رواية صرخات أنثى الفصل السابع والأربعون 47 بقلم آية محمد رفعت
رواية صرخات أنثى الجزء السابع والأربعون
رواية صرخات أنثى البارت السابع والأربعون
رواية صرخات أنثى الحلقة السابعة والأربعون
لم يخرس لسانه الطويل أحدٌ يومًا، لطالما كان طويل اللسان، وقحًا، متفننًا بردوده الباردة، ولكن ما نطقت به “آشرقت” جعلته يبرق لها بصمتٍ تام، لا يتقن حتى برسم بسمة زائفة على وجهه..
مازالت “فريدة” تقدم سلامها لجمال قبل أن تلحق بابنها، فولجت برفقته للداخل لتصل بالقرب من الفراش، فمدت يدها إليها وبرقةٍ رددت:
_حمدلله على سلامتك أشرقت هانم.
لوت شفتيها بتهكمٍ، ورددت بصوتٍ لم يكن مسموع الا لعُمران الجالس لجوارها على الفراش بصدمته المطولة:
_هانم!! باينها بنت ذوات!
ورفعت من صوتها تجيبها بنزقٍ:
_الله يسلمك.. مكنش له داعي تتعبي نفسك وتيجي معاه.. واجبك وصل!
اندهشت فريدة من طريقتها الغريبة معها ولكنها لم تعلق، حتى جمال طاله جزءًا من الدهشة والذهول من طريقة تعامل والدته الذي يشهده لأول مرة، فتنحنح يشير لفريدة بحرجٍ:
_اتفضلي يا فريدة هانم.
هزت رأسها بخفة وإتبعت اشارته فجلست على المقعد القريب من عُمران، فتدحرجت أشرقت لطرف الفراش وهي تسحب عُمران خلفها هامسة بحنقٍ:
_أيه الجراءة وقلة الأدب دي، لزقة في الواد قدامنا من غير خشى!
ازداد جحوظ أعين عُمران بشكلٍ مخيف، وكأنه ابتلع الكلمات وعلقت بفمه، استدعت حالته نظر جمال وفريدة التي كانت أول من تساءلت:
_مالك يا حبيبي إنت كويس؟
هز رأسه ومازال صامتًا، ليأتيه همس أشرقت:
_حبك برص يا بعيدة سيبي الواد لمراته ولفي على حد غيره!
سعل عُمران بقوةٍ وكأنه يلفظ أنفاسه الاخيرة، فأسرع جمال إليه بزجاجة مياه مرددًا بقلقٍ:
_إنت مالك النهاردة؟
هز كتفيه اجابه عدم علمه بشيءٍ لما يحدث معه، فوجد أشرقت تميل عليه وتهمس له بحزنٍ:
_يا ابني أنا بحبك وبعزك زي جمال ابني متخليش العقربة دي تخرب حياتك، ده جمال لسه مفرحني بخبر حمل مراتك ويعلم ربنا فرحتلك من قلبي.
وتابعت وهي تعود لنظراتها المتفحصة بنظرةٍ تقيمية:
_هي صحيح حلوة وعينها زرقة، بس والله الجمال ما كل شيء، مراتك بردو جميلة وطيبة وبتحبك والله.
استجمع شجاعته الهادرة، وحشد بحة صوته الهادرة ليهمس لها بصوتٍ يُسمع بالكد:
_دي فريدة هانم!
تشدقت بنزقٍ:
_هانم على نفسها يا أخويا، النوع ده مبيتسماش عليه غير عقربة وخرابة بيوت!
ابتلع ريقه بارتباكٍ وتمنى أن لا يكون حوارهما مسموع لوالدته، فردد بصعوبة بالحديث:
_فريدة هانم أمي!
جحظت عينيها بصدمة وعدم استيعاب جعلته يزيد من توضيح الأمور عساها تفهم ما يخبرها به:
_ يعني لا تجوز ليا بأي شكل من الأشكال!
ازدادت صدمتها وانتقلت حالة عُمران إليها، رمش عُمران بشكلٍ مضحك وتابع بجدية مضحكة:
_أنا بحاول من ساعتها أقولك بس خايف عليكي، إنتي مهما كان لسه خارجة من عمليات!
تعلقت عينيها بفريدة التي بدأت تلاحظ ما يحدث بينهما، وعادت تتطلع لعُمران متسائلة بصوتٍ يجاهد للخروج:
_متأكد إنها أمك؟!
سؤالًا لا يجده منطقيًا من جميع الزوايا ولكنه أسرع بهز رأسه اجابة لها، فعادت بنظراتها إليها ولسؤاله مجددًا:
_عندها كام سنة؟
ابتلع ريقه بتوترٍ من تعابيرها التي لا تبشر:
_٤٣ سنة.
اتسعت مُقلتيها صدمة فاشارت إليها باستنكارٍ:
_دي ٤٣!!! دي أصغر منك إنت شخصيًا!
أخفض ذراعها واحتضنها سريعًا ليخفي ما يحدث عن والدته حتى لا تنتبه لاشارتها وهمس لها:
_مش كده يا شوشو فريدة هانم هتأخد بالها، وبعدين انتي عندك فقدان ذاكرة ولا أيه؟ فاكرة لما كنت عندك وقولتلك إنها بتمشي البيت كله على نظام غذائي ومبتسحملناش نأكل أكل فيه دهون لذا بستفرض بأكلك كأني عايش في معتقل..
هزت رأسها بتذكر فأكد لها مجددًا:
_ده المعتقل بعينه اللي كنت بكلمك عنه بقى!
سألته بهمسٍ خافت:
_هي مخلفتش غيرك بس؟
نفى ذلك موضحًا:
_لا علي أخويا الكبير وفي شمس أصغر مني.
بصدمة أردفت:
_كمان!! هي لحقت تخلفكم أمته يابني!
ضحك بشدةٍ ومال لآذنيها يخبرها:
_اتجوزت قبل ما تكمل ال١٧ سنة.. احنا عندنا كده البنات بيجوزها صغيرين!
حدجته بنظرةٍ جامدة قبل أن تصدمه:
_ما أنا متجوزه عمك الحاج وأنا عندي ١٤سنة وقدامك أهو شبه برميل الطُرشي!
