رواية ضروب العشق الفصل العاشر 10 بقلم ندى محمود توفيق
رواية ضروب العشق الجزء العاشر
رواية ضروب العشق البارت العاشر
رواية ضروب العشق الحلقة العاشرة
توقفت سيارته أمام المنزل وقاد خطواته الثائرة نحو الباب وفتحه بالمفتاح ليدخل ويغلقه خلفه بعنف صائحًا عليها :
_ يــــــــســــــــر !!!
كانت تشاهد التلفاز وانتفضت جالسة بفزع على أثر صياحه وفورًا وثبت واقفة وقبل أن تخطو خطوة من مكانها وجدته يتقدم نحوها ويغرس أصابعه بعنف في ذراعها صائحًا :
_ إنت إيه .. شيطانة ! ، أنا كنت متوقع إنه هيكون ليكي إيد في اللي حصل بيني وبين رحمة لكن توصل بيكي الحقارة إنك تهدديها بأخوها الصغير اللي ملهوش ذنب وتبعتيلها واحد عشان تتجوزه بالغصب
أخذت ترمش بعيناها بذهول مما تسمعه منه وسرعان ما انطلقت منها ضحكة أنوثية مرتفعة وهي تشير إلى نفسها بسبابتها :
_ أنا هددتها بأخوها !!!!
استمرت بالضحك وهي تراه يشتعل واقفًا من الغضب وبعد ثانية بظبط توقفت عن الضحك واكتفت بابتسامة شرسة وهي تهتف :
_ أنا فعلًا هددتها ، بس هددتها بحاجة هي مش هتقدر تقولها ليك .. أنا مصدومة فيك كنت متوقعاك أذكي من كدا طلعت طيب لدرجة السذاجة وغبي عشان بكلمتين صدقتها
_ ومصدقهاش ليه ما أنا اتوقع منك أي حاجة !
دفعت يده عنها بعنف وصاحت به بنبرة صوت مرتفعة وقد وصلت لذروة سخطها :
_ أنا مش بخاف منك ولو عملت كدا هقولك في وشك أيوة أنا عملت ، لكن دي بنت **** ، كلبة فلوس وبعدين جواز إيه اللي اتغصبت عليه ضحكتني والله ، أنا فعلًا أنا اللي بعتلها الراجل ده ، وجوزها ده كان معرفة قديمة من أيام الكلية ومن عيلة كبيرة زينا بظبط وعشان هي قذرة وبتموت في الفلوس لما عرض عليها الجواز وقالها هيكتبلها الڤيلا اللي هيعيشوا فيها باسمها وهجيبلها عربية وهيديها اسهم في الشركة بتعتهم باعتك فورًا ، لازم تبيعك مش الموضوع فيه فلوس وأملاك ، هي كانت طمعانة في فلوسنا ولما لقت فرصة افضل منك باعتك ، وإنت بكل غباء قالتلك كلمتين وصدقتهم ، تقدر تقولي لو هو هددها فعلًا ليه مجاتش وقالتلك الحقني ياحسن وده عايز يأذيني أنا وأخويا ، مقالتش ليك عارف ليه ؟ ……
توقفت عن الكلام للحظات تعيد لملمة شتات قلبها الممزق والسيطرة على دموعها السابحة في عيونها ثم عادت تستكمل صياحها به بحرقة :
_ عشان هي أصلًا عمرها ماحبتك ، وإنت كنت دايب فيها ويمكن مازالت ، هي باعتك في أول محطة ولسا بتحبها ويسر هتفضل وحشة لو قتلت نفسها عشانك ، إنت مبتفكرش حتى تحاول تعاملني كويس وكرهك ليا مخليك أعمي .. أعمي عن أي حاجة حلوة بعملها عشانك .. مخليك مش شايف غير عيوبي ، وبنسبالك يسر قذرة وحيوانة وبتتكلم عن العشق وهي متعرفش يعني إيه عشق ، اللي لسا بتحبها دي تخلت عنك رغم كل اللي عملته عشانها وأنا رغم كل حاجة لسا متمسكة بيك وحبي ليك بيزيد مش بيقل ، رغم معاملتك واهانتك وكلامك اللي مفيش واحدة تستحمله لسا زي ما أنا بحبك وللأسف مش عارفة أكرهك وأحيانًا بتمنى إني أكرهك بجد ، ومش بعيد في يوم من الأيام أكرهك ووقتها هباركلك على الفوز العظيم اللي حقته ده وهقولك إنت اللي انتصرت
دفعته بعنف من أمامها لتعبر وتتجه نحو غرفتها وتغلق الباب على نفسها مطلقة حرية دموعها تسمح لهم بالانهمار بقوة !! ….
***
مذنبة !! .. هي لا تحتاج لأحد لكي يذكرها بأنها مذنبة هي تعرف حق المعرفة أنها اخطأت ويجب أن تدفع الثمن أي كان ، ولكن ماذا إن اختارت هي الطريقة التي تعاقب بها فهناك عقاب يحتمل وآخر لا يحتمل !! .
ربما لم يتمكن من اعتلاء عرش قلبها حتى الآن ولكنه بالتأكيد نجح في تثبيت وسامه في مكان ما بداخلها .. ولا يفشل في أن يزيد كل يوم مكانة وشأن في نظرها .. لا يفشل في كل مرة أن يجعلها تصمم على عدم خسارته حتى لو كانت تعرف أنها ستعاني قليلًا معه ، ولكنها على اعتقاد تام بأن سيأتي يوم وستعلن عهد السلطان الجديد على مملكتها الخاصة ولا سيما في أنها ستحارب من أجل الوصول لهذا اليوم ! ، هي مازالت لا تعشقه ولكنها أيضًا لا تكرهه بل تكن له كامل الود والاحترام .
هو لديه الحق فيما قاله صباحًا إضرابها عن الطعام لن يجدي بأي نفع عليها ، لن تستفاد شيء عندما تسجن نفسها بين أربعة حوائط وتزج بنفسها بين طيات الحزن ، بل يجب عليها أن تتصرف كالنساء وتحمي عشها من الانهيار حتى ولو كان هذا العش تم بنائه على الكذب والخداع فهي بإمكانها أن تعيد بنائه بالثقة والعشق والرحمة والرفق .. بإمكانها أن تحول العش لقصر منيع لا تهدمه حتى أقوي الرياح المدمرة ، وسيكون ثابتًا كالجبال في وجه كل الظروف ، ولكنها تحتاج لمزيد من الشجاعة والثقة بالنفس حتى تتمكن من النجاح وإصلاح ما أفسدته ، ولتثبت له أنها لا تريد ذلك العشق الذي كان يحتلها وتريده هو .. أجل كان ! ، الآن هي تشعر بنفسها طائر حر طليق وتركوه حرًا ولكن تركو بيده الإغلال ، أي أنها لا زالت تحمل آثار الماضي وذلك العشق ولكنها ستلوذ للشخص المناسب وسيفك عنها هذه الإغلال التي باتت تخنقها.
الآن هي يجب عليها أن تعمل بنصيحة صديقتها وتحاول التقرب منه .
نهضت من فراشها واتجهت للحمام لتأخذ حمامًا دافىء ثم خرجت وارتدت ملابس منزلية جميلة ورقيقة وصفصفت شعرها جيدًا ثم تركته حرًا وغادرت غرفتها متجهة نحو المطبخ وقامت بتحضير عشاء قيم يكفي لفردين وبعد دقائق طويلة انتهت وقادت خطواتها المترددة نحو غرفته ، وقفت أمام الباب للحظات تفرك كفيها بتوتر تحاول استجماع شجاعتها للتحدث إليه ، أخذت شهقيًا وأخرجته زفيرًا متمهلًا ببطء لثلاث مرات حتى حسمت امرها وطرقت الباب منتظرة منه الرد ولكنه لا يجيب فعادت تطرق مجددًا ولا يأتيها صوته أيضًا ، فقبضت على مقبض الباب تديره ببطء وتفتح الباب بحذر شديد لتنظر بنصف وجهها من الباب فتجده راكعًا على سجادة الصلاة يقضى فرضه ، فابتلعت ريقها بارتباك وفتحت الباب جيدًا ثم أهلت منه ووقفت بجانبه تنتظر إنتهائه ، وبعد لحظات قليلة انتهي ونظر لها بريبة مغمغمًا :
_ في إيه ؟!
تلعثمت ولفت ذراعيها خلفه ظهرها لتعيد فرك كفيها بتوتر هامسة :
_ أنا حضرت العشا
هب واقفًا والتقط المصلاة من على الأرض ويجيبها ببرود وهو يطويها :
_ بالهنا والشفا
اقتربت نحوه في خطا متعثرة ووقفت خلفه تهدر برقة وأعين راجية :
_ تعالى اتعشى معايا أنا مش بحب اكل وحدي .. ممكن ؟!
القى بالمصلاة على الفراش ثم التفت بجسده كاملًا وهتف في حزم وامتعاض :
_ لا مش ممكن
ثم هم بأن يعبر من جانبها لينصرف فاعترت طريقه ووقفت أمامه مباشرة تطالعه بنظرات استعطاف وتهمس في توسل :
_ متكسفنيش .. ارجوك
ساد الصمت بينهم للثواني حتى وجدته يقول في خشونة دون أن يتخلي عن وجوم وجهه :
_ طيب روحي وهاجي وراكي
ارتفعت الابتسامة لشفتيها وأماءت فورًا في موافقة وانصرفت متجهة لطاولة الطعام المتوسطة ، تجلس على أحد مقاعدها بانتظار قدومه دون أن تمد يدها في أي صحن ، وإذا بها تجده يقترب ويسحب المقعد الذي في مقدمة الطاولة ويجلس ثم يبدأ في تناول الطعام وهي تنظر له بحزن تحاول جمع بعض الكلمات لتقولها ، وأخيرًا تحدثت بأسف وهي مجفلة نظرها أرضًا :
_ أنا .. غلطانة وأنا مش بلومك على أي حاجة قولتها وعملتها أو هتعملها وهتقولها ، لإنك عندك حق أنا مكنتش قد الثقة وخنتها أنا كنت بتكلم دايمًا وبقول إن مفيش علاقة بتكمل لو مفيهاش ثقة والعشق بنسبالي ثقة ، وأنا خنت نفسي قبل ما أخون ثقتك فيا .. أنا مش هطلب منك تسامحني لإني عارفة إنه صعب بل شبه مستحيل دلوقتي ، بس كل اللي هطلبه منك أنك تديني فرصة تانية أثبتلك إني ندمانة على اللي عملته وإني عايزاك إنت
ترك المعلقة من يده وهو يضحك بسخرية ويهتف في نظرة مشتعلة :
_ آااه اللي هو أنا بحب راجل غيرك بس عايزاك إنت !! ، أنا اديتك فرصة وإنت ضيعتيها وأهدرتيها من غير ما تدركي قيمتها وللأسف أنا مش بدي غير فرصة واحدة ومعنديش فرص تاني
قالت في صوت مبحوح وأعين دامعة :
_ مش عايزة أحبه أنا بكرهه ومبقتش بطيق اشوف وشه أصلا يعني اعتبرني خلاص مبقتش احبه ، أنا عاوزة أكمل حياتي معاك إنت يازين
أخذ نفسًا عميقًا وغمغم في قسوة :
_ إنتي لسا قايلة إن مفيش علاقة مفيهاش ثقة بتستمر ، وأنا مبقتش أثق فيكي ومش قادر اصدقك ، فمتحاوليش في حاجة أساسًا انتهت بنسبالي
سقطت دمعة متمردة من عيناها فاسرعت ومسحتها بأناملها ثم هبت واقفة وقالت بصوت يغلبه البكاء :
_ بالعكس دي لسا هتبدأ وأنا مش هيّأس ومش هرتاح غير لما اخليك تسامحني
ثم ابتعدت وقادت خطواتها السريعة نحو غرفتها ، فالتفت برأسه ناحية باب الغرفة الذي اغلقته خلفها وتنهد باختناق ثم عاد ينظر للطعام الذي أمامه بدون شهية وهب هو الآخر واقفًا ينقل الصحون للمطبخ ويضعها بالثلاجة ثم توجه بدوره لغرفته !! ….
***
كانت تسير في الشارع عائدة من الكلية في صباح شمسه دافئة تبعث الدفء والراحة في الجسد مع رياح الشتاء الباردة ، تضم كتاب ضخمًا إلى صدرها بذراعها اليسار وعلى الذراع الآخر حقيبة يدها المتوسطة ، وبينما هي في طريقها تسير مباشرة دون أن تتلفت حولها ، استمعت إلى من ينده عليها كأنها قطة ( بالبسبسة ) ! فالقت نظرة بطرف عيناها لتجدها سيارة ولكنها لم ترى وجه من يقودها فظنت أنه شاب منحل من الشباب الذين يغازلن الفتيات في الشوارع لتسرع في سيرها حتى تتفاده ولكنها توقفت حين سمعته يهتف باغتياظ :
_ بت يارفيف !!
قطبت حاجبيها واحست بأن الصوت مألوف عليها ، وفورًا التفتت تنظر له وأذا بها تصدر تأففًا قوي :
_ والله وقعت قلبي في رجليا ياخي حرام عليك
ابتسم ثم مد يده وفتح باب السيارة هاتفًا :
_ اركبي ياختي
استقلت بجواره واغلقت الباب لينطلق هو بالسيارة ويهتف مستنكرًا :
_ عرفتيني اول ما قولت يابت .. صحيح مبتجيش غير بالتهزيق !
امسكت بالكتاب الذي في يدها ورفعته في وجهه قائلة في تحذير باغتياظ :
_ علاء اتلم بدل ما تلاقي الكتاب ده نازل على دماغك واخليك تدخل في غيبوبة
كان عين على الطريق وعين على الكتاب الذي بيدها وهو يضحك مغمغمًا :
_ ده يفتح راسي مش يدخلني في غيبوبة ، اعوذ بالله بيتذاكر إزاي ده !!
اشاحت بوجهه للجهة الأخرى تخفي ابتسامتها ثم عادت له وقالت في استهزاء :
_ طبعًا هتعرف بيتذاكر ازاي ما تلاقيك مكنتش بتفتح كتاب في الكلية
_ طاب وليه الإحراج ده يابنت عمي بس !!
اطلقت ضحكة بسيطة لتجده يكمل في جدية بخفوت :
_عاملة إيه إنتي ؟
_ الحمدلله كويسة ، لقيت شغل وحاولت اقنع ماما وزين بس رافضين
هتف في صوت رجولي قوي :
_ شغل إيه دلوقتي بس يارفيف مش لما تخلصي كليتك الأول على الأقل
اعتدلت في جلستها وهتفت محاولة اقناعه :
_ أنا زهقت من قعدة البيت ياعلاء وخلاص أنا فاضلي ترم وأخلص وهاخد الشهادة وهشتغل بيها وماما كل اللي عليها تشتغلي ليه وفين وزين إنت عارفه دماغه قفل مفيش شغل .. طيب السبب ، من غير سبب طالما إنتي مش محتاجة للشغل يبقى ملوش لزمة ، ده حتى كرم بيقولي لا .. وحسن اللي بينصفني في كل حاجة يقولي الدنيا مش آمان وإنتي لسا صغيرة !! ، يعني هو عندي أنا لا وعند مراته تشتغل عادي
اطلق ضحكة قوية وأجابها ببساطة :
_ يسر بتشتغل ليها خمس في الشركة معانا وبعدين دي قدام عينا يعني مع ابوها ومعايا
_ وأنا كمان عايزة اشتغل في الشركة ، ولا عشان يسر محدش بيقدر عليها وبتفرض كلمتها عليكم مش بتقدروا ترفضوا ليها طلب
قالتها وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها باحتجاج ليجيبها ضاحكًا برزانة :
_ خلاص هكلم بابا وأقوله اخليه يقنع زين واخواتك وتشرفي معانا في الشركة
اشرق وجهها بابتسامة عريضة وأردفت بسعادة :
_ بجد ياعلاء هتقول لعمي !
رمقها بطرف عينه غامزًا بابتسامة وهو يهتف :
_ أممممم وهو احنا عندما كام رفيف في العيلة
رجعت بظهرها على المقعد وهي تقول بتحمس :
_ مع إني مش حابة الشركة بس يلا أهو امري لله هبدأ منها
القي نظرة عليها مبتسمًا ثم عاد بنظره للطريق يقود السيارة متجهًا إلى منزل عمه ، بينما هي فأخرجت هاتفها واخذت تعبث به تارة وتارة تتابع الطريق في صمت !! …….
***
جاثية أمام قبر والدتها تتلمس بيدها التراب المدفونة اسفله ودموعها لا تتوقف للحظة عن البكاء .. تذرف الدموع كأنها دماء من شدة ألمها وحزنها ، بقيت بلا أب ولا أم ولا أخ .. لم يعد هناك شيء يدعى أهل ، ستحرم من الدفء والحنان والعناية والسعادة وكل شيء ، ستكون حبيسة شجونها والآمها إلى الأبد ، وستظل تعاني ألم الفراق حتى تخرج روحها وتذهب لهم !! .
كان الحارس الخاص بها يقف على مسافة بعيدة قليلًا عنها ليترك لها حريتها في إفراغ ما يخنق نفسها ، فشعر بيد توضع على كتفه ليلتفت ويجده كرم ، فيبتسم في هدوء ويبادله هو الإبتسامة مربتًا على كتفه يسمح له بالذهاب ، فأماء له بالموافقة واستدار وسار مبتعدًا مغادرًا المكان بأكمله أما هو فحمل دلو الماء الصغير واقترب ناحيتها ثم وقف خلفها بمسافة قصيرة واسنده على الأرض ورفع كفيه لأعلى يبدأ في قراءة سورة الفاتحة بصوت منخفض ثم حمله مجددًا واتجه به نحو زرعة الصبار الصغيرة بجانب قبرها وقام بسقيها بالماء ، لتنتبه هي له وتنتفض واقفة لتنفض عن ملابسها السوداء الأتربة هاتفة باستعجاب :
_ عرفت إزاي إني هنا ؟!
وضع الدلو على الأرض بعد أن فرغ من الماء وغمغم في خفوت جميل :
_ مسعد اتصل بيا وقالي ، وحتى لو مكنش قالي أنا باجي كل يوم هنا بزور سيف وأروى
نسيَّت أن ذلك الحارس لا يتأخر في إخباره بأي مكان تذهب له ، ولكن لم تعد تهتم فليخبره كما يشاء وليؤدي مهتمه على أكمل وجه ، فبؤسها الآن أشد من أن تنشغل بأمره .
لاحت ابتسامة شبه خفية على شفتيها وعادت تحدق بقبر والدتها تدعو لها في صوت لا يسمع بأدعية خاصة بالمتوفي ودموعها تسقط من حفنيها في صمت ، ولتمر دقائق قصيرة وكل منهم يستخدم طريقة مختلفة في الدعاء ، وعندما وجدت نفسها ستنهار في البكاء أمامه ففضلت الرحيل وطلبت منه أن يذهبوا فلم يبدي أي اعتراض ورافقها حتى وصلوا لسيارته واستقلت بالمقعد المجاور له .
خرج همسها بعد دقيقيتن وهي مستندة برأسها على زجاج السيارة وعيناها معلقة على الطريقة :
_ قبل ما تتوفي بيومين كان بتكتبلي على الورقة دايمًا وتقولي أنا حاسة إني هروح لسيف قريب أوي وأنا كنت بضايق منها وبقولها وهتسبيني إنتي كمان زيه انا مليش غيركم وهفضل وحدي .. وأهي سابتني وبقيت لوحدي مليش حد حتى عمي ميعرفش إنها ماتت أساسًا ولو عرف مش هيسأل فيا ، مفضليش في الدنيا دي ناس غيرك
آخر كلمة نطقت بها جعلته ينظر لها باستغراب بسيط ، ولكنه لم يعرف بماذا يجيب عليها ، فأطال النظر إليها لثواني يحاول إيجاد الكلمات ولكنها لا تأتي وحين وجدها ستلتفت برأسها ناحيته فأشاح بنظره فورًا وثبته على الطريق ، لتبتسم هي بخفة رغم الكآبة المهيمنة عليها عندما فهمت أثر كلمتها الأخيرة على نفسه الخجولة وفهمت اضطرابه وعدم إيجاد الكلمات المناسبة .. نفسه الخجولة التي لا تزال حتى الآن تستعجب منها ولا يستوعب عقلها أن هناك رجل يخجل من النساء هكذا ، فقررت إصلاح ما تفوهت به وغمغمت في رزانة :
_ اقصد إني مبقليش حد غيرك إنت وطنط هدى ورفيف يعني مفاضليش غيركم
اتاها صوته أخيرًا وهو يبتسم بساحرية متمتمًا :
_ فاهم ياشفق ومتقلقيش هفضل دايمًا معاكي وجمبك لغاية ما اسلمك بإيدي لعريسك اللي يصونك عشان سعتها ابقى مطمن عليكي وأكون وفيت بوعدي لأخوكي ، واحنا بقينا اهلك خلاص وإنتي بقيتي واحدة مننا فمش عاوز اسمعك بتقولي تاني إنك لوحدك وملكيش حد
عادت تنظر للطريق وهي توميء له بتفهم وإيجاب لتجده يهتف بدفء بعد لحظات من الصمت بينهم :
_ أنا عازمك على الفطار النهردا ، أعتقد معندكيش مانع
هدرت في رفض رقيق وصوت ناعم :
_ مليش نفس والله ياكرم للأكل نهائي
هتف ببساطة متجاهلًا رفضها الهامشي بالنسبة له :
_ تمام يبقى موافقة .. على العموم احنا خلاص قربنا نوصل للمطعم أهو !
حدقت به لثلاث ثواني بالظبط ثم اشاحت بنظرها وهي تهز رأسها متنهدة بابتسامة مغلوبة على أمرها .. فلم يترك لها حق الاختيار واصبح حتى تناول الطعام بالإجبار ، مثل الحارس وغيره !! …..
***
نزع حذائه بجانب الباب ثم اتجه صوب غرفته وقام بتبديل ملابسه و القى نظرة على ساعة الحائط يتفقد الساعة ليجدها الثالثة عصرًا فيتنهد بإرهاق ويقترب من الفراش يلقي بجسده عليه سامحًا لعيناه بالانغلاق حتى ترتاح قليلًا من مشقة العمل منذ الصباح الباكر ، ولكن صوت ارتطام إحدى الأدوات المعدنية الخاصة بالمطبخ على الأرض والتي اصدرت صوت مفزع جعلته يثب جالسًا بزعر بعد أن كانت عيناه ستنصاع خلف رغبتها في الراحة وتشوقها للنوم .
مسح على وجهه متأفف ثم هب واقفًا وغادر متجهًا إلى المطبخ ثم وقف مستندًا على باب المطبخ بكتفه عاقدًا ذراعيه أمام صدره يتابعها وهي توليه ظهرها وومركزة كامل انتباهها على الطعام التي تقوم بتحضيره ، بينما هو فكان انتباهه على شيء آخر يتفحص ملابسها بتمعن ووقاحة حيث ترتدي ثوب منزلي قصير يصل لركبتيها ضيق بعض الشيء وتثبت شعرها لأعلى بمشبك الشعر وينسدل بعضًا منه على وجنتيها من الجانبين ، رغم نقمه وبغضه لها هذه الشيَّطانة إلا أنه لا يمكنه إنكار أن لديها جسد وانحناءات تذهب العقل بلحظة واحدة ! .. كان يتابع حركاتها العفوية بجمود ظاهري ، تارة ترفع مشط قدمها لتلتقط شيء في الاعلى وتارة تنحني لتلتقط شيء آخر في الجزء السفلي من المطبخ ، إلى أن وجدها التفتت بجسدها تلقائيًا ناحيته غير منتبة لوجوده وبمجرد ما وقع نظرها عليه انتفضت واقفة وسقط الصحن من يدها فتكسر وتناثر لجزئيات صغيرة متفرقة على الأرض ، فانحنت للأسفل فورًا وبدأت تلم في جزئياته وجرحت أصابعها عن غير قصد فامسكت بالصابع المجروح تضغط عليه حتى لا يذرف الدماء ثم رفعت نظرها لتجده كما هو ينظر بجمود وثبات مما استفزها بشدة فصاحت به مغتاظة :
_ واقف كدا ليه !!
لم ينطق ببنت شفة فقط القي عليها نظرة مريبة ثم استدار وانصرف غير مكترثًا لجرح أصابعها الذي هو سببه ، أما هي فانشغلت بتنظيف الأرضية من الزجاج ثم قامت بوضع ملصق طبي على صابعها المجروح ، وبعد دقائق بدأت في وضع الصحون على طاولة الطعام في الصالون وجلست على مقعدها تبدأ في الأكل دون انتظاره ، وبعد لحظات رأته ينضم لها ويجلس في مقابلتها على أحد المقاعد فلم تعيره اهتمام وركزت على طعامها فنظر هو لها مختنقًا مجرد جلوسها معه على نفس الطاولة لا يتحمله ، ولن يستطع تحملها سينهي هذا الزواج في أقرب فرصة ، باتت نفسه تضيق كلما يعود ويجدها بمنزله .. اخفض نظره للصحون الممتلئة بالطعام المتنوع ثم التقطت معلقة وبدأ بتناول أول لقمة من الصحن الذي أمامه فتصنع التقزز من مذاقه والقى بالمعلقة جانبًا هاتفًا في قسوة وغلظة :
_ لو مبتعرفيش تعملي أكل قولي بدل ما إنتي بتأكليني حاجة ملهاش طعم .. إيه القرف ده !!
ثم امسك بالصحن وسكبه في سلة القمامة الصغيرة بجانبه وهب واقفًا عائدًا لغرفته تاركًا إياها معلقة نظرها على سلة القمامة ثم التقطتت قطعة خيار والقتها بفمها وهي تهمس محاولة تمالك أعصابها :
_ خليكي relax يايسر اساسًا ده مستفز وميستهلش تعصبي نفسك عشانه .. قال قرف !!
***
تقلب في البوم صورهم ، كان يجمع الألبوم ما بين صور عقد القرآن وبين الخطوبة وأخيرًا الزفاف ، توقفت عند صورة ليوم زفافهم ودققت النظر بملامح وجهه كيف كان يبتسم بسعادة ودفء ، وهي بكل سهولة قضت على فرحته سرقت ابتسامته ، وشوهت أجمل شيء في العلاقات وهو الثقة .. فقدت ثقته بها وهذا يعني أن ليس هناك أمل في زواجهم ما لم تستعيد ثقته .
كانت لا تريد هذا الزواج وربما لم تكن تريده هو أيضًا ولكن الآن هي أكثر من يريده ، وشعورها بنمو مشاعر الود والاحترام والتقدير والحب له وتزايدهم عن الطبيعي في كل ساعة تعيشيها معه في المنزل حتى ولو كانوا لا يتحدثون وكل منهم منعزل عن الآخر إلا أن هذه المشاعر تسعدها وترضي ضميرها الذي يعذبها بأنها لا ينبغي عليها أن تستمر في هذه العلاقة وهي لا تحبه ، فتخبره بكل وضوح أنها بدأت تخطوا أولى خطواط العشق وهي الآن في أولى درجات السلم وبالتأكيد بعد وقت قصير ستصل للقمة وستكون انتصرت على نفسها المتمردة !! .
سمعته يتحدث في الهاتف بالخارج فنهضت من على الفراش ووقفت وراء الباب تحاول سماع حديثه وتسمعه يتحدث مع والدته عبر الهاتف ويسألها عن اسم دواء يسكن الآم الرأس التي تداهمه بسبب مشقة العمل ، فتستغرق هي لحظات بسيطة تفكر في شيء وتتردد في فعله ولكنها حسمت أمرها واتجهت ناحية خزانتها وأخرجت شريط اقراص مسكن للآم الرأس تستخدمه دومًا عندما يصيبها الصداع الشديد ، وانتظرت لدقائق قصيرة حتى ينهي حديثه مع والدته ثم خرجت وذهبت للمطبخ تملأ كوب ماء بارد وسارت باتجاهه في الخارج وجلست بجواره على الأريكة تمد يد تحمل كوب الماء واليد الأخرى بها شريط الاقراص متمتمة في لطف وابتسامة عذبة :
_ اشرب ده مفعوله حلو جدًا أنا باخد منه دايمًا لما أكون مصدعة
اطال النظر إليها في صمت ونظرات ثاقبة كالصقر ثم التقطه من يدها وأخرج قرص والقاه في فمه ثم شرب الماء كله عليه فهو لا يطيق ألم الرأس ويريد أي شيء لكي ينهيه ، أما هي فابتسمت له بدفء واقتربت منه تمد كفيها لرأسه حتى تقوم له بمساج بسيط لعله يخفف من ألم رأسه وهتفت في رقة تأخذ منه الأذن :
_ تسمحلي ؟
لم تجد أجابه منه بالرفض ، فقط كان يحدق بها كالمغيب فهو يعاني ألم الخيانة والعشق .. يحبها ولا يتمكن من مسامحتها وربما لن يتمكن فما فعلته خطأ لا يغفر بالنسبة له وبرأيه أنها حتى الفرصة الثانية التي تريدها لا تستحقها فمن أهدر الأولى بسبب إهماله وعدم وعيه لأهميتها بإمكانه إن يهدر الثانية أيضًا أن مُنحت له ولذلك هي لا تستحقها ابدًا ولن يسمح لها بأن تستحوذ عليه أكثر من ذلك ! .
لمسة يديها الناعمة على وجهه هيجت عواصفه ورغباته الذي يحاول كبحها عنها منذ أن عرف بالحقيقة ولوهلة ود بمعانقتها وتقبيلها ولكنه ذكّر نفسه بما فعلته حتى لا يدع قلبه يرق ويلين لها مطلقًا ، فازاح يديها عنها وقال منذرًا بجفاء :
_ آخر مرة هقولها ليكي ياملاذ ابعدي عني نهائي ، أنا مش عايز اتعصب عليكي يابنت الناس واخليكي تكرهيني
ثم هب واقفًا واتجه لغرفته فلوت فمها بيأس وحزن وهبت هي الأخرى متجهة خلفه وفتحت الباب دون أن تطرق ثم اغلقته خلفها واقتربت لتجلس بجواره على الفراش مغمغمة في خفوت بائس :
_ لما ماما قالتلي إنك متقدملي أنا مكنتش اعرفك ولا حتى شوفت صورتك فرفضت ومكنتش عايزاك واللي خلاني أوافق إني كنت عايزة انتقم من أحمد ولما شوفتك في الرؤية الشرعية حسيت بحاجة غريبة بس احساسي في إني مش عايزاك كان لسا موجود ولغاية يوم الخطوبة لما كنا بنتكلم وقولتلي إنك حابب نبدأ حياتنا صح ومن غير ذنوب عشان ربنا يباركلنا فيها أنا مقدرتش استحمل وقومت روحت الحمام لو فاكر وعيطت ودخلت صحبتي عليا وقولتلها إني مش هقدر أكمل ومش هقدر أكون ليك الزوجة اللي عايزها وقولتلها مش هقدر اخدعك واخونك ، قالتلي ادي لنفسك فرصة وطلعي احمد من قلبك يمكن تحبي خطيبك ، المهم أنا أهديت وقررت إني هكمل بس لو لقيت مفيش أي أمل إني أكمل معاك هفسخ الخطوبة فورًا وفي خلال شهر الخطوبة حسيت إنك بني آدم كويس أوي وإني لو اتعرفت عليك أكتر أكيد هحبك ، فكملت وكتبنا كتب الكتاب وفي اللحظة اللي قال فيها المأذون بارك الله لكم وبارك عليكم أنا خدت عهد على نفسي إني هعمل المستحيل وهشيل أحمد من قلبي وهكون ليك ، ولما اخدتني الشركة هناك ادركت إنك فرصة متتعوضش ولو ضيعتها ابقى غبية وإنك هدية ربنا بعتهالي عشان يعوضني وخلال الأيام اللي كانت قبل فرحنا كنت كل ما بكلمك أو بشوفك كنت بزداد تمسك بيك وبزداد اصرار في إني هعمل المستحيل وهحافظ على جوازنا وعلى الرابط اللي بينا لإنك انسان يتحب يازين ، ويوم الفرح أنا غلطت مكنش ينفع اطلعله بس كنت شايلة اوي في نفسي و كان نفسي جدًا اقوله الكلمتين اللي قولتهم وللأسف مش هعرف ابرر اللي قولته وقتها لإن أنا غلطانة جدًا كمان ومكنش المفروض أقول كدا .. آخر الكلام اللي عايزة أقوله ليك من بين كل الكلام ده أنا اتجوزتك بكامل ارادتي ومكنتش مغصوبة أو مضايقة ولو كنت مضايقة فده بسبب إني مكنتش قادرة اشيل احمد من عقلي ومش عارفة احبك واكون ليك بكل جوارحي وأكون الزوجة اللي بتتمناها ، وعمري ما كرهتك أو حسيت نفسي في مرة مش طيقاك بالعكس أنا دايمًا كنت بكن ليك الحب والاحترام والود وكنت برتاح جدًا معاك ومازالت وهفضل كدا
اتاها صوته الخافت وهو يقول بأسف :
_ كل اللي قولتيه مش مبرر لكدبك عليا ياملاذ وخداعك ليا ، للأسف أنا مش بعرف اسامح بسهولة ومش هقدر أكمل معاكي حتى لو إنتي عايزة تكملي ، قولتها ليكي امبارح وهقولها تاني أنا مبقتش بثق فيكي ومش هقدر أعيش مع واحدة وأقبل تكون أم لأولادي وأنا مش واثق فيها واحدة خدعتني وقبلت على نفسها تتجوزني وهي بتحب راجل غيري ، وعشان كدا اسلم حل لوضعنا ده الطلاق ، ومش عايزك تحبيني ولا تكرهيني ولا أنا عايز أحبك ، عاوزك بس تبعدي عني لغاية ما الشهر ده يخلص
غامت عيناها بالعبرات ، فيبدو أن طريقها سيكون صعبًا ومليئًا بالعوائق ولن تتمكن من نيل مسامحته بسهولة كما توقعت ، ولكن طالما مازالت زوجته لن تيأس وستستخدم جميع الطرق معه حتى تصل لمبتغاها . هبت واقفة واسرعت مغادرة الغرفة قبل أن تنهار بالبكاء أمامه تاركة إياه معلق نظره على آثارها بألم !! ……..
***
في تمام الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل ……
كانت شفق على فراشها مستغرقة في النوم وضوء الغرفة مغلق وكذلك الباب ، وفجأة وثبت جالسة بفزع من نومها عندما صك سمعها صوت ارتطام شيء قوي بالخارج ، فابتلعت ريقها برعب جلي ونهضت من الفراش ببطء شديد ثم تحركت نحو الباب بقدم مرتجفة وفتحته بحذر حريصة على عدم إصدار أي صوت ، ففتحت جزء صغير منه وأخرجت رأسها تتلفت يمينًا يسارًا لتطمئن من عدم وجود أحد ، فتجمدت الدماء في عروقها وشعرت بأن نفسها انقطع من الخوف حين رأت ذلك الوغد من ظهره الذي لا يكف من ملاحقتها وأذيتها ، وتلقائيًا دخلت فورًا غرفتها مجددًا وأخذت تتلفت حولها بزعر ويداها ترتجف من الارتعاد ، كيف دخل وهي تحكم إغلاق باب المنزل جيدًا !! ” يا الله ماذا أفعل أين اختبأ منه حتى انجو بنفسي ” ، استمرت في الالتفات حول نفسها وهي تمسك برأسها وتحاول تمالك نفسها من الانهيار .. ليس بغرفتها أي شيء تستطيع حتى حماية نفسها به ، وقع نظرها على الفراش فهرولت واختبأت اسفله وقد بدأت دموعها في الانهمار بشدة في صمت ، إن وجدها بالتأكيد سيأذيها وسيحاول الاعتداء عليها ، خرجت من تحت الفراش والتقطت هاتفها ثم عادت مجددًا تختبأ وجعلت تبحث عن رقمه في قائمة الأسماء بيد مرتعشة حتى وجدته ووضعت الهاتف على أذنها تنتظر رده وهي تهمس برجاء وبكاء :
_ رد ابوس إيدك ياكرم
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ضروب العشق)