روايات

رواية غابت شمسها الفصل الخامس 5 بقلم مايسة ريان

رواية غابت شمسها الفصل الخامس 5 بقلم مايسة ريان

رواية غابت شمسها الجزء الخامس

رواية غابت شمسها البارت الخامس

غابت شمسها
غابت شمسها

رواية غابت شمسها الحلقة الخامسة

استقبلتها زوجة أبيها ببشاشة وربتت على وجهها بحنان قائلة
– سامحه الله والدك .. يحرمنا من ابنة رائعة الجمال مثلك .
ابتسمت لها مرام ابتسامة باهته وهى تتفحصها .. كانت كل شئ هو عكس أمها تماما .. شحيحة الجمال ..ترتدى كأمرأة ريفية .. هزيلة بوجه شاحب .. لقد أخبرها والدها من قبل بأنها مريضة وهذا ما يظهر عليها .
– تعالى وأجلسى معى لنتحدث قليلا .
سارت معها مرام وجلست على أريكة فى حجرة من المفترض أنها حجرة جلوس , كان المنزل كبيرا جدا ومفروش بأثاث عتيق يشهد عليه أجيال .. يقع وسط مساحة أرض كبيرة ويحيط به ما يشبه الحديقة ولكن غير معتنى بها واستطاعت مرام عند وصولها أن تشم رائحة خشب محترق وعيش مخبوز ورائحة روث الحيوانات .. لم تتوقع أن يكون المنزل ريفى الى هذه الدرجة ولكنه على الأقل مفروشا بالسجاد وبه جهاز تلفاز وريسيفر حديث وتمنت لو يكون هناك أنترنت فمنزل رباب كان به وصلة انترنت قاموا بتوصيلها من جار لهم وكان بطيئا جدا وكثيرا ما كان ينقطع
– آسفة لما حدث معك .. عندما أخبرنى صالح حزنت كثيرا .
وكانت تنظر الى ذراع مرام المجبرة بتأثر شديد .. هزت مرام رأسها وهي شبه عاجزة عن الكلام .. تنتابها أحاسيس مختلطة وغير مريحة .. تشعر بنفسها غريبة وغير متوافقة مع ما يحيط بها .. لا تعنيها طيبتهم ولا ترحيبهم الصادق بها .. هى فقط لا تشبههم ولا تتخيل نفسها تعيش بينهم .. ثم ذكرت نفسها أنها هنا لفترة مؤقتة فقط حتى يعيد لها فودة نقودها وتتخلص من تعلق والده المرضي بها .. فمعرفة فودة بالأمر قد أفسد عليها خطتها للزواج منه . رمقت مرام والدها الجالس ليس ببعيد عنهما بنظرة جانبية .. كان عابسا ويبدو عليه عدم الرضى لوجودها هنا وتعتقد جازمة أن صالح وشقيقته هما من أجبراه على قبول استضافتها فهو لم يرحب بها عند وصولها واكتفى بأن طلب منها بجفاء أن تتبعه الى داخل المنزل .
تمتمت تقول لزوجة والدها
– شكرا لك .
قالتها بصوت متحشرج وتمنت لو تنفرد بنفسها قليلا فمنذ يومين وهى تجد نفسها محاطة بالناس طوال الوقت فى منزل رباب فلم يقتصر الأمر على الأسرة فقط فكان هناك الأقارب والجيران الذى لم يخلو البيت منهم أبدا ويأتون بدون موعد سابق .. أهتمامهم الزائد وفضولهم كان يصيبها بالأختناق وحاولت قدر ما استطاعت أن تكون مهذبة وطويلة البال .
– لا يجب أن تشعرى بالخجل منا .. أنت الأن فى بيتك .. بيت أبيك يكون بيتك .
لو كانت مرام شخصا آخر متصالح مع نفسه ومع البشر بوجه عام لشعرت بالأمتنان لهذه المرأة التى تسعى بكل جهد لجعلها تشعر بالراحة ولكن مرام لم تعتاد على تبادل الود مع أحد ولا تظن أن هناك من أحد يستحق أن تمتن له .. فهزت رأسها مع ابتسامة لم تظهر اسنانها
دخل صالح وعلى وجهه ابتسامة متألقة
– كيف الحال ؟
اجابته شقيقته نهال وهى ترد ابتسامته بمثلها وقد لمعت عيناها بتألق وهى تنظر اليه
– بألف خير أيها الغالى .
كانت مرام قد دخلت الى البيت مع والدها وتركت صالح ليتعامل مع الحقائب
ثم وجه كلامه لمرام قائلا
– الحقائب فى غرفتك الأن وستقوم أم عبيد بتوضيبها لك فى الخزانة و..