وتابعت بذهول وصدمة مستها قبل أن تطوله:
_وتاخد الكبيرة بقى أنا عندي ٤٢ سنه يعني أمك اللي قدامي دي المفروض إنها أكبر مني بسنة!!
وتعلقت عينيها بفريدة التي تتابعهما هي وجمال بذهول:
_طيب ازاي؟!!! دي مستحيل تكون حملت وولدت!! طب بذمتك ذي هتبقى جدة ازاي!
إلتفت عُمران للخلف يقيم والدته بنظرةٍ سريعة، وكأنه أول مرة يراها وقال:
_مش عارف!
هزت رأسها هي الاخرى:
_ولا انا!!!
وابتلعت ريقها بتوترٍ تخبره:
_بقولك أيه يا ابني إنت تبطل تخرج معاها عشان محدش يخوض في سيرتك والاحسن تشوفلها واد اين حلال وتجوزها.
ضحك بصوته كله وقال:
_هي فعلًا متجوزة عمي من كام شهر.
وأخرج هاتفه يقدمه لها قائلًا بمكرٍ:
_خدي شوفي صوره عشان تبقى صدمتك كاملة!
تناولت منه الهاتف تتفحص صورة أحمد الذي عاهدته شابًا يكبر ابنها بأعوامٍ بسيطة لشعيراته الييضاء القليلة التي تحاط بشاربه وشعره، فصدمها عُمران حينما أخبرها عمره الحقيقي، لذا قدمت له هاتفه قائلة بتعبٍ:
_كفايا كده عليا النهاردة.. انا حاسة إني قلبي هيقف وهيدخلوني العمليات تاني.
تعالت ضحكاته وقال بصعوبة بالحديث:
_ألف سلامه عليكي يا حبيبتي.
ومد يده لوالدته قائلًا:
_طيب نستأذن احنا بقى ونبقى نعدي عليكم وقت تاني.
أمسكت فريدة بكفه وودعتها ببسمة جميلة:
_فرصة سعيدة أشرقت هانم.
وخرجت من أمامها ومازالت أعينها تبتلعها بدهشةٍ، فما أن اوصلهما جمال للخارج وعاد لها حتى تمسكت بيديه وسألته بفزعٍ:
_البت دي تبقى أمه ولا بيضحك عليا عشان مبلغش مراته إنه ماشي على حل شعره!! قولي الحقيقة!
فهم الآن ما كان يخوضه عُمران من صدمات طاعنه، حُلت شفرات حالتهما الغريبة منذ لحظة ولوج فريدة، فتنحنح بخشونةٍ:
_فريدة هانم تبقى والدة عُمران ودكتور علي صاحب المركز ده.
لطمت صدرها بخفةٍ وتحلت بالصمت لساعة كاملة تفكر بالأمر، وجمال ينظف الغرفة ويتابعها بنظرة قلق إلى أن خرجت من قوقعة صمتها ونادته فأسرع إليها بلهفةٍ فوجدها تخبره بحزمٍ واصرار:
_اسمع أول ما انزل على مصر تكلمني دكتورة ريجيم وتحجزلي في جيم أنا مستحيل أقبل بالجسم المفشول ده لازم أبقى موزة وسمبتيك زي فريدة هانم دي هي مش أحسن مني!!
ومسكت ذقنها بحركة شعبية مردفة بخوفٍ:
_ده لو الحاج كان شافها كان رمى عليا يمين الطلاق!!!
كبت جمال ضحكاته وقال:
_جيم أيه يا ماما بعد عملية القلب دي!
أصرت بقولها:
_هلعب رياضة يعني هلعب محدش هيحوشني عن الوزن المثالي بعد النهاردة!!!
******
واجهت فريدة عُمران بسؤالها المباشر:
_هو في أيه؟ ليه Mamy Jamal باين عليها الانزعاج من زيارتنا؟
كبت ضحكته بسيطرة تامة، واستدار إليها:
_لسبب بسيط جدًا إنها كانت فاكراني بخون مايا وجايب عشقتي أعرفها عليها.
رمشت بصدمةٍ وهي تحاول استيعاب تلك الجملة الغير مرتبة، فتابع عُمران ساخرًا:
_مهو يا حضرتك تكسري قواعد الدايت بتاعتك يا تبطلي تخرجي معايا أنا أو علي خوفًا على سمعتنا!
توقفت عن المضي قدمًا واستدارت لتقابله، مردفة بحاجبٍ مرفوعًا:
_طيب علي أوكي لكن إنت والخوف على سمعتك من أمته؟
حك جبهته بحرجٍ، وبمزحٍ قال:
_عفى الله عما سلف يا فريدة هانم.
منحته ابتسامة جذابة وبحبٍ كبير قالت:
_أنا فرحانه بتغيرك وباللي بقيت عليه يا عُمران.. عارف أنا عمري ما أنسى اليوم اللي فضلت فيه جانبي.. كنت مذهولة ومش مستوعبة أن الشخص التقي ده هو نفسه عُمران ابني المشاكس.
ابتسم وهو ينحني يقبل كف يدها باحترامٍ، فربتت على خصلاته الطويلة بحنانٍ، وسرعان ما ابتعدت مردفة بمزحٍ:
_خليك بعيد عشان سمعتك يا بشمهندس.
انطلقت ضحكاته الرجولية بقوةٍ، وأشار لها بحركةٍ آرستقراطية راقت لها:
_فريدة هانم!
هزت رأسها بامتنانٍ وانطلقت تسبق خطاه حتى خرجت برفقته للاستقبال فتوقفت تخبره بمكرٍ:
_عُمران روح إنت لشركتك.. أنا هفضل بالمركز شوية.. عايزة أطلع على تصميم مكتبي وأشوف مايا نفذت اللي طلبته منها هي والفريق ولا لأ.
هز رأسه وقال:
_طيب يا حبيبتي لما تخلصي رني عليا وأنا هجي أوصلك.
ردت عليه ببسمة هادئة:
_متشغلش بالك بيا.. هبقى أكلم السواق أو أحمد.
فهم رغبتها بالعودة برفقة زوجها، فمنحها وقتها الخاص دون ان يضيق عليها، فطبع قبلة على رأسها وأردف:
_زي ما تحبي… خلي بالك من نفسك.
أومأت براسها بخفة، فارتدى عُمران نظارته السوداء واستدار لينطلق لسيارته فتفاجئ بصبا تدلف من باب المركز، وعلى ما يبدو بأنها كانت تتبعه برفقة فريدة التي تعرفت عليها فور رؤيتها، فقد سبق لها رؤيتها حينما كانت بزيارتها الاولى برفقة جمال يوم الوليمة التي أعدتها مايسان وفاطيما.
وجدته يرنو إليها، وما أن أصبح قبالتها وضع عينيه أرضًا وقال بابتسامةٍ مرحبة:
_مدام صبا أزيك؟
منحته ابتسامة صغيرة وقالت:
_أنا بخير الحمد لله.. دي فريدة هانم مش كده؟
هز رأسه وقال موضحًا:
_أيوه كنا فوق عند والدة جمال ولسه نازلين من شوية.
رن هاتفه فأطلع على اسم المتصل، فكان حسام سكرتيره الخاص فتنحنح هاتفًا:
_عن إذنك لازم أتحرك للشركة حالًا.
تنحت جانبًا وأجابته:
_اتفضل.
إتجه لسيارته قادها لشركته، وتبقت هي تتطلع عليه مرددة بحزنٍ:
_حتى أمه واقف يحضنها ويدلع فيها.. الشخص ده أيه!!
وتابعت صعودها للأعلى وعقلها شارد بالتفكير بمقارنتها حول رؤيته برفقة زوجته بالأمس وبما رأته الآن.
******
انتهى من مقابلة ادارة المشفى، ومر على زمائله بشوقٍ لأيام عمله بهذة المشفى، فإذا بهاتفه يزف له مكالمة معشوقته.
جلس علي بالاستراحة الجانبية وحرر زر الاجابة مرددًا بابتسامةٍ مشرقة:
_صباح السعادة والجمال على أجمل قمر طل من لحظة ما فتح عيونه يستقبل نهاره!
وصل له صوت ضحكتها، وقالت على استحياء:
_وحشتني يا علي.
أغلق عينيه بقوةٍ وهمس:
_الرأفة بقلب علي المسكين!
وتابع معاتبًا:
_هو أنا يعني كان لازم أسافر عشان أسمع منك الكلام اللي يوقع القلب ده!
_أنا بحس إني مراهق لأول مرة يا فطيمة!
المشاعر اللي معشتهاش في مراهقتي وكنت بحس إني مختلف ومش طبيعي زي باقي الشباب جيتي إنتِ وأقمتيها حرب عليا وعلى كل مشاعر اتدفنت جوايا!
سماعه لصوت أنفاسها العالية كفيل بجعله يتخيل مظهرها والخجل يكتسح ملامحها، فابتسم وقال:
_سكتي ليه يا قلب علي؟
تنحنحت بخفوت:
_بسمعك!
تقبل خجلها بصدرٍ رحب وأبدل حديثه:
_إنتِ فين؟
ردت عليه:
_أنا تحت بستنى زينب بتلبس ونازلة، أصل أنكل أحمد أصر يوصلنا في طريقه.. هي للجامعة وأنا للشركة.
سألها بدهشةٍ:
_ومايا فين؟
وصل له صوت ضحكتها وطربته بصوتها الخجول:
_أصل عُمران منعها تنزل الشركة تاني.
=ليه؟
_آآ.. أصلها أغمى عليها امبارح وأخدها عملها تحاليل فطلعت حامل.
بفرحةٍ كبيرة تساءل:
_بجد؟
أكدت عليه وهو تلهو بحقيبتها بخجلٍ:
_آه.. فرحتلها أوي.. البيت كله سعيد بالخبر ده وبالأخص فريدة هانم.
ابتسم وهو يهمس لها بصوتٍ أربكها:
_عقبالك ما قلب علي.. ساعتها فرحتي هتكتمل.
تنحنحت وأسرعت تخبره بارتباكٍ:
_زينب نزلت.. يلا سلام.
ولم تنتظر سماع وداعه لها وأغلقت سريعًا، فتعالت ضحكاته وهو يراقب شاشة هاتفه باستمتاعٍ، فبحث عن رقم شقيقه وحرر اتصاله ليباركه بذاته فأتاه صوته المتلهف يخبره:
_علي حبيبي وحشتني أوي.. كنت لسه حالًا هطلبك عشان أفرحك.. أخوك هيبقى أب وهتبقى أنت عمو علي.. جهز نفسك يا دكتور!
انطلقت ضحكاته الصاخبة إليه وصاح مازحًا:
_واحدة واحدة.. خد نفسك وانت بتتكلم.. ثم إن أخبارك بقت قديمة أوي.
وتابع بغرورٍ:
_الخبر وصلني من بدري يا بشمهندس.
=أممم.. العصفورة لحقت تبلغك!
_أجمل وأحلى عصفورة بالكون كله.. هتعارضني؟
=الله يسلهو يا دكتور! المهم أنا كنت هكلمك عشان أخد رأيك في حاجة بخصوص فاطمة.
اعتدل علي بجلسته وسأله بجدية:
_اتكلم.
أتاه صوت عُمران الجادي يخبره بقلقٍ واهتمام:
_يوسف قالي إن مايا عندها مشاكل بسيطة يعني انيميا وضغطها واطي ومحتاجه ترتاح عشان شهورها الأولى من الحمل، وبالتالي منعتها تنزل الشركة وفاطمة من النهاردة هتنزل لوحدها فمش عارف يا علي هتقدر تتأقلم من غيرها ولا أيه.. خصوصًا إنها هتكون بديلة مايسان وهتنزل معايا في بعض الاحيان للموقع.. إنت رأيك أيه؟
تنهد براحةٍ فقد ظن بأن هناك أمرًا خطيرًا متعلق بصحتها، فقال بعدما صمت قليلًا يستعيد ثباته:
_هي فاهمه وعارفة ده كويس، ومدام لبست ونزلت النهاردة من نفسها يبقى هي وثقت فيك وعلى فكرة ده كان باينلي من قبل ما أخد قرار السفر ويمكن ده السبب اللي خلاني أسافر وأنا مطمن… فطيمة بدأت تثق فيك وفي اللي حوليها من البيت يا عُمران وده في حد ذاته تقدم كبير في حالتها.
واستطرد بلهفة وتوتر:
_خد بالك منها وراعي حالتها زي ما وصيتك.
أجابه الاخير بوعدٍ صادق:
_متخافش يا علي.. فاطمة عندي في غلوة شمس والله.. متقلقش عليها طول ما هي معايا… وبعدين بقى إنت هتأخدني في دوكة ومش هتقولي أيه الرسالة اللي كلها تهديد دي؟
تذكر علي رسالته التي أرسلها بالأمس إليه وصاح بوعيد:
_كويس إنك فكرتني.. أنت أيه اللي مهببه في شمس ده يا وقح!! البنت مكنتش، عايزة تسبني أنزل للمستشفى ومرعوبة من آدهم!
ضحك بملئ ما فيه وقال:
_براڤو.. حبيبة قلب أخوها اللي بتسمع كلامه دي تتشال على الراس وتستاهل العربية الجديدة اللي طلبتها.
=بقى كده!! عُمران إنت عايز تخرب جوازة أختك؟
_بالظبط كده..
وبضيقٍ قال:
_بصراحة يا علي جوايا غيرة رهيبة معرفش سببها.. إنت أزاي بارد كده! شمس هتسبنا يا علي مش هتعيش معانا تاني.. مش هنعرف نشوفها كل يوم ولا نخدها في حضننا وتتدلع علينا وقت ما تعوز فلوس أو تتحامى فينا من فريدة هانم لما ترتكب غلطة… أنت ليه مش قادر تتخيل إن هيكون ليها حضن وسند غيرنا!
ضم مقدمة أنفه بقلة حيلة وهتف بحنقٍ:
_عُمران إتلم بعيد عن البنت لحد ما أرجع وأعالجك يا حبيبي.. لإن بعد اللي سمعته ده يؤسفني أقولك إنك مريض نفسي!!!
أغلق الهاتف بوجهه ونهض ليتجه للخروج من المشفى بعدما أنجز نصف مهمته باختيار عشرة أطباء ماهرون، فمر على الاقسام بطريق خروجه، حتى مر من أمام قسم “النسا والتوليد”.
أخفض عينيه أرضًا وتابع سيره ولكنه توقف فور سماعه صوتًا أنوثي يناديه:
_علــــــــــي!
ألتفت خلفه فتفاجئ بها تقترب منه وعلى وجهها ابتسامة واسعة، غير مصدقة بأنها تراه أمامه، فرددت بسعادةٍ:
_مش مصدقة بجد إني شايفاك… إزيك يا علي أيه نسيتني ولا أيه؟
ردد وهو يتطلع لها بدهشةٍ:
_يارا مش معقول!
ابتسمت إليه ورددت بسخرية:
_طبعًا ما انت مصدقت مروان خطفني منك فخدتها زعله ومبقتش بتسأل عليا، هان عليك العشرة والصداقة يا علي؟
تنحنح بحرجٍ لتذكر ذلك الجزء المتطرف من حياته، لا ينكر بأنه كان هناك مشاعر داخله تخصها، بالنهاية كانت خطيبته وستصبح زوجته، وحينما اختار قلبها مروان ابن عم الجوكر مراد زيدان(رواية الجوكر والاسطورة) ، فتركها تعيش مع من أحببت وتخصص هو بالحالات التي كانت تعالجها يارا بإحدى المستشفيات النفسية، بعد طلبها منه بأن يكون محلها لانشغالها بالتجهيز لزفافها من مروان
تذكر كيف كان يتألم وحينها ظهرت فاطمة بحياته لتداويه وتجعله يقارن بين مشاعره تجاه يارا ومشاعر الحب الذي ولد داخله، فأصر وقت عودته إلى لندن أن ترافقه فاطمة لتكون حالته الخاصة بعد أن كانت الدكتورة يارا مسؤولة عنها.
أفاق من غفلته على صوتها المنادي:
_روحت فين يا علي؟
اعتدل بوقفته يجيبها بابتسامة هادئة:
_معاكي أهو.. المهم طمنيني عنك.
وأشار بمرحٍ على بطنها المنتفخ:
_ولد ولا بنوتة هتورث موهبة مامتها الدكتورة.
ضمت بطنها بلينٍ وقالت:
_بنوتة.. وعلى فكرة معايا ريان عنده سنتين ونص.
اتسعت ابتسامته وقال بفرحة صادقة:
_بجد؟
أشارت بيدها على من يخطو إليهما يستند على يد والده:
_أهو.
استدار علي تجاه إشارة يدها فوجد مروان يقترب منهما بملامح منزعجة، كونه رجلًا يتفهم سبب ضيقه لذا طوال الفترة الماضية لم يحاول بأي شكل من الاشكال التواصل مع يارا، مع أنها كانت تحاول الحديث معه للصداقة والعشرة الطويلة بينهما.
قدمتهما يارا لبعضهما قائلة:
_مروان.. شوف قابلت مين بعد السنين دي كلها.. دكتور علي الغرباوي فاكره؟
منحه نظرة مشتعلة وقال:
_من الأشخاص اللي مستحيل تتنسي.
ضم علي شفتيه بحرجٍ، يحاول قدر الامكان التخفيف من حدة الاجواء فقال وهو ينحني ليداعب شعر الصغير:
_ما شاء الله تبارك الله أيه الجمال ده كله..
وحمله إليه ثم طبع قبلة على وجنته، ثم قال:
_شكل مروان بالظبط.. ربنا يحميه ويباركلكم فيه يارب.
وقدمه لفارس الذي التقطه منه يجيبه ببرود:
_تسلم… عقبالك!
أجابه بتمني:
_يا رب.
تفاجئت يارا بدبلته السوداء المحاطة لاصبعه فسألته باهتمام:
_إنت خطبت ولا أيه يا علي؟
ضحك وهو يتطلع لدبلته قائلًا باعتزازٍ غريبًا:
_اتجوزت…ومش هتصدقي مين.
بلهفةٍ قالت:
_مين؟ أكيد دكتورة من زمايلنا.
هز رأسه يبدد تخميناتها وقال:
_اتجوزت فاطيما يا يارا.
اندهشت وشاركها بدهشتها مروان الذي بدى أكثر راحة حينما سمع بأمر زواجه، فسألته يارا باستغراب:
_ازاي يا علي… إنت عارف حالتها كويس!
ابتسم وهو يجيبها بهيامٍ بسط لمروان ولها قصة عشقهما المختصرة:
_الحب دفعني وساعدني أعالجها… هي كمان استقوت بحبي ومسكت فيه بكل قوتها.. هي كانت محتاجلي وأنا كنت محتاجلها أكتر من احتياجها ليا.
اتسعت بسمتها ونظراتها تحيط بزوجها بعشقٍ تدفق إليها حتى بوجود علي، ورددت بحبورٍ:
_إنه العشق يا دكتور علي.. ما أنا سبقتك.
وعادت تطلع إليه تتساءل باهتمامٍ:
_طيب قولي أنت لسه بتشتغل في نفس المستشفى اللي كنا فيها بلندن ولا اتنقلت؟
عدلت من جاكيت بذلته وأجابها بثباتٍ:
_لأ.. رجعت المستشفى بتاعتي وحولتها لمركز طبي لجميع التخصصات علشان كده أنا هنا في مصر بجمع الفريق الطبي بنفسي.
شجعته بفخرٍ:
_براڤو عليك يا علي… ربنا معاك ويوفقك يا ررب.. والله لولا البلونة دي كنت سافرت وجيت حضرت الافتتاح بس إن شاء الله تتعوض ويكونلي زيارة ليك أنا ومروان والاولاد على اعتبار ما سأكون ولدت.. ولا أيه يا مروان؟
تلك المرةٍ رسم ابتسامة حقيقية بعدما تأكد من اندراج العلاقة بينهما لعلاقة زمالة عادية، وصافح علي بحرارة:
_أكيد طبعًا هنيجي ونهني… مبروك الجواز والافتتاح يا دكتور.
سعد علي كثيرًا لتلقي تلك المصافحة المعبرة عن تلاشي صخور الماضي، فكم كان حانقًا على تصرفاته بالماضي ونزاعه التي وصل للتطاول بينه وبين ممروان فحينما تعقل وجد ذاته هو المخطئ ومن لم يخطئ جميعًا بشرًا ولسنا بملاكٍ بأجنحتين.
ودعهما علي وغادر للسيارة التي تنتظره للعودة لمنزل آدهم والراحة تغمره وتحيط به لتلك المقابلة.
******
ولجت للجامعة بارتباكٍ يحيطها، فبالفترة الماضية امتنعت عن الذهاب خاصة بعد ما حدث لسيف، وها هي تضطر للعودة بعد أن أخبرها أحمد بأن “يمان” قد هرب من لندن بعدما اتهمه سيف بما أصابه، وتسجيلات الكاميرات الخاصة بها خدمت أقواله فخشي أن تكتشف الشرطة اعماله الغير شرعية لذا فر هاربًا.
أحاط كفها ذلك الخاتم المندث بسلسالها الذهبي، وبداخلها تشعر بذنب الاحتفاظ به دون معرفة صاحبه، فحينما كانت تنتظر أمام غرفة العمليات خرجت احدى الممرضات تقدم لها ملابس وأغراض سيف الشخصية، فلمحت ذلك الخاتم الفضي المحاط بفص أزرق كانت تراه بيد سيف على الدوام.
لا تعلم لما احتفظت به وطوقته بعقدها الذهبي ليظل يلازمها، والآن وجودها بالجامعة تشعر بأنها تحتاجه دونًا عن أي وقت، فكمشت يدها حول السلسال الطويل الظاهر من أسفل حجابها.
كانت بطريقها للصعود للطابق المخصص لفصلها، فما أن صعدت لمنتصف الدرج حتى وجدته يهبط للأسفل حاملًا كتبه وأغراضه.
تعالت خفقات قلبهما كالقرع، يجزم كلاهما بأن الأصوات كانت منصوبة للآدان ولجميع من بالحرم الجامعي، هبط سيف إليها ببطءٍ وبابتسامةٍ اهلكتها قال:
_عاملة أيه يا زينب؟
رمشت بتوترٍ وأجلت أحبالها الصوتية بصعوبة:
_كويسة.. الحمد لله.
وبترددٍ قالت وعينيها تشير لذراعه المحاط بالجبيرة:
_وإنت؟
هز ذراعه المصاب قائلًا بمزحٍ:
_أهو امتحنت بايدي التانية مع إن خطي مكنش يتشاف ولا يتفهم في ورقة الامتحان بس ماشي الحال.. المهم نعدي السنة دي بقى.
وسألها بفضولٍ:
_أول مرة تنزلي الجامعة من بعد اللي حصل؟
هزت رأسها وردت بتوترٍ:
_أيوه.. عم دكتور علي قالي إن الحارس اللي كان بيراقب يمان شافه بيهرب هو ورجالته بعد ما اتهمناه باللي حصلك واللي عمله معايا قوى من الموقف.
بدى الانزعاج والضيق متوغلًا بملامحه وقال بحدةٍ:
_فلت منها ابن ال.. بس مصيره هيرجع ووقتها هأخدلك حقك منه وقدام عينك يا زينب.
ارتبكت بوقفتها أمامه، مازال مصرًا أنها تخصه رغم رفضها له، وللحق بداخلها شعور يغمرها بالسعادة، فأشارت له بتوتر:
_عن إذنك زمان محاضرتي بدأت.
تابعها وهي تصعد للأعلى، وقبل أن تنجرف للطابق ناداها، استدارت له فوجدته يبتسم لها ويخبرها:
_هستناكِ تحت.. خلصي وانزلي على طول.
كادت بالاعتراض فقال سريعًا:
_هعزمك على آيس كريم.
وتابع بغمزة أفتكت بصمودها:
_بالڤاتيليا زي ما بتحبي.
حاولت الاعتراض أو الحديث فسبقها مجددًا:
_متقلقيش عما تخلصي محاضرتك هكون إستأذنت من دكتور علي.
وتركها وغادر ومازالت تقف محلها تتأمل الفراغ بصدمة من اتخاذه للقرار واصراره بتنفيذه وابلغها بأنه سيأخذ الأذن وكأنه يخبرها بأن لا عليها سوى الحضور!
******
صعد آدهم مبنى الجهاز، طالبًا بإصرار مقابلة الجوكر، فجلس بالمكتب الخارجي قبالة الساعة والنصف حتى وصلت الاوامر بالسماح له بالدخول لمكتبه.
طرق آدهم باب المكتب وولج للداخل بخطواتٍ بطيئة حتى وصل قبالة مكتبه، كان يستند بساقيه على المكتب، ويسترخي بمقعده بتعبٍ بعد انتهائه من التدريب، فتح زرقة عينيه يتأمل ذلك المرتبك بنظرةٍ مستمتعة، وردد بخشونةٍ وهدوء مخيف:
_شكلك مش لطيف وإنت واقف مرعوب ومهزوز قدام القائد بتاعك!
ونهض عن مقعده يلف من حوله حتى يقف قبالة آدهم متابعًا بحدةٍ:
_وأنا تلاميذي معلمتهمش يواجهوا أي مشكلة بالخوف والجبن!
ارتبك آدهم وبدى غير مستجيب الفهم لما يحدث، هل يواجه غضبه لما فعله بلندن أم ان هذا الغضب لرؤيته يخشى عقوبته؟!
طرق “مراد” على سطح مكتبه بقوةٍ ليفق آدهم من شروده على صوته الهادر:
_إنت جاي ليه طالما معندكش اللي تقوله!
ازدرد ريقه بحرجٍ:
_باشا أنا عارف إني غلطت وعرضت حضرتك لموقف محرج مع القادة بس مقدرتش أسيب صديقي محتاج لمساعدتي ومساعدوش حتى لو كنت شخص عادي كنت هساعده.
ضيق عينيه الزرقاء ومال يستند على حافة مكتبه، يتفحصه بنظراتٍ تجوبه من الأعلى للأسفل، وبعد صمتًا طويلًا قال:
_لو مكنتش ادخلت كنت شكيت في قدراتك!
رفع آدهم عينيه إليه بصدمة فوجده يبتسم له، مستطردًا بمكرٍ:
_رحيم حكالي على اللي حصل.
وتابع وهو يقابل مُقلتيه بنظرةٍ واثقة:
_واحد بتدريبك البسيط قدام الاسطورة وقدرت توازنه في المهمة الصعبة دي، ده يخليني أنا والقادة نثني عليك… انا نفس كنت فخور إنك من تلاميذي.
ورفع يده يربت على كتفه وهو يتجه لمقعد مكتبه بخطواته الواثقة:
_متقلقش تنفيذك للمهمة بالدقة والبراعة دي نفى عنك أي غضب.
احتل مقعده بهدوء لم يكن داخل ذلك الذي يتابعه باندهاشٍ ، فابتسم مراد وقال بخبث لا يليق سوى بالجوكر “مراد زيدان”:
_عارف إن رحيم رعبك مني ومن مواجهة القادة..خليني أقولك إن ده جزء من تدريبك أو بالمعنى الأوضح مينفعش أشوف ابني بيرتكب شيء يفوق قدراته وأقف أشجعه إنه يعيد نفس اللي عمله مع إنه مش غلط، هكتفي بس أنبهه أنه مينفعش يقوم بالتصرف ده الا لما يكبر ويكون عنده الخبرة الكافية اللي تخليه يقدر يتصرف من غير ما يرجعلي.. فهمت يا عمر؟ ولا تحب أقولك آدهم زي ما بتحب؟
اتسعت ابتسامة آدهم بفرحةٍ، وكأن جبالًا مرسخة انزاحت عن كتفيه، فاندفع تجاه مراد الذي نهض يستقبل ضمته الرجولية والاخر يهتف بفرحةٍ:
_فهمت.. فهمت يا باشا.. وأوعدك هنفذ كل الأوامر زي ما تجيني.
ربت على ظهره بقوةٍ تليق بجسده الصلب:
_كده يبقى الدرس وصل.. يلا متنشغلش عن عروستك وجهز فرحك ومتنساش تعزمني.
هز رأسه بسعادة واحترامًا لشخصٍ بمهارة الجوكر:
_أكيد طبعًا…
واسترسل بحرجٍ:
_أنا كنت جاي لحضرتك عشان أخد رأيك في شيء عرفته عن المقدم”سند برهام” ، وأنا هيكون من الصعب اتدخل لحل موضوع زي ده.
أشار له بالجلوس قبالته وردد بوجوم:
_إنت ليه مُصر تدخل نفسك في حوارت مش بتاعتك يا آدهم؟
جلس قبالته يجيبه بحزنٍ:
_صدقني يا باشا ربنا سبحانه وتعالى اللي عمل كده عشان يرفع الظلم عن شخص بيعاني على إيده ومش بس هو في كذه سجين بيمارس عليهم طغيانه.. الموضوع مش سهل ومحتاج لمساعدة حضرتك فيه.
أنصت له جيدًا فأشار له بضيقٍ لسماع من يعاني ظلمًا، أكثر ما يثير غضبه أن يستغل كل ذي منصب منصبه لفعل السوء لذا فمن المؤكد أن آدهم اختار الأنسب ليخلص “يونس” عن مظلمته!
********
خاب أملها، ظنت بأن الاختبار المنزلي ربما يخالف ذمته والآن تحمل بيدها تقرير الفحص من المعمل الخاص بالمركز الطبي لابنها، يؤكد لها مئة بالمئة إنها تحمل بجنين.
وقفت فريدة تنتظر سيارة أحمد شادرة، عينيها تدمعان تأثرًا بما يخطر لها بفعله، هي تعلم بأنه ذنبًا فاضحًا ولكن ماذا بيدها تفعله!
تظن بأنها جريمة أن تحتفظ بجنينٍ وهي بذلك العمر، ابنتها من المفترض ستزف عروسًا بعد أيامًا وابنها ينتظر جنينًا قريبًا، كيف ستواجه الجميع بذلك، وما صدمها الإن بأنها بنهاية الشهر الثاني من الحمل لذا عليها سرعة التحرك قبل أن يكبر حجم الجنين.
تناست ما تفكر به لحظة رؤيتها لسيارة أحمد تقترب منها فرسمت ابتسامة مصطنعة وصعدت جواره تفكر بتمعنٍ بما ستفعله.
******
تابعت فاطمة عملها بمهارةٍ، وشعور الأمان يروداها بوجود عُمران بمكتبه تاركًا الباب الفاصل بين الغرفتين مفتوحًا بينهما، كما ان سماحه لها بالعمل بمكتبها واطلعه على ما تنتهي منه كان يريحها كثيرًا.
انتهت من مراجعة حسابات الميزانية المتعلقة بالمشروع فاتجهت اليه تطرق الباب المفتوح، فرفع رماديته لها يشير:
_ادخلي على طول يا فاطمة.
