رواية غوثهم الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الفصل الثالث والثلاثون
رواية غوثهم البارت الثالث والثلاثون
رواية غوثهم الحلقة الثالثة والثلاثون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثالث والثلاثون”
“يــا صـبـر أيـوب”
_____________________
_سُبحانك اللهم…سبحانك اللهم من خالقٍ نسعى إليه
وحكيمٍ رشيد… إن قولت كُن يكون
من ذا الذي يُريد إن كنتُ إلهي تُريد، يا رب يا رب..
فارحمنا وأصلح لنا أحوالنا أنتَ الولي الحميد..يـــــا رب
يا رب وانصرنا على من بغوا أنتَ علينا وعليهم شهيد..
فهم بنارٍ أفججوها لقن وهم لشرٍ ذرعوه حصيد..
ونحن للحق جنود وهم كانوا للبغي والباطلِ كانوا الجنود…
_”النقشبندي”
_________________________
لا أعلم لماذا اليوم أخبركَ لكني سأفعلها..
شخصٌ مثلي اعتاد تلقي الهزائم لم يفكر يومًا في الانتصار
لكن أنتَ من بين سائر الناس كنتُ وحدك أنتصارًا، كنت كما الشتيت بعد حالة حربٍ لم تمتد له الأيادي لتأتي أنتَ وتنتشلني من بينهم أحتمي بِكَ، الآن سأخبرك أنني صدقت قلبك حين قال:
“أنا هُـنا”
بل أنني شعرت أيضًا بها، وراح عقلي يشغلني بسؤالٍ، هل ستبقى دومًا هُنا؟ أم سيأتي يومٌ تُلقيني فيه للقبيلة من جديد بعد استعادت سلامها ؟؟ وللحظةٍ وددت اخبارك بأنكَ أنتَ السلام وأنا ساحة الحرب بذاتها.
<“حاولت الهرب فوجدت الباب مُوصدًا”>
نام “يوسف” نومةٍ هنيئة من بعد خروجه من شقتها على الرغم من تسطحه للأريكة الصغيرة مقارنةٍ بجسده، لكنه استيقظ على رنين الهاتف فتنفس بعمقٍ ونظر للهاتف ليجده المُنبه الذي سبق وقام بضبطه لكي يوقظه صباحًا، اعتدل على الأريكة وتمطع بجسده وتثاءب ثم نظر في يده ليجد الخاتم الذي يتوسط إصبعه ولم يكن سوى خاتم زواجه، أخرج نفسًا عميقًا ثم تحرك من محله يدلف المرحاض ولم يتوقف عقله عن إنعاش ذاكرته بصورتها وهي بين أحضانه للمرةِ الأولى وربما تكون الأخيرة.
في الشقة الأخرى الخاصة بها كانت كما طنجرة الضغط موضوعة على مقود النيران وهي تقوم بترتيب حقيبتها وتجهيز ثيابها لأن عملها أوشك على البدء كيومٍ استثنائيٍ تأتي فيه الطبيبة لمتابعة الاستشارات الطبية، وعلى عكس المعتاد كانت متهجمة الوجه وملامحها مشدودة وكأنها تتأهب لافتعال المكشلات صباحًا وقد لاحظتها والدتها وتجنبتها حتى وجدتها تضع الأشياء في حقيبتها بعنفٍ فاقتربت منها تُعنفها بقولها:
_بت !! اصطبحي وأفردي وشك بدل ما أزعلك، عمالة تخبطي وتكسري ياختي بالراحة علينا.
زفرت “عهد” بقوةٍ ثم التفتت لها تتحدث بغضبٍ لم تقوى على احجامه أو احتوائه وهي تتذكر تواجده بقربها:
_ماما !! أنتِ شايفة إن ديه حاجة عادية ؟؟ أصحىٰ من النوم ألاقي نفسي في حضن واحد غريب؟؟ دخل هنا إزاي وإزاي تسكتي أصلًا.
اندفعت والدتها تُبرر لها وهي تقول بصوتٍ عالٍ:
_وهو أنا جايبة واحد من الشارع ؟؟ دا جوزك لو مش مستوعبة بصي لإيدك وأنتِ تعرفي، بقيتي مراته رسمي، وهو كتر خيره بقى بصراحة موافق على شروطك لخايبة، ورغم كدا هيوفرلك الحماية برضه، بعدين لو حضرتك زعلانة أوي كدا عاوزة أقولك إنك طول الليل دخلتي في نوبة الكابوس الزفت بتاعك دا وهو اللي قدر يسكتك لحد ما نمتي، أظن أنتِ عارفة بتكوني عاملة إزاي.
تلجلجت بعد حديث والدتها وتوترت وهي ترد عليها بقولها:
_بـر…برضه مش مبرر يعني وأظن هو قدام الناس جوزي لحد ما عيلة “عابد” يبعدوا عني ولحد ما “سعد” يقتنع أني مش ليه لأن مفيش حاجة نافعة غير كدا، إنما أي حاجة تانية لأ، وهو المفروض يعرف كدا، لأني مش هقبل إن الجوازة دي تكمل كدا.
اندفعت من بعد توترها وقد استطردت حديثها دُفعةً واحدة جعلت والدتها تتنفس بحدةٍ ثم لوحت لها بذراعيها وهي تقول بنفاذ صبرٍ:
_أنا تعبت من دماغك الناشفة، ياختي “أسامة” كان حلو أوي وموافقة عليه وهو عيل ابن أمه أول ما سحبته مشي وراها، وجاية عند الراجل اللي مستعد يوفرلك الحماية تبرطمي وتتكلمي، والله وش فقر خليكِ كدا.
تحركت والدتها للداخل فنظرت “عـهـد” في أثرها بدهشةٍ ثم صرخت بغيظٍ وصدرها يتحرك بشكلٍ ملحوظٍ من فرط الإنفعال المُشتعل بصدرها، وقبل أن يُثار غيظها من جديد وترفع صوتها تُنادي على أمها استيقظت “وعد” من نومها وفركت عَينها اليُسرىٰ فاقتربت منها “عـهد” تسألها بنبرةٍ هادئة:
_عاملة إيه ؟؟ جاهزة للدرس النهاردة ؟؟
حركت رأسها موافقةً فقبلت “عـهد” رأسها ومسحت على خصلاتها السوداء المُسترسلة بعشوائيةٍ ثم نطقت بنبرةٍ خافتة:
_ركزي وشدي حيلك وإن شاء الله أنا هشوف كدا الميس وأخلي ماما تكلمها عاوزة حاجة مني ؟؟.
حركت رأسها نفيًا ثم قالت بحماسٍ:
_يوسف هيوديني الدرس، هو قالي كدا.
زفرت “عـهـد” من جديد عن ذِكره ثم ارتفعت بجسدها بعدما كانت في مستوى الصغيرة التي ضحكت وهي تقول بمرحٍ:
_خليه يبات هنا كل يوم، أحسن ما تفضلي تصرخي.
التفتت “عهد” لها بعينين مُتسعتين جعلتها تصرخ بخوفٍ وتنادي على أمها التي خرجت من المطبخ وهي تسأل بتعجبٍ عن سبب الصراخ لتجد ابنتها الصغرىٰ تخشى نظؤة الكبرى لها فقالت بنبرةٍ جامدة:
_بت !! مش علشان الفرق بينا ١٥ سنة هتقرفينا، متنسيش أني أمك يا حبيبتي وممكن أجيبك من شعرك، عروسة بومة غاوية نكد.
خطفت “عـهد” حقيبتها تلبس أحد ذراعيها في كتفها ثم أخذت هاتفها وتحركت من محلها قاصدة تجاهل والدتها وحديثها وفتحت الباب لتجده يقف أمامها بثباتٍ كعادته جعلها تغلق جفونها وتفتحها من جديد لتتأكد من وقوفه بالمكان، فابتسم هو بزاوية فمه وهتف بنبرةٍ هادئة:
_أنا هنا، مش تهيؤات، حضرتك رايحة فين؟؟.