هبت مرام واقفة بحده
– لا .. لا أريد أن يفرغ لى أحد حقائبي .
واستطردت بسرعة عندما علت وجوههم جميعا الدهشة
– آسفة .. لم أعتاد أن يقوم أحد بخدمتي .. وأنا متعبة فى الواقع وأريد الذهاب الى غرفتى .. أقصد الغرفة التى ..
تلعثمت وتوقفت عن متابعة الكلام .. وقفت نهال وربتت على كتفها
– نعم غرفتك يا حبيبتى .. سآخذك اليها بنفسى .
لمعت عينا مرام بالدموع وأختنقت غصة فى حلقها وشعرت بالغضب من نفسها للحظة الضعف التى أنتابتها فليس من سمات شخصيتها الغرق فى الشفقة على الذات ولا تحب أن تظهر ضعفها أمام أحد وقد ساءها أن ترى نظرات الشفقة فى عين زوجة والدها وشقيقها .
وفى الغرفة المخصصة لها وجدت تلك المرأة المسنة التى يدعوها الجميع أم عبيد وكانت تهم بفتح الحقائب عندما استوقفتها نهال قائلة
– اتركيهم يا أم عبيد واذهبى أنت وانظرى كيف اصبح الغداء .
خرجت أم عبيد بعد أن كررت ترحيبها بمرام وتبعتها نهال بعد أن أطمأنت الى أن مرام تعرف مكان كل شئ .
وبعد أن تأكدت مرام من أن زوجة أبيها أبتعدت بما يكفى أغلقت الباب وادارت المفتاح فى القفل وزفرت بارتياح .. أخيرا أصبحت وحدها
***
قالت نهال بوجوم وهى تنظر الى صالح
– هل تترك البيت .. كيف سنعيش من دونك يا صالح ؟
ضحك صالح قائلا
– وهل أنتقالى لغرفة الحديقة تعنى تركي للبيت ؟
قالت بعتب
– غرفة الحارس يا صالح ؟.. البيت كبير ويسعنا جميعا و ..
قاطعها صالح قائلا
– أصبح فى البيت شابة عزباء وأنا أعزب كذلك .. لا يصح أن نبقى معا تحت سقف واحد .. هذه هى الأصول .. ماذا سيقول الناس ؟
– معك حق .. ولكن لا تقطع بى ودعنى أراك طوال الوقت .
قال ضاحكا
– سوف تريننى أكثر من قبل .. ولا تضحكينى .. سيكون بينى وبينك عشرة أمتار فقط .
ثم كسا وجهه الجد وسألها
– هل أنت بخير .. هل ما حدث لم يضايقك كما تدعين ؟
ابتسمت له وقالت
– لقد كنت أعرف .. بأحساسي على الأقل .. أعرف أنه كان فى حياة زوجى أمرأة آذته كثيرا .. لم يخبرنى عنها أبدا .. لكنني رأيت صورتها فى محفظته مرة كما رأيت حزن وألم يطل من عينيه .. لم أسأله عنها ولا أعلم اذا كان مازال يحتفظ بصورتها حتى الأن فأنا لم أنظر فيها من بعدها أبدا .
ثم هزت رأسها وتابعت
– ولكنى مازلت أتذكر ملامحها جيدا ومرام تشبهها كثيرا .. ربما لذلك السبب يخشاها .
ثم نظرت الى صالح بخبث مرح
– فتاة جميلة جدا .. أليست كذلك ؟
أحمرت وجنتاه قليلا ولمعت عيناه وهو يرد مبتسما
– بلى .. هى كذلك .
بعد أن ترك صالح شقيقته ذهب الى حجرة الحارس التى تقع خلف المنزل الكبير والتى تم اعدادها وتوضيبها لينتقل اليها .. لقد اتخذ هذا القرار بعد الحديث الذى دار بينه وبين أحمد زوج شقيقته والذى أستخدم فيه لهجة صارمة مؤنبة لم يلجأ اليها أبدا معه من قبل .. لقد فرض عليه تقبل مسؤلية أبنته وقرر بينه وبين نفسه أن يشاركه تلك المسؤلية .
وقف صالح عند النافذة فرآها .. كانت تقف بدورها فى نافذة غرفة نومها بالطابق الأول .. تمسك بهاتفها وتقلب فيه ومن تلك المسافة لم يستطع أن يتبين حالتها جيدا ولكنها بدت مضطربة كعادتها .. رقت لها أحاسيسه وخفق من أجلها قلبه .. لا يعلم اذا كان ما يشعر به مجرد شفقة عليها وتعاطفا مع حالها أم أنه الحب وقد بدأ يتوغل داخل نياط قلبه ويسيطر ببهائه على عقله .
***
عشرات الرسائل والمكالمات .. من فودة ووالده وخالها مروان ورسالة واحده من أمها تجاهلتها ولم تهتم بقراءتها
كانت رسائل فودة كلها تهديد ووعيد ويسأل عن أمانته وأخر رسالتين كان يتوسل فيهما اليها أن تتصل به مع وعد بعدم التعرض لها أما رسائل والده فكانت مثيرة للشفقة وللسخرية معا .. يرجوها فيهم بأن تعود اليه ويذكرها بحبهما وكان يعتقد أنها تركته لأن والديها رفضا علاقتها به وفى آخر رسالة كان يحرضها فيها على الهرب معه ويعدها بأن يعوضها عن كل شئ وأنه سيمنحها كل ما ترغب به وفكرت بحسرة وهى تقرأها أنه لولا ورطتها مع فودة لأنتهزت تلك الفرصة ولكانت أصبحت الأن زوجة رجل من أغنى أغنياء مدينة الأسكندرية . وتجاهلت طلب خالها مروان كي تتصل به على وجه السرعة فهي لم تكن فى حالة مزاجية جيده للتحدث مع أحد .
عادت وأغلقت هاتفها بعد أن أنتهت من قراءة الرسائل ولكن قبل أن تستدير عن النافذة لمحت بطرف عينيها صالح وهو يراقبها من خلف نافذة حجرة الحديقة فتظاهرت بعدم رؤيتها له .. هى ليست غبية وترى جيدا أنه فى طريقه للوقوع فى حبها ولأنها تعانى فى الوقت الراهن من رجلين ينغصان عليها عيشها فلا ينقصها وجود آخر .. عاشق .. تكون مضطره الى تحمل ثقل مشاعره .
****
لم تكن الحياة فى المزرعة سيئة جدا بالنسبة لمرام كما كانت تعتقد فى البداية فأبيها وصالح يخرجان يوميا منذ الصباح الباكر للعمل ويعودا بعد صلاة العشاء ونهال .. نظرا لصحتها المعتلة كانت تقضي معظم وقتها فى الراحة بغرفتها مما أعطى مرام مساحة من الحرية والأنفراد بنفسها .
وبعد يومين استجمعت شجاعتها .. فتحت هاتفها واتصلت بخالها الذى قال لها بغضب شديد
– أين أنت بحق الله .. أين أختفيتى وبماذا ورطت نفسك وورطتنى معك ؟
سألته ببرود لا يعكس القلق الذى يموج بداخلها وهى تجلس على حافة الفراش داخل غرفتها
– لا أفهم .. ماذا حدث ؟
قال بغيظ بسبب برودة ردها
– أضطررت لترك بيتى أنا وزوجتى والأقامة عند والدة شيرين بسبب ذلك الولد المدعو فودة .. هذا غير والده الذى راح يزورنى فى العمل ويتصل بى باستمرار ليعرف عنوانك ولا واحدا منهما يصدق أننى لا أعرف عنك أى شئ … أين أنت ؟
سألته ساخرة
– لماذا ؟ .. لكى تعطيهم عنوانى وتخلص نفسك أنت .
– وما ذنبى أنا لأتحمل نتيجة أفعالك .
صاحت بحده
– أنا لم أفعل شيئا.
– لا يبدو لي الأمر هكذا .. خاصة ذلك الشاب .. أنه يبحث عنك كالمجنون ويظل يحوم حول البيت ليل نهار حتى كدت استدعي له الشرطة لولا أننى خشيت أن تكونى متورطة معه فى شئ ما .
قالت كاذبة
– لا تخشى شيئا فأنا لست متورطة فى أي شئ .
– وفيما أختفاءك اذن ؟
– عرف فودة بأننى كنت على وشك أن أصبح زوجة أبيه فجن جنونه .. فقلت أبتعد لبضعة أيام حتى يهدأ الأمر ثم أعود .
– اذن أين أنت ؟
– لا شأن لك بمكانى أتصلت فقط كى أعلمك أنى بخير هذا ان كنت تهتم وحتى تتوقف عن أرسال الرسائل لي .. وانا سوف اتحدث الى فودة وأجعله يتوقف عن مطاردتك .
سألها بغيظ
– وماذا عن والده ؟
ردت بلامبالاة
– دعك منه .. سيهدأ قريبا عندما يجد غيرى .
صمت قليلا ثم سألها بصوت أهدأ
– اذا كنت لا تريدين أعلامي بمكانك على الأقل دعينى أطمأن عليك من وقت لآخر .
