روايات

رواية ضبط وإحضار الفصل السابع عشر 17 بقلم منال سالم

رواية ضبط وإحضار الفصل السابع عشر 17 بقلم منال سالم

رواية ضبط وإحضار الجزء السابع عشر

رواية ضبط وإحضار البارت السابع عشر

ضبط وإحضار
ضبط وإحضار

رواية ضبط وإحضار الحلقة السابعة عشر

زفرة خانقة وراء الأخرى لفظها وهو يلصق هاتفه المحمول في أذنه، منتظرًا بصبرٍ فارغ أمام نافذة مكتبه المُغلقة بإحكام إجابتها على اتصاله اللحوح بها، تجاهُلِها المتواصل استثار أعصابه أكثر، وجعله في حالة من الغليان، خاصة بعدما تلقى ذلك التوبيخ اللاذع من قائده، والمصحوب بعقوبة لم يتوقعها؛ استبعاده من التدريس خلال الفترة القادمة في الأكاديمية، وإلحاقه بالأعمال الإدارية، مع احتمالية نقله إلى مكان آخر يبعد عن العاصمة، ليصبح في عداد المنبوذين والمغضوب عليهم، بالطبع سيؤثر ذلك على سمعته كثيرًا، ناهيك عن تأخر ترقياته، وربما حرمانه من المكافآت المالية والتقديرات المعنوية. ارتفعت نبرة “أنس” المحتدة بمجرد أن استجابت “ميرا”، ليبدو صوته أقرب للصراخ وهو ينهرها:
-مش بتردي عليا ليه؟
جاءت نبرتها هادئة للغاية حينما عقبت عليه:
-كنت مشغولة!
استمر على صياحه بها متسائلًا بحنقٍ:
-شوفتي اللي حصل فيا؟
كعهدها ردت بهدوءٍ مستفز:
-أيوه، عرفت…
استطاع سماع صوت ثقل أنفاسها وهي تواصل الحديث بما أغاظه:
-بس أنا ماقولتلكش أعمل كده في حاجة رسمية، أنا كان قصدي تعمله شير على النت، ولا أي حاجة ماتعملكش إنت مشاكل.
انفــــجر هـــادرًا بها:
-جاية تقولي الكلام ده دلوقت؟
لم تعلق بكلمة، فتابع في غضبٍ وانفعال:
-أنا اتأذيت في شغلي يا “ميرا”.
أخبرته بشيءٍ من التأكيد:
-ما تقلقش، هخلي معارف بابا يرجعوك تاني.
لم يبدُ مقتنعًا بذلك، وقال محاولًا السيطرة على غضبه المندلع:
-أما أشوف، وإلا الزعل هيكون معاكي إنتي.
لم يضف شيئًا بعدئذ، فأنهى المكالمة فجأة وهو يطلق لفظة نابية يلعنها بها، ليتحرك بعيدًا عن النافذة ساحبًا مقعده للخلف ليجلس عليه، وعقله لا يزال يستحضر مشهد تقريع القائد له، فما ظن أنها مزحة سخيفة يمكن أن تمر مرور الكرام، تحولت إلى نقمة ووبالٍ عليه!
………………………………………
اعتبر أنه من غير اللباقة بعدما أعلنت قبولها بالخطبة أن يتركها مع عائلتها يعودون إلى منزلها بواسطة سيارة أجـــرة، فأصر على توصيلهم ليظهر مدى اهتمامه بشأنهم، وفي نفس الوقت يحظى بالمزيد من الوقت للتنعم بصحبتها. واصل “عمر” تجاذب أطراف الحديث مع “سليمان”، وعيناه تتابعان الطريق تارة، وتختطف لحظات ثمينة للنظر إليها عبر مرآته الأمامية تارة أخرى. غمرته نشوة عجيبة وهو يستشعر هذه الأحاسيس المتحمسة الدخيلة عليه، لم يكن ممانعًا من تأثيرها المنعش للنفس على الإطلاق، تجرأ ليسألها في شجاعةٍ وفي حضرة عائلتها:
-تحبي أجيب أهلي ونعمل الخطوبة إمتى؟
سيطرت عليها ربكة فجائية، فتوردت بشرتها في الحال، وراحت تعلق بطريقة شبه رسمية، مراعية تواجد عمها وزوجته معها:
-حضرتك اتفق مع عمي، هو جمبك.
حمحم “عمر” بتحرج، ونظر إلى جانبه، ليجد “سليمان” يرد باسمًا بوديةٍ:
-مش هنختلف يا ابني، هنشوف المناسب ونعمله.
أومأ برأسه مرددًا:
-بأمر الله.
مالت “فادية” على “بهاء” لتستعتبها بصوتٍ خفيض، مصحوبًا بلكزة في ذراعها غير ملحوظة للجالسين أمامهما:
-يا “بيبو” خدي وإدي معاه بكلام حلو، هو عايز يسمع صوتك، كلميه برقة شوية، بدل ما يطفش قبل ما يرتبط بيكي.
ردت عليها بصوتٍ هامس، وهذا التعبير الجامد تحاول رسمه على وجهها:
-ما هو عارفني، أنا مش غريبة عليه.
أخذت زوجة عمها تبرطم في غير رضا، وبتكشيرةٍ خفيفة:
-هتفضلي كده على حالك عنيدة!
بدت غير مهتمة بظنها بها، لكونها ببساطة تثق في تبادلهما للمشاعر الصادقة، وإن لم يعترفا فعليًا بذلك؛ لكن الانجذاب المحسوس بينهما يؤكد لها حقيقة وجود تلك المحبة النقية.
……………………………………
التقى به في وقتٍ لاحق بمكتبه بالأكاديمية، فأطلعه على الأنباء السارة، ليقوم رفيقه بعناقه وتقديم التهاني الحارة له. تراجع “أمير” عنه لينظر إليه بسعادةٍ وهو يعبر له عن فرحته الشديدة:
-مبروك يا باشا، أنتم السابقون، ونحن اللاحقون.
رد “عمر” مبتسمًا:
-الله يبارك فيك.
في شيءٍ من الفضول سأله:
-هتكون في بيت العروسة، ولا مكان تاني؟
حك جبينه ليفكر للحظاتٍ، ثم أخبره:
-بنسبة كبيرة في بيتها، حاجة على الضيق.
أشار له “أمير” بإصبعه هاتفًا بحماسٍ:
-إن شاء الله أنا معاك فيها، جايز حظي يشبك مع صاحبتها…
ما لبث أن بدت ملامحه تعيسة بشكلٍ ما وهو يتم جملته:
-مع إن شكلها ولا في دماغها الحوارات دي.
ربت “عمر” على كتفه قائلًا بتفاؤل:
-ربنا يقدملك اللي فيه الخير.
في قدرٍ من الحذر تساءل “أمير”، وهو يتطلع إلى رفيقه:
-هتقول لصاحبك إياه؟
رد عليه مستفهمًا:
-تقصد “أنس”؟
هز رأسه مجيبًا إياه:
-أيوه.
اتسعت ابتسامته الماكرة نسبيًا قبل أن يقول:
-خليه يتفاجئ أحسن، هو غاوي مفاجآت.
ضحك في تسلية على اقتراحه، وأيده دون أدنى ذرة اعتراضٍ:
-على رأيك، ودي مش أي مفاجأة، دي هتضرب في النافوخ!
شاركه الضحك لبعض الوقت، قبل أن يعاود الجلوس على مقعده، أمسك بالملفات المرصوصة ليراجع ما بها من تقاريرٍ، وهو يقاوم بشدة رغبته في ترك كل شيء خلفه، والذهاب إليها للبقاء معها.
……………………………………………….
وِفق الميعاد المتفق عليه بمنزل العائلة، اجتمع أفراد الأسرتين، بجانب بعض الأصدقاء المقربين، لحضور مراسم حفل الخطبة البسيط. تأنقت “بهاء” في ثوبٍ رقيق من اللون السماوي، تمتد أكمامه حتى معصميها، وحتى فتحة عنقه كانت صغيرة، غير كاشفة لأي من مفاتنها. خطفت الأنظار حقًا بأناقتها الرقيقة، وجمالها غير المتكلف. بالكاد حاول “عمر” إبعاد ناظريه عنها، ومع هذا كان يعجز عن التوقف عن تأملها.
المماطلة وإضاعة الوقت في الحديث عن مواضيع شتى ليس لها أي صلة بما جاءوا من أجله، جعلت أعصابه تبدو على المحك، بالرغم من الهدوء الزائف الظاهر على محياه؛ لكنه رغب وبشدة الدخول في جوهر الموضوع مباشرة.
مستخدمًا طريقته الطريفة في التحاور، تساءل “عامر” وهو يبتسم لشقيقه ابتسامة عريضة تمتد من الأذن للأذن:
-هتتكلم ولا أتكلم أنا يا عريس؟
رد عليه بصوتٍ خفيض، وهو يرمقه بتلك النظرة:
-مش إنت عامل فيها ولي أمري، اتكلم براحتك.
ظهر الحماس عليه أكثر معقبًا:
-زي الفل.
التفت بعدها ناظرًا إلى عم العروسة، ليستطرد بجديةٍ:
-احنا النهاردة جايين يا عم “سليمان” علشان نخطب إيدك بنتكم المصونة الآنسة “بهاء” لأخويا “عمر”.
رد عليه مُضيفه –مسرور التعبيرات- قائلًا في تفاخر:
-احنا نتشرف بيكم.
أضاف “عامر” مؤكدًا وهو يشير نحوه بإصبعه:
-ومش هنختلف بأمر الله، كل طلباتكم هتتعمل طالما نقدر على ده.
هز رأسه بالإيجاب قبل أن يقول:
-على خير يا رب.
تدخلت “فادية” في الحديث هاتفة بنبرتها الحماسية الواضحة:
-نقرى الفاتحة بقى.
قال زوجها في استحسانٍ:
-على بركة الله.
تلى الجميع سورة الفاتحة بأصواتٍ خفيضة هامسة، ليردد “عامر” في نشوة وفرح بمجرد أن انتهوا منها وهو يشير نحو النساء المجتمعات حول العروس الخجول:
-سمعونا زغرودة حلوة.
انطلقت من فم “فادية” دفقة متواترة من الزغاريد المبتهجة، والمصحوبة بتصفيقاتٍ وتهليلات من البقية، ليردف “عمر” في صوتٍ جاد:
-إن شاء الله العروسة تنزل تختار الشبكة اللي هي حباها.
وقتئذ رد عليه “سليمان” مبتسمًا بوقارٍ:
-احنا بنشتري راجل، والأهم عندي إنه يصونها ويراعي ربنا فيها.
أكد له “عمر” بما لا يدع مجالًا للشك في نفسه:
-اطمن يا عمي، دي هتبقى كل دنيتي.
شعرت “بهاء” بالخجل من غزله المتواري، وأطرقت رأسها تجنبًا للنظرات المحدقة بها؛ لكنها أدارت رأسها في اتجاه رفيقتها “بسنت” عندما انحنت عليها لتهنئها بسعادةٍ كبيرة:
-مبروك يا “بيبو”.
بادلتها الابتسام قائلة:
-حبيبتي يا “بسبوسة”، عقبالك إن شاءالله.
اعتدلت “بسنت” في وقفتها ثم تراجعت خطوتين للخلف، لتترك المجال للضيوف لتهنئة العروس، آنئذ وجدت “أمير” قادمًا نحوها وهو يحمل في يده كأس المشروب، ناوله إياها قائلًا:
-اتفضلي، أنا جايبلك الشربات بنفسي.
أخذته منه بلا ابتسامٍ، وتعاملت معه بشكل رسمي:
-شكرًا يا فندم.
رفع حاجبه للأعلى، وعاتبها في رقةٍ:
-مافيش داعي للرسميات هنا، ده احنا في أجواء فرح، وحاجات لطيفة.
اكتفت بهز رأسها، فحاول استطالة الحديث معها بسؤالها صراحةً:
-إنتي مرتبطة؟
تفاجأت من سؤاله الغريب، وردت نافية، وهذا التعبير الجاد لا يزال متواجدًا على قسماتها:
-لأ.
انتقل إلى استفساره التالي مستعلمًا:
-بتفكري في ده طيب؟
على نفس الوتيرة الجادة اقتضبت في الرد:
-لأ.
قال وهو يبتسم لها بمرحٍ:
-إن شاء الله تغيري رأيك قريب لما تلاقي اللي يقدرك.
تعاملت معه بجفاءٍ غريب:
-ربنا يسهل…
قبل أن يفكر في قول المزيد أخبرته:
-عن إذنك هشوف العروسة وطنط “فادية” لو عايزين حاجة.
تنحنح مرددًا وهو يتنحى للجانب:
-اتفضلي.
تركته في موضع وقوفه لتعود إلى العروس التي كانت تتابع ما يدور بينهما بفضولٍ، ما إن أصبحت قريبة منها حتى أشارت لها لتجلس على مسند أريكتها، ثم سألتها:
-إيه الحوار؟
أجابتها “بسنت” وهي تضبط الشال على كتفيها:
-بيلمح عن ارتباطات وكلام مش فاهماه.
أعطتها هذه النظرة المتشككة وهي تسألها:
-عليا برضوه؟ ده الأعمى يفهم الحركات بتاعته!
تنهدت سريعًا، لتخبرها بحذرٍ:
-خليني أعمل عبيطة أحسن، لحد أما أشوف إن كان فعلًا بيتكلم جد، ولا بيتسلى زي ناس، وإنتي بنفسك شوفتي اللي حصل في موضوع “ميرا”
تفهمت لموقفها المحتاط، وقالت:
-أوكي يا حبيبتي.
وسط غمرة الفرحة السائدة في الأجواء، انقطع التيار الكهربي فجــأة، لتصدر صيحات التذمر والاستهجان، فصاحت “فادية” في ضيقٍ:
-النور قطع.
رد عليها أحدهم لم تتبين من صاحب الصوت:
-وده وقته؟
سرعان ما استخدم الجميع الإنارة المنبعثة من الهواتف المحمولة ليتمكنوا من رؤية بعضهم البعض، فاستطرد “عامر” في صوتٍ جاد:
-خلينا نكلم حد في شركة الكهربا يرجعه.
مازحه “أمير” بغمزة من طرف عينه:
-ده إنت واصل بقى!
تحرك بعيدًا عن التجمع وهو يقول بنبرته العازمة:
-سيبوني أتصرف، إدوني دقيقة بس.
علقت “بهاء” على ما حدث في خطبتها هاتفة بضيقٍ:
-خطوبة على كشاف الموبايل، أنا عارفة حظي.
تحدث إليها “عمر” في مرحٍ:
-كفاية نورك عليا.
سألته بتحفزٍ وبحاجبين معقودين:
-تريقة ولا جد؟
استطاعت أن ترى ابتسامته العذبة تتلألأ تحت الأضواء الخافتة وهو يخاطبها:
-أنا برضوه بتاع تريقة؟
أسرتها خفة دمه كالعادة، فبادلته الابتسام الجميل، واستمتعت قدر المستطاع بأجواء خطبتها رغم تلك العقبة المباغتة.
……………………………………
لم تكن لتدع تلك المناسبة تمر دون أن تُعلم رفيقة السوء بما جرى، ليس لأنها تهتم بها؛ ولكن لتشعرها بأن حقارة تصرفاتها الأخيرة لم تأتِ بنتائجها السلبية عليها، بل على العكس قربت بين الاثنين أكثر، وجعلت الأمور تتخذ منحنًا جادًا معهما، لهذا بعدما سمحت لها “بهاء” بفعل ذلك، قامت “بسنت” بمهاتفة “ميرا” بعد يومين من انقضاء حفل الخطبة لتتأكد إن كانت الأنباء قد بلغتها أم لا، استطردت معها المكالمة متسائلة في عتابٍ:
-يعني إن مكونتش أسأل مطنشاني خالص كده؟
بتأففٍ محسوسٍ في صوتها علقت:
-مشغولة يا “بسنت” مش فاضية.
سخرت منها بنبرتها الهازئة:
-أه طبعًا، ما إنتي سيدة أعمال مهمة.
اشتاطت غضبًا من أسلوبها التهكمي، وحذرتها في تعصبٍ:
-بطلي تريقة.
ابتسمت لأنها نجحت في استفزازها، وزادت من ذلك أيضًا بإضافتها المتعمدة:
-طيب، أنا قولت أعرفك إن “بهاء” اتخطبت.
صمتت للحظاتٍ كأنها تستوعب الصدمة، لتعقب بوجومٍ بائن على نبرتها:
-والله .. كويس.
تابعت “بسنت” على نفس المنوال:
-عارفة لمين؟
قالت وكأنها لا تبالي:
-عادي يعني، مش فارقة.
كم تمنت بشدة أن ترى تعبيرات وجهها وهي تنزع فتيل قنبـــلتها الفتـــــاكة:
-للرائد “عمر”، اللي كان مسئول عن تدريبنا.
سمعت نبرتها التي تحولت للصراخ الحاد حينما سألتها:
-بتتكلمي جد؟
اضطرت للحظة أن تبعد الهاتف عن أذنها، ثم أعادته إليها مؤكدة عليها بتشفٍ:
-أيوه طبعًا، أومال أنا بتصل أعرفك ليه!
استمرت على حدة صراخها وهي تسألها:
-طب إزاي؟ وخصوصًا بعد اللي حصل في الحفلة، ده المفروض تكون قطعت معاه؟
ضحكت “بسنت” بافتعالٍ فقط لتغيظها، ثم استرسلت في الشرح لها:
-بصراحة هو من قبلها وحاطط عينه عليها، وكان مستني الفرصة إنه يتقدملها، واللي اتعمل في الحفلة ساعده كتير إنه يقرب منها، ويبقى في بينهم ارتباط رسمي، وقريب أوي هنحضر فرحهم.
ببساطةٍ شديدة نجحت في تعكير صفوها، وما أكد على ذلك إنهائها المفاجئ لمكالمتهما:
-طب اقفلي دلوقت، مامي بتنادي عليا.
لم تبدُ ممانعة، وردت:
-أوكي، سلام!
استرخت “بسنت” أكثر، وقالت وهي تمط ذراعيها في الهواء بأريحية واضحة:
-شكلها هتطق من الغيظ.
ضحكت في انتشاءٍ، وقالت:
-تستاهل.
………………………………………….
في وقت لاحق، استجابت على مضضٍ لإلحاحه المزعج بمقابلته، رغم نيتها بتجنب الالتقاء به، نظرًا لعجزها عن تقديم العون له في مسألته، خاصة بعدما رفض والدها التوسط في موضوعه لعدم أهميته بالنسبة إليه. جلست “ميرا” في مواجهة “أنس” بأحد المقاهي الشهيرة بمركز المدينة، انتظرت ذهاب النادل لإحضار طلبها، لتقوم بإخراج سيجارة من علبة السجائر باهظة الثمن التي بحوزتها، أشعلت طرفها، وسحبت نفسًا عميقًا إلى رئتيها قبل أن تنفث الدخان دفعة واحدة في الهواء مستأنفة كلامها معه في شيءٍ من الغموض:
-عرفت إن صاحبك خطب!
نظر إليها متسائلًا بتحيرٍ:
-بتتكلمي عن مين؟
لوت ثغرها قائلة في سخطٍ عظيم معكوس على تقاسيم وجهها:
-“عمر”، ومش أي واحدة خطبها، دي “بهاء”.
أصبح من الصعب معرفة أي أخبار مستجدة عن البقية بسبب انتقاله للعمل في مكانٍ آخر، واستبعاده من مراسلات الأكاديمية الرسمية وغير الرسمية. تحفز في جلسته هاتفًا باستنكارٍ:
-نعم!!!
ردة الفعل التي أظهرها أدهشتها، وعلقت على ذلك في استهجانٍ ساخر منه:
-واضح إنك آخر من يعلم.
كظم كمده مرغمًا ليسألها بعبوسٍ:
-سيبك منهم دلوقت، وقوليلي عملتي إيه في موضوعي؟
حسنًا، لم ترغب في منحه الرد المباشر بالرفض على مساعدته، فادعت كاذبة:
-قولت لبابي، وقالي هيتصرف قريب.
كور قبضته ضاربًا سطح المائدة في تعصبٍ وهو يخبرها:
-حاولي تزني عليه، منظري وحش أوي قصاد زمايلي.
بلا ابتسامٍ ردت:
-أوكي، طيب.
-بس إنت هتعمل إيه بعد خبر الخطوبة ده؟
أرجع ظهره للخلف قائلًا بفتورٍ:
-ولا يهمني، هو اللي عايز يلبس، يشيل براحته.
استغربت للغاية من بروده، وسألته في إنكارٍ:
-يعني مش مضايق؟
قال وهو يشعل سيجارة أخذها من علبة سجائرها:
-وأنا هستفيد إيه لما أضايق؟ ما كفاية المشكلة اللي وقعت فيها بسببك.
استخدم القداحة في إشعالها، لتنظر إليه بتأففٍ قبل أن تُعلمه:
-أنا هشرب قهوتي وأمشي، ورايا حاجات لازم أعملها.
قام واقفًا وهو يلملم أشيائه معقبًا بسخافة:
-براحتك، بس ماتنسنيش يا مُزة!
توقعت أن يقوم بسداد فاتورة الحساب؛ لكن لدهشتها انصرف دون أن يبالي بالتصرف بلباقةٍ وتهذيب معها، فانزعجت لذلك ونعتته باستحقـــار:
-غـــبي!
………………………………………
كانت على موعدٍ مع السعادة الحقيقية بظهوره في هذه المحطة من حياتها، فأصبحت لحظاتهما معًا تجسيدًا لما كانت تطمره نفسيهما الداخلية من مشاعر صادقة، لا تشوبها شائبة. خلل “عمر” أصابعه في أنامل معشوقته ليتشابك كفيهما معًا، ثم راح يطالعها بنظرة والهة، فبادلته بأخرى شغوفة قبل أن يستحثها على السير معه في ممشى المارة المتخم بمحالٍ متنوعة ومطاعم مختلفة وأماكن أخرى للترفيه، ابتسم لها متسائلًا في سعادة لم يخفها:
-دي أول خروجة رسمي لينا سوا، تحبي تروحي فين؟
هزت “بهاء” كتفيها قائلة بوجهٍ مشبع بخجل ممزوج بالفرح:
-أي حتة.
اقترح عليها وهو يشير بعينيه إلى الأمام:
-سينما حلو؟
هزت رأسها قائلة:
-ماشي.
أضاف كذلك بحماسٍ:
-وبعدها نروح أي مطعم ناكل سوا.
ابتسمت لاقتراحه ورحبت به:
-اتفقنا.
نظرت إليه من جانبها، فشعرت بتأجج عواطفها اللهفى تجاهه، كان وسيمًا عن قرب، وجذابًا عن بعد، أحست وكأنها نالت كل الحظ بارتباطهما الجاد، خفق قلبها بقوةٍ وسعادة، فتضرعت للمولى في سرها أن تكتمل خطبتها على خير، وألا يظهر ما يفسد الود بينهما، لكونها تعلم بالنوايا الشريرة لأصدقاء السوء، سواء كانت “ميرا”، أو “أنس”، وكلاهما لن يمررا الأمر على خير دون أن يحولا فرحتهما إلى تعاسة.
…………………………………….
مضت أوقاتهما السعيدة سريعًا، وحان وقت العودة إلى المنزل، فاستقلا سيارته معًا، ليصل بها إلى هناك بعد جولة في الطرقات والشوارع. أبطأ “عمر” من السرعة تدريجيًا، إلى توقف المحرك تمامًا، فالتفت إلى جانبه لينظر إليها بنظرته العطوفة الشغوفة، ابتسمت في حياء لنظراته، وزادت ابتسامتها اتساعًا وهو يخاطبها:
-قبل الساعة عشرة أهو عند بيتك.
ردت عليه وهي ترمش بعينيها:
-كده عمي هيقدرك بزيادة.
قال وهو يريح مرفقه على المقود:
-وأنا يهمني رضاه دلوقت، لحد ما ربنا ييسر ونكون سوا.
عقب كلماته تلك، زادت السخونة المتدفقة إلى وجهها، فأطرقت رأسها مرددة بصوتٍ خافت خجل:
-إن شاء الله.
قبل أن تهم بمغادرة السيارة استوقفها بسؤاله الفضولي:
-كنت عايز أسألك سؤال معين كده من زمان.
نظرت إليه قائلة:
-اتفضل.
ركز بصره عليها متابعًا باهتمامٍ:
-ليه سموكي “بهاء”؟ من المعروف إنه اسم ولد، غريبة أشوفه على بنت.
توقعت أن يسألها ذلك، فأخبرته مستفيضة في التوضيح، وعلى وجهها ذلك التعبير البشوش:
-بص هي حكاية غريبة شوية، بس كان في فوج لطيف جاي من برا يزور البلد لما بابا وماما كان في رحلة للمعابد والآثار، وكان فيهم بنت جميلة أوي اسمها “بهاء”، طبعًا اللي بيسمعه كان بيستغرب جدًا منه، وماما وقتها كانت حامل فيا، ففكرت إنها لو خلفت بنت تسميني بالاسم ده، وقد كان.
امتدحها فيما يشبه الغزل:
-وده من حظي علشان أتقابل معاكي، والاسم يفضل معلق في ذاكرتي.
ابتسمت لتدليله لها، وسألته في توجسٍ، لئلا تدع أي فرصة لرواسب الماضي غير الطيبة بالتأثير على علاقتهما:
-أوعى تكون شايل مني بسبب اللي حصل زمان.
رفع يده للأعلى ليمررها على رأسه معقبًا:
-ولو إنه كان مقلب سخيف أوي، بس المسامح كبير.
لوحت لها بيده لتودعه قبل أن تمسك بمقبض الباب وتفتحه:
-أشوفك على خير.
ناداها قبل أن تبتعد عنه:
-“بهاء”.
نظرت إليه مجددًا وهي ترد:
-أيوه.
اعترف لها بصدقٍ غير قابل للتشكيك فيه:
-هتوحشيني.
أشرقت ملامحها أكثر، وهمهمت في ارتباكٍ خجل:
-وإنت كمان.
أخبرها بعزمٍ:
-هستنى لما تطلعي وأمشي.
وافقت على ذلك بترحابٍ:
-أوكي.
راقبها وهي تخطو على الرصيف بخطواتٍ رشيقة لتتجه نحو مدخل بنايتها، انتظر لعدة دقائق ريثما يتأكد من صعودها للأعلى، أمال رأسه للجانب ليتمكن من رؤيتها حينما أطلت من خلف نافذتها، لوحت له بيدها لتودعه، وعلى ثغرها ابتسامتها الندية، فانتشى داخله، وودعها وهو يتحـــرق شوقًا للانفراد بها في منزلٍ يجمعهما معًا.
………………………………………
مصيره أصبح في زمام غيره جراء فعلته السخيفة، ومع ذلك فشل في الحصول على تسوية لمسألته لإعادة الأمور كما كانت عليها قبل هذا الاستبعاد المجحف، وكأن في إقصائه مكسب للجميع. ما زاد الطين بلة تجاهل “ميرا” لكافة اتصالاته، فاستشاط حنقًا وغضبًا، وكأن ذلك ينقصه، اضطر “أنس” للاستعانة بهاتف أحد رفاقه لمكالمتها، وأمام سيل إلحاحه أجابت على اتصاله متسائلة:
-مين بيتكلم؟
أتاها صوته الحانق مخترقًا طبلة أذنها:
-يعني كان لازم أطلبك من رقم غريب علشان تردي عليا؟
هتفت في غير تصديقٍ:
-“أنس”؟
صاح مؤكدًا هويته:
-أيوه زفت.
ردت عليه ببرودٍ مقتضب، مبدية عدم استساغتها لاتصاله:
-خير؟
سألها مباشرةً:
-برضوه ماشوفتيش حل؟
قالت مراوغة:
-ما أنا قولتلك الموضوع مع بابا وآ…
لم يطق سماع مماطلتها الكاذبة، فقاطعها في منتصف ادعائها مهددًا:
-من الآخر كده قدامك يومين، لو مخلصش الموضوع ده، يبقى ما تزعليش من اللي هيحصل بعد كده.
اغتاظت من ذلك، وتحدته بغير خوفٍ:
-إنت بتهددني؟ لأ فوق لنفسك، ولو تقدر تعمل حاجة اعملها!
ظهرت الآن نواياها الخفية، فقال معلنًا قبوله لتهديدها المتبادل:
-حلو الكلام، إنتي اللي اخترتي.
أنهى الاتصــال معها ضاغطًا على أسنانه، لفظ سبابًا نابيًا في حقها في عصبية مضاعفة، وتوعدها:
-مش دي اللي هتعلم عليا، هخليها تيجي لحد عندي تقول حقي برقبتي.
………………………………………
مجددًا تلقى عبارات الثناء والتشجيع على ما يبذله من مجهودات كبيرة للارتقاء بمستوى الدارسين في الأكاديمية، لهذا عاد “عمر” إلى مكتبه وهو في أوج تفاخره ليجد آخر من يتوقع في انتظاره. حل الوجوم على قسماته، وتعامل برسميةٍ بحتة مع “أنس”، فسأله:
-خير عايز حاجة؟
نهض لمصافحته، لكن “عمر” رفض يده الممدودة إليه، فما كان منه إلا أن قال بتحرجٍ:
-أنا صاحبك وجاي أطمن عليك، وبالمرة أباركلك.
استمر على تجافيه المتعمد معه، فأردف:
-شكرًا، وزي ما إنت شايف أنا مشغول.
عاد “أنس” ليجلس على المقعد المجاور لمكتبه، وتابع:
-وأنا مش عايز أعطلك، هو طلب وحيد منك…
تطلع إليه “عمر” بلا كلامٍ، فاستأنف “أنس” حديثه:
-عايزك تتدخل وتحل الخلاف اللي حاصل، أنا اتأذيت جامد بسببه.
رد عليه بشيءٍ من العجرفة:
-ده قرار القيادة، مافيش في إيدي حاجة.
ألح عليه في تصميمٍ:
-بس إنت بمعارفك وطريقتك تقدر تقنعهم، وأنا أوعدك هظبطك.
لم يكترث قيد أنملة لأمره، وعامله ببرودٍ يستحقه:
-أعذرني يا “أنس” مش فاضيلك، ورايا محاضرات، تقدر تطلب قهوتك وتشربها براحتك هنا.
بدا وكأنه يطرده بتهذيبٍ من غرفته، خاصة حينما تحرك نحو الباب قائلًا:
-عن إذنك.
هب “أنس” وافقًا بمجرد أن غادر الغرفة، ليكز على أسنانه مدمدمًا في إحباطٍ ساخط:
-قفلت معايا زي الدومينو!
…………………………………..
رغبته في الانتقام أعمت بصيرته، ودفعته للتصرف بجموحٍ في مسائل لا يمكن المزاح في شأنها مطلقًا، لذا تقابل مع أحد زملائه القدامى ممن تخصصوا في اختراق الشبكات العنكبوتية المُعادية والتجسس على أصحابها لاستخراج أهم المعلومات منها. طلب “أنس” منه بلهجة جمعت بين الجدية والرجاء:
-معنديش غيرك يساعدني في الحوار ده.
أبدى رفيقه استعداده التام لمساعدته بقوله:
-إنت عارف لو في إيدي حاجة متأخرش عنك.
في غير تشكيك في قدراته امتدحه:
-ده سهل ولعبتك.
تساءل باهتمامٍ ملحوظ:
-اشطا، الكلام على إيه؟
ضغط “أنس” على أصابع يده المتكورة حتى ابيضت مفاصله، واستطرد بغيظٍ بائن في نبرته:
-في واحدة عملت عليا فيلم خلتني أخد جزا فيه، فأنا عايز أربيها، وتبقى روحها في إيدي.
سكت رفيقه لبرهةٍ، كأنما يفكر في أمر ما، ليفصح عن ذلك متسائلًا:
-تحب ناخدها في سكة الآداب؟
في التو أخبره:
-يا ريت.
أمسك هاتفه المحمول الموضوع إلى جواره، عبث فيه مستطردًا بلهجةٍ شبه آمره:
-هاتلي تفاصيل عنها.
بتحمسٍ مريب أعطاه ما يريد قائلًا:
-ده الأكاونت بتاعها، وده كمان رقم موبايلها.
نقل البيانات الأساسية إليه، ليضيف بعدها بثقةٍ:
-عظيم، هنجزلك الحوار وأبعتلك النتيجة.
لحظتها شعر “أنس” بالانتشاء، وفرك كفيه معًا معلقًا بمدحٍ:
-أنا قولت مافيش غيرك هيظبطني.
ابتسم رفيقه لثنائه عليه، فتابع كنوعٍ من التقدير له:
-الأكل عندي النهاردة.
قَبِل بعرضه دون جدالٍ:
-حلو الكلام.
شعر بعدها “أنس” بتدفقٍ ممتع من الشعور بنشوة الانتصار، رغم أن ذلك لم يحدث بعد؛ لكن مجرد التفكير في رد الصاع صاعين لها جعله رائق المزاج للغاية ومنشرح الصدر. نظر في الفراغ مطولًا، وهو يحادث نفسه في وعيدٍ شامت:
-استلقي وعدك يا حلوة ……………………………. !!

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ضبط وإحضار)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى