي حتة، إيه مسمعتش عن عيال لقوها في الزبالة ولا لقوهم في المواصلات وعلى أبواب الجوامع؟ أنا عملت اللي خطر في بالي ساعتها وهو إن فيه حد محتاج للواد دا، أما بقى الموضوع التاني فأنا كنت بس وسيلة ومعرفش إنه هيعمل كل دا، وخلاص خلصنا.
حرك “أيـهم” رأسه بينهما حائرًا من الحديث المُلقىٰ أمامه وهو يجهله أو ربما يجهل هويته، بينما “بيشوي” هتف بنبرةٍ جامدة:
_لأ لأ متعيش الدور إنك الراجل الطيب المُضحي، أنتَ كان ممكن تدور على أهل الواد، بس أنتَ زي عوايدك استسهلت يا حمايا، لو فعلًا راجل طيب كان ممكن تروح للحج “عبدالقادر” وتعرفه وهو كان هيعرف اللي ورا الحوار بنفسه، وكان هيعمل كل اللي عليه ويوصل الواد بأبوه، وأظن أنتَ عارف إنه طرده قبل كدا وخلاه مشي لما وَسخ بزيادة، دلوقتي بقى الفيلم الهندي دا هيخلص إمتى؟.
تدخل حينها “أيـهم” متوليًا مهمة الجواب بدلًا عن الأخر بقولهِ الصارم الذي لم يقبل أي مناقشة:
_دلوقتي “تَـيام” عرف ولازم يقابل “جـابر” علشان يفهمه اللي فيها، أظن كدا الحوار بقى منطقي وحلقة الوصل ظهرت وهي “جـابر” باشا، الحوار كله طلع عنده، ممكن أفهم أنتَ مقولتش ليه من الأول؟ لما أنتَ عارف إن الواد ليه أهل تانيين متكلمتش ليه؟ متعرفش إن التبني حرام عندنا؟.
رمقه “جـابر” بسخطٍ ثم هتف بنبرةٍ جامدة وهو يبتسم بإصفرارٍ بعدما مـط شفتيه:
_والله عارف، بس حط نفسك مكاني كدا، عاوزني أروح أقوله تعالى يا حبيبي دول مش أهلك وأنا معرفش أنتَ أصلك إيه ولا مين أبوك علشان فيه واحد ابن حرام منعرفش جابك منين، وساعتها يطفش ويمشي في وشه ويسيب أمـه اللي أصلًا عايشة علشان هو عايش، ومهووسة بيه، وهي السبب إنه ميعرفش حاجة علشان ميبعدش عنها، صدقني الكلام سهل أوي بس الفعل وقته كل حاجة بتختلف.
في هذه اللحظة وبرغم طباعه الجامدة والتصلد الذي يُغطي قلبه لدرجة أنه يطغى على مشاعره إلا أن الحديث بدا مُقنعًا منه، بدت كلماته مفهومة وتستحق التقدير أو التفهم على حد سواءٍ، لذا طالع كلاهما الآخر بعدما قامت عقولهما بتدوير الحديث من الجهة العملية ليقتنعا في النهاية بما تحدث هو عنه.
__________________________________
<“إن كنتُ أنتَ تستحق الحُب، فلا تأخذه من حقي”>
كل الطُرقات تستحق منك السير..
فإذا كنتُ تأمل بالحرية عليك تعلم الطَير، وهذا الغريب في المواطن كلها الآن أنهى عمله في مقر شركة البترول ومنه توجه إلى شركة “الـراوي” لكي يقوم بالتوقيع على الأوراق الهامة المطلوبة منه، وقد ولج إلى هناك كعادته يتجاهل الجميع حتى لا يؤذي عينيه بمجرد النظر إلى وجوههم، وأولًا وبكل أسفٍ تقابل مع “عـاصم” الذي رماه بنظرة حاقدة جعلته يبتسم له عن عمدٍ متجاهلًا له وهو يتجه لداخل الشركة وقد تقابل هذه المرة مع “سـامي” وحينها وقف أمامه وهو سأله ساخرًا بتهكمٍ:
_ألا قولي بما إنها متتخيرش عنك، متعرفش ألاقي أقرب سلة زبالة هنا فين؟ عاوز أرمي سجايري يا أنكل.
ابتسم له “سـامي” وهو يواري غيظه خلف هذه البسمة التي لم يعرف الصفاء الطريق إليها بل أعربت عن خُبث طباعه وهو يقول بلامبالاةٍ:
_ليه شايفني إيه قصادك؟ أبعد من وشي أنا دماغي مش فضيالك، ولو سيادتك فاكر إن الناس كلها فاضية زيك والشركة شركة أبوها، فإحنا ورانا هم هنا، هم سيادتك مش مقدر حجمه، فالأحسن يعني بلاش تعيش دور الجامد وخلص اللي وراك وخلصنا.
ابتسم “يـوسف” من جديد وهتف تلك المرة حديثًا يحمل أكثر من معنى أو ربما يكون قصده أن يظهر بكل المعنى:
_حاضر بس أحسنلك أنتَ تخلص اللي وراك علشان مش متأكد بصراحة هتفضل معانا كتير ولا لأ، بس على العموم كل حاجة بتبان يا “سـامي” وإذا كنت فاكر إن حقوق الناس ورث أمك، فنصيحة مني ليك تلحق تعمل حاجة قبل ما تروح عند أمك، وأخر حاجة لو عرفت إن “نـزيه” دخل هنا ولا اسمه بس أتحط على ورقة واحدة هنا، الله في سماه لأكون حاطط اسمه في شهادة الوفاة تاني يوم، وأنتَ من قبله، مش معنى إني ساكت ليكم أبقى طرطور هنا، دا على جثتي.
في الحقيقة هذا البارد لم يظهر اكتراثه به بل ضحك بإصفرارٍ واقترب ماسحًا على كتفهِ أثناء قوله:
_وماله، بس دا لو فيك نفس لسه، وبصراحة كدا يا أنا يا أنتَ على وش الدنيا دي، واللي “عـاصم” رفض يعمله وخاف منه أنا هعمله عادي وأخلص منك، واللي أنتَ متعرفهوش بقى إني هقتلك أو هخلص منك بطريقتي وساعتها هبقى أجيبلك “أيـوب” يقرألك قرآن، بيقولوا صوته حلو.
حسنًا يا “يـوسف” عليك أن تستمع لي، هي مجرد جريمة قتل تستحق عليها التكريم من منظمة حقوق الإنسان لكونك أسعفت البشرية في التخلص من هذا البغيض، ثم يعلم العالم أجمع أنك شمعة تحترق لأجل الآخرين كونك تشرفت بقتلهِ الآن، وهذا هو الحديث الدائر بين ساكني رأسه وهم يدعموه في قرار التخلص من “سـامي” لكن ثمة شيئٍ آخر جعله يتوقف عن هذا التفكير كُليًا وحينها قرر أن يتخطاه وهو يقول بما يخلو من الأدب كعادته:
_أعمل ما بدالك، هو أنا يعني أتهبشت في مخي علشان على آخر الزمن هقف أتناقش معاك أنتَ؟ أظن قولتلك إني مبردش على تلاتة وأنتَ عارفهم، وللأسف معيش عضمة أرميهالك وتخليك تسكت شوية، فالأحسن تركن في حتة ناشفة شوية.
أنهى الحديث ثم غادر من أمامه قبل أن تنتابه حالة الجنون وينتهي العراك في رأسه بقتل “سـامي” هنا في مقر العمل، الأمور بأكملها تتطلب منه جهدًا أكبر من اللازم وهو فقط يحاول بما تسمح له طاقته الضئيلة، وقد وصل أخيرًا لغرفة مكتبه وأرتمى على المقعد ما إن وصل إليه وهو يفكر في الشهر المُقبل عليه، وفي هذه اللحظة دلفت “رهـف” والأوراق في أيديها وحينها مطت شفتيها بأسفٍ وضغطت على نظارتها الطبية ففهم هو أنها تتوتر منه وحينها أعتدل بجسده على المقعد في إنتظار الحديث منها وحينها أقتربت منه بالأوراق وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_دا الورق وللأسف لازم تمضيه لأن “مادلين” متعصبة أوي وكل حاجة واقفة هنا عليك، جاهز تمضي وتراجع ولا أخليها وقت تاني؟.
أشار لها بكفهِ بمعنى أن تناوله الأوراق وحينها أعطته له هي فوجدته يمسك القلم وكعادته قام بالتوقيع دون مراجعة أو حتى أن يتفحص الأوراق الموضوعة أمامه ثم أغلق الملف وناولها الأوراق وهو يقول بنبرةٍ قوية كأنه يأمرها:
_قولتلك دي بتاعتك أنتِ يا “رهـف” أنا مش براجع وراكِ ومش هراجع، روحي وديلها الورق وهاتيلي “عُـدي”.
حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم له ثم هتفت بنبرةٍ بها لمحة سُرعة كبيرة:
_هو “عُـدي” حاليًا مع الطلاب الجداد اللي تحت التدريب هنا ومعاه “مادلين” كمان فلو عاوز حاجة أنا ممكن أعملها لحد ما هو يخلص؟.
لاحظ دفاعها عن الأخر لذا ابتسم لها بتعجبٍ وهو يسألها باهتمامٍ جليٍ:
_دا إيه دا؟ من إمتى يعني يا “رهـف”؟ قوليلي صح “عُـدي” عامل ايه في الشغل هنا؟ حد بيزعله أو حد بييجي جنبه؟ ماهما أكيد عرفوا اللي فيها يعني.
قضمت شفتها السُفلى وهي تفكر في سؤاله قبل الجواب ثم هتفت بنبرةٍ مضطربة بسبب الحديث الذي سيخرج منها لتوه:
_بص هي مرة كنا قاعدين بناكل مع بعض وساعتها جه “سـامي” فضل يرخم وجاب سيرة خالك وقاله كلام مش لطيف، وساعتها لاحظت إن “عُـدي” بيحاول بكل طاقته علشان يقدر غيابك، وساعتها لاحظت إنه متضايق، و “شـهد” بتتعمد بصراحة تقلل من شغله وتحشر نفسها بما إنها خريجة جامعة أمريكية، وهو برضه بيحاول وطلبت منه أتدخل بس هو رفض وقالي إن دي مسئوليته هو ومش هيقبل يورطني في حاجة، بس جديًا هو هنا بيجاهد للتعامل الآدمي معاهم.
زفر “يـوسف” بقوةٍ يخرج الثقل من فوق صدرهِ لكنه لاحظ نبرة الإهتمام منها بشأن الأخر لذا سألها من جديد:
_بقولك إيه؟ أنا قررت أخليه يسيب الشركة ويروح يمسك الكافيه بتاعي أحسن، بعيد عن الصداع والمشاكل هنا، وعلشان أكون متطمن عليه أحسن ما دماغي تفضل توديني وتجيبني، كدا أحسن صح؟.
إبان حديثه كانت تُركز بصرها على الورق أمامها لكن بعد أن وصلها حديثه رفعت رأسها تدريجيًا وحينها هتفت بنبرةٍ غريبة عليه وكأن الوهج بها أنطفأ والحماس عنها أختفىٰ:
_طب ماهو هنا أنا معاه، وهو شغال حلو وكل حاجة تمام، ليه يعني تخليه يمشي؟ بعدين هو حابب الوظيفة هنا ولايقة على طموحه، أكيد لما يسيب الشغل هنا ويروح مجرد كافيه هيحس إنه مش مرتاح، لأن مفيش تكافؤ بين مؤهلاته وبين الشغل اللي أنتَ بتقول عليه يا “يـوسف”.
لاحظ هو تبدل تعابير وجهها ونبرة الخوف في صوتها وحينها جاهد لكتم تفسيراته لطريقتها وسألها باهتمامٍ حاول جعله طبيعيًا يواري خلفه الفضول:
_طب وهو أنتِ يهمك يعني يا “رهف” إنه يكون هنا؟.
حسنًا هو دومًا يملك البراعة في قراءة الأشخاص، يبدو وكأنه يسكن رؤوس الجميع لكي يعلم ما يدور بداخلهم بهذه الطريقة وهي معرفتها به لم تكن فقط مجرد معرفة عابرة بل هي معرفة طويلة المدى، لذا سحبت نفسًا عميقًا ثم هتفت بصدقٍ أمامه:
_كل الحكاية بس إني أتعودت على الشغل معاه هنا، عارف لما تكون في مدرسة كدا وكل اللي فيها مش شبهك بس مرة واحدة تلاقي حد شبهك أهلك نقلوه جديد ومن بين الكل تحس كدا إنك قادر تستوعب المكان؟ أنا مرتاحة وهو هنا، على الأقل حاسة إن فيه حد تبعك مش كلهم ضدك، بس الأريح ليكم تعملوه يعني، عن إذنك علشان متأخرش.
أومأ لها بأهدابه يعطيها الموافقة و أنتظر تحركها من أمامه وحينها ابتسم رغمًا عنه حينما فهم أنها تطمئن للأخر، كما أنه لاحظ تخطيها للكثير من الأمور السابقة المتعلقة بـ “حمزة” رحمه الله، بل هي حاليًا في مرحلةٍ أخرى وهي تتجاوز كل شيءٍ تعلق بماضيها.
__________________________________
<“الغاية هي أنتَ وفقط من بين كل العالم”>
في بيت “العطار”..
