روايات

رواية غناء الروح الفصل الثامن 8 بقلم زيزي محمد

رواية غناء الروح الفصل الثامن 8 بقلم زيزي محمد

رواية غناء الروح البارت الثامن

رواية غناء الروح الجزء الثامن

رواية غناء الروح
رواية غناء الروح

رواية غناء الروح الحلقة الثامنة

فُرضت قيود الصمت على ألسنتهم، وغُلفت بعض الأفئدة بالحزن لهيبة مشهد وداعها، بينما البعض الآخر اكتفى بطي العداوة المنبثقة بقلوبهم في بئر النسيان، فلم يعد مجالاً للكراهية الآن، غادرت ميرڤت بجبروتها وقسوة قلبها وجحود طباعها لعالم آخر تجني به ثمار ما زرعته طوال حياتها.
مسحت “نهى” قطرات الدمع المتساقطة فوق صفحات وجهها الحزين والإنكسار يغزو روحها، لم تستطع وداعها بعدما فشلت في التقرب منها وبث الهداية بقلبها، حيث رفضت والدتها مقابلتها عدة مرات، واتسعت طرق الفراق بينهما، فأغلقت صفحات محاولاتها معها ووضعت كلمات النهاية بالدعاء لها، وكعادته معها ساندها “خالد” بإحتوائه ودعمه المستمر لها، مربتًا فوق جوارحها بهمساته الحانية، طالبًا منها الدعاء لها، فهي في أمس الحاجة إليه، هزت رأسها وهي تبكي، سامحة لصوتها بالتسلل للعلن:
-ربنا يرحمها، ويغفر لها.
ثقلت كلماته بلسانه، بعدما حارب عقله مشاعره التي حاولت التكيف مع مشهد وداع زوجة عمه، فلم يتذكر لها سوى القسوة والبغيضة التي ولدتها بقلبه نتيجة أفعالها معه، ولكنه أجبر نفسه على الدعاء لها، ثم حمحم بخشونة عندما لاحظ سليم وأخويه ينتظرون عند باب المقابر الخارجي، فقال لنهى بنبرة غلب عليها التخبط:
-ولاد خالك بقالهم كتير مستنين.
التفتت نصف التفافة تنظر إليهم، وبسمة ساخرة تعلقت بشفتيها الباهتة نتيجة لإرهاقها المستمر في شهور الحمل، ثم عادت بنظراتها الشاحبة نحو قبر والدتها تنظر إليه وكأنها تعاتبها، فلم يستطع لسانها الصمت كثيرًا وهمست بأسى متخيلة أن زوجها الواقف بجانبها لم يسمعها:
-أكتر ناس كرهتيهم وعادتيهم هما اللي حضروا جنازتك، اخدتي أيه من اللي عملتيه؟!
سؤالاً تمنت دومًا الإجابة عليه، علها تجد مبررًا للسواد القابع بقلب والدتها اتجاه أولاد خالها، وتحديدًا سليم، لم تتوقع أبدًا حضوره ولا تأديته لصلاة الجنازة عليها، والأغرب هو من دفع كافة تفاصيل دفنها، اخترق حزنها بتصرفاته واحتارت فهم طباعه، ولكن الشيء المؤكد لديها أنه عكس ما كانت ترويه والدتها عنه، طوال الأشهر الماضية لم يكف بالسؤال عنها سواء هو أو شمس زوجته والإطمئنان على صحتها، عرض مساعدته لها دومًا لأي شيء يخصها أو يخص خالد، ودون أن تشعر نمى بقلبها شعور بالامتنان له.
تركت قبر والدتها بقلب مكسور وحزين، وتوجهت لهم، تتلقى عزائهم بوجهٍ مرهق، وأنفاس ثقيلة نتيجة لإرهاقها وأول من لاحظ ذلك هو يزن، فقال بأسلوبه اللبق:
-متهيألي يا خالد تيجوا تريحوا الليلة دي عندنا، نهى شكلها تعبانة.
-أنا شايف كده بردو.
أكد سليم على حديثه ولم يخفي إهتمامه بابنة عمته الوحيدة فشعوره نحوها بالمسئولية زاد الضعف، ولكن نهى سارعت بالرفض ممسكة بيد خالد بقوة:
-لا أنا هرتاح أكتر لما نروح، ملهاش لزمة أننا نقعد.
تفهم خالد حاجتها بالذهاب لمنزلها، حيث نجحت في بناء عُش لهما تحتمي به أثناء ضعفها:
-خلاص على راحتها، وكمان أنا مينفعش اتأخر على شغلي.
ودعت نهى سليم أولاً وهي تنسج خيوط الإمتنان بنبرتها الثقيلة:
-شكرًا يا سليم على كل حاجة، ربنا يجعله في ميزان حسناتك.
فرض بسمة فوق شفتيه وهو يقول بصوت مجهد:
-مفيش شكر ما بينا، لو احتاجتي أي حاجة كلميني على طول.
هزت رأسها امتنان شديد، ثم ودعت يزن الذي أظهر تعاطفه معها كعادته، ثم انتقلت لزيدان المتخبط بين مشاعره ولكن غلب عليه الحزن لِمَ هي تعانيه من وحدة بالرغم من وجود عائلتها، وكسرة بسبب أفعالهم الشنيعة بحق أنفسهم أولاً فكانت نتائجها وخيمة عليها وحدها، وذلك بعدما قابلت رد فعل والدها وأخيها على خبر وفاة والدتها بالتجاهل الشديد، ولكن احتلت الراحة جزء بداخله عندما اطمئن عليها ولاحظ احتواء خالد لها.
-لو احتاجتي أي حاجة أنا موجود.
همست بنبرة متحشرجة للغاية، وهي تغلق عينيها وكأنها تجبر نفسها على نسيان الماضي:
-شكرًا.
قطع عليها خالد ذكريات الماضي المندفعة لعقلها بسرعة البرق، فوجوده له أثر مهيب على نفسها، وحضوره الطاغي على قلبها جعله ينتفض بدقاته العنيفة لمجرد إحتواء كفه لكفها ثم مساعدتها للسير نحو سيارتهما:
-لو حاسة إنك هتتعبي، إحنا ممكن نحجز في أي أوتيل.
هزت رأسها بنفي وهي تستند عليه، تلقي بثقلها وهمومها فوقه بكل أريحية:
-لا، صدقني هرتاح أكتر في بيتنا.
هز رأسه بالموافقة، يقدم فروض الانصياع لرغبتها، وفتح باب السيارة الأمامي وقبل أن تستقل بها همست بسؤال يغمره نيران الفقد:
-خالد هتجيبني ازورها كل فترة؟!
اختفت مشاعره السلبية خلف جدار رزانته وهو يقول:
-وأنا من امتى برفضلك طلب يا نهى! أؤمري انتي ومالكيش دعوة.
آه لو يتوقف الزمن وتبقى معه دون أن يراهما أحد، حتمًا كانت ستقع بأحضانه تنهل من بئر حنانه ما يروي ظمئ قلبها، ولكن فُرض الخجل قيوده عليها، واكتفت بإرسال رسالة شكر صامتة من خلال عينيها، تخبره بها كم تتمنى أن يظل إحسانه معها وألا تضل دربهما أبدًا.
*******
مساءًا…
دخل سليم شقته بجسد منهك، وعقل مجهد، وعيناه تفتقد حدتها المعتادة، فمالت تعابير وجهه للإرهاق وهو يقابل ابنته الجالسة بمقعد مخصص للأطفال وبجانبها أنس الذي يحاول تقديم جميع العابه لها، بينما هي كانت تلتهم قطع الألعاب بفمها معتقدة أنها طعام، فأبعدها سليم عنها وهو يقبل وجنتيها بحب، يهمس بنبرة يغمرها الاشتياق لتفاصيلها:
-هي ماما مجوعاكي ولا أيه؟!
وجدت شيء أخر تلتهمه ألا وهو وجنته، فصدر عنها صوت طفولي رقيق وإبتسامة واسعة احتلت محياها وهما يتشاركان الضحك هي وسليم الغارق بكل شيء تصدره، متناسيًا وجود أنس المتابع لهما بعيون تفتقد لِمَ تتلقاه قمر من قبل والدها، وقبل أن ينهض “أنس” يتوجه لوالدته يطلب منها الإحتواء بصمت كعادته، وجد والده يعيق حركته بعدما وضع قمر بمكانها، ثم أجلسه هو فوق ساقه يسأله بإنعقاد حاجبيه ونبرته الهادئة:
-رايح فين وسايبني من غير ما تسلم عليا؟!
قبله أنس في خده ثم رد بعفوية:
-رايح لماما.
-طيب ما تجيب حضن كبير عشان أنت واحشني أوي الفترة دي.
عانقه أنس فورًا متناسيًا ما حدث قبل دقائق وشعور بالغيرة من أخته “قمر” تلاشى بتصريح والده له، مهما كان سليم جامدًا وقاسي المشاعر مع الأخرين إلا أنه مع أطفاله شخص آخر يفيض حنانًا ولطف، ظل سليم يحظى بدفيء طفله أنس، فمَن يتعطش للحنان ليس سواه، حيث اضمحل خريف مشاعره وهو يستقبل ربيع وجود أطفاله حوله! نعمة كبيرة سيظل يحمد الله عليها كل لحظة بحياته.
ظهرت شمسه من قوقعة المطبخ المحتجزة بها كعادتها، فأظهرت كامل إهتمامها بوجوده كما دومًا تفعل معه، وعيناها الشاردة بتفاصيله تبحث عن مأوى يطمئن من خلاله قلبها عليه، فسألت بإهتمام بالغ:
-عملتوا أيه؟
هز كتفيه بهدوء وهو يبعد جسده عن أنس ويستند بظهره على مسند الأريكة:
-مفيش خلاص ادفنت.
همست بنبرة فاترة وهي تقول:
-ربنا يرحمها ويغفر لها،…
ثم استطردت بقولها الذي يتدلى منه العتاب:
-كان المفروض أنا ومليكة على الاقل روحنا معاكم وقدمنا واجب العزا لنهى.
اغمض عينيه وهو يتنهد بقوة:
-وأنا قولتلك أنها هترجع تاني ملهاش لزمة تيجوا، ابقوا كلموها بالتليفون يا شمس.
مالت نبرته للحدة في أخر حديثه، فعقدت ما بين حاجبيها وشعرت بحاجته للصمت أو تركه وحده يصارع وحوش ماضيه المُصرة على طرق أبواب حاضره بكل قسوة، فاخترقت عالمه بسؤالها الخافت وخاصةً بعدما تركهما أنس وتوجه للتلفاز يتابع مسلسله الكرتوني المفضل:
-سليم، أنت زعلان عليها؟!
ضرب الإستنكار اعتقادها حين سأل:
-على مين بالظبط؟!
مطت شفتيها بضيق لمراوغته لها:
-عمتك ميرفت.
-الله يرحمها، بقت من الأموات، مايجوزش عليها غير الرحمة يا شمس.
انزعجت من أسلوبه المبطن، فقالت بنبرة مستاءة:
-أنا مابتكلمش عليها وحش، أنا بسألك عن مشاعرك أنت ناحيتها؟!
مال برأسه أكثر ناحيتها وهو يسألها بمكر امتزج بخصال شخصيته المغرورة:
-طيب ما تسأليني عن مشاعري ناحيتك أنتي؟!
استندت بذقنها على يدها وهي تجيب بذكاء ومكر أنثوي ادهشه:
-لا ما أنا عارفة أنك هتجاوب عليا بإستفاضة في أي حاجة تخصني، لكن أنا بقى بحب أدخل في اللي مايخصنيش.
أنهت حديثها ببسمة واسعة تستفزه بها ولكن ملامحه أبت الافصاح عن أي شيء وهو يقول:
-وهتستفادي أيه؟!
أرجعت خصلات شعرها الثائرة خلف أذنيها، ثم انتقلت أصابعها بمرونة لخصلات شعره تداعبها برقة، تاركة العنان للسانها يفصح عن حقيقة ما تشعر به اتجاهه:
-أنا بحس بإنجاز كبير لما بخترق جزء مكتوم جواك، عارف انت عامل زي أيه؟!
صمتت لحظة تجد وصف مناسب لِمَ يدور بعقلها:
-المغارة، أيوه أنت عامل زي المغارة وأنا بقى مغامرة بحب استكشف أي حاجة جديدة وبحس بالإنجاز الرهيب لما بعرف تفصيلية صغيرة جواك مكنتش أعرفها عنك زمان وبالذات بقى لو أنت قولتهالي.
لمعت عيناه بالإعجاب وقرر الخوض أكثر في الحديث معها رغم إرهاقه وحاجته للنوم:
-وهتفرق في أيه بقى انتي اللي اكتشفتيها ولا أنا اللي قولتهالك؟!
هبطت بأناملها تمررها فوق تقاسيم وجهه، وتخبره بنعومة أفرطت بحقها نحوه:
-لا تفرق يا سولي، لو أنا اكتشفتها طيب ما ده العادي، أنا على طول بعمل كده، لكن أنت لو حكتهالي فده إنجاز عظيم، أنت ما بتتكلمش بسهولة، فأكيد في اللحظة اللي تختارني أنا وتحكيلي عن حاجة جواك مضايقك هكون أسعد انسانة في الدنيا.
-دي كلها محاولات خبيثة منك عشان تعرفي أيه يا شمس؟!
واجهها بشراسته العاشقة إليها، فردت بضحكة مشاكسة وهي تواجهه دون خوف:
-زعلان عليها؟!
-ازعل عليها ليه؟! هي ماتت يعني ارتاحت، ارتاحت من تفكيرها العقيم وضميرها الأسود، ارتاحت من قلبها اللي مفيهوش ذرة رحمة، فازعل عليه، بالعكس الموت راحة ليها ولينا كمان، على قد ما كانت مضايقني إلا أن كنت ببقى مضايق وقرفان من اللي بتعمله في نهى، ورغم ده كله البنت كانت بارة بيها، نهى تستحق عيلة أفضل من دي!
نجحت في قطع جزء من السلك الشائك العائق أمامها، وبحرت كسباح ماهر تواجه عنفوان مشاعره الحاملة للكرة والسواد نحو عمته فقط:
-عندك حق، بس هي خلاص ماتت المفروض تسامحها يا سليم!
-ماتطلبيش مني حاجة فوق طاقتي، حاليًا أنا كل اللي محتاجه أنام عشان مافكرش في حاجة اضايق نفسي بيها.
-اممم يعني بتهرب مني بالنوم!
ابتسم بصدق وهو يداعب أرنبة أنفها بأنامله:
-أنا لو اطول أفضل صاحي وابصلك بس هعمل كده.
توردت وجنتيها بخجل شديد من تصريحه المفاجئ لها، فهمست بدلال:
-لا لا أنا مش قد التصريحات الخطيرة دي، قلبي مايستحملش.
داهم النوم عينيه فرد بصوت خامل يجاهد الاستيقاظ والتركيز:
-سليم أفعال وليس أقوال.
ضحكت بنعومة وهي تنظر له بهيئته شبه الطفولية وهو يمجد بنفسه وعينيه تكاد تغلق بسبب إرهاقه، فقالت بمشاكسة:
-سليم محتاج ينام، وممكن نسيب الأفعال دي لبعدين.
اعتدل بجلسته أكثر وهو يجذب الوسادة تحت رأسه، مقررًا النوم مكانه فوق الأريكة وسط طفليه فهما دومًا مصدر أمانه:
-سليم شايف كده بردو.
واستسلم لرحلة نوم ربما لو دخل غرفته كان افتقد دربها، وغاص في مهاجمة ماضيه كعادته كلما انفرد بنفسه، فوجد أن التجاهل لندباته أفضل حل لعلاجها!
******
عم السكون على شقة يسر وهي تجلس وحيدة بصالة شقتها تنظر للفراغ بلا مبالاة، والحزن يكسو فوق معالمها بعدما نقض نوح وعده لها ولم يأتي لها في منزل والدته فاضطرت للعودة وحدها هي ولينا، وكالعادة تحجج بالزحام في عيادته وعدم إيجاد وقت للذهاب إليها.
زفرت باختناق حاد، مقررة وضع حد لِمَ تعانيه معه في هذه الليلة، لن يمر بأفعاله مثل كل مرة، ولن تطفئ قبلاته أجيج فؤادها، استمعت لصوت مفاتيحه في الباب، فظلت على نفس وضعيتها التي أعطته فكرة عن مستقبل غفوته الليلة!
-مساء الخير يا يسر.
ودت تصيح بما اندفع لعقلها من وقاحة تناسب ما فعله معها الليلة، ولكنها فرضت لجام الرزانة وهي تجيب بصوت مبحوح:
-أقعد يا نوح، محتاجة أتكلم معاك.
رضخ لطلبها ببساطة أدهشتها، فاستغلتها بقولها:
-أخرة اللي أحنا في أيه؟!
زم شفتيه بضيق وهو يفرك وجهه بقوة:
-أخرته أيه يعني يا يسر! أنا بجد مش فاهم في أيه، غير إنك مستلماني خناق من أول ما دخلت، رغم اننا المفروض كنا كويسين يعني.
توسعت عيناها الممتلئة عن أخرها بالدموع وهي تقول بتعجب:
-والله المفروض يعني كده أننا كويسين، أنت فاكر يعني عشان بو…..
بترت حديثها بإنفعال ظهر جليًا فوق ملامحها، فردت بحدة بالغة:
-نوح أنت عارف كويس أنا اقصد أيه، بلاش تلف وتدور عليا! قولي أنت عايز أيه مني، أنا حاسة في مرة هموت أو هيجرالي حاجة بسببك.
انتقلت لعنة الغضب إليه وانتفض يصيح عاليًا ينفجر بها:
-عشان شاغلة نفسك بس باللي بيشتغلوا معايا وبأمور المفروض أنها تكون تافهة بس ازاي أنتي مكبرها لدرجة أنك منكدة علينا عيشتنا كل يوم.
انتفضت بهياج وهي تتصدى لانفعاله بشجاعة:
-هو لما اضايق من البنات المايصة اللي بتشغلهم معاك أبقى غلطانة، لما أضايق ان كل حياتك عبارة عن بنات وبس أبقى غلطانة، يا راجل ده مفيش راجل يوحد ربنا بيسأل عليك غير يزن صاحبك غير كده كلهم بنات في بنات، أيه الرحمة بيا!
اختصر المسافات بينهما والاغتياظ ينحر قسماته، فمد يده يمسك ذراعها بقسوة وهو يقول:
-ومين يرحمني أنا، مين يحس بيا، أنا المفروض أحس بيكي وأحس بأمي وبأخواتي وبعيال أخواتي، واسمع ده واراضي في ده، وأشوف ده عايز أيه؟! أيـــــــه ومين يسمعني ومين يحس بيا وباللي بضايق منه، حتى أنتي فشلتي في ده وبقيتي نسخة تانية من أهلي عايزني بس اعملك اللي أنتي عايزة لكن أنا عايز أيه أو زعلان من أيه أو أيه بيحصلي في يومي أخر همك، عشان كده يا يسر أنتي كمان أخر همي، واللي أنا عايزه هعمله ومش هيهمني حد، واه هتجوز عليكي وأنتي اللي موافقة ومن الأول برضاكي، ماتجيش بقى تعمليلي فيها دور المقهورة وأنا اللي بعمل حاجة غصب عنك.
انهى ثورة بركانه والتفت يغادر إلا أنه أوقفته متسائلة بإنكسار والدموع تغرق وجنتيها:
-أنت ازاي شايفني كده؟! ازاي قادر تجرحني كده؟!
-ما أنتي بتجرحي الأول، أنتي اللي بتبدئي على فكرة وأنا بس نتيجة لأفعالك، اشغلي نفسك مرة واحدة بيا، لكن ازاي كل همك كرامتك مجرحهاش واتجوز عليكي، مش يمكن جوازتي التانية دي تعرفك قيمتي؟!
قابلت سخطه بإمتعاض ناري منها وهي تجيب بإستنكار:
-لو هعرفها بالطريقة دي، الله غني عنها.
اشتدت ملامحه بقسوة بالغة وغرقت نبرته في تحدٍ:
-حلو يبقى أنتي كده اللي اختارتي يا يسر، سلام.
أوقفته متسائلة بحذر:
-قصدك أيه؟!
-في أقرب وقت هعمل اللي عايزه وهتجوز عليكي، ابعدي بقى.
تركت يده بسهولة كما هو يعلن ما تتمناه نفسه دومًا بكل بساطة دون مراعاة حبهما أو هدم عشهما التي جاهدت الحفاظ عليه طوال تلك السنين الماضية، لقد خسر قلبها الرهان وفشلت في إيجاد وسيلة للوصال بينهما، بينما أرتاح العقل لوضع كلمة النهاية بعد إجهاد كبير بذلته في رَفْء ثوب حياتهما معًا!
*****
بعد مرور عدة ساعات..
استمع “يزن” لِمَ باح به نوح بإهتمام، وظل على نفس صمته لفترة قطعها نوح بغضب آخر:
-لا وجاية بمنير الزفت تغيظني به، دماغ البنات دي تعبانة أقسم بالله، يعني كده كانت هترتاح لما اقوم اكسر دماغه قدامها.
مط يزن شفتيه وهو يعبث بنموذج للسيارات الصغيرة الموضوعة أمامه:
-ماعملتش كده ليه؟! أنا لو مكانك كنت قومت ضربته وعلمته الادب.
-أنا محتاج أعمل كده فعلاً، أنا محتاج اقوم اكسر عضم حد عشان أرتاح..
شمله يزن بنظراته الساخرة:
-أنا عمتي ماتت وحالتي بائسة.
-يلا ربنا يجحمها، ماكنتش بطيقها، معلش يعني يا يزن.
اتسعت ابتسامته الساخرة وهو يقول:
-هي الله يرحمها مكنتش بطيقك ماعرفش ليه؟! بس هي عمتي كده مابتحبش أي حد سالك!
نهض نوح وهو يتنهد بثقل، مقررًا إنهاء حالة الغم المحاطة به:
-بقولك أيه ما تفكك من الحداد اللي أنت عامله على عمتك ده، وتيجي نسهر في أي مكان.
نهض يزن هو الأخر وهو يصطنع الإستياء:
-لو مكنتش تصر بس يا نوح، يلا بينا، حكم القوي.
-يا عم أنت بتلكك أصلاً، امشي.
اختارا سيارة يزن، بعدما ترك نوح حرية الإختيار ليزن، فوصلا أمام أحد أماكن السهر المشهورة، ودخلا معًا، فمال يزن يعاتب نوح المشغول بمتابعة المكان:
-يعني لو حد شافني دلوقتي هيقول عليا أيه؟!
-هيقول عمتك حرباية وماتستاهلش حد يزعل عليها، يا ابن الـ ****
توسعت أعين يزن بصدمة وهو ينهر صديقه:
-أيه ياعم الغباء ده، بتشتمني ليه؟!
لكزه نوح بضيق وأفكاره العدوانية تنفعل بضراوة:
-هشتمك ليه؟! أنا بشتم منير ابن المضايقة واقف هناك اهو.
ركز يزن ببصره على منير الواقف بين مجموعة من الفتيات والشباب فهمس بغضب:
-هو يوم ابن مضايقة أصلاً، بقولك؟
انتبه نوح إليه ونظراته تنضح بويلات الغضب:
-فرصتك وجتلك، عصيرك أهو…
التقط “يزن” كوب العصير الموضوع فوق الطاولة الموضوع أمامهما:
-عصيرك اهو وأنت عارف أيه اللي هيحصل!
نبعت شبه بسمة قاسية فوق محياه والتقط كوب العصير، ثم سار بخطوات واثقة اتجاه منير مستغلاً الزحام حوله واصطدم به عن عمد، فتساقط كوب العصير على قميص نوح الذي هاج بإنفعال:
-في أيه مش تحاسب يا غبي؟!
عقد منير ما بين حاجبيه بعدم فهم لوجود نوح أمامه، واندفع سؤاله على طرف لسانه إلا أنه تلقى ضربة عنيفة بوجهه من قبل نوح، الذي استعد للشجار المندلع من قبل أصدقاء منير، فتدخل يزن بالوقت المناسب وعارض اللكمات المتوجهة لصديقه:
-لا ده صاحبي فكك.
لم يستمع إليه صديق منير وظل يسدد اللكمات نحوه، فانتفض يزن بغضب:
-مفيش رأفة أبدًا ده أنا عمتي متوفية وقلبي حزين يا ابن ال***.
واندفع هو الأخر للشجار المندلع بالمكان، اما نوح امسك بمنير في إحدى الزوايا يسدد له الضربات العنيفة والقوية بينما الأخر حاول الدفاع عن نفسه وتسديد اللكمات لنوح هو الأخر فنجح في واحدة استقرت بوجه نوح، الذي انحنى للأسفل والشر يطرق برأسه لقتله، ولكن يد يزن التي وضعت فوق ذراعه يجذبه للخارج بسرعة بعدما دخل الأمن في المكان، استقل بجانب يزن في سيارته وانزل المرآة الصغيرة يتفقد وجهه:
-علم عليك؟!
استنكر نوح وهو يتفقد تلك الكدمة:
-هو انت اعمى ماشوفتش وأنا معلم على اللي خلفوه، وبعدين أنت ساحبني ليه كده؟!
-الأمن دخل وكنا هندخل في حوارات مالهاش لزمة، وبعدين الواد كان بيفرفر في إيدك، كفاية عليه كده.
حرك رأسه بإيجاب وهو يقول بنبرة مغلولة:
-صح كفاية عليه كده، مانشوف بقى هي هتعمل أيه لما تشوف المحروس معمول فيه كده.
تنهد يزن وهو يجيب بضحكة ساخرة:
-خناقة جديدة، يلا المهم هتنام في العيادة ولا في المعرض عندي.
-في العيادة، ورايا شغل كتير بكرة.
******
في اليوم التالي…
سارت سيرا بجانب فاطمة صديقتها في الطريق المؤدي لعملها، وتحدثا بأمور عديدة منها محاولة سيرا لمحو فكرة شراء أبلة حكمت لسيارة من معرض “يزن”، فتساءلت فاطمة بفضول:
-وأقنعتيها ازاي بقى؟!
هزت كتفيها وهي تبتسم بمكر:
-مفيش قولتلها أخواتي لو عرفوا هيحسدوها، وأنها تستنى شوية، وهي أكيد هاتشوف حاجة تانية تشبط فيها غير العربية.
أومأت فاطمة برأسها والتردد يلوح بنظراتها التي التقطتها سيرا بمهارة:
-في أيه يا طماطيمو من وقت ما خرجنا وأنتي عايزة تقولي حاجة؟!
توقفت فاطمة تخرج ما في جعبتها مرة واحدة:
-الصراحة بقى عرفت من سهام أن فايق عايز يتقدملك ويخطبك.
شهقت سيرا بصدمة واعتراض في آن واحد وهي تقول:
-أيه؟!
-يا بنتي بس أنا نهيت الإقتراح ده وقولتلها إنك مابتفكريش في الجواز دلوقتي، بس الخوف بقى أن أمه بتفكر تكلم أبلة حكمت.
صاحت مرة أخرى باعتراض شرس:
-أيه أبلة حكمت؟! بلاش دي.
-حاولت والله يا سيرا، بس ماعرفش سهام المتخلفة دي بصتلي وكأني بغير منك، وماتعرفش اللي فيها أصلاً، دي طالعة بأخوها السما وكأن مفيش منه اتنين، هي أبلة حكمت تعرف أنه بيشرب خمرة؟!
ردت بشرود، وشعور بالخوف يترعرع داخلها من فكرة دخول أبلة حكمت في مسألة زواجها، دارت عجلة ذهنها وبدأت في التفكير في إيجاد فرصة لقطع سُبل الوصول إليها من قبل ذلك الـ “فايق”، وتلقائيًا اندلع شعور بالاشمئزاز داخلها من فكرة ارتباطها به، وأثناء شرودها لم تلاحظ محادثة “فاطمة” بالهاتف ولا سعادتها المفرطة.
-باركيلي يا سيرا الشركة اللي حكتلك عنها امبارح كلموني دلوقتي وهروح حالاً اعمل تجربة أداء.
غاصت معالم سيرا في الفتور وهي تواجه سعادة صديقتها غير المبررة بالنسبة لها:
-يعني هتسيبيني وكل اللي اتفقنا عليه نعمله خلاص كده!
حملت نبرتها الرجاء وهي تقول:
-عشان خاطري يا سيرا ماتزعليش، عارفة لو وافقوا واخدوني في أي فيلم ولا مسلسل، يالهوي هعزمك على نص كباب.
-مش عايزة حاجة يا ستي، ربنا يوفقك بس إياكي يا فاطمة تدفعي فلوس، لو هتعمليها ببلاش ماشي غير كده لا.
تظاهرت فاطمة بالموافقة وهي تردف:
-طبعًا يا بنتي، طبعًا، يلا هنأجل مشوار السينما معلش.
أومأت برأسها ثم بدأت في توديعها ولكن فاطمة توقفت تسألها بمكر وفضول:
-انتي هتروحي ليزن ده وتعزيه في وفاة عمته؟!
استنكرت بنبرتها وهي تتظاهر باللا مبالاة:
-لا طبعًا، ليه هو من بقيت عيلتي ولا أيه؟!
-أنا شايفة من باب الذوق انك تعزيه وخصوصًا انه عامل معاكي موقف جدعنه يعني.
امتهنت عدم الاقتناع وهي تقول بنبرة مترفعة:
-بس أنا مش شايفة كده! يلا روحي عشان متتأخريش.
وافقت فاطمة بعدم رضا، وغادرا كل منهما في اتجاه أخر، مرت دقائق بسيطة وهي تنتهي من الطريق المؤدي لعملها وقبل أن تدخل البناية تراجعت وهي تحسم أمرها ومالت لرأي صديقتها باقتناع تام، فدخلت المعرض تبحث عنه ووجدته بالفعل يقف بأحد الزوايا يتحدث مع أحد العاملين، فتوجهت نحوه والحرج يتسلل لوجهها واحتارت في مناداته، فتوقفت صامتة على بعد خطوات منه، حتى استطاعت سرق انتباهه، فرحب بها بحفاوة:
-سيرا، اهلا؟
كادت تجيب عليه إلا أنها لاحظت عدم أي أثار للحزن بملامحه، فعقدت ما بين حاجبيها تمرر بصرها عليه بإستفهام صامت، وسرعان ما أدرك هو ما يجول بخاطرها، فرسم ببراعة إمارات الحزن وهو يشير إليها نحو مكتبه:
-تعالي اتفضلي!
توقفت مكانها ترفض عرضه، وهي تقول بصوت متحشرج:
-أنا كنت جاية عشان اقولك البقاء لله.
-الدوام لله، صاحبة واجب.
لمحت السخرية المبطنة بصوته، فسألت بشراسة مطوية بين نبرات الحدة:
-قصدك أيه؟!
وضع يده في جيب سرواله وهو يقول بنبرته المستنكرة لحدتها غير المناسبة:
-يعني مافكرتيش تتصلي بيا امبارح تتطمني يا شيخة، ده أنا عمتي ماتت وكنتي شايفني ازاي امبارح؟!
-مالك امبارح، بالعكس كنت حاسك مبسوط مش زعلان خالص.
صدمته بردها الجامد، فهمس بنبرة حاقدة قاصدًا إثارة استفزازها:
-عديمة المشاعر.
توهجت عيناها بضراوة وهي تتسأل:
-أنت تقصدني أنا؟!
رسم بريشته خطوط الأسى والفقد فوق ملامحه، واصطنع حزنه الشديد لفقده عمته:
-يعني المفروض تواسيني يا شيخة ده أنا عمتي ماتت وخلعت قلبي، سابت فراغ كبير ربنا…
ثم أردف بهمس شديد:
-يجحمها مطرح ما راحت.
رفعت أحد حاجبيها وعدم الإقتناع يلوح بمقلتيها:
-أنت بتقول أيه بصوت واطي؟
-بدعي لعمتي يا بنتي، حتى الدعاء بتسوئي الظن فيا.
رمقته بضيق لتأكدها من سخريته اللامعة بعينيه، فتجاهلته عن قصد وهي تقرر الذهاب دون الرد عليه، ولكن قوله فاجأها وجعلها تستدير له بفزع تسأله بتركيز:
-أنت قولت أيه؟! عايز أيه؟!
-رقم تليفون أبلة حكمت!
أجاب ببساطة أدهشتها فاستشاطت بسخط حاولت كتمه بقدر الإمكان:
-وده ليه بقى ان شاء الله؟!
-عايز اعتذرلها عن موقف امبارح.
لا زال عدم الفهم يسيطر عليها وهي تسأله:
-هو أيه اللي حصل امبارح؟!
عاندها بمشاكسة وهو يكرر حديثه:
-وانتي مالك؟! هتجيبي رقم أبلة حكمت ولا اجيبه بمعرفتي!
كادت تطلق لسانها لتوبيخه بسبب أسلوبه معها إلا أنها صُدمت حين صدح صوت أبلة حكمت في الأجواء من العدم:
-أبلة حكمت بنفسها هنا.
___________

يتبع….

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غناء الروح)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى