رواية شهادة قيد الفصل السادس 6 بقلم دودو محمد
رواية شهادة قيد الجزء السادس
رواية شهادة قيد البارت السادس
رواية شهادة قيد الحلقة السادسة
انتهى وقت العمل في الشركة، وظلت “ذات” تتجنب “مهران” طوال الوقت، بينما كانت تجمع أغراضها المتناثرة من على سطح المكتب استعدادًا للمغادرة. كانت أفكارها تتصارع في رأسها، تتنقل بين شعور الخوف واللحظات السعيدة التي جمعتهما هى و”مهران”، عندما سمعت صوت طرقات على الباب. فأذنت لـطارق بالدخول، انفتح الباب ليظهر عمها، معبرًا عن غضبه بوضوح، إذ كانت ملامح وجهه مشدودة وعينيه متقدتين بالغضب. تراجعت “ذات” إلى الخلف باحثةً عن كلمات مثالية لتجنب غضبه، ونظرت له بابتسامة مستفزة، قائلة:
“منور مكتبي يا سولي، ليك وحشة من امبارح يا راجل!”.
ضغط عمها على أسنانه بغضب، وتقدّم نحوها بخطوات حاسمة، وبدأ يتحدث بتحذير:
“انتي بتلعبي بالنار يا ذات، وآخر الطريق ده سوده. سيبك من الشويتين اللي عملهم الولد ده عليكي علشان ياخد اللي وراكي واللي قدامك!”.
ابتسمت لدهشتها ضاحكة كمن لا يدرك خطورة الوضع، ونهضت من مقعدها واقتربت منه، عابرةً الحدود بغضب، وقالت:
“مين ده اللي عايز يضحك عليا وياخد فلوسي؟ مهران!! طيب قول كلام غير ده يا سولي، ما أنا وانت عارفين اللى فيها”.
لم يكن لديها رغبة في التنازل عن قناعاتها، ورغم أن عواطفها تجاه “مهران” كانت مشوبة بالكثير من الصراعات، لكنها آمنت بأن لكل شخص دوافعه وأسبابه. كانت تسعى لتبرير ما تراه حقيقيًا ومؤكدًا، حتى لو كان ذلك يعارض تحذيرات عمها.
ثم تحدثت وهي تكاد تضغط على كل حرف:
“ده الوحيد اللى آمنت عليه نفسي أكتر من فلوسي. مهران، أنا بثق فيه ثقة عمياء، ومش لأي حد يجرؤ يغلط فيه أو يقول كلمة عليه!”
كانت كلماتها نابعة من أعماق قلبها، تعبر عن صدق مشاعرها. هذا الشعور الذي يملأها ليس فقط بالحب، بل بالشجاعة والجرأة، كما لو أنها تحصن نفسها بشغفها إليه، جعلها تدرك أن ما يكشف عنه قلبها هو أكثر من مجرد عاطفة عابرة. كان الأمر أشبه بعهد نابع من روحها؛ إذ اختارته ليكون رفيقها في درب الحياة، لهذا لم تتردد في مواجهة العالم من أجله.
بينما كان “مهران” واقفًا على الباب دون أن يراه أحد، سمع كلمات “ذات” وشعر بصدق مشاعرها، فتعالت دقات قلبه، لكن القلق عاد للسيطرة عليه عندما سمع كلمات عمها.
صرخ العم بطريقة غاضبة:
“أنتي شكلها الخمرة لحست مخك. أنا عمك وهعيد تربيتك من أول وجديد، اوعى تكونى مفكراني مغفل وصدقت موضوع جوازكم ده؟ أنا متأكد إنك نمتي عنده امبارح من غير جواز، ومش هسمحلك تخطي البيت عنده تاني، وهتروحي معايا، فاهمة؟”.
ابتسمت “ذات” بابتسامة مستفزة، قائلة بتهكم:
“أممم، نمت عنده امبارح وفي حضنه كمان! أقولك على الكبيرة بقى حصل ما بينا علاقة!”.
صدمة شديدة اجتاحت “مهران” لدى سماعه كلمات “ذات”، لكنه انتبه ليد عمها التي ارتفعت عالياً كأنها تنوي صفعها، فتدخل بسرعة وأمسك بها بغضب:
“سبق وقلتلك مش هسمحلك تمد أيدك عليها!”.