جلس “أيـوب” برفقة شقيقته التي منذ علمها بالأمر وهي تطلب منه الذهاب لزوجها لكي تؤازره وتكون برفقته، ولأول مرة تفهم معنى أن تكون زوجة ويتوجب عليها أن تكون معه في هذه المرحلة، تعلم أنه ربما يكون ضائعًا عن الجميع إلا هي لن يضيع معها، وإن حدث الأمر وضاع من المؤكد ستمد يدها له وتنتشله من حزنه، حتى وإن كان يشعر وسط الجميع بالغُربة فهي ستصبح له سكنًا…
ضمها “أيـوب” بحنوٍ كعادتهِ وجعل رأسها يتوسد صدره وهو يقول بنبرةٍ هادئة يدعم قرارها خاصةً بعدما علم ماحدث ومجيء “نَـعيم” إلى ابنه:
_إن شاء يوصلوا لحل وساعتها أنا متأكد إن وجودك هو اللي هيفرق معاه، الإنسان مننا علطول محتاج لحد يكون في ضهره ويقوله أنا معاك حتى لو أعترف بغير دا، دايمًا وإحنا لوحدنا عاوزين حد ميفارقناش، هو دلوقتي أكيد متلغبط ومشاعره كلها مضروبة في بعضها وأكيد اللي حصل دا كله مخليه تايه بس من وسط كل دول ممكن أنتِ لوحدك اللي تخليه يتقبل الوضع يا “آيـات”، وعد هخليكِ تروحي تشوفيه بس أنا بصراحة خايف من الصدمة يهبل أو يقولك كلام هو مش حاسس بيه، اللي أعرفه إنه من إمبارح مش في وعيه.
ما إن هتف تلك الجملة الأخيرة حينها أبتعدت عنه مسرعةً وهي تعاتبه بقولها باكيةً كونه لم يكترث بخوفها:
_أنتَ كدا بتطمني يعني؟ أنا كدا قلقت أكتر، طب هو ممكن باباه دا ياخده علطول؟ يعني ميخليهوش هنا معانا؟.
ابتسم على سذاجة تفكيرها وحينها ضحك رغمًا عنه وضمها من جديد وهو يقول بنبرةٍ هادئة ولازال وجهه مبتسمًا:
_على أساس إنه عيل في حضانة يعني أبوه هيخرجله مصاصة تخليه يجري عليه ويمشي، لأ أكيد باباه ميعملهاش، ولو عملها حقه يا “آيـات” لأنه أب عاش عمره كله محروم من ابنه، بس برضه دي كلها احتمالات وأفتراضيات ملهاش أي لازمة، فعلشان كدا سلمي أمرك لربنا وإن شاء الله كل حاجة تكون بخير، بس متزعليش نفسك هي فترة صعبة عليه وعليكِ وهتعدي.
في مكانٍ أخرٍ تحديدًا بشقة “تَـيام”…
كان يجلس أمام الجميع بعينين خاويتين وكأن النظرات فرغت منهم وأصبح في حكم الأعمى ولا يرىٰ سوى شيئٍ واحدٍ أمام عينيه وهو أن حياته عبارة عن كذبة كبيرة حاوطت الجميع، هذا يتحدث وذاك يوضح وذلك يقترح وهو يغيب عنهم جميعًا حتى انتبه لصوت حماه الذي جلس برفقة الرجال ومعهم أيضًا “جـابر” المتسبب في كل شيءٍ ورفيقيه معه وقد تحدث حينها حماه:
_دلوقتي يا حج “نَـعيم” أنتَ عرفت كل حاجة حصلت إزاي، منطقيًا كل دا كان وارد جدًا إنه يحصل وابنك كان هنا وسطنا ويعلم ربنا لو أنا كنت أعرف حاجة زي دي أكيد كنت دورت عليك لحد آخر نفس فيا، بس دا نصيب وربنا فعل ما شاء، له في ذلك حِكم، أحمد ربنا إن ابنك رجع من تاني، أظن لو على الدليل فهو معاكم أهو.
حينها حرك “نَـعيم” عينيه اللاتي لم يتحركا من عند ابنه وهتف بنبرةٍ حزينة أقرب للبكاء من كثرة ثقلها:
_على الله يا حج “عبدالقادر” بس أنا راضي والله، راضي إنه رجعلي وأنا لسه صالب طولي وقادر أقف على رجلي، أنا كان حلمي بس إني آخده في حضني وأموت بعدها، دلوقتي ربنا كرمني بأكتر من اللي أتمنيته، أنا بس عاوزه يكلمني، ويقولي إيه اللي يرضيه وأنا معاه في اللي هو عاوزه، بس يقولي إيه يريحه.
في هذه اللحظة رفع “تَـيام” رأسه يشمل الجميع بنظراتهِ ثم عاود النظر إلى أمـه التي لم يتوقف بكاؤها منذ أن بدأت هذه الجلسة، يعلم ما تشعر هي به، لقد أخبرته بها مرارًا وتكرارًا أنها لولا تواجده في حياتها لكانت مثل المجنونة من وحدتها، يعلم أنه يعني لها الكثير وهذه هي الحقيقة الموجعة، لذا ترك مقعده ثم سار إليها بخطى وئيدة كأنه ميتٌ يسير إليها وما إن وصل هتف بنبرةٍ محشرجة وكأنه يصارع لأجل الحديث:
_مالك؟ عمالة تعيطي ليه؟.
رفعت عينيها أخيرًا وما إن تلاقت النظرات ببعضها بكت وهي ترى وجهه وملامحه وكأنها تودعه بذلك، بينما هو جاهد لإخفاء دموعه وفي هذه اللحظة تمنى الموت أهون عليه مما سيتفوه به حين هتف:
_أنا مش قادر أحدد إحساسي ناحيتك، مش قادر أستوعب إن كل الحب اللي في قلبي ليكِ ممكن يكون كدب، غصب عني بحبك، وغصب عني أنا مش قادر أتعامل إنك مجرد واحدة أنا اتربيت عندها، بس أنا زعلان إنك كدبتي عليا، كان عندي أهون عليا إنك تعرفيني بدل ما أتحط في الوجع دا، كان أفضل ليا إني أعرف إني عيشت هنا معزز مكرم ودا مش بيتي أحسن ما أقف زي اللي مضروب فوق راسي وعمال أسأل أنا مين، و ليه اللي اسمه “سـامي” دا عمل كدا فيا، بس أنتِ معملتيش حاجة وحشة معايا، وأنا مش هقدر أرد جميلك في إنك السبب، بس أنا برضه مش هقدر أتخطى اللي حصل، ومش عاوز حد معايا.
نزلت عبراتها من جديد بينما هو أعتدل في وقفته ثم شملها بنظرة واحدة ثم أخفض جذعه للأمام واستقر بالقرب بوجههِ من رأسها ثم طبع قبلة أعلى رأسها ورافق هذه القُبلة دمعتان من كلا مُقلتيه، بينما هو أنهى هذا الفعل ثم التفت للجميع وهو يقول بنبرةٍ صبغها بالقوة:
_أنا كدا سمعت كل حاجة وعرفت أنا مين وأنتوا مين، بس أنا مش قادر استوعب ولا فاهم حاجة، وكل حاجة في يوم وليلة أتكركبت فوق دماغي، فأنا آسف إني مش هقدر أعمل رد الفعل اللي حد مستنيه مني، وآسف يا حج “نَـعيم” بس أنا عاوز وقت أفهم فيه اللي حصل، وحاجة أخيرة علشان مبقاش جاحد، أنا حاسس إني موجوع، عن إذنكم.
ألقى حديثه ثم التفت يولي الجميع ظهره لكن صوت “مُـنذر” أوقفه حينما هتف بأسفٍ شاعرًا بالخسارة الفادحة بمجرد استماعه لحديث ابن عمه، بدت وكأنها فرصته في إخراج همومه المُثقلة فوق صدره لذا هتف بنبرةٍ جامدة:
_عاوز تفهم إيه؟ ها؟ فيه إيه تاني محتاجه علشان تصدق إنك كنت محظوظ وأكتر كمان؟ مش عاجبك الحال دا؟ طب أنتَ اتربيت في بيت غيرك أتربى في غابة، أنتَ كان في ضهرك أب غيرك كان في ضهره حرب كاملة مفروضة عليه، زعلان إنك طلع ليك أب عاش مخلص عمر كامل ليك؟ غيرك أبوه رماه أول ما عرف بيه أصلًا، زعلان إنك ابن حلال وأبـوك وأخوك ظهروا؟ غيرك ابن حرام نتيجة غلطة من اتنين معندهمش رحمة، عاوز تفهم إيه؟ أعرفك بنفسي، أنا ابن عمك، ولو متعرفنيش، أنا ابن حرام.
كانت لحظة تهور منه لم يحسبها ولم يتوقع أن يثور بهذه الطريقة لكن حقًا جرحه أعمق من أن يتجاهله، الألم في روحهِ أكبر من قدرته على التغافل عنه، حينها لاحظ نظرات الجميع نحوه ومنهم “إيـهاب” نفسه الذي زفر بقوةٍ وهو يعلم أن هذا الشاب لن تنتهي معاناته بهذه السهولة، بينما “مُـحي” فرغ فاهه بذهولٍ وهو يسمعه وكأن اليوم منذ بزوغ فجره خُصص فقط لأجل المفاجآت وقد سأله بنفس الدهشة التي أعتلت ملامحه:
_ابن عم مين؟ اللي أعرفه إن عمي معندهوش عيال لأنه متجوزش، بعدين إزاي وأنتَ ابن عم “إيـهاب” و “إسـماعيل”؟ معنى كلامك دا إنك حصلك زي اللي حصل لـ “تَـيام” كدا؟؟.
ابتسم له “مُـنذر” بوجعٍ وهتف بسخريةٍ يواري خلفها الوجع الظاهر عليه أو ربما البركان الثائر بداخله:
_ ماهو أنا قولتلك إني ابن حرام، وياريت لو الموضوع بس على قد إني حصلي زي اللي حصل لأخوك، بس أنا كدا خلصت مهمتي ووصلت الابن بأبوه وصلحت الغلط اللي حصل بسبب راجل المفروض إنه أبـويا، عن إذنكم.
ألقى حديثه ثم خرج من البركان الثائر من مرقده دون أن يكترث بالبقية، بينما “تَـيام” فشعر بالذنب لأجل هذا الشاب ولأجل الجميع وهم ينتظرون منه فعلًا لم يقو هو على تقديمه، وقد لاحظ نظرة والده له قبل أن يستند على عصاه وما إن وقف حينها هتف بنبرةٍ كانت هي القشة التي قسمت ظهر البعير:
_كدا يا بني أنتَ عرفتني وأنا عرفتك وأنا وعدتك مش هفرض نفسي عليك، بس أبقى أسمحلي أجيلك وأشوفك وأملي عيني منك، ووعد أنا عمري ما هجبرك على حاجة وبيتك مفتوحلك في أي وقت، عن إذنك يابني.
هتف حديثه بوجعٍ وقد أشار لابنه و”إيـهاب” حتى يتبعانه إلى الخارج وخلفه خرج الجميع دون أي مزايدات على الحديث، الأمور تتعقد أكثر من السابق، والطرقات من جديد تفترق، لكن نظرة “مُـحي” لشقيقه قبل أن يرحل جعلت “تَـيام” يطالعه بأسفٍ كونه لم يقدر على إتخاذ الفعل المتوقع منه للبقية، وحينها أرتمى على الأريكة وأغمض عينيه هربًا من الواقع.
__________________________________
<“أنا هُنا معكَ، وبكل مافي أسمعك”>
في شقة “غَـالية” قد عاد “يـوسف” إلى أمـه
وجلس برفقة شقيقته وهي تضع رأسها على فخذه وأنامله تتحرك في خصلاتها مما جعله تشعر بارتخاء أعصابها بينما هو علم بكل ما حدث من “أيـوب” وكيف تقابل الأب والابن معًا أخيرًا، وقد شرد أكثر حينما تذكر كيف انقلبت حياته رأسًا على عقبٍ منذ أن وطـأت قدماه هذه المدينة، اليوم يجلس بجوار هذه الصغيرة التي تلعب في هاتفها، يعود في نهاية اليوم إلى أمـه، حينما يتوه يستهدي من جديد إلى طريق مدينته اللامعة…
في هذه اللحظة أتت “غالية” وهي تمسك الصينية المعدنية وعليها كوبي الشاي وما إن أقتربت منهما وضعت الصينية على الطاولة ثم هتفت بشفقةٍ على ذلك الرجل المسكين:
_والله يابني اللي يعيش في الدنيا دي ياما يشوف، أسألني أنا على حرقة القلب على الضنا، وإزاي الواحد من غير ما يعرف حاجة عنه كل يوم بيعدي بـ ١٠٠، بس برضه ربنا كريم ومش بيخذل حد، والخير اللي عمله معاك ومع باقي الشباب وفتح ليهم بيته وحفظهم في رعايته، ربنا ردله الخير في ابنه، صحيح هي صدمة لابنه بس لما يفوق ويستوعب اللي حصل ويتأكد إن دا أبـوه بجد، هيفوق لنفسه، دي بتبقى فرحة غريبة أوي، من فرحة الإنسان بيها مبيعرفش هو بيعمل إيه، ربنا يردله ابنه في حضنه من تاني.
ضحك لها “يـوسف” ثم رفع ذراعه لها حتى أقتربت منه أمه فقام هو بضمها هي الأخرى ثم لثم وجنتها وهتف بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم لها:
_أنا عارف علاجه فين، وواثق إن بكرة “تَـيام” هيروح لأبوه بس الليلة دي تعدي صح، أما بقى فرحة الحج فأنا عارف إنه مش هيقدر يتحكم في نفسه من فرحته علشان كدا ممكن بكرة الصبح ييجي لابنه بنفسه، والله لو بأيدي أنزل وأقوله بس أسيب السما بنجومها وقمرها كدا وأروح فين؟ دا أنا بقى راجل مفتري.
ضحكت والدته له بينما “قـمر” رفعت عينيها له تسأله بسعادةٍ حماسية عن مقصد حديثه:
_أنا قمرها صح؟.
حرك رأسه موافقًا وهو يبتسم لها وكان الرد منها هي ضحكة واسعة أهدتها له بينما الأخرى مسحت على صدره وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_أنتَ وهي كل الدنيا عندي، ربنا يفرحكم وأعيش لحد ما أفرح بعيالكم كمان وأشيل ولادهم، وجودكم كدا مع بعض عندي بالدنيا واللي فيها، ربنا ما يحرق قلب أم أو أب على ضناهم ويصبر كل موجوع.
في هذه اللحظة صدح صوت جرس الباب وقد تحرك “يـوسف” نحو الباب يفتحه فوجدها أمامه تبتسم بتوترٍ وحينها هتف بسخريةٍ:
_المرة اللي فاتت كانت لبن، المرة دي إيه؟.