رفعت حاجبيها بسخريةٍ وشبكت ذراعيها ببعضهما وهي تقول بتهكمٍ:
_وأنتَ مالك ؟.
حينها رفع أحد حاجبيه ثم خطف كفها فجأةً وأشار على دبلته وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_دي، لو مش واخدة بالك منها يعني، ثانيًا بقى أنا مش فارق معايا أي حاجة من كل الهبل دا غير إنك بقيتي مراتي وتخصيني، يعني تعقلي وتريحي من الفرك بتاعك دا علشان خلقي ضيق ولساني أطول، رايحة فين على الصبح؟؟.
سحبت كفها من كفه ورفعت سبابتها تحذره بقولها:
_لأخر مرة هحذرك إنك تلمسني، ثانيًا بقى أنا مش فاضية أنا ورايا شغل ولازم أتحرك قبل ما أتأخر، ومتفتكرش إنك هتمنعني من الشغل لأني مش مستعدة أني أرجع تاني ادور على شغل بعدما اتطلق.
زفر بقوةٍ وحقًا اصطدامه بها في الصباح أغلق أبواب الحياة في وجهه، هذه البلهاء تخرج قوتها عليه وعند الأخرين تقف كما الفرخ المُبتل !! لم يعلم كيف يتعامل معها لكنه آثر تجاهلها ثم أمسك كفها بكفه يشدد عليه مسكته وقبل أن تتحدث هي رفع إصبعه يحذرها بقوله:
_ولا كلمة !! لو أنتِ ناسية الغرض من وجودي هنا فأنا مش ناسيه وهو أني أحميكِ منهم، ولحد ما اتأكد إنك بخير ومحدش هيضرك هفضل هنا، ومش عاوز كلام تاني مفهوم.
خرجت والدتها تقف على أعتاب الشقة وقد وصلها حديثهما مع بعضهما بأكمله وخرجت “وعد” تجاورها وما إن رأته قالت بنبرةٍ مرحة ترحب به:
_صباح الخير يا “يوسف”.
التفت لها وفور رؤيته لوجه الصغيرة ابتسم لها هو الأخر وقال بنبرةٍ هادئة:
_صباح النور يا “قمورة”.
لاحظت “مَـي” إمساكه لكف ابنتها فسألته بتعجبٍ:
_رايح فين كدا ؟؟.
جاوبها مُفسرًا وهو يضغط على كف ابنتها:
_هوصلها لشغلها أكيد مش هخليها تروح لوحدها.
ابتسمت “مَـي” على الفور وهي تشعر بأمانٍ غريبٍ حاوط المكان كان هو السبب فيه، بينما “عـهد” حاولت سحب كفها من كفه لكن ضغطته كانت أقوى والتفت من جديد يحادث والدتها متجاهلًا حنقها البادي عليها:
_ عاوزة حاجة يا “مَـي” ؟؟.
ضحكت حماته رغمًا عنها فأوقفته “عـهد” بتذمرٍ وهي تقول:
_إيه دا ؟؟ دي مامتي إزاي تكلمها كدا ؟؟
التفت لها يذكرها من جديد ببرودٍ كعادته:
_وحماتي، يعني أنا حُر، زعلانة يا “ميوش” ؟؟
حركت رأسها نفيًا على الرغم من الذهول المرتسم على ملامحها المندهشة منه ومن طريقته العفوية وقد تركها هو وركب المصعد بابنتها التي رمقته بسهامٍ حادة جعلته بخبثٍ حتى قالت بنبرةٍ جامدة:
_ممكن تسيب أيدي ؟؟ خلاص مش هجري يعني، أنتَ بتستحلاها ولا إيه ؟؟ مشوفتش واحدة قبل كدا ؟؟.
ابتسم بسخريةٍ وهتف بوقاحةٍ يُسكتها تمامًا بها:
_لأ شوفت كتير أوي بصراحة، يحلوا من على المشنقة، بس لو حضرتك زعلانة من مسكة الإيد دي أحب افكرك إنك كنتي نايمة في حضني إمبارح ومحدش عرف يسكتك غيري يا عسولة، لو اللي بعمله دا فيه حاجة غلط ماكنتش هقبلها على نفسي قبلك، لأخر مرة هقولك بطلي عِناد معايا.
قررت أن تسكت بعد طريقته الجامدة وأن تتخلى عن عنادها معه فهي رآت ثمار فعلها ، لم يسكت أو يتوانى في الرد عليها وهي تظنه وقحًا ولم تعلم أن هذه هي أهذب الطرق لديه في التحدث، ولم تعلم أيضًا أنه صمت لأجلها ولأجل الحفاظ على مشاعرها المتخبطة ولو ترك العنان لنفسه المتهورة لكانت توقفت تمامًا عن المجادلة معه مدى الحياة.
___________________________
<” نلنا منكم الخير، وأوصلناه للغير”>
جلس “إيهاب” صباحًا يتابع هاتفه بنظراتٍ ثاقبة خاصةً بعدما حدثه “ميكي” مساعده وأبلغه أن شقيقه خرج بلأمس ولمحه أحد الشباب يخرج من بيتٍ مهجورٍ، لم يتمالك نفسه وجلس يفكر في كيفية التصرف معه وخصوصًا أن الأمر لم يكن بيده بل حجم فضوله أكبر من السيطرة عليه.
اقتربت “سمارة” تضع الفطور أمامه وهي تقول بِعجالةٍ على أمرها:
_أفطر يلا علشان تروح شغلك وأروح أنا للست “تحية” عاوزاني معاها في كام مشوار، قولت أعرفك أهو قبل ما تعمل حوار، أروح معاها ؟؟.
انتبه لها وللحق لم يستمع لكامل حديثها لذا حرك رأسه موافقًا بدون وعيٍ منه واعتدل واقفًا لكي يرحل من الشقة، فأوقفته هي بلهفةٍ:
_سي “إيهاب” !! الفطار يا أخويا.
زفر بقوةٍ ولم يعلم لماذا توقف، أخوه دومًا يُلقي نفسه في المخاطر وهذه لم تكن مرته الأولىٰ، شعر بالخوف عليه وأن محاولاته في حمايته باءت بالفشل وقد لاحظت هي الأخرى تيبس جسده حينما توقف عن الحِراك، فتحركت هي نحوه ترفع ذراعيها على كتفه وتسأله بلهفةٍ:
_مالك يا سي “إيهاب” ؟؟ حد مزعلك ؟؟.
حرك رأسه نفيًا بكذبٍ التقطته هي على الفور لذا سألته بإصرارٍ أكبر:
_لأ فيه هتخبي عليا وأنا “سمارة” حبيبتك؟؟.
لم يجاوبها بل احتضنها بهدوءٍ يقربها منه لكي يشعر بالدفء من تواجدها وهتف بنبرةٍ رخيمة:
_مفيش حاجة يا “سمارة” أنا كويس بس فيه حاجة كدا بخصوص “إسماعيل” شغلاني كتر خيرك، بس متشغليش بالك، أنا بخير.
وضعت رأسها على صدره وتنهدت باستسلامٍ وتبعت هذا بقولها بنبرةٍ يائسة:
_يا أخويا هو أنا ليا غيركم أشغل بالي بيه، أنتَ جوزي وهو أخويا ربنا يحفظكم لبعض ويحفظكم ليا أنا كمان، روق على نفسك كدا بالله عليك ومتزعلش أخوك، ملكوش بركة غير بعض يا سي “إيهاب” دا الواحد لو أتوجع بيقول يا “أخ” ميقولش يا نفسي.