دفعه “سليم” بقوة وقال بغضب شديد:
“وانا مش هرحمك! مفكرها سايبة تاخد البنت وتعمل معاها اللي انت عايزه وتضحك عليها؟ وبعد كده تاخد اللي معاها وترميها؟ لأ فؤق، اعرف دي بنت مين!”.
ابتسم “مهران” بثقة وأشار إلى “ذات” لتقترب منه، وبالفعل لبّت طلبه، حيث أحاط خصرها بذراعه بتملك، وتحدث بنبرة ذكورية تحذيرية:
“ذات بتاعتي و تخصني أنا، ومحدش هيقدر يبعدها عني مهما كان مين، وأعلى ما في خيلك أركبه!”.
لأول مرة شعرت “ذات” بهذا الإحساس، إذا لامست كلماته قلبها بعمق غير متوقع، وشعرت بكل كلمة يقولها تتسلل إلى أعماق روحها وكأنها تصدر من قلبه مباشرة. لقد كانت تلك الكلمات تحمل وزنًا أكبر مما يمكن أن تعبر عنه، كأنها وعد وحماية، فتنتزع منها كل مخاوفها، مما جعلها تبتسم بسعادة. وضعت رأسها برفق على صدره، مستمتعة بدفء حضنه، وتحدثت بنبرة مرحة تحمل سحرًا خاصًا:
“كفاية عليه كده يا مهورتي، الراجل كبير وممكن يجيله شوجر إن شاء الله ولا حاجة. يلا يا حبيبي، أحسن هموت من الجوع!”
كان حديثها مليئًا باللطف، كما لو كانت تلعب لعبة صغيرة، لكن في قلبها كانت تنبض مشاعر أكبر من مجرد المزاح.
ضغط “سليم” على أسنانه بغضب شديد، وبدت عليه علامات الإصرار وهو يتحدث بتوعد قاسي:
“وقسماً بجلالة الله، ما هعدي اللي بيحصل ده على خير، وبنت أخويا أنا هعرف احميها منك!”
تمسكت “ذات” بمهران أكثر، وكان هذا بمثابة تأكيد لها بأنها قد اتخذت قرارها. مما جعلها تقول بتهكم ودعابة:
“لا، متتعبش نفسك، بنت أخوك كده في أمان. أنا أكتر وقت بنام وأنا مش خايفة، هو دلوقتي وأنا معاه في نفس الأوضة. روح يا سولي، زمان المدام قلقانة عليك، مينفعش تسيبها كل ده لوحدها!”
كانت كلماتها مزيجًا من الفخر والجرأة، تعكس ثقتها في مهران، ولكنها أيضًا تحمل شيء من الاستهزاء بعصبية سليم، وكأنها تخبره بأنها لا تخاف، بل إنها مستعدة لمواجهة أي شيء برفقته.
نظر عمها لهما بنظرة مطولة، وبدت عينيه محملتين بمشاعر مختلطة، فقد كان يراقب الوضع بحذر، ثم تحرك سريعًا إلى الخارج، تاركًا إياهم وحدهم. لم يكن لديه خيار سوى تركهم ألان لتحديد مصيرهم، ورغم ذلك كان يشعر بالغضب يعتصر قلبه، خاصة وهو يعلم كم كانت “ذات” تعني له.
ظل “مهران” يتابع عمها حتى اختفى من أمام نظره، ثم نظر إلى “ذات” بضيق، وقال بنفاذ صبر:
“بقي أنا قربت منك يا كدابة؟”.
تعالت ضحكاتها المستمتعة وتحدثت بجرأة:
“وهو فيه حد منعك علشان متقربش؟ انت اللى قلقتني عليك يا راجل، لتكون مش تم…”
وأسقطت جملتها بنبرة مرحة.
تدخل “مهران” بسرعة وتكلم ليقطع حديثها:
“لا، أنا راجل أوي، بس مبحبش أغضب ربنا واحب كل شيء بالحلال!”
