رواية غوثهم الفصل الثالث والثمانون 83 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الفصل الثالث والثمانون
رواية غوثهم البارت الثالث والثمانون
رواية غوثهم الحلقة الثالثة والثمانون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثالث والثمانون”
“يــا صـبـر أيـوب”
_____________________
إِني بُلِيتُ بِأَرْبعٍ مَا سُلِّطُوا
إِلاَّ لأَجْلِ شَقَاوَتي وَعَنَائِي
إِبْلِيْس والدُنْيَا ونَفْسِي وَالهَوَى
كيفَ الخََلاصُ وكُلُّهُم أَعْدَائِي
إبْلِيْس يَسْلُكُ في طَرِيق مَهَالِكي
والنَّفْسُ تَأْمُرُني بِكُلِّ بَلائِي
وأرَى الهَوَى تَدْعو إليه خَوَاطِري
في ظُلْمَة الشُبُهَاتِ وَالآراءِ
وزَخَارِفُ الدُنيا تَقُولُ أما تَرَى
حُسْنِيْ وفَخْرَ ملاَبِسِي وَبَهَائِي
“مالك بن دينار”
__________________________________
السلام عليك يا أيها الغريب،
يا من أصبحت في القلب بمقام كل حبيب..
أولًا قبل بداية الكلام دعني أطلب من المولىٰ لكَ الرحمة ولقلبك السلام، ومن غَيركَ يستحق من كل حروب الدنيا وشرورها أن ينعم بالسلام؟
ومن غيرك أدخل الدفء لصقيع أيامي وملأ دنياي بالسلام، سواك أنتَ يا من جيئت حاملًا بين كفوفك الخير لي ولقلبي وأنتَ وحدك فقط من بين كل الأنام..
أنا اليوم الطير وأنتَ الجناحان، فهيا بنا نطلب الحرية ونطير في كل الأوطان، ليس ضعفًا منَّا بل هربًا من حروب الدنيا وغوغاء النفس وضجيج رأسٍ أشبه بمدينةٍ سكنها الخوف
وحل فيها محل الأمان..
<“عاد الحق لأهلهِ، أيضيع حقٌ خلفه مُطالبٌ؟”>
رفع كفه يأخذ من الورقة أو ربما الحياة التي طُوت بين ورقة صغيرة قد تتسبب في عودة الروح مُجددًا، أمسك الورقة وأغمض عينيه كمن يحصل على نتيجة الاختبار المصيري، وحينها صوته الداخلي حثه على فعلها وفتح الورقة أخيرًا ليجد بها أخر ما توقعه، وجد بها عنوانًا واسمًا بدا له مُبهمين وقد رفع رأسه للمرأة بذهولٍ يسألها بنظراتهِ، فتنفست هي بعمقٍ وهتفت بنبرةٍ مُحشرجة:
_دا عنوانها يا بني، واسمها واسم جوزها.
أعاد بصره للورقة مُجددًا يطالع العنوان الذي جمده محله وشله مُجددًا وسألها بضياعٍ كمن أختلط عليه واقعه بأحلامهِ:
_العنوان فين؟ واسمها إيه الست دي؟.
تعجبت المرأة من عدم قدرته على القراءة رغم أنه ظهر بعكس هذه الصورة وأضافت من جديد تلقي بحديثها حائرةً:
_مكتوب عندك يا بني، حارة “العطار” الست اسمها “نجلاء” وجوزها اسمه “صبري الشامي” ربنا يرحمه، وابن عمك اسمه “تَـيام”.
برق بعينيه للخارج فور وقوع الاسم بكافة بياناته عليه وحقًا أدرك أن الجهل في بعض الأحيان أرحم من معرفةٍ تتسبب في قلب الدنيا رأسًا على عقبٍ، أهذا هو ابن عمه؟ أين هو ومن هو وما هذا المكان الذي يجلس به؟ صدمة جمدته وكأنها سحبت منه الروح وجعلته جُثة هامدة فقط دون أن تمسها الروح، علا صوت نهيج صدره وجف حلقه وكأنه أصبح صحراء قاحلة ثم عاود النظر في الورقة مُجددًا ثم كرر الكُرة ورفع عينيه للمرأة التي رأفت بحالهِ وهي وأقتربت منه تمسح على كتفهِ وهي تقول بنبرةٍ باكية:
_هو دا ابن عمك والله، وكويس إنك جيت.
أغمض عينيه بشدة يردع نزول عبراته أمامهم أو ربما يكون أنهيارهِ وحينها جالت ألاف الاسئلة في ذهنهِ وحينها رفع رأسه يسألها بنبرةٍ ضائعة كحالهِ تمامًا:
_طـب وأنتِ بتدليني ليه بكل السهولة دي؟ بعد كل دا يطلع دا ابن عمي؟ طب وهي هتقبل إني اروح آخده منها؟ أبوس إيدك لو حد متفق معاكِ تلعبي معايا فأنا مش قد كل دا، أنا دوقت المر لحد ما جيت هنا، دي مفيهاش هزار، دي حياة ناس وأعمارهم كلها واقفة على حقيقة زي دي.
ابتسمت هي له وقدرت موقفه وكأنها ترى صغيرًا يتوسلها أن ترحمه وحينها تركته وتحركت بقدر ما سمح لها جسدها الممتليء الذي اتضح عليه السن وكِبر عمرها ثم سحبت المقعد البلاستيكي الأصفر وجلست عليه تواجهه بقولها:
_أنا مقدرة مشاعرك، بس “نجلاء” و “صبري” مش وحشين يا بني ولا ناس ظالمة، وأتطمن جوزها قبل ما يتوفى آمنها وحلفها على مصحف ربنا إن لو الولد دا ظهرله أهل متخبيهوش عليهم، علشان هي جربت حرقة القلب على ضناها لما بنتهم الكبيرة ماتت، لو روحت ليها هي مش هتمنع إن الواد يرجع لأبوه، بالعكس هتساعدك علشان دي وصية جوزها.
نزلت دموعه وأخيرًا أطلق أنفاسه المحبوسة داخل رئتيه، وفي لحظته هذه قدر حجم دراسته في المجال النفسي وأنه لولا قدرته على ترويض ذاته لكان الآن وقع صريعًا، وقد ضم الورقة في كفهِ وكأنه يضم ابن عمه بنفسهِ وحينذاك تحدث في هذه اللحظة زوجها “محروس” بقولهِ الحكيم:
_شوف يابني ربنا سبحان وتعالى ليه حكمة من كل دا، الواد دا كان ممكن يكون ليه مليون مصير صعب، أظن إحنا بنشوف الشارع مليان أشكال وألوان لعيال أخرتهم الموت أو السجن، بس دا ربنا لطف بيه وبأبوه إن بعد كل دا طلع حيٍ يُرزق وسط أب محترم وأم حطته في عينها، روح يابني شوف ابن عمك وفرح عمك اللي قلبه محروق على ابنه، ربنا يلطف بعباده.
مسح “مُـنذر” وجهه ثم أخرج الهواء المحبوس داخل رئتيهِ من جديد وتلك هي مرته الأولىٰ اليت شعر فيها أنه يتتفس حقًا، وقد أخذ رقم المرأة ورقم زوجها لكن قبلها ترك لها أموالًا نقدية حينما لمح حاجتهم لهذه الأموال وقبل أن تعترض هي أو زوجها حينها أصر بقولهِ دون أن يتسبب في أي حرجٍ لهما:
_أعتبريها حلاوة رجوع الروح من تاني، متكسفيش أيدي يا ست الكل، وألف شكر ليكِ، وشكرًا إنك ريحتي قلوب ماتت من الوجع والقهرة، بس ممكن متقوليش لست “نجلاء”؟ حاجة زي دي لازم تبقى وش لوش، ممكن لو سمحتي؟.
حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم له فيما ودعهما هو ورحل من المكان عكس ما دلف إلى هُنا، لقد أصبح شخصًا غير الذي دلف لهذه الأرض باحثًا عن نفسه وروحه، الآن تنفس أيها الشاب وحلق بذراعيكَ في الهواء كما الطيور التي تخرج من سجنها، الآن أنتَ عزيزٌ مثل الخيول، شامخٌ كما هم ظلوا شامخين، قاد سيارته نحو مكانٍ أخر بنفس المحافظة اسمه “بورفؤاد” تحديدًا هذا المكان الذي تمنى أن يزوره خاصةً مكان المياه هُناك.
وصل إلى هناك مبتسمًا لمرته الأولى منذ قطع العهد على نفسهِ أن يعود لعمهِ بحقهِ، اليوم هو يستطيع أن يرحم نفسه من جلدها ويرحم عذابه، وقد وقف أمام المكان المنشود بحيرةٍ ثم أقترب من أحد الرجال هناك يسأله باهتمامٍ:
_لو سمحت عاوز أركب المَعدية، منين؟.
أشار له الرجل نحو المكان الذي أراده وحينها تحرك إلى هناك وركب هذه المُسماة بـ “المَعدية” وهناك راقب المياه من حولهِ بعينيه، محافظة ساحرة بأماكنها المُميزة وأعتبر هو هذه النزهة مكافأةً له على إكتشاف اليوم، راقب الطيور فوقه وهي تحلق وكأنها تُحاكِ حال قلبه، الطيور حوله في كل مكانٍ وكأن اليوم هو المعروف بفك القيود، الليل بدأ يظهر والشمس توارى لونها خلف قمرٍ سبق وأخذ الضوء منها، والمياه تجري أسفله بأمر الخالق مدبر كل شيءٍ، فـ للّٰه نحنُ بالسفنِ بكل شيءٍ، والرياح حينما تأتي فهي تأتي بما أشاء الخالق.
هكذا حدث نفسه وهو يراقب المكان حوله بعينين دامعتين ورافقت هذه العبرات بسمات ارتسمت على الجفون لتكون بدلًا عن الشفتين اللاتي حافظتا على وضعهما، لو كان الأمر بيدهِ لكان ركض وتحرك نحو عمه، لكن ما عليه سوى أن يتريث في خطواته وينعم بهذه النزهة مختليًا بنفسهِ.
__________________________________
<“في بيتنا ضيفٌ جميلٌ اسمه الفَرح”>
لازالت أصوات الزغاريد في البيت تملئه وسط السعادة من أهل البيت وخاصةً “إسماعيل” الذي حتى لحظته هذه لم يتوقع أن يكون الأمر بهذه السهولة، وخاصةً حينما وقفت “عـهد” تلتقط لهما الصور سويًا بعدما طلبت منها “ضُـحى” في الخفاء بعيدًا عن الجميع وقد وافق “يـوسف” أن تقوم زوجته بهذا الدور، وضعت “عـهد” لمساتها في كل الصور التي أخذتها لهما لتكون الصور أقرب إلى اللوحات الفنية خاصةً حينما وضعت بينهما باقة الزهور وكأن طُرقهما تجمعها باقة زهور…
وقف “يـوسف” يراقب الجميع بعينيهِ مبتسمًا ولازال يتعجب ممن حولهِ، فمنذ عامٍ فقط كان يتمنى أن يجد الدفء وسط عالمٍ كمن رأه عند أحد أصدقائه، لم يتوقع أن تهديه الحياة عائلة كاملة يكون لها فيها دورًا رئيسيًا بهذا الشكل، والأهم من كل ذلك أن هذا العالم أركانه مكتملة، أمٌ تعشقه، شقيقة تراه بقدر العالم في عينيها، خاله الذي يعتبره الابن الكبير له، أبناء خاله الذي يقوم معهم بدورهِ كشقيقٍ لهما، زوجة أصبح يُـحب أصغر تفاصيلها، فتاة أصيلة لم تهتم في عالمها بأحدٍ سواه، فتاة يُـحق لها الدلال بقدر ما تشاء.
لاحظته “عـهد” ولاحظت عينيه المُبتسمتين فاقتربت منه تجاوره وهي تقول بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسمت له:
_سرحان في مين؟ أوعى تكون “شيريهان”؟.
ابتسم هو الأخر لها ثم طالع وجهها وهو يقول بصراحةٍ تعهدها منه في كل لحظاته معها:
_لأ، والله في الأحلى منها كمان.
حركت رأسها وهي تتتوق لسماع التكملة فأضاف هو حينما حرك رأسه للجهةِ الأخرى:
_في أمي، بصي مُزة إزاي؟.
تلاشت بمستها ولكزته في كتفه بغيظٍ منه وهو يعاندها حتى ضحك هو عليها ثم مال على أذنها يهتف بنبرةٍ هادئة وعميقة ورخيمة حملت معها من الدفء أطنانًا يدخله في قلبها:
_بس دا ميمنعش إنك حلوة أوي،
وأحلى من كل حاجة حلوة كمان يا “عـهد”.
ابتسمت له وهتفت بنبرةٍ مكتومة بسبب خجلها:
_شكرًا، أنتَ كمان شكلك حلو.
ابتسم بهدوء وهو يتعجب لنفسه كيف تكف كل الأصوات من حولهِ عداها هي؟ تُـرى كأن العالم أصبح شاغرًا من الجميع وهي البشرية الوحيدة التي تعيش بهذا العالم، منذ متى وهو ينتظر رد فعل من إحداهن وكيف أصبحت مجرد الحروف منها تكون عالمًا له؟ هذه هي المكافأة في نهاية المطاف؟ إذًا هي حقًا تستحق أن تمر بكل ما مررت بهِ.
أقتربت منهما “وعـد” شقيقة زوجته، وحينها حملها هو على أحد ذراعيه ثم لثم وجنتها وهتف بنبرةٍ هادئة يمازح بها زوجته:
_أنا بقول أفكني من أختك وأخدك ونهرب، تيجي؟.
حركت رأسها نفيًا وهتفت بنبرةٍ ضاحكة:
_لأ علشان لو مشيت “عـهد” هتزعل وأنا سمعتها بتقول لماما إن هي مش عاوزاك تمشي خالص، علشان بابا لما مشي هي زعلت، يرضيك “عـهد” تزعل؟ ولو زعلت هتعملها إيه؟.
خجلت “عـهد” من حديث شقيقتها الصُغرى التي لم يتخطى عمرها الثمانِ سنوات بينما “يـوسف” لثم وجنتها من جديد ثم نظر لزوجته يهتف بنبرةٍ هادئة وصادقة حينما أحتواها بعينيهِ:
_أنا مقدرش على زعل “عـهد”، ولو زعلت ليها العيون كلها وصاحب العيون كمان تحت أمرها بس هي تشاور.
تعلقت عيناها بعينيهِ تبتسم له بعينين مذهولتين ودامعتين وقد قطع تواصلهما “عُـدي” الذي رفع صوتهِ باحثًا عن أخيه لكي يشرف معه على تناول الطعام وتجهيز الطاولة الكبرى للرجال.
في المطبخ كانت “قـمر” تقف بجوار زوجها الذي عاونها بنفسهِ فيما تفعل بعدما أنشغل الجميع في الخارج ولم يخفى عنه حبها للإهتمام بالتفاصيل الصغيرة كما لاحظ مدى تفانيها في تولي الدور وتحمل المسؤولية لذا قرر أن يكون هو المرافق لها فيما تفعل، قام هو بترتيب الصحون ثم بدأ في إخراجها على الطاولة بالخارج وأصر أن يقوم هو بهذا الفعل دون أن يُتعب نساء البيت وكانت جملته للجميع هي:
_أنتوا من الصبح بتعملوا الأكل، هاتوا “قـمر” بس وهي تساعدني، الباقي يقعدوا ممكن؟.
حاولت “قـمر” أن تمد جسدها للأعلى حتى تحصل لمصفاة الأطباق كي تلتقط أحد الأطباق وحينها أقترب منها “أيـوب” وأخذه بدلًا عنها ثم وقف مقابلًا لها وهي تطالعه بتوترٍ من هذا القرب فيما هتف هو بنبرةٍ رخيمة لها:
_ما تقولي إنك عاوزة الطبق، بتحاولي وأنتِ قصيرة؟.
ابتسمت له بخجلٍ وكادت أن تبتعد عنه فوجدته يميل نحو أذنها وهو يُعاتبها بقوله الهاديء الرخيم:
_على فكرة أنتِ وحشتيني أوي، بقالك كام يوم مشغولة وسايباني، يرضيكِ أنا أتساب يعني؟ مكانش العشم.
رفعت عينيها نحوه تهتف بلهفةٍ تُبرر انشغالها عنه:
_والله العظيم “ضُـحى” سحلتني في الترويق والتجهيز والتحضير معاها وهي كانت بتروح شغلها، بعدين ما أنا شوفتك من ٣ أيام، صحيح من البلكونة بس شوفتك.
ابتسم هو لها ثم هتف بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم لها:
_طب خلصي ليلتك هنا علشان محضرلك مفاجأة.
تأهبت حواسها له وهي تسأله بعينيها فيما أقترب هو منها يُلثم وجنتها قُبلة مطولة جعلتها تبتسم بسعادةٍ وحينها أبتعد عنها وأعتدل في وقفتهِ وهتف بنبرةٍ ضاحكة:
_لأ مش هقولك ويلا يا سُـكر، شوفي بتعملي إيه.
عادت لما تفعل وهو يعاونها أو ربما يتعلم منها كيف تقوم بتزيين الأطباق وهي تقوم بتفريغ الطعام في الصحون بهذه الطريقة الفنية وحينما علمته أتى عليه الدور ليفعل هو نفس الشيء وزين أطباق السلطة وأطباق الأرز أيضًا، وعاونها في وضع اللحوم والدجاج، ولم ينكر هو سعادته بما يفعل معها، أما هي فهذه المشاركة معه جعلتها تحلق مثل الفراشات فوق الزهزر تشتم رحيقها، كانت لحظة مميزة لها وهي تراه يعاونها ويهتم بما تفعل وتحب ويتحدث معها وكأنه صغيرٌ عاد من مدرستهِ وجلس يعطي أمه تقريره اليومي.
أنهى هو إخراج الطعام وقاما “يـوسف” و “عُـدي” بترتيب الطاولة ثم أشاروا للرجال بالاقتراب من الطاولة لتناول الطعام فيما دلف “أيـوب” لها مُجددًا يسألها باهتمامٍ:
_هو أنتِ مش هتاكلي؟ هتفضلي هنا؟.
حركت رأسها نفيًا وهتفت توضح له:
_هفضل هنا علشان لو حد أحتاج حاجة وعلشان الستات بتاكل برضه والمكان ضيق في الأوضة جوة، وأقولك على سر مبعرفش آكل في المناسبات والزحمة، بحس كدا إني لازم كل شوية أقـوم، بس مش مهم هاكل بعد ما كله يخلص.
وقف أمامها لوهلةٍ يُمعن النظر في وجهها ورغمًا عنه تذكر موقفًا يُشبه ذلك الموقف وقد صدر الأخر من والدتهِ في مناسبة قام بها والده بعزيمة أصدقائه ببيتهم وحينها عاونها “أيـوب” وما إن لاحظ بقائها بداخل المطبخ سألها بتعجبٍ:
_مش هتيجي تاكلي يا ماما؟.
التفت له تقول بنبرةٍ مُنهكة بسبب وقوفها طوال النهار:
_مش هعرف يا حبيبي، ممكن حد منهم يحتاج حاجة أو بابا يطلب حاجة، روح أنتَ يلا كُل مع أخوك وأنا لما أخلص هاكل، متقلقش عليا، يلا علشان مينفعش تسيب الناس لوحدها كدا.
حينها زفر بقوةٍ وقد أخرجه من شروده صوت “قـمر” وهي تُناديه بتعجبٍ من شرودهِ هكذا انتبه لها بعينيهِ ولم يجاوب عليها بل تحرك بخطواتٍ مسرعة يسحب الأطباق ثم وضع لها الطعام حتى تتناوله وقد راقبته هي مبتسمة بقلة حيلة فيما أقترب منها يضع الطعام أمامها وهتف بإصرارٍ تغلفه المودة ويغدقه الحنو:
_كُـلي يا “قـمر” مش هستنى لما تقعي من طولك، أنتِ من الصبح واقفة على رجلك، يلا ولا تحبي أطلع أقولهم هاكل مع مراتي جوة؟ أنا عادي أعملها على فكرة مش هتكسف.
رفضت مسرعة قبل أن يفعلها فيما أنتظر هو حتى تأكد من تناولها الطعام ثم خرج من المطبخ وحينها تقابل مع “غالية” التي كادت تسأل عن ابنتها فقال هو بلباقةٍ دبلوماسية يخبرها بما يُطمئنها:
_متقلقيش عليها، بتاكل جوة.
ابتسمت له الأخرى وفهمت أنه من تسبب في ذلك بينما هو أنتبه للأصوات العالية التي نادته حتى يحضر معهم لتناول الطعام فذهب لهم وهو يعتذر منه ليجلس بجوار “يـوسف” الذي مال عليه يسأله بتعجبٍ من تأخيره:
_أنتَ خدت نصيبك جوة وكَلته؟ كنت فين؟.
أمسك “أيـوب” الملعقة وأخبره صراحةً وهو يطالع الصحون أمامه دون أن ينظر للأخر:
_كنت بتطمن إن مراتي هتاكل زي ما أنا هاكل.
ابتسم “يـوسف” له ثم بدأ في تناول الطعام هو الأخر بينما “فضل” ظل ينطق مُرحبًا بالجميع في بيتهِ وبتشريف “عبدالقادر” له وحضوره هذه المناسبة بأعتباره الأخ الكبير له ومن رائحة حبيبه كما أخبر الجميع، بينما “نَـعيم” كان يجلس وسط الشباب ويقابله “عبدالقادر” وكلاهما يبتسم للأخر مُرحبًا به والكل هنا في ضيافة الفرح حتى “إيـهاب” الذي ظل يراقب شقيقه بسعادةٍ وكأنه يشهد فرحه لمرته الأولى..
__________________________________
<“لم يكن مجرد حُلمٍ ومَـر، بل هو عُـمر نعايشه”>
كانت السعادة هي رفيقته بهذا اليوم وهو يفعل كُـل ما أراد، قضى اليوم برفقة زوجته وسرد لها معظم تفاصيل حياته، أخبرها عن مشاكساته لأهل الحارة جميعًا وكيف أطلقوا عليه لقب “علاء الدين”، أخبرها كيف تسلق الأسوار وكيف يقفز فوق الأشجار وهي تسمعه وضحكاتها المرحة كانت ردًا عليه وعلى قصصه المُمتعة بالرغم من شبه تأكدها من كل هذه التفاصيل، لكن الاستماع له كان شيئًا من نوعٍ أخرٍ..
سارا معًا في الحارة بعدما انتهت العزيمة ببيت والدته وقد سألها هو بإهتمامٍ حينما ابتعدا عن البيت:
_قوليلي بصحيح اليوم عجبك؟.
رفعت رأسها له وهي تقول بحماسٍ شديد:
_جدًا، كل حاجة فيه كانت حلوة وحسيت بمشاعر حلوة أوي، وبعدين يعني اليوم لازم يكون حلو بكل الحكاوي دي، وفرحت أوي إني محسيتش نفسي غريبة عنكم، حسيت إني في بيتي بجد، شكرًا ليك على اليوم دا يا “تَـيام”.
استمر سيرهما سويًا حتى أوصلها لباب البيت وطرق الجرس وحينها فتح لهما “أيـهم” الذي هتف بسخريةٍ ما إن رأهما سويًا:
_ما بدري يا بيه؟.
رد عليه الأخر بلهفةٍ يدافع عن نفسهِ من إتهامٍ يُوجه له:
_أقسم بالله ما اتأخرت ثواني كمان، جايبها بالظبط بعدين دا أنا حبيبك يا أبو نسب، يعني المفروض تقدرني وتقولي روح يا “تَـيام” ربنا يكتبلك في كل خطوة رحرحة.
ابتسمت لهما “آيـات” وهتفت بنبرةٍ هادئة:
_طب ممكن بقى نشرب الشاي مع بعض؟.
سحبه “أيـهم” من قميصه وكز على أسنانه غيظًا منهما وقد وافق على مشاركة الأخر لهم وحينها ركض لهم “إيـاد” الذي جلس في الحديقة يلعب مع والدهِ بينما “نِـهال” كانت تقوم بتحضير الطعام لأسرتها الصغيرة..
جلسوا معًا وخرجت “نِـهال” أيضًا بالشاي لهم وقد رأت السعادة على وجـه “آيـات” وفهمت أن اليوم مر عليها كما تمنت، وحينها استمرت الجلسة بمزاحٍ وضحكاتٍ وسخريات من “أيـهم” ومشاكسات من “تَـيام” والصغير معًا ثم استأذنهم بالرحيل حتى لا يترك والدته بمفردها وحينها ودع زوجته حينما لثم قمة رأسها أمام شقيقها.
خرج “تَـيام” من البيت سعيدًا وفَرِحًا بما آل إليه، ماذا ينتظر أكثر من ذلك؟ حقق أحلامه وأصبحت أكبر الأحلام معه لكن فقط عليه الكثير من العمل لكي يستحق أن تكون معه، في بعض الأحيان يتعجب من إصرارهِ وعزة نفسه في كونهِ لا يقبل الشفقة أو نظرة التقليل بل يحب عزة النفس وشموخها، يحب أن يكون عزيزًا شامخًا في كل الأعين ويرفض نظرات التقليل، قرر أن يذهب إلى “بيشوي” في المقهى التي يجلس عليها لكنه لاحظ وقوف “مُـحي” بجوار سيارته أسفل بناية “يـوسف” فاقترب منه يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_شوفت إنك ندل؟ جيت هنا ومقولتش.
أقترب منه الأخر يرحب به ثم عانقه بقوةٍ وهتف بعدها بنبرةٍ هادئة يوضح له الأمر:
_مش بيقولك الغريب في البلد أعمى؟ أنا معرفش مكانك والله ودلوقتي الشباب نازلين علشان نروح بس وعد هجيلك، أو تعالى أنتَ علشان تركب خيل، إيه مش ناوي؟ ياعم تعالى إحتفالًا بخطوبة “إسـماعيل” وكتب كتابك.
ضحك له “تَـيام” وربت على كتفهِ وهو يقول بصدقٍ:
_لو هاجي هاجي علشانك أنتَ، بس الحارة كلها نورت والله، أومال الحج فين ؟ مشي ولا إيـه؟.
أنهى جملته ولا يعلم سبب السؤال لكن في هذه اللحظة خرج “نَـعيم” برفقة “عبدالقادر” معًا فابتسم هو لهما وهتف بمزاحٍ:
_أقسم بالله صينية حلويات قدامي، حمايا وكبيري مع بعض؟ دا أنا أمي دعيالي علشان أشوفكم هنا سوا.