في هذه اللحظة أظهرت زراعيها من خلف ظهرها ومدت كلا كفيها بالطبق الذي كانت تمسكه ثم أعطته له وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_دا سينابون أنا عملاه، يا رب يعجبك ويعجب طنط و “قـمر” على فكرة معمول كله في البيت فأكيد هستنى رأيك علشان دي أول مرة أعمله هنا، بألف هنا.
توسعت بسمته لها وهتف بنبرةٍ ضاحكة يمازحها:
_حلو إننا جيران كدا، الموضوع ممتع، وأكيد هيعجبني يعني علشان أنتِ مبتعمليش حاجة وحشة، وعلشان أي حاجة مهما كانت عادية فهي أكيد مذهلة منك، وأنا واثق إنه مذهل مش حلو بس يا “عـهد”.
تضرج وجهها من الخجل بسبب إطرأه عليها بهذه الصراحة وحينها رحلت من أمامه بعدما ودعته فيما نظر هو في أثرها بعينين فاض منهما الشوق ولو كان الأمر بيده لكان أدخلها شقته وحفظها بجوار شقيقته وأمـه ليصبح أكثر الرجال أمنًا بهذا العالم.
في الداخل ظلت “قـمر” تتصفح الهاتف حتى قابلها المنشور الذي أضافه “أيـوب” منذ دقائق كاتبًا عبر صفحته الشخصية أحد أبيات الشعر العربي وكأنه يختصها هي به حينما أقتبسها من الشاعر “العباس بن الأحنف”:
_”أَلا أَيُّها القَمَرُ الأَزهَرُ
تَبَصَّر بِعَينَيكَ هَل تُبصِرُ
تَبَصَّر شَبيهَكَ في حُسنِهِ
لَعَلَّكَ تَبلُغُ أَو تَخبُرُ
فَإِنِّيَ آتيكَ وَحدي بِهِ
وَأُفضي إِلَيكَ بِما أَستُرُ
زُبالَةُ مِن دونِهِ وَالشُقو
قُ وَالثَعلَبِيَّةُ وَالأَجفُرُ
وَطالَ المَغيبُ وَشَطَّ الحَبيبُ
وَما أَستَفيقُ وَما أَصبِرُ”
حينها ابتسمت ما إن رأت اسمها في القصيدة وكأن الاسم يزداد جمالًا بهذه الطريقة المُميزة وحينها قامت بمشاركة المنشور وأضافت فوقه رمزًا تعبيريًا على هيئة قمرٍ وظلت تقرأ القصيدة عدة مراتٍ حتى كادت أن تحفظ كلماتها بداخله قلبها وأعتبرتها هدية مميزة منه يختصها بها ناهيك عن ضربات القلب التي تتقافز بسرعةٍ كُبرىٰ خلف بعضها.
__________________________________
<“كل الحقائق متوارية خلف حقيقة أخرى قاتلة”>
في منطقة نزلة السمان..
وصل “نَـعيم” إلى بيتهِ خاوي الوفاض حينما عاد بدون ابنه وتبخرت كل آماله وأصحبت سرابًا، من الأساس هو وضع ذلك الإحتمال لكنه لم يظن أن تفاعل مشاعره معه يكون قاسيًا لهذه الدرجة، لكن القلب لم يحزن منه بل بحث وجال عن العُذر لابنه كونه يتقبل هذه الحقائق الصادمة له…
أما “مُـحي” فعاد والحزن معه يرافقه بعدما فشل في استعادة شقيقه، شقيقه الذي لم يسبق له ويعرفه، ولو كان يعلم أن الحقيقة بظهورها ستقلب الأمور بهذه الطريقة لكان تمنى أن تبقى سرًا في القلوب وتظل العلاقة كما هي دون أن يتزعزع ثباتها، لكنه أيضًا لم ينس حديث “مُـنذر” وأنه قريبه؟ منذ متى وهذا الغريب عن الديار أصبح بمثابة الشقيق له؟ ما هذه الحقائق الصادمة التي لم تتوانى في ظهورها؟ هل هو الغبي الوحيد الذي لم ينتبه لما يصير حوله؟ أم أن الجميع مثله؟.
دلفوا البيت كلٌ منهم بحالٍ غير الأخر وكل يبكي على ليلاه، الجميع في حالة قلقٍ وخوفٍ وخيبة أملٍ وقد حل الليل وعاد كلًا من “إسماعيل” و “سـراج” من العمل حينما هاتفهما “إيـهاب” وأخبرهما بضرورة الحضور، وعليه جلسوا في ردهة البيت المصممة على الطراز العربي تقريبًا أشبه بالطراز المصري القديم وحينها كانت النظرات تتتوق لسماع الحوار بأكملهِ ومع ازدياد نظرات الفضول تولى “إيـهاب” مهمة التحدث وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_اللي حصل كله إن الحج الحمدلله لقى ابنه بعد كل دا، وأتأكدنا إن هو، واللي لقاه “مُـنذر” بصفته ابن أخو الحج، فدلوقتي ابن الحج طلع “تَـيام” جوز أخت “أيـوب” و ابن أخو الحج هو “مُـنذر الموجي” اللي المفروض إنه ابن عمي، دلوقتي “تَـيام” مصدوم ومش قادر يفكر صح، و “مُـنذر” تعب بعد كل دا وفاض بيه ودا حقه،. محدش فينا هيقدر يلوم على حد، أظن كدا فهمتوا حصل إيه.
توجهت الأبصار بأكملها نحوه وخاصةً “إسـماعيل” الذي اندهش ما إن وصل الحديث لسمعه بشأن هوية ابن عمه وهوية “تَـيام” الذي تسببت في دهشة الجميع ومعهم “سمارة” التي هتفت بتعجبٍ:
_طب ولما هو عرف أبوه مجاش ليه؟ وحتى لو مصدوم بس دا أبـوه، بعدين إيه اللي وداه هناك؟ هما كانوا عاملين بدل؟ “يـوسف” هنا وابن الحج هناك عندهم؟ دا كلام يدخل العقل؟.
تحدث “نَـعيم” يجاوب على حيرتها بنبرةٍ منكسرة لا حياة فيها ولا روحٍ حتى تسعفه بقليلٍ من القوة:
_أمر ربنا يا بنتي، والحمدلله إنه هناك مش في مكان تاني، أنا بس كان نفسي ييجي يبات في حضني الليلة دي، أنا متحرمتش منه شوية برضه، بس برضه مش هغلب، ربنا رضاني بعد العمر دا كله ومش هينفع أجحد فضله عليا، مش بعد ما طلع عايش وقلبي أتطمن أنه بخير أرجع تاني أطمع، أنا راضي وإن شاء الله عن قريب هضمه في حضني مع أخوه، وبعدين أنتوا كلكم ولادي أهو.