اقتربت منه لكنه تراجع إلى الخلف، وقال بتحذير:
“أنتي عارفة لو قربتي أكتر من كده؟”
انتابتها هستيريا من الضحك، وتكلمت بصعوبة مما زاد من حميمية الموقف:
“يا ابني بقى، أنت ليه بتقلب الأوضاع، مش المفروض إنك أنت اللى تقرب وأنا اللى ابعد؟”
كانت تنظر إليه بعينين تتلألأان بالحيوية
ابتسم حقًا على كلماتها، بينما كانت “ذات” واقفة في مكانها، تائهة بابتسامته التي زادت من جماله ورجولته، فهو كان يتمتع بنوع من الكاريزما الجذابة التي تُجبر الناظرين على التعلق به. كان نظره مليئًا بالعاطفة والصدق، وعندما تفحصت ملامحه، أدركت أنها تتحدث عن شخص يمكنها أن تضع فيه ثقتها. نظرت له بصدق ورغبة، وتحدثت بنبرة عاشقة:
“أقولك حاجة بجد! أنت جميل أوي، كل حاجة فيك مظبوطة، مش بس شكل، لكن كمان طريقة كلامك واهتمامك. وصدقني إن ‘ذات الزويدي’ تقول لحد حاجة زي كده، تبقى معجزة، وأنا مستغربة من نفسي أوي!”
اقترب منها واحتضن وجهها بين كفيه برفق، وكأنما كان يشعر بثقل المشاعر والأفكار المتراكمة بداخلها. تحدث بنبرة هادئة وحنونة:
“وأنا متأكد إن كل حركاتك وكلامك الجريء ده ستارة، بتداري بيها الشخصية التانية اللي أنا شايفها بوضوح، واللي هتكون فى آمان معايا. أنا عارف إنك خايفه من الألم والعذاب بسبب اللي مريتي بي، وعلشان كده مش بطوعك في كل اللي بتعمليه. لكن عايزك توثقي فيا، أنا هنا علشان أكون درعك. متأكد إنك بتعملي ده لأنك عارفة إن انا مستحيل أذيكي أو أطوعك في اللي بتعمليه، وأنا على استعداد أن أكون ليكي النور في ضلمتك.”
نظرت له بنظرات ضائعة، مزيج من الخوف والأمل في عينيها، وتحدثت بصوت ضعيف معبرة عن ضعفها له وده شئ لاول مره يحدث:
“مهران، أنا مش وحشة، أنا محاطة بتعابين، أقرب ما ليا، عايز ينهش في لحمي. عارفة إن طريقتي في التعبير عن تمردي غلط، لكن ملاقتش طريقة تانية غير دي. من ساعة ما كبرت، لاقيت إن اللي بعمله ده بيستفزهم. اخدها طريقه للانتقام منهم، أشرب وأسهر للصبح علشان الصحافة تصورني وأغيظ عمى ومراته وابنه. بس على الرغم من كل ده، عمري ما سمحت لأي راجل يقرب مني أو يتخطى حدوده معايا، حتى في طريقة انتقامي منهم أذية نفسي. زاد إدماني على الخمره، وصعب أعرف ارجع عن الطريق ده، الشرب بقى شئ اساسي جزءًا لا يتجزأ من حياتي. رجلي غرست في الطريق ده ، واللي كان كان خلاص. بس أقولك على حاجة، أنا نفسي أكون طبيعية، أعيش سني زي أي بنت، نفسي أحط حدودا لكل اللى انا فيه، نفسي أبعد عن الطريق ده، بس مش قادرة! كل لما احاول، كل ما كانت القيود أقوى.”
كان يستمع لكلماتها بقلب مفتور، إذ كانت تعبر عن مشاعر وأحاسيس دفينة تجرت على مضض أن تشاركها معه. شعر بصدق كلماتها، وكانت تأخذه إلى عالم آخر حيث الألم يتحول إلى أمل. نظر بعينيها بعمق، وكان حكمه عليها كمن يقف أمام بركة مظلمة وساحرة في آن واحد. قال بوعد يضفي طمأنينة على مخاوفها:
“هاتي إيدك، وأنا هساعدك لبر الأمان. هبعدك عن السكة الضالة، وهخليك تعيشي حياة طبيعية زي أي بنت في سنك. بس أهم حاجة تساعديني، بلاش عناد، واسمعي كلامي وامشي معايا وأنت مطمنة!”
ابتسمت له ابتسامة رقيقة، قالت بنبرة هادئة، مليئة بالثقة:
“أنا لو مش مطمنة ليك، مكنتش قولتلك الكلام ده ولا فتحت قلبي ليك. أنا أول مرة في حياتي كلها أقول لحد على اللي جوايا، ودي معجزة أن عملت معاك كده. بس أياك يا مهران تخيب ظني فيك!”