أنتبه له “نَـعيم” وتحرك نحوه يبتسم له وهو يقول بنبرةٍ هادئة يحاول بها إخفاء فرحته برؤيته:
_والله أنا اللي مبسوط أني شوفتك، طمني عليك عامل إيه؟
ضحك له “تَـيام” وأقترب منه يمد كفه له مُرحبًا تزامنًا مع قولهِ العاقل الذي أصطبغ بالحكمة:
_والله زي الفل الحمدلله، والنهاردة حمايا دلعني وخلاني عزمت مراتي وقضينا اليوم دا مع بعض، شكلك واسطة جامدة أول ما جيبت سيرتك أقتنعوا كلهم.
ضحك له “نَـعيم” ثم هتف بصدقٍ يخبره به وهو يجول بعينيه في ملامحهِ:
_وأنا تحت أمرك، أنتَ كبرتني قدام الكل وخليتني كبيرك، وأنا لو عليا عيني ليك مبخلش عنك أبدًا، وعقبال الليلة الكبيرة بقى تكون قريب وساعتها يتحايلوا عليك هما علشان يشوفوها.
في هذه اللحظة نزلوا الشباب ورحبوا به هم أيضًا وكذلك هو ثم جاور “عبدالقادر” وراقب تحركهم وهو يبتسم لهم بينما “نَـعيم” قبل أن يلج سيارته عاد يودع “عبدالقادر” ويوعده بمقابلة أخرى عن قريب تكون زيارة له هو ثم ودع “تَـيام” وضمه بين ذراعيهِ وهتف له في أذنه بقولهِ الهاديء:
_هستناك تجيلي لو كبيرك زي ما بتقول متبخلش عليا بزيارة منك، هستناك يا “تَـيام” أوعى ماتجيش.
أبتعد عنه “تَـيام” يهتف بنبرةٍ صادقة يقطع بها وعدًا جعله إلزاميًا عليهِ أمام كلا الرجلين:
_وعد قدام الحج أهو هاجيلك، أستناني قريب.
ابتسم له ثم ودعه وركب سيارته بجوار ابنه وفي الخلف كان يركب “سـراج” الذي تعجب من حديث “نَـعيم” مع هذا الشاب لكنه لم يهتم كثيرًا فهو يعلم أن الأخر يحب الجميع وخاصةً الشباب يحب يكون عونًا لهم، أمـا “نَـعيم” فكان هناك شيئٌ بداخلهِ يَلح عليه أن يقوم بفرد جناحيه لهذا الشاب كما فعل مع البقية، لا يعلم لما لكن نظراته دومًا تتطلع إليه كأنها تنطق أنها في أشد الحاجة إليه، عيناه اللاتي تتجولا في ملامحهِ وتشبها عينيه كثيرًا في نظرتها تبدو كأنه يخبره أنه يشتاق لعزيزٍ عليه، هذه مرته الثالثة التي يراه بها ومرته الثانية التي تحدث معه خلالها لكن قلبه يشعر كأنه يعرفه أو ربما كان يسكنه وكأنه عبارة عن بيتٍ قديمٍ رحل عنه ساكنه ليصبح من بعدها مهجورًا..
__________________________________
<” الشر لم ينساك، هو فقط يهدأ قليلًا قبل العودة”>
إن كُتِبَ علينا السجن فالحرية هي منفسنا..
هكذا فكر “مُـنذر” إبان عودته إلى الفندق الذي قام بحجز غرفة بـه لكي يقضي يومه، كان سيتهور ويعود إلى القاهرة بنفس اليوم لكنه تريث بفكرهِ مُجددًا وقرر أن يقضي ليله هنا خاصةً أنه استمر في النزهة بمفردهِ وتناول الطعام أيضًا، الآن دلف غرفته ثم أرتمى على الفراش يفرد ذراعيه وعضلاته المُتشنجة وقد أدرك حاجته لحمامٍ دافيء يقوم ببسط عضلاته المُتيبسة، وحينها فتح حقيبة الظهر الخاصة بهِ ثم أخرج ثيابًا مُريحة وخلع سترته الجلدية وبقية ثيابه..
مرت دقائق أخرى شارفت على ساعة تقريبًا قضاها أسفل المياه الدافئة ثم أرتدى ثيابه وخرج وحينها فتح هاتفه الذي أغلقه حتى لا يتهور ويخبر الجميع بما حدث وكأنه تيقن من طريقة تفكير عمه، وقد ابتسم حينما لمح اسمه يُزين الشاشة فضغط على زر الإيجاب قائلًا:
_أول حاجة قبل ما تزعق كنت قافله علشان مش هعرف أرد على حد خالص، ثانيًا أنا بخير متقلقش ووصلت الفندق، ثالثًا بقى أنا حلفت إني مش هقولك حاجة غير وأنا قدامك وش لوش، تقدر تنام وترتاح شوية.
زفر “نَـعيم” بقوةٍ ثم هتف بقلة حيلة مستسلمًا أمام عناد هذا الشاب الذي أخذ صفاته كلها حتى المُعاندة:
_ماشي، وأنا وعدتك أستنى، فجر ربنا يأذن تخرج من عندك وتيجي على هنا، مش علشان حاجة، بس علشان موضوع الراجل اللي أتهجم عليك وخبيته عني وعرفته صدفة من “إيـهاب” لسه حسابك معايا مش هسكتلك.
ضحك “مُـنذر” ثم رد بأدبٍ يعتذر له ووعده أن يقوم بتفسير كل شيءٍ له عند عودته من جديد إليه وقد أغلق معه الهاتف ثم بحث عن صفحة “تَـيام” عبر موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” وقد وصل إليه بسهولةٍ حينما وجده في قائمة أصدقاء “أيـوب”، لم يعلم لما أبتسم ولما شعر بالألفة من مجرد النظر في ملامحهِ، الآن وفقط لاحظ التشابه بينه وبين “مُـحي” حتى لون الأعين الرُمادية هو نفسهُ !! تقريبًا نفسها وسامة “نَـعيم” في شبابهِ وإقترابها من ملامح “مُـحي”.
لكن كيف لم ينتبه هو لذلك؟ كيف لم يلحظ التقارب بينهما ونظرة عمه له يوم عقد القران؟ كيف يكون من وسط كل أفراد العالم وصل هذا الطفل إلى هذا المكان عجت رأسه بالعديد والعديد الذي جعله يتهرب من ألم رأسه وقبل أن يخلد للنوم صدح صوت هاتفه برقمٍ مجهولٍ جعله يبتسم بزاوية فمهِ وفتح المكالمة ليصله أكثر الأصوات كُرهًا له وهو يقول بنبرةٍ صبغها بطبعه البارد:
_ها !! نقول مبروك ولا لسه؟.
ضحك “مُـنذر” وهتف بسخريةٍ يتهكم عليه:
_ليه فرح أمـك؟ برة عنك بقى اللي جاي.
أجاد استفزاز الأخر الذي هتف بنفس البرود كأنه لم يكترث:
_وصلت لابن عمك ولا لسه؟ على العموم محتاجين نتكلم بقى جد شوية ونفوق لشغلنا، فيه بيت في مقبرة عند….
قبل أن يُكمل حديثه أوقفه “مُـنذر” بقولهِ الصارم:
_أنسى، خِلصنا خلاص والكلام دا تنساه ودا لأني بكل بساطة مش هشتغل تاني في الوساخة دي، بنضف نفسي بنفسي، تعالى شوف حاجتك بنفسك علشان أنا مش هشوف حاجة حد وياريت لو حد عليه القيمة.
أشتعل غيظ “ماكسيم” منه وحينها هتف من بين أسنانه وهو يحاول التحكم في غضبهِ قبل أن يصرخ فيه:
_متنساش نفسك، كان زمانك لولايا ميت يا “مُـنذر” مالكش أصل ولا حتى كان زمانك عايش، أنا خليتك إنسان وصرفت عليك وبقى ليك اسم وشهادة كمان، أنتَ كنت لولايا حاجة من اتنين، يا ميت يا مرمي في السجن زي أخوك الكبير اللي مات في السجن من الهباب اللي بيشربه، أخرتها دا رد الجميل.
أعتدل “مُـنذر” على الفراش وأنزل قدميه ليكون في وضع الجلوس وهو يقول منفعلًا بنبرةٍ أقرب للصراخ بعدما تفاقم الغضب بداخلهِ:
_وهو أنتَ جاي في الأخر تقولي إنك بتتفضل عليا؟ مين السبب في كل دا؟ مش أنتَ؟ مين السبب إن حياتي تبوظ وأبقى عايش من غير أصل أو عيلة رغم إني ليا عيلة وعم، مين السبب إني أكون عبد؟ مش أنتَ علشان تخليني قدام عيلتك برواز وتبقى اللي مفيش منه اتنين بيتصرف صح، أسمع !! الأحسن تخليك بعيد علشان مأظنش الرجوع في صالحك.