هزت رأسها بخفة ووضعت الملف من أمامه، تخبره بصوتٍ بدى مندهشًا أو مصعوقًا:
_المشروع هيتكلف ٧٨مليون دولار!!!!
صدمة قولها جعلته يرفع عينيه عن الاوراق ويتطلع لها ببسمة ساخرة:
_طيب وفيها أيه؟
ابتلعت ريقها بارتباكٍ:
_هو إنت مسمعتش المبلغ كويس ولا أيه؟
أزاح نظارة النظر عنه وقال ببسمة مشاكسة:
_قوليلي يا فاطمة أنتي تعرفي إني ليا شركاء معايا في المعمار والشركات؟
هزت كتفيها بحيرةٍ، فقال موضحًا:
_أنا مش لوحدي.. فريدة هانم شريك ب١٠في المية وشمس ب١٠ ومايا ب١٠في المية وعلي جوزك ب٢٠في المية وإنتِ كمان شريكة ب١٠في المية اتنقالك الأسهم بمجرد ما بقيتي واحدة من عيلة الغرباوي.
وتابع بعنجهية مصطنعة:
_انا ليا الحصة الاكبر ٤٠ في المية لأني انا اللي بدير وبكبر رأس المال عشان كده تلاقيني مغرور حبتين.
رددت بتلعثمٍ وضيق:
_أنا مش عايزة حاجة!! آآ..
قاطعها بحزمٍ:
_مش بمزاجك يا فاطمة دي كانت وصية بابا اللي يرحمه لزوجاتنا.. هو فرض وشيء مقدس بالنسبة لعيلتنا، فريدة هانم لما اتجوزت من بابا اتنقلها الأسهم بشكل تلقائي.. زي ما تقولي ده نظام عيلتنا.
وتابع وهو يقدم لها الملف:
_المهم انا هعمل شيك بالمبلغ ولما يوصل نبدأ على طول بإذن الله..
هزت رأسها بصدمة تخيلها أن أحدًا سيحمل مبلغًا كهذا، فتابع بعدما تذكر شيئًا هامًا قد يفيد أخيه بعلاج فاطمة:
_بقولك أيه يا فاطمة أنا بكره عندي عشاء عمل مع شركة ستون، هنروح أنا وجمال وهيكون في كذه حد من السكرتاريه.. أيه رأيك تيجي معايا؟
صمتت قليلًا تفكر، ثم قالت على استحياءٍ:
_طيب ممكن أسأل علي وأرد عليك بليل لما نرجع البيت؟
ابتسم باحترامٍ وقال:
_طبعًا.. طبعًا تقدري ونص كمان.
ضحكت على طريقته بالحديث واستأذنت بالانصراف فعاد هو يتابع عمله بتركيزٍ، إلى أن ولج إليه حسام متجهمًا يخبره بخوفٍ:
_مستر عُمران.
زفر بمللٍ والتف بمقعده المتحرك:
_يا نعمين يا حسام! لخص بالقنبلة اللي ناوي ترميها في وش أمي!
أتاته القنبلة من خلفه تندفع تجاه المقعد المقابل له، يردد ببرودٍ يشبهه:
_ازيك يابن فريدة؟
******
أنصت لباب المعتقل يُفتتح من جديدٍ، ونفس الفلاش يضاء عليه، وكأنه يؤكد لها بعودة بصيص الأمل إليه رغمًا عنه، فتفرس بملامح من يقف أمامه وقال باستغرابٍ:
_رجعت تاني ليه يا باشا؟
انحنى آدهم إليه وقال بصوته الرخيم:
_يونس إسمعني كويس.. إنت خلاص براءة ولو عايز تخرج معايا حالًا هخرجك بس ده أنا مش عايزه.
رمش باهدابه عدة مرات وردد بعدم تصديق:
_أخرج منين! يا باشا حاول تستوعب إن خروجي من هنا هيكون على القبر… صدقني مستحيل يسبني أخرج.
أمسك بيده وجذبه لينهض قبالته يصيح به بصوتٍ قوي:
_يونـس فووق ومتفقدش إيمانك بربنا عز وجل… أنا هنا قدامك بقولك هخرجك وهأخد حقك ده وعدي ليك ووعد “عمر الرشيدي” دين في رقبته ليوم الدين.. أنت متعرفش أنا مين ولا أقدر اعمل أيه!
وتابع والاخير يتطلع له بأعين دامعة لا تصدق سماع ما يقول:
_أنا مش ظابط عادي يا يونس… بقولك أنا واللي ورايا قدرنا في ٢٤ساعه نثبت برائتك وخلاص مبقاش في شيء يدينك بس خروجك من هنا مش ده هدفي ولا اللي أنا عايزه..
_أنا مش فاهم حاجة يا باشا؟
اوضح له ببسمةٍ ماكرة لا تليق الا بضابط تربى وترعرع على يد الجوكر المزعوم:
_يوم واحد يا يونس!! يوم واحد هتستحمل فيه الألم وبعده تخرج وإنت محقق انتقامك..
وصاح بصوتٍ كان كالسوط لذلك الهزيل:
_قولي عايز تخرج من هنا مزلول وعايش في عناء نفسي لحد مماتك ولا عايز تنتقم وتشوف حقك بيرجعلك؟
انهمرت دمعة حملت معاني القهر من حدقتيه فصاح بصوتٍ مكلوم:
_هنتقم منه ازاي يا باشا ده رتبة كبيرة وأنا آآ..
قاطعه بعنف:
_عايز تنتقم ولا تخرج حالًا معايا؟
أخفض عينيه أرضًا ورفعها لذلك الملاك الذي هبط يحل عنه عقدته التي نغزته وجردته من كرامته وكبريائه ورجولته وردد باصرار:
_عايز حقي يا باشا!
ابتسم له آدهم وتابع بصوتٍ جهوري مخيف بخطته للقضاء على ذلك اللعين:
_يبقى تفوق وتسمعني كويس في اللي هقوله!
*******
جلست بحزنٍ وضيق يتمرد على وجهها الأبيض، تمر بها الساعات ولم تيأس من انتظاره، تجوب الشرفة كل ساعة تقريبًا على أمل قدومه، عينيها متعلقة على باب الشقة بلهفة وحزن.
لأول مرة تشعر بأنه يعني لها كثيرًا، اعترفت “آديرا” لذاتها بأن ما بداخلها لآيوب ليس مجرد شعورًا بريء، هي بالتأكيد تحبه!
انفرجت ملامحها فور أن استمعت لصوت طرقات باب المنزل، ركضت بسرعةٍ هائلة تفتح الباب وهي تهتف بسعادةٍ:
_آيـوب!
تلاشت ابتسامتها حينما وجدت إيثان أمامها، منحها ابتسامة صغيرة وقال:
_آيوب ذهب مع أبيه للمسجد وطلب مني أن أصل لكِ هذا الطعام وأن أخبركِ بأنه لن يستطيع القدوم اليوم لإن عائلته قد أتت للترحاب به.. ربما بالغد يستطيع الحضور.
غلبها الحزن فالتقطت منه الأكياس وقالت بصوتٍ محتقن بالدموع:
_أخبره فقط أن لا ينساني هنا.
انتقل لإيثان حبها الكبير لآيوب فارتبك للغاية لشعوره بقدوم كارثة ستحل على ابن الشيخ مهران الذي عشقته فتاة أجنبية غير محتشمة، ولكنه برع في تزيف بسمة وقال:
_حسنًا سأخبره..
ورحل من أمامه، فحملت الاغراض ووضعتها على الأريكة ثم ولجت لغرفتها ترتمي على الفراش وتردد بخفوت:
_لا أريد شيئًا الا رؤيتك آيوب! ما حاجتي لتناول الطعام وإنت لست جواري تشاركني به!!!!
********
وضعت الحساء على النار ووقفت تتابعه، حتى تسلل لها صوت زوجها الغاضب الذي يصيح بعنفٍ:
_إنتي يا **** فين المرهم اللي كنت جايبه الاسبوع اللي فات، هو إنتي وابنك القرد ده مبتسبوش حاجة في حالها أبدًا.
أغلقت “خديجة” النيران وهرعت إليه تشير له:
_ثواني وهجبهولك.
صفق باب الخزانة بغضبٍ، فاهتزت بقوةٍ جعلت جزءًا من ملابسها يسقط أرضًا أسفل قدميه، فالتقطت عينيها شريط الدواء الملقي باهمالٍ.
سقط قلب خديجة وجحظت عينيها حينما انحنى يلتقط الدواء ويقربها منه، ومن ثم اقترب منها بأعينٍ حمراء كلهيب الجمرات يتساءل بهدوء قاتل:
_ده أيـه؟
تعلم بأنه يعرف كنايته لإنه يلجئ له كثيرًا ليخفي أمر تعاطيه للسموم والمخدرات التي يرتشفها فيلجئ لحبوب منع الحمل ليخفي عن دمائه تعاطيها أثناء أداء عمله الحكومي.
تراجعت خديجة للخلف وهي تشير له ببكاءٍ وخوفًا قاتلًا:
_آآ… أنا.. آآ..
هوى على وجهها بصفعة ابادت الدماء عن شفتيها من قوتها وصرخ بها بسباب بذيء:
_انتي أيه يا ***** بقى انتي مش عايزة تخلفي مني أنا!! ده أنا اشتريتك يا رخيصة، سترت عليكي وخدتك على عيبك وكتبت ابن ال*** باسمي عشان ميخدش عار أبوه والناس تعايره بأن ابوه في السجن واخرتها تحرميني من الخلفة طول السنين دي يا فاجرة يا***
وهوى عليها بصفعات متتالية وهو يصرخ بجنون:
_لسه بتحبيه ومش قادرة تنسيه يا بنت ال*** أقسم بالله لاقتله وأقتلك انتي وابنك.
بكت وصرخت بانهيار:
_ حرام عليك بقى… طلقني وارحمني من اللي أنا فيه.. معتش في شيء تاني هقدر أقدمهولك.. طلقني واتجوز واحده تخلفلك الولد اللي انت بتتمناه لكن أنا بكرههك ومستحيل هقبل أخلف منك ولو حصل هموت نفسي ومش هيهمني حد ولا حتى ابني اللي بتهددني بموته ليل نهار.
وبصرخٍ يفوق الاخر قالت:
_ سمعت أنا بكررررهك وبقرف من نفسي بسببك!
جن جنونه فسحب حزامه وهوى عليها بضربات قاتلة جعلتها تتمايل أرضًا فاقدة للوعي، فركلها بقوة وهو يصرخ:
_والله لأوريكِ يا زبااااالة.. وهتشوفي.
غادر من امامها وتركها تغوص بدمائها، فشعرت بلمسات يد تحمل المياه لوجهها، فتحت خديجة عينيها المتعبة ببطءٍ فوجدت ابنها يحاول افاقتها وهو يبكي بخوفٍ.
استقامت بجلستها وضمته إليه مرددة بهمس:
_يا رب ارحمني يا رب… يا رب إحفظه ورجعهولي هو أملي الوحيد يا رب… هو اللي هيخلصني من عذابي… يا رب لو كان ميت فأقبض روحي واجمعني بيه ولو لمرة واحدة!
ونهضت تتكئ على الحائط بصعوبة، ثم جمعت جزء من ملابسها هي وابنها، وارتدت اسدالها وخرجت به من المنزل، تتحامل على نفسها بصعوبة، فسألها الصغير ببكاءٍ:
_هنروح فين يا ماما؟
انهمرت دموعها تأثرًا،توفت والدتها ولم يعد لديها أحدٌ سوى الله، مشت جواره وهي تجيبه بانهيار:
_مش عارفة!
وجدت قدميها تتبع طريق منزله، هو الوحيد الذي لم يرد بابه بوجه أحدٌ، طرقت خديجة باب منزل الشيخ “مهران”، وما أن انفتح الباب حتى استسلمت لغشاوتها وسقطت فاقدة للوعي، ليهدر بها من يقف أمامها بدهشة:
_خديجة!
انحنى آيوب تجاهها بصدمة من رؤية وجهها الملطخ بالدماء، خرجت لمرتها الاولى دون نقابها على عجالة للنجاة بحياتها وحياة الصغير، وها هي تستسلم لغيمتها السوداء وقهرها الملازم لها بعد ان تفرقت عن محبوب طفولتها وأمانها الوحيد… يونس!
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية صرخات أنثى)