رواية صدفة لم تكن عابرة الفصل العاشر 10 بقلم شمس محمد
رواية صدفة لم تكن عابرة الجزء العاشر
رواية صدفة لم تكن عابرة البارت العاشر
رواية صدفة لم تكن عابرة الحلقة العاشرة
“طَلتها دومًا كما شروق الشمس لبائسٍ عاش حياته في الظلام كئيبًا”.
*************************
وقع بصر “رائف” على اسم المتصل بدون قصد أو تعمد منه لذلك وقد رآى الاسم مُسجلًا بـ “ماجد” رفع حاجبه وهو ينظر في وجه “باسل” الذي بدا مُتعجبًا من صمته و نظراته وفي تلك اللحظة أتىٰ “فكري” من الداخل بخطوات أقرب للركض حتى اصطدم في “مـنـة” التي كانت تقف في توازي مع مقدمة الرواق، بينما هو لم ينتبه أنه اصطدم بها وأكمل سيره نحو الهاتف يخطتفه من على الطاولة، فتحدث “رائف” بطريقته الفَظة دومًا حينما انتبه لاصطدام الأخر بها:
“هتفضل طول عمرك جاموسة كدا ؟؟ تور بينطح وخلاص، ما تفتح ياعــم !!”
رد عليه “فكري” بلهفةٍ وهو يطالع الهاتف و يحاول غلقه بعدما رآى اسم المتصل:
“معلش….أصل دا تليفون مهم في مصلحة تبع الشغل، لامؤاخذة، معلش يا آنسة”
حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم بارتباكٍ، بينما “رائف” راقبه حتى انسحب من أمامهم ودلف مُجددًا، فتنهد “باسل” بضجرٍ ثم قال محاولًا اصلاح ما يمكن إصلاحه:
“معلش يا رائف، بس هو طبعه غريب شوية كدا، معلش هو مرتبط بمالك و متوتر علشانه”
حرك رأسه موافقًا بقلة حيلة ثم قال:
“كدا كدا هو مش فارق معايا أصلًا، ربنا يتمم شفا ابنك على خير يا رب و يرجعلك بالسلامة، يلا يا منة”
حركت رأسها موافقةً ثم اقتربت منه وقبل أن تخرج من الشقة قالت بأدبٍ لذلك الواقف خلفها:
“عن اذنك يا أستاذ باسل، ربنا يتمم شفاه على خير و تفرح بيه إن شاء الله”
ابتسم لها بمجاملةٍ فيما فتح “رائف” الباب و خرج من الشقة و هي خلفه، وقد نظر “باسل” في أثرهما بوجهٍ مبتسمٍ ثم دلف الشقة بعدما ودعهما و أغلق الباب وتأكد من ركوبهما المصعد.
دلف “باسل” وعلامات الراحة تبدو على وجهه، فسأله “كرم” بتهكمٍ:
“يا سلام ؟؟ مبسوط أوي يا أخويا إن ابن كريمة جالك ؟؟ وشك نور اوي وفرحان ؟”
تنهد “باسل” بقلة حيلة ثم تحدث مؤكدًا حديث والده بثباتٍ:
“آه مبسوط عارف ليه ؟؟ علشان هو جه هنا يشرفنا، و أظن لو هو وحش مكانش هييجي هنا بعد كل المشاكل دي، بطلوا بقى عقدتكم منه علشان أنا خلاص صفيتله وربنا يكرمه إن شاء الله”
رمقه “فكري” بغيظٍ منه ثم لوح بذراعه في الهواء وهو يقول مُحتجًا على تصرف ابنه _الأهوج _ من وجهة نظره:
“خليك أنا مالي، أنتَ الخسران كدا كدا أنا مش عاوز حاجة أنتَ و المحروس اللي عاوزين”