كانت هذه الكلمات بمثابة إعلان عن رغبة عميقة في التغيير، كمن يبني صرحاً جديداً بعد أن تهدم عالماً قبيحاً.
ثم تذكرت ما حدث في الصباح، تراجعت إلى الخلف، وقالت بتساؤل:
“صح، عملت إيه في الشقة اللي قولتلي عليها؟”
أومأ برأسه تأكيدًا، وقال بتوضيح:
“خلصت كل حاجة ودفعت إيجار سنة، وهتروحي عليها، والصبح هشوفلك حد ينضفها ليك!”
ابتسمت له بضيق وأومأت برأسها بتفهم، وأمسكت حقيبة يدها، وقالت:
“أوك، يلا بينا نروح علشان عايزة أخد شاور وو…”
نظر لها باستغراب وسأل: “وأيه؟”
تنحنحت بإحراج وعلت وجهها حمرة خفيفة، وقالت:
“وانزل أفك على نفسي شوية!”
عقد بين حاجبيه بضيق وتكلم بنفاذ صبر:
“تااااني؟ احنا كنا لسه بنقول أااايه؟! امشي يا ذات، شكلي هتعب معاكي أوي!”
كانت كلماته تعكس القلق المتزايد، لكنه في قلبه كان يحمل شعلة الأمل، فهو يريدها أن تجد نفسها، حتى وإن كان ذلك يعني مواجهة الأيام الصعبة.
ابتسمت على كلماته، التي كانت أشبه بجرس إنذار. تحركت أمامه، وصعدت “ذات” إلى السيارة بالمقعد الخلفي. نظر لها “مهران” باستغراب، وكانت مشاعرها تتقلب بين الشجاعة والإحباط. تحدثت بتوضيح، كأنها تريد إزالة أي سوء فهم:
“مافيش داعي، خلاص، أنا كنت بعمل كده علشان أستفزك، خلي السواق يجي، وأنت شوف شغلك!”
كان هذا المزيج من الغموض والثقة يعكس صراعها الداخلي، وكأنها ترسم ملامح جديدة لذاتها، رغم كل التحديات التي تنتظرها.
زفر بضيق ظل يتراقص في أعماقه، كأنما كان يُعبر عن استياء غير مباشر عن موقف “ذات”. أومأ برأسه بالموافقة وكأنما يسلم بالأمر الواقع، ثم أشار إلى السائق ليأتي. في لحظة، ظهر السائق من بعيد كفارس يمتطي جواده، وصعد “مهران” إلى المقعد الأمامي، حيث استقر به الحال. تحركت السيارة ببطء في بداية الطريق، لكن سرعان ما زادت سرعتها وكأنها تعكس حالة قلب “مهران”، الذي لم يتوقف عن التفكير في “ذات”. طوال الطريق، كان يحاول التركيز على الطريق، لكنه لم يستطع تجنب النظرات المتكررة من مرآة السيارة. كانت “ذات” في الخلف، تراقبه بحذر، وتعلو وجهها ابتسامة غامضة، وكأنما تعلم ما يدور في ذهنه. تارة كانت تُلقي نظرات سريعة عليه من خلال المرآة، وتارة أخرى كانت تشغل نفسها بمشاهدة المناظر التي تعبرها النافذة، لكن ذلك لم ينفصل عن تفكيرها العميق في حديثهما السابق وتلك التوترات التي كانت تطغى على أجواء السيارة. كان الجو يميل إلى السكون، لكنه كان سكونًا مفعمًا بالتوتر المتبادل، مما جعلهما يشعران وكأنهما على حافة موقف لم يُحسم بعد.
«««««««««««««»»»»»»»»»»»»
في مكان آخر، كان يزيد ممددًا على السرير، عاري الصدر، يحتضن فتاة ترتدي ملابس ساخرة تبرز مفاتنها بجرأة. نظر أمامه بعينين ملتهبتين، وكلمات الغضب تنفلت من شفتيه:
“بقي أنا واحده معفنه زي دي ترفضني وتفضل عليا واحد معقد زي ده، خليها تشرب بقي لما تعرف حقيقته”.
أجابت الفتاة بنظرة من الاستغراب، بينما نفثت دخان سيجارتها في الهواء، وتساءلت بفضول:
“حقيقة إيه دي يا باشا؟ مش ده مهران الشرنوبي اللي الناس بتعمله ألف حساب، وهو ظابط وهو حارس برضه؟”.