ابتسم رغمًا عنه بسبب حكمتها العشوائية كما يلقبها، على الرغم من تلقائيتها وعفوية شخصيتها وطبعها المرح البريء إلا أنها دومًا ترى الأمور من جهتها الصحيحة لتذكره أنه لا يملك سوى شقيقه، لذا حرك ذراعيه يربت على ذراعها وظهرها وهتف بنبرةٍ أهدأ بعدما لثم جبينها:
_حاضر، مش هزعله ومش هزعلك وأفطر معاكِ قبل ما أمشي، عاوزة حاجة تانية مني ؟؟ المهم مفضلش وغد كتير.
ضحكت بوجهٍ مُشرقٍ له مما جعله يبتسم بسمةً صافية وهو يقول بنبرةٍ هادئة كما السابق:
_اللهم صلِّ على النبي، ضحكتك حلوة يا عمهم.
ضحكت بصوتٍ عالٍ جعله يتنهد بعمقٍ ثم سألها باهتمامٍ:
_المهم أنا بعدما أفطر هنزل علشان اروح أشوف “إسماعيل” هبب إيه إمبارح، عاوزك تخلي بالك من نفسك لحد ما أجي، عاوزة حاجة مني ؟؟.
غمزت له وضربته في كتفه بكتفها وأضافت بنفس طريقتها القديمة المعتادة معه بتلقائيتها:
_متتأخرش عليا يا سي “إيهاب” علشان نسهر شوية مع بعض.
ضحك رغمًا عنه بسبب طريقتها ثم أضاف بخضوعٍ لها:
_بس كدا ؟؟ طيارة يا عمهم وهتلاقيني عندك.
بعد مرور بعض الوقت خرج من البناية الخاصة بشقته وتوجه نحو بيت “نَـعيم” بملامح وجهٍ مقتبضة على الرغم من تواجده مع زوجته بالأعلى في حالةٍ عكس هذه، دلف البيت مقتضب الملامح ومشدود الوجه فيما التفوا هم حول مائدة الطعام وسأله “نَـعيم” بلهفةٍ بعدما رأه مقبلًا عليهم:
_تعالى يا “عمهم” أفطر معانا ولا فطرت مع مراتك؟؟.
سحب المقعد المجاور لـ “نَـعيم” وجلس عليه مقابلًا لشقيقه ثم هتف بنبرةٍ جامدة:
_كنت فين إمبارح يا “إسماعيل”؟؟.
لاحظ “إسماعيل” جمود نبرته وغلظة صوته فتحدث يجاوبه بتعجبٍ سيطر عليه:
_خرجت أتمشى بالخيل إمبارح، ليه؟؟.
تحدث “إيهاب” بنبرةٍ عالية وقد فقد زمام تحكمه في أعصابه:
_متلاوعش يا “إسماعيل” معايا، بعدما مشيت بالخيل روحت فين ؟؟ إيه اللي وداك عند بيت “سيد” المفتوح؟؟ غاوي ترمي نفسك في النار ؟؟ بتدخل البيت ليه؟؟.
اندهش “إسماعيل” من حديث شقيقه وكذلك “نَـعيم” أيضًا و “مُـحي” الذي هتف بنبرةٍ هادئة يحاول تخفيف حدة الأجواء بين الأخوين:
_وحد الله يا عمهم بس، أكيد مراحش يعني ولا حتـ….
بتر حديثه حينما ضرب “إيهاب” سطح الطاولة وهتف بنبرةٍ أعلى من السابق وغضبٍ تفاقم عن سالفه:
_متجننيش يا “مُـحي” !! راح واللي شافوه قالوا إن هو “إسماعيل الموجي” قسمًا بالله لو حصلت تاني لأكون مكتفك هنا ومفيش خروج من البيت تاني.
انتفض “إسماعيل” من محله يهتف بنبرةٍ جامدة:
_يعني إيه ؟؟ هو أنا عيل صغير قصادك؟؟ عينلي حراسة أحسن يا “إيهاب” ما تعقل كلامك على الصبح، قولت كنت بتمشى بالخيل وافتكرت فيه حد جوة ودخلت، وخرجت تاني سليم، مكبر الموضوع ليه؟؟
ابتسم “إيهاب” بسخريةٍ ونطق بتهكمٍ:
_آه يا فرحتي، طبعًا شوفت كوابيس وفضل جسمك يترعش وأسهل حل تروح تاخد حباية زفت مهديء على دماغك، بنصلح حاجة وأنتَ بتبوظ، يا أخي تعبتني بقى وجيبت أخري.
تحدث بنفاذ صبرٍ ثم ترك مقعده وقبل أن يغادر التفت يحذرهم بقوله:
_الواد دا لو خرج لوحده تاني وراح في أي حتة من غير ما أكرر اليمين أنا هقفل عليه لحد ما يتربى وإذا كان هو ملبوس فأنا أجن من أهله، مات الكلام على كدا.
ترك البيت ورحل فيما وقف “إسماعيل” مدهوشًا بما سمعه ولم يتوقع أن يثورَ أخوه بهذه الطريقة حتى تحدث “نَـعيم” بنبرةٍ جامدة يعاتبه بها:
_حرام عليك يا شيخ، مش كل شوية تخليه يحصله كدا، أنا تعبت منك وتعبت من عنادك دا، فضولك هيتسبب في موتك مرة وكدا تبقى الناهية بتاعتك، ربنا يهديك لنفسك يا “إسماعيل”.
جلس بجسدٍ رخوٍ على المقعد وهو يشعر بالذنب كما الطالب الذي تلقى العقاب صباحًا على يد معلمه لكنه هنا تلقاه على يده دنيته بأكملها، ارغمته الحياة على سلك طريقٍ خاطيءٍ غير اللذي يُريده وظل مجبورًا على إكمال الطريق دون وعيٍ منه، كيف يخبره أنه نفذ هذا طواعيةً لسلطةٍ أكبر منه؟؟ لم يُحجمها هو بل هي التي تُحجم طاقته في الوقوف لها.
_______________________________
<“حصلنا على القمر وانتظرنا السهر”>
وصل “أيوب” محله وجلس به ولازالت المباركات تنهال عليه من المارين بجوار محله ويرد عليهم هو التحية بحفاوةٍ شديدة، ثم تنهد بعمقٍ وأخرج هاتفه يطلب رقمها براحةٍ سكنت بين ضلوعه، يهاتفها للمرةِ الأولى بحقٍ بعدما أصبحت له دون أن يفعل أي شيءٍ يؤنب ضميره، فتحت المكالمة دون أن تستعلم هوية المتصل ظنًا منها أنه “يوسف” لذا قالت بحماسٍ:
_اتأخرت ليه مش قولت هنفطر سوا ؟؟.
عقد ما بين حاجبيه وتحدث بسخريةٍ يرد عليها:
_والله ماحد قالي، مع أني أتمنى.
ميزت صوته !! هذا صوته حقًا لذا اتسعت عيناها فور استماعها لصوته ونظرت في شاشة الهاتف لتجد اسمه حينها شهقت بدهشةٍ ووضعت الهاتف على أذنها من جديد وهي تقول بتوترٍ سيطر عليها:
_والله العظيم كنت فكراك “يوسف” معرفش إن أنتَ.
أبتسم رغمًا عنه من جديد وهتف يخفف حدة توترها بقوله:
_حصل خير ولا يهمك أنا وهو واحد، أنا قولت أتصل عليكِ أشوفك كدا تمام ولا إيه.
تنهدت بعمقٍ وجاوبته بنبرةٍ هادئة لم يُمحىٰ عنها الخجل:
_أنا كويسة، أنتَ إيه أخبارك ؟؟ أتمنى تكون بخير إن شاء الله وتفضل كويس علطول.