بنفس البرود ضحك “ماكسيم” بملء صوته ثم تشدق بنزقٍ هاتفًا بما يثير استفزاز الأخر:
_طب وحاجتك اللي معايا؟ نسيت شغلك ولا إيـه؟ طب فكر كدا معايا عمو هيقول عليك إيه لما يعرف؟ شكلك من ساعة ما رجعت مصر بقيت غبي زيادة عن اللزوم، أسمع !! في متحف قريب بيتعمل وفيه آثار مطلوبة لازم تكون حاضرة، ودي تحديدًا اللي هتجيبها يا “مُـنذر”.
أخرج “مُـنذر زفيرًا قويًا وهتف بنبرةٍ أقتبس البرود من الأخر ليتحدث بنفس الطريقة قائلًا باستمتاعٍ جليٍ في نبرته:
_آه، قولتلي على العموم مش فاهم مين فينا اللي غبي بصراحة، الحاجة اللي عندك دي أو كانت عندك تدينك زي ما تدينني بالظبط، أنتَ مش ابن المدينة الفاضلة، فوق أنتَ ابن حرام زيك زيي، بعدين هتروح يا غبي تثبت حاجات تضرك قبلي؟ على العموم الحاجات دي بَح، ودا درس صغير علشان تبطل جري ورا النسوان، أما بقى المتاحف اللي عمالة تتحشي بأثار البلد، أبقى غطيها وصَوت جنبها عليها وعلى خيبتك يا…يا خايب.
بتر حديثه ثم أضاف كلمته الأخيرة وأغلق الهاتف ثم تسطح الفراش مُجددًا بعدما تنفس بعمقٍ، لقد حان دوره أن ينتقم من كل ظالمٍ أجحفه، الحياة لم ترحمه وفرضت عليه كل الخيارات بالإجبار، لقد لاقى العذاب بأشكالهِ المتنوعة ولازال يحمل صفة “إنسانًا” لكنه برغم ذلك لازال مقتولًا بداخلهِ مجرد “جُثة هامدة” فارقتها الروح حتى زهدت الحياة.
__________________________________
<“الضُحى مِن نور مَن؟ من نور الله”>
جلس هذا الصغير الذي لم يكبر بعد..
كان ولازال كما هو صغيرًا لم يكبر أو الأصدق أن قلبه هو الذي لم يكبر، لازال دافئًا وناعمًا كما هو وكأن قسوة الحياة لم تَطُله، اليوم هو حظى بجزءٍ من السعادة ومن المؤكد سَتُكتَب له كاملةً لتصبح السعادة جزءًا لا يتجزأ من حياتهِ..
سهر “إسـماعيل” يراقب ضوء القمر المكتمل بطورهِ الدائري وهو يبتسم أثناء استرجاعه ذكريات اليوم، كان يجلس على الرمال بهدوء لكن البسمة لم تَغُب عن مُحياه بل زينته وهو يطالع الصور الخاصة بهما سويًا، كانت ضحكتها واسعة وبانت في ملامحها سعادتها وهي تجاوره ماسكةً بين كفيها باقة الزهور وقد شرد أكثر وأكثر حتى شعر بكف أحدهم يوضع على كتفهِ فالتفت خلفه مسرعًا ليجد شقيقه مُبتسمًا وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_إيه اللي مسهرك إحنا بقينا وش الفجر.
حرك كتفيه ثم هتف بنبرةٍ بدت غير مكترثة رغم عدم حدوث ذلك الشيء نهائيًا:
_عادي يعني مجاليش نوم، قولت أسهر.
جاوره “إيـهاب” وهتف بنبرةٍ هادئة وهو يُخرج علبة سجائره يُشعل منها واحدة وما إن فعل ذلك رد عليه بتكهنٍ:
_على بابا برضه؟ يعني مش سهران تفتكر اليوم واللي حصل وتشوف صوركم مع بعض؟ على العموم الخطوبة بعد أسبوعين زي ما حددوا وساعتها أبقى مَلي عينك من الدِبلة براحتك يا رايق.
ضحك “إسـماعيل” بملء شدقهِ على قول شقيقه وكيف يقرأه مثل الكتاب المفتوح وقد شاركه “إيـهاب” أيضًا الضحكات وفي هذه اللحظة أتى “سـراج” وجلس بجانبهما ودن أن يتحدث خطف السيجار من يد “إيـهاب” الذي رمقه بسخطٍ فهتف الأخر بنبرةٍ خشنة مُحشرجة نتيجة نومه:
_ولع غيرها يا “إيـهاب” سجايري جوه.
أخر الأخر سيجارًا من علبته وقام بإشعالها فخطفها منه “إسـماعيل” وهتف مُقلدًا طريقة الأخر بنفس الجملة قائلًا:
_ولع غيرها يا “إيـهاب” سجايري جوه.
ضحك “سـراج” ضحكة مكتومة على عكس “إسماعيل” الذي أدخل هواء السيجار داخل رئتيه ثم رفع رأسه من جديد يطالع ضوء القمر وقد رفع ذراعه نحوه وهو يشير لأخيه بقولهِ الذي خرج حماسيًا:
_بص يا “إيـهاب” القمر حلو إزاي؟.
بكل تلقائية جاوبه الأخر وهو يقوم بإشعال السيجار الثالث:
_فُـكك، عيون “سـمارة” أحلى منه.
هتف الجملة دون وعيٍ منه حتى تجمد وقد رفع رأسه على صوت ضحكات الأخريْن وحينها ابتسم رغمًا عنه وهتف بقلة حيلة كأنه غُلِبَ على أمرهِ في الإعتراف:
_هي فعلًا عيونها أحلى، وربنا المعبود أنا لما كنت مرمي في السجن ما كان شاغلني غير إني اتحرمت من قربها في نفس الليلة اللي بقى مسموحلي أقرب منها فيها، بس نرجع نقول مفيش حال بيدوم، ربك كريم والحمدلله، يلا بقى علشان الحج نازل أهو وهنروح نصلي معاه.
ابتسم “سـراج” حينما وجد “نَـعيم” يقترب منهم وحينها أطمئن دون أي سببٍ يعلمه لكن وحدها هيئة “نَـعيم” تُـطمئنه وكأنه طوق النجاة له، من الغباء والتهور أن يفقده مُجددًا…
لقد بكى وتألم سابقًا، أما الآن فأصبح منتصرًا على نفسهِ بعدما عاش مهزومًا في حربٍ أعلنها عليه العالم ولم يجد بها مُنصفًا حتى نفسه..
__________________________________
<“الخطوة الأولىٰ ثم البقية يأتي تباعًا”>
الليل رحل وأتى الدور لشمسٍ مُشرقة تُنير الكون بأكملهِ، بدأت نسمات الليل الباردة ليلًا قُبيل الفجر بلحظاتٍ قليلة وسط سكونٍ بدأ يشقه صوت طائر “الديك” مع نباح بعض الكلاب ليلًا وسط الظلام وإحتماء القطط بجوار أبواب المباني باحثةً عن الدفء والأمان، بدأ الصوت يشق الليل بسكونهِ في حارة “العطار” ليظهر الصوت المُحبب للقلوب الهائمة قائلًا:
_إذاعة القُرآن الكريم من القاهرة، المُبتهل الشيخ
“نصر الدين طوبار”.
هذه هي الدباغة المُعتادة من محطة الإذاعة والتليفزيون عبر الراديو حيث صدح الصوت من المسجد بينما “أيـوب” قام بترتيب المصاحف فوق بعضها ثم تنظيف أرضية المسجد وفتح المرحاض تجهيزًا للوضوء، والصوت خلفه يصدح من المُبتهل وسط الليل بقولهِ:
_حـين يُهدي الصُبح إشراق سناه..
حين يُهدي الصبح إشــراق سناه….
يَـسكب الطَّـل رحيقًا من نداه..
الضُـحى…
الضحى من نور مَن؟
الله
والندى من فيض مَن؟
الله.
في هذه الأثناء جلس “أيـوب” مستندًا على العامود الرخامي بالمسجد بعدما أنهى تنظيفه وجهز كل شيءٍ لأجل الصلاة، لم يعلم لما يود البكاء هذه الليلة تحديدًا، ولم يعلم لما يود الصراخ من داخلهِ، لكن ذكريات والدته لم تتركه وكأنها أتت تحاربه، نعم هي لم تتركه بل يحملها في قلبهِ لكن اليوم هي لم تبرح خياله، وقد أغمض عينيه وسحب نفسًا عميقًا ثم سمح لدموعه أن تنزل، يبكي وكأنه الوحيد في هذا العالم المسموح له أن يبكي، لا يعلم لما تعود هذه الحالة التي يشعر فيها بالضعف لكنه ما إن تتسنى له الفرصة يبكي على كل شيءٍ.
كانت في هذه الأثناء “قـمر” تجلس في غرفتها تستمع لصوت الإبتهال وقد تيقنت أن “أيـوب” ذهب إلى المسجد، لم تعلم لما اليوم حينما قامت “غالية” بإحتضان “يـوسف” وقامت “أسماء” باحتضان “عُـدي” شعرت بوجعهِ حينما كاد أن يغادر الشقة لكنه التفت يودعها وحينها شاهد هذه اللحظة بعينيهِ ووقف للحظةٍ يراقب كليهما بين ذراعي أمه، حينها أعتذرت له “قـمر” بنظراتها بينما هو رحل خلف والده ومن حينها لم تعرف عنه أي شيءٍ.