استشعر الغضب يتصاعد في داخله، وضحكاته تعالت بشكلٍ ساخر وهو يرد عليها:
“أه، هو بس اللي عرفته عنه مصيبة، بس أحسن تستاهل، مش خسارة في طيبة قلبها”.
نظرت له بتعجب، محاطة بفضول حذر، وسألته:
“أيوه يا باشا، إيه هو اللي عرفته؟”.
مال بجسده نحوها، استسلم لنداء شفتها، ثم ابتعد فجأة وهو يتحدث بطريقة شديدة:
“متدخليش في اللي ملكيش فيه يا قطة، ومتسأليش في حاجة متخصكيش”.
أنهى كلماته وهو يقترب منها أكثر، متجاوزا الحدود التي حرمها الله.
لكن يزيد لم يكن مدركًا تمامًا لما يدور حوله. مشاعره المتشوشة كانت تتأرجح بين الغضب والخيبة، وكأن صدفة تجنبه بمظهر متهور في تلك اللحظة. ربما كان قد اختار حياة اللامبالاة كوسيلة للهرب من حقيقته المؤلمة، حيث خذلته العديد من العلاقات السابقة. وبينما كانت الفتاة تنظر له، كانت تتساءل في داخلها عن مصدر هذا الغضب، ومدى تأثير تلك المشاعر عليه، لكنها لم تتجرأ على سؤاله. لم تكن مجرد علاقة عابرة بالنسبة له، بل كانت محاولة أخرى لفهم ما يجعله يشعر بهذا الضياع. بينما كان يزيد يحاول إخفاء ضعفه وراء قناع من القوة.
«««««««««««»»»»»»»»»»
في أفخم القصور لعائلة الشرنوبي العريقة، التي تتزين بجدرانها المنحوتة بشكلٍ فني وأثاثٍ فاخر يعكس تاريخ عائلتهم العريق، جلس رجل ذو شعر أبيض، بدا شابًا رغم مرور العمر عليه، مُجسدًا الهيبة والتكبر، مُلتزمًا بقوانين صارمة تحكم عائلته. كانت ملامح وجهه تعبر عن السلطة التي يتمتع بها، وعيناه تتأملان في ابنه الأوسط بنظرة ممزوجة بالاستغراب والغضب. عرف الابن أنه سيتلقى تبويخ قوي. ومع غضبٍ واضح، قال:
“أنت ازاى مخبي عليا موضوع البت السُكريه اللى اخوك ماشي معاها اليومين دول؟! هو هيخيب فى سنه ده ولا ايه بقى ابن مراد الشرنوبي يعمل علاقه مع واحده زى دي؟”.
انكمش الابن محرجًا، وكأن ثقل العائلة بأكملها جثم على كتفيه، وتحدث بصوت مرتعش:
“ل ل لا يا بابا الموضوع مش زى ما حضرتك مفكر، البنت دى تبقى بنت حازم محمود الزويدي بنت اخو رجل الأعمال سليم الزويدي أخدها عمها رباها بعد ما ابوها وامها ماتوا مق…تولين قصاد عيونها…”.
أصبح صوته أكثر حماسًا، وكأنه يحاول إثبات وجهة نظره:
“عمها كلم مهران علشان يحرسها بحجة سهرها بليل ورجوعها متأخر وخوفه عليها من الشباب، بس هو السبب غير كده خالص، حياتها معرضه للخطر ومصيرها نفس مصير ابوها وامها، ومهران عارف كل ده يا بابا، وعلشان كده وافق على حراستها رغم أن عمها حاول يدارى السبب ده، وجاري البحث عن الأسباب وراه محاولة قت..لها، متقلقش يا بابا انا متابع الموضوع من بعيد من غير ما مهران يحس”.
ضرب بيده على الطاولة بغضب، وكأن الصوت يعبّر عن كل مشاعر الإحباط التي تجمعت لديه:
“لأمته هنفضل نعالج وراه اخطائه؟ لأمته هيفضل اخوك مستهتر بحياته بالشكل ده؟ هو متعلمش من اللى حصله وخسر شغله بسببه، طول عمره كلامه من دماغه مبيسمعش لحد غير نفسه وبس”.
تحدثت والدة مهران بنبرة حنونة، محاولــةً تهدئة الأوضاع المتوترة التي تفجرت بين أفراد العائلة:
“اهدا يا مراد، وحياة اغلى حاجه عندك، انت عارف أن مهران، عندي ومش بيتقبل النصيحه، وبسبب كلامك ده ساب القصر وبعد عننا، وعاش فى شقه لوحده”.