هتف جملته الأخيرة بابتسامة موجوعة أعربت عن الشق الذي أصاب روحه بهذا الموقف، لكن نظرات الشفقة لم تتركه بل تركزت عليه وأولهم “إسماعيل” الذي ترك مقعده وأقترب يجلس على عاقبيه أمام “نَـعيم” وهتف بنبرة صوتٍ يدعمه به:
_صدقني هي صدمة مش أكتر ولا أقل، مجرد وقت بس يستوعب اللي حصل وساعتها هو بنفسه هيجيلك لحد عندك، ابنك طيب وباين عليه، مستحيل يكون كارهك أو مش عاوزك زي ما أنتَ فاكر، كل ما في الموضوع إنه بيتقبل إنه ليه أب وأخ، ومش أي أب كمان، دا “نَـعيم الحُصري” بعدين لو عاوزه شاور وأنا آخد الرجالة ونجيبه لحد عندك هنا، بس متزعلش نفسك كدا، أنا مبحبكش تزعل.
ابتسم له “نَـعيم” بعينين دامعتين ورافقت هذه العبرات بسمة عذبة زينت محياه وقد تحدث “سـراج” بنبرةٍ ضاحكة يمازحه:
_طب أقسملك بالله أنا شكيت إن فيه حاجة غلط ساعة كتب الكتاب لما شوفتك حاضنه وهو حاضنك وأنتَ ماشي، وأقسملك بالله أنا قولت إن الواد دا هييجي هنا وأنتَ هتضمه للمنتخب معانا، ماكنتش أعرف أنه هيبقى الكابتن، مبروك يا حج رجوع ابنك، وشوف هترجعه وترجع حقه تاني ازاي.
في هذه اللحظة أنتبه “نَـعيم” للحديث وكأن الأخر لفت نظره لذلك لذا تبدلت نظراته من الصفاء إلى أخرى يخشى كل من ينظر لها، نظرة انقلبت للتوعد والإنتقام وحينها زفر بقوةٍ ثم أغمض عينيه وأنسحب من الجلسة هربًا من الجميع ولم تتبعه سوى نظرات “مُـحي” المشفقة عليه.
بدأوا الشباب في التحرك خلف بعضهم بحيرةٍ بلغت مبلغها عليهم عدا “إيـهاب” الذي جلس على المقعد كما هو بملامح شاردة لكنها كعادتها أتت تجاوره وهي تقول بنبرةٍ هادئة بعدما وضعت كفها على كتفه:
_مالك أنتَ كمان؟ أوعى تكون فيه حاجة مزعلاك؟
انتبه لها “إيـهاب” وحرك رأسه نفيًا فوجدها هي تبادر بالهدهدةِ له وحينها ضمت رأسه تضعها عند موضع نبضها حتى أغمض عينيه هو يقتبس منها السلام فوجدها تُخلل أناملها في خصلاته تمسح فروته وتدلكها بكفها فوجدته يقول بنبرةٍ ضائعة:
_كان نفسي أساعده وأخلي أبنه وابن أخوه معاه في حضنه بس مقدرتش، أول مرة أقف عاجز كدا، وبصراحة أنا مقدر مشاعر ابنه، وفي نفس الوقت حاسس بيه إنه أب وعاوز ابنه في حضنه، مش عارف يا “سمارة” بس نفسي أردله جميله اللي عمله معايا، نفسي أساعده، بس لأول مرة أقف حيران حتى قصاد “مُـنذر” لقيته برضه مكسور، الناس كلها موجوعة، لا اللي عنده أهل مرتاح، ولا اللي معدوم منهم مرتاح.
ابتسمت هي رغمًا عنها وهي تعلم أن الحديث الذي ستتفوه به يخرج من لحظته الخاطئة لكنها قررت أن تبوح له بقولها:
_طب والله ما حد بيرتاح غير لما يلاقي حبيبه في الدنيا دي، غير كدا كله أونطة، فكرك يعني كل الناس اللي عندها أهل دول مرتاحين؟ ولا حتى اللي ملهمش حد خالص مرتاحين؟ طب ما أنا أهو كان عندي أب ومعرفتش الراحة وهو عايش، ومات وسابني بطولي وبرضه معرفتش الراحة وهو ميت، ومشيت في وشي من الغلب اللي هو كان سبب فيه، وقصاد كل دا أنا أرتاحت معاك أنتَ، وبقيت محمية فيك أنتَ، والعمر كله يهون فداك أنتَ، بس ركز معايا أنتَ.
هتفت جملتها الأخيرة بنبرةٍ ضاحكة جعلته يضحك هو الأخر رغمًا عن حزنه وحينها أبعد رأسه عن جذعها وهتف بنبرةٍ هادئة:
_طب على فكرة أنتِ وحشتيني أوي.
ضحكت له ثم حركت رأسها بدلالٍ وهي تقول:
_عارفة إني وحشتك وإنك من غيري ضايع، دا أنا “سمارة” العين والقلب يا “عمهم” طب والله بكرة هتشوف بنفسك البيت دا مليان زغاريط بفرحة رجوع الغايب، روق بس على حالك وولع سجارة كدا خرج فيها همك، وتعالى ناكل علشان أنا جعانة أوي.
تصنعت البكاء الزائف في نهاية حديثها حتى ترك هو موضعه ثم سحب كفها وأوقفها معه وهما يتجها نحو الداخل ووضع يده على كتفها أثناء سيره وهو يتحدث معها عن الطعام بمنتهى الجدية لعله بذلك يرتاح من العبء الثقيل الذي يُخيم فوق صدره.
__________________________________
<“لست بحرية الطير، أنتَ مسجون مثل الأسير”>
الطيور تطير ثم تعود من جديد لأرضها
تمشي وتغيب لكنها لم تُطل في هجرها…
تعود حيث منزلها الأول وتسكن أينما استقر عشها، لكن في نهاية الأمر هذه مجرد طيور لم تعرف سوى الحرية، وهذا المسكن حسب نفسه منهم وظن أنه يمكن له أن يطير، فتفاجأ بنفسهِ مُكبلًا مثل الأسير، الليل أتى والطيور عادت لبيتها وهو يراقبهم ويود أن يسألهم كيف يفعل مثلهم ويعود حيث منزله الأول، كيف يكون الأمر بهذه السهولة وهو هنا أصبح مكبل الأيدي حتى الطيور التي قام بتربيتها تفوقت عليه في تعلم دروس الحياة…
نزلت عبرات “تَـيام” يشفق على حاله وكأن القلب يواسي صاحبه بهذه العبرات التي يظهرها ليخبره أنه معه ولم يتركه، وحينها شعر بالضيق يُخيم عليه لذا أغلق باب مبيت الطيور وأغلق الإضاءة ثم نزل من السطح نحو الشارع مباشرةً…
في مكانٍ أخرٍ تحديدًا بحديقة بيت “العطار”..
جلس “أيـهم” وهو يحمل ابنه بين ذراعيه والآخر نام وهو يستند برأسه على كتف والده وقد أتت “نِـهال” تجلس بجوارهِ وهي تقول بنبرةٍ هادئة مشفقة على زهرة هذا البيت:
_للأسف هو مش بيرد عليها وهي زعلانة، أنا خايفة يكون فاهم غلط وعاوز يبعد عنها يا “أيـهم” أو اللي حصل دا يغيره من ناحيتها، معقول كل اللي حصل دا مخلاش حاجة تتحرك جواه؟ حتى لو مشاعره غريبة عليه، بس المفروض يطمنها حتى، مش كفاية رافض إنها تشوفه في حالته دي؟.
زفر “أيـهم” بثقلٍ ثم هتف بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:
_أنا لما شوفت شكله وهو بيسمع اللي حصل صعب عليا وحسيت بيه، رجع زي عيل صغير يتيم ملهوش حد، رغم إن اللي حصل دا العكس، بس هي مشاعر مش مفهومة وسبحان الله القلوب دي بتحس بكل حاجة، وهو حاسس بكل حاجة حواليه مش شبهه، أمه اللي أتربى في حضنها مش أمه، وأبوه اللي هو شايل اسمه مش أبوه، وليه أب وأخ، وعمه خده يفتح بيه مقبرة ويدبحه على بابها، حاجات كتير صعبة مقارنةً بحياة واحد زي “تَـيام” بسيط وواخد على البساطة يا “نِـهال”، حياته عادية أقصى مشكلة فيها كانت إن خالته بتعاند فيه، كل دا مش سهل عليه، بس أنا عارف إنه عاقل وأكيد مش هيتغاشم.
حركت رأسها موافقةً ثم مسحت على ظهر “إيـاد” بين ذراعيه وهتفت بنبرةٍ هادئة:
_عارف؟ ربنا كريم أوي، وأنا أكتر واحدة مقدرة إحساس مامة “تَـيام” وأكتر واحدة فاهمة مشاعرها، لأني عارفة ومقدرة موقفها إيه وهي محرومة من نعمة زي دي، فأنا مش هقدر ألومها أصلًا، إذا كنت أنا أهو وبتمنى “إيـاد” ينسى أمه اللي حملت فيه ويعتبرني أنا أمه اللي شيلته في بطني، كلهم معذورين والله، وربنا يهون عليهم ويصبر قلوبهم.
أبتسم لها “أيـهم” ثم أخفض رأسه يطالع وجه صغيره وكأنه استشعر حجم الألم الذي يُغدق ويملئه المرء حينما يفقد العزيز على قلبه، وقد شرد أكثر في وجه صغيره حتى صدح صوت جرس البيت وقد تحركت “نِـهال” تفتح هي الباب ظنًا منها أن الطارق “أيـوب” لكنها تفاجئت بوجود “تَـيام” أمامها وحينها تحدث هو بنبرةٍ خافتة ينبس بقولهِ:
_ممكن أشوف “آيـات” لو سمحتي؟.
حركت رأسها موافقةً ثم أشارت له أن يدلف البيت وما إن دلف خلفها وجد “أيـهم” أمامه وهو يحمل ابنه مُرحبًا به، وللأسف لم يكن كعادته بل كان في وادٍ غير وادي الناس، الذبول بدا واضحًا عليه، ملامحه بُهِتت تمامًا، كان يرتدي ملابس بيتية، ولم يمازح صديقه أو يرد على تحيته كما اعتاد، بل ظل صامتًا حتى شعر بها أمامه…
حينها رفع رأسه على استحياءٍ منها وكأنه يتوسلها بعينيهِ ألا تتركه، أراد أن تكون هي الوحيدة التي تبقى بطور الحقيقة وسط كذبات العالم، أراد أن يأنس بقربها في ألفةٍ لم يجدها في كل العالم من حوله، حينها أشارت “نِـهال” لزوجها وقد تركا المساحة لهما بمفردهما وحينها ضمها “تَـيام” بقوةٍ وكأنه يلتحد بها هي أمنًا من القسوةِ، تمسك بها وكأنها أخر الآمال المُتبقية له، ضمها وكأنه الغيث لأرضٍ قاحلة وحينها هتف بنبرةٍ مختنقة:
_ضيعت ولقيت نفسي جايلك هنا، معرفتش أروح مكان تاني ولقيت نفسي بجيلك أنتِ، وسط كل اللي حصل دا، كل حاجة طلعت كدب ومفيش غيرك الحاجة اللي قلبي أعتبرها حقيقة يا “آيـات” أنا مش عارف حاجة وحاسس إني خايف، لو تقدري طمنيني أنتِ، علشان كلهم خوفوني.
بكت بين ذراعيه ورفعت كفيها تمسح على ظهره وهي تقول بنبرةٍ باكية:
_أنا معاك أهو، قول اللي في نفسك واللي حاسس بيه ووعد مني أطمنك بإذن الله، متخليش الشيطان يعميك عن الحلو يا “تَـيام”، بص خرج اللي جواك كله وقولي مالك وأنا هسمعك وأقف معاك وأساعدك في أي حاجة، بس بلاش تعمل كدا في نفسك، أرجع تاني “تَـيام” اللي بحبه اللي وشه مش بيبطل ضحك ولا هو يقدر يسلم نفسه للزعل.
عاد للخلف يملأ عينيه بوقوفها أمامه فوجدها تبتسم له وهي تقول بنبرةٍ هادئة أعربت عن حكمتها:
_صدقني أنا حاسة بيك، ومن إمبارح مش النهاردة بس، وربنا يجعل الدعاء كله نصيبك ويستجب ليا، وأنا واثقة إن ربنا سبحانه وتعالى أرحم على العباد من قلوب العباد، صدقني فيه خير كتير أوي ورا موضوعك لسه أنتَ مش فاهمه، بس ربنا سبحانه وتعالى مدبر كل شيء وأكيد اللي حصل دا خير ليك أنتَ، يبقى نقول الحمدلله ولا نجحد فضل ربنا علينا؟.
حقًا كما لقبها هو تستحق أن تكون ملاكًا، فبمجرد حديثٍ من فمها مسحت على قلبهِ وطمئنته بما لم يُقال من الآخرين في حالته هذه وقد تذكرت أمرًا مر عليهما في بداية علاقتهما سويًا وحينها هتفت بلهفةٍ تحاول أن تزيد من طمئنته:
_فاكر لما أتقدمت ليا وطلبت مني أصلي استخارة؟ أنا صليت ساعتها وكنت مرتاحة أوي بس شوفت رؤية حلوة وهي إنك بتمد إيدك ليا وبتشاورلي على مكان كله خيول وعمال تطلب مني أروح معاك، ساعتها أنا فهمت إنك الفارس اللي هييجي على الحصان الأبيض، بس بعدها طلعت الخيول دي مكانك الأساسي وأنا شوفته في الرؤية بس خوفت أقولك تتريق عليا، مطلعتش “علاء الدين” زي ما باين عليك، طلعت أمير القصر كله.
ابتسم رغمًا عنه وضمها من جديد وهو يمسح على ظهرها وكأنه يمتن لها بذلك بينما هي وضعت رأسها على كتفهِ ورفعت ذارعيها وهي تُربت عليه ورافق حركتها هذه قولها الهاديء:
_”أيـوب” كان متأكد إنك هتيجي الليلة دي ليا، ومتأكد برضه إنك طيب ومش هتسلم دماغك للشيطان وبيقولك لو حاسس إنك تايه أنتَ عارف مكانه، روحله وهو هناك مستنيك، بس روحله أنتَ والبيت هناك مفتوح، دي رسالة هو سابها ليك.
ابتعد عنها يضيق جفونه لوهلةٍ وهو يقوم بإعادة تدوير الحديث في رأسهِ وكأن هذه الرسالة قامت بإغاثته من ضجيج نفسه، هذا الضجيج الذي يدور برأسه ولم يتوقف، شعر هو بمجرد الرسالة المتروكة له أن هذا الضجيج مثل النيران التي خمدت ما إن طالتها المياه.
__________________________________
<“أنتَ من بدأت اللعب معنا، لا تحزن عند مجيء دورك”>
الساعة اثنا عشر صباحًا..
في منطقة الزمالك تحديدًا بمقر بيت “الراوي”، نام أهل البيت بأكمله ولم يبق سوى هذا البغيض الذي يخطط بكل مكرٍ في الحصول على المال والسُلطة وكل شيءٍ حُرِمَ منه بسبب بيئته، وقد ظل جالسًا بحديقة البيت حتى صدح صوت جرس الباب فتحرك نحو الباب يفتحه ليجد أمامه الغريم الأزلي الذي نشأت العداوة بينهما منذ بداية المعرفة..
رفرف “سـامي” بأهدابهِ وهو يرى أمامه هذا الغريم في عقر داره بمنتصف الليل وحينها نطق مستنكرًا تواجده:
_”نَــعيم الحُصري” !! غريبة دي.
ابتسم الأخر بزاوية فمه وهتف بنبرةٍ تهكمية:
_مش غريب إلا الشيطان ابن العالمة اللي هو أنتَ، بس معلش على العموم دي حاجة مش جديدة على صنفك ***** يا “سامي” على العموم أنا جيت بس أقولك ابني رجعلي تاني، وعرفني وعرفته وخدته في حضني ودي أول البدايات، تانيها إني عرفت اللي أنتَ عملته في ابني وفي ابن أخويا وأنتَ بتتاجر فيهم كأنهم بدل رقص أمك، بس اللي متعرفهوش إني عزيز النفس وحقي وحق اللي مني مبيضيعش، بس أنا مش هقتلك ولا هسجنك ولا حتى هقرب منك، أنا هخليك كل يوم تفكر كدا هيحصل فيك إيه وأنا وكيفي بقى، وزي ما حرقة قلبي على الغاليين أنا هحرق قلبك على اللي ليك، وصدقني أنا مش بتاع كلام، وإذا كان الكلام بتاع العيال والفعل للرجالة، فمحسوبك أبو الرجالة كلهم بعمل وأقول، ومبروك عليك عدواتي يا ابن الغازية، تصبح على هم ملهوش أول من آخر.
هتف حديثه وأخرج ما بجبعته بملامح قاتمة ونظرات ثابتة لم توحي بالمزاح أو حتى التهديد، بل هي نظرة ثقة نتجت عن شخصٍ يبدو أنه حقًا فعل وآكد فعله، وكما حضر بيسرٍ رحل بنفس المنوال ليترك الآخر حائرًا على أعتاب البيت وخلفه زوجة ابنه تستمع لحديثهما سويًا وما إن ربطت الأطراف ببعضها ذُهِلت تمامًا لكنها وارت جسدها خلف العامود الحجري وهي ترى دخول الآخر مثل الإعصار في البيت، وقد لاحظت غياب زوجها عن البيت بأكملهِ وهي التي قررت أن تنزل وتبحث عنه بنفسها لتصطدم بهذه الحقيقة.
__________________________________
<“لم يكن هو صاحب الذنب لكنه دفع ثمنه”>
أصواتٌ عالية تضرب في المكان..
ضجيج مزعج يضرب الآذان، أجساد تتمايل وتتراقص، أوراق نقود تُرمى على أجساد الساقطات، الألوان تتغير وتتبدل وهي تتعامد مع بعضها في هذا المكان شبه المُظلم، المشروبات المُحرمة متاحة بكل حرية، أشخاص أغرتهم الدنيا ليركضوا خلف أهوائهم وملاذاتهم تاركين خلفهم الهدف الأساسي من رحلة المرء في هذه الحياة، والكثير والكثير هنا في مكانٍ تعجه المُحرمات يسمى الملهى الليلي..
كان “نـادر” يجلس على الطاولة الرخامية القصيرة أمام ركن المشروبات الكحولية ولم يصل للثمالة أو لم يتجرع من هذه المشروبات من الأساس، هو فقط أراد أن يهرب إلى هنا من نفسه ومن الجميع، وحينها تذكر حديث “يـوسف” معه وكيف يتعمد إهانته، هذا الذي يحب الجميع ويكرهه هو وفقط، وأثناء انغماسه في حالة الشرود هذه وجده أمامه يرمقه بغيظٍ وحينها ابتسم ساخرًا وهو يقول بنبرةٍ تهكمية:
_خير؟ جاي تاخدلي إذن بدري وأروح معاك؟.
رمقه “يـوسف” بسخطٍ وهتف يقلل منه كعادته:
_أنا جاي علشان أمك اللي أتصلت تترجاني أروحك ليها، ودي غصب عني مقدرش أقولها لأ لأني للأسف وعدته مرفضش ليها طلب وأخلي بالي منها، فياريت تلم نفسك وتقوم تروح لأمك علشان أنا جيبت أخري منكم، وخلاص كل ما أحاول أخرج نفسي براكم ألاقيكم بتشدوا فيا تاني، قوم يالا فوق وغور من هنا.
ضرب “نـادر” سطح الطاولة الرخامية أمامه وهتف بنبرةٍ عالية لتصل للأخر من وسط الموسيقى وهو يقول بانفعالٍ:
_وهي جايباك أنتَ ليا؟ وصي عليا سيادتك؟ جايبة أكتر واحد بيكرهني وتقوله يروحني ليها؟ مش هروح، وروح أنتَ بيتك ولو كلمتك قولها ماليش دعوة بيه، وبطل تتفضل عليا كل شوية، ريحتك كدا؟ أمشي وسيبني في حالي أنتَ كمان.
حينها حقًا علم “يـوسف” أن هذا الماثل أمامه لم يكن في حاجةٍ إليه كما أن الثمالة لم تُبدىٰ عليه لذا قرر أن يتركه قبل أن يقوم بتفجير رأسه في هذه الطاولة، حسنًا هذا البغيض استطاع أن يثير الانتقام بداخلهِ وتصفية الحسابات القديمة قبل البدء في الحسابات الختامية لهذه العائلة وقد عاود الخروج من هذا المستنقع وجلس في سيارتهِ.
بعد مرور ساعة تقريبًا خرج “نـادر” من المكان وقد كرهه هو الأخر وأراد أن يعود إلى البيت قبل أن تقلق عليه أمه أكثر من ذلك، خرج وأخرج مفاتيح سيارته وهاتفه واستعد للتحرك للجهة الأخرى تجاه سيارته لكن السيف قد سبق العزل وأتت سيارة أخرى وأطاحت به على الطريق ليهوىٰ جسده مُجددًا فوق الأرض الأسفلتية وقد هربت السيارة من المحيط بأكملهِ وهذا الشاب هنا غرق في دمائه بمفرده في طريقٍ مظلم وسط عتمة الليل وصفوف السيارات الفارغة، وفقط صوت نباح الكلاب وسط سكون الليل هو الذي خرج بالتزامن مع ارتجافة جسده وهو يحاول فتح فمه وعينيه صرخًا لطلب الاستغاثة.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)