انفعل “باسل” من طريقة والده، لذلك تحدث منفعلًا دون أن يضبط نفسه:
“مش عاوز حاجة غير إن ابني يقوملي بالسلامة و يرجع البيت ينور تاني بلعبه فيه، أظن دا اختبار من ربنا وأنا لحد كدا اتعشت معايا، ربنا يكرم رائف ويعوض عليه إن شاء الله و يقوم محله من تاني، طلعوه من دماغكم بقى”
كان “فكري” يقف مُرتبكًا خصيصًا وهاتفه يصدح بنفس الرقم، فسأله “باسل” بنفاذ صبرٍ:
“ماترد بقى على الزفت دا ولا اكتمه خالص، جابلي صداع، مين اللي بيرغي كدا ؟؟”
تصنع الثبات رغم جبينه المُتندي بالعرق و توتر أعصابه البائن للعيان وهو يقول بفتورٍ:
“لأ متشغيلش بالك دا واحد عاوزني في مصلحة كدا، بصراحة هحاول اقضيها بس حوار مالك دا لخفني”
تحدث “مالك” بنبرةٍ طفولية:
“متزعلش يا عمو فكري، أنا هبقى كويس، طلبت من ربنا أني أخف زي ما ميس منة قالتلي قبل كدا، متزعلش نفسك”
لمعت العبرات في مقلتي “فكري” تأثرًا بحديث الصغير و براءة قلبه الذي لم تدنسه الأيام بعد، ثم اقترب منه يُربت على خصلاته وهو يقول مُتمنيًا ذلك من كل قلبه:
“إن شاء الله يا مالك، ربنا يقومك بالسلامة علشان نلعب سوا تاني، و ترجع معايا علشان نروح الجنينة سوا، هتقوم إن شاء الله”
حرك الصغير رأسه موافقًا يبتسم له، بينما “باسل” تتبع بنظره أخيه و حالته وتوتره الذي بدا واضحًا وخاصةً وهو يهرب بنظراته من الجميع، حينها فقط تأكد “باسل” أن أخيه يخفي عليه سرًا.
*************************
كانا يسيران بجانب بعضهما وكان هو صامتًا عن الحديث تمامًا يُفكر فيما رآهُ، لاحظت هي صمته، فمالت برأسها نحوه قليلًا تقول بنبرةٍ مرحة:
“تـبـسـم لأجـلنا يا أخـينـا”
ابتسم رغمًا عنه ثم نظر لها يقول بمشاكسىةٍ وهو يقول:
“بس كدا ؟؟ و نـضـحك لأجل عيونِك كمان”
ابتسمت إثر جملته تلك بينما هو لَمَح ببصره محلًا على مقدمة الطريق فزاد الانتعاش لديه خاصةً مع تحول الشمس إلى اللون البرتقالي، فأشار لها نحو المحل وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
“طب تعالي اشربك حاجة طيب، أنا مش بخيل يعني، تعالي”
حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم له، بينما هو تحرك بجوارها حتر مر كليهما من بين السيارات على الطريق، فسألته بنبرةٍ ضاحكة:
“هنشرب إيه ؟؟ اختار أنتَ”
رد عليها بزهوٍ مشيرًا على نفسه بالحديث:
“هضحي و أشربك كوكتيل، اي خدمة دا بيطلع للحبايب بس، عاوزة حاجة معينة ؟؟”
حركت رأسها نفيًا ثم جلست حيث أشار هو ثم سحب مقعدًا وجلس مقابلًا لها، ثم أطلق زفيرًا قويًا فسألته باهتمامٍ:
“مالك يا رائف ؟؟ فيه حاجة مزعلاك ؟؟ شكلك متضايق رغم إن باسل و مالك رحبوا بينا ومقابلتهم كانت حلوة أوي”
رفع عيناه نحوها ثم قال بتخبطٍ و تشوشٍ ظهر في حديثه:
“متضايق يا منة، حاسس أني متلخبط و خايف أكون بظلم حد، واحساس تاني بيقولي متسيبش حقك ليهم، مش عارف ومش فاهم”
اقترب العامل بالمكان يأخذ الطلبات منهما ثم تحرك من المكان بعدها، سألته هي بلهفةٍ أعربت عن مدىٰ اهتمامها به:
“مين طيب اللي زعلتك ؟؟ لو أنا فأنا كنت برد على الفعل بتاعك لما تخليت عني، حسيت إنك مش عاوزني وأنك مع أول مشكلة بتسيب أيدي وأنا كنت قررت أني اثق فيك”
زفر مُستسلمًا ثم قال بنبرةٍ ضائعة:
“مش منك يا مـنة، أنا معرفتش ازعل منك و أنتِ مش عاوزاني، بس دماغي مسوحاني وخايف في الأخر أندم، خايف اسيب حقي وابقى اختارت أنا أخسر حقي، وخايف أمشي ورا دماغي تطلع دي كلها هلاوس وابقى ظلمت حد”
انتبهت لحديثه فسألته:
“هو أنتَ شاكك في حاجة يا رائف ؟؟ فيه حاجة مخلياك تشك في حد ؟؟…. آه علشان كدا كلمت باسل وقولتله كدا ؟؟”
قالت جملتها الأخيرة وكأنها انتبهت لتوها عن حديثه مع قريبه، فيما تنهد هو بعمقٍ ثم قال بترددٍ:
“كنت شاكك فيه، بس حاليًا شاكك في حد تاني ولو طلع هو الله في سماه ما هعتق حد فيهم”
ضيقت جفونها تطالعه باهتمامٍ تحاول سبر اغواره ومعرفة ما يُخيم على تفكيره، وقبل أن تسأله وصل العامل يضع امامهما المشروبات، فتنهد بعمقٍ ثم أشار لها برأسه وهو يقول:
“اشربي العصير و سيبك من أي حاجة، دي لحظة تاريخية هسجلها في التاريخ، قاعد مع مـنة كدا عادي”
ضحكت رغمًا عنها وهي تقول:
“يا سلام ؟؟ مالها مـنـة يعني ؟؟ بنت زي أي بنت يا رائف”
ثبت عيناه عليها وهو يهتف بصدقٍ كما نطقت به نظراته:
“يمكن من وجهة نظرك إنك زي أي بنت، بس بالنسبة ليا مفيش ليكِ زي ولا شبيه”
أخفضت رأسها في خجلٍ منه ومن حديثه الهاديء، بينما هو تحدث يقول بمشاكسىةٍ:
“يا سلام !! هو دا الكلام”
تحولت بسمتها الخجولة إلى ضحكة خافتة نجحت في كتمها قدر المستطاع بينما هو أخرج هاتفه يقول بنبرةٍ ضاحكة:
“يلا نتصور بقى سوا بدل صورة قراية الفاتحة اللي أخوكِ بيذلني بيها دي، موافقة ولا مش عاجبك؟”
ردت عليه بنبرةٍ ضاحكة:
“لأ عاجبني يا سيدي، بس ربنا يهديك عليا لحد ما ناخد خطوة بقى”
ضحكت عينيه وهو ينظر لها، بينما هي سحبت منه الهاتف تحاول مداراة خجلها فزادت ضحكاته عليها ولم ينكر سعادته بها معه، لطالما كانت كما النجوم عنه بعيدة، والآن أصبحت مجرته بكافة المدارات بل كوكبه وعالمه أيضًا.
*************************
وصل سويًا أسفل البيت مع بعضهما، فوقف هو أمام المحل فسألته بتعجبٍ:
“وقفت ليه هنا ؟؟ مش هتطلع”
رد عليها مُبتسمًا بفرحةٍ تشبه فرحة الأطفال الصِغار وهو يقول:
“الناس هتيجي دلوقتي علشان يبدأوا توضيب المحل، وشك وشك خير طول عمرك عليا”
ابتسمت هي الأخرى بحماسٍ وهي تسأله بلهفةٍ:
” بجد ؟؟ طب الحمدلله ربنا يكرمك إن شاء الله ويرجع أحسن من الأول يا رب، ربنا يعوضك بالخير يا رائف”
اقترب منها خطوةً وهو يقول بنبرةٍ هامسة بعدما تشكل العبث على ملامح وجهه:
“طالل على النجوم و واقفة معايا وشاربين كوكتيل سوا، تفتكري فيه عوض أكتر من كدا ؟؟ مأظنش فيه أحلى من إنك تكوني ليا”
ضحكت رغمًا عنها بينما هو سألها بمشاكسىةٍ كعادته منذ أول لقاءٍ لهما:
“يا سلام !! هو دا الكلام”
تنهدت بعمقٍ ثم قالت بحماسٍ:
“عن اذنك بقى هطلع علشان اتأخرت أوي عليهم و بابا ميعرفش أني كل دا هكون معاك، أبقى طمني عملت إيه مع العُمال”
حرك رأسه موافقًا ثم قال بمرحٍ يشاكسها:
“آه ما أنتِ فكيتي البلوك بقى”
رمقته بيأسٍ تحاول كتم ضحكتها ثم لوحت له تودعه وصعدت إلى البيت، بينما هو تشكلت الراحة على مُحياه وهو يراقب أثرها حتىٰ أتاه صوتٌ من خلفه يقول بنبرةٍ هادئة:
“مساء الخير يا أستاذ رائف، اتأخرت عليك ؟؟”
التفت ينظر لصاحب الصوت ثم قال مُبتسمًا بتفهمٍ وبنبرةٍ ودودة:
“لأ أبدًا يا أستاذ معاذ، في وقتك مظبوط بالتمام، بتعبك معايا معلش بقى”
رد عليه”معاذ” بدون تكليف:
“يا باشا متقولش كدا اعتبرني أخوك، دا أنتَ أول عميل أحس كدا إنه زيي ابن بلد”
ابتسم له “رائف” وهو يقول ممازحًا له:
“طالما يا باشا بقى، يبقى اقعد كدا يا معلم و ريح اطلبلك حاجة تشربها، شكلك كدا ابن بلد مجدع زيي”
جلس “معاذ” على المقعد حيث أشار “رائف” بينما الأخر سحب مقعدًا من المحل المجاور له وهو يستأذن صاحبه بقوله:
“لامؤاخذة ياعم محمد عاوز الكرسي في كلمتين على انفراد”
ابتسم له صاحب المحل فيما تحرك “رائف” وجلس على المقعد بجوار “معاذ” الذي أشار للعمال ثم قال بنبرةٍ هادئة:
“يلا يا رجالة أبدأوا، ورونا الهِـمة”
سأله “رائف” بتعجبٍ:
“هو حضرتك جاي علشاني ولا دا علشان شغلك يعني ؟؟”
ابتسم له “معاذ” ثم قال بنبرةٍ ضاحكة:
“لأ طالما مش لابس بدلة يبقى كدا برة معاد الشغل، اديك شايف لابس قميص جينز أهو يبقى كدا جايلك بشكل ودي”
ابتسم “رائف” ثم سأله:
“ودا علشاني يعني ؟؟؟”
حرك كتفيه ثم قال بقلة حيلة:
“معرفش ارتحتلك كدا بصراحة و شايفك ابن حلال قولت موجعش دماغك مع الصنايعية”
ربت على فخذه وهو يقول بامتنانٍ له:
“تسلم يا أستاذ معاذ، موقفك دا جميل في رقبتي”
رد عليه الأخر بطلفٍ:
“معاذ….معاذ بس يا رائف”
“بــعد مـرور عـدة ساعات“
رحل “معاذ” بعد جلوسه مع “رائف” و إشرافه على العُمال بالمكان و تسجيل كل ما يقومون به، حتى أغلق “رائف” المحل حينما أسدل الليل ستائره المُعتمة.
أنهىٰ إغلاق المحل و قبل أن يتحرك كُليًا من أمامه وقف “مُصعب” خلفه يحمحم يُجلي حنجرته ثم قال بنبرةٍ هادئة:
“ازيك يا رائف، عامل إيه؟؟”
التفت له “رائف” وسرعان ما ابتسم وهو يقول مُرحبًا به:
“يا مراحب يا مراحب، بخير الحمد لله يا أبو نسب إن شاء الله، تعالى اقعد معايا شوية قبل ما أطلع أنام، لأحسن أنا هلكان”
ازدرد “مُصعب” لُعابه بتوترٍ ثم قال بنبرةٍ مهتزة وكأنه يخشىٰ التحدث فيما هو قادم، لكن على كل حالٍ لا مفر من الحديث، لذلك سحب نفسًا عميقًا ثم قال بسرعةٍ:
“رائف أنا عاوزك في حاجة مهمة ومش عارف المفروض اقول حاجة زي دي ولا لأ، بس أنا هقول وخلاص”
طريقته و نبرته و لهفة حديثه جعلت “رائف” يُمعن له بكامل حواسه و تركيزه، فيما أضاف الأخر مُتصنعًا الثبات الذي خالف توتره و خوفه من حديثه المُقبل:
“فيه واحد صاحبي من هنا في المنطقة قبل خطوبتي بكام يوم كدا شاف ماجد اللي كان خاطب منة مع فكري ابن خالك، معرفش صدفة ولا هما عارفين بعض أصلًا بس مأظنش أنها صدفة أبدًا يا رائف، يعني يقابلوا بعض وبعدها بكام يوم محلك يحصله كدا ؟؟؟”
أظلمت عينيه باللون القاتم و برزت العروق الحمراء تكسو حول العدستين، بينما “مُصعب” أضاف مسرعًا حينما رآى تبدل ملامحه:
“صدقني أنا مش بقوم الدنيا أنا بس بحذرك تخلي بالك أكتر من كدا، ربنا يسامحني إن كنت ظالمهم بس برضه الحرص واجب، خلي بالك من نفسك يا صاحبي”
ضغط “رائف” على جفونه بشدة يعتصر مُقلتيه أسفل تلك الجفون التي احكمها كما الأصفاد الحديدية، و كور كفيه بقبضتين قويتين يحاول جاهدًا التحكم في غضبه، فسأله “مُصعب” وهو يراقب ملامحه و غضبه المكتوم ببالغ الاهتمام:
“رائف !! روحت فين ؟؟ أنتَ كويس ؟؟؟”
فتح عيناه بسرعةٍ وقد زادت قتامتها و الاحمرار حولها وفقط نطق جُملةً واحدةً بصوتٍ جَهوريًا أوشك على التحشرج و التهدج معًا قائلًا:
“أطلع يا مُصعب…. أطلع”
راقبه “مُصعب” بملامح وجه ضائعة، فيما كرر كلمته بنبرةٍ أعلىٰ:
“أطـــلــع بــقــولـك”
حاول “مصعب” الاقتراب منه فأوقفه بقوله:
“اقسملك بربي لو ما طلعت لا تكون بنهاية كل حاجة بيننا، أطلع و سيبني أحسن، علشان الدنيا ضلمت في وشي”
قرر “مُصعب” الإنسحاب من أمامه حتى لا يصلا سويًا لنقطة ظلامٍ لا يستطيعا العودةِ منها، لذلك انسحب متقهقرًا بإذعانٍ تام، فيما وقف “رائف” بعينين مُتسعتين ينظر في اللاشيء أمامه دون أن يحدد إلى أين يصل ببصره أو حتى ما يستقر بذهنه.
*************************
في الأعلى صعد “مُصعب” بتيهٍ وقد تبدل حاله كثيرًا بعدما أخبره لدرجة أنه لام نفسه كثيرًا على تسرعه في إخبار “رائف” بما حدث، ارتمى على مقعد الانتريه بشرودٍ يفكر في كيفية ملاحقة الأخر، وقد أتت “مـنة” من الداخل بسعادةٍ تركض نحوه وهي تقول بحماسٍ:
“مكلمتنيش ليه كنت عاوزة منك حاجات من تحت، قابلت رائف النهاردة و قعدنا سوا، بجد كنت مبسوطة أوي”
نظر لها “مُصعب” باهتمامٍ فتنهدت بفرحةٍ كبرى ثم استرسلت في الحديث دون تعقل أو خجلٍ:
“فاكر كل مرة جيت من برة مخنوقة فيها من ماجد ؟؟ أنسىٰ بقى كل دا علشان الوضع اتغير خالص، كل مرة بشوف رائف فيها أو نتكلم سوا بحس أني طايرة، رغم إن كلامه عادي مش متذوق ومش مبالغ فيه، بس عارفة أكون براحتي معاه، فاكر لما قولتلك عاوزة واحد زيك أكون معاه على راحتي ؟؟ لقيت دا في رائف يا مصعب، لقيت اللي يخليني أحب نفسي وأحب اللي جاي من غير خوف”
ابتسم رغمًا عنه وبدا مُتأثرًا من حديثها و طريقتها التي تمنى أن يراها عليها ذات يومٍ بينما هي ارتمت عليه تطوقه بذراعيها وهي تمازحه بقولها:
“خلاص كدا مش هحسد البت إنعام أنها خدتك مني، رائف موجود بس برضه مُصعب الأساس”
ضحك بيأسٍ ثم ربت على رأسها وحرك رأسه يقبل جبينها ثم قال بنبرةٍ حاول إخفاء حالته المضطربة بها:
“ربنا يسعد قلبك و يكرمك باللي يكون ليكِ النص التاني يا منة”
شددت عناقها له وهي تبتسم بسعادةٍ بالغة لم تتوقع أن يتسبب بها ذات يومٍ ذلك الـ “رائف”، فـ آهٍ لو يرأف بحالها لو قليلًا بعدما أصبحت فتاةً أخرىٰ لم تتوقع أن تكن عليها يومٍ ما، لكن لكل مقام مقال، و ها قد نال “رائف” في القلب أعلى و أرقى
مقام.
*************************
كان “كرم” جالسًا بجوار زوجته يشاهدان التلفاز سويًا باندماجٍ حتى صدح صوت جرس الباب عاليًا و يرافقه طُرقاتٍ عنيفة على الباب، حتى انتفض كليهما بفزعٍ، فقالت زوجته بهلعٍ من صوت الطرقات:
“استر يا رب، خير مين اللي جاي الساعة دي، فيه إيه يا كرم ؟؟”
ركض نحو الباب وخلفه زوجته تضع حجاب رأسها وهي تُغمغم:
“استر يا رب….استر يا رب”
فتح “كرم” الباب فتفاجأ بدفعةٍ باغتته على غفلة يلتصق على إثرها في العمود الخلفي له و “رائف” يقف أمامه يسأله بنبرةٍ جامدة:
“ابـــنــك فين ؟؟”
لم يقو “كرم” على التحدث أمامه في حالته تلك، بينما حاول ازدراد لُعابه فكرر “رائف” حديثه بنبرةٍ أعلى ولو لم يكن مبالغًا في الحديث، لكانت انشقت الجدران إثر تلك النبرة و ضربه على الحائط المجاور لِـخاله:
“أنـــطـق !! إبــنك فــين !! فـــكــري فــيــن !!”
اقتربت زوجة خاله تقف خلفه تقول بخوفٍ و نبرةٍ أقرب للبكاء:
“وحد الله يا بني، مالك بس وماله، أهدا يا حبيبي، أهدا”
حديثها لم يكن في محله في حالته تلك، فبدلًا من أن يقوم بتهدئته، ازداد غضبه أكثر، وقرر هو كشف ما يريد دون أن يكلف نفسه عناء الاهتام بذلك العجوزين، لذلك دلف بخطواتٍ واسعة نحو الداخل حيث غرفة “فكري”.
فتح بابها كما الإعصار يقتلع الأشجار من جذورها، فوجد “فكري” يمسك الهاتف بكفيه يحاول الضغط على لوحة المفاتيح ولكن كان للتوتر رأيًا أخر حيث سقط الهاتف من يده فور رؤيته لـ “رائف” في حالته تلك، فيما نطق “رائف” بنبرةٍ جامدة ممتزجة بالتهكم:
“إيه ؟؟ بتكلمه علشان يلحقك ؟؟ وربنا المعبود ما حد هيلحقك مني يا تربية الزرايب أنتَ”
ابتلع “فكري” ريقه ثم تحدث بخوفٍ و صوتٍ حروفه مُتقطعة:
“ثـ….ثانية بس يا رائف، أنتَ….أنتَ فاهم غلط….استنىٰ”
اقترب “رائف” منه ينقض عليه يُكبل عنقه وهو يهزه في يده بعنفٍ تزامنًا مع قوله بنبرةٍ أعربت عن جَمَّ وجعه و انكسار روحه:
“ليه ؟؟ ليه يا فكري تحرق قلبي كدا ؟؟ ليه تحط ايدك في أيد الغريب علشان تكسر أخوك ؟؟ ليه يا جدع؟؟ دا أنا كنت بشيلها من بوقي و أديهالك، عملت أيه ليك استاهل تعاقبني عليه كدا ؟؟ طب….طب مفكرتش في عمتك و قلبها اللي هيتوجع من الزعل ؟؟ لــيــه ؟؟”
حاول “فكري” التحدث وقد وصل والديه على أعتاب الغرفة، وهو يقول بصعوبةٍ بالغة إثر كفي “رائف” اللذان يكبلان عنقه:
“والله….كان غصب عني….ضعفت قصاده يا رائف، بعدها ندمت والله، لولا الفلوس اللي هدفعها في عملية مالك، كان زماني رجعتهاله بعدما عرفت اللي حصلك”
لقد احتلت الصدمة ملامح أبويه فيما هزه “رائف” في يده وهو يقول بنفس الطريقة المحتدة:
“ولا !! اتفقت معاه على إيه تاني ؟؟ انطق بدل ما أطلع روح اللي خلفوك في أيدي، انـــطق !!”
رد عليه بخوفٍ:
“لما عرف إنك رجعتلها تاني النهاردة، قال هيحاول يتدخل هو و يتصرف و يرجعها تاني ليه، والله العظيم معرفش ناوي يعمل إيه، أنا خلعت أيدي من الموضوع كله، والله العظيم أخري معاه كان اتفاق حرق المحل… سامحني يا رائف”
ابتسم “رائف” بتهكمٍ ثم قالت بسخريةٍ مريرة لاذعة:
“اللي بيسامح العباد ربنا يا فكري زي ما برضه اللي بياخد العباد ربنا، بس أنا مبعرفش أنام وحقي بايت برة”
نظر له “فكري” بخوفٍ فيما شدد “رائف” مسكته لفروة رأسه ثم سحبه خلفه كما الماشية حتى ثبته على الحائط ثم صفعه على وجهه بغلٍ و تبع تلك الصفعة بأخرى و أخرى حتى وصل عددهم إلى خمس صفعات تقريبًا، وسط صرخات والدته و محاولة “كرم” للتدخل في فصلهما عن بعضهما، فالتفت له “رائف” بعينين مُشتعلتين يقول مُهددً له وهو يشير له بسبابته:
“لو فكرت تقرب هجيبك مكانه، وهنسى إنك خالي أو إنك كبير في السن، كفاية تربيتك الناقصة، ابـــعد بـــقــولك”
ارتد “كرم” للخلف بخوفٍ من “رائف” الذي بدا وكأنه ممسوسًا، فيما عاد “رائف” لذلك الذي ارتخىٰ جسده كما الرخويات المائية، فأمسكه “رائف” كما سبق يهزه في يده وهو يقول بصوتٍ جهوريًا:
“ولا !! اللي أقوله تنفذه بدل ما أموتك في أيدي، وعزة وجلالة الله لو ما سمعت الكلام أو فكرت حتى تلاوع معايا لأكون ساحب روحك بايدي دي، مـــفــهـوم !!”
حرك رأسه موافقًا بخوفٍ ثم قال بنبرةٍ أقرب للبكاء:
“هعمل كل حاجة علشانك يا رائف، بس سامحني، أنا هعملك كل حاجة عاوزها، ومعاك لحد ما ترجع حقك”
ألقاه “رائف” على الفراش ثم التفت يغادر الغرفة وقبل ذلك رفع اصبعه في وجه “كرم” يقول مهددًا له:
“أقسم بالله لو فكرت تلعب بديلك أنتَ ولا هو حتى، هقطعه ليكم، اللهم بلغت !! كفاية إنك معرفتش تربي، بس وماله أنا موجود.”
تحرك من أمامهم بغضبٍ و ثباتٍ بجسدٍ مشدود من فرط تشنج أعصابه، النيران المُشتعلة بجوفه يريد اطفائها لكن كيف لزجاجة مياه أن تُطفيء شلالات النيران الملتهبة بداخله، فبالرغم مما فعله به إلا أن ذلك لم يكفيه بل زادت رغبته في الانتقام أكثر.
*************************
وصل “رائف” لبيته بحالٍ يُرثىٰ له، لم يؤلمه الحريق ولم تؤلمه النيران بقدر ما ألمه معرفة من تسبب في ذلك، الأمر يشبه أن اليد التي من المُفترض أن تمتد نحو جرحك تُهديء نيرانه، هي نفسها التي امتدت تضغط على ذلك الجرح تُزيد من وجعه و ترفع ألمه، لم يشعر بنفسه سوىٰ وهو يقف على بابها يطرقه دون أن يعي لذلك، فُتِحَ له الباب لتطل هي منه ترتدي حجابها، وحينما وجدته أمامها سألته بدهشةٍ من وقوفه أمامه بتلك الهيئة، ملامحه التي ظهر عليها الانكسار، وعينيه الحمراوتين
بعدما كانت ترى فيهما الصفاء و براءةٌ تُشبه براءة الأطفال، فقالت بنبرةٍ غلفها الخوف:
“مالك يا رائف ؟؟ أنتَ عامل كدا ليه ؟؟ مش كنت كويس؟؟”
ضغط على جفونه حتى لا يبكي أو يظهر ضعفه أمامها ثم فتح عيناه يقول بصوتٍ متحشرجٍ:
“موافقة نكتب الكتاب بعد بكرة؟؟”
اتسعت عينيها ببلاهةٍ زفرغ فاهها، فأضاف هو بغلبٍ وصوتٍ منكسر:
“أنا عاوزك يا منة….محتاجك معايا، عاوز أقوى بيكِ أنتِ، موافقة ؟؟؟؟”
لم تتوقع عرضه عليها في ذلك الوقت بتلك الطريقة، نعم هي تحبه وهو أيضًا يحبها، لكن تصل الأمور لعقد قران بتلك السرعة ؟؟ دون أن يعرفان بعضهما جيدًا ؟؟ بماذا تنطق وماذا تقول ؟؟ بينما هو حينما طال صمتها ابتسم بوجعٍ ثم قال:
“كنت متأكد إن دا ردك عليا، تصبحي على خير يا منة”
قال حديثه بمرارة الخذلان الذي تذوقه بل تجرعه أيضًا، بينما هي وقفت كمن سُكب عليها دلو المياه الباردة في ليالي قارصة البرودة، ولكن هل الخذلان الذي تذوقه هو و صدمتها من حديثه في كفتين متساويتين أم أن هناك منهما من خسر الأخر بسبب طريقته ؟؟.
*************************
ارتمىٰ “فكري” على الفراش يبكي بحسرةٍ على ما آلت إليه نفسه، فكيف يُسلم نفسه لشيطانه بتلك الطريقة ؟؟ كيف يؤلم قريبه و الذي يعتبر أخيه ؟؟.
رفع كفيه يضعهما فوق رأسه بخيبة أملٍ، بينما “هاتفه” ظل في يد “كرم” حتى صدح صوته برقم “ماجد” من جديد فضغط على زر الايجاب يقول منفعلًا بنبرةٍ جامدة:
“اسمع يا جدع أنتَ !! متتصلش هنا تاني وسيب ابني في حاله كفاية رائف كان هيموتوا في أيده، ابعد عن ابني وروح ربنا يسهلك بعيد عننا”
صُعقَ “ماجد” على الجهةِ الأخرى وكرر خلفه مُستنكرًا:
“إيه رائف ؟؟ هو عرف ؟؟”
أغلق “كرم” في وجهه ما إن أدرك خطئه و تسرعه في الحديث، بينما “ماجد” أظلمت نظراته بتوعدٍ مُقررًا الانتقام قبل أن يبدأ الأخر في ذلك.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية صدفة لم تكن عابرة)