صرخ بها بغضب، وكأنما تتضارب مشاعره بينها وبين قلقه على عائلته:
“ابنك متكبر، وبسبب تكبره ده خسر كل حاجه، المفروض يكون الكبير قدوة لأخواته، إنما ده لا مش بيهمه غير نفسه وبس، مفكرش فى شكلي أنا وأخواته وقت اللى عمله ده، ما يبص لأخوه اهو رائد وممتاز فى شغله وماشي زى ما انا عايز وبقوله، انتي السبب فى ضياع ابنك يا مديحه، انتى اللى دلعتى فيه لحد ما بقى واحد عديم المسؤوليه”.
حركت رأسها برفض، محاطة بدوامة من المشاعر المتناقضة، وتحدثت من بين دموعها:
“ابنك مش مدلع يا مراد، ابنك أتوجع واتقهر، ابنك قلبه لحد دلوقتى بينزف بسبب اللى حصله، كلكم حكمتوا عليه من غير ما تسمعوا دفاعه، كلكم جيتوا عليه، محدش فكر يخدوا فى حضنه ويطبطب عليه ويواسيه، ارحموا بقى وكفايه سيبوا في حاله وباللى هو فيه”.
نظر إليها بغضب محذرًا، حيث تصاعدت مشاعر الإحباط:
“أول وآخر مرة تعلي صوتك عليا أو تتكلمي معايا بأسلوبك ده، فاهمه؟”.
أنهى حديثه واستقام بجسده بقوة، مُوجّهًا نظره إلى ولده الأوسط، قائلاً بأمر:
“عينك على اخوك أخباره توصلي اول بأول فاهم؟”.
أومأ “ماهر” رأسه بالطاعةً بعد أن استقام بجسده احترامًا لوالده، قائلاً:
“حاضر يا بابا، متقلقش حضرتك”.
نظر إلى زوجته بلوم، ثم غادر المنزل بقلب مثقل بالهموم، تاركًا عائلته في حالة اضطراب. انهارت دموع مديحة بغزارة، ممزقة حبال قلبها، وتحدثت بين شهقاتها:
“ابوك قاسي اوى على اخوك يا ماهر، بترجاك يا ابني، ميبقاش انت وابوك عليه كفايه اللى هو فيه”.
جلس بجوارها، ممسكًا يدها برفق كأنها زهر يحتاج العناية، وقبلها بحنان جعل قلبها يتراقص من السعادة، وقال بنبرة هادئة وملؤها الحب:
“دموعك غاليه اوى عليا يا ست الكل، ابوس ايدك بلاش تعيطى، وانا بعمل كل ده علشان احمي مهران، مش علشان أذيه، أنا عارف هو متهور قد ايه وبالذات بعد اللى حصله، بس برضه واثق أن مهران هيفضل الجبل اللى مافيش اى عاصفه تهده، هيفضل “مهران الشرنوبي” اللى كل الداخليه كانت بتعمله ألف حساب ومازال، بس متزعليش من بابا، هو زعلان على اللى حصل ليه، وبالذات أن اللى حصل ده ضر بمنصب بابا فى الشرطه، اللواء مراد الشرنوبي ابنه الكبير سمعته على كل لسان فى الداخليه”.
تحدثت بغضب، معبرة بعمق عن حنان الأم الذي لا ينضب:
“قطع لسان اللى يجيب سيرة ابنى على لسانه، “مهران الشرنوبي” رمز الامانه والعفه وهيفضل كده طول عمره، وانا واثقه أن ربنا هيجيب ليه حقه وهيظهر برأته قريب اوى”.
ابتسم لها ابتسامة هادئة أخذت من قلبه الضيق، ورد عليها بنبرة حنونة ومطمئنه:
“إن شاء الله، يا ست الكل. اهم حاجه فين الضحكه الحلوه اللى ببدأ بيها يومي؟”.
ابتسمت له ابتسامة حزينة، وتمتمت باهتزاز نغمة صوتها وهي تربت على يده بحنو، قائلة بصوت مختنق:
“ربنا يباركلى فيك أنت وأخواتك، وافرح بيكم واشوفكم فى اعلي المراتب، بس ليا طلب صغير يا ماهر”.
