رواية غناء الروح الفصل الثالث 3 بقلم زيزي محمد
رواية غناء الروح البارت الثالث
رواية غناء الروح الجزء الثالث
رواية غناء الروح الحلقة الثالثة
انتفضت يسر بفزع واستدارت بكامل جسدها تواجه طوفان غضبه متسائلة بنبرة غاضبة ولكنها مهزوزة بعض الشيء:
-أيه في أيه؟، خضتني!
اختصر المسافات بينهما في لحظة كان بها قريب جدًا منها حتى أن أنفاسه الساخنة كانت تضرب صفحة وجهها الباهت:
-خضيتك وبالنسبة اللي انتي بتقوليه! ده شيء عادي.
أصاب لسانها الجامح بعض من التوتر وهي تجيبه، وإصرارها يواصل طريقه في معارضته كالعادة:
-آآ…أنا قولت أيه، وبعدين ازاي تتصنت عليا!
صاح بصوتٍ مرتفع ولم يهمه الوقت ولا المكان ولا أي شيء سوى إعادة ترويض تلك الجامحة بقليلٍ من التهديد الواضح والصريح:
-نعم! بقولك أيه ماتنرفزنيش وتعصبيني.
تظاهرت بالبرود والعصيان معًا بكلماتها المندفعة من فمها:
-اه…اه اقلب وطلع شخصيتك التانية.
اتكأ فوق حروفه بصوتٍ قاس لعلها تستفيق:
-شخصية أيه يا مجنونة! هو أنا بلياتشو…بس تصدقي أنا فعلاً ممكن اتنازل عن شهادتي العلمية وعن مكانتي كـدكتور محترم واقلب صايع وماترباش في سبيل اعدل دماغك المايلة دي.
مال وجهها للصدمة وهي تسأل غير مصدقة ما يتفوه به:
-أنا دماغي مايلة يا نوح؟!
فاض به الكيل وظهر الغضب جليًا بصوته وجسده المشدود:
-ايوه، لما تكوني عايزة تموتي ابني اللي في بطنك يبقى أيه يا جاحدة؟
انفجرت فيه بغضبٍ مماثل ولمحة من الحسرة بانت بنغمة صوتها الحزين:
-يبقى مش حاسة معاك بالأمان.
استنكر سريعًا بقوله:
-ليه يعني بنميك من غير عشا؟! ولا بمسيك وبصبحك بعلقة، اوعي كده وريني وشك ما شوف يمكن سايب علامة هنا ولا هنا!
انفلت لسانها بعدما استفزها بكلامه:
-بطل تريقة انت عديم المشاعر.
أمسك ذراعها بقسوة وشدد فوقه بتحذير ضارٍ:
-يســر ماتتعديش حدودك معايا أبدًا.
فاضت مشاعرها السلبية اتجاهه، وشعرت أن الأمل التي كانت تسعى خلفه بتغييره وتحويل حياتهما البائسة للأخرى سعيدة أصبح من المستحيلات، فقالت برعونة متعمدة:
-طيب ابعد عني وماتقربش حتى ريحتك مابقتش قادرة اشمها.
ضحك ساخرًا منها وتعمد الاقتراب أكثر، متجاهلاً كل محاولاتها في الابتعاد عنه:
-ليه مع اني متبرفن كويس قبل ما أجاي؟!
وضعت يدها فوق صدره العريض تدفعه للخلف وعيناها المستشاطة بغيرة وقهر توضح له مدى غضبها منه:
-وليه ماتقولش بتفكرني بنكستي معاك، باليوم الاسود اللي قررت اوافق فيه على جوازتي منك واتنازل عن حقي فيك!
ضغط فوق حروفه والعناد يعمي عيناه عن حقيقة القهر الذي تعيشه معه بسبب تصرفاته المستمرة في إذلال أنوثتها:
-اقسم بالله انتي غيرتك لحست دماغك لدرجة انك مابقتيش تفرقي في الكلام معايا، أنا لغاية دلوقتي مستحملك ومستحمل هرموناتك اللي ماكنتش عارف افسرها، بس كل واحد وله طاقة وأنا طاقتي خلصت.
انهى حديثه وتركها ببساطة وكأنه لم يضاعف وجعها منه وكأن سوط كلماته لم يجلد كرامتها من جديد، فراحت تقول بانهيار:
-أنا اللي طاقتي خلاص خلصت ومابقتش قادرة استحمل، ولازم نحط حد اللي احنا فيه لو عايزاني، أما بقى شغل انك عايز كل حاجة في حياتك دي لا وألف لا.
التفت قبل أن يدخل للمرحاض يسألها بسخرية:
-طيب لو عايز ادخل الحمام دي ظروفها أيه؟!
عقدت حاجبيها معًا بتعجب منه، فقال باستهزاء:
-ايه تدخلي معايا، أنا عن نفسي موافق جدًا.
استلمت منه وتيرة الاستهزاء وردت بحدة وكبرياء:
-مش بقولك من كتر تعاملك مع اللي يسوى ومايسواش مستواك نزل خالص.
رمقها بنظرة يغمرها التهكم وهو يقول:
-من تواضع لله رفعه يا بنت الحج فاضل، وبعدين بالله عليكي ماتحسسنيش انك من هوانم جاردن سيتي ابوكي تاجر اجهزة كهربائية فكك وحطي واطي شوية.
أنهى كلامه حين دخل للمرحاض ثم أغلق الباب بقوة في وجهها تاركًا إياها تستشيط أكثر والغيظ ينحر بها نحرًا.
بعد مرور وقت قليل…
خرج من المرحاض بعد أن قضى بعض الوقت تحت الماء الفاتر مقررًا إخراج جميع سلبياته والتفكير في اللا شيء ولكن كلماتها دومًا تطرق عقله تصيبه بالجنون والغيظ فيعود متهورًا بقرار عقابها أو إغاظتها بأي شيء حتى يشعر بأنه نال جزء من كرامته التي تحاول هدمها دومًا بنبرتها المنفعلة وهياجها المفرط في التعامل معه.
تعمد الغناء بصوت خفيض وهو يغلق باب المرحاض خلفه، ولكنه صُدم بها تضع ثيابها في حقيبتها بعصبية ودموعها المتساقطة تتسابق بلهفة لتملئ صفحات وجهها، فزفر بقوة وهو يتساءل:
-بتعملي أيه يا يسر؟
ردت بنبرة متقطعة يغمرها الحزن:
-بلم هدومي وماشية.
-ماشية الساعة ١ بليل!
عقب مستنكرًا فرفعت وجهها تسأله باستنكار يملأه الأسى:
-يعني هي فارقة بليل ولا الصبح، النتيجة أني ماشية.
ألقى المنشفة أرضًا وهو يتجه نحوها يحاول إيقافها بصوته المجهد:
-خلاص أنا اللي همشي.
أبعدت يده بهدوء، بينما تشابكت نظراتهما في لحظات شوق بترتها هي بإصرارها:
-أنا شايفة أن أنا اللي امشي افضل، أنا بقيت حاسة أني عبأ عليك فأريحك مني احسن.
أمسك ذراعيها يجذبها نحوه بلطف وهو يقول:
-والله عمرك ما كنتي عبأ ولا هتكوني، يا يسر أنا ببقى راجع تعبان وهلكان ومحتاجكك بس دايمًا بلاقيكي عكس ما كنت متخيلك، يا اما منكدة عليا يا مبوزة ومش عاجبك حاجة، يا يسر أنا بقيت مش فاكر أحنا امتى كنا متصالحين من كتر ما على طول متخانقين وزهقانين من بعض من كتر المشاكل يعني عاجبك اني على طول بعيد عنك.
انهارت باكية في أحضانه تخرج ما تكنه بصدرها:
-انت تعرف إنك تبقى بعيد عني أريح ليا.
ابتعد خطوة والصدمة تجوب وجهه:
-انتي بتقول أيه، في واحدة تقول كده لجوزها؟!
هزت رأسها مؤكدة وهي تقول بحرقة:
-عشان لما نبقى كويسين على طول بتفتح معايا انك عايز تجرب الجوازة التانية حتى لو كان بهزار يا نوح الكلام ده بيجرحني، يا أما تليفونات العيادة اللي كلها من بنات، عرفت أنا ليه كده بيبقى أريح ليا.
زفر بقوة ولم يجد رد مناسب، فجميع ردوده ستصيبها بجلطة إن أعلنها، سيحتفظ بصمته ويتظاهر بعكس ما يكنه فقال بلطف:
-حقك عليا، أنا مش هضايقك تاني، ده أنا حتى قفلت تليفوني قبل ما ادخل الشقة عشان مش عايز ازعلك.
عاد الأمل يطرق بابها من جديد فقالت بصوت مبحوح يصارع أمواجه الحزينة:
-بجد يا نوح؟
-اه والله حقك عليا أني اتعصبت، بس اعذريني يعني عايزة تحرميني من ابننا وتسقطيه، وبعدين انتي ماتعرفيش أنه حرام.
مسحت دموعها بأصابعها المرتجفة وهي تقول بصدق:
-غصب عني، بس مكنتش حابة انه يتعذب ما بينا زي لينا.
عقد حاجبيه متسائلاً بقلق:
-مالها لينا؟ انتي بتقوليلها حاجة عني؟!
ضحكت بتهكم وهي تجيب:
-لا طبعًا بس البنت مش صغيرة يا نوح، البنت عندها خمس سنين وفاهمة كويس اووي اننا مش مرتاحين مع بعض، وبعدين انت على طول بعيد عنها وماخدتش اجازة واحدة تقعد معاها او تفسحها البنت حاسة بنقص.
اعترض سريعًا:
-أيه نقص!، امال أنا طالع عين اهلي ليه وعشان خاطر مين؟!
-يا نوح الحياة مش فلوس، البنت محتاجة احتواء بردو ومحتاجة وجودك معاها، انت الحمد لله مش مخليها عايزة حاجة وكل طلباتها مجابة بس….
قاطعها مدركًا ما ستقوله:
-خلاص أنا هاخد اجازة بكرة من العيادة واخرجكم.
اتسعت عيناها بعدم تصديق تسأله بلهفة:
-بجد يا نوح، بجد هتقعد معانا بكرة وتفسحنا.
هز رأسه مؤكدًا وهو يربت فوق كتفها بحب:
-اه والله، أنا ماعنديش اغلى منكم عشان اسعدكم.
لم تجد رد يكفيه حجم عمق كلماته الصادقة، فاكتفت بإغراقه في بئر مشاعرها الدفينة، تشبعه بحنانها وغرامها بيه بالرغم ما يفعله أحيانًا معها، مجبرة عقلها على التوقف في التفكير وخاصةً في تلك اللحظة كي لا تتذكر تلك الندبة القوية والتي كانت وستظل العقبة بحياتهما، بينما هو اكتفى باستغلال صفاء لحظتهما الحالية والتي ربما لن تتكرر مرة أخرى فبات خائفًا يشعر بالقلق حيال الدقائق والساعات مفكرًا متى ستكون المشكلة القادمة!
***
صباحًا..
تململ زيدان وهو يجلس أمام سليم والكثير من الاوراق أمامهما، فكانت أحيانًا عيناه تدور في أرجاء “المحل” وأحيانًا أخرى يتظاهر بالجدية ومتابعة حديث سليم عن ميزانية “المحلات” وحجم الأموال في البنوك، وعما يفكر فيه مستقبلاً من أجلهما هو ويزن، لاحظ صمت سليم ونظراته الغامضة فاندفع يعقب بجدية:
-عندك حق في كل اللي قولته.
عاد سليم بجسده للخلف يستند على ظهر الكرسي، يسأل بلمحة من المكر:
-أيوه بقى أيه اللي قولته؟!
مط شفتيه بضيق وسرعان ما أظهر إمارات الملل على وجهه:
-الصراحة بقى أنا مش فاهم ولا فايق لكل اللي بتقوله ده.
ضيق سليم عينيه بتفكير قبل أن يقول:
-هو ده مش مالك ولازم تبقى متابع معايا لكل اللي بيحصل وهيحصل.
-وانت بردو عارف أني ماليش في أمور تجارة الدهب، وبعدين انت ادرى مني وأنا واثق فيك.
لمعت عيناه بنصف بسمة ساخرة:
-لا قول انك بتحب تريح دماغك، ومتعود على الراحة.
عض فوق شفتيه السفلية بغيظ واضح، مانعًا نفسه من التهور والتصرف برعونة مع أخيه الأكبر، فضحك سليم بقوة والاعجاب يطرق عقله من تصرف زيدان بحقه فقال بكلمات كان متأكدًا أنها ستكون الشرارة في إحراق حبال الرزانة والتعقل الملفوفة حول عقل أخيه:
-لا عاجبني إنك كمان مابقتش قادر ترد عليا، في تطور اهو وبدأت أشوف فيك أمل.
عقد ما بين حاجبيه باحتجاج وهو يقول:
-معلش أمل لأيه بالظبط؟
أجاب ببساطة قاصدًا إثارة حفيظته:
-إن علاقتي بيك تبقى أحسن وافضل.
رغم أن الاستهزاء كان على عتبة إظهاره إلا أنه أخفاه واكتفى بقليل من الاعتراض ليظهره:
-والله العظيم أنا مش لاقي كلام اقوله.
وضع سليم يده أسفل ذقنه يستند عليها، ينظر له بتسلية والمكر يغزو نظراته الغامضة:
-لا انت مش قادر تقول حاجة لأحسن ازعل منك ولا انا زعلي مايفرقش؟!
تنهد زيدان بقوة وهو يجيب بصدق لعل أخيه الأكبر يقتنع بما يفعله في تحسين علاقتهما:
-لا ازاي زعلك طبعا يفرق معايا، وبحاول ابينلك كده بس الظاهر أنك مش واخد بالك.
كتم ضحكة قوية داعبت حلقه وقال بصوت جاد متأكدًا أن ما سيقوله سيفجر غضب أخيه الأصغر:
-يمكن محتاج تبذل مجهود أكبر.
بان على وجه زيدان الضيق حتى أنه كاد يترك زمام أمور التعقل جانبًا وينفجر بحماقة في وجه سليم، إلا أنه تراجع سريعًا وقرر التشبث بحافة الصمت أفضل مئة مرة من السقوط في هاوية فراقه عن أخيه من جديد، وعندما أدرك سليم صراعه مع نفسه قرر الرأفة بيه عندما حول مجرى الحديث بينهما لِمَ هو أعمق وأهم:
-على العموم سيبك من ده كله أنا كنت جايبك عشان حاجة تانية.
لم يستطع الزام نفسه كثيرًا في طور العقل والأدب فقال بسخرية:
-أيه جايبني عشان واحشك تقعد معايا لوحدنا!
تنهد سليم وهو يقول باستفزاز بينما يداه كانت تغلق الملفات أمامه سريعًا:
-لا أنا ماكنتش بحب اقعد معاك لوحدنا، بس دلوقتي بقيت افكر إن القعدة لوحدنا بدأت تجيب نتايج حلوة، بس ده بردو مش اللي عايزك فيه؟
فقد زيدان أي ذرة أمل في تلك الجلسة المليئة بأجواء الحدة والتحدي من قبل أخيه، فقال باستسلام:
-امال؟!
أجاب سليم باقتضاب وتحولت جميع معالمه:
-يزن اخوك.
وكأنه كان ينتظر الإشارة كي ينفجر بغيظ ويصب جام غضبه فوق يزن الغائب رغم أنه لم يفعل به شيء:
-ماله زفت الطين جلاب المشاكل.
-فكك منه، واوعى تحل له مشكلة، أنا عايزه يقع.
مالت ابتسامة زيدان للتسلية وهو يتساءل بحماس:
-هو انت حطيته في دماغك.
أجاب وهو يهز رأسه بتحدٍ:
-اه آن الاوان، أنا صبرت عليه كتير اوي على أمل أنه يتعدل لوحده بس باين مفيش أمل فيه.
وجد زيدان الفرصة للتعبير عن استياءه من طريقة تعامل سليم دومًا مع يزن:
-يزن انت مدلعه اوي الصراحة.
-خلاص اعتبر ان الدلع ده هيجي فوق دماغه، بس اللي قولتلك عليه يتنفذ سيبه يقع ماتحلش له أي مشاكل أنا عايز اعرف كل بلاويه ومشاكله.
نهض زيدان كي يستعد للذهاب لعمله وهو يتساءل بمزاح طفيف:
-تحب اشتغلك مخبر.
رد سليم بكبرياء وعنجهية كعادته:
-لا كفاية عليك شغل الداخلية، أنا عندي مخبريني.
ترك البساط لضحكاته وهو يقول:
-ياعيني عليك يا يزن حظك أسود وقعت تحت ايد اللي مابيرحمش.
أشار له سليم بضيق زائف:
-امشي يلا عشان بدأت تعك ومش هستحملك كتير.
****
خطت “سيرا ” خطواتها الواثقة في الطريق المؤدي للبرج الذي يقبع به “المركز الرياضي” ونظراتها تركض أحيانًا نحو الجانب الأخر من الطريق تنتظر خروج ذلك الـ “يزن” بعدما اندلعت شرارة فضول بسيطة داخلها لرؤيته من جديد، ورغم أن لقائهما كان بالأمس ولعدة دقائق بسيطة إلا أنه ترك بها أثر فريد وخاصةً بعد أن وجدته يقف في مساء البارحة أمام مكان عمله يتحدث بالهاتف وحين خرجت أمامه من باب “البرج” الحديدي لوح لها بابتسامة جذابة بسيطة فتجاهلته متظاهرة بعدم رؤيتها له، وأجبرت عقلها على عدم التفكير بيه، ولكن من حين لأخر يداهم عقلها وخاصةً بعدما أخبرها حدسها أنهما سيتقابلان.
وقبل أن تصل للبرج، لمحت متجر كبير لبيع الحلوى، فقررت أن تكافئ نفسها بشيء بسيط بعدما استمعت في الصباح لوصلة ندب وتهذيب من “أبلة حكمت” المعترضة دومًا عليها وعلى تصرفاتها، فهمست لنفسها:
“لازم اجيب لنفسي شوكولاتة اكافئ بيها نفسي الغلبانة أني مستحملها في حياتي”.
تابعت أنواع الحلوى بأعينها واحتارت تقتني أي واحدة منهم، ولكن صوته الذي اخترق دائرة تفكيرها جعلها تنتفض انتفاضة بسيطة تستدير له منعقدة الحاجبين وهي تردد بصوت أنثوي ناعم:
-نعم؟!
شملته بنظراتها الخاطفة لهيئته الرجولية الوسيمة بثيابه الأنيقة والبسيطة تزامنًا مع تلك الابتسامة الحمقاء التي استطاعت احتلال عقلها دون مجهود:
-كنت بقولك ازيك يا كوتش؟
حمحمت بحرج وهي تسيطر على ملامحها براحة مجيبة عليه:
-الحمد لله.
ثم التفتت تتظاهر باستكمال ما كانت تفعله إلا أنه أوقفها بسؤاله وملامحه تتدعي البراءة:
-أنا كنت عايز اسأل مواعيد الزومبا أيه في الجيم؟!
صمتت برهة قبل أن تجيب بمكر دفين:
-مرات حضرتك تقدر تعرفها من الريسبشن، هما هيقدورا يحددوا ليها معاد مناسب.
-مراتي؟!
ردد باستنكار، ثم تابع حديثه بمزاح طفيف:
-ده شكل واحد متجوز بردو بذمتك!
رمشت عدة مرات وهي تستدعي جديتها التي تلوذ بالفرار منها:
-امال حضرتك بتسأل لمين؟ لاختك؟!
-لا معنديش اخوات، أنا بسأل ليا، هو مفيش مواعيد للشباب ولا إيه؟
ماكر جدًا في اجتذابها للحديث معه ببساطة وذلك حينما قالت باستنكار:
-على أساس إن حضرتك ماتعرفش إنها للبنات بس؟!
رسم خطوط الصدمة فوق ملامحه وهو يقول بقهر زائف:
-أيه؟ بنات بس، لا طبعا مكنتش اعرف، قد ايه انتوا مجتمع انثوي عنصري، هو مش من حق الرجالة تعمل رياضة وزومبا وتهتم برشاقتها ولا إيه؟
عقدت ذراعيها وهي تمرر بصرها فوق عضلاته العريضة تقول بنبرة يغمرها التهكم:
-على أساس إنك محتاج؟
لمعت الشقاوة في عينيه وهو يقول بمكر رجولي:
-اعتبر دا تصريح بالإعجاب منك؟
فصاحت فيه بذهول مغتاظ:
-نعم! أنت اتجننت اعجاب إيه؟
تشدق ببرود مدروس مُغلف بالعبث:
-اهدي بس، انتي مالك نرفوزة كدا خلي خلقك استرتش.
-هو انت ليه بتتعامل معايا على إني بنت عمتك يا أستاذ…
كتم ضحكة قوية وهو ينفي على الفور بعفوية :
-الجوهرة دي استحالة تبقى بنت ميرڤت الحرباية.
-نعم؟!
حمحم بقوة وهو يتغنى بلباقته كعادته:
-بقول ماحصليش الشرف إنك تبقى قريبتي يا أنسة…
صمتت تنتظر تكهنه لأسمها، فضيق عيناه يتظاهر بالتفكير:
-يسرا…
ضغطت فوق حروف أسمها تتلفظها بنعومة مقصودة كي لا ينسى مجددًا اسمها، فيبدو أنه ماهر لدرجة أنها اقتنعت أنه قد نساه بالفعل:
-سيرا..
-ايوه فرصة سعيدة يا أنسة سيرا.
إن كان هو بارع جدًا في تسديد أهدافه، فهي لم تكن غبية بالمرة حينما امتهنت نفس طريقة اللعب بسهولة وهي تقول:
-أنا أسعد يا أستاذ اااا….
وقبل أن يقول اسمه، سارعت بقولها:
-أيمن أو وائل…
ابتسم ممازحًا إياها ببساطة:
-أو محمود، أي اسم ماعدا يزن…
سجنت ضحكتها بين قبضان رصانتها، وهي تقول:
-على العموم فرصة سعيدة، عن أذنك.
لم يسمح لها بالذهاب، فأوقفها بسؤالٍ جديد محاولاً فتح مجالات أخرى للحديث، رغم أن تلك الأفعال لم تكن من أساليبه مع الفتيات:
-هي حورية فين ماجتش معاكي ليه؟!
هزت كتفيها مدعية اللامبالاة وهي تقول:
-ماعرفش اسألها هي مش قريبتك بردو!
-اه قرايب بس بينا مصانع الحداد، لو عايزة تعرفي عني حاجة اوعي تسأليها تعالي واسأليني.
صراحته فاجأتها ولكنها اصطنعت الضيق:
-هو أنا هعوز اعرف عنك أيه؟!
ارتسمت ضحكة ساخرة فوق شفتيه وهو يقول بشقاوة داعبت صوته:
-كتير، تسألي مثلاً عن نوع عربية مميزاتها او عيوبها.
نظرت في ساعة يدها تتظاهر بالانشغال وهي تقول ببرود:
-العربيات أخر همي، مش من مفضلاتي، اطمن مش هحتاجك عشان اعرف حاجة.
التقط حلوى بالبندق يقلبها بين يديه وصوته يتشبث بسور التسلية والمزاح:
-خدي فكرة واشتري بكرة.
انكمشت معالم وجهها بامتعاض، فتبسم وهو يراوغها مجددًا:
-بهزر معاكي ماتبقيش خنيقة كده يا أنسة يسرا.
رفعت أحد حاجبيها باستنكار واشتدت نبرتها بضيق رغم علمها بمزاحه:
-يسرا تاني؟!
-صدقيني يسرا انسب عليكي، سلام.
توقعت اعتذاره ولكنه فاجئها بقوله الذي دفعها تهوي في بئر الصمت وهي تحدق به غير مصدقة إياه، وخاصةً حين أشار إليها بأصابعه وغمزة طفيفة صاحبت عيناه، فغادر دائرتهما سريعًا ولم يعطِ لها الفرصة في الرد أو التعقيب على مزاحه السخيف فهمست بتوعد:
-انسان رخم والله ماهعبره تاني.
***
مساءًا…
أنهت سيرا عملها وقامت بتوديع عملائها، ثم حملت حقيبتها فوق ظهرها واستعدت للمغادرة متجاهلة ذلك الثقل المتربع فوق صدرها من فكرة مرورها من أمامه، فتتلقى منه ابتسامته الخلابة بوسامته المفرطة، ويعود سجين أفكارها لليلة أخرى، زفرت بضيق وهي تؤنب نفسها:
-انا هخيب ولا أيه، اطلع من دماغي.
ولكن صدح صوت داخلها يحادثها بأمورٍ لم تكن تتخيل أن تتطرق بالتفكير إليها، وراح عقلها يبرر لها لِمَ تعلقت به بهذه السرعة؟، فبدأت تلقائيًا في عد مميزاته التي لطالما تتمناها بفتى أحلامها بدايةً من وسامته ومظهره الجذاب، فيبدو عليه أنه من عائلة غنية وأوضاعه المادية حسنة كي يدير “معرض” للسيارات بهذه الضخامة، ولكن رزانتها أرشدتها لبر الأمان بأن الماديات لا تبني علاقة سوية ناجحة كي تضعها أساس للتفكير بشريك حياتها، فهزت رأسها ترفض بعض المغريات التي تهاجم عقلها من حين لأخر، ولم تدرك أن هناك حجارة ضخمة أمامها، فتعرقلت بها وكادت تسقط في منتصف الطريق إلا أنها تماسكت على أخر لحظة، وهندمت نفسها سريعًا بلمحة من الكبرياء ولكن ظهوره من خلف زجاج “معرضه” بابتسامته الواسعة جعلها تتوتر بخجل رغم أنها اختصرت باقي الطريق بخطوات مسرعة للغاية.
***
وصلت “سيرا” للبناية المجاورة لمنزلها وصعدت الأربع طوابق بلياقة عالية، توقفت أمام شقة صديقة طفولتها “فاطمة” فتاة بسيطة تعشق التمثيل والفن وتسعى بكل جهدها لاغتنام فرصة في إحدى الافلام السينمائية فلم تترك تجارب التمثيل إلا وذهبت ولا فرصة للتواصل مع مخرجين الافلام المشهورة إلا وتواصلت معهم ولكن في كل مرة الفشل يظل حليفها ولكنها لم تفقد الأمل بل باتت تتشبث بحلمها أكثر وأكثر.
استقبلت سيرا والدة فاطمة والسـ_كين تحمله بيد واليد الأخرى تمسك بعض من الخضروات مرحبة بها بحفاوة:
-ادخلي يا سيرا، فاطمة جوه في اوضتها.
اقتربت “سيرا” من باب غرفة صديقتها ولكنها تسمرت بصدمة تستمع لصوت نحيبها وهي تردد بانفعال:
-انت ازاي تقولي كده يا سافل يا كلب يا حقير..
وضعت أذنيها بالقرب من الباب تستمع لصوتها من جديد وهي تردد بانهيار:
-لا أنا مكنتش متخيلة أبدًا إنك قذر ومنحط كده…
هنا قررت قطع ما يدور بالداخل بفتحها للباب بقوة، والسخرية تحلق بصوتها وضحكاتها:
-أيه هو السيناريو كله شتايم، مفيش حوار أبدًا.
عبرت “فاطمة” عن غضبها من وسط دموعها المتساقطة:
-انتي ازاي تقطعيني كده وأنا في حتة مهمة زي دي؟!
خطت خطواتها لداخل الغرفة بينما كانت تغلق الباب بقدمها خلفها، وهي تتظاهر بالأسف فحركت ذراعيها يمينًا ويسارًا:
-أنا أسفة يا فنانة، هنعطل التصوير والممثلين…وسع كده يا أستاذ محتاجة السوبر ستار…
دفعتها “فاطمة” بغيظ عنها وهي تمسح دموعها بعد أن فشلت في التدريب على مشهد طرأ في وحي خيالها وقررت تمثيله كعادتها:
-اتريقي يا سيرا بكرة تتمني صورة معايا وأنا هرفض وهطلعلك لساني من فوق قمة نجاحي.
تصنعت الدهشة وهي تعبر عن استيائها من صديقتها:
-طول ما تفكيرك كده هتفضلي بين الاربع حيطان وعمرك ماهتطلعي للنور.
زفرت الأخرى بملل وهي تقوم بعقص خصلات شعرها متجاهلة جلوس سيرا على طرف الفراش بأريحية:
-هطلع للنور ازاي وفي ناس حقودة في حياتي.
نهضت “سيرا” تقف خلفها ثم وضعت قبله فوق رأسها وهي تنظر لها بالمرآة الموضوعة أمامهما، فانطلقت تستعطفها ببراءتها الممزوجة بمزاح طفيف:
-ما خلاص بقى يا طمطم، انتي مقموصة مني ليه؟! ده انا غلبانة وحزينة واختي تبقى أبلة حكمت يعني المفروض تكوني مترأفة بحياتي البائسة، وبعدين الصراحة مالكيش حق تزعلي.
دفعتها “فاطمة” للخلف بمرفقها والغيظ يبلور صوتها بحرقة:
-نـــعم…ده كله وماليش حق ازعل، لما تسيبي صاحبة عمرك فاطمة… طماطيمو الفنانة وتاخدي البت حورية الغلاوية دي في اول يوم شغل ليكي يبقى أيه؟!
تظاهرت سيرا بالألم وهي تتدافع عن نفسها أمام هجوم صديقتها:
-يخربيت كده ما انا قولتلك يا بنتي تعالي معايا وانتي لما عرفتي أنها جاية رفضتي تيجي وغرور الممثلين ركبك اعملك أيه؟!
-امسكي فيا ، مش تتجاهليني.
عادت “سيرا” تقوم بإرضائها بلطف:
-أنا اقدر اتجاهلك يا طمطم ده انتي صاحبتي وحبيبتي، طيب تصدقي اليوم كان كئيب من غيرك.
ضيقت الأخرى عيناها تسألها بابتسامة واسعة والرضا يعبر فوق ملامحها:
-انتي قولتلي كنت زعلانة منك ليه؟!
ضحكا سويًا وقامت فاطمة باحتضانها تغرقها في نهر طيبتها، رغم الغرور المنبعث من صوتها:
-بس بجد شوفتي كان وشها وحش عليكي ازاي لكن أنا بقى لو موجودة كنت هبقى تميمة حظك.
كتمت سيرا حاجتها للدفاع عن حورية كي لا تستشيط فاطمة في وجهها، فغيرت مجرى الحديث ببعض من الكلمات وهي على يقين أن فضولها سيدفعها للتغاضي عن التفكير بحورية لطالما كانا دومًا على النقيض ويكنان لبعضيهما سوء الظن.
-هو مكنش وحش اوي، في حاجة هموت واحكيلك عنها…
قاطعتها فاطمة بلهفة وهي تجلس في منتصف الفراش تضع وسادة كبيرة فوق ساقيها:
-اشطا احكي يلا بسرعة…
فجلست أمامها سيرا تسرد لها ما حدث بالتفصيل الممل في ظل اسئلة فاطمة في كل صغيرة وكبيرة:
-قولتيلي اسمه اية؟
-يزن…
-اممم، اسم سينمائي.
عبرت فاطمة عن إعجاب بسيط تعجبت له سيرا ولكنها قامت بمسيراتها، فجذبت الأخرى هاتفها تفتح إحدى وسائل التواصل الاجتماعي ” الانستجرام” وهي تسأل بجدية، اسمه أيه بقى بالكامل:
-ماعرفش.
-يعني أيه ماتعرفيش؟!
-بقولك ماتكلمتش معاه إلا مرتين، وبعدين حورية تليفونها مقفول ماعرفش ليه.
امتعضت فاطمة وهي تلقي بهاتفها جانبًا تتلفظ بغيظ:
-أحسن يا رب يكون اتسرق.
داعبتها سيرا بمزاح:
-صفي نيتك عشان ربنا يرزقك بفيلم تبقي البطلة فيه قدام أحمد عز.
صاحت متذكرة بحماس:
-اسكتي أنا حملت الفيلم الجديد بتاعه، تتفرجي معايا عليه.
جذبت سيرا الغطاء والقت حقيبتها وهي تقول:
-ايوه طبعًا، احسن ما اروح لحفلة كل يوم اللي في البيت.
****
أوقف “يزن” سيارته أمام منزله بعد أنهى عمله، وقرر العودة للمنزل لقضاء وقت لطيف مع أطفال سليم وعائلته والانسجام معهم أكثر، مقررًا التغاضي عن أفكاره الطائشة بالسهر مع صديقاته الفتيات، فلا زال مُصرًا على قراره بالالتزام والابتعاد عن تلك البؤرة التي باتت تستنفذ طاقته وتهلك مشاعره، وقبل أن يغادر سيارته أعلن هاتفه عن وصول رسالة، فأخرجه من جيب سرواله وقرأ الرسالة بصوت مرتفع وانعقاد حاجبيه يزداد والقلق يقفز من عينيه.
“اهرب بسرعة، سليم مستنيك والشر بيطق من عنيه”
همس لنفسه بتعجب:
-هو أنا عملت أيه؟!
فكانت الرسالة الثانية التي أتت للتو هي الإجابة على سؤاله من قِبل أخيه زيدان أيضًا.
“مين دي يا كلب اللي بتقنعها تتجوزها عُرفي، ده أنت هيتعمل منك سندوتشات كفتة وبانية”
____________________
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غناء الروح)