ابتسم بخفةٍ وكذلك عيناه ابتسمت هي الأخرى ليقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا لو عليا مبسوط الحمدلله أوي، وعاوز أعرف أنتِ مبسوطة زيي ولا لأ وياترى فتحتي الصندوق؟؟
عند ذكر الصندوق ارتفعت ضربات قلبها تتسارع خلف بعضها حينما تذكرت الخطاب الذي أرسله لها، لازالت حروفه عالقة في ذهنها حتى أدق التفاصيل الخاصة به، حديثه وكلماته التي ارسلتها إلى عالمٍ أخر لم تدخله في حياتها لمرةٍ واحدة سوى على يديه وهو يفتح لها أبواب هذا العالم، لاحظ طيلة صمتها فذكر اسمها بنبرةٍ رخيمة لتنتبه له وتسأله بلهفةٍ وبدون تفكير:
_”أيوب” !! معنى كلامك دا إن جوازنا مش مجرد معرفة وخلاص وإن فيه حاجة في قلبك ليا صح ؟؟.
ابتسم بسخريةٍ وجاوبها بما هو غير متوقع وصدق هو في قوله:
_دا لو مكانش كل القلب ليكِ يا “قـمـر”.
اتسعت عيناها بدهشةٍ وقد فاجئها هذه المرة أيضًا ولم يكن أمامها سوى أن تغلق الهاتف في وجهه وهي تقول بغير تصديق:
_مين دا ؟؟ “أيوب” فين ؟؟.
على الجهةِ الأخرىٰ توقع هو حدوث هذا الشيء لذا أغلق الهاتف ووضعه على مكتبه فوجد “يوسف” يدخل له محله وهو يقول بنبرةٍ جامدة وكأنه أُرغِمَ على التحدث معه:
_صباح الخير.
ابتسم “يوسف” وهتف بنبرةٍ هادئة:
_وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
رفع “يوسف” حاجبيه فيكفيه ما فعلته معه “عهد” لن يدخل مع “أيوب” في صراعاتٍ صباحية لذا تنهد بعمقٍ ثم تحدث بنفس الجمود يقول:
_عاوز أتكلم مع الحج ولازم تكون موجود.
أشار “أيوب” على نفسه باستفسارٍ غير منطوق جعل الأخر يحرك رأسه موافقًا فوقف “أيوب” وأخبر مساعده بهذا ثم اقترب من “يوسف” يخبره بنبرةٍ هادئة:
_حاضر، هو في المحل الكبير تعالى معايا.
تحرك الاثنان بجوار بعضهما في الحارة والأنظار تتبعهما، هيئتهما غريبة، واحدٌ يبدو عليه التدين كما أن وجهه يبتسم دومًا والآخر ملامحه تنطق بالغموض ولم يُفهم عليه أي شيءٍ، بدا وكأنهما شيئين مُتنافيين عكس بعضهما، كما النار والثلج، استمر سيرهما في صمتٍ حتى وصلا إلى محل “عبدالقادر” الذي رحب بهما وأشار لهما بالجلوس.
جلس “يوسف” أولًا و تبعه “أيوب” لذا تحدث “عبدالقادر” مستفسرًا بقوله الذي غمرته الحيرة المتضحة عليه وهو يتفحص ملامحهما وقد ظن أنهما تشاجرا سويًا:
_خير على الصبح ؟؟ أوعوا تكونوا اتخانقتوا ؟؟ تبقوا بدأتوها بدري أوي لسه سكتكم طويلة.
ضحك “أيوب” رغمًا عنه فيما تنهد “يوسف” ودلف في الحديث بدون أي مقدماتٍ رسمية لن تفيد بشيءٍ:
_بعد إذنك يا حج أنا عاوز أشتري الشقة اللي أنا فيها والشقة اللي جنبها، وشرا مش إيجار ولا واجب منك.
ألقى “عبدالقادر” نظرة خاطفة لابنه ثم نظر من جديد إلى “يوسف” الذي صدر الجمود والكبرياء لهما فأضاف “عبدالقادر” بثباتٍ:
_أنا عيوني ليك، بس هو حد طلب منك حاجة؟؟.
جاوبه بثقةٍ هو الأخر:
_محدش يقدر يتكلم معايا لأني مبعملش حاجة غلط، بس أنا عاوز أجيب أهلي هنا حارة العطار، يعني علشان أبقى مركز أكتر في حياتي وابقى كدا ماسك الأمور كلها في أيدي.
أبتسم “أيوب” بإعجابٍ فور نطق “يوسف” بهذا الحديث ونطق مؤيدًا بثباتٍ يواري خلفه موافقته الحتمية:
_كدا أفضل للكل، على الأقل يبقوا في حمايتنا هنا.
أبتسم “يوسف” بسخريةٍ وتأكد أنه نجح في اختياره لتواجد “أيوب” معه وهو يعلم أن والده لن يرفض مطلبه، بينما “أيوب” نظر له بثقةٍ هو الأخر وكأنه يخبره بعلمه لطريقة تفكيره وأنه أتى به إلى هنا لكي يكون بمثابة الطُعم في صيد موافقة “عبدالقادر” الذي لاحظ نظرات الإثنين لبعضهما، فأخرج زفيرًا قويًا ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_بصي يابني البيت بيتك ومش هقولك لأ ولو عاوز بيت العطار نفسه أنا معنديش أي مانع بس الأول هات أهلك واقنعهم وقعدهم هنا وبعدين نشوف موضوع الفلوس، لكن قبل كدا أنا مش هقدر أتكلم في أي حاجة، صدقني أنا مش برمي كلام وخلاص بس أنتَ زي ولادي بالظبط ومتقلش غلاوة عنهم، وكفاية إنك ابن أعز أخ ليا.
تنهد “يوسف” بثقلٍ ولم يعلم لماذا يأتي عند “عبدالقادر” ويصمت تمامًا بل يوافق على حديثه لذا سأله باهتمامٍ:
_يعني موافق أجيبهم هنا ؟؟ هيكونوا معايا وجنب “عهد” أظن أنتَ عارف الجواز سببه إيه غير كدا أنا مش ضامن أني اتحرك وأسيبهم يحصلهم حاجة.
حرك رأسه موافقًا بتفهمٍ ثم أضاف بودٍ له:
_بص يابني اللي بيني وبين المرحوم مش عشرة يوم ولا اتنين، دا عشرة عمر ومش عارف أنتَ واخد بالك ولا لأ بس المسجد اللي في الحارة دا صدقة على أموات المسلمين واللي من ضمنهم أبوك، والمياه اللي موجودة في الحارة هنا وكل مترين هتلاقي زير دا برضه صدقة لأبوك، يعلم ربنا مفارقش خيالي لو لحظة واحدة….و…
تهدج صوته لأول مرةٍ يعلن ضعفه على صديق روحه ورفيق دربه ومعه حبيبته أيضًا لكنه تصنع القوة وهتف من جديد:
_يعلم ربنا أني بموته فيه حتة من روحي سابتني ومشيت وإن اللي حصلك دا كسرني ومزادش من كسرتي دي غير “أيوب” ابني واللي حصله، لو عاوز أنتَ تريحني من بعد اللي حصل دا كله بلاش تعتبر نفسك غريب عني واعتبر نفسك زي ولادي.
تنهد “يوسف” وهرب من دموعه كعادته وهو يقول بنبرةٍ هادئة مبحوحة من البكاء المخيم على حلقه:
_اللي عملته لأهلي في غيابي وحفاظك عليهم أنتَ وعيالك ودفاع “أيوب” عن أختي يخليني العمر كله مديون بحياتي ودا علشان أنا حُر النفس وعزيز، مقبلش إن حد يجاملني وأنكر جميله، بس أنا مش عاوز حاجة تانية من باب الواجب بينا، كفاية لحد كدا عليك وصدقني أنا مش زعلان منك بالعكس أنا حاسس إني مكسوف ومهما أعمل مش هوفيك حقك، لو أنتَ عاوز أي حاجة مني أطلبها.
كان يتحدث بشموخٍ يعتز بنفسه وبكرامته ويوضح له أنه لم يكن ناكرًا للجميل بل هو أقوى من هذا، والآخر استمع له وتذكر صديقه كان عزيزًا لم يقبل الإهانة أو حتى يرضخ لأحدهم، لذا قال بثباتٍ يواري خلفه حزنه على فقيده:
_كتر خيرك بابني، بس أنا لو محتاج حاجة هي إنك تفضل هنا معانا وأهلك ينوروا حارة العطار وتبقى عملت اللي أنا فشلت فيه ومعرفتش أعمله.
التفت “يوسف” إلى “أيوب” يحذره بقوله:
_هي هتيجي هنا بس لو تخطيت حدودك هزعلك.
ابتسم “أيوب” وهتف بثباتٍ يثير استفزازه:
_لو عليا أنا عمري ما هتخطى حدودي، بس حافظ أنتَ كمان على حدودك شكلك ناسي إننا زي بعض.
ساد التحدي نظراتهما من جديد وكلٌ منهما يطالع الأخر بتأهبٍ ويريد إثبات رأيه وسلطته على الأخر.
______________________________
<“لما لم يمُت الماضي مع الموتىٰ”>
حالة تخبط أصابته منذ الصباح تحديدًا منذ المكالمة التي وصلته تبث الرعب داخل جسده وتتحدى خلايا ثباته، لم يدر كيف يتصرف حتى أنه في عمله منذ الصباح وجلس في مكتبه لكنه لم ينتبه حتى لعمله المتراكم عليه بل شرد تمامًا في ماضٍ قديمٍ إذا عاد من جديد ستقوم قيامته بحقٍ
[منذ عدة أعوامٍ كثيرة]
كان أخو “نَـعيم” الذي يعمل معهما في عدة مشروعاتٍ يرأسها “مُصطفى الراوي” يعمل معهم هو الأخر ونظرًا لأخلاقه الفاسدة منذ صغره وعدم مبالاته بالحياة أو حمل أي مسؤولية كان أخيه يشدد عليه المعاملة نظرًا لطيشه حتى أنه حدد له مصاريف قليلة زاهدة لم تكفيه، لذا كان يحارب في الأعمال الغير شرعية كما الآثار وغيرها من الطرق الملتوية لكسب المال وصنع رأس المال الخاص به ليكون كما أخيه.
حينها تعرف على “سامي” الذي عمل مع “مصطفى” و “عاصم” مساعدًا لهما وكم كان يكره هذه الصفة به، عُرِفَ دومًا بأنه المساعد الخاص لهما ولم يعرف أنه شريكهما، كان يسعى للوصول هو الأخر حتى وإن ضغط على أصول العمل والقيم المهنية، وفي يومٍ اجتمع مع “شوقي” شقيق “نَـعيم” الصغير ودارت بينهما عدة أحاديثٍ من وسطها على لسان الأخر:
_بس الحكاية هتبوظ مننا عاوزين شريك تالت يكمل حق البيت واللي يطلع منه يتقسم بالحق كل واحد فينا تلت من بعض نصيب الشيخ، شوفت الفقر.
تحدث “سامي” يقترح عليه ببساطةٍ وكأنه لم يدرك فداحة الأمر:
_طب ما تشوف “نَـعيم” أخوك هو يعني هيقولك لأ ؟؟ دا لسه دافع فلوس قد كدا لـ “مصطفى” علشان يجهزله الإسطبل الجديد، وأنتَ أخوه الوحيد مش هيقولك لأ.
ابتسم حينها “شوقي” بسخريةٍ وقال:
_قال “نَـعيم” قال، دا لو عرف هيموتني فيها، ومش بعيد يرميني في الشارع بعدين أنتَ عارف أنا لسه متجوز ومش حمل بهدلة، هي عملية فقر من أولها بس مصلحتها كبيرة.
قلب “سامي” الحديث في رأسه فسأله باهتمامٍ جليٍ:
_بقولك إيه ؟؟ هو البيت دا فيه حاجة بجد؟؟ ولا عملية فشينك؟ يعني متأكد أنه فيه حاجة أصلًا؟؟؟.
اندفع “شوقي” يخبره بنبرةٍ متلهفة:
_مليان ياعم، دا بيت في وسط السمان، يعني مركز هتلاقي فيه سرداب مش أقل من كدا، مش بقولك عملية فقر ؟؟ واقفة على مبلغ أهبل مش عارف أجمع ربعه.
وضع “سامي” سيجارته في المنفضة يُطفئها ثم اقترح بدهاءٍ:
_محلولة، هدخل معاكم شريك وليا التلت من بعض نصيب البركة، بس لو حصل وفيها لعب من تحت لتحت ولا مصلحة منك صدقني أنا هفرمك وأدوس عليك وأهدها على دماغك.
لم يبدي الأخر خوفه منه بل تصنع القوة وتسلح بشجاعةٍ زائفة أظهرها صوته حينما قال:
_والله متحسسنيش أني هموت عليك علشان تدخل شريك معانا كدا كدا فيه كتير عاوزين يدخلوا بس إحنا عاوزين حد ثقة، مش هننصب عليك يعني إحنا.
حرك رأسه موافقًا ثم بدأ في الحديث عن تفاصيل البيت والحفر وحجم الآثار وقيمتها تقريبًا وحينما تيقن أن الموضوع على ما يرام وأن كافة الاشياء مُيسرة لهم قرر أن يدخل شريكًا معهم في هذه العملية.
ذهبوا مع بعضهم برفقة من يزعم أنه رجل دين ويفهم في الأمور الدينية مستغلًا صورة رجال الدين في هذه الأعمال المشينة بخدعٍ تنطوي على مثل هذه الأشخاص، لذا يَسهل عليه كسب المال الوفير بحجة أنه ذو صلة بالعالم الأخر بقدراته الخارقة، وفي هذه الليلة حدث ماهو غير متوقع حيث وصلوا لبوابةٍ حديدية أسفل البيت بعدما حفروا مسافةً كُبرى لا بأسٍ بها، لكن الباب الموصد وجد عليه علامة لفتت نظر صاحب اللحية الطويلة وقد أجاد قراءة المكتوب عليها.
حينها صُدِمَ مما قرأه فلم يتوقع أن يكون الباب موصدًا بهذه الطريقة بل الأدهىٰ أن الرصد الفرعوني الموضوع على هذه البوابة، وقف صاحب اللحية مدهوشًا وتندى جبينه حتى سأله “شوقي” بنبرةٍ جامدة:
_ماتخلص يا شيخنا إحنا تحت الأرض والبيت هيقع على دماغنا دا من غير أساس، افتح المخروب دا وخلصنا.
التفت له الرجل يهتف بنبرةٍ جامدة يخالطها القلق:
_مش هينفع الباب دا علشان يفتح لازم نقدم قربان.
كرر “سامي” خلفه مستنكرًا:
_قربان ؟؟ نعم يا أخويا ؟؟ أنتَ اتجننت ولا إيه ؟؟.
هتف صاحب اللحية باندفاعٍ وقد تمكن منه القلق حتى وصل أشده ولم يعد احتوائه أمرًا عاديًا:
_زي ما سمعت لازم قربان من دم العصب، يعني واحد فيكم يجيب عيل صغير نقدمه للجن علشان الرصد الفرعوني يتفك، غير كدا مش هينفع يتفتح.
اتسعت عيناهما بغير تصديق ونظرا لبعضهما كما أن شريكهما الثالث لم يكن موجودًا معهم، بل دفع المال وأتى برجل الدين المزعوم وظل بعيدًا عن الصورة، لم يفهم أيًا منهما ما يُقال لذا هتف هو بنبرةٍ مُتلجلجة:
_بدل ما تبصوا لبعض حد فيكم يفكر هنعمل إيه ؟؟ هاتوا عيل نفتح بيه المقبرة وخلصونا، هنضيع الفلوس دي كلها مننا ؟؟ أنا عن نفسي مش هسيب فلوسي.
رفع “سامي” كفيه يضعهما على رأسه بيأسٍ بينما “شوقي” ظل بعيدًا عنهما يفكر في خسارته الفادحة حتى نطق بلهفةٍ يحاول إنقاذ مايمكن إنقاذه:
_فيه دار أيتام قريبة من هنا، ممكن نجيب منها عيل؟؟.
هتف الشيخ يردعه عن تفكيره بقوله:
_مينفعش !! لازم من عصب اللي بيفتحوا المقبرة، يعني ابنك أو أي حد من دمكم، ويكون عيل لسه مبلغش.
عاد الإحباط يتمكن من “شوقي” مُجددًا ليهتف “سامي” مثل الأفعى من تحت المياه تهسهس بفحيحٍ أقرب في تأثيره إلى لدغة سمها:
_الواد ابن “نَـعيم” أخوك فين ؟؟ هو دا اللي هيفتح الباب المقفول، مفيش غيره قدامنا بدل ما نضيع كل حاجة مننا.
اندفع “شوقي” يمسك تلابيبه وهو يقول وهو يهتف بنبرةٍ عالية محتدة تعبر عن غضبه:
_أنتَ اتجننت ؟؟ هضحي بابن أخويا علشان الهبل دا ؟؟ بطل تخاريف يا “سامي” بلاها العملية الزفت دي.
أمسك “سامي” كفي الأخر ينزعهما عن تلابيبه وهتف بنبرةٍ جامدة هو الأخر:
_أنتَ اللي بطل تخاريف عيل صغير وهيروح الجنة وخلصنا، هنفضل إحنا هنا شايلين الهم ؟؟ الناس اللي ليهم ديون عندك هتسدها إزاي ؟؟ أخوك نفسه لو عرف بحوار ديونك هيموتك هو التاني، هتفضل مذلول عند “نَـعيم” كتير ؟؟ أسمع مني وروح هات الواد خلينا نخلص، لو مكانك كان زماني جيبت ابني والله بس لسه منزلش من بطن أمه.
وقف “شوقي” حينذاك تائهًا كمن تلقى ضربة عصا فوق رأسه حتى أن كل الطُرق أغلقت في وجهه وبات مصيره معلومًا إما الموت أو التشرد أو السجن بسبب ديونه الكثيرة التي صرفها على شهواته وملاذاته.
[عودة إلى هذه اللحظة]
خرج “سامي” من شروده في الماضي قبل أن يتعمق أكثر من هذا في رحلة ذكرياته على صوت طرقات مكتبه الذي وقف “عاصم” على أعتابه وبعدما فتحه تحدث بنبرةٍ جامدة يرفع صوته وينبهه:
_إيه يا “سامي” ؟؟ أنتَ نمت ولا إيه ؟؟ ورانا اجتماع و الآنسة “رهف” قاعدة مستنية بصفتها المسئول الرسمي عن نصيب الأستاذ “يوسف”.
حاول “سامي” الحفاظ على ماء وجهه وحرك رأسه موافقًا وهرب ببؤبؤيه من نظرات “عاصم” له ثم وقف وأغلق زر سترته متصنعًا الثبات والقوة وإن كانت كلتاهما زائفةً، خرج بجوار “عاصم” متجهًا إلى غرفة الاجتماعات التي جلست بها “رهف” كما الفرخ المُبتل وسط وحشين عملاقين لم تفهم تفكيرهما وكل ما تعرفه أنها هنا تحارب لأجل صديق طفولتها.
________________________________
<“زارنا شخصٌ لَطيفٌ، مثل الزهور في ربيعها”>
أمام درجات بيت العطار توقفت هي بتوترٍ تصارع رغبتها في التواجد هنا، لقد انقسمت إلى شيئين مُتنافيين عن بعضهما تحاول الدخول إلى هُنا لأجل تخطي وجعها وحياتها البائسة وفي نفس الآن تود الهرب من هنا إلى بيتها تخشى البشر والتعامل معهم كما أنها تخشى التجارب الجديدة، وقفت تتذكر وجعها حينما ترى الأطفال الصِغار ثم تتذكر وجعها أنها محرومة من هذه النعمة التي لم يكتبها الله لها.
نجحت أخيرًا في تحدي نفسها ثم رفعت إصبعها تضغط على زر الجرس لكي تدخل البيت ففتحته لها “آيات” حتى انبهرت بها “نهال” وابتسمت بتلقائيةٍ لتجدها تسألها بمرحٍ:
_ميس “نهال” صح ؟؟.
حركت “نهال” رأسها موافقةً ولازال نظرها متعلقًا بتلك اللطيفة فوجدتها تضحك بسعادةٍ وهي تقول:
_أنا “آيات” أخت “أيهم” وعمة “إياد” نورتينا أنا مستنياكي من الصبح كأني أنا اللي هاخد الدرس.
تشوشت “نهال” قليلًا بسبب اندفاع هذه اللطيفة الذي تنحنحت بحرجٍ وهتفت بنبرةٍ خافتة تقول:
_أنا آسفة اندفعت مرة واحدة في الكلام، اتفضلي نكمل التعارف جوة، لو مش خايفة مني يعني.
هتفت “نهال” بسرعةٍ كبرى تتفي ظنونها:
_لأ خالص والله، بالعكس أنا فرحانة بوجودك أوي بس مستغربة الجو مش أكتر لكن أنا لو عليا اتشرفت بيكِ.
ابتسمت “آيات” لها بخجلٍ وهي تقول:
_الشرف لينا إحنا، اتفضلي هما مستنيين حضرتك جوة.
دلفت معها “نهال” وهي تفكر في هذه اللطيفة التي اتضحت صفاتها على ملامحها وتذكرت أيضًا أنها تشبه أخيها الصغير، نفس الإلتزام والتدين ولطف الحديث على الرغم إنها لم تتعامل معه لكن والدها دومًا يمدحه، سارت خلفها حتى وصلت للحديقة فوجدت “أيهم” يجلس بجوار الصغار الثلاثة في إنتظار “وعد” و “نهال”.
تحدثت “آيات” من خلفه تلفت نظره بوجود “نهال” فالتفت لها على الفور ووقف يقول بترحيبٍ هاديءٍ:
_أهلًا وسهلًا بحضرتك، نورتي البيت.
ردت عليه هي بأدبٍ وهدوءٍ:
_البيت منور بأهله كفاية مقابلة الآنسة يعني.
صدح صوت الجرس في هذه اللحظة فاستأذن منها “أيهم” وتحرك نحو الباب يفتحه ليجد “يوسف” بجواره “عهد” فابتسم له وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_كويس متأخرتش أوي، تعالى بقى أقعد معايا.
أعتذر منه “يوسف” يقول بأسفٍ:
_للأسف هروح البيت عندنا علشان مستنيني، “وعد” أهيه لو فيه حاجة عرفني أنا ولو فيه دروس تاني برضه عرفني.
ابتسم له “أيـهم” بفخرٍ نطقته نظراته فهو يقوم بدوره على أكمل وجهٍ منذ اليوم الأول لتواجده في حياتهم، لذا أمسك الصغيرة ثم ودعه ودلف من جديد للحديقة وهو يقول معرفًا المعلمة على الصغار:
_دي ميس “نهال” هتدي حضراتكم إنجليزي اللي معديين فيه بالعافية يا فشلا، نهدا ونتلم بدل ما ألمكم أنا.
ضحك الصغار فيما نظر هو لها وقال بطريقةٍ جادة تتنافى مع كلماته:
_أعرفك أنا بقى عليهم، دا الأستاذ “أبانوب” الدراع الشمال لابني يعني مصيبتين ماشيين على الأرض أي كارثة أي حاجة هتلاقيه هو الوزير بتاع ابني وغالبًا ناسي كشكول الواجب طول عمره.
كان هذا قوله حينما أشار على الصغير الذي رفع كفه يُحييه حتي ضحكت هي فيما أشار “أيهم” على “كاترين” وهو يقول بنفس السخريةِ:
_أقدملك دي بقى “كاترين” أو في مقولةٍ أخرى “كاتي” ملكة جمال حارة العطار مفيش في حلاوتها اتنين، وكشكولها ضايع مع كشكول أخوها.
حركت الصغيرة خصلاتها بدلالٍ جعل “نهال” تضحك لها وكذلك “آيات” فيما أشار هو على “وعـد” وهو يقول:
_دي بقى الآنسة “وعـد” زي ما حضرتك شايفة كدا بائسة هتيجي مرة وتخاف تيجي تاني، بس الشهادة لله دي أشطرهم وأأدبهم كمان.
ضحكت له “وعـد” فيما التفت لصغيره الذي راقص حاجبيه وهو يشير على “نهال” حتى قال والده بسخريةٍ:
_دا بقى ابني أخرة صبري في الدنيا وتخليص الذنوب اللي عملتها زي ما أنتِ شايفة كدا حلمه يسوق توكتوك.
هتف “إياد” بسرعةٍ يؤيد حديث والده:
_والله بيكسب بس أنتَ اللي مش راضي تديني فرصة.
اتسعت عينا “نهال” وكذلك “آيات” التي شعرت بالخجل منه فيما تحدثت الأولى بلطفٍ بعدما ابتسمت لهم جميعًا:
_طب كدا أنا اتعرفت عليهم كلهم ودا شرف ليا والله، إن شاء الله تكون رحلة سعيدة لينا وتحبوني زي ما أنا حبيتكم كدا، وأتمنى يعني تفهموا الشرح كويس، جاهزين ؟؟.
حركوا رأسهم بموافقةٍ فيما قالت “آيات” بحماسٍ:
_طب حيث كدا بقى هجيبلك أنا حاجة تشربيها علشان طاقتك تشتغل بسرعة ولو فيه أي حاجة أتمنى تطلبيها مني.
حركت رأسها موافقةً ثم أوقفتها عن الحركة بقولها:
_ملهوش لزوم تتعبي نفسك أنا مش جاية هنا اتضايف.
ردت عليها “آيات” بابتسامةٍ بشوشة ترحب بتواجدها هنا:
_أنا مش بضايفك لأنك صاحبة بيت، عن إذنك.
تحركت “آيات” من المكان وخلفها أخوها أيضًا فيما تابعتهما “نهال” بنظراتها التي ابتسمت ثم نظرت للصغار بعينين دامعتين وحينها سحبت نفسًا عميقًا ثم اقتربت منهما تبدأ عملها وهي تفكر في اللُطف المحاوط لها وأنها ستذهب من هنا إلى حزنها ووحدتها من جديد.
_________________________________
<“فلنبدأ من جديد لعل خطانا تنجح هذه المرة”>
جلس “يوسف” مع عائلته يتناول وجبة الغداء وجلس مُحاوطًا بالدفء من كل جانبٍ، عائلةٌ تحبه وطعامه المفضل ووالدته تطعمه وشقيقته بجواره و ابناء خاله مع بعضهما، كل شيءٍ هنا كما الرياح الخفيفة تحارب سخونة الأجواء.
انتهز فرصة جلوسهم مع بعضهم وسأل “عُـدي” باهتمامٍ:
_دراعك أخباره إيه دلوقتي ؟؟ تيجي نروح لدكتور ؟؟.
رفع “عُـدي” إبهامه وهو يقول بلامبالاةٍ:
_مش مستاهلة متقلقش، أنا زي الفل.
حرك رأسه موافقًا ثم تحدث يخبرهم بقراره قائلًا:
_طب بما إننا كلنا سوى هنا أحب أقولكم إننا هنسيب البيت دا ونروح حارة العطار، كلها يومين ونمشي من هنا.
نظروا لبعضهم بحيرةٍ وقد هتف “فضل” بنبرةٍ تائهة:
_ليه يا حبيبي؟؟ ما إحنا هنا أهو وزي الفل.
رد عليه مُعدلًا على حديثه:
_زي الفل آه مقولتش حاجة بس الأفضل لينا نكون في حارة العطار، البيوت هناك أفضل والمنظر أحسن غير كدا الظروف هتبقى أهدا عليا لو روحنا هناك كلنا، أنا كلمت الحج وجيبت شقة تانية جنب شقتي اللي قاعد فيها، وعلشان “عـهد” هي كمان، قولتوا إيه ؟؟.
نظرت له “غالية” بحيرةٍ وتشتتٍ فهي لم تود رفض مطلبه وفي نفس الوقت تراه مُحقًا خاصةً لظروف زواجه ولاحتياج زوجته له، لكن البيت هنا عزيزًا عليها هو المأوى الأول لها من بعد طردهم في الشارع كما المشردين ولم يختلف حال “فضل” عنها بل ضاع هو الأخر ونظر لشقيقته بحيرةٍ ثم سأل بضيقٍ:
_وورشتي ؟؟ هعمل فيها إيه؟؟ وأصرف منين؟؟.
تحدث “يوسف” بلامبالاةٍ:
_ملهاش لازمة ورشتك دي، أنتَ لازم ترتاح وترجع زي ما كنت الأستاذ “فضل” مدير الحسابات، إنما عيشتك دي تنساها، هنروح حارة العطار كلنا وقدامكم يومين مش هتاخدوا غير هدومكم بس الشقق هناك فيها كل حاجة، موافقين ولا إيه ؟؟.
تحدث “عُـدي” بخضوعٍ له:
_أنا عن نفسي موافق، أنا أصلًا بكره البيت هنا، قديم وتحسه بيت عواجيز كدا، معاك يا غالي.
غمز له “يوسف” وهتف بإعجابٍ لطريقة تفكيره:
_أصلي.
ضحك “عُـدي” له فيما هتفت “أسماء” بحماسٍ:
_بجد ؟؟ هتسكني في حارة العطار ؟؟ واد مش دي الحارة التي كلها رخام وفخار ومكتوب على الرخام بتاعها أحاديث وآيات قرآنية ؟؟.
حرك رأسه موافقًا فهتفت هي بتصنعٍ:
_أنا نقطة ضعفي التدين، وديني علشان ناخد ثواب كلنا.
ضحك “يوسف” رغمًا عنه وكذلك البقية ليهتف زوجها بضجرٍ من تفكيرها:
_أنتِ معندكيش أي انتماء خالص ؟؟ هتسيبي البيت اللي أوانا وبدأنا فيه من جديد ؟؟.
لوحت له بلامبالاةٍ وهي تقول:
_هو كان بيت أبويا علشان أزعل عليه؟؟ دا سلمه مكسور وحاله كرب، خليني أشوف حارة العطار دي وابقى من سكانها، يلهوي يا عيال ؟؟ هنركب أسانسير ؟؟.
اقترب “يوسف” منها يجلس بجوارها وهو يقول بما يزيد فكرها من نقلهم إلى هناك:
_هتركبي أسانسير وهتسكني في الحارة اللي كلها رخام وفخار ومش بس كدا فيه سطح هناك كله زرع وورد ونعناع بيطل على الحارة كلها، قولتي إيه؟؟.
تجاهلت حديثه ورفعت صوتها تنادي على ابنتها وهي تقول:
_بِـــت يــا ضُــحىٰ !! قومي يابت جهزي الشنط.
ضحكوا عليها بيأسٍ وكذلك “يوسف” فيما التفتت له وهي تقول بضجرٍ من هذه العائلة:
_سيبك منهم دي عيلة وش فقر، قولي الشقة في الدور الكام يا حبيب سمكة؟؟؟.
ضحك ضحكةً مكتومة جعلتها تلتفت إلى “قمر” التي كانت تضحك لهما وغمزت لها وهي تقول بخبثٍ:
_أيوا يا ست، رايحين حارة الحبايب.
خجلت “قمر” منهم وأخفضت رأسها بوجهٍ أحمر بقتامةٍ بعدما غزته الدماء وتدفقت حتى شعرت بسخونةٍ غريبة ففهم “يوسف” ما تشعر به لذا تحرك من محله يجلس بجوارها ثم رفع ذراعه يضمها إليه حتى دفنت رأسها في كتفه تبتسم بخجلٍ وقد حاوطها هو ثم قبل رأسها يتشبث بها ولم يعلم لماذا هي وحدها تعطيه الأمان المسلوب منه منذ طفولته حتى أن عناقها يملك دفء الشمس الساطعة من بعد ليلةٍ ممطرة مُظلمة أضائتها الشمس بضوئها، وهنا فكر أنها حقًا تملك كلا الصفتين تدفيء حياته مثل شمسٍ ساطعة وتحتوي ليله مثل قمرٍ منير.
________________________________
<“لما الحزن إذا كنا نستطع امتلاك الفرح”>
أتت “مهرائيل” برفقة شقيقتها إلى بيت “العطار” دلفتا من بعدها إلى غرفة “آيات” التي جلس بها “أيـهم” يتابع أعماله وهي كانت تجلس معه وما إن دلفت الفتيات وقف وهو يقول بخجلٍ من تواجدهن:
_معلش والله ماكنتش أعرف أنكم جايين، عن اذنكم.
هَمَّ بالخروج من الغرفة فاندفعت “مهرائيل” توقفه بقولها:
_”بيشوي” فين يا “أيهم” ؟؟.
نظر لـ “آيات” أولًا ثم نظر لها من جديد فوجدها تقول بلهفةٍ:
_مش حابة أضايقوا بس عاوزة أعرف هو راح فين، مش عادته ميظهرش كدا وحد يقعد غيره في المحل، هو كويس صح؟؟.
سألها بنبرةٍ جامدة متصنعًا الغضب منها:
_يفرق معاكِ أوي هو فين ؟؟.
تلجلجت هي وأخفضت رأسها تهرب من الجواب فتحدث هو بسخريةٍ:
_مش هقولك عارفة ليه ؟؟ علشان أنتِ ضعيفة ومش قادرة حتى تتحملي تدافعي عنه زي ماهو ياما حاول علشانك، مش قادرة حتى تقولي إنك عاوزاه، سيبيه يرتاح شوية علشان يعرف ييجي يكمل حياته.
ظهرت الدموع في عينيها فيما وجه حديثه للصغيرة وهو يقول:
_وأنت يا ست “مارينا” ؟؟ فوقي قبل ما تبقي زيها ولو عاوزة حاجة اتعلمي تحاربي علشانها، عن اذنكم.
تحرك من محله وهو يقصد هذا الحديث الذي ألقاه عليها كما الأسواط الجارحة، يرى أنها تحبه ويعلم هذا لكن ضعفها أقوى من قوتها ومحاربتها لأجل رفيقه، لذا تعمد أن يذكرها بهذا الضعف لعلها تنجح محاولة رفيقه الأخيرة قبل أن يعود من سفره ورحلة شقائه.
في شقة “تَـيام” دلفها بعدما ضرب الجرس نظرًا لتواجد خالتيه وبناتهن معهن، لذا دلف بخجلٍ منهن فوجد خالته تقول بنبرةٍ عالية:
_ماتيجي يا واد هو إحنا غُرب يعني ولا خلاص علشان بقيت خاطب العروسة هتخليك تشوف نفسك علينا؟؟ كفاية هي مقفلة هتبقى أنتَ كمان زيها ؟؟
رفع حاجبيه باستنكارٍ شديد للهجتها الحادة في الحديث عن خطيبته وكذلك ضحكات البقية عدا والدته التي نظرت له بأسفٍ فيما قال هو بنبرةٍ هادئة يحاول الإتصاف بالثبات أمام صفات خالته المتطفلة:
_لأ والله هي مش مقفلة ولا حاجة هي عندها حدود بتتعامل بيها مش زريبة هي علشان تفتح حياتها على البحري ولو هي كدا مقفلة علشان تحافظ على نفسها ربنا يكرم بنات الدنيا كلها بنفس القفلة دي.
تحدثت خالته الأخرى بتهكمٍ بعدما لوت فمها:
_ياخويا اتلهي على عينك، دي مخلتكش حتى تلبسها الدبلة وعاملين خطوبة سكيتي ولا اللي ميتلهم ميت، شكلك كدا هتشوف أيام مايعلم بيها إلا ربنا، هي دي الخطوبة ؟؟ طب مكتبتش الكتاب ليه زيك زي اللي كتبوا إمبارح ؟؟ ولا مستقليين بيك؟؟.
تنهد بعمقٍ ثم التفت يوليها ظهره وهو يقول بوقاحةٍ:
_نورتي بيت أختك يا خالتو، أبقي عرفوني قبل ما تمشوا علشان أجيب عربية من عربيات حمايا أوصلكم بيها، الراجل مأمنلي على الجراج كله، جوزك مش هيرضى ييجي علشان البنزين غلي.
دلف بعد حديثه الوقح إلى الداخل فيما نظرت الفتيات والنساء لبعضهن بأعين تنطق بالغِل والحقد على “آيات” التي سرقت الشاب الوسيم الذي حلمت به كل فتاةٍ في العائلة وهو دومًا لا يبالي بهن ولا حتى باقتراحات عائلته.
_____________________________
<“قبضة القلب أقسى من ظُلمة الدرب”>
جلست “فاتن” كعادتها في بيت ابنها بمفردها هنا مع “شهد” خاصةً بعدما رحل هو، أصبحت حياتها خاويةً من بعد رحيله وقد استأنست معه الأيام التي ظلتها بجواره، أخرجت هاتفها تطمئن على صديقتها الجديدة التي تعرفت عليها في حارة العطار “مَـي”، أخرجت الهاتف تطمئن عليها وعلى فتياتها حتى أخبرتها الأخرى بعقد قران “يوسف” على “عـهد” و “أيوب” ابن “عبدالقادر” على “قمر” شقيقة “يوسف”.
صُدمت “فاتن” من الخبر لكن فرحتها بأبناء أخيها أكبر من حزنها على ظروف عائلتهم، شعرت بالفرحة خاصةً أنه وجد شقيقته وأمه لذا أغلقت معها الهاتف وبدون تفكير أخرجت الهاتف تطلب رقمه وبكت وهي تنتظر رده عليها حتى وصلها صوته فقالت باندفاعٍ:
_أيوا يا حبيبي، ألف مبروك يا “يوسف”، فرحت أوي إنك اتجوزت “عـهد”، دي بنوتة طيبة وجميلة وتستاهلك بجد.
وقفت “شهد” على أعتاب الغرفة بصدمةٍ جلية ورفرفت بأهدابها وقد تيقنت أن ما سمعته حقيقة حينما أضافت “فاتن” من جديد ترد عليه بحماسٍ:
_مش مهم، المهم إنك اتجوزتها، صدقني هي محتاجة ليك وأنتَ كمان محتاج ليها، ألف مبروك يا حبيب عمتو.
نزلت دموع “شهد” وأخرجت هاتفها تتفحص حسابه الخاص على موقع “تويتر” فوجدته دون حالته في الصباح كتابةً عليه:
_قد سبق وقطع القلب العهد، لكنه خائن خان ذلك العهد.
لم تفهم معنى حديثه المكتوب لكنها تذكرت اسم “عـهد” حينما ذكرته “فاتن” وتيقنت أنه تخطى تواجدها وأتت أخرى محلها وربما تفوز به كما كانت هي الرابحة الوحيدة التي استطاعت لفت نظره، لكنها لم تتوقع أن يتزوج بأخرى على حد علمها أنه قطع عهدًا بعدم الإقتراب من دروب الحب مرةً أخرى، اليوم خان العهد ؟؟ وخسرت هي بعدما ظنت أنها انتصرت عليه وعلى الجميع لياتي هو بخبر زواجه يثبت لها أن الخاسر الوحيد لم يكن سواها.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)