أومأ برأسه طاعةً ورغبةً في مساعدتها، قائلاً:
“أومري، يا ست الكل، وانا هنفذ على طول”.
نظرت له بتوجس، وترقب، ثم قالت بتلعثم كأن الكلمات تخونها:
“ت تخلي أخوك يجي، اشوفه هتجنن عليه يا ابنى”.
تنهد بضيق وأومأ برأسه موافقًا وهو يشعر بتعقيدات الوضع:
“حاضر يا ماما، هكلمه واحاول اقنعه يجى يشوفك، مع أن عارف دماغ ابنك، هيعاند ومش هيرضي يدخل القصر مهما قولت”.
تكلمت بترجي، بصوت حزين يتخلله الأمل:
“حاول يا أبني، علشان خاطري، قوله امك هتموت عليك، مش بتنام الليل طول ما انت بعيد عن حضنها”.
استقام بجسده، مقبلاً رأسها بلطف يشبه لمسة الربيع على زهرة ما، وقال بابتسامة حنونة:
“من عيوني، يا قمري! هروح أنا بقى علشان أتأخرت”.
تحدثت مديحة سريعًا، بتساؤل مستفسر: “مش هتاخد أختك فى سكتك، ولا إيه يا ماهر؟”.
حرّك رأسه بالرفض، موضحًا:
“لا، مهره مش رايحه الجامعه، بتقولى معندهاش حاجه مهمه النهارده، وهتريح اليوم كله فى اوضتها احسن”.
أومأت برأسها بتفهم، وقالت:
“ماشي يا حبيبي، روح، ربنا يكفيك شر طريقك”.
في تلك اللحظة، كان هناك مزيج من القلق والتفاهم في عينيها، كأنها تود أن تُعبر عن مدى حرصها عليه وعلى حالتهم. كانت تعرف أن العمل يأخذ الكثير من وقته، لكنها أيضًا أدركت أن الروح البشرية تحتاج إلى تواصل وراحة في بعض الأحيان، خاصة في هذه الظروف.
ابتسم لها ابتسامة حنونة، ثم تحرك نحو الخارج، صعد إلى سيارته متجهاً إلى عمله. في تلك اللحظة، تذكر كل الأوقات التي قضوها معًا كعائلة، وكيف كانت قادرة دومًا على جعل الأوقات الصعبة أكثر تحملًا. تملكت منه مشاعر من الأمل، وعقد العزم على أن يعود من عمله محملًا بالاخبار الجيدة التي قد تفرح قلبها.
«««««««««««««»»»»»»»»»»
وصل مهران بالسيارة إلى أسفل العقار، حيث كانت الأضواء تتلألأ في المساء الدافئ، والأجواء تعكس حياة المدينة النابضة. نظر في المرآة بتعبير جاد، ثم تحدث بنبرة جدية قائلاً:
“شقتك هنا في نفس العمارة اللي ساكن فيها، الدور اللى تحت دوري على طول، يعنى مش عايزك تقلقي أنا هيكون عيوني عليكى على طول”.
كان صوته يحمل مزيجاً من الحماية والقلق.
أومأت برأسها موافقة، وترجلت من السيارة، متجهة إلى الداخل دون أن تنطق بكلمة واحدة. كان صمتها يثير قلقه أكثر، مما جعله يلاحظ عدم ارتياحها. نظر إليها مهران باستغراب، ثم أمر السائق قائلاً:
“بعد كده ده العنوان اللى هتخدها منه وتجيبها عنده لو مش معاكم”.
كان لديه شعور قوي بأن هناك شيئاً أكثر يختبئ خلف تلك العيون المتعبة.
أومأ السائق رأسه بالطاعة. ترجل مهران من السيارة وتحرك بسرعة إلى الداخل، ليجدها قد صعدت إلى المصعد. زفر بضيق وصعد خلفها، ووجدها تنتظره في الطابق حيث الشقة. اقترب منها وهو يبدو مضطرباً، وسأل بقلق:
“ممكن أفهم مالك؟ من ساعة ما خرجنا من الشركه وانتى فيكى حاجه متغيره”.
كانت نبضات قلبه تتسارع، إذ كان يشتعل بخوف من أن يفقدها.
ابتسمت له، لكنها كانت ابتسامة تحمل الكثير من المعاني الضمنية، وتحدثت بنبرة جادة:
“مافيش يا استاذ مهران بس بحاول اتعامل براسميه اكتر مدام اللى ما بينا شغل وبس”.
كانت كلماتها بمثابة درع تحاول استخدامه لحماية مشاعرها.
عقد بين حاجبيه باستغراب، وسأل بعدم فهم:
“أستاذ مهران؟! غريبه، والله امال فين مهورتي؟”.
كان يود أن يتعامل معها بشكل أقل رسمية، كما كانا يفعلان سابقاً قبل أن يكتشف القلق الذي يثيره موقفها الراهن.
تحدثت بنبرة جادة، وقالت:
“ممكن تقولي فين الشقه بتاعتي؟”.
كان لها صوت حازم، لكنها أحست في قرارة نفسها بأنها تقف على حافة الهاوية، تتجنب الانزلاق نحو مشاعر عميقة قد لا تكون قادرة على مواجهتها.
أشار بيده إلى باب أمامه قائلاً:
“أهو، واتفضلي المفتاح اهو، وعلى ما تخدي شاور وتلبسي حاجه محترمه هنزل الاكل نتعشى سوا”.
كانت الفكرة قائمة على مساعدتها بكل طريقة ممكنة، أملاً في أنها سوف تشعر بتحسن.
حركت رأسها بالرفض سريعاً، وقالت بتوتر: “لا لا لا، مش عايزه. أنا مصدعه وهنام”.
كان توترها يدفعه إلى الاعتقاد بأن هناك شيئاً أكبر من مجرد صداع يسبب لها الألم. كانت تتجنب التواصل، مما سبب له شعوراً بالخسارة، كأنه يقف أمام عقبة يصعب تجاوزها.
شعر بشيء غريب ينتابها، فأومأ برأسه موافقة وصعد إلى الأعلى. دخل إلى الداخل وجلس على الأريكة، مفكراً في حالتها المتزعزعة، لكنها لم تكن الحالة الوحيدة التي تثير قلقه؛ فقد كان في قلبه شعور مضطرب وكأن هناك شيئاً ما كان ينقصهما. انتبه لبرود الغرفة، وتخيل كم كانت ضحكاتها تملأ المكان. نهض مرة أخرى واتجه إلى الحمام، حيث حاول أن يمحو الأفكار المقلقة عن عقله. نزع ملابسه وأخذ حماماً دافئاً، مستمتعاً بحركة المياه التي كانت تحيط بجسده وكأنها تغسله من همومه. بعد أن انتهى، لف المنشفة حول خصره وخرج، محاولاً أن يركز على ما هو قادم بدلاً من الكآبة التي عانى منها.
اتجه إلى خزانة ملابسه، وفي تلك الآونة تذكر كيف كانت تتواجد داخل أحضانه، تتنحنح بتوتر. عادت له ذكريات لحظاتهم المشتركة، كيف كانت تضحك وتداعبه بلطف. ارتدى ملابسه بسرعة، يتمنى أن تكون تسريحتها في مكانها، لتعيد له شغف تلك اللحظات. توجه إلى المطبخ، عازماً على إعداد عشاء سريع، لكنه قرر أيضاً أن يحضّر شيئاً خاصاً يضفي جو من الدفء على أجواء المكان. بعد الانتهاء من إعداد وجبته اللذيذة، لم يستطع تناول الطعام بمفرده، فأخذه بيده ونزل إلى الأسفل، متلهفاً ليرى ملامحها بعد أن ترتدي شيئاً مميزاً.
قرع جرس الباب وانتظرها أن تفتح له، لكنه واجه برودة تامة عندما لم تفعل. شعوره بالقلق زاد، مقلقاً بحقيقة أنه لم يكن هناك من يشاركه الوقت؛ حتى مجرد شعور الحضور كان مفقوداً. كما تذكر النسخة الأخرى المتواجدة معه، تلك النسخة التي احتفظ بها في مكان سري ولم يخبرها عنها، شعور بالخوف اجتاحه لتجربته الماضية. صعد يركض إلى الأعلى وذهب بسرعة لأخذ النسخة، وكن يحلم بأن تكون هذه اللحظة لحظتها. هبط مرة أخرى، وفتح الباب بالنسخة في يده، بحث عن ذات في الشقة، مضطرباً بين الأمل والمخاوف. توقف في مكانه، مشدوهاً مما رآه…
«««««««««««««»»»»»»»»»»»
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية شهادة قيد)