في الخارج كان “يـوسف” في غرفته ساهرًا وهو يدخن سيجاره ليلًا متسطح الفراش بنصف جلسةٍ وقد صدح صوت جرس باب الشقة في هذه اللحظة وقد ظن أن والدته نامت وكذلك شقيقته فخرج هو يفتح الباب بعدما ترك الفراش وأنتعل نعاله البيتي وما إن فتح الباب وجد حينها “عـهد” في وجههِ تمط شفتيها بأسفٍ ثم سألته بإحراجٍ:
_أنا آسفة أولًا يعني، عندكوا لبن؟.
تبدلت ملامحه للإستنكار الشديد فيما رفعت هي كفيها تشرح له عمليًا وضع سكب اللبن بالكوب تزامنًا مع قولها:
_لبن، اللبن بتاع الشُرب دا، عندكوا شوية؟.
عادت السخرية لملامحه وضم كفيه على بعضهما يهتف بسخريةٍ وهو يجاهد لكتم ضحكته:
_والله يا عسل أتفطمنا من زمان.
أصدرت صوتًا من حنجرتها يَنُم عن الاستياء فيما ضحك هو عليها ثم تركها محلها ودلف للداخل ثم عاد إليها مُجددًا في يده زجاجة حليب وقد رفع كفه بها نصب عينيها وهتف بنبرةٍ ضاحكة يمازحها:
_إزازة مبرشمة أهيـه، أي خدمة.
ابتسمت له ثم هتفت بنبرةٍ حماسية:
_والله أنتَ سكر وأنا مغلطتش إني أجيلك وقبل ما تسأل وترخم، بصراحة جوعت أوي وكنت قايمة أعمل كوباية شاي بلبن مع ساندويتش جبنة بس ملقيتش لبن، معرفش ليه طلبت معايا لبن دلوقتي، قولت أجي أسأل.
ابتسم لها بحنوٍ ثم مد يده بالزجاجة هاتفًا بنبرةٍ هادئة:
_ألف وهنا وشفا على قلبك يا “عـهد”، لو عاوزة حاجة تانية قولي التلاجة مليانة ولو عاوزة حاجة للشقة عندك عرفيني هجيبلك اللي تعوزيه، بس قولي أنتِ متخافيش مش هتتقلي عليا يعني.
أخذت منه الزجاجة وهتفت بنبرةٍ هادئة وصادقة:
_قد القول وأكتر يا “يـوسف” عن إذنك.
التفت بعدما أبتعدت عنه خطوة أو أقل فيما أوقفها هو بقولهِ:
_”عـهد” بكرة هنروح سوا المشوار اللي قولتلك عليه، جاهزة؟ ولا نأجلها لوقت تاني تكوني حابة فيه؟.
التفتت بنصف جسدها وهتفت بوجهٍ مبتسمٍ:
_لأ جاهزة، بكرة إن شاء الله هكون جاهزة في ميعادنا، تصبح على خير يا قمور.
ابتسم بعينيهِ قبل شفتيه وهتف بنبرةٍ هادئة ردًا عليها:
_وأنتِ من أهل الخير يا عسولة.
تركته وتوجهت نحو شقتها بعدما لاحظت نظرته الهادئة نحوها وكأنه يخشى عليها هو من هذه الخطوة، تراها في عينيه وكأنه يخبرها أنه يودها تأخذ هذه الخطوة وبالعين الأخرى يودها أن تتراجع وكأنه يخشى عليها من شيءٍ لم يعرفه، فربما يخشى أن يرى نفسه بها في أوج لحظات ضعفها كما رأى نفسه ضعيفًا عند مواجهة نفسه.
__________________________________
<“أهل الكارثة هم أكثر الناس شعورًا بألمها”>
في صباح اليوم التالي…
تحديدًا قُبيل صلاة الظُهر أوقف “يـوسف” سيارته في منطقة وسط البلد وترجل منها وترجلت “عـهد” هي الأخرىٰ وحينها رفعت رأسها نحو البناية ثم هتفت بنبرةٍ ضاحكة تشاكسه بقولها:
_بقى دا مكان ماكنتش عاوز تجيبني فيه؟.
كانت تشير في قولها إلى البناية القديمة التي توسطت الشارع الجانبي في هذه المنطقة بينما هو هتف بنبرةٍ هادئة ينفي ظنونها بقولهِ:
_خالص، بس الفكرة إني خايف تفتكريني بضغط عليكِ، فيه حاجات مينفعش فيها ضغط يا “عـهد” بس أكيد يهمني إنك تاخدي الخطوة دي علشان نفسك قبل أي حد، خصوصًا إنك منمتيش إمبارح صح؟ باين عليكِ إنك عاوزة تنامي.
زفرت بقوةٍ وهتفت بنبرةٍ مختنقة أقرب للبكاء:
_بخاف، كل ما أجي أنام بخاف، المفروض غاروا في داهية خلاص بس حساهم جوايا وساكنيني علشان بس ينكدوا عليا، مش هو بس، دول كلهم يا “يـوسف” صدقني أنا محتاجة لدا أوي، محتاجة آخد خطوة زي دي، يمكن تساعدني في اللي بهرب منه وهو جوايا.
ابتسم لها هو بحزنٍ ثم أقترب منها ورفع كفه يُزيل عنها عبراتها العالقة بأهدابها ثم أمسك كفها وتحرك بها نحو مدخل البناية يحثها على الدخول ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
_نخلص هنا وهنتغدا برة مع بعض، يلا.
دلفت مع البناية بعدما تنفست الصعداء لعلها بذلك تسيطر على دموعها وضيق صدرها بسبب التوتر الذي هجم عليها وللأسف لم يُسعفها عقلها في هذه الحالة بل رسم لها اسوأ الخيالات عن فكرة عيادة الطبيب النفسي، وحينها كتمت ضحكتها وقد انتبه لها “يـوسف” حينما ولج بها المصعد القديم الذي يظهر في الأفلام السينمائية القديمة، لم تنتبه هي للمصعد بل ظل المشهد يُعاد في رأسها وبسمتها تتسع أكثر حتى سألها هو بتعجبٍ من بسمتها هذه:
_أنتِ بتضحكي على إيه يا “عـهد”؟ مش رايحين الملاهي يا ست، دي عيادة دكتور نفسي ياما.
جاوبته بنبرةٍ ضاحكة عن مخيلات رأسها:
_بصراحة بقالي ساعة متخيلة مشعد عبثي وهو إني هلاقي العيادة مليانة ناس كتير تعبانة نفسيًا ومحدش قادر يسيطر عليهم وناس بتجري وناس بتطير ورق مهم، أكيد مفيش كدا صح؟.
حرك عينيه يطالعها بدهشةٍ جعلته يرفرف بأهدابه وقد ضحك هو الأخر حينما وجدها تكتم ضحكتها وضحكت هي مُجددًا وحينها توقف المصعد وخرج كلاهما بعدما أنهيا الضحكات فيما طرق هو باب العيادة وقد فتحه له “جـواد” الذي ابتسم له ببراءةٍ جعلت “يـوسف” يسأله بتعجبٍ:
_أومال فين أختك؟.
أشار نحو الداخل ثم عاتبه بقولهِ:
_طب سلم حتى ولا عرفني أنا مين، بس هقول مذبذب طول عمرك، بس نورت والله، أتفضل.
دلف “يـوسف” وخلفه “عـهد” ثم تولى مهمة التعريف بينهما قائلًا بجمودٍ حاد:
_دا الدكتور “جـواد” ودي “عـهد” مراتي، بس مش هو اللي هيتولى المهمة، أخته الدكتورة مش فاكر باين اسمها إيه، ودا أحسنله قبل ما يفكر يستغفلني يعني.
رفع “جواد” حاجبيه بسخريةٍ وعدل نظارته الطبية فيما خرجت “فُـلة” من غرفة الجلسات النفسية ثم أقتربت من “عـهد” وهي تقول بنبرةٍ مرحة:
_أنتِ “عـهد” ؟.
حركت رأسها لها موافقةً بتوترٍ فيما هتف “يـوسف” بتهكمٍ يسخر منها بقولهِ:
_يا سلام على النباهة والذكاء، هتكون مين يعني؟.
زفرت “فُـلة” بقوةٍ ثم مدت كفها لها تُرحـب بها بينما “عـهد” تعجبت من هيئتها، تبدو فتاة صغيرة في أول أعوامها الجامعية، جسدها الرفيع وهيئتها تدل على صِغر عمرها وبذلك ملامحها الضاحكة، عيناها العسليتان الواسعتان تبنعث منهما الطاقة، خصلاتها السوداء الناعمة بلمعةٍ خاطفة، فتاة حيوية بدت عليها كل علامات الطاقة وكذلك بسمتها الحماسية التي ترتسم على شفتيها..
استمرت مهمة التعريف لدقائق قليلة تبعها دخول “عـهد” للغرفة مع “فُـلة” وبالطبع هذه الخطوة أخذتها بعدما شعرت نحوها بالإرتياح الشديد وكأن الأُلفة حلت محلها بينهما فور اللقاء الأول فقط.
أما “يـوسف” فما إن دلفت الغرفة زفر بقوةٍ ثم حرك رأسه نحو “جـواد” يخبره من خلال عينيه بخوفهِ عليها فلم يكن أمام الأخر سوى أن يقترب منه ثم ربت على كتفهِ وطمئنه بقولهِ:
_متقلقش، مشكلتها مش كبيرة علشان تخاف كدا، بعدين “فُـلة” حماسية أوي مش هتخلي الجلسة مأساوية، بعدين اللي يشوفك كدا يقول فارق معاك أوي، ما أنتَ قبل كدا قولت عليه هبل وملهوش لازمة ورفضته يا “يـوسف”، صح ولا أنا غلط وبكدب؟.
زفر “يـوسف” بقوةٍ حينما شعر بضغط الأخر عليه ثم هتف بنبرةٍ جامدة غلفتها القسوة:
_علشان جربنا مرة وسمعت كلامك بس تعبت، تعبت وكان الموضوع فوق طاقتي وأنا بفتح الجروح وأضرب عليها من جديد، مش فارق معايا غيرها، لكن أنا لأ، فُكك مني ومن علاجي، لما تلاقيني بشد في شعري وخلاص ماشي في الشارع حافي، أبقى تعالى خُـدني من أيدي أرميني في المصحة تاني.
وقف أمامه الأخر مُتيقنًا من حديث شقيقته أن الحل يكمن في “عـهد”، هي الوحيدة التي تملك السُلطة على هذا القلب العنيد، وهي الوحيدة التي تملك القوة التي تستطع أن تُنازع بها ضعفه، وهي الوحيدة التي لأجلها يفعل أي شيءٍ حتى وإن كانت أكثر الأشياء كراهيةً لقلبهِ.
بداخل الغرفة…
جلست “عـهد” أمام “فُـلة” على مقعدها المدولب أو ما يُطلق عليه باللغةِ الدارجة “شيزلونج” والأخرى جلست مقابلةً لها وقد ألبست نفسها وشاح الدبلوماسية وهتفت بنبرةٍ عملية:
_بصي يا ستي حاليًا مهم إنك تعرفي أنا مين، علشان تثقي فيا وتقدري تتكلمي معايا بكل أريحية، النهاردة نعتبر اليوم زي أول يوم دراسة، تعريف وبس وكلام عادي جدًا ومحادثة هادية من غير أي ضغوطات نفسية أو إشارات كلامية، هبدأ بنفسي.
أوقفت حديثها ثم أرتدت نظارة طبية كبيرة باللون الأسود دائرية الشكل وهتفت بنفس الدبلوماسية قائلة:
_أنا يا ستي “فُـلة” عندي ٢٧ سنة، دكتورة نفسية لسه ببدأ الطريق من أوله، البنت الصغيرة ومعنديش أي أخوات غير أخويا الدكتور “جـواد” اللي كان برة دا، حاليًا دي الأساسيات اللي تخلي عقلك يبرمجني عنده، تقدري بقى تعرفيني عن نفسك؟.
ابتسمت لها “عـهد” وحركت رأسها موافقةً ثم هتفت بنبرةٍ هادئة تخبرها عن الموافقة بقولها:
_آه طبعًا، أنا “عـهد محفوظ” عندي ٢٥ سنة، البنت الكبيرة وعندي أخت صغيرة عندها ٨ سنين، خريجة كلية العلوم شعبة فيزيا، واشتغلت فترة طويلة بس قعدت من فترة صغيرة بسبب ظروف حصلت.
أطمنت “فُـلة” أنها لم تشعرها بالخوف أو التوتر حينما وجدتها تسترسل معها، لكن ما أذهلها حقًا هي قوة “عـهد” البائنة عليها أثناء التحدث والتعريف عن نفسها وكأنها مجرد محادثة دبلوماسية بين طرفين عمليين وليست مقابلة في عيادة نفسية، يبدو أنها هنا لكي تخالف ظنون الجميع حتى نفسها، أو ربما حماسها في حياةٍ هادئة ونومٍ عميق هي السبب في حالتها هذه.
__________________________________
<“قد يكون رحل عن عالمنا، لكنه لم يرحل مني”>
في شركة الراوي…
كانت تجلس أمام نهر النيل من داخل الشركة وفي يدها عُلبة الطعام الخاصة بها تتناوله بمفردها بعدما تولى “عُـدي” مهمة الإشراف على الطُلاب الجُـدد في مجال الترجمة، وجدت نفسها تشعر بفقدان شهيتها بسبب تناولها الطعام بمفردها وبعد مرور دقائق أقترب منها يجلس مجاورًا لها وهو يقول بنبرةٍ مُنهكة أثناء حله لرابطة عنقهِ السوداء:
_أنا عاوز أقدم استقالتي، خلاص.
ضحكت “رهـف” له وضحك هو الأخر ثم هتف بنبرةٍ لازال بها أثر ضحكاته:
_جوعت وصدعت ودماغي ورمت وأنا أصلًا أروق من الحوارات دي كلها، بس يلا كله علشان خاطر “يـوسف” عن إذنك هروح أجيب حاجة آكلها، تحبي أجيبلك حاجة؟.
حركت رأسها نفيًا وقبل أن يتحرك أوقفته بقولها الخَجل:
_أنا معايا أكل كتير على أساس حد ياكل معايا وأنا مبعرفش آكل لوحدي، ممكن تاكل معايا عادي؟ لو مش حابب مش هزعجك، بس حرام الأكل دا يبوظ بصراحة.
استقر بجلستهِ من جديد ثم هتف بنبرةٍ هادئة لكن ساورته الحيرة بسبب خجلها:
_لو مش هضايقك أنا هاكل عادي، بس القهوة كدا عليا أنا ولا نخليها شاي؟
ابتسمت “رهـف” بزرقاوتيها وهتفت بنبرةٍ ضاحكة دون أن تعلم سبب إنبساط ملامحها بهذه الدرجة أو سبب فرحتها لمشاركته لها في تناول الطعام:
_ياريت قهوة فعلًا، بس بعد الأكل.
قالت جملتها ثم عاودت وضع العلبة بينهما وفتحتها وحينها وجد بداخلها فطائر معجنات محشوة باللحم وأخرى محشوة بأنواعٍ مُختلفة من الجُبن بشتى أنواعه وقد لاحظ حقًا كثرة الكمية وكأنها قامت بإحضار الطعام لأجلهِ؟ لم يعلم لما خشى أن يتهور بفكرهِ أكثر من ذلك، أما هي فتعجبت من حالها والأغرب من إطمئنانها في حضورهِ، تبدو وكأنها في مدرسة تعليمية والجميع عنها هنا غرباء وهو وحده الصديق المُفضل لها.
أقترب منهما “سـامي” يقطع عليهما اللحظة الهادئة مُخرجًا كليهما من شرودهِ وحديث رأسه وهتف ساخرًا بقوله:
_نورت يا “عُــدي” والله وبقى ليك مكان هنا.
أنتبه له “عُـدي” فترك طعامه ووقف أمامه يهتف بنبرةٍ هادئة على عكس غيظهِ والغضب المتفاقم بداخلهِ:
_كان بودي أقولك بنورك، بس دا مش حقيقي.
انفرجت شفتا “سامي” عن بعضهما بذهولٍ من جرأة الأخر الذي تحداه بنظراتهِ بينما “رهـف” وقفت بينهما تحرك عينيها بتساويٍ بينهما لتجد “سـامي” تحدث بسخريةٍ:
_من يومك رخم زي أبوك، سبحان الله نفس تُقل الدم بالظبط، قولي بصحيح لسه رخم زي ماهو؟ مع إن من شكلك باين إنه زاد رخامة فوق رخامته.
اصطكت أسنان “عُـدي” ببعضها من الغيظ والغضب لكنه تذكر وصية “يـوسف” له أن يحافظ على توازنه بقدر المستطاع أمام هذه العائلة حتى لا يفعل ما يريدونه هم، لذا سحب نفسًا عميقًا وهتف ببرودٍ ظاهري على عكس نيرانه:
_والله مهما زاد رخامة دا لو كان رخم يعني، فأكيد مش هيفوق رخامتك، وأظن يعني أنتَ عارف موقفي ناحيتك من صغري، فالأحسن ليك تتجنب التعامل معايا لأني محوشلك من بدري وأكيد مش طايقك، فياريت نبطل تعامل مع بعض أحسن.
وزع “سامي” نظراته بينه وبين “رهـف” وقد لاحظ الطعام الموضوع بينهما فربت على كتف “عُـدي” وهتف بنبرةٍ باردة بعدما أبتسم له:
_طب كمل أكلك بألف هنا وشفا.
التفت عائدًا من جديد إلى مكتبهِ بعدما نجح في إثارة غيظ الأخر عن طريق إشعال فتيل مشاعره المغتاظة منه، هو الآن يسير في الطريق الذي يريده وقد تحرك من الممر الأسود الرُخامي وتقابل في وجهه مع “نزيه الزاهي” والد “شـهد” وحينها أبتسم له ورحب به قائلًا بحبورٍ مصطنع:
_أهلًا “نـزيـه” بيه نورت الشركة، بس إيه الزيارة المفاجأة دي؟ خير فيه حاجة ولا زيارة عادية؟ مع إن في كلا الحالتين الشركة نورت بسيادتك.
تحدث “نـزيه” بجمودٍ دون أن يرد تحيته:
_ابنك فين يا “سـامي”؟ أنا مش هنا أتضايف، أنا جاي أشوف ابنك اللي مقدرش يجيب حق بنتي اللي مراته، دا أنا عمري دا كله مقدرتش أمد أيدي عليها، تيجي حتة بت تضربها وفي شركتها، ابـنـك فـين؟.
صرخ بسؤاله الأخير رافعًا صوته كتعبيرٍ عن غضبهِ بينما “سامي” أخذه إلى المكتب عند ابنه الذي وقف على الفور أمام حماه الذي هتف بنبرةٍ جامدة أقرب للإنفعال:
_أهلًا يا بيه؟ أنتَ إزاي تسمح لواحدة تمد إيدها على مراتك من غير ماتاخد رد فعل؟ إزاي مراتك حد يجرؤ أنه يبصلها حتى وأنتَ تسكت؟ خلاص أجيب حق بنتي أنا طالما حضرتك مش هتاخد خطوة، ولأخر مرة حد يقرب من بنتي يا “نـادر”.
التفت “نـادر” لوالده الذي تجاهله وكأنه يعطيه درسًا قاسيًا وحينها زفر “نـادر” بقوةٍ ثم هتف بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:
_حضرتك أكيد فاهم غلط، الموضوع فيه سوء تفاهم و “شـهد” بتحب تكبر المواضيع، بعدين هي اللي بدأت وغلطت أول مرة وبرضه غلطت تاني مرة، دا شغل ستات، هتدخل أنا في شغل الستات بقى؟ الموضوع مش مستاهل كل دا في النهاية يعني.
حديثه لم يُخمد نيران الأخر بل ألهبها أكثر لذا تحدث الأخر بنفس الجمود في نفس لحظة دخول “عـاصم” للمكتب:
_واضح إنك غبي ومش فاهم حاجة يا “نادر” بس أنا هجيب حق بنتي بطريقتي سواء من “يـوسف” اللي بيتعمد يأذيها أو من مراته اللي فكرت تمد أيدها على بنتي، ولأخر مرة هحذرك لو حد قرب من بنتي أنا هزعلك أنتَ، بس المرة دي هخليك تتعلم وتتفرج إزاي الراجل بيرجع حق اللي منه.
وقف “سـامي” يطالع الموقف بلامبالاةٍ واهية وكأن مراده يتحقق أمام عينيه، دون أن يتدخل ويفعل أي شيءٍ سيراقب فقط “يـوسف” وهو يتأدب على أيدي “نـزيه” صاحب السلطة والنفوذ السياسية والاقتصادية، بينما “نـادر” حتى وإن كان رجلًا معقد الشخصية إلا أن فطرته تحركت نحو المشاعر وفكر بـ “يـوسف” إذا تعرض له “نزيه” حقًا وقبل أن يتحدث معه غادرهم وقبلها شملهم بنظرة واحدة وكأنه يهددهم صراحةً بقوة نفوذه.
__________________________________
<“لا بأس، نحن هنا معكِ”>
في حديقة بيت “العطار”..
جلست مهرائيل” بجوار “آيـات” والأخرى تسرد عليها تفاصيل عزيمة الأمس وكيف قضت اليوم مع “تَـيام” وأمـه، كانت تسرد عليها بكامل سعادتها وهي تخبرها كيف تشعر معه بالألفة وقد أضافت مُجددًا بنفس المشاعر البريئة:
_بحس معاه كدا إني في مكاني، عارفة لما تفضلي تجري تجري تجري علشان حاجة مش عارفة هي إيه؟ بعدها تلاقي نفسك بتقولي إنك وصلتي خلاص؟ أهو دا إحساسي ناحيته من يوم كتب الكتاب، حاسة إني وصلت خلاص، الخوف المُبهم اللي كان جوايا أختفى، دلوقتي أنا أقدر أتكلم معاه عادي وأقوله كل حاجة وأنا مش خايفة، بحس علطول إني غالية عنده أوي وكأني أغلى حاجة هو بيملكها يا “مهرائيل”، يا رب يكون الإحساس هو دا الصح.
ابتسمت لها الأخرى وضمت كفها بين كفيها وهي تقول بنبرةٍ هادئة أيضًا:
_صدقيني إحساسك صح، حبه كان باين أوي للكل، باين في كل مرة بيشوفك فيها يا “آيـات”، بان في زعله ساعة خطوبتك الأولانية، كل حاجة كانت واضحة بس هو مقدرش ياخد خطوة، المهم أنتِ مبسوطة؟ حاسة إن هو دا الشخص اللي يستاهل قلبك؟.
حركت رأسها موافقةً بإصرارٍ جعلها تحتضنها بين ذراعيها ثم مسحت على كتفها وظهرها وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_شوف البجاحة؟ عيني عينك؟ ناقص تقولي إنك بتحبيه.
رفعت “آيـات” عينيها نحوها وقالت بنبرةٍ ضاحكة:
_طـب ما أنا بحبه بجد.
شهقت “مهرائيل” كأنها تتعرض للخيانة فيما ضحكت “آيـات” ثم استقرت على ذراع الأخرى التي ظلت تمسح على ظهرها بمشاعر رغم أنها خرجت من قلب صديقة إلا أنها كانت بنكهة الأمومة..
قبل إنتهاء الموعد المُحدد لإنتهاء عملها خرجت من المدرسة باكيةً بسبب زملائها بالعمل، تلك المرة إزدادت وقاحتهن وإزداد حديثهن قسوةً بسبب عدم قدرتها على الإنجاب وإتهامها بتخريبٍ بيتٍ عامرٍ، لقد سئمت من كل شيءٍ حولها وسئمت حتى من نفسها، كيف تدافع عن نفسها وتمحي النظرات التي تقتلها محلها، لقد دلفت البيت باكيةً وركضت نحو شقتها هربًا من الجميع وقد وصلت إلى هناك دون أن يلحظها أحدٌ من أهل البيت، وقد دلفت “نِـهال” بعدما راسلت زوجها تطلب منه أن يُحضر “إيـاد” من مدرستهِ وما إن وصلها الرد منه أرتمت خلف الباب باكيةً وهي تضم رُكبتيها بكلا ذراعيها وكأنها تحمي نفسها لكن الأصوات لازالت تتراوح في عقلها وكأنه سباقٌ دون نهاية.
__________________________________
<“وصلت السُفن أخيرًا، أين هي الرياح”>
عاد أخيرًا بعد كل شيءٍ إلى بيت عَـمهِ بعدما غلبه النوم في الفندق ونَعم بليلةٍ كثرت أحلامها وازداد فيها الأمل، الآن هو يصل إلى الأرض التي وعد نفسه أن يذهب إليها وقد دلف مباشرةً إلى مكان الخيول ليجد عمه هناك وقد جاوره وتنهد بقوةٍ جعلت “نَـعيم” يبتسم بسخريةٍ وهو يقول بألمٍ:
_قولتلك متروحش، بتروح تتعب نفسك وترجع تعبان.
تحرك “مُـنذر” ووقف مقابلًا له وقد برع في إخفاء تعابيره وقد طالعه “نَـعيم” بأسىٰ وهو يقول بنبرةٍ موجوعة رافقنها العبرات:
_سيبتك يا “مُـنذر” تروح علشان تخلص من التعب اللي شايله جواك، مفيش عيل بيتوه من أهله كل العمر دا ويرجع في الأخر، عارف؟ أنا شوفت وشه في كل عيل صغير وشوفت إحتياجه ليا في كل واحد هنا، شوفته في ضعف “إسماعيل” و رجولة “إيـهاب” و عزة نفس “يـوسف” و حضن “مُـحي” ليا، حتى رجوعك ليا شوفتك أنتَ هو، شوفته في كل الناس حتى “تَـيام” الغريب اللي طلب حضني وكبرني قدام الكل، شوفت الكل إلا هو.
بكى “نَـعيم” بعدما فقد الأمل في إيجاد صغيره بينما “منذر” خطفه بين ذراعيه وقال بنبرةٍ باكية:
_مش غريب، “تَـيام” مش غريب عنك، هو ابنك يا عمي، الوحيد اللي طلب حضنك ولما إديته ليه وطلع دا مكانه.
إذا كانت بعض الكلمات تقتل فهاهي الكلمات التي تُحيي القلوب من جديد، جمده ابن شقيقه بهذا الحديث ولأول مرة يظل مكانه جامدًا دون أن يحتضنه كما اعتاد بل ظل صدى الكلمات يتردد في أذنه واسم “تَـيام” يدور مثل الحلقات الدائرية في سمعهِ.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)