رواية صرخات أنثى الفصل السادس والخمسون 56 بقلم آية محمد رفعت
رواية صرخات أنثى الجزء السادس والخمسون
رواية صرخات أنثى البارت السادس والخمسون
رواية صرخات أنثى الحلقة السادسة والخمسون
كنت أنا الحائر من بين تجمع العائلة الذي لا يحدث عادة الا بوجود احتفالًا آرستقراطي راقي، والآن أقف حاملًا لعبتي الصغيرة المفضلة، كانت احدى أنواع السيارات التي كنت أحلم يومًا بامتلاكها.
أوجه الجميع كانت حزينة لدرجةٍ جعلتني أرتجف رعبًا مما يحدث، ظننت ببدء الأمر أن والدتي قد أصابها سوءًا، ريثما تبكي لهذا، ولكن بعد قليل تسلل لآذني جملة واحدة «لقد توفى سالم»، حسنًا الآن وجدت جوابًا واضحًا لأسئلتي، لقد مات أبي!
مات وتركني صغيرًا لم يعتاد المضي بين سرداب الحياة المخيف، لم يترك لي نصائح حتى لم يوصيني على شيءٍ ربما لإنني صغيرًا.
لقد حملوه وبعد قليل عادوا دونه، وكأنه مر عابر سبيل بتلك الحياة الفانية، تاركًا من خلفه ثلاث أبناء، وكان هو منهم.
ضمة يد رغم لينها الا أن قوتها أرضخته أن يلتفت لصاحبها، فوجد أخيه يقابله بنظرةٍ لو مر عمرًا فوق عمره لن ينساها أبدًا، وكأنه يخبره بأنه من تلك اللحظة سيصبح أبيه وشقيقه، بالرغم من أن فرق السن بينهما ليس كبيرًا
ضمته الهاشة بجسده الطفولي منحت عُمران الذي يصغره أمانًا، جعلته ممتن لوجوده الآن لجواره، توالت الأيام ومضى العمر ومازال “علي” سكنًا، وأمانًا، جابرًا لخاطره وكسرته، كان له قبضة قوية تحيطه قبل السقوط بعرجلةٍ ومَزَالِقُ الطريق، حتى ذكرياته شاركه بها بدوره المثالي الداعم له، الخلاصة كلمة لا ثاني لها “علي”!
ادمج الحزن مُقلتيه، فكل مقارنة دخلها خرج خاسرًا أمام أخيه، فوجد ذاته يبدل ملابسه ويسرع متلهفًا للأسفل حتى يلاقاه، ألقى غرور الطاووس الوقح جانبًا وسعى أن يقدم اعتذاره أولًا حتى وإن كان سيتطلب الأمر للاهانة سيفعلها بالتأكيد.
هبط”عُمران” للأسفل، متجهًا لغرفة مكتب أخيه، وقف أمام بابه الغير موصود، يتطلع أمامه بارتباكٍ، ابتسامة صغيرة شقت طريقها إليه حينما داعبت أنفه رائحة القهوة المميزة التي يعدها أخيه بنفسه، واكتملت اطلالته المعتادة له فور رؤيته يستكين على مقعد مكتبه، هائمًا بأحدى الكتب كما توقع عُمران.
اقترب منه وهو يحرص كل الحرص الا يشعر به، فتفحص اسم الكتاب الذي يستمد كل تركيزه، لم يندهش كثيرًا حينما وجده يقرأ أشعار “نزار القباني” ، فأخيه مهوس بالقراءة حد النخاع، وربما ذلك ما أكتسبه تلك الخبرة التي تفوق عمره عمرًا، “علي” الحكيم، المتفوق بدراساته منذ صغره، وبالرغم من اتقانه لذلك الا أنه كان يجد أوقاتًا للممارسة هوايته المفضلة “القراءة” .
كان أكثر ما يقرأ به الكتب المتفرعة بعلم النفس، أفاق من شروده على صوته الساخر ومازال منغمس بقراءة الكتاب:
_بتفكر ازاي تجبر نفسك تعتذر ولا، جاي تكابر؟
جذب المقعد المقابل لمكتبه الصغير، وجلس قبالته يتنهد بضيقٍ ملحوظ:
_لا دي ولا دي يا دكتور، وبعدين إنت أيه اللي، جرالك من أمته وإنت مغرور كده يا علي؟!!
أغلق الكتاب من أمامه، ثم انتزع عنه نظارته الطبية ليمنحه نظرة ساخرة:
_ومين قال إني مغرور؟
رفع عُمران أحد حاجبيه باستنكارٍ:
_الكلام اللي حضرتك قولته فوق من شوية!
ضم كفيه معًا واستند برأسه عليهما، محدقًا به بنظرةٍ ثابتة:
_ولما إنت مش مقتنع بكلامي نازل عندي وواقف بقالك ساعة بره ومتردد تدخل ليه؟!
اشرأب الغضب من رماديته، فردد بغيظٍ:
_بطل تحلل تصرفاتي بعين الدكتور النفسي اللي جواك ده!
ضم “علي”شفتيه معًا وعاد لمقعده يهزه ببرود:
_أممممم… شكلك كده مش ناوي تكون ولد مطيع وتعتذر، هتلجئ للعند اللي سايقه على كل اللي حواليك.
استنكر جملته وهدر بانفعالٍ:
_أيه ولد مطيع دي شايفني عيل قدامك!! علي أنت مش شايفني كويس ولا أيه؟ ده اللي يشوفني جنبك بيفكرني أخوك الكبير!!! راعي فرق الاحجام بينا يا دكتور!!
لم تهتز به شعرة، وأجابه بابتسامة استفزت الاخير:
_يا مغرور إنت عمرها ما بتتقاس بالعضلات بتتقاس بده.
قالها وهو يشير على عقله، فتنهد الاخير بقلة حيلة:
_احنا مش في تحدي الذكاء بينا، إنت اللي مصمم تحسيني اني طفل والفرق بينا مش كبير أصلًا!
واستطرد بدهشةٍ غاضبة:
_وبعدين ازاي تكلمني بالشكل ده إنت طول عمرك متواضع يا علي!!
نهض عن مقعده وصوت ضحكاته المسموع يزعج عُمران الذي يشعر وكأنه يتعرف على أخيه لمرته الأولى.
إتجه إليه علي، بجلس قبالته على المقعد، ودنى بجسده تجاهه يقول بهدوء:
_عُمران لو الفرق ما بينا شهرين حتى فمش هتنكر حقيقة إنك حطتني في مكانة بابا الله يرحمه، فتقدر تقول إني اللي مربيك ده أولًا، أما اجابة أسئلتك الكتيرة عن غروري اللي اكتشفته مؤخرًا فده بيتلخص في جملة تلخص اللي مدفون ورا تربيتي للطاووس اللي فاكر هيتواقح عليا!