أبتسمت بضعف فقد شعرت بأنه مهتم حقا فقالت
– حسنا .. سوف أفعل .
بعد أن أنهت أتصالها مع خالها حاولت الأتصال بفودة فوجدت هاتفه خارج الخدمة فتحدثت الى صديقتها ميمي التى قالت لها على الفور بأنفعال
– مرام أين أنت ؟ .. فودة حالته غريبة .. يأتى عندي كل يوم تقريبا للبحث عنك .
أخبرتها مرام انها وفودة على خلاف .. وذكرت لها نصف الحقيقة فقط وهو أنه يظن أنها كانت تسعى خلف والده ثم سألتها عنه فقالت ميمي
– لا أعرف .. لم يظهر اليوم .
فقالت لها
– اذا أتصل بك أو قابلته أخبريه أننى سألت عنه ودعيه يتصل بي ومن ناحيتي سأحاول التحدث اليه مرة أخرى .
وقررت أن تترك هاتفها مفتوح وقد حظرت مكالمات عصام فقط .
ولكن .. مر شهر ولم يظهر أثرا لفودة ولم يعد أحد يعلم عنه أي شئ وقد أخبرتها ميمي أن والداه قد قاما بابلاغ الشرطة عن أختفاءه .. فتساءلت مرام برعب ان كان قد تأذى على يد تجار المخدرات أم انه يختبئ منهم فى مكان ما ؟ … فكرة أن يكون قد تأذى أو قتل بسبب هروبها بالمخدرات جعلها تعيش فى رعب دائم من أن تكون هى التالية فقلت شهيتها للطعام وحتى للكلام وعزفت عن الخروج من البيت الا فى تلك المرة الوحيدة التى أجبرتها الظروف على الخروج وقد أصطحبها والدها على كره منه الى المشفى لفك الجس من ذراعها وبعدها قضت بقية أيامها فى البيت سجينة خوفها .. مستسلمة لكوابيسها التى تهاجمها ليلا وتعشش فى رأسها نهارا .. لذلك بدأت تبحث عن خطة بديلة لتحمي بها نفسها .. تفتش عن عائل يحتويها ويوفر لها الأمان من غدر الزمان .. وممن حولها لم تجد غيره .. صالح .
****
فى حديقة البيت
وقد بدأ الطقس يعتدل والشتاء يسلم مهامه لربيع دافئ .. أزدهرت له فروع الأشجار مرحبة .. وأينعت له وريقات الأزهار يفوح منها عطرها وتنقل النسمات شذاها .
قفز أحمد من على مقعده الخيزران كمن لدغه عقرب سام
– بالطبع لن أوافق .
سألته نهال عابسة
– وهل ستجد لأبنتك زوجا أفضل من صالح .. أنه أبنك أيضا وتربية يديك فما عيبه ؟
نظر اليها بحدة وهو يقول
– العكس هو الصحيح .. صالح أفضل من أن يتزوج هذه ال..
قاطعته نهال بصرامة وهى تشد على ذراعي مقعدها بقبضتيها
– أياك ..
أبتلع أحمد كلماته على الفور وعاد للجلوس مطرق الرأس يعض على شفته السفلى بتوتر وتابعت نهال
– يجب أن تفيق مما أنت فيه .. وتوقف عن النظر الى أبنتك على أنها زوجتك السابقة.
قال بصوت ضعيف
– لا فرق بينهما .. أنها مثلها وتربية جدتها .. أنا وحدى أستطيع رؤية الشبه بينهم ولا أقصد فى الشكل فقط .
مالت نهال وربتت على ذراعه برقة
– فكر قليلا .. ربما تكون الفتاة بها بعض السلبيات نتيجة لظروف تربيتها ولكن لو كنت أخذتها منذ صغرها لكانت أصبحت أفضل من ذلك .. أعطها فرصة وأعطى لنفسك فرصة كذلك كي تصلح الضرر .. ووجودها بيننا قد يساهم فى تغيير طباعها التى الى الأن أراها جيدة جدا ولا أرى سببا لتحاملك عليها سوى ترسبات الماضى التى مازالت تعشش داخل رأسك .
نظر اليها وهز رأسه
– أنت لا تفهمين عماذا تتحدثين .. أخشى أن يمر صالح بما مررت به أنا .
– صالح ليس أنت ومرام ليست أمها .. دعهما يخوضان تجربتهما فربما تنجح ويجدا سعادتهما معا .
ثم أبتسمت له مشجعة
– ها .. ماذا قلت ؟
ضحكت برقة وتابعت
– صالح فى حجرته ينتظر على أحر من الجمر كي يعرف ردك .
زفر أحمد وقال وهو يقف
– سوف أذهب أنا اليه .
****
فتح صالح باب حجرته قبل أن يصل أحمد الى الباب ببضعة أمتار فقد رآه وهو قادم , أفسح له المجال كى يدخل وهو لا يشعر بالتفاؤل بسبب تجهم وجهه .
وقف أحمد فى منتصف الغرفة عاقدا ذراعيه خلف ظهره ثم قال بتثاقل
– لم آت الى هنا كي أرفض طلبك ولا لكي أقبله .. ولكنى جئت اليك ناصحا .
ثم نظر فى عينيه مباشرة وتابع
– تزوجها اذا كنت تريد ذلك ولكن عدني أن لا تسمح لها بالطعن فى رجولتك .. ولا تسمح لقلبك أن يغلب عقلك ويعميك عن حقيقتها .
عقد صالح حاجبيه بشدة والغضب يغلي بداخله وقال بعزم
– بل سأعدك بأن أعتني بها .. وأن لا أجعلها فى حاجة لأي أحد أو لأى شئ مادمت حيا أرزق .
أغلق أحمد عيناه للحظات وابتسم بمرارة وهو يقول
– سنرى .. سوف نرى .
ثم ربت على ذراعه وخرج .
وقف صالح وهو حنقا عليه .. لا يفهم .. كيف لم يحن قلبه لأبنته حتى الأن ؟!! لقد مر أكثر من شهر على وجودها بينهم وفى كل يوم يمر تزداد شحوبا وهما ويكاد يجن وهو يجد نفسه عاجزا عن التخفيف عنها وسؤالها عما يحزنها ويسبب لها القلق فصلته الهشة بها لا تخوله ليفعل ذلك وليلة أمس وعلى مائدة العشاء فاجئت الجميع بقولها أنها تنوي الرحيل والعودة الى بيتها قريبا .. نهال الوحيدة التى رأت أرتجافة يده وشحوب وجهه .. فكرة رحيلها وابتعادها عنه ضايقته بشدة .. لقد أعتاد على وجودها بالقرب منه وأمام عينيه حتى وان لم يكن بينهما أي كلام أو وصال يكفى أنها تعيش تحت سقف بيته مطمئن الى أنها بخير .. فاتخذ قراره على الفور .. سوف يعرض عليها الزواج ويأمل بأن توافق على طلبه وقد لاحظ فى الأونة الأخيرة بأنها بدأت تميل اليه مثلما يميل اليها.. ابتسامتها الخجولة وهى تتحدث معه وأشاحة نظرها بعيدا عنه بأرتباك عندما يمسك بعينيها تتأملانه خلسة ولكن وقبل أن يسألها كان يجب عليه أن يطلب يدها من أبيها أولا ويحصل على مباركته وشقيقته التى كانت عالمة بحاله لم تفاجئ عندما فاتحها بالأمر وقد وافقت أن تقوم هى بمهمة سؤال أبيها .
****
دخلت مرام الى حجرة الجلوس وهى مرتدية ملابسها استعدادا للخروج بصحبة صالح الذى كان واقفا فى أنتظارها وقد رقت نظراته وابتسم لها فور ظهورها أمامه .. كان سيأخذها لرؤية بساتين الزيتون والمصنع وسينتهز فرصة وجودهما بمفرهما كي يفاتحها فى موضوع زواجهما فعرض عليها الأمر قائلا
– لا يصح أن تتركينا وأنت لم تري أشجار الزيتون والمصنع بعد .. فهل ترافقيننى اليوم لزيارتهما .
وافقت مرام على الفور متخلية عن حذرها فى الخروج .. فبصحبة صالح لن تخشى أن يهاجمها أحد .. معه ستكون بأمان .. ألم يكن ضابطا ؟ سيعرف كيف يحميها خاصة وقد سمعت الكثير أثناء اقامتها هنا فالجميع يؤكد بأنه كان ضابطا فى أحد الأجهزة السيادية وكان ذو شأن ومازال لديه نفوذ واصدقاء فى أهم المراكز .. وألم ترى بنفسها الدليل على ذلك يوم أن أعترضتهم احدى نقاط التفتيش على الطريق ؟
سألها صالح متحمسا
– هل أنت جاهزة للخروج ؟ .. ولا تقلقي لقد أخذت اذن والدك أولا .
كادت أن تتهكم على قوله ولكنها منعت نفسها فهذا آخر ما قد تقلق بشأنه .. فوالدها لا يكترس بها ولا يهمه ما تفعله فى حياتها ولم تغب عن عينيها تلك الراحة التى علت وجهه بالأمس عندما أعربت عن رغبتها بالعودة الى الأسكندرية والى بيتها .. ولكنها فى حقيقة الأمر لم يكن لديها أدنى نية للرحيل .. لقد قالت ذلك لهدف وهو دفع صالح لأخذ خطوة جادة بشأنها .. لقد مارست معه طريقة قديمة ومستهلكة .. جزء من مكر الأنثى وفنها لكيفية الأيقاع برجل .. تستخدمها النساء منذ قديم الأزل والعجيب أنها مازالت تأتى بنتيجة اجابية مع معظم الرجال بأختلاف سماتهم وتنوع أخلاقهم وطبائعهم ومجتمعاتهم .. جميعهم يصيرون صرعى عندما يتعرضون لهذا النوع من كيد النساء وقد استخدمته مرام من قبله مع والد فودة .. أغرته وصدته ثم اقنعته بأنها من يده ستطير .. فخر على ركبتيه مستسلما لها وهوالذى كان يظن نفسه بالنساء خبير .. ولكن صالح لم تستخدم معه الأغراء الصريح فهى تفهم فى نوعية الرجال والفضل فى ذلك يعود لأمها وكثرة تجاربها وتربية جدتها ولؤمها .. كان صالح من النوع الحامي الذى يتسم بالشهامة والمرؤة فكان سلاحها الذى أشهرته فى وجهه هو الضعف والمسكنة ثم راحت تراقبه بعينان نصف مغمضتان وهو يقع فريسة لسحر ضعفها وعندما تأكدت من أنه أصبح مسلوب اللب بها مارست تلك الحيلة القديمة وفى الصباح وجدته يستدعيها ويطلب منها مرافقته وهى تتوقع ما هو آت وقد حضرت ردود أفعالها المتوقعة منها .
– هل نذهب ؟
أبتسمت له برقة وخجل مصطنع
– نعم .
****
لم تتوقع مرام أن تستمتع بالوجود بين أشجار الزيتون فقد كانت تظن دائما أنها أشجار عجاف غصونها كالأشواك ولكنها تأثرت حقا بقوتها وعنفوانها .. لها هيبة ورائحة خاصة قوية وتعجبت من أن تشعر بهكذا أحساس تجاه شجرة وضحك صالح عندما أخبرته بأنطباعاتها وقال بأعجاب
– أنه الوصف المثالي له .. شجر الزيتون شجر قوي لا يهاب الزمن .. بل الزمن من يهابه .. معطاء ولا ينضب عطاءه أبدا ويمنح الخير والحب لمن يهتم به ويقدره .
ثم سألته عندما لاحظت كبر المسافة بين كل شجرة وأخرى والتى قد تصل الى سبعة أمتار وربما أكثر
– لماذا يوجد مسافة كبيرة بين كل شجرة وأخرى ؟
– لأنها تحتاج لأن تتنفس .. يجب أن يصل الهواء والضؤ اليها بطريقة جيدة .
– ومتى تقومون بالحصاد ؟
وكانت ترى حجمها صغيرا فوق الفروع فقال صالح
– نحن ننتظر حتى تمام نضجها لتصبح نسبة الزيت فيها أعلى ما يكون لأننا نستخدم محصولنا فى أنتاج الزيت البكر .
أنها تعرف أن زيت الزيتون البكر منتج غالي الثمن ومطلوب أكثر فى الأسواق الخارجية فسألته
– وهل تقوم بتصديره ؟
قال بما يشبه الفخر
– نعم .. ومنتجنا من زيت الزيتون عالي الجودة ونستخرجه بأحدث الوسائل الحديثة سترين بنفسك عندما نصل الى المصنع .
وفهمت مرام لما يطلقون عليه أسم الذهب السائل .. فقوامة كان يبدو تقريبا كقوام عسل النحل ولونه كلون الذهب البراق ولاحظ صالح أهتمامها وأنبهارها بمراحل العصر واستخلاص الزيت ووقف سعيدا يطلعها على كل شئ باسهاب , وبعد أنتهاء جولتهما فى المصنع أخذها صالح للغداء بالخارج والمطعم الذى أختاره كان أفضل كثيرا من ذاك الذى أخذها والدها اليه من قبل وبعد الغداء فاجأها بأن عرض أن يأخذها الى زيارة معالم المدينة السياحية فسألته مرام بدهشة
– وهل يوجد هنا معالم سياحية
فضحك قائلا
– نعم .. ولكن الكثيرون لا يعلمون ذلك .. لدينا العديد من الأديرة التاريخية مثل ديرالأنبا مقار الكبير وهو من أغنى الأديرة لأنه يحتوي على مخطوطات وأثار لا تقدر بثمن .. ويضم الدير سبع كنائس ..
ثم راح يعدد لها بقية الأديرة وقد دهشت مرام من كثرة عددها وكبر مساحتها وقدمها أيضا فأحدها يرجع تأسيسها الى القرن الرابع الميلادي ولم تكن مرام من محبي زيارة الآثار وتذكر مرة قامت فيها برحلة الى الأقصر وشعرت خلالها بالملل ولم تستطع أن ترى السبب الذى يجعل السياح يتهافتون لرؤية بضعة حجارة ولكن مع صالح كان الأمر مختلف فعرفت أن الصحبة هى التى لم تكن جيدة فى حينها واستمعت اليه بانتباه وهو يشرح لها كل شئ بشغف ومعرفة تنم عن ثقافة عالية وقد أخذها الى مكتبة دير البراموس الشهيرة الا لأمثالها بالطبع وضحك بمرح عندما أخبرته بذلك بصراحة .. ورأت هناك آلاف الكتب والمخطوطات وأخبرها أنها كتبت بعدة لغات منها العربية والقبطية واليونانية والحبشية والعبرية والأنجليزية والفرنسية والتركية .
سألته باستغراب
– وهل هناك لغة حبشية ؟
قال ضاحكا
– لكل الشعوب التى تملك حضارات لغة قديمة خاصة بها تحكي عن تاريخها وتعلن عن وجودها والا ما وصلتنا ولا عرفنا عنها شيئا .
قالت ضاحكة
– هل كنت حقا ضابط شرطة ؟ .. فما سمعته عنكم يختلف عم أراه .
ضحك ثم قال
– أنها اشاعات مغرضة .. فضابط الشرطة مثله مثل الجميع نحن أيضا لدينا ميول وهوايات ومنا من يهتم بعمله فقط وقد لا يجد وقتا حتى ليقرأ ولكن فكرة الناس عن ضابط الشرطة بأنه جاف ولا يهتم سوى بالبطش هذا غير صحيح .. لدي أصدقاء ضباط شعراء وأدباء ورساميين وكان لي زميل أثناء الدراسة فى الكلية كان يعزف لنا على الناي ويمتلك صوتا جميلا كعزفه وكانت أمه ترغب فى أن يحترف الغناء ولكن والده لواء الشرطة أقسم أن يفرغ فيه رصاص مسدسه ان لم يدخل الى كلية الشرطة ويصبح ضابطا مثله ومثل جده .
– وهل تخلى عن حلمه من أجل والده ؟
رد مبتسما
– يبدو أن والده قد أقتنع فى الأخير أنه سيصبح ضابط فاشل ولا أمل منه فتركه ليفعل ما يريد .
وذكر لها أسم مطرب شهير فشهقت بحماس
– هو حقا ؟ .. غير معقول .
قال مبتسما
– وقد وعدني أن يغني فى ليلة زفافي ومن دون أجر .
أرتبكت مرام من النظرة التى أرتسمت داخل عينيه .. كانت تتوقع أن يصارحها بمشاعره ولكنها فجأة أصبحت تشعر بالقلق فأشاحت بوجهها وهى تقول بصوت لا يخلو من التوتر
– الى أين سنذهب بعد ذلك ؟ .. آالى البيت ؟
تنهد ثم قال
– هناك مكان أخير سأصطحبك اليه .
وأخذها الى بحيرة نبع الحمرا وكانت من العجائب بحق فهى بحيرة شديدة الملوحة تقع وسط صحراء قاحلة وفى منتصفها يتدفق ينبوع ماء عذب .. وأخبرها صالح بأنه يعتبر من أحلى المياه العذبة وأن مياه البحيرة صحية جدا وقادرة على شفاء الأمراض الجلدية بأنواعها والكثيرين يأتون اليها كسياحة علاجية وفسر لها عندما سألته عن سبب الألوان المختلفه والمتدرجة لمياه البحيرة فأجابها أن تفجر الماء العذب وسط الماء المالح هو المتسبب فى هذه الألوان المختلفة فى تدرجها .
وكانت تقف تنظر الى البحيرة متأملة عندما جاءها صوته ناعما بالقرب من أذنيها
– هل تقبلين الزواج بي ؟
ألتفتت اليه مجفلة وقلبها يخفق بعنف داخل صدرها .. حدقت عيناه بعينيها ..لا ترمشان .. نظرات قوية .. حنونة فيها شغف وأمل .. لجم لسانها وكل الكلمات التى خططت لها وحفظتها قد تبخرت من عقلها بسبب شعورها المفاجأ بأنها أمام رجل حقيقي .. رجل يصعب عليها التلاعب به .. ليس شابا غرا ولا عجوزا متصابيا .. أنكمش داخلها واعتراها الخوف وهى تحدق به .. حاستها تخبرها بأنه خطر وتحذرها من الأقتراب منه
– هل تتزوجيننى يا مرام ؟
أعاد السؤال مرة أخرى وشفتاه تلتويان بأبتسامة وكانت الشمس فى طريقها للغروب فغلفهما سحر طلتها الأخيرة , فتحت فاها لتجيبه ثم عادت وأطبقته مرة أخرى فجذبت حركتها أنتباهه الى شفتيها ولمعت عيناه ببريق جعلها تحبس أنفاسها .
وهمس لها بكلمات لم تسمع مثلها أبدا من قبل
– تزوجينى .. وأعدك أن أعتنى بك ما حييت .. سأضعك فى عيونى وداخل قلبى الى أبد الآبدين .. لا أستطيع أن أصف لك حقيقة ما فى قلبى اليك .. أنه شئ أروع من أن يوصف بالكلمات .. وشوق يكاد يمنعنى عن التنفس كما أنا الأن ..فهل تشرفيننى وتقبلين الزواج مني ؟
هزت رأسها موافقة فاتسعت أبتسامته وتهلل وجهه فرحا
– هيا نعود الى البيت لنزف لهما الخبر السار .
****
تباينت ردود الفعل على خبر خطبة صالح لمرام
كانت نهال سعيدة فقط لسعادة أخيها ولم تتوقع مرام أن ترى مباركة من والدها والذى مازال يعاملها كعدوة حتى الأن واكتفى بتهنئتهما بجفاء شديد مما جعل صالح ينظر اليه بعدم رضى فأشاح أحمد بوجهه بعيدا عنه متجهما وتبعتها تهنئة الموظفين فى البيت وهما أم عبيد وأمرأة أخرى تساعدها فى العمل وكانت تهنئتهما فاترة فلم تكن مرام طوال اقامتها هنا تعاملهما بالود الذى تلاقيانه من أصحاب البيت أنفسهم فردت على تهنئتهما لها ببرود أقرب الى التعجرف وكان صالح سعيدا لدرجة لم يلاحظ معها أي شئ .. لم يلاحظ أن لا أحد ممن حوله يريد له الزواج من تلك الفتاة الغريبة عليهم وعلى بيئتهم وعلى عاداتهم .
****
– أريد الحديث معك قليلا .
وقفت مرام فى طريق والدها وكان خارجا من حجرة الجلوس وقد تفاجأ بها أمامه فرد بأقتضاب
– ماذا تريدين ؟
ردت ببرود وهى تنظر اليه بوقاحة
– أريد نقودا .. سأتزوج بعد أسبوعين كما تعلم وأحتاج الى شراء جهاز عرسي كما تفعل كل عروس .
كان صالح متعجلا لأتمام الزفاف وأخبر مرام أنه لا يحبذ فكرة رجوعها الى الأسكندرية لتبقى وحدها وفى نفس الوقت لا يصح أن تبقى فى بيته وهما مخطوبين فقط ولم تكن مرام فى حاجة الى الأقناع كي تقبل فكل يوم يمر يزداد خوفها وقلقها حتى صديقتها ميمي أختفت وهاتفها خارج نطاق الخدمة باستمرار وهى فى حاجة لصالح ولديها ثقة غريبة فى أنه الوحيد القادر على حمايتها ومنذ أن تحدد موعد زفافهما منذ أسبوع وهى تشعر بأن الوقت يمر بطيئا
– لقد أعطيتك الكثير من المال أين هو ؟
– وضعته كوديعة فى البنك كما أتفقنا ولا يجوز سحبه الا بعد مرور ستة أشهر .
كذبت .. فالحقيقة ستصعقة بالطبع
فرك يده بتوتر وقال
– لم يعد معي أى شئ .. فالمبلغ الذى كنت أدخره مع مبلغ أقترضته أعطيته كله لك ولم أعد أملك سوى مرتبي .
عقدت ذراعيها أمام صدرها وقالت
– قل ذلك اذن لزوجتك وهى تخبر شقيقها .. فاذا كان هو من يملك كل شئ فعليه أن ينفق على جهازي .
قال بأنفعال
– ألا تستحي من ألقاء همك على ..
قاطعته بحقد
– لا .. اذا كنت أنت لم تستحي من ألقاء همي على الغرب فلما أستحي أنا ؟
ثم استدارت بحده بعيدة عنه وتركته مسمرا فى مكانه شاحب الوجه عرض أقل

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غابت شمسها)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى