رواية ضبط وإحضار الفصل السادس 6 بقلم منال سالم
رواية ضبط وإحضار الجزء السادس
رواية ضبط وإحضار البارت السادس
رواية ضبط وإحضار الحلقة السادسة
في لمح البصر تحولت من ضحية مجني عليها، إلى مُدانة ومتهمة بالمشاركة في إحداث الشغب بالمعسكر التدريبي، جمدتها الصدمة، وحين استوعبت ما يحدث وجدت “عمر” قد ابتعد عن محيط المكان، وأفراد الشرطة العسكرية قد أحاطت بالجميع من كل اتجاه، ليقوموا بعدها باقتياد أصحاب المشاجرة نحو المبنى الخاص بالضباط والقيادات العسكرية للتحقيق معهم. اعترضت “بهاء” على مسألة اعتقالها هي ورفيقتها بلا وجه حق، ورفضت التحرك أو التجاوب مع أي منهم، لتظل باقية في مكانها.
رفعت من نبرتها المستهجنة مدافعة بقوةٍ عن موقفها البريء:
-احنا معملناش حاجة علشان نتاخد كده في الرجلين.
رد عليها الضابط العسكري في نبرة هادئة لكنها رسمية:
-يا أستاذة من فضلك تعالي معانا، بلاش تصعبي الموضوع عليكي وعلينا.
تشبثت برأيها العنيد أكثر، وهتفت بتصميم:
-اللي بيحصل ده فيه تعنت وظلم، ومن حقنا ما نسكتش عنه.
تحير الضابط في شأنها، وحاول التعامل مع عنادها بالحكمة وضبط النفس لإقناعها بالعدول عن قرارها، فطلب منها بنفس الصوت الهادئ:
-تقدري تقولي كل الكلام ده في التحقيق يا أستاذة، ولو صاحبة حق أكيد هيرجعلك.
توسلت “بسنت” إلى رفيقتها لتتراجع عن رأيها هامسة:
-بلاش معاندة يا “بيبو”، الموضوع شكله جد مش هزار، وخلينا نقول اللي حصل، احنا كده كده مضطرين نروح معاهم.
تجهمت تعبيرات وجهها وهي تنظر تجاهها، لتقول بعدما رضخت أمام رجاواتها البارزة في عينيها المرتاعتين:
-ماشي، علشان خاطرك بس.
ابتسمت لها في امتنانٍ، لتتحرك الاثنتان بعدئذ في الطريق المؤدي إلى ذلك المبنى، و”بهاء” تحاول جاهدة التحامل على نفسها، وعدم إظهار تألمها من إصابة قدمها الموجعة، لهذا كانت تعرج قليلًا في خطواتها. التقطت عيناها وهي تسير تلك الكاميرات المعلقة في كل زاوية، فتيقنت أن دليل براءتها لابد أن يكون مسجلًا بالكامل.
………………………………………..
بضعة درجات رخامية صعدتها على مهلٍ حينما بلغت هذا المبنى وهي مستندة على ذراع رفيقتها، نظرة خاطفة طافت بها على هيئة المبنى الخارجية، كان مكونًا من عدة طوابق، ومطليًا باللون البيج الفاقع، مما أوحى لها أنه تم طلائه حديثًا، وعندما ولجت إلى بهو الاستقبال وجدته مرتبًا ومنظمًا للغاية، وفي كل ركن وُضع أصيص من الزرع، لإضفاء بعض الخضرة على المكان، أما في جهة اليمين وُجد مكتبًا رخاميًا للاستعلام، وفي مواجهته تناثرت عدة مقاعد معدنية مخصصة للانتظار.
لم تتبين “بهاء” باقي التفاصيل، حيث كان يعج بكل من تورط في المشاجرة، دون أن يجرؤ أحدهم على الجلوس، وكأنه تم حظر ذلك عليهم. انتبهت للضابط وهو يشير لها بيده نحو زاوية خاوية، بها مقعد معدني مستطيل، يسمح لثلاثة أفراد بالجلوس عليه. سارت نحوه، وجلست ملاصقة لرفيقتها التي هتفت من فورها بصوت عبر عن خوفها رغم خفوته:
-هو هيحصل فينا إيه؟
أجابتها بثقةٍ مفرطة، استمدتها من ثباتها الداخلي:
-ولا حاجة، احنا مش طرف في المشكلة دي من الأساس.
ومع ذلك استمرت صديقتها تنوح في ندمٍ:
-أنا حاسة إني عملت غلطة عمري لما اشتركت في الكورس ده، كان فين مخي وأنا بوافق عليه؟
سئمت من تبرمها المزعج، لذا نفخت في صبرٍ نافد، وأخبرتها بخفوتٍ:
-بلاش ندب، وإهدي.
لم تكف عن الشكوى، فزادت في تحسرٍ:
-ده احنا روحنا ورا الشمس، يعني الحتة اللي محدش بيعرف يرجع منها تاني.
نهرتها مجددًا في ضيقٍ:
-اسكتي يا “بسنت”، خليني أعرف أفكر.
بعدئذ خفضت “بهاء” من ذراعها لتتحسس موضع الألم في قصبة ساقها، كانت بحاجة لوضع أي مادة مسكنة عليها، وإلا لمنعها الوجع القاسي من التحرك بسهولة فيما بعد.
نفضة قوية نالت من جسد “بسنت” عندما جاء الضابط إليهما مرة ثانية ليقول:
-اتفضلوا، الرائد “عمر” طالبكم جوا.
نهضت “بهاء” أولًا، لتلحق بها “بسنت” وهي تهمس في توتر مشوب بالخوف:
-استرها معانا يا رب، ده احنا ولايا ومكسورين الجناح!
……………………………………….
مستخدمًا خاصية إعادة البث، راجع “عمر” ما سجلته كاميرات المراقبة قبل أن يقوم بالحديث إليهما، كذلك لم يكن بحاجةٍ للاستفسار منهما عما صار أثناء اندلاع المشاجرة، فقد أدلى الشباب باعترافاتهم، والتي خلت تمامًا من وجود أي صلة لهما بمشاحنتهم المتعصبة، وبالتالي استدعائهما إلى مكتبه كان بغرض الدردشة والنصيحة فقط. لم ينكر أنه شعر بالانزعاج حينما لاحظ في الفيديو أن “بهاء” تعرضت للإصابة في ساقها، فأراد الاطمئنان عليها؛ لكنها لم تمهله، كانت مندفعة كعادتها في كل مواجهة أو مشادة كلامية تحدث بينهما، حيث تكلمت في نبرة هجومية:
-إنتو ماسكينا ليه؟ احنا مالناش دعوة بحد.
نظر إليها مليًا ليردف قائلًا في صيغة آمرة:
-ولا كلمة لو سمحتي!
من تلقاء نفسها هتفت “بسنت”:
-والله ما عملنا حاجة، احنا كنا بنتفرج بس.
ظلت “بهاء” مُصرة على موقفها قائلة:
-من حقنا ندافع عن نفسنا طالما مش غلطانين.
انتصب في جلسته آمرًا إياها مجددًا، وبلهجته الصارمة:
-اسكتي شوية.
صمتت للحظة لتثبط من انفعالاتها، وتابعت بملامحٍ جادة للغاية:
-شوف يا سيادة الرائد، في كاميرات في المنطقة، أكيد مسجلة كل حاجة حصلت، راجعها، وحضرتك هتتأكد بنفسك إننا مش غلطانين.
رمقها بنظرة غامضة قبل أن يستطرد معقبًا:
-وليه من الأول تحطوا نفسكم في موضع شبهات؟!!
هنا تكلمت “بسنت” من نفسها مغمغمة في نقمٍ:
-نصيبنا وبختنا.
بينما علقت “بهاء” في شيءٍ من المنطقية:
-وارد ده يحصل في أي مكان، احنا مش مُطلعين على الغيب.
ادعى “عمر” انشغاله بالعبث ببعض الأوراق، ثم أرجع ظهره للخلف منهيًا ذلك الجدال:
-المرادي أنا مخلي التحقيق ودي، بس لو ده اتكرر، ماضمنش تكون النتيجة إيه!
حينها فقط شعرت “بسنت” بالراحة تغمرها، وشكرته بامتنانٍ كبير:
-كتر خيرك يا باشا، ده العشم برضوه.
على عكسها بدت “بهاء” مزعوجة من انحيازه الغريب ضدهما، وسددت له نظرة مليئة باللوم، ليتجاهلها هاتفًا بلا تعبيرٍ مقروء:
-تقدروا تتفضلوا.
في غير تصديقٍ، مالت “بسنت” على رفيقتها تسألها، وكأن النجدة قد أتتها من السماء:
-هنمشي؟
أجابت عليها باقتضابٍ عابس:
-أيوه.
بدا من العسير عليها استيعاب خروجهما من هذا المأزق العويص بهذه البساطة، ودون عقابٍ، فكررت “بسنت” سؤالها بصيغة أخرى:
-احنا براءة كده صح؟
وقتئذ جذبتها “بهاء” من ذراعها للخلف لتدفعها نحو باب الغرفة وهي تخاطبها بصوتٍ لم تجرؤ على جعله مرتفعًا؛ لكنه كان لا يزال حانقًا:
-قولتلك أه، بينا بسرعة قبل ما يغير رأيه، ده أصله بحالات!
…………………………………………….
تفاقم الألم في قصبة ساقها، فكانت تعرج بشكلٍ ملحوظ أثناء سيرها نحو الخيمات لتقوم بتبديل ثيابها الواقية بذلك الزي الرياضي الذي ارتدته في وقت سابق بعدما أعطى “عمر” أوامره بإنهاء التدريب لهذا اليوم. كانت بحاجة للاغتسال؛ لكن لا سبيل لذلك، لهذا اكتفت باستخدام المناديل المبللة لتنظيف وجهها، وكتفيها، ويديها. شاركتها “بسنت” نفس الخيمة بعدما انتهت رفيقتها من تغيير ملابسها، فرأت أثناء محاولة “بهاء” لارتداء جواربها كيف ظهر التورم بوضوح عليها، فانتابها القلق، واستطردت تحادثها في جديةٍ:
-ياني، دي شكلها صعب أوي، لازم تعالجي الخبطة دي بدل ما تقلب بمشكلة كبيرة.
تحسست بحذرٍ إصابتها، وردت وهي تثني طرف الجورب لئلا يمس موضع الألم:
-هعمل كده، نخرج بس من هنا الأول، وهروح لدكتور عظام يكشفلي عليها.
أخذت “بسنت” تشتكي في سخطٍ:
-من يوم ما دخلنا التدريب ده واحنا عملنا اشتراك مفتوح مع الدكاترة، اللي نعرفها واللي ما نعرفهاش.
أومأت برأسها مرددة وهي شبه تمزح:
-على رأيك، يا خوفي على نهايته نتشال على المحفة.
مشطت في عجالةٍ شعرها المتناثر، وقالت وهي تفتش عن باقي أغراضها الملقاة هنا وهناك لتجمعها:
-يعملوها فعلًا، هو في حاجة مضمونة معاهم، ده احنا كنا هنروح في داهية من ولا شيء.
ألقت “بهاء” بحقيبتها على كتفها بعدما أغلقتها:
-بس المفروض كان يعتذر لأنه ظلمنا وجه علينا.
نظرت إليها “بسنت” بجديةٍ قبل أن تهتف:
-كويس إنه سابنا نمشي أصلًا، الحاجات دي مافيهاش هزار!
باعدت نظرتها المزعوجة عنها، وهمهمت مع نفسها بلا صوتٍ:
-الحمد لله إني مردتش عليه في رسالته، كان زمانه ممروع عليا، يستاهل إني مسألش فيه!!
………………………………………….
لاحقًا، اجتمع كافة المشاركين في التدريب في المنطقة المخصصة لانتظار الحافلات ليتمكنوا من العودة إلى الأكاديمية. استندت “بهاء” على ذراع رفيقتها لتتمكن من الصعود، حيث تم ترك المقاعد الأولى للشابات للجلوس عليها، بالطبع لم تسلم من الأسئلة الفضولية والمتطفلة لمعرفة تفاصيل ما جرى في التحقيق عقب الإمساك بكل من تورط في المشاجرة. اقتضبت “بهاء” في الرد عليهن، ومالت على رفيقتها تهمس لها بتذمرٍ منزعج:
-مش هنخلص النهاردة.
ردت عليها “بسنت” بنفس الصوت الخافت:
-أحسن حاجة إنك تطنشيهم.
أراحت “بهاء” ظهرها للخلف، وأغمضت عينيها لتستدعي ذلك الشعور المفقود بالراحة والاسترخاء، وراحت تتنهد قائلة في رجاءٍ:
-نفسي في دش سخن أوي.
بينما أخبرتها “بسنت” بتعبٍ:
-أنا عايزة اللي يعملي مساج ويكبس كل حتة فيا!
سرعان ما فتحت “بهاء” عينيها في صدمة عندما تسلل إلى أذنها صوته الرخيم وهو يقول باحترام غريب عليها:
-اتفضلوا.
أمعنت النظر فيما يحمله في يديه، قبل أن ترفع عينيها مرة ثانية لتنظر إليه بدهشةٍ، فلوح بزجاجتي المياه وعلبة من الدواء ناحيتها قائلًا:
-دول عشانكم.
في جراءة غير معتادة منها اختطفت “بسنت” الزجاجتين، وتبسمت مرددة في امتنان:
-شكرًا يا فندم، تعبت نفسك.
ظلت “بهاء” على حالتها المندهشة، تطالعه بفمٍ مفتوح، ونظرات متسعة، ليخبرها مجددًا وهو يلوح بالدواء أمام وجهها:
-المرهم ده هينفعك.
لم تحاول الحصول عليه، فقامت “بسنت” بأخذه من يده، وهي ترد بابتسامة عريضة:
-مش عارفين نقولك إيه، كلك ذوق.
اكتفى بهز رأسه، ليغادر الحافلة بعدئذ دون قول المزيد، و”بهاء” لا تزال على حالتها المتعجبة، وانعكس ذلك بوضوحٍ حينما تساءلت:
-من إمتى اللطافة دي معانا؟
بلا تفكيرٍ أجابت “بسنت” وهي تحملق في وجه رفيقتها:
-أكيد حس بغلطه.
لم تبدُ “بهاء” مقتنعة بحسن نواياه، وراحت تردد بقلقٍ:
-مش مرتاحة.
استدارت بعدئذ بعنقها للخلف عندما تكلمت إحداهن من خلفها في شيءٍ من المكر:
-يا بختكم، المُز الجامد بنفسه جاي علشانك.
لحظتها ردت عليها “بسنت” بغيظٍ وعلى ملامحها تكشيرة كبيرة:
-أهوو الأر ده اللي مخلينا نتسوى على الجانبين.
أضافت الشابة قائلة بتنهيدة والهة:
-ده الكل هيموت عليه، إنتي عارفة إني في بنات مخصوص مشتركة في التدريب ده علشانه.
بشفاه مقلوبة أخبرتها “بهاء”، وهي تشيح بنظرتها المنزعجة بعيدًا عنها:
-أهوو موجود عندكم، مالناش دعوة بيه.
كادت ترد عليها “بسنت” أيضًا؛ لكن أمسكت بها “بهاء” من يدها وجذبتها قليلًا وهي تهمس لها بجديةٍ:
-ما تجادليش معاهم، مش هنخلص النهاردة.
هزت رأسها قائلة باقتضابٍ:
-معاكي حق.
ثم مالت مجددًا على رفيقتها تهمس لها بمرحٍ، وهذه النظرة العابثة تطل من مقلتيها:
-بس ما تنكريش إنه جدع.
ربما كانت محقة في رأيها الصادق عنه؛ إلا أنها بين جنبات نفسها لم ترغب في الاعتراف بذلك. زفرت بعمقٍ، ثم رفعت بنطالها قليلًا لتتمكن من وضع المرهم المسكن على موضع الإصابة في قصبة ساقها.
…………………………………
بعد وقتٍ ليس بقليل، وصلت الحافلات إلى الأكاديمية، وبدأ الجميع في الترجل منها بالتتابع، لتسير كلًا من “بهاء” و”بسنت” نحو منطقة الجراج لاستقلال السيارة وهما تثرثران بلا توقف، خاصة بعدما خف الألم بنسبة كبيرة من ساقها، وكأن بالدواء مادة سحرية جعلت الوجع يختفي. سرعان ما أصبح وجه الأولى مشدودًا فجــأة حينما ظهر “عمر” نصب عينيها، لم تحاول النظر تجاهه، وحدقت نحو الجانب، مدعية أنها لا تراه؛ لكنها سمعته يتساءل باهتمامٍ:
-معاكو عربية توصلكم؟
بقيت حدقتاه عليها رغم تجاهلها الواضح، في حين بادرت “بسنت” بالرد عليه وهي تبتسم له في رقةٍ:
-أيوه، احنا مظبطين حالنا.
أومأ برأسه مضيفًا في هدوء:
-تمام، ماتنسيش تستخدمي الدوا يا أستاذة “بهاء” بانتظام.
اضطرت أن تنظر إليه، ومع ذلك أوجزت في الرد:
-أوكي.
تظاهرت أنها غير مهتمة به، إلا أن “بسنت” كانت تتصرف على النقيض، حيث هتفت في امتنانٍ:
-شكرًا على تعبك يا فندم.
استطرد فيما يشبه النصيحة لكلتيهما:
-ويا ريت مرة تانية تاخدوا بالكم، يعني علشان ما تتحطوش في حوار مالكوش فيه.
في التو ردت عليه “بسنت” وابتسامتها تزداد اتساعًا:
-أكيد.
استأذن بالانصراف قائلًا بتهذيب:
-عن إذنكم.
ما إن غادر حتى همهمت “بسنت” تمتدحه في إعجابٍ:
-والله ذوق خالص.
زوت “بهاء” ما بين حاجبيها قائلة باستغرابٍ:
-شكلك هتبقي من معجبينه!!
جاء ردها مبررًا بمنطقيةٍ:
-طبيعي أعجب بيه لما يكون حد بالأخلاق دي.
واصلت الاثنتان التقدم في طريقهما لتتبدل تعابير الاسترخاء المرسومة على وجه “بسنت” إلى الضيق تمامًا قبل أن تغمغم بعبوسٍ:
-يا ختاي، الرخم جاي.
بشكلٍ عفوي تطلعت “بهاء” أمامها، فرأت “أنس” يمشي نحوهما وهو يبتسم لهما باستفزازٍ، بالطبع لم يكن الوقت كافيًا للانحراف عن مسارهما، والبحث عن بديل سريع لتجنب الالتقاء به، استوقفهما “أنس” مردفًا بلزاجةٍ:
-باين عليكم النشاط!
صمتت كلتاهما ولم تنطقا بشيءٍ، فاستمر يسألهما باستظرافٍ:
-عجبكم التدريب؟ ولا شكلكم مش أده؟!
كسا الامتعاض والتأفف وجهيهما، فأكمل على نفس النهج السمج:
-عمومًا لسه في حاجات كتير مستنياكم، بس مش متأكد إن كانت تنفع معاكو ولا لأ!
بفظاظةٍ واضحة تعمدت “بهاء” تجاهله، وسألت رفيقتها في تجهمٍ كبير، كأنما تبدي نفورها من حضوره غير المرغوب فيه:
-إنتي راكنة فين يا بنتي؟
أشارت “بسنت” بيدها قائلة:
-قدام!
دفعتها برفقٍ نحو الجانب لتبتعد عن محيطه وهي تخبرها بصوتٍ مرتفع تأكدت من كونه مسموعًا له:
-طب يالا بينا بدل ما الجو بقى خنيق.
جملتها المسيئة إليه بشكلٍ مستتر جعلت الدماء تثور بداخله، تابعها “أنس” بنظرته الحادة وهي تتجاوزه ليقول من زاوية فمه بازدراءٍ:
-بتتنطط على إيه دي! هي لسه شافت مني حاجة!
………………………………………
كان المساء لطيفًا، ومليئًا بأجواءٍ أسرية دافئة، حيث جلست “بهاء” مع عمها وزوجته على مائدة تحوي كل ما لذ وطاب، فقد كانت بحاجة للاعتناء بصحتها العامة، اتباعًا لتوصيات الطبيب حينما طمأنها على عدم خطورة إصابة ساقها بعدما ذهبت للكشف عليها. لم يكن “سليمان” راضيًا عما وصفه برعونتها، وعاتبها باستياءٍ:
-وعليكي بالغلب ده كله إيه؟ ما تسيبك منه!
ابتسمت قائلة في صوتٍ هادئ لتقنعه بعدم تضخيم الأمور:
-يا عمي وارد ده يحصل في أي مكان، وبعدين الدكتور طمني، مافيش حاجة خطيرة الحمد لله…
ثم التفتت ناظرة إلى زوجته لتخاطبها:
-ولا إيه يا طنط؟ مش حضرتك سمعتي بنفسك الدكتور قال إيه؟
تدخلت في الحديث هاتفة وهي تضع المزيد من الطعام في صحن “بهاء”:
-أه يا “سليمان”، هي كويسة والله، خليها تشوف مستقبلها وتتعلم اللي ينفعها.
على مضضٍ همهم، وهذا التجهم يسود قسماته:
-طب كُلي يا “بهاء”، قبل ما الأكل يبرد.
اتسعت ابتسامتها أكثر، وراحت تعلق في مزاحٍ:
-حاضر، أنا باكل أهوو، حتى بص يا عمو، ده أنا طلع لكرشي كرش.
ضحك على هيئتها الساخرة، وواصل تناول طعامه، لتنهض “فادية” بعد ذلك من مقعدها حتى تتمكن من إحضار علبة الهدايا التي اشترتها اليوم. استطردت بحماسٍ مُطعم بالغموض:
-أما أنا عملالك يا “بيبو” مفاجأة حكاية.
غامت تعبيراتها قليلًا، وهتفت في رجاءٍ:
-يا رب ما يكونش عريس.
زمت “فادية” شفتيها مرددة بعدما ندت منها تنهيدة صغيرة:
-يا ريت والله، بس إنتي توافقي.
وضعت بعدها العلبة البيضاء الصغيرة أمامها وقالت باسمة:
-اتفضلي.
أخذتها “بهاء” منها، وهذه النظرة الفرحة تحتل حدقتيها، فمن وقت لآخر تسعى زوجة عمها لإسعادها بإحضار الهدايا المختلفة لها لتدخل عليها المزيد من السرور، في التو فتحت الغطاء لتنظر إلى ما أحضرت، وهتفت في حماسٍ عظيم:
-الله، ساعة سمارت!
قفزت من مقعدها، واتجهت إليها لتحتضنها وهي تشكرها:
-حبيبتي يا أحلى طنط.
ضمتها إليها، وقبلتها من وجنتيها لترد في غبطةٍ:
-يا رب دايمًا أشوفك كده مبسوطة.
بينما تساءل “سليمان” مندهشًا:
-وعرفتي الساعة السمارت دي إزاي يا “فادية”؟
أجابته في الحال:
-جبتها من الأونلاين.
تعقد جبينه مُبديًا استنكاره:
-من النت؟ هو في حاجة فيه مضمونة! ده النصب كله بيحصل فيه.
تحدثت إليه لتقنعه بجودة المنتج:
-دي جارتنا شغالة في الحاجات الأونلاين، ووصيتها عليه، وهي الله يباركلها متأخرتش عني، وجيبالي حاجة ماركة ومعروفة.
من تلقاء نفسها تكلمت “بهاء” معبرة عن سعادتها:
-يا طنط أنا أي حاجة منكم بتفرحني والله، حتى لو كانت إيه! ربنا يخليكم ليا.
مرة ثانية احتضنتها زوجة عمها، وربتت على كتفيها هاتفة بشيءٍ من التضرع:
-عقبال يا رب ما أتعبلك في جوازك.
……………………………………
كان بحاجة ماسة للاغتســال بعدما انتهى من ممارسة تمرينه الخاص بفنون القتــال، استطاع أن يحافظ على لياقته البدنية، وكذلك دقة ضرباته، وركلاته، وحتى في طريقة تفاديه لمحاولات الطرف الآخر للنيل منه. جلس “عمر” على المقعد الخشبي المستطيل في غرفة تبديل الثياب، ينظر بشرودٍ إلى خزانته المفتوحة، فقد لاح في عقله طيف “بهاء” وهي تتعرض للإصابة غير المقصودة أثناء اندلاع المشاجرة الصباحية. استاء من نفسه لأنه تركها تمضي دون أن يطمئن فعليًا عليها، ماذا لو كانت إصابتها خطيرة؟ أمسك بهاتفه المحمول، ونظر إلى الرسائل الإلكترونية، تردد في الإرســال إليها، وخاطب نفسه بلا صوتٍ:
-ما جايز ما تردش المرادي كمان.
عبس بقسماته متابعًا حديث نفسه:
-شكلي هيبقى بايخ أوي.
تحول ضيقه إلى المزيد من التقريع وتأنيب الضمير، وتفاصيل إعادة المشهد تتجسد في خياله، فراح يهمهم دون أن ينبس بكلمة:
-المفروض كنت أخد بالي أكتر من كده من أي ثغرات تحصل في أي معسكر، وإلا هعرض ناس معندهاش خبرة للخطر.
انتشله من أفكاره العميقة صوت “أنس” المزعج:
-يا “عمر” باشا، بنادي عليك، وإنت مش هنا خالص.
أدار وجهه ناحيته ليتطلع إليه متسائلًا:
-عاوز إيه يا “أنس”؟
أخبره في تحمسٍ:
-مش ناوي تيجي معايا، أنا مظبط سهراية تمام التمام.
باعد عينيه عنه متمتمًا:
-ماليش في الجو إياه بتاعك.
تحرك “أنس” ليصبح في مواجهته، وألح عليه بتصميمٍ:
-دي حاجات لزوم الفرفشة، والترويح عن النفس.
ابتسم “عمر” في سخافةٍ قبل أن يسأله:
-والمرادي بنت جديدة، ولا لسه شابك مع اللي إنت معاها؟
رفع ذراعه للأعلى ليحك مؤخرة عنقه، واستطرد في استرســالٍ:
-الصراحة هي عرفتني على واحدة أنأح منها، بس أنا علشان بحبك وبفكر فيك، قولت أسيبهالك تشوفها الأول، لو عجبت، فأنا Out .. لو لأ، فهجرب حظي معاها.
بما يشبه النصيحة خاطبه بعدما أخرج ثيابه النظيفة من الخزانة:
-أنا رأيي تركز في شغلك أحسن، لأن كتر الحاجات دي تجيب الكافية!
ثم همَّ بالتحرك؛ لكنه استوقفه معترضًا طريقه متسائلًا:
-يعني قولت إيه برضوه؟
أزاحه عن طريقه قائلًا بثبات:
-أنا Out من كل الهجس بتاعك ده!
……………………………………….
عادت في ساعة شبه متأخرة إلى بيتها، ومعدتها منتفخة بشكلٍ واضح، ولما لا تشعر بالشبع والامتلاء وقد أفرطت في تناول أطباق زوجة عمها الشهية؟ تحسست “بهاء” بطنها برفقٍ وهي تسير بخطواتٍ كسلى نحو غرفة نومها، لتستلقي على الفراش. تثاءبت بصوتٍ مسموع، ثم فردت ذراعيها بطول السرير، وحين أدارت رأسها للجانب لمحت علبة الدواء الموضوعة على الكومود، رفعت من جسدها قليلًا لتمسك بها، وضعتها نصب عينيها وهي تتذكر ما قاله الطبيب عن ذلك الدواء بأنه فعالٌ وقوي التأثير، لذا ابتسمت بعفويةٍ لاهتمامه بشأنها؛ لكن ما لبث أن تلاشت بسمتها الصغيرة لتعطي تعبيرًا جادًا على وجهها قبل أن تفوه:
-هو متعود على كده، أكيد مايقصدش يهتم بيا على وجه التحديد يعني.
تركت العلبة جانبًا، وأراحت ظهرها على الوسادة، لتقول في إرهاقٍ وثقل:
-صحيح مش لازم الواحد ينام على معدة فاضية، بس الأكل كبس على نفسي، مكانش لازم أتقل فيه بالشكل ده.
سحبت الغطاء على جسدها، ورددت بصوتٍ مال للنعاس:
-ربنا يستر وما يطلعليش كوابيس.
أغمضت جفنيها، وراحت تتأوه في صوتٍ خفيض، وذلك الصوت يهتف في عقلها:
-أنا محتاجة مسكن لكل حتة في جسمي.
………………………………..
لم تستغرق وقتًا طويلًا لتغط في نومٍ عميق، فكل عظمة من جسدها كانت تفتش عن الراحة، وتتوق إلى الاسترخاء، ورغم هذا لم تفارقها الأحلام المزعجة، فأرقت مضطجعها، وعاشت أجواء ذلك الكابوس المزعج، فقد رأت نفسها متجسدة على هيئة أنبوب لمعجون الأسنان، تم استنزاف ما فيه، فأصبح فارغًا، لا يحتوي على شيء لإخراجه. حاولت التحرك، فلم تستطع، كانت تزحف على يديها، وحين رفعت وجهها للأعلى وجدت “عمر” ينظر لها بتجهمٍ، قبل أن يأمرها:
-بقولك هاتي معجون!
اعتصرت نفسها عصرًا لتلبي أمره؛ لكن لم يخرج من الفوهة التي تعتلي أعلى رأسها أدنى شيء، فصرخت باكية:
-معدتش فيا، أنا عصرت الأنبوبة ومطلعتش حاجة.
صاح بها بلهجته الآمرة:
-ماليش دعوة، اتصرفي.
ارتفع صوت بكائها وهي تسأله:
-أضغط على نفسي أكتر من كده إزاي؟
نظر إليها بغير إشفاقٍ، فأكملت شاكية قسوته معها:
-أنا فضيت، هات واحدة تانية جديدة.
جاء رده بنفس النبرة غير المتعاطفة معها:
-أنا ما بهزرش هنا.
ظلت تبكي وهي ترد:
-ولا أنا.
بذلت “بهاء” مجهودًا مضنيًا حتى تتمكن من استخراج المعجون منها، نجحت في الحصول على مقدارٍ ضئيلٍ للغاية من مادة لزجة، مدت يدها ناحيته بها لتناوله إياها وهي تسأله:
-تنفع اللحسة دي؟
اشتعلت نظراته في استنكارٍ، فأكملت وهي تكفكف دمعها بيدها الأخرى:
-مشي نفسك بيها بقى، وماتضغطش عليا أكتر من كده، أنا تعبت.
ثم أجهشت بالبكاء الصاخب لتستحثه على أن يترأف بها؛ لكنه ظل قاسيًا معها، يعاملها بخشونة، وبلا رحمة، لذا استمرت في صراخها المرتفع تشكوه للجميع، لتنهض بعدئذ وهي تشعر بألمٍ في حلقها، تلقائيًا تفقدت جسدها لتتأكد أنها على حالتها الطبيعية، ولم يكن الأمر سوى هلوسات نومها العجيبة.
ابتلعت “بهاء” ريقها، وتساءلت وهي تفرك فروة رأسها:
-إيه الحلم الغريب ده؟ هشوف إيه تاني بعد كده؟!!
عاودت الاستلقاء على الوسادة وعيناها على اتساعهما، ظلت تحدق في السقف لوقتٍ طويل محاولة عدم التفكير في “عمر” الذي أصبح ملازمًا لها في أحلامها وإن كانت غير منطقية بالمرة. نظرت إلى ساعة هاتفها المحمول، ما زال الوقت مبكرًا للاستيقاظ، راحت تعد الغنم، واحدة تلو الأخرى حتى تداخلت الأرقام، وبدأ جفناها يتثاقلان، إلى أن عادت للنوم من جديد.
………………………………………
مضى النهار بطيئًا، خاصة مع تتابع المحاضرات وتراكم المعلومات المكثفة، حتى بات من العسير تذكر جميعها دون الرجوع إلى ملحوظات صريحة ومباشرة عن نقطة بعينها. للغرابة لم يحضر “عمر” وكذلك صديقه السمج “أنس”، بالرغم من التزام الأول وحرصه على التواجد دائمًا، والمثير أيضًا للاستفهام هو تغيب معظم الدارسين عن الحضور، وكأن هناك عطلة ما غير معلنة للجميع. انتاب الفضول “بهاء”، وعجزت عن إيقاف عقلها عن التفكير في شأنه، لهذا بدت فاقدة للرغبة في الكلام أو الثرثرة عن أي شيء. بالكاد تنفست الصعداء عندما جاء وقت الاستراحة، فهرعت خارج قاعة الدراسة لتلحق بها “بسنت” وهي تتحدث عن مدى تعقيد الدراسة، قاطعتها في منتصف كلامها لتقول:
-بقولك إيه أنا جعانة خلينا نروح ناكل.
تساءلت “بسنت” في نبرة متحيرة:
-هنحلق نطلب أكل ويجيلنا بسرعة؟
حدقت “بهاء” في ساعة يدها قائلة:
-ماظنش!
التفتت حولها تنظر بعشوائيةٍ، وعقلها يفكر فيما يمكن أن تفعله، فاستقرت عيناها على لافتة الكافيتريا، ليومض عقلها فجأة بوميض فكرة ما، فنطقت بها في التو:
-بصي، تعالي نشوف أي حاجة ناكلها في المطعم ده.
لم تمانعها “بسنت”، وقالت وهي تهم بالسير:
-أوكي.
لاحقًا، تبين لها أنه أمر مفيد عندما اشترت الطعام مع رفيقتها من الكافيتريا الملحقة بالأكاديمية، ورغم أن الوجبات المقدمة في قائمة الطعام محدودة إلا أنها كانت مُشبعة، تكفي لفردين. جلست “بسنت” في مواجهة رفيقتها على طاولة مُتــطرفة؛ لكنها تعطي رؤية ممتازة للمكان بأكمله، استطردت تكلمها بعدما ابتلعت ما في جوفها من طعام:
-أول مرة ما يكونش “عمر” موجود في محاضرات الصبح.
التطرق إلى سيرته كان محرجًا لها بشكلٍ ما، حتى أنها شعرت بخفقة صغيرة تداعب قلبها، وتشعرها بالارتباك والتخبط، لهذا تجنبت “بهاء” النظر في عيني صديقتها وهي ترد:
-جايز وراه حاجة تانية أهم…
ثم عمدت إلى تغيير الحديث عنه بإضافتها:
-تعرفي، الأكل هنا مش بطال.
ردت عليها “بسنت” قبل أن ترتشف مشروبها البارد:
-معاكي حق، طعمه كويس.
هزت رأسها توافقها الرأي، لتضيف أيضًا بحسمٍ:
-بعد كده نبقى نجيب من هنا بدل ما نطلب أوردر.
أبدت تأييدها قائلة:
-أيوه، والسعر كمان معقول.
انهمكت كلتاهما في تناول الطعام، و”بسنت” بين الحين والآخر تختلس النظرات حولها، حيث جلس بعض الضباط مختلفي الرتب العسكرية بشكلٍ متناثر في أرجاء الكافيتريا، عادت لتحملق في وجه رفيقتها هامسة في عبثية مرحة:
-والله المفروض الواحد يطلع بمصلحة من هنا، شايفة القمرات اللي حوالينا؟
انزعجت “بهاء” من تلميحها المفهوم، ونهرتها في تشددٍ:
-عيب كده، احنا جايين نتعلم، مش نصطاد عريس!!
استمرت على وتيرتها اللاهية هاتفة بصوتٍ ما زال منخفضًا:
-وده يمنع برضوه؟ نكمل نص دينّا واحنا ماشيين في طريق العلم.
اشتدت قبضتها على شوكة الطعام التي بيدها، كما احتدت نظرتها المنزعجة تجاهها، وحذرتها بغير تساهلٍ:
-هتخليني أندم إني جيت هنا.
أطرقت رأسها قليلًا، وقالت في نبرة متبرمةٍ:
-خلاص هاكل وأنا ساكتة.
…………………………………………………
أوشكت كلتاهما على الانتهاء من تناول الطعام والتحرك في هدوءٍ للعودة إلى قاعة الدراسة قبل أن تبدأ المحاضرة التالية، لولا أن اقتحمت مجموعة ملثمة –ومدججة بالسلاح- محيط الكافيتريا، ليتقدم أحدهم ويطيح بقدمه أقرب مقعد يعيق طريقه، فأديرت كافة الأعناق تجاه هؤلاء الأغراب، لحظتها عمت الفوضى الأرجاء، وسادت حالة من الهرج والمرج، كما تعالت الصيحات المرتاعة هنا وهناك.
آنئذ تساءلت “بهاء” في جزعٍ وهي تنحني بجسدها للأسفل لتنأى بنفسها عن موضع التهديد:
-هو في إيه؟
انفلتت من “بسنت” صرخة فزعة قبل أن ترد:
-مش عارفة.
صدح صوت أحدهم مجلجلًا بقوةٍ:
-محدش يتحرك من مكانه
في البداية لم تجرؤ أيًا منهما على التعليق بشيء؛ لكن قامت “بهاء” بالاختباء أسفل المنضدة، وجرت معها “بسنت” لتحميها من الخطر، والأخيرة تتساءل في ذهول ممزوج بالرعب:
-هي الحــــــرب قامت هنا؟
ردت عليها وهي لا تزال تجذبها من رسغها، لتجبرها على الانحناء:
-استخبي أوام.
تكرر ذلك الصوت الأجش آمرًا الجميع:
-أي حد هيتحرك فــــــجــــر راســه!
ثم أطلق العديد من الأعيرة النارية لترتفع الصرخات الفزعة، هسهست “بسنت” في ذعرٍ متزايد:
-يا ختـــاي، إيه اللي بيحصل بالظبط؟ أنا مش فاهمة حاجة.
فتشت “بهاء” بعينيها عن أقرب نقطة للهروب، فكان الباب القريب من طاولتهما، حيث لم يتواجد بعد أي فرد ناحيتها، وقتئذ فكرت في استغلال الفرصة المتاحة، والاندفاع تجاهها، لم تضيع الوقت في التردد، لذا مدفوعة بعنفوانها شدت صديقتها من معصمها هاتفة في صوتٍ مضطرب:
-مش وقت أسئلة، بينا نهرب أوام.
لم تفكر مرتين، وتبعتها في الحال، ليلمحها قائد تلك المجموعة الملثمة، فأطلق عيارًا ناريًا في الهواء، قبل أن يوجه سلاحه تجاههما هادرًا:
-أمسكولي دول بالذات!
انتفضت “بسنت” مصعوقة، قبل أن تردد في استنكارٍ رغم خوفها:
-هو في إيه؟ هو الكل مستقصدنا ليه؟!!
استمرت “بهاء” في جرها خلفها، وعلقت ساخرة:
-شكلنا خطر على الأمن القومي.
أتى تعقيبها متهكمًا:
-مكانش ده تدريب نحضره، احنا رمز للنحس!
تمكنت الاثنتان من الخروج من الكافيتريا بأعجوبةٍ، وركضتا بأقصى سرعة في الردهة بعيدًا عن ذلك المكان الخطر، لتشعر “بهاء” بثقل خطوات رفيقتها، فاستحثتها على المثابرة وعدم الاستسلام:
-اجري يا “بسنت”.
اشتكت إليها الأخيرة بصوت لاهث:
-مش قادرة، رُكبي مش مساعداني! هو أنا بقيت مُسنة ولا إيه؟!!
فجــأة، وكأنه ظهر من العدم، اعترض أحدهم طريقهما، لتنفلت الصرخات المفزوعة منهما، حاولت “بهاء” ركله بقدمها؛ لكنه نجح في تفاديها بحرفيةٍ شديدة، فحذرتها “بسنت” من الاقتراب منه هاتفة بأعلى نبرتها:
-حاسبي يا “بيبو”!
انحشرت “بهاء” في الزاوية، ولم تستطع الفكاك من ذلك الملثم، فاندفعت “بسنت” لإنقاذها بلا تفكيرٍ، ليدفعها بذراعه بعيدًا عنه، ويسقطها أرضًا، كررت “بهاء” هجومها عليه؛ لكنه انقض على عنقها، ودفعها منه للخلف ليلصق ظهرها بالجدار، تطلعت إليه في رعبٍ، فبادلها نظرة مخيفة، ورغم ذلك بدت مألوفة لها إلى حدٍ كبير، لحظة التشتت التي كانت عليها جعله يصير أكثر تفوقًا، فسدد لها لكمة قاسية بمؤخرة سلاحه الآلي طرحتها أرضًا، وأفقدتها الوعي في الحال، لتندفع “بسنت” ناحيتها صارخة بهلعٍ كبير:
-“بيبو”، فوقـــي!
تحرك تجاههما ذلك الملثم ليصيح في “بسنت” بلا ترأفٍ:
-اتحركي يالا!
نظرت إليه في ارتعابٍ واضح، ثم حاولت حماية رفيقتها بجسدها قائلة بصوتٍ مرتعش:
-احنا معملناش حاجة.
أمرها بصوته الصارم:
-ولا نفس!
هزت رأسها في طاعة قبل أن ترد بصوتها المهتز:
-حاضر.
مرة ثانية أمرها وهو يشير بسلاحه مهددًا إياها:
-اتحركي قدامي.
همت بالاعتراض عليه قائلة:
-بس آ…
قاطعها متسائلًا بنبرة غير رحيمة بالمرة:
-تحبي تمــــوتـــي هنا؟
في التو هزت رأسها نافية، والخوف مستحوذ بالكامل عليها:
-لأ.
انضم أحدهم إليه، فأعطاه أوامره بإمساكها، فقبض على ذراع “بسنت” ليجذبها منه بخشونةٍ، ثم أجبرها على السير معه قسرًا، لتعود إلى داخل الكافيتريا، بينما بقيت نظرات الملثم مرتكزة على “بهاء” المغشي عليها، مرددًا بشماتةٍ ووعيد:
-أما إنتي فدورك جاي!
آنئذ نزع القناع الأسود عن وجهه الذي يخفيه، لتبدو ملامحه واضحة. ابتسم “أنس” في غرورٍ، وتابع في تشفٍ:
-هنشوف هتعدي من الحوار ده إزاي …………………………….. !!
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ضبط وإحضار)