زوى حاجبيه متسائلًا بسخريةٍ:
_وأيه هي الجملة دي بقى يا دكتور علي؟
عاد للخلف يضع قدمًا فوق الاخرى وببسمةٍ خبيثة قال:
_أنا بابا يالا!
راقبه عُمران قليلًا بصدمة، وبعدها تحررت ضحكاته والاخير يشاركه الضحك بقوةٍ أدمعت عينيه، وبصعوبة قال عُمران:
_هما عملوا فيك أيه في مصر؟ ده مكنش أسبوع ده؟!
قهقه ضاحكًا وقال:
_سيب المدفون مدفون جوايا وخليني ملهي بالكتب بدل ما أكرهك في اليوم اللي حاولت تكون فيه مغرور ووقح! فاعقلها كده بالعقل يا بشمهندس!
غادرت ضحكاته وجهه الوسيم، وقال بجدية تامة:
_علي متزعلش مني على الكلام اللي قولتهولك فوق، أنا بس الموقف كله كان مخليني متوتر، حاولت اتصل بيك أكتر من مرة على رقمك المصري، ولما معرفتش أوصلك ملقتش غير يوسف اللي ممكن أمنله على حالة فاطمة.
عاد لجديته التامة، وأجابه بحبٍ:
_مش زعلان من اللي حصل أكتر من تأثري بكلامك عن نفسك يا عُمران، ليه دايمًا شايف نفسك وحش وبتحاول تظهر عيوبك اللي خلاص ربنا سبحانه وتعالى ستر عليها تقوم إنت تكشف ستره! كل مشكلة ترجع للماضي ليه؟!!!
انحنى برأسه للأسفل بحزنٍ التهمه دون رحمة، فقرب علي مقعده منه وقال بعد تفكيرٍ ذكي:
_عُمران إنت اتعرضت لموقف من قريب فكرك باللي حصل زمان عشان كده أخدت الأمور بحساسية زيادة عن اللزوم؟
رفع عُمران ذراعه ونهض، هادرًا بصدمة زائفة وهو يتطلع لساعته:
_أووبس إتاخرت على جمال جدًا، ده هينفخني أوي ما يشوفني.
بنفس ثباته وجموده ردد:
_اقعد يا عُمران.
جلس محله مجددًا ينتهد بقلة حيلة، وبضجرٍ قال:
_علي وحياة الست الوالدة عندك يا شيخ تبطل تمارس مهنتك المعقدة دي عليا، أنا مش مجنون ولا بعاني من أي مشكلة الحمد لله.
أشار على ذاته باستنكارٍ خبيث:
_أنا!! ليه بتقول كده يا عُمران شايفني قولتلك قوم إرتاح على الشازلونج أو حاولت أهديك وانت بتشد في شعرك! أيه اللي يمنع الأخ يدردش مع أخوه شوية ولا ده حرموه على الدكتور النفسي!
مرر يده على جبينه بارهاقٍ وقال:
_وبعدين معاك بقى يا علي، بقولك متأخر على صاحبي! ولا إنت عشان معندكش أصحاب مش فارقلك!
يعلم بما يحاول ذلك المتحاذق فعله، ومع ذلك حافظ على اتزانه ببراعةٍ:
_مين قالك إني معنديش اصدقاء؟ وبعدين مش معنى إني معرفتكش عليهم زي ما انت بتعمل يبقى معنديش! مش شرط إنك تنتظر رد فعل مماثل ليك من الشخص اللي قدامك.
تغاضى عن جملته الطويلة، وقال بنزقٍ:
_ومعرفتنيش عليهم ليه بقى؟
ابتسم بخبثٍ، ودنى إليه يردد بجدية زائفة:
_وتفتكر هقولهم أيه؟ يا مساء المربى أقدملكم أخويا اللي عايز يتربى!!!!
احتدت نظرات عُمران إليه، وهدر منفعلًا:
_ونسيت تضيف إن في جواه بلطجي مدفون، وشكله كده هيطلقه دلوقتي!
وضع ساقًا فوق الاخرى، ومال على يده يتفحصه بنظرة هادئة:
_خلينا نتكلم في المفيد، هتعتذر شفوي ولا تحريري؟
يحاول قدر الامكان احتباس غضبه داخله، فابتسم علي واعتدل بجلسته قائلًا:
_مفيش داعي لاعتذارك أصلًا، الهزار التقيل ده كله عشان أخلص حقي منك لإني متغاظ وهطق من طريقة تفكيرك الغبية، قوم يا عُمران عشان متتأخرش على جمال، واطمن عمر ما مشكلة تافهة زي دي هتفرق بينا أو هتخليني أزعل منك.
ونهض يتجه لمقعده الرئيسي، يعود لكتابه من جديد، فإذا بالاخر يقترب منه، وانحنى يقبل رأسه وهو يردد بندمٍ:
_لا أنا غلطت يا علي، حقك عليا أنا والله كنت خايف إن فاطمة تفقد الثقة فيا، ومكنتش عارف هي مش عايزة تبلغك ليه؟
ضمه علي إليه وقال بحبٍ:
_يا أهبل أنت أخر شخص في الكون ممكن أتوقع منه الخيانة، خلاص بلاش نتكلم في اللي فات آحنا في النهاردة.
اتسعت ابتسامة عُمران، فقال علي بحنانٍ:
_روح لصاحبك وأنا هعدي على المركز لو اتاخرت كلمني وأنا هرجع مايا معايا.
هز رأسه وفرحته تعيد البهجة لحدقتيه، حنان “علي” المفرط لطالما أشبع النقص الذي يخوضه عُمران، وكلما اعتمره الحزن والضيق في كل مرةٍ واجه بها الصعاب وجد أن الأمور لا تحدث الا لتعلقه بأخيه وتزيد من رابطهما.
انحنى يلتقط فنجان أخيه، ارتشفه بجرعة واحدة وأشار له يودعه، وزع علي نظراته البائسة بين أخيه الذي يغادر وبين فنجانه الفارغ، فزفر بيأس من تغيره ثم عاد لنظارته وكتابه.
سرقته أبيات الشعر وألقته بمغارتها الثمينة، يكتشف كنوزها ويجني ما يتلقفه، وحينما لمسته أبياتًا منها حتى وجد معذبة فؤاده ترنو إليه، متسائلة ببسمتها الرقيقة:
_بتعمل أيه يا دكتور علي؟
مد يده لها فوضعتها بكل حبٍ، مرر ذراعه من فوق المكتب، فحملت طرف فستانها الوردي وانساقت خلف حركة ذراعه حتى باتت تجاور مقعده فابتعد للخلف وجذبها تستند على المكتب من أمامه، تقابل نظراته الهائمة بجمالها الرقيق، وهمس لها بصوتٍ قشعر جسدها استجابه إليه:
_ثُوري!
أحبّكِ أن تثُوري ، ثُوري على شرق السبايا والتكايا والبخُورِ ، ثُوري على التاريخ، وانتصري على الوهم الكبيرِ ، لا ترهبي أحداً فإن الشمس مقبرةُ النسورِ ، ثُوري على شرقٍ يراكِ وليمةً فوقَ السرير.( نزار قباني) .
وتابع بابتسامةٍ:
_شوفتك بين سطورها، حسيت إن كل كلمة موجهة ليكِ ، حفظتها بقلبي قبل عيوني.
أطبقت أصابعها بين أصابعه بقوةٍ، كأنها تضمه، فاستقام بوقفته واقترب منها يردد بابتسامةٍ خبيثة:
_حاسس إنك مفتقدة الأمان في بعدي، فأيه رأيك تقربي؟
كانت مرحبة لما هو شعر به، فضمها إليه تستمد طاقتها الأمنه منه، رائحته، دفئه، تفتقد كل شيءٍ به.
تعلقت به بقوةٍ، وهمست بصوتٍ منخفض:
_وجودك جنبي بعد اليوم الصعب ده كان الخلاص ليا من العذاب اللي هشوفه يا علي، خايفة أحتاجك ومتكنش جنبي، أوعدني إنك مش هتسبني تاني.
أبعدها عنه وأحاط وجهها بيده فصرخت وهي تضم وجهها بألمٍ، أبعد يده وسألها بفضولٍ اعتلاه منذ أمس:
_اللي في وشك ده من أيه يا فاطمة؟
لعقت شفتيها بارتباكٍ، فقال بهدوءٍ:
_هنرجع للخوف تاني! عمرك ما هتلاقي حد يفهمك غيري يا فاطمة فمتتوقعيش إني ممكن أتضايق منك أبدًا.
ابتلعت ريقها الجاف وقالت بحرجٍ:
_مكنتش شايفة حد قدامي غيرهم يا علي، مكنتش سامعة عُمران ولا حاسة بيه، وبعد كده لما ابتديت أفوق كنت ببعده عني لدرجة اني جرحت وشه فأكيد الجرح اللي في وشي ده وهو بيحاول يسيطر عليا.
طوق رقبتها بيده وقربها إليه مجددًا، فتعلقت به بسعادةٍ كونه لم يتعمق بالحديث عما يحزنها، ووجدته يخبرها بحنان:
_عدت ومش هتتكرر تاني يا قلب علي!
*********
انتهى “آدهم” من وضع مقادير الكعك بالخلاط الكهربي، ومازال يتابع على شاشة اليوتيوب الطريقة، فأتى “آيوب” من خلفه يحمل ثلاثة صواني مستديرة، يسأله بجدية تامة:
_ها يا آدهم أيه يناسبك في دول؟
شمله بنظرة ساخرة، وصاح بتهكمٍ وهو يلقي الملعقة جانبًا:
_يعني فلحنا في مقادير التورتة عشان تطلعلنا في مقاس الصينية يا آيوب!
ضحك آيوب حتى أحمر وجهه، وردد بصعوبة بالحديث:
_أيه الاستسلام السريع ده يا حضرة الظابط؟
هز كتفيه بغيظٍ:
_أنا اللي مش فاهم اصراره الغريب إني أعمله تورته بنفسي!! كان زماني طلبتها من أي محل شيك وانتهينا!
جذب الملعقة وقال وهو يعيد الحاسوب مستكملًا الطريقة بدلًا منه:
_والدك بيحبك وبيتدلع عليك فيها أيه دي؟!
مال على الرخامة المربعة التي تتوسط مطبخه الضخم هامسًا بضيق:
_وإنت الصادق واخدني كوبري عشان يجيبك هنا كل يوم!
_بتقول حاجة يا آدهم!
تساءل آيوب بدهشةٍ، فسحب الحليب والكريم، ثم بدأ بالخفق ليصنع فوم كريمي لتزين قالب الكعك:
_كنت بقولك إنت اللي اديت رقمك لبابا وكل يوم والتاني قرفك معانا.
قلب المقادير على الدقيق وبدأ بالخفق، قائلًا :
_هتصدقني لو قولتلك اني اتعودت على مكالماته ولو اتاخر بتصل بيه أنا.
ابتسم آدهم وردد بسخرية مرحة:
_أيه قصة العشق الممنوع ده؟ لو الوضع واصل بينكم لكده هات هدومك وتعالى اقعد معاه.
تعالت ضحكاته بصخبٍ:
_كان هيحصل والله بس الحمد لله آديرا عملت حاجة صح في حياتها وحلت الموضوع بيني وبين الشيخ مهران.
رفع “آدهم” الملعقة يتذوق ما صنع وقال:
_كنت هاجي اصالحك عليه زي ما عملت معايا أنا وبابا، محلولة يعني.
شاكسه بضحكٍ:
_عينك للتقيلة يا حضرة الظابط.
وإتجه للفرن الساخن يضع الصينية به، وقال بتريثٍ:
_بتمنى انها تنجح!
ترك آدهم الكريمة وأشار له مازحًا:
_متقلقش أنا عامل حسابي.
سأله باستغراب:
_مش فاهم!
فتح آدهم احدى الخزانات وجذب عُلبة حلوي كبيرة، مغلفة بشريك أسود أنيق، وغمز له بمشاغبة:
_اتعلمت إن دايمًا يكون في حل بديل وخطة تانية استبن!
نزع المريول عنه بضيقٍ:
_يعني انت محتفظ بيها وسايبنا نجاهد هنا في سبيل الله!! وبالنسبة للمطبخ اللي اتبهدل ده مين هينضفه يا باشا عشان لو كده أخلع بدري بدري قبل الحفلة بتاعتكم دي.
فتح آدهم باب منظفة الاطباق وصاح متفاخرًا:
_متقلقش في دي.. هنلم كل البهدالة دي ونرميها فيها وبقدرة قادر هترجع بتلمع وفريش.
قهقه آيوب بصخبٍ وقال:
_طيب وبالنسبة لسجادة المطبخ اللي بهدلتها كلها دقيق هناخدها فومين ولا هنلفها كادو لوالدك!!!
زفر بمللٍ:
_خلاص يا آيوب مكنتش سجادة يعني!
أجابه بمرحٍ:
_عندك انت مجرد سجادة، لكن عنده هتبقى ثروة قومية، أصلك متعرفش اللي فيها، انا لما الحاجة رقية بتتعب وأدخل أنضف المطبخ مكانها والقى علبة حلاوة فاضية ولا برطمان مربى مكركبين المطبخ، فبذكائي كراجل بيكره الكراكيب وعدم التنسيق ألمهم وأرميهم في اقرب بسكت زبالة، تاني يوم بالظبط بقوم من نومي على طبلة صريخ يقطع الخلف وبعدها ممكن تفضل مقطعاني سنتين تلاته، لحد ما الشيخ مهران يتدخل ويروح يشتريلها علبتين حلاوة واربع برطمانات مربى ونقعد أنا وهو نأكلهم عافية لحد ما نرجعلها البرطمانات الفاضية!!
وتابع والاخر يتطلع له بصدمة:
_فمش قادر اتخيل رد فعلها لو كنت إنت اللي في بيتنا وبوظت السجادة بالمنظر ده، أقسم بالله محد كان هيعرف يخلصك منها حتى الشيخ مهران نفسه.
انفجر بنوبة من الضحك، فشاركه آيوب هو الاخر، ومصطفى الذي يجلس أمام المطبخ يراقبه دون أن يلفت الانتباه لوجوده.
أخرج آيوب قالب الكعك وتشاركا هو وآدهم بتزينة، وخرجوا معًا لمصطفى الذي قال بابتسامةٍ ملأها الحب:
_شكلكم فلحتوا.
أجابه آيوب مؤكدًا:
_الريحة وسمك الكيك وكل شيء يدل على ذلك فاضل الطعم بس يا ولدي العزيز.
رد عليه وهو يتعمق بالنظر إليه:
_ولو وحشة ومعجنة هأكلها بردو، اديني حتة يا آيوب.
جذب السكين وقطع قطعة مثلثية الشكل ثم قدمها إليه، فتناولها منه بامتنان، بينما اكتفى آدهم بمراقبتهما، فرفع له آيوب طبقًا قائلًا باستهزاءٍ:
_انت مستني حد يعزم عليك ولا أيه يا آدهم.
مال عليه يهمس بضحك:
_لا وانت الصادق خايف أكلها وأجري على الانعاش، المفروض إني عريس وداخل على جواز وكده واخد بالك؟
غمس شوكته بقطعة صغيرة، مدها لآدهم فتناولها بابتسامة هادئة، وأشار باعجاب:
_شكل في شيف مدفون جواك يا آيوب.
ضحك وكاد بأن يشاكسه ولكنه وجد هاتفه يعلو رنينه، وضع الطبق من يده ثم حرر زر الاتصال يجيب:
_آيوه يا إيثان؟
أتاه صوته اللاهث:
_آيوب، الواد حمادة العجلاتي اتصل بيا من شوية وقالي إنه شاف معتز طالع العمارة عندكم، شكله عرف بقضية الخلع اللي انت رفعتها عليه وجاي لخديجة، والمصيبة إن يونس لسه في الشقة فوق منزلش الشغل، تعالى بسرعة شكلها هتبقى مجزرة!
برزت معالمه ارتباكًا ملحوظ، فهدر مصطفى بقلق:
_في حاجة يابني؟
دث هاتفه بجيب بنطاله الجينز، وقال وهو يجاهد لثبات ملامحه:
_مفيش يا والدي ده صاحبي مستنيني تحت البيت، لازم أمشي حالًا وأوعدك هجيلك مرة تانية.
ارتسم الحزن في مُقلتيه، ولكنه أومأ له دون أن يثير غضب آدهم:
_ماشي يا حبيبي، بس يا ريت تعملها وتيجي لوحدك من غيى ما اتصل بيك.
انحنى لمقعده وقبل رأسه باحترامٍ:
_أوعدك إني هجي من نفسي ومن غير مكالمتك.
تفحصه آدهم بنظرةٍ دقيقة، فوضع طبقه وجذب مفاتيح سيارته:
_يلا هوصلك.
لا يريد اقماع آدهم بالأمر، يكفيه ما فعله لأجله، فقال:
_خليك مع والدك يا آدهم، أنا هأخد تاكسي وهروح على طول.
تزايدت شكوكه حول تلك المكالمة التي درس بها انفعالاته جيدًا، فاتجه للخروج قائلًا باصرار:
_يلا يا آيوب، وعلى الطريق احكيلي اللي بتحاول تخبيه عني!
*******
تراجعت للخلف بذعرٍ حينما رأته يقف أمامها، أغلق معتز باب المنزل،واقترب منها وعينيه تشع بالكراهية والشر، سقطت عنها الحقيبة وتراجعت خديجة للخلف بهلعٍ، جسدها لم يتعافى بعد من تباعات ما تعرضت له على يد ذلك الذئب البشري، وها هو يشهر مخالبه أمامها مرة أخرى.
سابقًا كان ينتابها الضعف والقهر أمامه، بدون يونس كانت تشعر بأنها يتيمة، معدومة، وبوجوده بنفس المنزل التي تقبع به تشعر بقوةٍ غريبة.
لم تشعر باقترابه الا حينما جذب معصمها بقوةٍ، ليطلق سبابه الوضيع:
_بقى انتِ عايزة تخلعيني يا بنت ال***، ده أنا اللي معلمك تعمليها مع الكلب اللي كنتِ على ذمته، عايزة تعمليها فيا أنا!!
أبعدت يده بقوةٍ لا تعلم كيف افتعلتها:
_اللي بتتكلم عنه ده أرجل راجل أنا عرفته في حياتي كلها، الكلب ده هو اللي بيتشطر على واحدة ست وبيحاول يبينلها أد أيه هو راجل وهو ناقصله حجاب ويبقى واحدة ست.
هوى على وجهها بصفعةٍ جعلت الدماء تنسدل من جانب شفتيها، فلم تترك له أي فرصة للهجوم عليها، ودفعته بكل قوتها بعيدًا عنها، ثم ركضت تجاه باب الشقة تصرخ مستنجدة بجيران الطابق الذي تقطن به، حيث كان يضم كل طابق ثلاثة شُقَقٌ.
خرج الجيران مسرعين على صوت استغاثتها، فأحاطوا معتز بقوة قبل أن يصل لها، أشارت لها احد السيدات بالخروج من المبنى، لعلمهم بهمجية زوجها المعتادة بالمبنى.
عدلت خديجة نقابها على وجهها جيدًا، وهرولت للأسفل راكضة، فوجدت فارس بطريق صعوده للأعلى، صرخت به:
_فارس تعالى بسرعة.
ركض إليها الصغير فضمته إليها ووقفت توزع بصره بين الدرج السفلي والعلوي بحيرةٍ، إن هبطت للأسفل سيلحق بها على الفور وستعرض الشيخ مهران وزوجته الحاجة رقية لمشاكلٍ لا غنى عنها.
تعلقت عينيها ببابه الموصود، فتحرك جسدها دون ارادة منها إليه، تطرق بابه بعنفٍ وتارة تدق الجرس، وما أن فُتح بابه ليرى القادم حتى دفعته وولجت بصغيرها للداخل مغلقة الباب وجسدها ينتفض برعبٍ بينما تراقب العين السحرية بالباب.
اندهش يُونس من فعلتها، كيف تجرأ على الصعود لشقته ودفعه بتلك الطريقة، وفوق كل ذلك لم تبرر تقف وتراقب الطريق بجراءةٍ جعلته يهدر بغضبٍ:
_إنتِ مبتفهميش مش أنا سبق وقولتلك مش عايز أشوف خلقتك تاني! طالعلي وداخلة شقتي بمنتهى البجاحة!!
استدارت تجاهه وأنفاسها الهادرة تجعل صدرها يعلو ويهبط دون توقف، وبتوسلٍ قالت:
_شوية وهطلع بس من فضلك وطي صوتك.
شملها بنظرة مستحقرة وصاح بانفعالٍ:
_أنا اعمل اللي انا عايزه، مش مستني أخد أوامر من واحدة رخيصة زيك، وحالًا هتطلعي من شقتي ومن بيتي كله.
وأشار عليها بكرهٍ شديد:
_أوعي تفكري إن أسلوبك ووشك القذر ده هتقدري تخدعيني من تاني زي ما عملتي مع ابن عمي والشيخ مهران، يونس الأهبل اللي كنتي تعرفيه الله يرحمه، اللي قدامك أسوء إنسان ممكن تقابليه في حياتك.
اقتربت منه ووقفت بمسافة معقولة منه، قائلة ببكاءٍ لمع بعينيها وصوتها المتحشرج:
_يُونس اللي حبيته مماتش، موجود جواك حتى لو بتحاول تدفنه ومتعترفش بوجوده أنا قادرة أحس بيه وأشوفه.
تهدلت شفتيه بسخرية، وشملها بنظرة جابتها من رأسها لأخمص قدميها، ومال يهمس لها حتى لا يستمع فارس لما سيقول:
_مستعد أكون هو لو مفتقداه أوي كده ، ومتقلقيش سرك هيفضل في بير ميرضنيش أخرب جوازتك من الآريل اللي متجوازه.
برقت بعينيها بصدمةٍ جعلتها تشعر وكأن روحها قد سُلبت منها عنوة، انهمرت دموعها وبصعوبة رددت:
_أيه اللي بتقوله ده؟!
_حقيقتك!
قالها بقوةٍ وصلابة، وتابع:
_حقيقتك اللي مكنتش قادر أشوفها، مهو مش معقول واحدة محترمة جوزها دخل السجن ترفع عليه قضية خلع وبعد عدتها بيوم ترتبط بواحد تاني الا لو كانت مقضياها معاه من قبل جوازها وكانت مستنية الطريق يخلى ليه، أو يمكن هي اللي عملت فيه كده وساعدت عشيقها في خطته الوضيعة عشان تخلص من جوزها المغفل.
هزت رأسها تنفي بشراسة ما يوجهه لها، فتابع بهدوءٍ مخيف:
_اسمعي اللي فات اتدفن ولو اتفتح دلوقتي مش هتخرجي من هنا على رجلك، فخدي ابنك واتفضلي من هنا.
بقيت محلها دون أن يهتز لها جفن وقالت:
_مهما حاولت تبين كرهك ليا، عمرك ما هتنجح يا يونس، إنت لسه بتحبني وآ..
صرخ بجنونٍ وعصبية بالغة:
_كنت بس وحياة كل نبضة نبضها قلبي ليكِ لأخد حق كل يوم قضيته وأنا مخلص لحبك، أقسملك إني هكسر قلبك زي ما كسرتي قلبي، وهدفن جواه حبك الأعمى.. هزله بكل دقة دقها لواحدة رخيصة وخاينة زيك!
وتابع وعينيه لا تحيل عنها:
_هدفن اللين والرأفة اللي جوايا ومش هيكون عندي ليكي غير جبروت وقسوة وكره… هنتقم للأيام اللي قضيتها بين أربع حيطان عاجز وموجوع من اللي عملتيه..
وفتح باب شقته صارخًا بغضب:
_اطلعي من هنا ومتورنيش وشك تاني لا انتي ولا ابنك!
هرعت راكضة تغلق الباب وتتخفى خلفه برهبةٍ، فتعالت شهقات بكائها الواصل لإذنيه رغم أن ملامحها مختبئة خلف نقابها الأسود، ويدها تضم صغيرها المتمسك بساقيها برعبٍ من خوض تلك الأحداث المضطربة، تحرر صوتها أخيرًا تتوسل له باكية:
_أبوس إيدك متخرجنيش دلوقتي..أوعدك إني هخرج من حياتك ومش هضايقك تاني لا أنا ولا ابني بس استنى لما معتز يمشي من العمارة وهخرج على طول.. لو شافني هنا هيأذيني!
ابتسامة ساخرة تسللت على شفتيه، فطوفها بنظرةٍ مستحقرة جابتها من رأسها حتى أخمص قدميها.
تراجعت للحائط من خلفها وهي تبتلع ريقها برعبٍ من نظراته الغامضة، فانحنى بقامته الطويلة ليصل إليها وحرر صوته المبحوح من فرط صراخه بها:
_ولو قتلك تفتكري هيفرق معايا!
وجذب ذراعها واتجه ليفتح بابه فترجته باكية وهي تضم صغيرها إليها:
_بالله عليك وحياة أغلى حاجة عندك!
استدار لها ويده تشدد حول معصمها بقوةٍ جعلتها تتأوه ألمًا، بينما يهتف هو بجمودٍ:
_ماتت.. أغلى حاجة في حياتي ماتت واندفنت ومبقاش ليها رجوع تاني.
وانهى كلماته وهو يدفعها خارج شقته، يطالعها بنظرة حملت كره وحقد لم تتوقعه يومًا، فاحتضنها صغيرها وهو يبكي بانهيارٍ بين ذراعيها وانتقل كل شعورٍ بالحب تجاه يُونس داخل الصغير إلى كره شديد لما يتسبب به لوالدته، فتركها أرضًا واندفع تجاه ذاك العملاق يسدد له ركلات بساقيه الصغيرة وهو يصرخ بها ببكاء:
_أنت وحش وحش.. أنا بكرهك!
_أخر حاجة كنت أتوقعها انك جوه عنده يا بنت ال***
صوتًا صاخبًا اقتحم مشهدهم جعلها تنتفض برقدتها، فدفعت جسدها الهزيل للخلف وهي تتطلع لمن يهبط الدرج مسرعًا حينما تسلل له صوت الطفل.
جحظت عينيها صدمة وخاصة حينما جذبها من حجابها بقوةٍ جعلت نقابها يرتخي عن وجهها وصرخ بها باستحقارٍ:
_عشان كده مكنتيش عايزة ترجعيلي واتجرأتي ورفعتي قضية خلع عليا!! وديني لاقتلك يا فاجرة.
صرخت وهي تحاول تفادي ضرباته القاسية، تصرخ بكل ما فيها عسى ذاك أن يتحرك ذلك القاسي لنجدتها، ولكنها لم ترى بعينيه سوى نظرة مستمتعة لما يقع عليها، ويده تلتف على صغيرها الذي يجاهد لنجدتها من ذلك المتوحش مرددًا ببكاء:
_ماما… ماماااا.
ورفع الصغير وجهه إليه يتوسل له:
_ابعده عنها أرجوك!
انحنى بقامته الطويلة ليكون على نفس مستوى الصغير، أحاط وجهه بيديه معًا ومسد على شعره بحنانٍ وهو يخبره:
_صدقني متستاهلش حبك وخوفك عليها… مامتك دي حرباية هتعرف تخلص نفسها وتتلون للون اللي هيرضيه!!
وانتصب بوقفته يطالعها بنظرة أخيرة قبل أن يجذبه عنوةٍ ويتجه به لشقته تاركها تعافر بقوةٍ، حتى ارتخى جسدها على الدرج ومع ذلك لم يرحمها، حرر حزامه الجلدي ليلقنها ضربات قاتلة جعلت الأخير يحارب لأن يغلق بابه وهو يرى ما يفعله ذلك الآرعن، مقيدًا داخله غضبه العظيم ومطالبة عاجلة للقصاص لما فعله به، يحاول بكافة السبل أن يجعلها تثق بأن حبها قد قُتل داخله.
نظرة عينيها الواثقة بأنه سيهرع لنجدتها قيدته بقسوةٍ ليريها كيف يكون الخذلان؟ يريدها أن تذق القليل مما جعلته يتناوله، ولكنها لم تكن لتشاهد ما حدث له ولقلبه المسكين، صرخاته الصاخبة ليلًا باسمها، تواسلاته المتكررة أن لا تترك يده وتتحلى بالصبر حتى يحرر الأغلال عن يده، فأتته بطعنةٍ أكثر من سابقتها حينما علم بأمر زواجها منه.
كل ليلة قضاها يتخيلها بين ذراعيه بفراش ذلك الحقير كان يموت ألف مرةٍ، لدرجة جعلته يدعو بكل صلاة أن يقبض الله روحه المعذبة، وها هي الآن قابعة بين ذراع جلادها الذي فضلته عليه هو، قهرته وانتزعت رجولته دون رحمة، والآن حان وقت الخلاص لروحه وقلبه المتعبان!
أغلقت عينيها تستعد لمصيرٍ قاسٍ، وقبل أن تطولها أول ضربة من حزامه تفاجئت بأحدٍ يمسك الحزام بقوة، ويسدد له ضربة بعصاه الغليظة، تطلعت بصدمة لمن يقف خلفه، فرددت ببكاءٍ خافت:
_شيخ مهران!
حانت من ذاك الشيخ الموقر نظرة تجاه من يقف أمام باب شقته يتابع ما يحدث بجمود، فاتجه بعصاه العتيقة ليقف قبالته يحدجه بنظرة قاتلة وبخشونة قال:
_يا خسارة تربيتي فيك! أخر حاجة كنت أتوقعها إنك تقف تتفرج ببرود على واحدة ست عاجزة تدافع عن نفسها.
عاتبه بنظرة مطولة وقال يذكره:
_أدافع عن دي!!!!! انت ناسي اللي عملته فيا.. دي أخر واحدة ممكن أدافع عنها، أنا لولا أخلاقي اللي بتتكلم عنها كنت أنا اللي عملت فيها كده مش هو.
قاطعه بطرق عصاه أرضًا صارخًا بعصبية بالغة:
_يُونــس!!
ابتلع كلماته بجوفه وتحلى بالصمت، نهض معتز عن الارض بغيظٍ مما فعله هذا العجوز الكهل، فانحنى يحمل عصاه الملقاة أرضًا واتجه إليه ليبرحه ضربًا، وما كاد برفعها حتى وجد ثقل جاسم فوق طرفها.
استدار للخلف ليتقابل مع نظرات يُونس المحتقنة، حرر وحشه المعقود بسلساله مطالبًا بالثائر للماضي والحاضر والمستقبل الذي سيحمل وصمة ذلك الحقير بذكرياته.
ألقى يونس العصا أرضًا وقابله بلكمةٍ قاسية أطاحته أرضًا، فلم يترك له فرصة المناص من شراسته، جلس بركبتيه عليه وسدد له لكمات متفرقة استهدفت وجهه بأكمله وهو يصرخ به بجنون ودون وعي لما يتفوه به:
_بتتشطر على الحريم يابن ال***، جيت لقضاك برجليك يا ****، اللي عملته كوم واللي كنت هتعمله في عمي كوم تاني يا حقير، وأقسم بالله لتخرج منها على نقالة.
قال كلماته الاخيرة وقد جذبه ليقف قبالته عنوة، يخرج كل ما كبت داخله، ويحركه بعصبية مفرطة:
_دافع عن نفسك يا سبع الرجال ولا خلاص لسانك اتقطع!!
سقط جسد معتز أرضًا في حالة من عدم اللاوعي، ومازالت خديجة تجلس على أول درجات الدرج العلوي تضم ابنها وتتابع ما يحدث بابتسامة واسعة، رلما كانت تخشى ذلك المشهد كثيرًا، ولكن بمجرد رؤية ما يحدث لزوجها المعتوه شُفيت جروحها بأكملها، أيامًا وسنوات مضت عليها تختبر بها شعور العجز أمام قوته التي يتباهى بها، وقد أتى يونس يحطم له غروره وكبريائه الزائف.
ابتسم الشيخ مهران وهو يرى غيرته وغضبه الجحيمي، يعلم جيدًا بأنه كان يتحجج ليدافع عنها وحجته قد أتت له على طبقٍ من ذهب، ضربه المبرح لمعتز لم يكن طبيعيًا، أول جملة تحررت على لسانه ذاكرًا ضربه للنساء برهنت سبب غضبه الحقيقي، ولكن الآن عليه التدخل سريعًا والا سيقتله.
أسرع إليه وحاول ابعده من فوق جسد معتز، هادرًا بصرامة:
_خلاص يا يونس، سيبه.
فشل بالفصل بينهما، او حتى باقناع يونس بتركه، كان لا يرى أمامه من فرط النيران التي تلتهمه فتركها تشعل غريمه بحقد دافين.
*******
بالأسفل وخاصة بمطبخ شقة الشيخ مهران.
جلست الحاجة رقية تطوي الأرز بالرقائق، لتصنع أصابع من (المحشي) ، ومن ثم تضعها بالوعاء أمامها، مرددة مع صوت الشيخ “محمد رفعت” لتراجع وردها خشية من أن تنسى حفظها للقرآن الكريم.
_حجة ركيا (حاجة رقية)
اقتحم مطبخها المفعم بصوت القرآن المرتفع صوت نداء مضحك من آديرا التي تتابعها بمللٍ، فأخفضت المذياع الصغير الموضوع على الطاولة جوارها، مدمدة باستهزاءٍ:
_ركيا!! الله يسامحك يا آيوب يابني، أنا كنت ناقصة فقعة مرارة!
وتطلعت لها تشير وهي تجتهد لتجعلها تفهم ما تقول:
_عايزة حاجة؟
عبست بضجرٍ وقالت بعربية مضحكة:
_أنا عاوز يخرج!
ضحكت رغمًا عنها على نبرتها وهمست:
_والله كلامك زي السكر وشكلي كده هحبك يابت، بس لو ربنا هداكي وبقيتي على الصراط المستقيم وفكيتك من حوار يـ. ـهودية دي هحبك بضمير.
رفعت كتفيها بضيق:
_أنا لا أفهم ما تقولينه؟
ورددت بصعوبة جعلتها تشعر بالضيق:
_الشيخ مهران راحت فين؟
قهقهت ضاحكة حتى احمر، وجهها الممتلىء، ورددت بضحكات مجلجلة:
_يخيبك ده لو سمعك هيروح فيها!
وحاولت التمسك قائلة بلومٍ:
_لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم، طيب دي أتكلم معاها ازاي دي يا ربي، هو أنا فالحة في العربي لما يجيبولي اجبنية!
وجذبت المنشفة تزيح بقايا الطعام عنها وهي تخبرها:
_استني أما انادي البت خديجة تيجي تترجملك لحسن أنا ضغطي عالي وعندي القولون ملتهب..
وتركت المطبخ واتجهت لغرفتها تتمتم بضيق:
_والله أنا مش عارفة هأكلها أيه خايفة اديها محشي كرومب تروح فيها وأتسجن أنا! أبقى أعملها دقية ورق عنب اهو خفيف وهيتهضم معاها مع صاروخ حاجة ساقعة هتبقى زي الفل بإذن الله.
فتحت باب غرفتها وهي تصيح:
_الله يسامحك يا آيوب يابن بطني!
ورددت تنادي فور رؤية الفراش فارغًا:
_خديجــــــة، تعالي يا بنتي شوفي الخواجاية دي عايزة ايه لحسن دماغي وجعتني!
لم تجدها حتى بالحمام الملحق بالغرفة، فأسرعت للغرف بأكملها بقلقٍ توغل لها، وخاصة حينما تسلل لها صوت صرخات تأتي من الاعلى.
جذبت حجابها الاسود الطويل وارتدته، ثم خرجت باتجاه الدرج، فتفاجئت بآيوب وصديقه يهرعان للأعلى، أوقفته تسأله بخوف:
_في أيه يا آيوب؟
ربت على كفها وهو يركض للاعلى:
_مفيش يا ماما، خليكي جوه متطلعيش.
وتركها حائرة وأكمل طريقه للأعلى راكضًا ومن خلفه آدهم، ليتفاجئوا معًا بيونس الذي يلف ذراعه حول رقبة معتز المستسلم للموت بعد معاناة بالدفاع عن نفسه للفكاك من يد ذلك الشرس.
كان آدهم الأسرع من آيوب باستيعاب الأمر، وجذب يُونس للخلف بقوة أحكمت سطوتها عليه، حاول المناص منه وهو يصرخ بانفعال:
_سني هموته عشان ناري تبرد… هأخد حقي بدراعي!
صاح آدهم بعصبية بالغة وهو يقيد ذراعيه خلف ظهره بتحكمٍ:
_حقك هيرجعلك أنا وعدتك يا يونس!
ردد بغضب جحيمي:
_أنا مش هطاطي قدامه تاني، هقتله يعني هقتله.. مش عايزك ترجعلي حقي يا باشا أنا اللي هرجعه وبدراعي.
وقف آيوب في مواجهته يردد باندفاع:
_يُونس آنت مش قتال قتلة فوووق من الجنان ده، خلاص حقك هتاخده بالقانون مش بالطريقة دي!
وتابع بهدوء يحاول التمسك به:
_صدقني لو عملتها وايدك طالتها الندم مش هتعرف تعيش ولا هتتقبل اللي إنت عملته، فوق يا يُونس احنا مش شبهه ولا دي تربيتنا يابن عمي!
أثرت كلمات آيوب به، فهدأ تدريجيًا، وصل ايثان للأعلى واندفع تجاه يونس يتساءل وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة:
_في أيه يا يونس، الكلب ده عملك حاجة؟
استغل معتز وقوف إيثان وآيوب أمام أعين يونس وآدهم والشيخ مهران، واستـل من جيبه سكيـ.ـنه الصغير المطوي، حرره ونظراته الشريرة تحيط جسد يونس المقيد بفعل قوة ذراعي آدهم القوي.
كان هدفه محدود وملقن، ولا أحدٌ يرى استقامة جلسته وهمه بالوقوف والتقدم تجاهه سوى تلك الجالسة من خلفه على الدرج.
أبعدت خديجة ابنها عن احضانها وانفلتت دموعها دون أي حديثًا يذكر، نهضت تحتمل على وجع جسدها بصعوبة، ولا تعلم كيف تجسدت قوتها المهدورة إليها، فهرعت راكضة تلقي ذاتها من أمامه لتكن درعًا واقي لصدره المستهدف، تتعلق برقبته بقوة وصرختها تعلو ناطقة بإسمه بجنون:
_يُــــــــــــونـس!!
إلتحم خنجره بظهرها بسرعة الريح، وقلبه العاشق طاله النصل قبل أن يطولها، تعلقت عينيه بها ولسانه يهمس بحروفٍ قرأتها باستمتاعٍ وحب:
_خديجـة!!!
منحته ابتسامة ونظرة لمع بها حبه الصريح، واستسلمت ركبتها لتعانق الأرض أسفل قدميه.
ذُهل الجميع مما يحدث، وكل شيء يحدث بسرعة لا يستعبها أي منهم، ترك آدهم يونس الذي سقط أرضًا جوارها، وأسرع تجاه معتز يقيد حركته بركبته التي تضعط على ظهره ويديه تتقيد من خلفه.
تعالى صراخ الحاجة رقية بجنون فور رؤيتها لخديجة تجلس أرضًا على ركبتها والدماء تنهمر من ظهرها بغزارةٍ.
أخرج ايثان هاتفه يطلب الاسعاف بعدما صرخ به آيوب، أما يونس فقبض على كفها وعينيه الدامعتان تراقبها كأنه يرطم ذاته لتقبل ما فعلته وأصابها.
تمسكت خديجة بكفه ورفعت وجهها إليه تهمس بروحٍ تزهق انفاسها الأخيرة:
_أنا بريئة يا يونس… والله العظيم ما خونتك ولا عملت كده آآآه….آآنا…. آنااااأ……
ابتلعت كلماتها بصرخة كتمتها بجوفها، فاستقام بجلسته يرفع ذراعيه في محاولة لضمها إليه،ولكنه توقف بعجز أمام حقيقة كونها محرمة عليه.
أجلى صوته الباكي بثبات يجاهد له رغم انهمار دموعه على وجنته:
_ليه عملتي كده؟ أنا كده كده ميت ضربته مش هتقصر فيا.
هزت رأسها ويدها تكبت جنبها النازف، ناطقة بأنفاسٍ متحشرجة:
_أنا اللي هموت يا يونس! مكنش عندي أي دليل يأكدلي إنك عايش، كنت عايشة ميتة من غيرك فمستحيل هرجع للأيام دي تاني وآ….. آآآه.
ترجتها الحاجة رقية وهي تحاول ان تساندها:
_اسكتي يا بنتي انتي تعبانه اسكتي.
مسكت خديجة يد يونس وتابعت لتبرأ نفسها قبل أن تلقي حتفها، بينما الاخير يراقب جرحها الذي يزداد نزيفه بوجعٍ يتلخص بقطرات دموعه المنهمرة، ليفق على كف يدها ورجائها بأن يستمع لحديثها.
قاطعهم إيثان هادرًا بلهفة:
_الاسعاف وصلت.
صرخ آيوب بيونس:
_ساعدها يا يونس مفيش وقت!
أبعد يونس زوجة عمه وحملها سريعًا متجهًا للأسفل، بينما أمسك الشيخ مهران فارس قبل لحاقه بهم،وصراخه الباكي يمزق القلوب.
مالت خديجة على صدره، صرخاتها تخترقه مستهدفة قلبه دون عوائق، يدها مازالت تلتف حول رقبته، همسها يصل له فيويد من بكائه وألمه:
_مش إنت لوحدك اللي كنت في السجن يا يونس، أنا كمان كنت عايشة في سجن، أنا كمان اتظلمت واتهانت أنوثتي على ايد كلب عرف ازاي يجبرني إني أبعد عنك ويعيشني عنده زي الجواري.
ورفعت وجهها الثقيل إليه لتتمكن من رؤية عينيه لمرتها الاخيرة فوجدته يبكي ويقول برجاء:
_كفايا، كلامك هيتعبك أكتر، عشان خاطري اسكتي يا خديجة.
هزت رأسها نافية وبابتسامة شملت معنى مبطن من الوجع قالت:
_كان بيعتـ.ـدي عليا يا يُونس! كان بيستمتع لما بيلاقيني بصرخ وبطلب منه الرحمة!
تهدل رأسها للخلف وأخر ما رددته:
_قتلـ.ـني يا يُونس!!
ارتخى ذراعيه فاستند بها على حائط الدرج، وانهار باكيًا بصوتٍ يصمم الآذان، يشعر بأنه يفقد قوته حتى بحملها رغم وزنها الذي بات هزيلًا للغاية، هبط آيوب من خلفه يتأمل حالتها الغريبة بدهشة، فصرخ به:
_انت لسه هنا! هتمـ.ـوت في ايدك يا يونس، انزل بسرعة!
استيقظت قوته المهدورة، استعاد عقله بعد جملته، روحه سيخسرها إن حدث لها سوءًا، ضربته كلماتها في مقتل فنهشت المتبقى به، ود لو تركها لآيوب وصعد ينهش لحم هذا المقيت نهشًا.
ضمها يُونس إليه واستكمل الدرج الاخير، فاستقبله رجال الاسعاف بالسرير المتحرك، وضعها من فوقه وحزموا الاحزمة من فوقها ومن ثم دفعوها للأعلى.
وقف يونس عاجزًا، يتطلع تجاه مدخل البناية بعزيمة العودة وقتل ذلك المتبجح وبينها، فإذا بها ترفع رأسها إليه وتفرد ذراعها مشيرة له بعدم تركها.
صعد يونس من خلفهما، وإتجه يجلس جوار الفراش الرفيع الذي يتوسط سيارة الاسعاف، تحركت بهم على الفور والمسعفان يحاولان تقديم الاسعافات الاولية لايقاف النزيف ومنحها قناع الاكسجين الذي رفضته رفضًا قاطع، ومالت بوجهها ليونس تجاهد لنطق الكلمات الثقيلة عنها فلقد ازداد وجعها عن سابق وفقدت كل قوتها:
_يُـ.. و… نـس.
مال إليه باكيًا:
_حطي المسك يا خديجة، بعدين هنتكلم في كل حاجة يا ست البنات!
ابتسمت بتعبٍ مرهق، وهمست له:
_وحشتني الكلمة دي.
سعلت بقوةٍ موحشة، فانحنى بقدميه أرضًا يتشبث بكفها برعبٍ، وتوسل لها:
_خليكِ قوية عشاني، أنا مش حمل كسر تاني يا خديجة، اتكسرت في بعدك والمرادي مش هيكونلي قومة.
وقبل كفها ببكاء:
_قومي عشان خاطري.
أطبقت على كفه وعينيها تجاهد الظلام الذي يبتلعها، فأسرع المسعف ليضع قناع الاكسجين لها، ليتفاجئ بحركة يدها الضعيفة تبعده عن وجهها ومالت ليونس تهمس له:
_فارس.
ظنها توصيه على ابنها فأسرع بنطق:
_متقلقيش فارس معانا مش هسمح إن الكلب ده يقرب منه وآ…
_ابنك! ….. فارس ابنك يا يُونس!
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية صرخات أنثى)
ok
حلو
great
حلو جدا
عظيم
عظيمه
رائعه
جميله جدا
شيقه
ممتعه
جميل
ممتاز
حلو جدا جدا
روايه حلوه
ف الانتظار